الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليق على الطحاوية
(مبحث الشفاعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
المبحث الثالث
مبحث الشفاعة:
الشفاعة: مأخوذة من الشفع وهو خلاف الوِتْر والوَتْر وهو الفرد، فالشفع هو الزوج.
والله وِتّر ووَتّْر، والشفع هي المخلوقات، هذا من جملة ما قيل فيه، فقوله تقال (والفجر وليال عشر والشفع والوتر) الواو واو القسم فالشفع قسم بالمخلوقات، والوتر قسم بنفسه سبحانه وتعالى.
والشفع قيل: يوم النحر، والوِتر قيل: عرفة، هذا من جملة ما قيل لأن هناك أقوالا ً كثيرة.
أنما هنا الشفع هو الزوج لأنه شفع غيره فصار زوجاً، والوتر انفراد بنفسه فهو فرد، وسمي الشفع شفعاً لأنه شفع الوتر أي صاحبه وانضم إليه فجعله زوجاً بعد أن كان فرداً. إلى هنا تم التصحيح
ويحصل بالشفع – كما ترون – معنى الزيادة؛ لأن الوتر والفرد عندما زيد عليه مثله صار شفعاً فحصل فيه إذن معنى الزيادة.
ومنه الشُّفعة – بضم الشين – وهي ضم الشفيع المبيع إلى مكله فيشفعه به، كأنه كان وتراً فصار زوجاً شفعاً، كما جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة شفع (10/50) ، وهو أكبر معاجم اللغة العربية.
وصورة الشفعة: اشتركت أنا وأنت في بيت، ثم بعت نصيبي بمائة ألف درهم لغيرك فأنت لك حق الشفعة لتدفع الضرر عنك فتأتي وتقول لي شفعت في بيعك، أي ضممت بيعك إلى ملكي بمثل القيمة التي بعت بها نصيبك، فيفسخ البيع بيني وبين المشتري الغريب الذي ليس بشريك ويثبت لك كل البيت، وتدفع قيمة نصيبي، فإذن الشفعة ضمَّ الشريك المبيع إلى ملكه فصار ملكين وجزأين بعد أن كان جزءاً واحداً، وصار شفعاً بعد أن كان وتراً.
المحاضرة العشرون
ومعناها في الاصطلاح: طلب الخير للغير وفيها المعنى اللغوي.
أي المعنى الاصطلاحي فيه المعنى اللغوي، فالشفيع عندما يطلب الخير من غيره يضم صوته وطلبه إلى طلب المشفوع له.
فأنت تقول (رب اغفر لي) تطلب من الله المغفرة، ويجئ آخر فيدعو لك فيقول:(اللهم اغفر له وأجب دعواه) فهذه شفاعة، فكان السائل والطالب فرداً واحداً، وعندما طلبت أنت تحقيق طلبه صيّرته شفعاً وزوجاً وصار الطلب من جهتين من السائل لنفسه ومن الشافع.
فالشافع إذن شفع السائل والطالب فصارا اثنين، فإذن شفع الشافع المشفوع له، وشفع الشافع المطلوب منه الشفاعة، حيث ضم الشافع رأيه إلى رأي من طُلبت منه الشفاعة فأنت ذهبت مثلاً إلى مدير تطلب منه حاجة، فأنا شفعت لك عنده فضممت صوتي إلى صوتك وصار الطلب من جهتين، وضممت رأيي إلى رأي المشفوع عنده.
إذن شفعت للمشفوع له، وللمشفوع عنده، فأعطيت رأيي مع صاحب الحاجة وأعطيت رأيي مع من سيقضي هذه الحاجة، فشفعت لهذا وشفعت مع هذا.
أما لهذا فطلبت قضاء حاجته. وأما ذاك فقد حرضته على قضاء حاجة الطالب فأنت شفعت لاثنين.
أو تقول: شفعت الطالب والمطلوب منه، شفعت الطالب واضحة، وشفعت المطلوب منه أي الذي سيقضي حاجة الطالب.
أو تقول: شفعت المشفوع له وشفعت المشفوع إليه، أو: شفعت المشفَّع والمشفِّع، فالمشفَّع هو طالب قضاء الحاجة والمشفِّع هو الذي سيقضي الحاجة، ولو ضربنا هذا مثلاً للخليقة مع ربهم جل وعلا، فالمشفِّع هو الله سبحانه وتعالى، والمشفَّع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم [أول شافع وأول مشفَّع] .
وقبل أن أنتقل إلى مباحث الشفاعة أحب أن أذكر مقدمة لها، وكل مباحثها تدور حول مبحثين فالشفاعة مطلوبة من المسلمين نحو بعضهم في الدنيا وفي الآخرة.
يقول تعالى عن الشفاعة في الدنيا: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً) ، فقد حثنا الله تعالى في هذه الآية على الشفاعة الحسنة التي فيها قضاء مصالح العباد، وحذرنا من الشفاعة السيئة.
وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً على الشفاعة في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الثابتة، ففي الصحيحين والسنن الثلاثة أبي داود والنسائي والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] وفي رواية أبي داود [اشفعوا لي] أي في طالب الحاجة [لتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء] .
وهذه الشفاعة – كما قلت – ينبغي أن تكون في تحصيل الخير للغير في الدنيا والآخرة ولكن بشرط عدم تعطيل أحكام الله الشرعية، لأنك إذا شفعت في حد من حدود الله أو في إسقاط واجب أو استحلال محرم فهذه شفاعة محرمة وهي مضادة لله في حكمه، (قصة سرقة المخزومية والتي شفع فيها أسامة)
والشفاعة في الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
شفاعة حسنة مستحبة وتكون في:
أالمباحات.
ب المستحبات.
ولها صور كثيرة ولا يعجزكم التمثيل لها فلو طلب شخص مباحاً من مسئول أو مستحباً، فامتنع عليه، فشفعت له من أجل قضاء حاجته وطلبه، فهذه شفاعة حسنة ومستحبة.
وقد بوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الطلاق باباً بهذا الخصوص فقال: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
وزوجها هو مغيث، وحديثه ثابت في الكتب الستة، فقد كانت بريرة تحت مغيث وكانت أمة وهو عبد – على أرجح القولين – ثم اعتقت بريرة والتي أعتقتها أمنا عائشة رضي الله عنها – وعندنا في الشريعة أن الأَمَة إذا كانت تحت عبد ثم أعتقت وصارت حرة فهي مخيرة إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تبقى معه، وإذا كانت تحت حر فاختلف في ذلك والجمهور يقولون بالتخيير وأبو حنيفة يقول بالتخيير سواء كان الزوج حراً أو عبداً.
الحاصل أن مغيثاً كان عبداً فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: أنتِ بالخيار ما لم يمسسك – أي يقربك – فقالت لا أريده يا رسول الله، وقالت لأمنا حفصة رضي الله عنها: هو الطلاق هو الطلاق هو الطلاق.
فتشفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث لأجل أن تعود له بريرة، فقد كان مغيث متعلقاً بها وكان قبل أن يحصل الطلاق بينهما يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي وراءها والدموع تسيل على خديه وعلى لحيته ويسترضيها فتأبى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس:[ألا تعجب يا عمِّ إلى حب مغيث لبريرة وإلى كراهية بريرة لمغيث، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ارجعي إليه يا بريرة هو زوجك وأبو أولادك، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شافع] أي ألتمس منك العودة إليه، [فقالت: لا أريده يا رسول الله، الطلاق الطلاق الطلاق] فطلقت منه وما اجتمعت به بعد ذلك.
فهذه شفاعة مستحبة وقد شفع خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في هذا الأمر لكن عنصر النساء عجيب، ووالله لو كنت مكانها لو كان ثوراً أسود لقبلته من أجل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتطييباً لخاطره، وهل يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وأردها؟ ! لكن هذا حال النساء.
لكن مع ذلك انظر لإيمانها، فليس عندها نقص فيه، حيث أرادت أن تتحقق هل هذا أمر واجب أم لا؟ فهي تعلم قول الله تعالى:(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) .
وهذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: استنبط أئمة الإسلام منه (300) فائدة، وأوجزها في فتح الباري وأشار إلى هذه الفوائد في الإصابة في ترجمة بريرة رضي الله عنها وعن زوجها.
ونسأل الله أن لا يعلق قلوبنا إلا به، وأنا حقيقة لا أتعجب من بريرة إنما أتعجب من مغيث فالنساء سواها كثير، وما عند هذه عند تلك، وعلام المشي وراءها والبكاء عليها! لكن هذا هو حال الضعف الإنساني، وصدق الله إذ يقول (وخلق الإنسان ضعيفاً) .
رفع إلى ابن عباس رضي الله عنهما في يوم عرفات رجل قد صار كالفَرْخ من ضعفه ومرضه، فقال: ما به؟ قالوا: العشق، فبدأ ابن عباس رضي الله عنهما – في يوم عرفات – يستعيذ بالله من العشق حتى مغيب الشمس.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
…
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبُه
…
وإنما يصرع المجنون في الحين
إن هذه الشفاعة الأولى الدنيوية مستحبة في مباحات ومستحبات وقولوا ما شئتم لها من أمثلة.
2-
شفاعة واجبة وتكون في:
أ) تحصيل الواجبات.
ب) دفع الظلم عن المؤمنين والمؤمنات.
فإذا كان الطلب في أمر واجب ولأخذ حقه، أو كان الطلب لدفع الظلم عنه – وهو حق – فلم يجبه ولي الأمر لا في إعطائه حقه ولا في دفع الظلم عنه وأراد أن يوقع به عقوبة لا يستحقها أو أراد أن يمنعه حقاً هو له، وعلمت أنت بهذا فيجب عليك أن تشفع، لكن هذا الوجوب على حالتين، فهو فرض كفاية إن علمت وعلم غيرك ومنزلتك ومنزلتهم عند ولي الأمر سواء فيجب عليكم كلكم أن تشفعوا، فإذا قام البعض بتلك الشفاعة سقط الإثم عن الباقين كصلاة الجنازة.
ويكون واجباً وجوباً عينياً إذا لم يعلم بحالة طالب الحاجة إلا أنت، أو علم غيرك أيضاً لكن أنت لك منزلة إذا شفعت بحيث تقضي حاجته ويُحصّل الواجب ويُرفع الظلم فهنا تعين الوجوب عليك وإذا لم تشفع فأنت آثم.
الإمام الشافعي استدعاه – ذكرها ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الخلفاء – هارون الرشيد فأحضر من مكة إلى بغداد مقيداً، فما خلصته إلا شفاعة عبد صالح، إنه محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وذلك أن الشافعي زوِّر عليه أنه يريد أن يبايع رجلاً من آل علي لينقلبوا على العباسيين وبالأخص على الخليفة هارون الرشيد فجن جنونه فأرسل لإحضاره، فعلم بذلك محمد بن الحسن فاغتنم الغنم فتحين قدوم الشافعي فكان في مجلس هارون الرشيد، فلما دخل الشافعي عرّف محمدُ بن الحسن هارونَ بمنزلة الشافعيّ وبين له أن هذا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا إمام المسلمين....، ثم قال له هارون: يا محمد خذه إلى بيتك حتى يتبين لي الأمر، ثم ارتفع قدره (أي الشافعيّ) عند هارون بعد ذلك وأكرمه غاية الإكرام وأمر له بخمسين ديناراً.
فلولا أن الله لطف بالشافعي بشفاعة محمد بن الحسن لطارت رقبته في مجلس هارون، ولو أن محمداً ما شفع للشافعي لشارك في إثم دمه لأنه يعلم قدره ومنزلته وعلم بحاله، فانتبه لهذا!! إذن هذه شفاعة واجبة.
وأخبرنا بعض شيوخنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمة الله عن قصة جرت لبعض العلماء الصالحين في الزمن القديم، حاصلها أن افتُري على طالب علم فاستدعاه ولي الأمر، فلما جاء إليه أعلم هذا الشيخ الصالح أن طالب العلم الفلاني قد استدعاه ولي الأمر وقد يفتك به – وقد كان للشيخ منزلة عند ولي الأمر ومكانة وكلمة مسموعة – فسارع الشيخ إلى منزل ولي الأمر وكان عنده اجتماع وطال الاجتماع والشيخ لا يزال جالساً وكان محصوراً - يحبس البول – فلما خرجوا دخل على ولي الأمر وكان مشغولاً في الكلام فانفجرت مثانة الشيخ ومات في مجلس الأمير فقال الأمير: ماله، وما الذي طرأ عليه حتى جاءني وقد كان الأصل أن آتي إلى بيته فهذا الشيخ هو شيخ المسلمين في بلدتنا؟ فقالوا: بلغه أن طالب علم ادُعىّ عليه وأحضر إليك فخشي أن تفتك به فجاء ليُعرِّف له وليشفع له ، وكان محصوراً وهو رجل كبير لا يمسك هذا، فانفجرت مثانته فمات، فقال الأمير: والله لو علمت لأعطيته حِجْري ليبول فيه، ولجئت إلى بيته لأقبل شفاعته.
فهذه شفاعة واجبة لتوصل الحق إلى صاحبه ولتدفع الظلم عنه.
وأنا أقول لكم من باب شكر أهل الشفاعات والفضل على شفاعاتهم فمن تحدث بالنعمة فقد شكرها ومن كتمها فقد كفرها، وصاحب الشفاعة يعلم الله أنه لا يريد التحدث بها ولما أخبرني بها قلت له جزاك الله خيراً، فقال: وأنت كذلك، ولكنني ما أخبرتك من أجل أن تثني عليّ أو من أجل المنة عليك، إنما أخبرك من باب إخبارك بما يصدر ممن يكيد لك، ولمكانتك عندي، ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر.
هذا الشيخ صاحب الشفاعة هو عبد الله المصلح عميد كلية الشريعة وأصول الدين بأبها بجنوب السعودية، وقد عاشرته ما يقارب (12) سنة وجرى لي معه مواقف كثيرة، ومن جملتها الذي يتعلق بمبحث الشفاعة فقد أُرسِلَ مرة كتاب من بعض الضالين من لهم شأن إلى الجامعة وفيه: أنه يوجد في كلية الجنوب فلان – يقصدني – وهو ضال يضلل الطلاب ويفسد عقائدهم
…
إلخ، فأرسل إليه كتاب بهذا الخصوص فلما ذهب الشيخ عبد الله المصلح إلى الرياض أطلعوه على الكتاب نفسه وفيه أن عندكم أستاذاً ضالا ً ووضعه كذا وكذا – فهنا الشفاعة واجبة ومتعينة أم لا؟ وبيان الحق والدفاع متعين أم لا؟
فقال الشيخ عبد الله لمدير الجامعة سبحان الله لا أعلم بم أجيبكم!! إذا كان الشيخ عبد الرحيم ضالاً فوالله إذن ما عندنا في كلية الشريعة وأصول الدين أحد مهتدي، وأولهم أنا عبد الله المصلح، ولذلك أرى أن تلغوا الكلية من أولها لآخرها.
وبدأ يسرد لي بعض ما حصل وقال: لا أريد أن أذكر لك ما حصل، لكن من جملة كلامه أنه قال لهم، والله لا يوجد في هذه الكلية أستاذ إلا ولي عليه ملاحظة إلا فلان فهذا الذي يلاحظ علينا وينصحنا وأحيانا ينبهنا لأمور نحن نقصِّر فيها، وأنا لا أذكر مرة – وهذا كله من كلام الشيخ عبد الله المصلح – أنني نبهته على شيء، فاتقوا الله في أنفسكم، فهل هذا يتهم بمثل هذا الأمر الذي تذكرنه؟!.
ولم يُنهِ الأمر إلى هنا مع أن الأوراق والشكوى قطعت في مكتب مدير الجامعة ورميت في سلة الأوساخ وقيل له: دعك من هذا الأمر، فلم يقبل وواصل متابعة القضية وقال أنا سأتابع الأمر فذهب إلى من زكى كتابه من كتب الشكوى، فقال له: هل تعرف فلاناً – أي الشيخ الطحان؟ فقال: ليس لي اطلاع على حاله على وجه التمام، لكن فلان وفلان الذين جاؤوا إليّ ثقات وقالوا لي إن هذا الشيخ يضلل ويفسد، لذلك يجب التخلص منه والحذر، فقال الشيخ المصلح له: ما رأيك فيّ؟ فقال: أنت يا شيخ عبد الله لا تدور حولك تهمة ولا نعرف عنك سوءاً، فقال له: والله لو طعنتم فيّ لكان هناك مجال للتصديق، وأما أنكم تطعنون في هذا الشيخ المسكين، والله لن يصدقكم أحد في الدنيا ولا في الآخرة فاتقوا الله واستحيوا منه وبعد كلام طويل قال هذا المسئول للشيخ عبد الله المصلح: هات كتاباً أكتب لك بالثناء عليه والتزكية له وأرد على كلامي السابق – وهذا الشيخ المسئول الذي زكى شيخ صالح لكن يُخدع أحياناً من قبل بعض الناس فقال الشيخ المصلح: لا أريد الآن تزكية، وما جئت الآن من أجل التزكية، لأن المسئول عنه في النهاية أنا ولا يمكن أن يُفعل معه شيء إلا بعد أخذ رأيي، فأنا الذي أدير الكلية ولم آت من أجله، لكنني جئت من أجل أن تتقوا الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتكرر هذا منكم، فلا يأتيك شخص صاحب هوىً ويتهم بعض طلبة العلم بنقيصة ليست فيهم ثم تزكيهم وليس لهؤلاء الطلبة مدافع، ثم قال له في النهاية، هَبْ أنكم آذيتموه وفصلتموه من الكلية أتظنون أنكم بذلك قد ضررتموه، لا والله، إن هذا مؤمن وسيتولاه الله أينما كان وسيرفعه من عز إلى عز، ولن يخسر من فصله إلا كليتنا وسنكتسب الوجه الأسود في الدنيا والآخرة.
أي افرضوا لو أن هذا الشيخ فُصِل، فهل إذا فصل يعني فصلت رقبته، وإذا فصلت رقبته هل حرم من الجنة أم ماذا جرى؟! ولو فصل من هذه الجامعة أفلا يوجد في هذه الدنيا مكان آخر فاتقوا الله وقفوا عند حدكم.
فهذه الشفاعة تعينت عليه، فحقيقة لا يعلم بحالي على وجه التمام والكمال إلا هذا العميد ولا يعلم بهذه الشكاية إلا هو، فقلت له جزاك الله خيراً، فقال: والله لو لم أفعل هذا لأكبني الله على وجهي في نار جهنم، ولا تظن أن هذا الذي فعلته من باب المنة عليك إنما هذا تعين عليّ.
وجاءت بعد ذلك تهمة وتطورت إلى بعض الجهات المسؤولة فقال لي من ضمن كلامه يا شيخ عبد الرحيم أنت نائم مع أهلك ولا تدري ما الذي يفعله لك وما الذي يحصل والله في وسط الليل أزج بنفسي من بيت إلى بيت ومن جهة إلى جهة، ويقول عندما يتصل ببعضهم: يا عباد الله اتقوا الله واستحيوا منه، والله أخشى أن يخسف الله بكم الأرض، إلى هذا الحد وصل بكم العنف والغلظة، فيقولون له: إنه يفعل كذا وكذا، فيقول لهم: استحيوا من الله يا جماعة فإن بعض ذلك مزوّر عليه ومفترىً وبعض ذلك لا حرج في فعله، وبعض ذلك حق وأنتم مخطئون.
وبالنسبة لقضاء الحوائج واصطناع المعروف والشفاعات ألّف أئمتنا كتباً مستقلة في هذه المواضيع، من هذا ما وجد ضمن كتاب (أربعون حديثاً في اصطناع المعروف) للإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب وقد تكلم فيه عن الشفاعات وقضاء الحوائج، وإذا لم يوجد عندكم فانظروا في مجمع الزوائد (8/190 - 195) لزاماً عند كتاب البر والصلة باب في قضاء الحوائج ويدخل في قضاء الحوائج الشفاعات لاسيما إذا كانت واجبة.
من جملة ما ورد فيه – المجمع – من أحاديث: ما رواه الطبراني في الأوسط والصغير – وإسناده لا بأس به – عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من كان وصلة – واسطة – لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ (بلوغ) بر ٍ أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط عند حفي الأقدام] .
ولذلك أثر عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله أنه قال: "لكل شيء زكاة وزكاة المروءات الشفاعات" أي إذا كنت صاحب مروءة وجاه فزكاة هذا أن تشفع.
ومنه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين] و (الخافقان) أي بين الأرض والسماء وبين المشرق والمغرب.
وذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم) عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح مسلم [
…
والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه
…
] ذكر قصة في هذا الموضوع فقال: "وبعث الحسن البصري قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مروا بثابت البناني - وكان من العباد – فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال قولوا له: يا أعمش، أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه وذهب معهم" وقول الحسن هذا ورد في أحاديث لكن ضعيفة.
المحاضرة الحادية والعشرون
3-
شفاعة محرمة مذمومة وتكون في
أ) المكروهات.
ب) المحرمات.
(يصلح مثالاً لها قصة الشفاعة في المخزومية التي سرقت) .
كشفاعة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، ثم تابت من شفاعتها، حيث قالت لعزة يقول كثيّر (الذي كان مغرماً بعزة) :
قضى كل ذي دينٍ علمتُ غريمَه
…
وعزةُ ممطول معنّى غريمها
أي كل من عليه دين قضى صاحب الدين حقه إلا عزة فلم تقضي ديني، فقالت لها: ما هذا الدين الذي يقوله كثيّر وماذا له عليك من حق؟ فقالت عزة: كنت وعدته قبلة (عن طريق الحرام) فما طلته وما أعطيته ذلك، فقالت لها أم البنين: سبحان الله، أعطيه ذلك وما كان من إثم فعليّ. ثم ندمت بعد ذلك وتابت رحمها الله وعفا عنها، وأعتقت أربعين رقبة، وقالت ليتني خرست وما تكلمت بهذه الكلمة حيث شفَعتْ في أمر محرم. وانظروا القصة في صفة الصفوة (4/299) .
فالشفاعة في المحرم والمكروه حرام.
فهذا هو ضابط الشفاعة: الحسنة المستحبة، والحسنة الواجبة، والمذمومة المحرمة، والتمثيل لا يخفي عليكم بعد ذلك.
والشفاعة الحسنة مطلوبة، والشفاعة السيئة مذمومة، وأكثر شفاعة الناس في هذه الأيام من الشفاعات المذمومة الملعونة ولا تجد من يشفع شفاعة حسنة إلا ما قلَّ وندر، وإذا طلبت منه شفاعة حسنة في تخليصك من ظلم أو بلاء يتعلل، وعندما يجب عليك حق شرعي أو تنتهك محرماً وستنزل بك عقوبة فما أكثر الشفعاء حينئذ وهذا هو الضلال عندما تضاد الشفاعة شرعية ذي العزة والجلال.
فلنشفع في أمور لخير الدنيا، ونسأل الله أن يشفعنا في بعضنا في الآخرة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وسنأتي الآن إلى مباحث الشفاعة.
المبحث الأول:
شرط حصول الشفاعة عند الله جل وعلا:
تقدم معنا أن الشفاعة طلب الخير للغير من الغير، وقلنا إن الشفاعة فيها ضم الشفيع صوته إلى المشفوع إليه كما في ضم صوته إلى المشفوع له، والله جل وعلا فرد أحد ليس له شفيع سبحانه وتعالى، فكيف ستحصل الشفاعة عنده؟ هل يعطي أحد رأيه لله كما هو الحال في ملوك الدنيا فهؤلاء تعطيهم رأيك وتضم رأيك إلى رأيهم؟ لا، الشفاعة عند الله تختلف عن سائر المعلوم من أنواع الشفاعات عند المخلوقين قاطبة، فهي شفاعة من نوع خاص لها شروط تميزها عن غيرها، فهذه الشفاعة لا تضم رأيك إلى رأي المشفوع عنده انتبه!! إنما أنت تشفع بعد أن يأذن لك سبحانه وتعالى، وهل هذا هو حال ملوك الدنيا؟ فقد تشفع بما لا يريد وترغمه فينفذ شفاعتك لأنه وإن كان عنده رغبة ورهبة فهو أيضاً يرغب ويرهب ويقول أخشى أن يدبر هذا لي مكيدة أو أن يغتالني إن أنا رددت شفاعته.
فهذه الشروط – التي سنذكرها – لننفي بها ضم الشافع صوته إلى المشفوع عنده وأنه لا أحدٌ يشفع الله فهو وتر سبحانه وتعالى وهو أحدٌ ليس معه نظير ولا أحد يضم قوله إلى قوله.
ولذلك اتفق أهل السنة الكرام على أن الشفاعة لا تحصل عند ذي الجلال والإكرام إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع بحصول الشفاعة منه.
دل على هذا آيات القرآن الكثيرة منها:
? قوله تعالى في آية الكرسي سورة البقرة 255 (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) .
? وقوله تعالى في سورة سبأ آية 23 (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) .
? وقوله تعالى في سورة يونس آية 3 (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) .
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة له من الشافع فإذن أذن للشافع بأن يشفع، وليس هذا إذن مطلقاً، بل يُحِدّ له حداً أو يسمي له جماعة أو فرداً، فيقول اشفع لهذا بدخول الجنة، إذن هذا بتخصيص الله ومشيئته وإرادته.
س: لم أشفع، وقد حَدَّه لي وليس على اختياري مطلقا؟
جـ: لينيلني الأجر عندما أشفع (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) ، وليحصل مزيد حب وود بيني وبين المشفوع له، وبالتالي يحصل مزيد ربط بين قلوب المؤمنين وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا في الدنيا فكانت إذا عرضت عليه حاجة يؤخر قضاءها ليشفع الصحابة ثم يقول لهم – ما قلت لكم – [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيقضي الحاجة لكن إن قُضيت بعد شفاعة فالمستفيد هو أنتم حيث سيحصل الربط فيما بينكم وتقضى الحاجة مع ذلك، فقضاء حاجة بلا شفاعة أنزل من قضائها بعد شفاعة، فهناك تكثير الخيرات من عدة جهات وهذا ما يحرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك قلت لكم ندبنا إلى شفاعة في الدنيا والله يشفعنا في بعضنا في الآخرة، إذن يحدد الله المشفوع له، ويأذن للشافع بحصول الشفاعة منه لهذا المشفوع له. دل على هذا قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء في الآية (28) :(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) .
وقد جمع الله الشرطين في آيات كثيرة من كتابه:
1) منها سورة النجم آية (26) : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يساء ويرضى) .
2) وهكذا في سورة النبأ آية (38) يقول الله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) . فهذا هو الشرط الأول (وقال صواباً) أي أذن له ولم يتكلم بعد ذلك على حسن رأيه ويشفع لمن يريد دون إذن ربه بحصول الشفاعة له فلا يتكلم إلا على حسب ما يحدد له، والصواب هو رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة وهذا هو الشرط الثاني.
3) وقال ربنا جل وعلا في سورة طه آية (109) : (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) وهذا كقوله تعالى (أذن له الرحمن وقال صواباً) .
إذن لا بد من هذين الشرطين إُذنُ الله للشافع ورضاه عن المشفوع له لحصول الشفاعة له، وعليه فمرد الأمر لله جل وعلا فهو خالق الشفاعة وموجدها وهو الآذن لبعض الناس بالشفاعة لمن يشاء ويريد ويرضى سبحانه وتعالى، ولذلك لا تطلب إلا منه سبحانه وتعالى أن يشفع فينا الصالحين من عباده فهو على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى مقرراً هذا في سورة الزمر آية 43 و 44: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء، قل: أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) ، فلله الشفاعة جميعاً من بدايتها إلى نهايتها فهو الذي يأذن للشافع وهو الذي رضي عن المشفوع له بحصول الشفاعة له، إذن مردها إلى الله جل وعلا، نسأل الله أن يرحمنا وأن يشفع فينا نبينا عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباده إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إشكال وجوابه:
إن قيل: وردت آيات في القرآن الكريم ظاهرها يشعر بنفي حصول الشفاعة يوم الدين، فكيف سنوفق بينها وبين الآيات التي أثبتت الشفاعة في ذلك؟ ومن هذه الآيات:
? قول الله جل وعلا في سورة البقرة - وسأقتصر على هذه السورة فقط - آية 48 (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون) .
? وقوله تعالى في آية 123 من السورة نفسها: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) .
? وقوله تعالى في الآية 254 (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أي يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) .
إذن هذا اليوم ليس فيه شفاعة، وقد مرت معنا الآيات بثبوت الشفاعة وحصولها، فما التوفيق بين الأمرين؟
الجواب: أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي يدعيها المشركون لآلهتهم وطواغيتهم من البشر أو الحجر أو البقر أو الشمس أو القمر وغيرها حيث كانوا يزعمون بأنها ستشفع لهم يوم القيامة، فإن هؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والشفاعة منتفية عنهم، وقد وضح هذا آيات القرآن (1) يقول الله تعالى في سورة المدثر – وانتبه لسياق الآيات – (كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) فما هي النتيجة؟ (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) التي كانوا يدعونها لآلهتهم، ويفترون ويزعمون أن آلهتهم ستشفع لهم، فهذه الشفاعة الشركية لا تنفعهم وهم مشركون لا تنفعهم شفاعة.
إذن (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) ، وما المراد بأصحاب اليمين؟
قيل: هم من يأخذ كتابه بيمينه.
وقيل: هم الملائكة المقربون.
لكن التفسير الدقيق الوارد في هذا عن صحابيين – ولذلك حكم الرفع – عن علي وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، عن علي في المستدرك بسند صحيح، وعن ابن عمر في تفسير ابن المنذر بسند صحيح:[ (إلا أصحاب اليمين) إلا أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا] قبل أن يجري عليهم القلم.
وهذه إحدى آيتين في القرآن تدل على أن أولاد المسلمين في الجنة إذا ماتوا قبل التكليف والآية الثانية في سورة الطور آية رقم (21) وستأتي ص (256) وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة، فإذا مات ولد من أبوين مسلمين أو من أحد أبوين مسلمين قبل أن يبلغ فهو في الجنة.
وفي هذه الآية قرينتان على أن هذا التفسير هو المعتمد – وإن كان التفسيران الآخران يمكن أن يدخلا في الآية – ولكن هذا هو المعتمد وأقوى من غيره لقرينتين هما:
القرينة الأولى:
قوله (رهينة) فإن معناها: مرتهنة ومحبوسة لتحاسب على عملها، فإن كان خيراً أثيبت وإن كان شراً عوقبت، لكن عندنا صنف ليس عنده ما يرهن عليه ويحبس من أجله فلم يعمل خيراً أو شراً ولم يجر القلم عليه، إذن فكل نفس مرتهنة بعملها إلا هؤلاء فليس عندهم عمل، ولذلك أولاد المسلمين في الجنة بمجرد موتهم [وصغارهم دعاميص الجنة] كما ثبت في مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام والدعاميص جمع دعموص وهي دودة لا تفارق الماء والولد الصغير بمجرد أن يموت لا يفارق الجنة، والدعموص أيضاً هو الذي يُكثر زيارة الملوك والأمراء فلكثرة زيارتهم ومخالطتهم لهم يدخل عليهم بغير استئذان، وهؤلاء دعاميص يدخلون ويسرحون حيث يشاءون ولا يمنعهم منها مانع وفلا يقيدون ويحاسبون.
القرينة الثانية:
قوله (يتساءلون) لأن سؤالهم هذا سؤال غرٍ جاهل سؤال من لا يدري الحقائق ولا ما جرى في عرصات الموقف، فهؤلاء – أي أصحاب اليمين الذين يتساءلون – لو شهدوا الحساب في عرصات الموقف وحضروا الميزان وأن هؤلاء ثقلت موازينهم فهم في عيشة رضية وهؤلاء خفت موازينهم فأمهم هاوية لو حضروا هذا لما سألوا هذا السؤال، فهو معلوم لديهم لأنهم حضروه، لكنهم لم يحضروا ولم يُحبسوا إنما دخلوا الجنة دون محاسبة ودون تقييد ورَهْن.
الشاهد هنا أنه (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الشفاعة الشركية هي المنفية.
3) وهكذا يقول الله في سورة الشعراء آية (100) : (
…
فمالنا من شافعين ولا صديق حميم) فالشفاعة المنفية هي حصول الشفاعة للآلهة وقد ذكروا قبل هذه الآية بثماني آيات وأيضاً قال في آية (96) من هذه السورة (قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون، فمالنا من شافعين
…
) إذن يسوون آلهتهم برب العالمين ويجعلونهم أنداداً له، وعدلاً ومثلاً له، يعبدونهم كما يعبدون الله، فهؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والله جل وعلا يقول:(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) أي جعلتموهم نظراء وعدلاً له، فسموهم وانعتوهم فماذا فيهم من صفات يستحقون أن يكونوا بها آلهة، هل خَلقوا أم خُلقوا؟ هل يملكون لغيرهم ضراً أو نفعاً أو يملكون هذا لأنفسهم؟!!
كل من عدا الله مخلوق مقهور مربوب مسير في الحياة والموت والرزق رغم أنفه مخير في ما عداها جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره، في الصورة التي على غير اختياره، إذن فكيف يستحقون أن يكونوا آلهة مع الله أو من دون الله؟!!.
4) وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في سورة غافر آية (18)(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) .
5) وقال جل وعلا في سورة الأنعام آية (94) : (
…
وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء....) .
6) وقال جل وعلا في سورة يونس آية (18) : (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون) .
فالشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي تقع بغير إذن الله وبغير رضاه عن المشفوع له، وهذه كان الضالون يدعونها لمعبوداتهم وما أكثر من يدعيها من المسلمين لطواعيتهم الذين يعكفون حولهم.
وهناك قصة لبعض الضالين في بلاد الشام من الصوفية المخرفين الذين يتبعون شيخاً ضالاً يقول لهم: أولادي لا تخافوا، فإذا صار يوم القيامة أضعكم في رقبتي كما تضع المرأة القلادة في عنقها، ثم أمر من فوق جهنم فأطير إلى الجنة، وتلامذته ينقلون هذه القصة عنه ويبتهجون ويفرحون ويقول: نحن سيشفع لنا هذا الشيخ العظيم، فقلت لواحد منهم عندما كلمني: وإذا سقط شيخك في جهنم، فكيف سيكون حالكم؟ ووالله إذا لم يرجع عن اعتقاده هذا سيسقط رغم أنفه ما دام يدعي هذا الأمر الذي يحاد ويضاد به الله:
ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً، اعملي] .
[يا عباس يا عم النبي، لا أغني عنك من الله شيئاً، اعمل] .
[يا صفية سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً] .
هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سيد الشافعين المشفعين والشفاعة له ثابتة بإجماع أهل السنة ودلت عليها النصوص الصحيحة الثابتة، ومع ذلك يقول كَوني سأشفع لهذا أو لهذا هذا مرده إلى الله جل وعلا!!.
ولذلك في صحيح مسلم [لما جاء ربيعة بن كعب الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان دائماً يحضر للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ليتوضأ منه، فقال له ذات يوم لما أحضر له وضوءه: سلني فقال ربيعة: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال أَوَغير ذلك؟ فقال: هو ذاك يا رسول الله فأطرق النبي عليه الصلاة والسلام يقول ربيعة – وظننت أنه يوحى إليه – ثم رفع فقال إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود] ، نعم ما سأل ربيعة وهذه هي همم النفوس العالية.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له من أول الأمر شيئاً لا أملك ولا لا أملك بل سكت فهولا يستطيع أن يتكلم من عنده، فهذا ليس في وسعه، فقال له، ألا تريد شيئاً آخر أستطيع قضاءه لك بنفسي؟، فقال: هو ذاك ولا أريد غيره، إذن فتحتاج المسألة إلى استئذان الله سبحانه وتعالى وانتظار الجواب منه، فأطرق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونزل عليه الوحي، فلما رفع رأسه قال لربيعة: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود فهذا شرط لا تفرط فيه حتى تكون في درجتي إن شاء الله في جنات النعيم.
المبحث الثاني:
أنواع الشفاعات يوم القيامة:
مجموع الشفاعات ثمانية أربعة منها خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام والأربعة الأخرى مشتركة بينه وبين غيره من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ومن الملائكة والصالحين من عباده.
أما الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام:
1-
الشفاعة العظمى:
ويقصد بها: الشفاعة لأهل الموقف قاطبة من إنس وجن وحيوانات، ليحاسبهم رب الأرض والسموات، فحتى الحيوانات ستنالها هذه الشفاعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وتكون نتيجة حسابها أن تكون تراباً لكنها مجموعة ليقضي الله للجماء من القرناء، وليظهر العدل الإلهي على أتم وجه، فيجتمعون في ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولا يقضي بين هذه المخلوقات إلا بشفاعة خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
وقد تواترت الأحاديث بذلك، وفيها:
(أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من منهم ويتصبب منهم العرق ويطول هذا الجمع ويبلغ الغم والكرب بالناس ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تظنون من يشفع لكم عند ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيذهبون إليه ويقولون: [يا آدم اشفع لنا عند ربك، فيقول لست لها] أي لا أبلغ هذا المقام وهذه الرتبة ليست لي، ثم يقول [إن ربي قد نهاني عن الشجرة فعصيته اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض] وكان بين نوح وبين آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت هذا في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
والمراد من القرن: قيل مائة سنة، وعليه تكون المدة بينهما ألف سنة. وقيل المراد بالقرن مدة فناء جيل من الأجيال، وكان كل جيل يعيش ألف سنة فأكثر، فالألف تضرب في عشرة يصبح المجموع عشرة آلاف سنة بين نوح وآدم والله أعلم أيهما المراد.
[فيذهبون إلى نوح ويقولون اشفع لنا إلى ربك فأنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض فيقول: لست لها، ويذكر سؤاله لربه ما ليس له به علم] وهذا وراد في قوله تعالى (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: يا نوح إنه ليس من أهلك) أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك، وليس المراد أنه ليس من أولادك فهو ابن حرام كما توهم هذا بعض سفهاء الأنام حيث يقولون هذا ليس من أهلك أي ليس بولدك وإنما ولد على فراشك فامرأتك خانتك فيه، هذا كلام باطل وما بغت امرأة نبي قط، وزنا الزوجة منقصة في حق الزوج، فإن قيل قد تكون الزوجة كافرة، نقول: لا حرج لأن الكفر ليس بتعيير عند أهل الأرض وليس بمنقصة في حق الزوج بخلاف العهر، فهو – أي العهر – منقصة عند الكفار وعند المؤمنين بل عند الناس كلهم هو مذموم ولذلك القوانين الوضعية الوضيعة في هذا الوقت أباحت الزنا إلا زنا الزوجة، وعند النصارى لا يوجد طلاق إلا إذا ثبت أن الزوجة زنت فعند ذلك للزوج أن يطلقها.
الشاهد أنَّ زنا المرأة طعن في زوجها ومعنى ليس من أهلك أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك.
[فيقول نوح: اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيقول لست لها، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات] وهي قوله (إني سقيم) مع أنه يجاهد ويجادل بها عن دين رب العالمين، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال عن سارة (إنها أختي) وهو صادق في كل ما قاله فهي أخته في دين الله بما أن هذا الكلام يوهم خلاف الظاهر فاستحى واعتذر فقال لست هنالك، ثم يقول إبراهيم [اذهبوا إلى موسى عليه السلام فإن الله قد كلمه فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك، ويذكر ذنبه ويستحي وأنه قتل نفساً..] مع أن النفس تستحق القتل لكن كأنه يرى أنه تعجل ولعله كان بالإمكان أن يصلح أمره، ثم يقول:[اذهبوا إلى عيسى فإنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك ولا يذكر ذنباً] أي أنا لست في هذا المقام ولا أتأهل له سواء كان عليّ ذنب أستحي به من الله أم لا، ثم يقول [اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون إليه ويقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول صلى الله عليه وسلم أنا لها وأنا صاحبها، فآتي تحت العرش فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويلهمني محامد أحمده بها لا أستحضرها الآن، ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفّع، فأقول: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي] فتنصب الموازين وتنشأ الدواوين.
يقول العبد الفقير وهذا الحديث ورد عن طرق متعددة وبروايات كثيرة من ذلك أن كل نبي لما تطلب منه الشفاعة يقول: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ثم يذكر ذنبه ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى غيري....] .
وكذلك لما يذهب الناس إلى كل نبي يثنون عليه بما هو فيه فمثلاً يقولون لآدم: [أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك
…
] .
وفي بعض الروايات يعتذر نوح عليه السلام عن الشفاعة فيهم بقوله: [وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي
…
] ولا يذكر أنه بسبب سؤاله ما ليس له به علم.
ومن ذلك أيضاً أنه لما يطلب من أي نبي الشفاعة يعتذر فيقول: [لست هنالكم] ، وفي روايات [ليس ذاكم عندي] وفي روايات [لست هناك ولست بذاك فأين الفعلة؟] أي الخطيئة أو الفعل الذي ارتكبه واستحى به من الله، وفي روايات [لست هناك] فقط. وهناك ألفاظ وروايات أخرى يطول ذكرها.
وعلى كل حال الحديث الطويل الذي ذكرناه هو ما قد أفادته عدة روايات، وإلا فرواية الصحيحين – وهي الرواية المشتهرة – ليس فيها التصريح بهذه الشفاعة العظمى للقضاء بين الخليقة بل اقتصر رواتها على ذكر شفاعة واحدة أخرى، ولكن يستفاد من نص الحديث في الصحيحين أن شفاعته ستكون للقضاء بين الخليقة بما ذكر في أول الحديث من اغتمام الناس وتضايقهم وكربهم وفزعهم من طول الاجتماع في هذا الصعيد الواحد، ثم إن ابن خزيمة بعد إيراده للحديث في كتابه (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل – أي الحديث الذي في الصحيحين – أراد أن يدلل على أن الشفاعة المذكورة فيه إنما هي الشفاعة التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضى بين الخلق حيث بوّب باباً بعد إيراده لرواية الصحيحين فقال:(باب ذكر الدليل على أن هذه الشفاعة التي وصفنا أنها أو الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق فعندها يأمره الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن فهو أول الناس دخولاً الجنة من المؤمنين) ثم أورد حديثين يقرران ذلك: الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وقال إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن وبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول: كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم.
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للأنبياء منابر من ذهب يجلسون عليها – قال – ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه قائماً بين يدي ربي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: يا محمد، ما تريد أن تصنع بأمتك؟ فيقول: يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمة الله ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي – فما أزال حتى أعطى صكاً برجال قد بعث بهم إلى النار، وحتى إن مالكاً – خازن النار – يقول: يا محمد، ما تركت النار لغضب ربك في أمتك من نقمة] وقد اشترط ابن خزيمة في كتابه هذا ألا يورد إلا حديثاً يرويه عدل عن عدل وبعد صفحات ذكر باباً آخر فقال: (باب ذكر بيان أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات يوم القيامة في مقام واحد، واحدة بعد أخرى) ثم قال: "أولها ما ذكر في خبر أبي هريرة رضي الله عنه – ويقصد الحديث الطويل الذي رواه الشيخان أيضاً – وخبر عمر، وابن عباس – وقد تقدم قبل قليل ذكرها – وهي شفاعته لأمته ليخلصوا من ذلك الموقف وليعجل الله حسابهم ويقضي بينهم فرقة بعد أخرى - " ثم ذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اختصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثوا بها وربما اقتصروا الحديث بتمامه وربما كان اختصاراً بعد الإخبار أو أن بعض السامعين يحفظ بعض الخبر ولا يحفظ جميع الخبر وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن فإذا جمعت الأخبار كلها علم حينئذ جميع المتن والسند ودل بعض المتن على بعض، انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 242-247) . (وهذا الكلام الذي كتبه هو من كلامي أنا وليس للشيخ الطحان أي مسؤولية عنه فما كان فيه من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق) .
وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة في كتابه فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) .
وقد فسر (المقام المحمود) بأربعة معان ٍ:
أولها: أنه هو الشفاعة العظمى. قد حكى الواحدي إجماع المفسرين على القول بهذا، وقد روى ابن أبي عاصم في (السنّة) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [في قوله تعالى:(عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال: الشفاعة] وإسناده ضعيف لكن الحديث صحيح لشواهده وقد حسنه الترمذي.
وروي أيضاً عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل، فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود] وإسناده جيد (وهذان الحديثان ذكرتهما أنا ولم يذكرهما الشيخ الطحان) .
ثانيها: أنه لواء الحمد:
ولا تعارض بينهما فهو يحمل لواء الحمد عندما يشفع وتحت لوائه آدم فمن دونه، فإذن لواء الحمد والشفاعة في وقت واحد.
ثالثها: أن المقام المحمود
هو كل خصلة حميدة يحمده عليها الأولون والآخرون في الدنيا والآخرة.
رابعها: أن يجلس معه على العرش
وهذا روي في تفسير الطبري وغيره [أن الله يُجْلِسُ نبيه على عرشه معه وهذا هو المقام المحمود] .
والأقوال الثلاثة الأولي كلها مقبولة، والأخير الرابع جرى حوله كلام حتى أن بعض الأئمة استنكروه.
المحاضرة الثانية والعشرون
والأثر الذي رواه الطبري هو عن مجاهد فهو إذن ليس بمتصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عندنا عن طريق موصول صحيح.
والمعتمد عند أهل السنة الكرام أن هذا ونظائره إذا ثبت نؤمن به دون البحث في كيفيته، إقرار وإمرار، لكنه كما قلنا لم يثبت مرفوعاً فلذلك نتوقف فيه لا نرده ولا نثبته ونقول بموجبه وأكثر ما يمكن قوله أنه مرسل له حكم الرفع، والمرسل ضعيف لا يحتج به في الأحكام العملية فكيف في أمور الاعتقاد؟ لذلك لا نعتقد بموجبه لأن هذا يحتاج إلى نص ثابت لأنه كما لا يجوز أن تنفي أمراً ثابتاً في العقيدة لا يجوز أن تعتقد ما لم يثبت، فنتوقف فيه ونبين أنه روي أي من جملة الأقوال المروية.
عدد من الأئمة ومن جملتهم الواحدي والرازي وأبو حيان وعدد من المفسرين قالوا، لو ثبت لكان مشكلاً فينبغي أن نطرحه – وأكثر من تبني رد هذا الإمام الواحدي قال: هذا التفسير باطل لا يصح، فالله يقول (عسى أن يبعثك) وهذا يفسر البعث بالقعود والجلوس، والبعث ضد الجلوس فكيف يفسر الشيء بضده؟! هذا الأمر الأول، أما الأمر الثاني: قوله (مقاماً محموداً) وهنا يقول مجلساً، والمقام ما يحصل فيه القيام.
وأنا أقول هذا الأثر لو ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيمكن الخروج من هذه الاعتراضات فنقول: (يبعثك) أي يظهرك في مقام محمود وليس المراد منه البعث الذي هو ضد الجلوس والقعود.
والمقام هنا ليس المراد منه أنه ضد الجلوس، بل المراد من المقام المنزلة والرتبة والشرف والفضيلة والفخر، وعلى هذا المعنى يحصل المقام للإنسان إذا جلس أو إذا قعد ولا فرق فليس المراد خصوص قيام أو خصوص قعود وجلوس، وهذا على تقدير ثبوته.
وكان أئمتنا يقولون: لمجاهد قولان غريبان، وأنا أقول ثلاثة أقوال، وهي:
1) هذا الذي ذكرناه: تفسيره للمقام المحمود.
2) قال في قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه.
وهذا الأمر ثابت بإسناد صحيح إلى مجاهد وهي زلة من زلاته وهفوة من هفواته فلترد ولتطرح، ولو نقلت عن صحابي – وحاشاهم رضوان الله عليهم – لطرحت لأجل الحديث المتواتر بأن المؤمنين يرون ربهم في جنات النعيم، يقول ابن كثير بعد نقله لأثر مجاهد هذا: هذا باطل، يقول ابن كثير في تفسيره: (ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد آلاء وهي النعم..... فقد أبعد هذا الناظر النُّجْعَة وأبطل فيما ذهب إليه
…
) .
3) القول الثالث: ولم يذكره العلماء وأضيفه أنا وهو مردود على مجاهد، قال تعالى (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال مجاهد هذا مثلٌ ضربه الله لهم ولم تمسخ أبدانهم، أي أن المسخ حصل لقلوبهم فصاروا بمنزلة القردة وخستها لا أن أبدانهم مُسِخت حقيقة وهذا باطل قطعاً وجزماً.
ثلاثة أقوال: القول الأول نتوقف فيه، والقولان الآخران – الثاني والثالث – نردهما بلا بلا توقف وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أخذ بشواذ العلماء ضلّ، ومن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك مفتي عمان أخذ هذا الأثر عن مجاهد وجعله مثل قميص عثمان، يلوح به في رسالته يقول قال مجاهد:"تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه" نقول له: مجاهد على العين والرأس ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق العين والرأس وعندما يتعارض كلام مجاهد مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فبكلام من نأخذ؟!
طبعاً بكلام من لا ينطق عن الهوى، فنقول مجاهد أخطأ فكان ماذا؟ أما نبينا عليه الصلاة والسلام فهل يمكننا أن نقول إنه أخطأ؟!! فأنت يا مفتي بين أمرين إما أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن تخطئ مجاهد!!.
فكيف رضيت أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم واستصعب عليك أن تخطئ مجاهد، وإني لأعجب أعظم العجب لهذا المفتي جاء لأثر مجاهد وجعله هو العمدة في مسألة الرؤية، وأما الأحاديث المتواترة في الموضوع فأَعْرَضَ عنها صفحاً ولم يأخذ بها.
إخوتي الكرام
…
للإمام الذهبي رحمه الله وهو تلميذ ابن تيمية – كتاب اسمه (العلو للعلي الغفار) احرصوا على شرائه ففيه خير كثير والكتاب كله في مسألة واحدة وهي إثبات العلو لربنا العلي.
وقد تعرض فيه لأثر مجاهد في أربعة أماكن في (صـ 94) ، (صـ 99) ، (صـ 124)، (صـ171) وسأقرأ لكم مكانين فقط من هذه الأمكنة وارجعوا إلى البقية:
أولاً:
في (صـ 94) قال: " [عن مجاهد: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً) قال: يجلسه أو يقعده على العرش] لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره وعمل فيه المروزي مصنفاً وسيأتي إيضاح ذلك بعد".
ثانيا:
في (صـ 124) قال: "قال المروزي سمعت أبا عبد الله الخفماف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال نعم: يقعده على العرش".
ذكر الإمام أحمد ابن مصعب فقال قد كتبت عنه وأي رجل هو!، ثم قال الذهبي: فأما قضية قعود نبينا عليه الصلاة والسلام على العرش فلم يثبت في ذلك نص – كما قلتُ لكم ما ثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام – بل في الباب حديث واهٍ، وما فسَّرَ به مجاهد الآية كما ذكرنا فقد أنكره بعض أهل الكلام، فقام المرْوَزي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتاباً، وطرقُ قول مجاهد من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن زيد، فمن أفتى في ذلك العصر بأن هذا الأثر يسلّم ولا يُعارض: أبو داود السجستاني صاحب السنن، وكان يقول: من رده فاتهمه – أي أنه من أهل البدع - ، إبراهيمُ الحربي (وقع في طبعة المطبعة السلفية بالمدينة لهذا الكتاب الجربي – وهو خطأ) وخلقٌ بحيث أن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل ما رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوءٌ متهم، سمعته عن جماعة وما رأيت محدثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" ثم بدأ يسوق الأسانيد عن مجاهد في قوله السابق الذكر.
وهذه الشفاعة العظمى الثابتة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وردت بها أحاديث كثيرة – كما قلت إنها متواترة – وذكرت حديث الشفاعة الطويل، ومن تلك الأحاديث المتواترة:
ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة] .
وقد امتازت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
أولهما: الختام فهي خاتمة الرسالات.
ثانيهما: العموم عامة لكل الناس وللجن أيضاً.
والمقصود بالشفاعة الواردة في الحديث الشفاعة العظمى فهو الذي يشفع في أهل الموقف بعد أن يعتذر باقي الأنبياء عنها.
وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة] وفي رواية أبي داود بحذف: [يوم القيامة] ولا تعارض بينهما، فهو سيد مطلقاً في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى تظهر السيادة؟ هنا في الدنيا يوجد من ينازعه، وأما هناك فلا يوجد أحد يستطيع أن يدعي أنه سيد، هذا كما قال تعالى:(مالك يوم الدين) وهو مالك الدين والدنيا، لكن هنا يوجد من ينازعه ويقول: لا إله والحياة مادة، و (إنما أوتيته على علم عندي) ، و (هذه الأنهار تجري من تحتي) وأنا ربكم الأعلى فيوجد من يقول هذا، وأما هناك في الآخرة فلا يوجد من يقول هذا كل واحد يقول (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) .
إذن سواء حذفت يوم القيامة أو ذكرت لا إشكال، لأنه إذا ذكرت فالسيادة تظهر في ذلك اليوم لعدم المنازع.
ثم قال [وأنا أول من تنشق عنه الأرض] فأول من يبعث هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال [وأنا أول شافع وأول مشفَّع] وليس بين اللفظين [شافع ومشفع] تكرار، فالشافع هو الذي يطلب الشفاعة لغيره والمشفَّع هو الذي تقبل شفاعته، فنبينا عليه الصلاة والسلام سابق بالأمرين لا يشفع أحد قبله ولا يشفَّع أحد قبله، لأنه لو لم يُشفَّع قبل غيره، فقد يشفع بعض الأنبياء إذن بعد، لكن يجابون قبله فيكون غيره أول مشفّع، فإنه لا يلزم من ثبوت الشفاعة حصول التشفيع فقد يشفع ويؤخر سنة.
ولو قال صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع فقط (ربما توهم البعض أن نبينا عليه الصلاة والسلام يسبق في طلب الشفاعة لكن تؤخر إجابة نبينا عليه الصلاة والسلام، فدفعاً لهذا التوهم قال: كل من الأمرين سيحصلان لي على سبيل الأولية فأنا أول من يشفع وأول من يجاب في قبول الشفاعة، عليه الصلاة والسلام .
وثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال [أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر] .
إذن هو أول الناس خروجاً عندما يبعث الناس، وهو الذي يخطب الناس إذا وفدوا على الله عز وجل واجتمعوا وهو مبشرهم إذا أيسوا بطريق الشفاعة العظمى
…
س: بخصوص الدعاء الوارد بعد الأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة
…
) هل يعتبر هذا الدعاء شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان شفاعة فكيف تكون الشفاعة لخير البرية الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو الذي نرجو منه أن يشفع لنا عند رب العزة سبحانه وتعالى؟
جـ: هذه الشفاعة منا لنبينا عليه الصلاة والسلام بأن يعطيه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود إنما تحصل بعد إذن من الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك فقال [سلوا الله لي الوسيلة] ثم أخبرنا بفضيلةٍ لهذا السؤال وهو أن من سأل الله لنبيه الوسيلة [حلت له الشفاعة] وحلت من الحلول والنزول لا من الحل ضد التحريم، أي نزلت عليه شفاعتي أي استحقها كان الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: بشر أمتك بأن من سأل لك هذا ستشفع له يوم القيامة، فإذن هذه الشفاعة بإذن من الله عز وجل لنشفع لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمر حاصل وثابت.
س: فإن قيل ما فائدة هذه الشفاعة إذن؟
الجواب: لأوضح لكم الجواب أضرب لكم مثالاً مشابهاً:
ألم يقل الله سبحانه وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) ؟ يصلون ولم يقل صلوا، وفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث، فصلاة الله على نبيه لا تنقطع وصلاته عليه أن يثني عليه في الملأ الأعلى وأن يتحدث بذكره ومحامده (ورفعنا لك ذكرك) فلا يذكر الله إلا ويذكر معه نبيه عليه صلوات الله وسلامه، فماذا قال الله بعد ذلك؟ (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) وصلاتنا على نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وغيرها من الصيغ نحقق فيها الصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن الله يصلي عليه ونحن نقول اللهم صلِّ فما فائدة هذا والصلاة من الله لا تنقطع؟ انتبه!! هذا مثل ما ورد في حديث الشفاعة [حلت له شفاعتي] وهنا فائدة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم [من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً] فصلاة الله حاصلة لنبيه صلينا عليه أوْ لم نصل، لكن فائدة هذا تعود إلينا وذلك حتى ننتفع من هذه القربة، وفائدته لنعلم قدر نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهذه فائدة عائدة لنا.
وفائدته لنتحدث بفضائله عليه الصلاة والسلام وفائدة هذا عائدة لنا، وأما هو صلى الله عليه وسلم – فعالي القدر رفيع المنزلة، الله يصلي عليه وسيعطيه الوسيلة، سواء قلنا هذا أو لم نقل.
وفائدته ليغرس نبينا عليه الصلاة والسلام في قلوبنا حبه، وليغرس في قلوبنا أمور الاعتقاد وأنه رسول الله وليغرس في قلوبنا أن الشفاعة ثابتة له، وهذا من أمور الاعتقاد، وليغرس فينا معاني الإيمان أمرنا بأن نقول هذا الدعاء، وإلا لو اجتمع أهل الأرض قاطبة على سب النبي صلى الله عليه وسلم هل ينقص ذلك من قدره؟! لا، فماذا سيفعل العباد له بعد قول الله تعالى (ورفعنا لك ذكرك)، وماذا سيفعل العباد بعد قول نبينا عليه الصلاة والسلام [آتي باب الجنة] فأستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
وكذلك ما فائدة ثناء العباد عليه صلى الله عليه وسلم وما مضرة ذمهم؟
إنما هذا عائد لهم، فنحن لا نسأل هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام لكونه غير حاصل ليحصل بدعائنا له إنما هو حاصل ثابت، فإذا كان ثابتاً ليحصل لنا من رواء هذا الأجر والمغنم وغرس عقائد الإيمان في ذلك.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى غلاماً صغيراً في المدينة يمسح على رأسه ويقول يا بني إن أدركت عيسى بن مريم فسلم عليه، فما مراد أبي هريرة من هذا؟
مراده أن يغرس في قلب هذا الغلام الإيمان بنزول عيسى عليه السلام، وإلا فإن أبا هريرة موقن أن هذا الغلام لن يدرك عيسى بن مريم عليه السلام، لكن هذه لابد من أن تُغرس في القلوب بأساليب مختلفة، تارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع وأول مشفَّع، وتارة يقول [سلوا الله لي الوسيلة] فمن سألها لي [حلت له شفاعتي] ، إذن هذا ليحصل لنا الإيمان بالشفاعة لأنها من أمور الاعتقاد وليحصل لنا الأجر ولتتعلق قلوبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، ولا شيء يغرس الإيمان في القلوب كالتكرار.
وهنا طلب الشفاعة من هذا الباب وهو كذكر الله وعبادته فالفائدة تعود لنا، وإلا من المستفيد من قولنا: لا إله إلا الله، سبحان الله، الله أكبر، نحن أم الله؟ نحن، فلسانك يتلذذ وقلبك يخشع وينتعش ونفسك تتنور، وتحصل على أجر بعد ذلك في الدنيا والآخرة وليس معنى أنه إذا ذكرنا الله وأثنيا عليه يرتفع قدره، وإذا كفرناه ينقص؟ حاشاه بل فائدة هذا تعود لنا كما قلنا، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم:[يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً] .
وللتقريب أقول لكم ولله المثل الأعلى: لو دخلت أنت على مدير مثلاً فقلت له السلام عليك أيها المدير، ودخل آخر وقال السلام عليكم، فقط فإنك ستجد أن المدير يرحب بك ويكرمك أكثر من الآخر لأنك بكلمتك هذه أظهرت له أنك تعترف وتقر بأنه مدير وليس معنى ذلك أنك إن لم تقل له ذلك أنه فُصِل لكن لكلمتك اعتبار في الخاطر، إذن ففائدة هذه الكلمة تعود إليك ولا ينتفع منها المدير أبداً.
الحاصل أن فائدة سؤال المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام عائدة لنا ونحن الذين سننتفع من وراء ذلك والله أعلم.
2-
استفتاح باب الجنة:
وطلب الشفاعة بفتحها فلا تفتح أبواب الجنة حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتحها فتفتح له.
وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وهو أول حديث في الجامع الصغير – عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من؟ فأقول: محمد، فيقول: بل أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
فالجنة لا يدخلها أحد ولا تفتح لأحد من متقدمين ومتأخرين حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتح أبواب الجنة فيأتي ويستأذن ويطلب من الله الدخول، ثم يدخلها أهلها بعد أن يدخلها نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس أيضاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا أول من يقرع باب الجنة] ، هذه هي الشفاعة الثانية من الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام.
3-
إدخال قوم الجنة بغير حساب:
فيشفع لهم إلى الكريم الوهاب فيدخلون الجنة بغير حساب، ولا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان.
نسأل الله أن يمن علينا بالجنة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأما أن تتعلق همتنا بأن نكون من هؤلاء، فوالله إننا لنستحي من ربنا أن يعلم منا أننا نتطلع إلى هذه المراتب، وكل واحد يعرف نفسه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ، فنسأل الله حسن الخاتمة.
وقد ثبت هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: [عُرِضت عليّ الأمم] أي مثلت له وكيف ستعرض يوم القيامة [فرأيت النبي ومعه الرُّهَيْط] تصغير رهط وهي الجماعة دون العشرة [والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض، فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن مِحصَن فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة] هذه الرواية من مختصر صحيح مسلم.
ومحل الشاهد هو طلب عكاشة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم [أنت منهم] ونبينا عليه صلوات الله وسلامه لا ينطق عن الهوى، فشفع إلى الله فأخبره الله أن عكاشة من هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم اجعله منهم] وورد في بعض الروايات أن عكاشة قال بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف السبعين ألف، قال:[أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم] .
إذن هنا شفع نبينا عليه الصلاة والسلام لعكاشة وسيشفع لهؤلاء بأن يدخلوا الجنة بغير حساب، هؤلاء لهم الأعمال الجليلة وهي:
أولاً: (لا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، والكي معروف وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:[الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي] .
والمراد بقوله [شرطة محجم] : أي الحجامة، فيشرط الجلد ويشق وبعد ذلك يمص الدم، فأما [وأنهى أمتي عن الكي] والسبب في ذلك أنه فيه ما يشبه تعذيب الناس في جهنم، فجهنم نار وعندما يكتوي الإنسان كأنه عذب نفسه بالنار، ثم إن هذا العلاج لم يتعين عليك فما أكثر العلاجات التي يعالج بها المخلوقات، فما الذي ألجأك إلى أن تكتوي بالنار، يضاف إلى هذا أن العلاج بالكي قد ينتج عنه أذىً، وقد اكتوى بعض الصحابة – وغالب ظني أنه سعد بن عبادة ولا أستحضر اسمه بالضبط الآن – لكن الأثر ثابت – اكتوى فمات من أثر الكي، وكان قد اكتوى في رقبته. فإذن أحياناً قد يكتوي الإنسان ويتضرر، وقد يصبح هناك تشويه للجسم والجلد، ولذلك [أنهى أمتي عن الكي] .
ثم إن أئمتنا قالوا: الكي دواء موهوم، وليس بمظنون، ولأمور ثلاثة:
1) مقطوع به وهو سبب لحصول المراد.
2) مظنون به وهو سبب – في الظن الغالب – لحصول المراد.
3) موهوم لا حقيقة فيه.
فأما الأمر الأول: المقطوع به فيجب عليك أن تأخذه مثل الغِذاء، فلو تركت الطعام حتى مت تدخل النار، ولو قال إنسان: أنا أتوكل على الله ولا آكل فمات فهو من أهل النار.
وأما الأمر الثاني: المظنون: وهو سائر أنواع العلاجات – غير الكي والرقية – إذا كانت غلبة الظن في الشفاء.
ومعظم العلاجات التي تجري الآن في المستشفيات كلها من باب الظن لا من باب القطع الأخذ بها جائز وتركها أحسن وأفضل، وعدم التداوي عزيمة والتداوي رخصة، فمثلاً إذا أرادوا أن يجروا له عملية جراحية بأن قالوا له: في بطنك آفة لا تشفى منها إلا بعملية جراحية، فهذا مظنون، لأنه قد يفتح بطنه ويموت وقد يخطئ الطبيب في تشخيص الداء، وقد يخطئ في وصف الدواء وما شاكل هذا، فلو قال المريض: لا تفتحوا بطني، أموت على فراشي إذا جاءتني المنية ولا أريد العلاج لكان أفضل، ولو قال: افتحوه وأنا أتوكل على الله ومات فليس عليه إثم.
وأنا أعرف بعض إخواننا من الطلاب في كلية أصول الدين في أبها أصيب بالسرطان – نسأل الله العافية – وهو في سنة أولى أصول الدين، ودرسته الفصل الأول وأصيب في الفصل الثاني وسرى السرطان في كفيه ثم انتشر بعد ذلك إلى ذراعه فعرضوه على الأطباء فقالوا لابد من بَتْر يده من الكتف، لأن علامات السرطان بدأت تمشي وتنتشر، فجاءني إخوته فقالوا لي: ما رأيك؟ فقلت: رأيي أن لا تعالجوه بقطع يده، دعوه لقدر الله، فإذا قدر الله له أن يموت فكل نفس ذائقة الموت، وإذا شفاه الله بغير علاج فهو على كل شيء قدير، لكن من ناحية الجواز جائز قطعاً، إنما أقصد أن يده تقطع من الكتف ثم بعد ذلك النتيجة ليست محققة بل هي غلبة ظن لكن ثم رأي الأهل بعد مدارسات على بتر يده فقطعت وبعد شهر توفي رحمه الله، لأن السرطان انتشر في سائر جسده حيث كان انتشاره خفياً ولم يكشفه الأطباء.
وأعرف آخر أيضاً – بعده – من إخواننا، انتشر السرطان في معدته وكبده – نسأل الله العافية – وقرر بعد ذلك إجراء عمليات فجلس الأطباء – كما يقال يلعبون به – وهم أطباء من أعلى التخصصات يعملون له عملية في أبها على يد أمهر طبيب هناك، ثم أجريت له عملية أخرى في الرياض في أحدث مستشفى هناك تقريباً وهو مستشفى فيصل التخصصي – وأجرى عمليات خارج السعودية، لكنه مات بعد ذلك بعد أن جئت إلى رأس الخيمة، وما نفعه أحد من هؤلاء الاختصاصيين، وعلمت بوفاته عن طريق الاتصال بأبها والسؤال عنه، عليهم جميعاً رحمة الله. وما أعطى الناس من اليقين والإيمان خيراً من الصحة.
إذن هذا مظنون إن أخذه لا حرج عليه وهو جائز، وإذا تركه جائز والترك أولى. وأنا أنصحكم ألا تلجأوا إلى عمليات، خصوصاً عمليات فتح البطن ولو استدعى بكم ذلك إلى الموت هذه نصيحة لا من باب أن هذا واجب، لأنه في الغالب عندما يفتح البطن تحصل مضاعفات اشد مما كانت ولا يعود الإنسان إلى طبيعته إذا فتح بطنه، بل تلازمه الآفات حتى يُلقى في الحفرة ميتاً، فاصبر على ما أنت عليه إذا قدر الله لك الحياة فالحمد له، وإذا قدر لك الموت فالموت لا يُخوِّف، وكل نفس ذائقة الموت، نسأل الله حسن الخاتمة.
وأما الأمر الثالث: الموهوم، وهو كالكلي فهو وهمي ليس بمظنون، فهو شيء من تضخيم الأمر وتوهمت أن الكي فيه علاج مع أنه توجد أدوية أخرى تنوب عنه ليس فيها مضرة الكي، ثم قد يوسع دائرة الضرر عليك عندما تتداوى به – كما ذكرنا.
ثانياً (لا يتطيرون) : أي لا يتشاءمون بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع ونحوها، فالتطير والتشاؤم موهوم فاتركه وابتعد عنه.
وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً [الطيرة شرك الطيرة شرك] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (هذا الحديث من زياداتي) .
ثالثاً: (لا يسترقون) : أي لا يطلبون الرقية، والرقية معروفة، وقد ورد في صحيح مسلم في رواية [ولا يرقون]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرقون".
والرواية التي معنا وهي في الصحيحين أيضاً: [لا يسترقون] والذي يظهر لي – والعلم عند الله – أن كلاً من الروايتين ثابت، والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله واهم في رد تلك الرواية.
وهو يقول: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من غيرهم لأن هذا ينافي التوكل، أما أنه يرقي غيره فلا حرج لأن هذا من باب نفع الغير.
نقول والله أعلم – ما في الاسترقاء موجود في الإرقاء، فعندما يأتي غيرك ليرقيك ينبغي أن تمتنع إن كان هذا ينافي التوكل، وأنت لا ينبغي لك أن ترقيه إن كان هذا ينافي التوكل.
والأصل أن الرقى الشرعية جائزة، فما الحكمة من أن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب لا يرقون ولا يسترقون مع أنها جائزة وحالها كحال العلاجات الأخرى؟
الذي يبدو لي – والعلم عند الله – وما رأيت من نبه على هذا من أئمتنا وقد رأيتهم يحومون حول الحديث فأقول:
أولاً: الذي يسترقي فهو وإن كان يطلب علاجاً شرعياً، لكنه قد يضع في قلبه – لا أقول شرك – أن هذا الإنسان له مزية ودعاءه له أثر، وهو عند الله معتبر فإذن كأنه صار فيه شيء من رجم الغيب، وكأنه صار فيه شيء من الاعتماد على الرقية وعلى الراقي، لذلك تحد أنك لا تأتي تطلب الرقية إلا من أناس معينين.
ونحن نقول إنه يعتقد في الراقي أنه يشفي لا، لأنه لو فعل هذا لأشرك، بل نقول صار في توكله شائبة وهذا بخلاف ما لو وصف لك الطبيب دواءً حسياً فهنا لا أثر له على توكلك ولا تتعلق به نفسك، وتتناوله كما تتناول الطعام، وأما الرقية فليست شيئاً حسياً فإنه يقرأ الفاتحة مثلاً وسورة الفلق والناس وآية الكرسي ويدعو فيقول (اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك
…
) وينفث عليه، فقد يقع – بالتالي – في نفسك شيء من الأثر.
ثانيا: الراقي: فهو عندما يرقي أيضاً كأنه صار في نفسه شيء يقدح في توكله من حيث أنه يرى أنه صار له شيء من المزية والمكانة حتى صار يرقي، ولذلك نقول لا حرج في رقية نبينا عليه الصلاة والسلام لغيره لأنه مزيته ثابتة وهو خير خلق الله، وسيد ولد آدم وأما من عداه فهل يستطيع أن يجزم لنفسه بمزية؟ وهل يستطيع أن يقول: أنا رجل مبارك ودعائي له أثر؟!! لا يستطيع، وبالتالي من رَقَى فكأنما صار في نفسه هذا المعنى، والعلم عن الله.
ومما ينبغي أن نعلمه أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا أفضل من غيرهم بإطلاق، فانتبهوا فإن المزية لا تقتضي الأفضلية، فقد يكتوي صديق ويحاسب وهو عند الله أعلى منزلة من هؤلاء فهذه ميزة لهؤلاء فقط أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ولا يلزم أن تكون منزلتهم أعلى من غيرهم.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الوصف والأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال فقال: [وعلى ربهم يتوكلون] .
وقد ورد أيضاً وصف آخر وقيد آخر، لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، ووصف آخر يخرجون من البقيع، فهذه خاصة بمن يدفن في البقيع بالمدينة المنورة.
ثبت هذا في رواية الطبراني من حديث أم قيس بنت محصن عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: [يحشر من هذه المقبرة – وأشار إلى البقيع سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر] إذن لهم شرطان: الأول: فعلهم فهم لا يسترقون ولا ولا والشرط الثاني: مكانهم: فهذا خاص بمن يتوفى بالمدينة ويدفن في البقيع.
وأما من عداهم فقد يحاسب ويكون أعلى درجة منهم، وقد ورد لهذا شاهد، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وصحيح بن حبان – والحديث صحيح – عن رفاعة الجهني عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال:[وعدني ربي أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً الجنة بغير حساب، وأنا أرجو ألا يدخلوها حتى تتبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة] .
إذن أنتم تدخلون قبلهم وتتبوءوا المنازل، لكن هم لهم خصوصية الدخول بغير حساب.
المحاضرة الثالثة والعشرون
تنبيه: لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً كلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب، بل يشفع لبعضهم ليكونوا منهم ويدخلوها بغير حساب، والبعض الآخر يكونون منهم ويدخلوها بغير حساب السبب ما جرى منهم من أعمال وبفضل الله عليهم.
أي أن هذا النوع من الشفاعة – أي الثالث – لا يثبت لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد أحد يشفع لغيره في أن يدخل الجنة بغير حساب، ولم نورد حديث ابن عباس هنا لإثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً بل لإثبات شفاعته لعكاشة ابن محصن، وكيف شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فصار من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
فائدة:
هؤلاء السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى أن مع كل ألف منهم سبعون ألفاً أيضاً، ورد الحديث بذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومعجم الطبراني الكبير وصحيح ابن حبان – والحديث صحيح – عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ومع كل ألف سبعون ألفاً] .
فالسبعون ألفاً اقسمها على ألف يصبح معك سبعون، ثم اضرب السبعين هذه بسبعين ألف (أخرى غير الأولى) يصبح معك أربعة ملايين وتسعمائة ألف (4.900.000) يدخلون الجنة بغير حساب بفضل الله ورحمته.
وثبت في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الكبير عن عتبة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً ثم يحثي ربي ثلاث حثيات] . ونسأل الله أن لا يبقى أحد من أمة نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلا ويخرج بهذه الحثيات.
و (الحثية) ملء الكفين.
فيحثو ربنا ثلاث حثيات من هذه الأمة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته، [ثلاث حثيات] إقرار وإمرار، لا نبحث في كيفية هذه الحثيات.
المحاضرة الرابعة والعشرون
س: هل السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة مع كل ألف لابد أن تكون فيهم نفس الصفات المذكورة في السبعين ألفاً الأصليين؟
جـ: لهذا العدد الذي يدخل مع السبعين ألفاً هم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قطعاً كحال السبعين ألفاً المتقدمين، لكن هل يعملون بمثل عملهم أم لا؟ يحتمل الأمر الأمرين، ولم يرد ما يدل على واحد منهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام:
أ) فيُحتمل أنه لابد من وجود هذه الصفات الخمس فيهم (لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يرقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) .
فإن قيل: إذا وجدت فيهم هذه الصفات الخمس فلمَ لم يكونوا من السبعين ألفاً؟
نقول: اعلم أن كل أمر له شروط لابد من وجودها، وموانع لابد من انتفائها لحصول ذلك الأمر، فهؤلاء السبعون ألفاً الآخرون قد توجد فيهم هذه الصفات كلها لكن لعله عندهم نقص في صفات أخرى، افرض مثلا ً– وكل بني آدم خطاء – أن عندهم نقصاً أحياناً في تأخير بعض الصلوات، فهم لم يحصّلوا جميع الشروط المطلوبة، إذن هذا الوصف – وهو دخول الجنة بغير حساب – لمن التزم بالأوامر والنواهي فعلاً وتركاً وحافظ بعد ذلك على هذه الصفات الخمس، إذ أنه عندنا شروط خاصة وشروط عامة، وشروط عامة هي الالتزام بكل مأمور وترك كل محظور، (انظر فتح الباري 11/410) .
ب) ويحتمل أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً الآخرون ليس فيهم صفة من هذه الصفات الخمس أو فيهم تفريط في بعض الصفات، فتوكلهم ليس بالدرجة الكاملة التي يقوم بها الراسخون في التوكل فربما رقوا أو استرقوا أو صدر منهم أحياناً تطير، فيمكن أن يكون قد وجد فيهم شيء من هذا.
إذن لعله وجدت فيهم الصفات الخاصة كلها لكن تخلف فيهم بعض الصفات العامة ولعله وجدت فيهم الصفات العامة لكن الصفات الخاصة لم توجد بالكلية أو وجد بعضها، ولا يوجد دليل يوضح ذلك فالمسألة تحتمل الأمرين والعلم عند الله.
4-
شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب:
هذه هي آخر الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي خاصة بعمه فقط، والسبب في ذلك أن أبا طالب مات على الكفر، والله أخبرنا عن الكفار – كما تقدم – أنه لا تنفهم شفاعة الشافعين (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، فالكافر إذن لا تنفعه شفاعة باستثناء أبي طالب.
والله سبحانه يقول في سورة البقرة (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) أما هذه فخاصة فإنه يخفف عن أبي طالب، لكن لا يخرج من النار.
فإن قيل: كل كافر لا يخفف عنه فلماذا أبو طالب يخفف عنه؟
نقول: شفاعة خاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام بأبي طالب فتنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله قال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، ويخفف عنه العذاب مع أنه أخبر عن الكفار أنه (لا يخفف عنهم العذاب) .
وهذا دل عليه أحادث النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي الصحيحين وغيرها عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، يوضع في أخمص قدميه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً]
(أَخْمص) على وزن أَحْمر، وهو الانخفاض الذي يكون في وسط القدم من الأسفل.
وقد ثبت في الصحيحين أيضاً وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت عمك أبا طالب، كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ فقال: نعم، كان في غمرات من نار، فأخذته] أي بشفاعته عليه الصلاة والسلام [فوضعته في ضحضاح من نار] ، وروي الحديث عن العباس رضي الله عنه أيضاً.
(كان في غمرات من نار) أي كان يخوض فيها وتغطي رأسه كأنه يسبح في نار جهنم.
(ضحضاح) أصل الضحضاح الماء القليل كالذي يخوض فيه الأولاد ولا يجاوز كعبيهم ولا يُخشى منه غرق ولا تلف.
فهذه شفاعة خاصة نؤمن بها ونثبتها لنبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن هذه أربع شفاعات خاصة لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات.
وأما الشفاعات العامة المشتركة بينه عليه الصلاة والسلام وبين غيره من الشافعين: من الملائكة المكرمين ورسل الله وأنبيائه المباركين والصالحين إلى يوم الدين.
1-
شفاعة أهل الجنة في قراباتهم اللذين دخلوا الجنة، لكن منزلتهم دون منزلتهم:
فيشفعون لهم فيرفع الله درجة النازل إلي درجة العالي دون العكس، فلا ينزل العالي إلى درجة النازل، فالزوج يشفع لزوجته والزوجة لزوجها، والابن لأبيه والأب لابنه وهكذا بقية الأقرباء.
ونبينا عليه الصلاة والسلام له أعلى درجة في الجنة فسيشفع لزوجاته قطعاً وجزماً، ليكنّ معه، وهل يتصور أن تكون أمهاتنا زوجات نبينا عليه الصلاة والسلام في مكان منفرد عنه؟!! وهنّ كما كن معه في الدنيا فهنّ معه في الآخرة.
لكن هل وصلن إلي ذلك بعملهن؟ أم بشفاعة خير خلق الله لهن؟
بل بشفاعته لهن صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يلزم من هذا تفضيل أمهات المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم سيكونون دون أمهات المؤمنين في المنزلة قطعاً وجزماً؟
فمنزلة عائشة رضيَّ لله عنها فوق منزلة أبيها أبي بكر، لكن أباها أفضل منها وكيف هذا؟!
نقول: لا تعارض لأن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهي أعلى منه في الدرجة ولم تستحقها أصالة إنما تبعاً لزوجها نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يشترط لوجودها في تلك الدرجة أن يحصل لها من النعيم والتجليات ما يحصل للنبي عليه الصلاة والسلام وما يغدق على النبي عليه الصلاة والسلام من نعيم وأعظمه التجلي لله ورؤيته لا يشترط أن يحدث لهن هذا.
وأبو بكر درجة أنزل من درجة أمهات المؤمنين لكن النعيم الذي يحصل له أكثر مما يحصل لهن، لأن كل واحد ينعم على حسب حاله – إن رفع – فهو في المنزلة مع صاحبه وقريبه لكن هذا ينعم بما لا ينعم به ذاك وكل واحد في شغل فاكهون.
وأضرب لكم مثلا ً حسياً لأقرب لكم هذا ولله المثل الأعلى، الأمير عنده من يصب القهوة والشاي وهذا يدخل عليه ويختلط به كثيراً بل هو في غالب الأحيان يجلس في مجلسه ويقابله وجهاً لوجه ويخالطه بكثرة، فهل هذا الخادم يشعر بالمكانة التي يشعر بها الأمير وله من المنزلة ما للأمير؟.
وفي المقابل هناك آخر عند الأمير مثلاً وزير فهو بعيد عن الأمير وقد لا يلتقي به في الشهر إلا مرة، لكن له من المنزلة ما ليس للخادم، فالذي يصب القهوة حصلت له مزية على غيره من الناس بأنه يجتمع مع الأمير صباح مساء، لكن هل يقتضي هذا أنه أفضل من الوزير؟!! لا يقتضي هذا فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
س: بالنسبة لمنزلة أبي بكر رضي الله عنه. نعلم أنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أن منزلته يوم القيامة أعلى من الأنبياء والرسل أومن بعضهم، لأنه هو الذي يليه؟!
ج: نقول إن منزلة كل نبي أعلى من غيره مهما علا شأنه وفضله فمنزلة أدني الأنبياء منزلة أعلى من رتبة أعلى الصديقين وأفضلهم، فرتبة أبي بكر الصديق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا فقط، ونحن نقول هذا لأجل إثبات فضيلته ومنزلته في هذه الأمة، لا في الأمم، فمنزلة الجنة موضوع آخر، نبينا عليه الصلاة والسلام ثم خليل الرحمن ثم بقية أولو العزم من الأنبياء على ترتيبهم ثم يأتي بعد ذلك أعظم الصديقين من الأولين والآخرين أبو بكر.
س: ما المانع من أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه حتى يكون معه في نفس المنزلة؟
جـ: لا يمكن هذا، لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا يشاركه فيها أحد غيره، ودونه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا يمكن لصديق أن تكون درجته أعلى من درجة نبي، فهي درجة عالية وكلهم يأخذون قربهم من ربهم على حسب درجاتهم وأعمالهم، فدرجة نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى الدرجات تليه درجة خليل الرحمن ثم بقية الرسل أولي العزم المكملون للخمسة نوح وموسى وعيسى عليهم السلام وبعد ذلك الرسل علي حسب ترتيبهم كما ذكرنا لكن مع كل رسول أهله ولابد، تبعاً لا أصالة.
وأما إذا أردت أن تسحب هذا الآن فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأبي بكر وأبو بكر يشفع لأسرته وبالتالي صاروا كلهم فوق منزلة أنبياء الله ورسله، هذا لا يحصل فذاك له مقام وهذا له مقام والعلم عند ربنا الرحمن.
وقد ألف ابن حزم كتاباً سماه (المفاضلة بين الصحابة) وجزم في كتابه بأن أمهات المؤمنين أفضل هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقال: خديجة وعائشة وسائر أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له من أين لك هذا؟
فقال: نحن نعلم ضرورة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم معه في الجنة، ونعلم ضرورة أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من منزلة أبي بكر فمن دونه، فيلزم من هذا أن تكون منزلة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورتبتهم أعلى من منزلة أبي بكر ورتبته.
فقال له أهل السنة كلاماً قطعوه به وأبطلوا قوله قالوا: يلزم من قولك أن تكون أم رمان وهي زوجة أبي بكر أفضل من عمر؟
قال: لا. قالوا له بطل قولك.
إذن زوجاته معه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم من هذا أنهن أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وقد اتفق أهل الحق على تفضيل الشيخين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام بلا خلاف عند أهل السنة فخير هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر، واختلفوا في عثمان وعلي، والمعتمد عند جمهور المحدثين: ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي رضي الله عنه.
فهن لهن هذه المزية ولهن أيضاً مزية أخرى حيث امتزن بخلطة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبته بما لم يحصل هذا لأبي بكر، ونقصد العشرة التي حصلت بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين عائشة لم تحصل هذه لأبي بكر ولا لعمر، فهي عشرة خاصة تطلع فيها هذه المرأة على نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية تذكر لها وتعرف بها، لكن لا يقتضي أنها أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، ولو جمعت الفضائل والمزايا والخصوصيات التي في أبي بكر، والفضائل والمزايا التي في أمنا عائشة أو في غيرها، لوجدت أن أبا بكر يفوق على غيره ممن له مزايا، وأنه يفوق غيره من الصحابة والصديقين.
وابن حزم – رحمه الله – هو صاحب شذوذ كثير مع علم كبير فلنطرح شذوذه الذي يخالف فيه أهل السنة ولنأخذ بعلمه فيما عدا ذلك.
وكان أئمتنا يقولون: "هو كالبحر يقذف بالدرر، ويرمي بالجيف" فالجيف اتركها واطرحها وخذ الدرر منه، ومن جملة ما شذ فيه وخالف فيه إجماع العلماء واتفاقهم، إباحته للمعازف والمزامير، ويطعن في حديث البخاري في ذلك [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف] ، ويقول هذا الحديث ضعيف لأنه معلق، وذلك أن البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ولم يقل حدثنا، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، وإذا روى التلميذ عن شيخه بـ (قال) أو بـ (عن) أو بـ (سمعت) ونحوها فهذه الصيغ كلها تحمل على السماع إن لم يكن التلميذ مدلساً، والبخاري ليس بمدلس قطعاً وجزماً، وقوله قال هشام كقوله سمعت هشام.
واجزم على التحريم أي جزم
…
والحزم ألا نتبع ابن حزم
ويقول الإمام العراقي:
وإن يكن أول الإسناد حذف
…
مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف
ولو إلى آخره، أما الذي
…
لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنه، كخبر المعازف
…
لا تصغ لابن حزم المخالِف
س: المرأة إذا تزوجها أكثر من واحد لمن تكون؟
ج: لعلمائنا ثلاثة أقوال وردت فيها والمعتمد منها آخرها:
فقيل: تكون للزوج الأول.
وقيل: تكون للزوج الأخير.
وقيل – وهو المعتمد – كما في المسند وغيره والحديث في درجة القبول – وأمنا أم سلمة رضي الله عنها تسأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [تكون لأحسنهم خلقاً، ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة] فتخير يوم القيامة بين من تزوجها لتختار من كان يُحسن عشرتها.
إذن الشفاعة الأولى شفاعة أهل الجنة لقراباتهم، وقد ورد في كتاب الله ما يشير إلى هذا قال جل وعلا في سورة الطور (والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) .
(ما ألتناهم) أي ما أنقصناهم فنلحق النازل بدرجة العالي دون العكس.
وثبت في مستدرك الحاكم (2/468) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] والأثر موقوف على ابن عباس وله حكم الرفع لأنه يتعلق بمغيب ولا يمكن للعقل أن يستنبط هذا.
وقد ورد هذا في مسند البزار مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس أيضاً، انظر مجمع الزوائد (7/114) وزاد بعد قوله في العمل [لتقرّ بهم عينه] ، وهو صحيح أيضاً.
وورد في معجم الطبراني الكبير والصغير تفسير ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب، عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] ، وهذا الأثر ضعيف، لأنه من رواية محمد بن عبد الرحمن بن غزوان وهو ضعيف، لكن يشهد له الأثران المتقدمان.
وهذا التفسير هو أحد تفسيرين في الآية المتقدمة، على أن المراد من الذرية هنا: الأهل الكبار، وقيل - وهو التفسير الثاني – المراد من الذرية الأولاد الصغار.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند حسن عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، ثم تلا (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) ] وهذه هي الآية الثانية التي تدل على أن أولاد المؤمنين في الجنة وتقدمت معنا الآية الأولى ص225 وهي (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) .
ويقول الحافظ بن حجر عن الحديث الذي في مسند الإمام أحمد المتقدم وهذا خير ما فُسِّرت به الآية، والإمام الشافعي مال إلى أن أولاد المؤمنين في الجنة ورجحه في أحكام القرآن، وعدد من الأئمة واستدلوا بهذه الآية على أن أولاد المؤمنين الصغار في الجنة.
ونحن نقول: الأمران، فالأولاد مع أبويهم إذا لم يبلغوا التكليف، والذرية تكون مع آبائهم إذا كانوا كباراً أيضاً إذا لم يؤهلهم عملهم لارتفاع درجتهم إلى درجة الأبوين، أو العكس، فقد يكون الأولاد في درجة أعلى من الآباء، فيرفع الله الآباء إلى درجة الأبناء، وهكذا الزوجين، ليكتمل السرور والأنس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [لتقرَّ بهم عينه] ، والعلم عند الله.
2-
الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم بدخول الجنة:
من رجحت حسناته على سيئاته: يدخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته: يدخل الجنة حتى يطهّر ويعذب ما لم تكن السيئة شركاً فلا ينفعه شيء من حسناته حينئذ بل يخلد في النار (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، من استوت حسناته وسيئاته: المعتمد أنه يحبس على الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في بيان المراد بأهل الأعراف، وكلها قريبة ترجع إلى معنىً واحد، وهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فما عندهم ما يدخلهم الجنة وما عندهم ما يدخلهم النار ويرجح إحدى الدارين في حقهم، فيسجرون على الأعراف، ثبت معنى هذا عن ابن عباس وابن مسعود وعن غير واحد من السلف"، وهذا القول هو الراجح المعتمد من اثني عشر قولاً قيلت في بيان المراد بأهل الأعراف.
فيحبسون على سور بين الجنة والنار – كما ذكرنا – وفي نهاية الأمر سيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته ثم بتشفيع الله للصالحين من عباده فيهم فيشفعون لهم ويدخلون.
وقد أشار الله جل وعلا إلى أنهم سيدخلون الجنة في كتابه إشارةً لطيفة ظريفة فقال جل وعلا: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) هذا هو الشاهد (لم يدخلوها وهم يطمعون) .
قال أئمتنا: ما أطمعهم الله في دخولها إلا وهو يريد أن يدخلهم، ومعنى الآية أي جعل في قلبهم هذا الطمع وهذا الرجاء وسيحقق الله لهم ذلك، ثم قال تعالى (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) فهنا دعوا الله ألا يجعلهم مع هذا الصنف، أما إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة يتمنون ويطمعون أن يكونوا فيها مع أهلها.
خلاصة الكلام: أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباده.
3-
الشفاعة لقوم من العصاة قد استوجبوا دخول النار لرجحان سيئاتهم على حسناتهم ألا يدخلوها:
فيشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالحون من عباد الله بعد إذن الله لهم ورضاه عن المشفوع فيه، فيشفع الله الشافعين ويمنع هذا الإنسان من دخول نار الجحيم.
دليل هذا: ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً وأبو داود والدارمي – والحديث قال عنه الترمذي غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار] ، وورد عن علي أيضاً بلفظ آخر مرفوعاً [من قرأ القرآن وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب النار] ، وهو ضعيف أيضاً.
والحديث ورد له شاهد يقويه، رواه الطبراني في الأوسط انظر مجمع الزوائد (7/162) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – وهو ضعيف أيضاً فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف لكن يتقوى الضعيفان ببعضهما ولا ينزل هذا الحديث عن درجة القبول إن شاء الله – عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال:[لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار] .
فإذ قرأ القرآن ثم أتى بشيء آخر حتى لا يكون من القراء الفسقة فأحل حلاله أي فعل الحلال معتقداً حله، وحرّم حرامه أي ترك الحرام معتقداً تحريمه، فهذا له جزاء عظيم عند الله يدخله الجنة ثم يشفعه في عشرة من أهل بيته وقرابته ممن استوجب دخول النار لرجحان سيئاته على حسناته فيشفع لعشرة منهم فيدخلون الجنة، والحديث كما قلت لا ينزل عن درجة القبول لأنه لا يوجد في رواتهما أحد كذاب أو متروك أو منكر الحديث، بل في رواتهما ضعف دون ذلك والضعف اليسير يزول بتعدد طرق الحديث، والعلم عند الله.
المحاضرة الخامسة والعشرون
4-
الشفاعة فيمن دخل النار بالخروج منها:
من دخل النار استحق أن يمكث فيها فترة طويلة فيشفع له الشافعون فيخرجه الله منها قبل أن تتم مدة عذابه.
دليل هذا ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] والحديث صحيح بل هو مستفيض ودرجة الاستفاضة دون المتواتر وفوق المشهور.
الحديث:
1) ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم.
2) وثبت أيضاً من رواية جابر بن عبد الله في سنن الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في كتاب التوحيد ومستدرك الحاكم.
3) وثبت أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه في مسند أبي يعلى والسنن الكبرى للبهيقي لابن أبي عاصم ومسند البزار.
4) وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أيضاً.
5) وعن كعب بن عجرة.
6) وعن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الشفاعة شاملة لمن استوجب دخول النار ألا يدخلها، ولمن دخلها أن يخرج منها، فهي إذن شاملة للنوع الثالث والنوع الرابع. وستأتينا أحاديث تنص على إخراج أهل الكبائر من النار. إذن هذه أربع شفاعات عامة مشتركة.
فائدة:
خالف أهل البدع من المعتزلة والخوارج في مبحث الشفاعة وكان خلافهم في بعض أنواع الشفاعات المتقدمة، أما الشفاعات الخاصة فلا خلاف فيها، وأما الشفاعات العامة ففيها شفاعة واحدة لا خلاف فيها وهي الشفاعة الأولي بأن أهل الجنة يشفعون لذريتهم.
فبقيت ثلاث شفاعات خالف فيها المعتزلة والخوارج وهي:
1-
الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته.
2-
ومن استوجب دخول النار.
3-
ومن دخلها.
فقال الخوارج والمعتزلة: من لقي الله بكبيرة، لم يتب عنها فيجب على الله أن يعذبه ولا يجوز أن يغفر له، وإذا عذبه فهو مخلد في نار جهنم لا يخرج منها.
أما الخوارج فقالوا: إن فاعل الكبيرة كافر وبالتالي فهو مخلد في النار.
وأما المعتزلة فقالوا: إن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين، أي ليس بمؤمن ولا كافر لكن مخلد في نار جهنم.
إذن الحكم الأخروي متفقون عليه وهو الخلود في نار جهنم، لكن الحكم الدنيوي اختلفوا فيه، فأولئك تجاسروا على إطلاق الكفر عليه وأما هؤلاء فتهيبوا من إطلاق الكفر عليه فقالوا في منزلة بين منزلتين وهذا القول الذي قرره الخوارج والمعتزلة باطلٌ لأربعة أمور:
1) تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بخروج عصاة الموحدين من نار جهنم بعد أن يعذبوا فيها فترة من الزمان.
ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ ثم يقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان] .
وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه بُرَّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّة من خير] .
(بُرَّة) البرة هي حبة القمح والحنطة وهي تكون أخف وزناً من حبة الشعير، لأن قشرة الشعير غليظة وسميكة فلها وزن بخلاف قشرة الحنطة، يضاف إلى هذا أن حبة الشعير أطول من حبة الحنطة، وورد بدل لفظ (خير) في الألفاظ لفظ (إيمان) .
وصحّف أبو بِسطام شعبة بن حجاج أمير المؤمنين في الحديث، صحّف اللفظ الثالث (ذرَّة) إلى (ذ ُرَة) أي حبة الذرة فقد اشتبه عليه الأمر رحمه الله لما وردت حبة الشعير وحبة القمح فظن أن الذرّة هي الذ ُرَة لأن رسم كتابتها واحد، والتشكيل هو الذي يختلف وإذا أخطأ المحدث خطأً يسيراً فلا يضره هذا ولا ينزله عن أعلى درجات الحفظ، ولا يعصم أحداً من خطأ، رحمه الله.
و (الذرَّة هي أقل شيء يوزن، هذا قول، وقيل: هي الهباء الذي يخرج ويتطاير عندما تسطع أشعة الشمس، وخصوصاً إذا سطعت الشمس داخل حجرة فإنه يُرى بشكل واضح) . وقال ابن عباس هي أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فالذي يتطاير من يدك من ترابٍ هو الذرات. وقيل: وهو القول الرابع – المراد من الذرّة النملة الصغيرة، وهي دون البرّة في الوزن.
إذن من قال لا إله إلا الله وعمل من الكبائر ما عمل وعنده وزن شعيرة من خير، برة من خير ذَرَّة من خير فيخرج من النار إلى الجنة.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى – انظر المجمع (10/384) عن أنس رضي الله عنه – والحديث فيه ضعف يسير وله شواهد كثيرة تجبره إن شاء الله وتقويه – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إن عبداً لينادي في النار ألف سنة يا حنان يا منان] أي ألطف بي ومنّ عليّ بالخروج من هذه الدار الخبيثة [فيقول الله لجبريل عليه السلام: اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون، فيرجع إلى ربه فيخبره] أنه نظر في أهل النار فلم يميزه عن غيره ولم يعرفه [فيقول الله جل وعلا: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك] أي المكان الذي استقررت فيه وتنام فيه [فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني أن تعيدني فيها، فيقول: دعوا عبدي] .
الشاهد من هذا كله: أنه تواترت الأحاديث بخروج أناس من النار، وقد تواترت أحاديث كثيرة أن ذلك الخروج يكون أيضاً بشفاعة الشافعين، كما يكون برحمة رب العالمين، ومن تلك الأحاديث:
ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين] أي: نسبة إلى الدار التي كانوا فيها وهي جهنم، ويسمون الجهنميين في البداية عندما يدخلون فيقال هؤلاء الجهنميين ثم بعد ذلك يصب عليهم أهل الجنة من ماء الجنة فيذهب عنهم القَتَر والسواد ويصبحون كأهل الجنة في النعيم والبهجة والسرور.
وثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يخرج قوم من النار بالشفاعة كأنهم الثغارير] وضبط بالعين المعملة: الثعارير [فقيل وما الثعارير؟ فقال: الضغابيس] وهي صغار القثاء، وهي التي تشبه الخيار لكن تكون معكوفة في الغالب وملتوية، وهي من أنواع الخضار ومن فصيلة الخيار، وتسمى قتة في بلاد الشام، وتسمى في الإمارات فقّوس.
أي يخرجون من النار وفيهم هذا الذل، وهذا الامتهان وهذا الاحتراق بحيث أن أبدانهم صارت بهذا الحجم من ضمورها وهزالها، فذهبت صحتهم حتى صار الواحد منهم كأنه صغار القثاء، ثم يخرجون من النار بالشفاعة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول مفتي عمان في كتاب الحق الدامغ صـ 191:
"وعقيدتنا معشر الأباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد" قلت: هل يستقيم هذا في رحمة أرحم الراحمين أن يجعل المؤمن الموحد الذي له حسنات أكثر من الجبال عدداً ووزناً كأبي جهل، كيف سيسوي الله من وحده بمن جحده وألحده؟!!.
ثم يقول: "كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها"!! ما هذا المقياس مع الفارق الكبير فأولئك دخلوا الجنة ولا يخرجون منها، وأما هؤلاء فعلى حسب أعمالهم فيدخلوا النار من أجل أن يطهروا وينقوا من الذنوب.
ثم يقول: "إذ الداران دار خلود"!!! نحن لا نقول إن النار تفنى، بل هي دار خلود لكن في حق من يخلد فيها، لكن هذا هو التلاعب بالحقائق!!.
يقول: "ووافقنا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم"، أي وافقهم في أن من دخل النار لا يخرج منها، سبحان الله!! هلا كان من وافقك هم أهل السنة والجماعة!!!
ثم يقول: "وإنما خالفنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة"!!! وأنت ماذا خالفت يا مفتي!!.
نحن الآن في موضوع خروج عصاة الموحدين من النار في هذا المبحث المختصر ذكرنا (5) أحاديث فقط وقلنا الأحاديث متواترة، فكيف تخالف هذا؟!!!
وإذا كان الخوارج قد حكموا على فاعل الكبيرة بالكفر والله إنهم لأعقل منك عندما حكمت عليه بالإيمان وقلت إنه مخلد في النيران، ولذلك هم يقولون: إن تخليد العصاة في النار هذا دليل على أنهم كافرون، فإذن هم يقولون بكفرهم وخلودهم، فكلامهم مستقيم مع بعضه وإن كان ضلالاً وباطلاً، وأما كلامك يا مفتي ففيه سفاهة من وجهين:
أولا: إن كلامك باطل من ناحية الشرع.
ثانيا: أنه يناقض بعضه بعضاً
فإنك تقول هو مؤمن وهو مخلد في النار، كيف هذا؟!! ولا يخلد في النار إلا الكفار.
ثم إنك خالفت الخوارج في هذه الجزئية لكنك وافقت المعتزلة، حيث يقولون: لا نكفره لكن نحكم عليه بالخلود في النار، إخوتي الكرام
…
هذا قول باطل فاحذروه.
إذن تواترت الأحاديث بخروج أقوام من النار بالشفاعة بعد دخولها.
2) تواترت الأحاديث أيضاً بأن من لقي الله على التوحيد وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ثم مات مآله إلى الجنة، إذا لم يأت بما ينقص إيمانه من مُكَفِّر أو ردة.
أما المعاصي فلا تعتبر كفراً ولا ردة، لأنها لو كانت كذلك لما رتب الشارع عليها حدوداً مقدرة، فالزاني مثلاً يجلد ولو كان الزنا كفراً لقال الشارع: اقتلوه.
وقد أجمع الصحابة على أن مخالف المأمور أو مرتكب المحظور ليس بكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:[لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، المفارق لدينه التارك للجماعة] والحديث في الصحيحين، إذن فكيف نستحل دم إنسان مسلم إذا لم يفعل أحد هذه الأمور الثلاثة؟!! فإذا شرب الخمر لا يستحل دمه، ولو استحل دم من زنى وهو ثيب أومن قتل نفساً أخرى فلا يموت على الكفر، إنما إذا استُحل دم من ارتد فهذا الذي يموت كافراً مخلداً في نار جهنم.
من تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى، وإن سرق؟، فقال وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر وإن زنى وإن سرق؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم الجواب وإن زنى وإن سرق فأعاد أبو ذر السؤال ثالثة] يستبعد هذا ويستغرب منه غاية الغرابة، يدخل الجنة وهو مقصر في حق الله معتدٍ على حقوق العباد، وذكر السرقة والزنا للإشارة إلى حق الله وحق عباده ويدخل في هذا سائر الحقوق، فتعديه على حق الله عندما يزني، وتعديه على حق العباد عندما يسرق منهم [فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر السؤال رابعة، فقال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنفك يا أبا ذر] فلا داعي لإعادة السؤال مرة خامسة، لأن التكرار ثلاث مرات، وفي الرابعة تستحق هذا الجواب حسماً للسؤال، [فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا حدث بالحديث يقول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق على رغم أنفي] يعني أنا ضاقت نفسي من هذا ولم أسترح إليه لكن على رغم أنفي سيدخل الجنة وهذا هو حكم الله وهذا هو تبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم (1/217) : "أفاد حديث أبي ذر فائدتين:
الفائدة الأولي: أن عصاة الموحدين لا يقطع لهم بنار الجحيم.
الفائدة الثانية: لو عذبهم الله فمآلهم إلى الجنة".
وإنما لا يقطع لهم بنار الجحيم لأنه ورد في الحديث [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة
…
وتقدم، وهذا الدخول قد يكون سابقاً وقد يكون لاحقاً، فإذا غفر الله له دخل مع السابقين، وإذا عذبه لحقهم بعد حين، فلابد من الدخول ولن يخلد في نار جهنم.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/111) : "يدل الحديث على أن من فعل الكبيرة لا يخلد في النار" وهذه فائدة كالتي ذكرها الإمام النووي لكنه ذكر فائدة ثالثة: "ويدل على أن فاعل الكبيرة لا يُسلب عنه اسم الإيمان" أي فاعل الكبيرة مؤمن ولا يخرج عن الإيمان بفعلها المجرد فهو مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه.
3-
أنتم تقولون من لقي الله بكبيرة فهو مخلد في نار جهنم ولن تنفعه أعماله الصالحة أي بطل ثوابها وحبطت، وهذا منكر عظيم لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين.
فكيف تضيع الحسنات أمثال الجبال بسيئة من السيئات، والله جل وعلا لم يجعل شيئا من الأعمال المنكرة محبطاً للأعمال الصالحة إلا شيئاً واحداً هو الشرك، وبشرط الموت عليه، فمن كان مؤمناً وعمل الصالحات ثم ارتد حبط عمله، فإذا آمن رجع إليه ثواب عمله الصالح، ولذلك لو حج ثم ارتد ثم آمن لم يجب عليه أن يعيد الحج مرة أخرى.
فلا يحبط العمل إلا بالكفر والموت عليه، الله قرر هذا في كتابه فقال جل وعلا في سورة البقرة آية (217) :(ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .
فإذن من لقي الله بمعصية من المعاصي لا نقول إنه صديق، وكذلك لا نقول إنه كافر عنيد بل نقول مؤمن عاص ٍ، إن غفر الله له فرحمته واسعة، وإن عذبه فبِعَدْلِه، ولن يخلده في نار جهنم إذ كيف سيسوي الله هذا مع الكافر الذي لم يسجد لله سجدة واحدة؟! إن التسوية بين المؤمنين والكافرين هذا مما لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين يقول الله تعالى:(أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)، فإن قيل: فاعل الكبيرة ليس بمتقٍ؟، فنقول: التقوى قسمان: تقوى الشرك وتقوى المعاصي، فالمؤمن الذي ارتكب المعاصي هو متقٍ للشرك لكنه لم يتق المعاصي فتقواه ناقصة وليست معدومة بينما الكافر والمشرك ليس عنده نوع من أنواع التقوى.
4-
قولهم يجب على الله أن يعاقب العصاة ولا يجوز أن يغفر لهم في وقت من الأوقات لا عند الحساب ولا بعد دخولهم النار، أي لا يجوز أن يغفر لهم ولا أن يخرجهم من النار، هو قول باطل يصادم النصوص القطعية:
1-
قال الله عز وجل في كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، (ما دون ذلك) أي ما دون الشرك من جميع الكبائر والموبقات (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإذا عذب الله فاعل الكبيرة فهذا بِعَدْلِه سبحانه وتعالى، وإن غفر له فهذا بفضله، وأفعال الله سبحانه وتعالى بين عدل وفضل ولا ثالث لفعله فالظلم والجور منتفٍ عنه، بل هذا من أفعال العباد، والفعل المطلق للإنسان لا يخرج عن واحد من ثلاث إما أن يكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً.
إذن لو عفا عنه فهذا فضله ورحمته سبقت غضبه، ولذلك ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أنه قال:[ما في القرآن آية أحبَّ إليَّ من هذه الآية] ، وهي عنده أرجى آية في القرآن أيضاً، وثبت هذا عن حفيده علي بن الحسين زين العابدين حيث قال:[هذه أرجى آية في القرآن] ، ووجه كونها أرجى آية في القرآن إخوتي الكرام
…
كما قلت العذاب عدل والمغفرة فضل وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في حقه الفضل؛ لأن رحمته سبقت غضبه، يضاف إلى هذا أن كل عاصٍ لم يقع في الشرك يطمع في أن يكون ممن شاء الله له المغفرة، وما أطمعنا الله إلا ليعطينا كما قال في حق أهل الأعراف (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، وقد قال الله في الحديث القدسي [أنا عند ظن عبدي بي فليظن ما شاء] وظننا بربنا أن يغفر لنا وأن يتجاوز عنا ذنوبنا وأن يعاملنا بفضله وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
2-
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة (10-40) من أصحابه: [بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله] . هذه هي الحالة الأولي، والحالة الثانية [ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له] لأن الحدود زواجر وجوابر، فهي تزجر الفاعل بالناس، وتطهّر الفاعل والأمة من سخط الله، فالحدود مطهّرة ولو لم يتب المحدود، فإذا سرق وقطعت يده غُفِرَ ذنبه تاب منه أم لم يتب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز:[إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها] بعد أن أقام عليه الحد، والحديث في صحيح مسلم، أما الحالة الثالثة فبينها بقوله [ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك] إذن أنتم بين ثلاثة أحوال، وهو حديث صحيح صريح في بابه.
3-
وثبت في مسند أبي يعلى والبزار وكتاب السنندة لابن أبي عاصم، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) والبهيقي في (البعث والنشور) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه] فالثواب ينجزه والعقاب قد ينجزه، وقد لا ينجزه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
ومما يبين أن قول المعتزلة والخوارج بأنه يجب على الله أن يعاقب العصاة – باطل هذه المناظرة المحكمة السديدة، التي جرت بين إمامين أحدهما مهتدي ٍ والآخر ضال غوى:
1-
أما المهتدي فهو شيخ أهل السنة وأحد القراء السبع أبو عمرو بن العلاء، وهذا قارئ البصرة، والبصريان إذا أطلقا فيراد بهما أبا عمرو هذا ويعقوب، فالبصريان هذان الاثنان والكوفيون أربعة والمدنيان اثنان والمكي واحد، والشامي واحد فالمجموع عشرة فهؤلاء هم القراء العشرة الذين قراءتهم متواترة.
2-
وأما الضال فهو عمرو بن عبيد، أبو عثمان، ولا يتعمد أحد إذا قلنا كذا عن عمرو بن عبيد كما اعترض بعضهم على ذمنا للحجاج، ولا يقول كيف نقول على عمرو بن عبيد هذا وهو من أئمة الإسلام وله شأن، وهو خليل وصفي الخليفة العباس أبي جعفر المنصور وكان من الزهاد العباد وكان أبو جعفر يقول:"كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد" أي كل واحد منكم يريد الدنيا إلا عمرو بن عبيد، وكان إذا دخل على أبي جعفر المنصور لا يستطيع أبو جعفر أن يبقى في مجلس الخلافة، بل يأمر بأن تجهز له غرفة ليس فيها إلا فراش على الأرض ليجلس عليه إجلالاً لعمرو بن عبيد، وليستمع إلى نصح عمرو بن عبيد له.
وهو مع زهده وتنسُّكه ضال، كما قال بن كثير: والزهد لا يدل على صلاح في الإنسان، فعباد الهنود والمتقشفون فيهم عندهم من الزهد والانزواء عن الدنيا والامتناع عن الطعام والشراب ما لا يوجد في كثير من زهاد المسلمين، لكنهم لجهنم حطباً، بل لا بد من أن يكون الزاهد على المسلك الشرعي وإلا فزهده لوحده لا يكفيه، وأبو العلاء المعري كان زاهداً لدرجة أنه لم يتزوج، بل اعتبر الزواج جريمة، وبلغ من إعراضه عن الدنيا أنه يقول إن أعظم المجرمين في حق الأبناء هم الآباء، وأوصى أن يكتب على قبره هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد، لعنة الله على هذا الزهد، ولذلك اتفق أئمة الإسلام على "أن الزهد إنما يكون فيما يلهيك عن الله ويضرك عنده" فهل النكاح فيه ذلك؟!!! بل فيه حسنات لا تستطيع أن تحصلها من كثير من الطاعات، وهل يجب إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه شيء مؤذٍ وضار، وهو سيد الطيبين وهو الذي يقول:[حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة] .
ولذلك إخوتي الكرام.... لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولا يوجد عندنا أن كل واحد يعبد ربه برأيه، ويخترع شريعة ما أنزل الله بها من سلطان ثم نقول زاهد عابد، إن زهده لن يوصله إلا إلى نار جهنم ورضي الله عن عمر عندما كان يرى عباد النصارى في الصوامع فيتلو قول الله تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) .
فعمرو بن عبيد من أولئك الزهاد الذين لم ينفهم زهدهم بل هو ضال باتفاق أئمتنا، ووالله لا نعرف عمرو بن عبيد ولا نعرف أبا عمرو بن العلاء لكن عن طريق ما نقله عنهم أئمتنا وأخبرونا به عنهم، فذاك طالح فأبغضناه وذاك صالح فأحببناه وليس بيننا وبينه قرابة ولا بيننا وبين الآخر عداوة، وعندما نحب عمر بن عبد العزيز وهو من بني أمية – لأننا أمويون!!، ونكره الحجاج الضال الخبيث لأننا عباسيون!! أهذا هو السبب في حبنا لواحد وبغضنا للآخر أم نحن نحكم حبنا وبغضنا على حسب شرع ربنا جل وعلا؟!!
انتبه لهذه المناظرة المحكمة:
اجتمعنا في مجلس فأراد عمرو بن عبيد أن يرد على مذهب أهل السنة:
فقال: يا أبا عمرو إن الله وعد (1) وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده (2) .
(1) الوعد في المسرة، والإيعاد في المضرة، تقول: وعدته جائزة وأوعدته عقوبة.
(2)
أي كما أنه ينجز الوعد فهو سينجز الإيعاد، هذا كقول مفتي عُمان "لأن الله لا يخلف الميعاد" والميعاد شامل للوعد والوعيد، فالله عندما يخبرنا بأن من شرب الخمر في هذه الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار والقيح والصديد الذي يسيل من أجسادهم، يقول: لو أخلف الله هذا وعفا عن شارب الخمر في الآخرة لكان كذاباً فلابد من أن يعاقبه وأن يسقيه من ردغة الخبال وألا يخرجه من نار جهنم.
فقال: أبو عمرو: إنك أعجمي (1) ، إنّ خُلْفَ الوعيد كرم، وإن خُلْفَ الوعد لؤم (2) .
ثم قال له: ألم تسمع إلى قول الشاعر:
(1) ولا أقول إنك أعجم اللسان بل أنت فصيح منطيق، لكنك أعجم القلب، وعجمة القلب هي عدم الفهم عن الرب، أي أن لا يكون القلب زكياً ولا طاهراً ولا نقياً، وليس في عجمة اللسان منقصة، لكن عجمة القلب هي التي فيها منقصة وهي المذمومة سواء كانت في العرب أو في العجم، وكما أن من كان أعجم اللسان لا يفهم لغة العرب فمن كان أعجم القلب لا يفهم عن الرب.
(2)
فإذا لم يوقع الله العقوبة بالعاصي هذا كرم منه، وأنا إذا قلت لشخص - مثلاً – إن خالفت أمري لأضربنك مائة سوط ثم خالف أمري، وقضيت عليه، فقال لي: اعف عني، فقلت له: عفوت عنك، فهل يقول لي أحد الآن كذبت، بل ماذا يقولون؟ عفوت وتكرمت، العفو عند المقدرة من شيم الكرام، ولذلك وصف الله عباده بأنهم (والدين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ووصفهم بأنهم (والعافين عن الناس) فكيف هذا؟! الجواب: كان سلفنا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفوا، فهو عندما يصيبه البغي لا يعفو بل يمسك بالمجرم ويكاد أن يقتله، فيقول له ذاك عندها: اعف عني، فيقول: عفوت عنك، فإذن هم يعفون بعد تمكنهم من الانتصار لأنفسهم، أما من يعفون في حال الضعف فهذا يعتبر هنا خوراً وذلاً وجبناً، ولذلك قال (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فأثنى الله عليهم بأخذهم لحقهم ثم إذا تمكنوا من الباغي عليهم عفوا عنه، ولذلك ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعد أن تمكن منهم وكانوا قد آذوه إحدى وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة في مكة وثماني سنين في المدينة يعارضونه فبعد أن تمكن منهم قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم
…
إذن هنا قدر عليهم – فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فهذا يعتبر كرماً وشهامة ومروءة في حق المخلوق فكيف في حق الخالق.
وإني وإن وعدته أو أوعدته
…
لمخلف إيعاد ومنجز موعدي (1)
وقول الآخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده
…
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
ولذلك كان أبو عثمان عمرو بن عبيد أعجمي القلب، لأنه لا يفقه عن الله شيئاً فالله إذا هدد العصاة فله ذلك، وكذلك إذا عاقبهم له ذلك، وإذا عفا عنهم له ذلك ولا يقال أخلف إيعاده، بل يقال: ما أكرمه، ما أحلمه، ألم يقل الله (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فهو حذرنا من مخالفته وعصيانه ولكنه لم يؤاخذنا بكل ما نعمله إذن فهو يؤخرنا ويمهلنا إذن فهو رؤوف رحيم غفور حليم، ووالله لو عاملنا الله بأعمالنا لاستأصلنا من أولنا لآخرنا، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول – والحديث في صحيح ابن حبان وحلية الأولياء بسند صحيح:[لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – وأشار إلى الإبهام والسبابة – لعذبنا ثم لم يظلمنا] هذا يقوله خير خلق الله صلى الله عليه وسلم وهذه الجوارح تستحق شكر أم لا؟!! وأنت لن تستطيع أن تفي بشكر جارحة واحدة فضلاً عن جارحتين، فلو حاسبك الله على الإبهام والسبابة لألقاك في نار جهنم كالعابد الذي في بني إسرائيل عبد الله خمسمائة سنة وما عصاه طرفة عين، وسأل الله أن يقبضه في سجوده وألا تأكل الأرض جسده وأن يبقى ساجداً إلى يوم الدين فأعطاه الله ذلك فإذا كان يوم القيامة يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول الله: حاسبوه، فتوضع نعمة البصر في كفة وعبادة خمسمائة سنة في كفة أخرى فلا تكفي عبادته لنعمة البصر، فيقول الله: خذوه إلى النار، فيقول: يا رب أدخلني الجنة برحمتك. وهذه القصة رواها الحاكم في المستدرك.
(1) أي إن أنا وعدته مثلاً جائزة، أو أوعدته مثلاً عقوبة، فأخلف إيعادي من باب كرمي ونبلي وشهامتي وأنجز موعدي وهو السراء والجائزة، فانظر للشاعر العربي يتمدح بهذا.
فإذن فالله سبحانه وتعالى عندما يعفو عنا ويرحمنا ويتجاوز عن خطايانا فهذه منقصة فيه أم كرم؟ بل كرم، [يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً](قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) إذن هذا مما يتمدح به رب العالمين.
فانظر إلى المعتزلة كيف قلبوا الأمر وقالوا لو عفا الله عنهم لكان كذاباً وهذه منقصة في حقه يتنزه عنها، فجعلوا الفضيلة رذيلة، وهذا خلاف ما فطر الله عليه أهل الأرض قاطبة أنهم يعتبرون العفو مكرمة.
وهذه المناظرة المحكمة انظروها في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/175) ، وفي تهذيب التهذيب للحافظ بن حجر (8/71) ، وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم (1/396) وهذا الكتاب نافع جداً احرصوا على شرائه، وإذا لم يتيسر لكم فلا أقل من شراء تهذيبه ومختصره، ومن قصد البحر استقل السواقي، أي الذي يقتني المدارج ليس كالذي يقتني المختصر، ودائماً لتكن هممكم عالية ولا تقنعوا بالمختصرات، واطلبوا الأمور من مصادرها وعلو الهمة من الإيمان.
وتوجد هذه القصة أيضاً في مجموع الفتاوى وكررها في مواضع مختلفة، وموجودة في غير هذه المراجع أيضاً.
مسألة مهمة: ذكرها ابن أبي العز في شرحه
وهي: ما حكم سؤال المخلوقِ الخالقَ أو المخلوقَ بمخلوق؟
أي: مسألة التوسل: فما حكم أن تتوسل إلى الخالق بمخلوق، وأن تتوسل إلى المخلوق بمخلوق؟
مثال الصورة الأولى: (توسل إلى خالق بمخلوق) : أن تقول لله: أتوسل إليك يا رب بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر أن تقضي حاجتي.
مثال الصورة الثانية: (توسل إلى مخلوق بمخلوق) أن تقول لشخص: أتوسل إليك يا فلان بأبيك وأمك وزوجك أن تقضي حاجتي.
فما حكم هذا؟
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في (القاعدة الجلية في التوسل والوسيلة) : "قول القائل أسألك بكذا، يحتمل أمرين، لأن الباء أما أن تكون للقسم وإما أن تكون للسبب".
الحالة الأولي: فإذا كانت الباء للقسم فلا يجوز أن يصدر هذا من مخلوق سواء كان الإقسام به على خالق أو مخلوق.
فلا يجوز أن تقول: أقسم عليك يا رب بنبيك أن تقضي حاجتي ولا أن تقول: أقسم عليك يا فلان بالنبي أن تقضي حاجتي. ومثلها قول القائل يا رب بنبيك اقضي حاجتي. ويا فلان بالنبي اقضي حاجتي، فلا يجوز أيضاً، لأن الباء هنا (بنبيك، بالنبي) للقسم كما أن الواو حرف للقسم، وحروف القسم التي يقسم بها الواو والتاء والباء، والله، تالله، بالله، وهكذا بمخلوق: ورأس أبيك، ترأس أبيك، برأس أبيك.
فهذا لا يجوز لما ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت]، وللحديث سبب في وروده: وهو أن عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال، [إن الله ينهاكم
…
] الحديث، وكذلك الصحابة كانوا يحلفون بآبائهم ثم نهوا عن ذلك.
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر] .
وهذا الأمر المذكور في هذه الحالة مجمع عليه بين علماء الإسلام، وما وقع فيه خلاف إلا في صورة من صورة، فانتبهوا لها وهي:
خصوص القسم بالنبي عليه الصلاة والسلام فهل يجوز أن تقول أقسم عليك بالنبي أن تذهب إلي بيتي، وإذا قلت ذلك فهل انعقدت اليمين وعليك الكفارة أم لا؟
الجمهور – وهو الحق – أن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز وهو كالقسم بغيره، وعند الإمام أحمد يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في كتاب المغني (11/209) لابن قدامة يقول فيه: وقال أصحابنا: إن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم يمين منعقدة وإذا حَنِث فعليه الكفارة، ونقل هذا عن أبي عبد الله – أي الإمام أحمد – وهذا القول الذي قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالي علله بتعليل شرعي – مع وجاهته نرده ولا نأخذ به – وهو: أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد شطري الشهادة فالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكما يجوز القسم بالشطر الأول، يجوز بالشطر الثاني.
وهذا التعليل مع وجاهته نقول إنه يعارض النصوص، ولا اجتهاد عند ورود النص ولا قياس مع ثبوت النص، فنقول له نِعم ما قلت وأحسنت فيما قلت، لكنه اجتهاد يخالف النص فغفر الله لك وأثابك لكننا لا نقتدي بك في هذه المسألة، ولا نقول: إن القسم بغير الله شرك والإمام أحمد يجيز الشرك بل نقول إن كل إنسان يخطئ ويصيب لكن المهم أن يكون بحثه ضمن الأدلة الشرعية ولا يتبع الهوى.
إذن فانتبه حال الإمام أحمد ليس كالحجاج فهذا عندما يقطع رقاب المسلمين هل هذا ضمن أدلة شرعية أم ضمن هوىً؟!! بل ضمن هوىً.
* أتدرون ماذا فعل الحجاج؟
ضرب مكة بالمنجنيق حتى طارت القذائف إلى الكعبة فاحترقت وهدم قسم منها، وأُحصي عدد الأرواح التي قتلها الحجاج فبلغت – كما في شذرات الذهب لابن العماد (120.000) نفساً، وكلهم من الموحدين الذين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلي رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما، وعلى رأس المقتولين أيضاً الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قتله وصلبه ومثل به بعد ذلك في حرم الله في مكة وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أن يُقتل بجوار عبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال مخاطباً إياه: رحمة الله عليك يا أبا خُبيب – وهذه كنية عبد الله بن الزبير – والله لقد كنت صواما ً قواما ً وإن أمة أنت شرها إنها على خير، فأرسل إليه الحجاج أحد شرطته فضربه بحربة مسمومة – وهو في صحن الطواف – لأنه قال هذه الكلمة لعبد الله بن الزبير، ثم مات بعد ذلك بسبب هذه الضربة، والحديث ثابت في الصحيح.
وكان يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه أيها الشيخ الخرف، فذهب أنس إلي الشام من البصرة، إلى عبد الملك بن مروان يشكو الحجاج فقال: والله لو أن النصارى رأوا من خدم عيسي لأكرموه فكيف بمن خدم من هو أفضل من عيسى عليه السلام، خدم النبي صلى الله عليه وسلم ويهينني الحجاج، فأرسل عبد الملك بن مروان بعد ذلك إلي الحجاج: أنْ لا إمرة لك على أنسً ووالله لو رأى إنسان أنس بن مالك وعنده إيمان لقبل رجليه وليس رأسه ووالله لو كان يجوز شرب بوله لشربت بوله وتقربت بذلك إلى الله فهذا يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل الحجاج يكون مجتهداً ضمن أدلة شرعية عندما قتل هؤلاء وأهانهم؟ وقد ورد في الحديث [ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما ً حراما ً] ولو اجتمع أهل الأرض على قتل نفس مؤمن لأكبهم الله على وجوههم في نار جهنم.
ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/343)" الحجاج: أهلكه الله في رمضان سنة 95 هـ كهلا ً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدامٍ ومكرٍ ودهاءٍ وفصاحةٍ وبلاغةٍ وتعظيم للقرآن، وقد سقت في سوء سيرته في تاريخي الكبير وحصاره لابن الزبير في الكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته للعراق والمشرق كله عشرين سنة وحروب بن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه ولا نحبّه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسناتٌ مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله جل وعلا ".
ولما بلغ الحسن موت الحجاج سجد شكراً لله، وكان الحسن البصري يقول:"اللهم كما أمته أمت سنته" وسنته بدعة وظلمة وهو أول من أخر الصلوات عن وقتها، ولما بلغ إبراهيم النخعي موت الحجاج بكى من شدة الفرح، ولما بلغ ابن عمر مقتل ابن الزبير رضي الله عنهم قال: عدو الله استحل حرم الله، وضرب بيت الله وقتل أولياء الله، انظر تذكرة الحفاظ للذهبي (1/37) .
إخوتي الكرام.... ولما نذكر هذا عن الحجاج لا يُقال هذا فيه انتهاك لحرمة الميت، إنما انتهاك حرمة الميت يحصل إن كان الميت قد عصى ربه ثم تاب أو عصاه بمعصية بينه وبين ربه، أو عصاه وجاهر بمعصيته، أما إن كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد فهذا ظلم فيجب أن يُبين للناس ليعلموه وليجتنبوا وليبتعدوا عن مثل هذا الظلم ولا يقعوا فيه.
إخوتي الكرام.... لا يقال لنا بعد ذلك كله أنتم عندكم ميزانان تأتون للحجاج وتتكلمون عليه وتأتون للإمام أحمد وتترضون عنه، نقول: قف عند حدك، من يبحث في النصوص الشرعية فهو على هدىً أصاب أم أخطأ إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فهذا إمام بذل ما في وسعه للوصول إلى مراد ربه ضمن أدلة شرعية، ولو قال هذا القول عن طريق الهوى لقلنا إنه ضال، فلابد من أن نزن الأمور بالميزان الشرعي، ونسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع مولانا إنه أرحكم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحالة الثانية: وإذا كانت الباء للسبب – لا للقسم – فهذه لها صورتان:
الصورة الأولي: أن تسأل مخلوقاً بسبب مخلوق فهذا جائز بالاتفاق مثالها: أن تقول لشخص أسألك بحق أبيك، أو أسألك بكرامة جدك، أو أسألك بمنزلة زوجتك ونحو هذه من الأسباب فتتوسل بمخلوق إلى مخلوق بالسبب والمنزلة التي له عندك والمكانة والمقام الذي له عندك.
وقد ثبت أن ابن جعفر بن أبي طالب كان إذا أتى عمه علياً – رضي الله عنه – وسأله بحق أخيه جعفر – والذي هو أبو السائل – قضى عليٌّ حاجته؛ لأن له منزلة عنده، وهذا من باب إكرام الأخ لأخيه؛ فإذن هذا السؤال بالمنزلة والسبب والحق وما شاكل هذا، وهذا الباب من التوسل لا حرج فيه وجائز بالاتفاق – كما ذكرنا – وعلى هذه تنزل قراءة حمزة، وأحد التوجيهين في قراءة الجمهور من قول الله جل وعلا (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) .
فـ (الأرحام) قرئت بالنصب، وهي قراءة الجمهور (التسعة) وقرئت بالخفض – الكسر – وهي قراءة حمزة فقط، فـ (الأرحام) على قراءة الجمهور، منصوبةً عطفاً على لفظ الجلالة (واتقوا الله) أي: فلا تعصوه، واتقوا (الأرحام) فلا تقطعوها لأنها مما أمر الله به أن يوصل، وحينئذ فلا شاهد فيها على هذه الصورة، وهذا أحد توجيهي الجمهور لنصبها.
و (الأرحام) عن حمزة، بالكسر، هي التي فيها الشاهد بأننا نسأل ونتوسل بحقها ومنزلتها، وهي على أنها معطوفة في هذه الحالة على لفظ الضمير المجرور (به) لا على محله.
والتوجيه الآخر للجمهور لقراءة النصب قالوا: أن (الأرحام) معطوف على محل الضمير المكني (به) لا على لفظه، فمحله هو النصب، ولفظه هو الجر، هذا كما تقول: مررت بعمرَ وزيداً، فعمر محله النصب وإن جر بحرف الجر فلذلك تعطف زيداً على المحل لا على اللفظ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنىً واحد تكون في هذا التوجيه شاهد لهذه الصورة، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله ويسأل بعضكم بعضاً بالرحم، فتقول: أسألك بحق الرحم عليك أن تقضي حاجتي، وأنشده بالرحم التي بيني وبينك أن تقضي حاجتي، كما كان ولد جعفر يسأل عمه علياً بالرحم التي بينه وبين أخيه جعفر
…
وقراءة حمزة جرى حولها كلام كثير، ولما شرحتها للطلاب في العام الماضي في المستوى الثاني / الفصل الثاني، أخذت معنا ما يزيد على خمس محاضرات)
س: لو قال شخص: أسألك بحياة أبيك، فما الحكم؟
جـ: قوله أسألك بحياة أبيك كقوله أسألك بمنزلة / برأس / برجل / بعين / بوجه / بشرف أبيك/، كلها سواء، لأن هذا القول توسل إلى مخلوق بمخلوق، وهو جائز – كما قلنا – ليس من باب القسم، وليس من باب التوسل إلى الله، إذ سيأتينا أنه لا يجوز التوسل إلى الله بذات مخلوق أو حياته أو شرفه، وما شاكل كل هذا.
س: هل يجوز أن يسأل شخصٌ بحق ميت؟
جـ: لا حرج في ذلك.
وفي قصة سؤال جعفر علياً رضي الله عنه دليل على ذلك لأن جعفر استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، لكن لأجل مكانته ومنزلته عند أخيه علي رضي الله عنه، كان أولاده بعد موته إذا جاءوا إلى عمهم توسلوا إليه بأبيهم.
الصورة الثانية: أن تسأل الخالق بسبب مخلوق:
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية: "ينبغي أن نعلم أن ذوات المخلوقين ليست سبباً لقضاء الحوائج، فلابد من سبب إما من المتوسِل، وإما من المتوسَّل به" إذن عندنا فرعان لهذه الصورة:
الفرع الأول: أن يصدر سبب من المتوسِّل نحو من توسل به يرضاه الله فيصبح توسله بذلك السبب، والتوسل في هذا الفرع شرعي.
مثاله: أن يتوسل المخلوق بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام وباتباعه له في قضاء حاجته، أو قد يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بحبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن تفرج كربي وأن تقضي حاجتي وأن تغفر ذنبي وأن تدخلني الجنة مثلاً.
فهو هنا لم يتوسل بذات المخلوق، بل توسل بفعل منه – أي من المتوسِّل – وهو طاعةٌ فهو كما لو توسل بطاعاته الأخرى، وهو جائز فقال اللهم إني أسألك بإيماني بك أن تغفر ذنبي وهو من أفضل أنواع التوسل.
مثاله من السنة:
ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟، فقال له ويحك [وفي رواية: ويلك] وما أعددت لها قال: لا شيء (1)[وفي رواية: ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صيام] ، لكني أحب الله ورسوله] وأكرم بهذا العمل، وهل بعد هذا العمل عمل؟!! [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت] وهذا فيه بشارة عظيمة لهذا السائل.
(1) هذا احتقار لعمله، أي ليس عندي شيء يبيض الوجه وليس عندي من الأعمال الكبيرة التي تسطر وتذكر وتذاع، وهذا حال التقي دائماً يهضم نفسه ويخرج من الدنيا ولم يشبع من أمرين: أ) ثناء على ربه. ب) اعتراف بعجزه وتقصيره ولوم لنفسه، لكن بيّن أن عنده عملا ً جليلا ً جميلا ً، وهو حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
لكن الشاهد من الحديث هو قول أنس بعد أن رواه [فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت] ثم قال – وانظر لهذا التوسل منه – [فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن كون معهم بحبي إياهم] هذا لفظ البخاري وزاد مسلم [فأنا أحب الله ورسوله
…
] .
ولفظ حديث [أنت مع من أحببت][المرء مع من أحب] هو حديث متواتر، وقد ألف أبو نُعم كتاباً مستقلاً حوله سماه (المحبين مع المحبوبين) تتبع فيه طرق هذا الحديث.
إذن هنا توسلٌ إلى الله بمخلوق لكن جرى من المتوسِّل سبب نحو ذلك المخلوق، ولا حرج في ذلك بإجماع أهل السنة، وأنا أعجب في هذه الأيام حقيقة من المتنطعين الذين تَصْغُر أذهانهم ويضيق عقلهم ويأتي ليزجَّ نفسه في أمر ممنوع – كما سيأتي – فيقول: أسألك بجاه رسولك صلى الله عليه وسلم أن تغفر ذنبي، مع أن الجاه والذات ليست سببا للمغفرة فهذا التوسل أقل ما فيه أن فيه خلافاً وإن كان غير معتبر، فلماذا يترك ذاك المتنطع التوسل الذي لا خلاف فيه ويعمل ما فيه خلاف؟!!!.
مثال آخر أيضاً: ثبت في الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قلبهما أهلاً، ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أُرِح] عليهما حتى ناما، فجلست لهما غَبُوقهما (1)
(1) الغبوق شرب اللبن وقت العشي..
فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أَغْبِق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمٍ كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمتُ بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرتُ أجره حتى كَثُرَت منه الأموال فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري: فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون] .
فانظر، هنا الأول يتوسل إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته، والثالث بأمانته، لذلك لو وقعت في كرب فقل – مثلا ً– أسألك يا ربي ببري لوالدي أن تفرج كربي فهو جائز بالإجماع.
إخوتي الكرام
…
هذا الحديث للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعليقُ بديع حوله في كتابه صيد الخاطر، والكتاب نافع احرصوا على شرائه ففيه خير كثير، ولم يؤلفه في موضوع معين بل كان يقيد فيه ما يعنّ له من فوائد واستنباطات وإرشادات وتوجيهات.
يقول في صـ321 من الكتاب كلاماً في منتهى الإحكام، وكأن المعلق عليه لم يَرُق له هذا الكلام فانتبهوا لذلك!!!
يقول: "التقرب إلى الله عز وجل إذا تم على الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق (1) لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به (2) وذلك بأشياء" هذه الأمور منها أن الله وفق لهذا العمل، ومنها أنه إذا قيس ذلك العمل بالنعم لم يفي بمعشار عشرها، ومنها
…
منها.... ومنها...." ثم يقول:
(1) الموفق هو الله ولذلك الحديث [فمن وجد خيراً فليحمد الله] .
(2)
) أي أنك وفقت لعمل صالح فلا تنظر إلى العمل، إنما تنظر إلى الموفق، فلا تهتم بالعمل ولا تصاب بغرور ولا إدلال، وهذا هو ما قاله الصحابي [ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام] .
"وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" ثم ذكر بعد ذلك قصصاً كثيرة منها: قول الخليل إبراهيم (والذي أطمع أن يغفر لي) فلم يُدّلَ بعمل بل يطمع من الله بالمغفرة، ومنها قول أبي بكر وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفعني مال كمال أبي بكر، فقام أبو بكر وقال ذلك، فانظر لحال العقل الكامل، وهكذا أورد كلاماً لعدد من الصالحين ثم يقول:"وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" فإذن هذا فعل عقلاء هذه الأمة، وانظروا لصلحاء بني إسرائيل، ومنهم هؤلاء الثلاثة يقول:"وقد روي عن أقوام من صلحاء بني إسرائيل يدل على قلة الإفهام لما شرحتُه لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بهما (1) ، فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة، وأخرج الله له كل ليلة رمانة، وسأله أن يميته في سجوده فإذا حشر قيل له: ادخل الجنة برحمتي قال: لا بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك (2) ،
(1) أدلّوا بها: يعني تقربوا بها ورأوا لها مكانة تستحق أن تطلب حاجةٌ بسببها.
(2)
حديث العابد رواه الحاكم في مستدركه (4/251) ، وقد أوردته لكم مختصراً، وأوله:[أن رجلا كان في جبل وطلب أن يخرج الله له عيناً يشرب منها (أي حتى لا يختلط بالناس) وأن يخرج له شجرة رمان فأخرج الله له عيناً وشجرة رمان كانت تحمل كل يوم رمانة فيأكل الرمانة ويشرب من الماء ويتعبد في صومعته، وسأل الله أن يميته وهو ساجد فأماته....] .إلخ الحديث – وفيه [فيحاسبه الله على نعمة البصر فلا تفي عبادة خمسمائة سنة] ثم قال جبريل: [يا محمد إنما الأشياء برحمة الله جل وعلا]، ثم قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هَرم العابد من زهاد أهل الشام والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" وعلق الذهبي على هذا الحديث في تلخيصه للمستدرك:"صحيح!! قلت لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في ميزان الاعتدال – أي الذهبي – في ترجمة سليمان بن هرم: "قلت: لم يصح هذا، والله يقول (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ،
…
ولكن لا يُنجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا قوة، فله الحمد على الحمد له" إذن كأن الحافظ الذهبي يريد أن يقول الحديث ضعيف لأن فيه هذا المجهول، وأراد أن يؤكد هذا فقال الحديث يعارض نصوصاً، فأراد أن يرده من جهة المعنى، وقبله أراد أن يرده من جهة السند.
قلت: أما من ناحية سليمان بن هرم (أي من ناحية السند) فكأن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان لم يرتضِ كلام الذهبي، فنقل هنا كلام الحاكم عن سليمان وأقره فقال:"وقد قال الحاكم عقيب رواية الحديث والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" فكأنه يريد - أي ابن حجر – أن يقول إن سليمان بن هرم ليس بمجهول.
وأقول أيضاً: الحديث صحيح الإسناد وما فيه إلا سليمان بن هرم فقد جرى حوله كلام وكأن الحافظ ابن حجر يوافق الحاكم على أن سليمان ليس بمجهول وأما من ناحية المعنى فالمعنى صحيح أيضاً، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته]، وقد حقق الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8) حقق هذا المبحث غاية التحقيق وقال عند حديث [لا يدخل أحد الجنة بعمله] وقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) :"وصفوة الكلام أن الباء هنا ليست بمعنى الباء هناك" أي الباء في الحديث غير الباء في الآية، فهي في الحديث للمعارضة والمقابلة، وفي الآية الباء للسببية أي جعل الله الأعمال منا سبب لذلك الجزاء بفضله ورحمته، لا أن العمل منا يستحق الجنة، أو أنه يكون عوضاً عنها، نستحقه كما نستحق في هذه الحياة عوضاً عندما ندفع ثمناًً مقابل سلعة، فهذه ليست مبايعة ومعاوضة فنحن لا نعمل والجنة تكون في مقابل العمل، بل نحن نقوم بواجب علينا وحق لله – وهو عبادته – دخلنا الجنة أم لا، فهذا هو الفرق بين الباءين، ثم قال ابن القيم كلاماً ينبغي أن ترددوه وأن تنقشوه في قلوبكم:"كل من ينجو من النار فبفضل الله، وكل من يدخل الجنة فبرحمة الله، وأهل الجنة يقتسمون منازلهم على حسب أعمالهم".
إذن عندنا أمران لا دخل للعمل فيهما، النجاة من النار والدخول في الجنة، لكن منازل الجنة هذه بحسب عمل الإنسان.
فمن نجا من النار فبفضل الله، ومن دخل الجنة فبرحمته، وكل من ألقي في النار فبعد له يقول الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب
…
كلا ولا يسعى لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو فعموا
…
فبفضله وهو الكريم الواسع
فالآن هذا العابد هو حاله كحال الصحابة الذين كانوا يستصغرون أعمالهم؟
شتان بين الاثنين، فانظر لهذا العبد المسكين كيف يُدلّ بعمله يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي فيقول: بل بعملي!!!.
ولذلك قال ابن الجوزي: "وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلّوا بها".
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره – وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه – فليت شعري بماذا يُدلّ من خاف أن يعاقب على شيء فتركه لخوفه العقوبة (1) إنما لو كان مباحاً فتركه كأن فيه ما فيه، ولو فَهِم لشغله خجله من الإدلال، كما قال يوسف:(وما أبرئ نفسي (2)) والآخر ترك صبيانه يتضاغنون إلى الفجر ليسقي أبويه وفي هذا البر أذىً للأطفال (3) ، لكن الفهم عزيز، وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا، ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه، وفهم هذا المشروح ينكّس رأس الكبر ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم" أ. هـ إي والله إنه أصل عظيم، وما رأيت هذا المعنى إلا في صيد الخاطر، وهو أن هؤلاء توسلوا إلى الله بعمل كان ينبغي أن يستحي بعضهم من ذكره، لكن الفهم عزيز، فقضى الله حاجتهم، وهو أرحم الراحمين.
إذن أن يصدر سبب من المتوسل نحو المتوسل به، وهذا هو أحد الفرعين للصورة الثانية.
الفرع الثاني: أن يصدر سبب من المتوسل يقتضي حصول طلبك والتوسل في هذه الحالة أيضاً شرعي.
(1) أي ترك الشيء لخوف منه لا يستحق الرجل عليه أجراً، وهذا كما لو ذهب شخص إلى الأمير وقال له: أنا لن أسلبك، لأنني أخشى أن تقطع رقبتي فأسألك بعدم سلبي لك أن تعطيني ألف درهم. فهل يستحق هذا الألف؟ كلا
…
لأنه ترك سلب الأمير خوفاً من العقوبة لا إجلالاً له.
(2)
المعتمد أن (وما أبرئ نفسي من قول) امرأة العزيز.
(3)
أي هو من ناحية بر ومن ناحية أخرى أذىً، وكان بإمكانه أن يسقي الأطفال ثم ينتظر أبويه حتى يستيقظا.
مثاله: أن يتوسل مخلوق إلى مخلوق فيقوم المتوسل به فيدعو يشفع للمتوسل أو: أن يقول شخص: نتوسل إليك يا رب بالعبد الصالح فلان – ولابد من أن يكون موجوداً بينهم ليس بغائب – فيقوم ذاك العبد الصالح ويقول: يا رب اقض حاجتهم وفرج كروبهم والطف بهم وردّ عنهم عدوهم، إذن دعا لنا ونحن طلبنا من الله أن يجيب دعاءه.
كذلك: إذا جرى من المتوسَل به سبب نحو المتوسِل إلى المتوسِل إليه وهو الله جل وعلا فدعا لك من توسلت به، وشفع لك.
وهنا أنت لم تتوسل بذات المتوسل به، ولا بجاهه ولا بمنزلته بل بسبب صدر وجرى منه من دعاء وشفاعة وطلب ونحو هذا.
مثاله من السنة: ثبت في صحيح البخاري (2/495- مع الفتح) عن أنس رضي الله عنه قال: [إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحِطوا (1) استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فيقول – أي عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا (2) عليه الصلاة والسلام فتسقينا وأنا أتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال أنس: فيسقون] .
وورد في رواية الإسماعيلي (3) عن أنس رضي الله عنه قال: [كانوا إذا قحطوا عهد عهد رسول صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيستسقي لهم فيسقون، فلما كانت إمارة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس] رضي الله عنهم أجمعين.
وورد في المصنف لعبد الرزاق أن عمر رضي الله عنه قال بعد أن قال ما تقدم في صحيح البخاري: [قال للعباس: يا عباس يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فادع] أي نحن طلبنا من الله أن يقضي حاجتنا بدعائك، فقم ونفذ هذا الطلب وادع لنا ليقضي الله لنا حاجتنا.
(1) أي أصابهم القحط والجدب.
(2)
أي بدعائه في حياته صلى الله عليه وسلم
(3)
الاسماعيلي عمل مستخرجاً على صحيح البخاري، أي روي أحاديث البخاري نفسها، لكن بأسانيد لنفسه ويسمى مستخرج الاسماعيلي.
وورد في كتاب الزبير بن بكار في تاريخ المدينة المشرفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عندما قحطوا: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى العباس للعباس ما يرى الولد للوالد – أي من المنزلة – فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واجعلوه وسيلة لكم بينكم وبين الله] والمراد بالوسيلة هنا الواسطة الذي سيدعوا ونحن نؤمن على دعائه.
وثبت في كتاب الزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه دعا فقال: [اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة وقد توجه (1) القوم بي إليك لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب (2) ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث] قال: أنس رضي الله عنه: فأرخت السماء مثل الجبال (3) حتى أخصبت الأرض وعاش الناس] .
وهذا الذي فعله عمل لم يفعله تخرصاً من رأيه ولا اجتهاداً من ذهنه ـ إنما فعله بناءً على أثر ثابت – كما ذكرنا – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان يوجه أمته إلى مثل هذا التوسل، وهو أن نتوسل بدعاء فلان.
(1) أي توسلوا بي إليك.
(2)
أي مغفرة مقرة وتائبة منيبة.
(3)
هذه الكلمة وردت في الفتح (الجبال) وأخشى أن يكون تصفحاً وأن يكون الصواب (مثل الحبال) أي مثل الحبال المدلاة، فالمطر منصب كأنه حبال متصلة وصلت السماء بالأرض، وإن كان (الجبال) فالمعنى أنه نزل مطر كثير غزير يشبه الجبال من كثرة تصببه واندفاعه وأنه صار سيولاً عظيمة والعلم عند الله.
إخوتي الكرام..... بالنسبة للجدب الذي يقع فيه الناس ينبغي أن يتوبوا إلى الله جل وعلا وأن يلجأوا إليه ليغيثهم ويفرج كروبهم، واستسقاء عمر كان في عام الرمادة الذي وقع سنة (18) هـ وفي ذلك العام لم ينزل من السماء قطرة ماء وبقي الحال على ذلك تسع أشهر، وسمي رمادة لأن الأرض صارت كالرماد ينسف نسفاً فليس فيها حشيشة خضراء ونتيجة لذلك كادت المواشي أن تهلك وتموت، ويموت الناس تبعاً لذلك لاسيما في العصر الأول لأن قوتهم من الأرض ومن هذه المواشي التي تتغذى على الأرض فاشتد الأمر على المسلمين ثم قدم عمر رضي الله عنه العباس فاستسقى فسقي الناس.
والعباد عندما تكثر منهم المعاصي يبتليهم الله جل وعلا بأنواع المحن، ولما حصلت رجفة في المدينة المنورة قال عمر:"أحدثتم والله، والله لو رجفت ثانية أساكنكم فيها وسأخرج منها" فالقحط يقع عندما يعصي العباد ربهم كما قال العباس [ما نزلت عقوبة إلا بذنب ولا ترفع إلا بتوبة] وهكذا الزلازل والفيضانات التي تقع هذه الأيام في بلاد الكفر ونسأل الله أن يغرقهم على بكرة أبيهم كما غرّق قوم نوح، إنه على كل شيء قدير، وأن يلهمنا رشدنا وأن يتوب علينا.
ووالله الذي لا إله إلا هو ما يمنع الله عقوبته عن الكفار إلا لفساد فينا، ولو كان فينا صلاح واستقامة لأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فإذا كنا ضعافاً وليس عندنا قوة على مقاومتهم فإن معنا القوي الذي يمكر من حيث لا يعلم العباد، وأسلحتهم التي يجبرون بها ويتكبرون يدمرهم الله بها والله على كل شيء قدير، كما دمر أهل اليمن عندما فعلوا ما فعلوا وعتوا عن أمر ربهم، دمرهم بالسد الذي بنوه كما قال تعالى:(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق الله واشكرا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم (1) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكُلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) .
وهكذا تلك البلاد التي تجبرت وتكبرت وأنعم الله عليها فطغت وبطرت ولو وجد عندنا ما يستدعي عقوبتها لعاقبها الله، لكن يوجد عندنا من ينبغي أن يعاقب قبل أولئك، وما تأخرت عقوبتنا أيضاً إلا لما فينا من بقايا الصالحين.
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) في حوادث 718 هـ، وكان قد أدرك ذلك الأمر وهو في سن السابعة عشر تقريباً، فيخبر عن القحط الذي وقع في بلاد المشرق في الجزيرة بلغ عن ذلك القحط أنهم أكلوا الجيف ونبشوا القبور وأكلوا الموتى وأكلوا الكلاب، حتى أن الأم بدأت تأخذ ولدها وتبيعه من أجل أن يستعمله ويعطونها ثمناً خمسين درهماً، وبدأ الناس يذبحون أولادهم أيضاً ليأكلوهم ويذكر أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) أنه حدث في سنة 597 هـ ما لا يخطر ببال بشر، كان الناس يدعون الأطباء إلى بيوتهم بحجة العلاج فإذا دخلوا ذبحوهم وأكلوهم حتى أنهم أكلوا القطط والكلاب أيضاً ونبشوا القبور وأكلوا الموتى والجيف، حتى أن الأم كانت تمسك ولدها ليذبحه الوالد وأكلانه، وصلب السلطان كثيراً من الناس الذين فعلوا هذه الفعلة الشنيعة.
(1) هو سيل العرم، بنوه، وجعل الله حتفهم فيه.
وهذه النعم التي الآن نأشر بها ونبطر، والله الذي لا إله إلا هو أتوقع زوالها أكثر من توقعي لمجيء الغد، وقدر الله إذا حلَّ ونزل ينزل كلمح البصر وليس له نذر تتقدمه (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) ولا يوجد عصر تنطبق عليه هذه الآية كعصرنا، فنسأل الله لطفه ومعونته وستره إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
س: ما الفرق بين البلاء والابتلاء؟
جـ: إذا نزل البلاء بالإنسان واعتبر به وحسَّن حاله فهذا مكفر له، وإذا نزل البلاء بالإنسان ولم يكن هناك اعتبار منه ولا انزجار فهذه نقمة له.
مثال آخر له: - كتوسل عمر بالعباس – ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمزي وابن ماجة، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوتُ لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: بل ادع (1)
(1) أي أريد أن يعود إلي بصري، وهذا لا حرج فيه لكن لو صبر لكان أفضل، وهذا ونظائره من الأدلة – كما قال أئمتنا – يؤخذ منه أن الصبر على المرض خير من التداوي، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء [ألا أريك امرأة من أهل الجنة، فقال بلى، فقال: هذه المرأة السوداء جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي أن لا أصرع فقال: إن شئتِ دعوت لك، وإن شئتِ صبرت ولك الجنة – فكان جوابها خير من الأعمى – قالت: بل أصبر يا رسول الله، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، أي عندما أصرع وأقع أخشى أن يبدو مني شيئ أكرهه – فدعى الله لها أن لا تتكشف] ففي هذا الحديث دليل على أن الصبر على المرض عزيمة والتداوي رخصة، وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة ومن صبر على المرض حتى مات دخل الجنة، ومن صبر على الجوع مع قدرته على الأكل حتى مات دخل النار، انتبه لأن ذلك سبب يفضي إلى المسبَّب حتماً حسب ما ربط الله الأسباب بالمسببات، وأما هذا فكما تقدم معنا إما ظن وإما وهم فليس هو سبب لحصول الشفاء قطعاً وجزماً فقد تأخذ العلاج ويزداد مرضك وذكرت لكم حوادث في ذلك، وكم من إنسان أجريت له عملية ومات فالتداوي رخصة والصبر عزيمة، وهذا الأمر لو رعيناه لما أكثرنا من فتح المستشفيات، لكن لم تظهر الفاحشة في قوم إلا فشى فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، فهذا عقوبة من رب العالمين لعباده عندما ينحرفون عن شرعه (مخدرات – عهر – فجور – لواط-
…
) .وهذا سينتج عنه أمراض خبيثة كثيرة كالهِرْبز والإيدز الذين انتشرا في بلاد الغرب ولا يعرف لهما علاج فهو موت بطيء للمصاب بهما، وحقيقة كثير من الأمراض نسمع بها لم يكن أسلافنا يعلمون بها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ فأحسن الوضوء ثم صلِّ ركعتين وقل (1) اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه فيّ (2) ] زاد الحاكم:[وشفعني فيه] ، فما برح الأعرابي من مكانه حتى رد الله عليه بصره.
فهنا الأعرابي توجه لله سبحانه وتعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بذاته فانتبهوا!! رحمة الله على الإمام النووي يذكر عند شرحه للحديث المتفق عليه [الكمأة من المن (3)
(1) أي قل الدعاء فهو الآن يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أي اقبل دعاءه عندما يدعو لي بأن يرد الله بصري ومعنى (وشفعني فيه) أي اقبل يا ربي دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم في أن ترد علي بصري، أي قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا سأدعو لك، وأنت اطلب من الله أن يقبل دعائي، ليحصل الطلب من جهتين وليعظم الانكسار لله عز وجل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ، لكن من أجل أن يرغب هذا السائل بالخير فقال له توسل إلى الله بي، أي بدعائي، وسل الله أن يجيب دعائي، وليعلم هذا السائل أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدعو فهو بشر، وليس هو كحال الرب جل وعلا يرد البصر من نفسه، وأيضاً حتى لا يحصل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم غلو كما حصل في عيسى عليه السلام، إذن أنا أشفع لك بأن يرد الله بصرك وأن ِ اشفع لي في أن يُقبل دعائي لك برد بصرك.
(3)
أي حالها كحال المن الذي مَنَّ الله به على بني إسرائيل، فهي لا يزرعها العباد إنما تتصدع الأرض في أيام الشتاء وتخرج منه الكمأة كالبطاطس، فتخرج بلا زراعة ولا كلفة وبلا بذور.
وجاء في الفتح: الكمأة نبات لا ورق له ولا ساق يوجد في الأرض من غير أن يزرع، يخرج إلى سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسداً ولذلك كان بعض العرب يسميه جدري الأرض.
وماؤها شفاء العين] في شرح صحيح مسلم أن بعض شيوخه في بلاد الشام عَمِيّ، فتداوى بالكمأة تبركاً بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج الذي فيها للعين، فأخذها وغلاها في الماء وبدأ يقطر هذا الماء في عينيه فما مضت عليه إلا أيام يسيرة حتى عاد إليه بصره بإذن الله.
والتداوي بالقرآن وهكذا التداوي بعد ذلك بالأدوية النبوية التي أخبرنا بها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، هذه حجبنا عنها بما عندنا من الأدوية المركبة، وقد كان يكفينا العلاج القرآني والنبوي، ومن ينظر في المجلد الرابع من كتاب زاد المعاد يجده كله من أوله لآخره يتكلم عن الطب والعلاج، ويذكر أحاديث نبوية وأذكاراً تقال عند بعض الأمراض كالأرق، واللدغ، ونحوهما
…
وهذا الذي حصل للضرير الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارقاً للعادة ويسمى معجزة لأنه جرى على يدي نبي.
س: هل لما طلب الأعرابي العلاج بعد التخيير لن يدخل الجنة؟
جـ: قطعاً سيدخل وليس عندنا شك في ذلك، فهو لما قال له إن شئت صبرت فهو خير لك أي لك الجنة ليس المراد من هذا أنه إن صبر له الجنة بل المراد شيئاً أعلى من البشارة بالجنة فهو إن صبر له الجنة مع رفعة المكانة، وإن لم تصبر فليس لك هذه الرفعة للمكانة إنما لك الجنة مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – في البخاري – [إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة] ثم إنه صحابي مؤمن، والمؤمنون في الجنة فكل من بُشر بالجنة هو ليس له بشارة بالدخول فقط، بل له بشارة بالدخول مع شيء آخر مع ذهاب الخوف والفزع يوم الفزع الأكبر مع منزلة خاصة
…
وسأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً عمل حفلة ودعى الناس إلى هذه الحفلة دعوة عامة بحيث أن كل من جاء سيدخل، لكنه وجه بطاقات دعوة خاصة لأشخاص مقربين، فإذا جاء الناس إلى الحفلة كلهم سيدخلون لكن من عنده بطاقة دعوة ستأخذه إلى غرفة خاصة، فهم الآن لهم شأن، ولله المثل الأعلى.
فهذا إذا بُشر ونحن إذا أكرمنا الله ودخلنا الجنة فيكون كلنا قد دخلها، هو ونحن لكن هو له اعتبار خاص ومزية خاصة إن كان قد صبر، وإن لم يصبر فله أيضاً مزية وهي بسبب الصبر على هذه البلية، هذا هو المعنى وليس المعنى أنه إن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل الجنة، ونحن نجزم أن الصحابة كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم إلا من ورد فيه النص، كما أننا نجزم بأن جنس المؤمنين كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم لأننا لا ندري بأي شيء سيختم لهم، لكن لو علمنا أن هذا خُتم له على الإيمان فهو من أهل الجنة قطعاً وجزماً، وسيدخلها إن عاجلاً مع الباقين، أو آجلاً بعد أن يعذب ويطهر، لا، الله أعطانا عهداً بأن من ختم له على الإيمان سيدخله غرف الجنان.
إخوتي الكرام.... هذا الحديث – حديث عثمان بن حنيف – قال عنه الإمام الشوكاني في كتابه (تحفة الذاكرين) صـ37 وصـ138 صلاة الحاجة: "في هذا الحديث دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله، وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن".
وهذا الكلام الذي قاله الشوكاني لا يزيل الإشكال الذي زيد إزالته، فنقول: إن هذا التوسل ليس بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينبغي أن يقول: "إن هذا التوسل بدعائه
…
" ولذلك عَلّقوا على كلام الإمام الشوكاني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، في كتابه النفيس (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) واحرصوا على هذا الكتاب فهو أحسن ما كتب في التوسل، قال في صـ65: "وهذا التوسل – أي توسل الأعمى بالنبي عليه الصلاة والسلام هو من النوع الثاني" أي من التوسل بدعاء المتوسَل به، فهو كنظير توسل عمر بالعباس رضي الله عنهم أجمعين.
إخوتي الكرام.... إذن لابد من سبب إما من المتوسِل نحو المتوسَل به وإما من المتوسَل به.
الرسم التخطيطي
بعد أن انتهينا من هذه المسألة المهمة عندنا سؤال، وهو يرد على كثير من الأذهان فلابد من الجواب عليه.
سؤال: لو قال قائل: أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / أبي بكر رضي الله عنه أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال في حق غيرهما أيضاً، وهذا النوع فاشٍ في هذه الأيام، فهل يجوز التوسل بهذه الكيفية أم لا؟
والجواب: أنه لا يجوز مثل هذا النوع من التوسل ويمكن تقرير هذا الجواب بخمسة أجوبه:
الجواب الأول: أننا نعلم يقيناً أنه لا حق للمخلوق على الخالق فمن توسل بحق مخلوق على الخالق، فقد خالف الأمر الشرعي.
فإن قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام حديث يشير إلى أن للمخلوق حقاً على الخالق، والحديث في المسند والصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:[كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه عُفير، وليس بيني وبينه إلا مثل مؤخرة الرحل (1) فقال لي: يا معاذ قلت: لبيك رسول الله وسعديك (2) ، فسار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة (3) ، ثم قال ثانية: يا معاذ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة، فقال في الثالثة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على عباده؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام ساعة فقال في الرابعة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك] انتبه!! [قال أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه (4) ،
(1) مؤخرة الرحل: هي الخشبة التي توضع على ظهر البعير لأجل أن يتمسك بها أو يستند إليها الراكب عندما يركب والمراد لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا حاجز يشير بمقدار شبر وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يركب على الحمار ويردف أصحابه خلفه.
(2)
(لبيك) ألبَّ بالمكان إذا قام به وعكف عليه ولزمه، والمراد أنا مقيم على طاعتك مواظب على سماع أوامرك (سعديك) إسعاداً لك بعد إسعاد وهو من باب الدعاء، أي أنا مقيم على طاعتك وأدعو لك بالسعادة فمرني بما شئت وهذا من أدبه رضي الله عنه.
(3)
أي فترة من الوقت، وليست بالساعة الزمنية.
(4)
أي إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وقد قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، وكان كل رسول يقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ..
قلت الله ورسوله أعلم، قال: حقهم على الله ألا يعذبهم، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشّر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا] أي خشية أن يصبح عندهم شيء من الغرور والأماني وترك العمل ويقولوا ما دمنا موحدين فلن يعذبنا الله، فيفتر عزمهم في الطاعات – وهذا حال البشر – فلا يتهجدون ولا يتنفلون ولا يكثرون من الصدقة ولا من الذكر ولا من الدعاء ولا يتنافسون في أمور الخير (1) .
إخوتي الكرام
…
الشاهد أنه أوجب لهم حقاً في هذا الحديث ونقول: لا إشكال في هذا الحديث، لأن هذا الحق هو محض فضل من الله ومحض كرم منه والعبد لا يستحق هذا على ربه لأنه مخلوق له وتوفيقه بالطاعة هو من فضل الله، فكيف إذن يستحق على الله شيئاً؟!!
وقد تقدم معنا أنه لن ينجو أحد النار إلا بفضل الله، ولن يدخل الجنة إلا برحمته:
فإن يثيبنا فبمحض الفضل
…
وإن يعذبنا فبمحض العدل
(1) إخوتي الكرام كثير من الناس يحملون أخبار الوعد على غير محلها مع أن أخبار الوعد ينبغي أن تدعوك لزيادة العمل لا للفتور عن العمل، ولذلك كل رجاء لا يبعث على عمل فهذا غرور وأماني لا صحة له، فمثلاً: أنت إذا كنت تريد أن تتزوج زوجة فتطلبها أم تهرب منها وتبتعد؟ بل تطلبها وتكدح وتعمل وتقدم الهدية بعد الهدية لأنك راج ٍ، ومن علامة الرجاء الطلب لا الهرب، ولذلك كان سلفنا يقولون:"عجبنا من الجنة نام طالبها، وعجبنا من النار نام هاربها" إذن في حال الرجاء طلب وفي حالة الخوف هرب، وقد وقع في هذا كثير من طلبة العلم فهو لما سمع (أن النظرة إلى المرأة صغيرة) قال ما دامت صغيرة فلا مانع من أن أنظر وسمع قيام الليل سنة والسنة لا يعاقب تاركها، إذن لا داعي أن أقوم الليل، وصلاة الفجر مستحبة قال: إذن لا عليّ شيئاً في تركها، فهل هذا طالب علم شرعي؟!! العلم هو ما يكسبك خشية الله، وإذا لم يُكسبك خشية وبال عليك.
إذن فحق العباد هنا هو تفضل الله به عليهم، وقد ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وصحيح بن حبان ومسند الإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال:[لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] وهذا محض عدل [ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم] أي: خيراً من أعمالهم.
إذن فأنت عندما تقول: أسألك بحق نبيك، فهل للمخلوق حق على الخالق؟ لا، وقد تقدم معنا أنه "لو عذب الله وحاسب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم بما جنت السبابة والإبهام لعذبهما ثم لم يظلمهما" ولو عذب الله جبريل فمن دونه من المخلوقات في العالم الأعلى والأسفل لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
تنبيه:
إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة وقد بلغنا، وقد ورد في آخر الحديث، فأخبر معاذ بها – أي بهذه البشارة – عند موته تأثماً أي خشية الإثم، فكيف ينهى عن التبشير ثم يبلغ ويبشر بهذا الحديث؟
أجاب العلماء عن ذلك بأربعة أجوبة:
أولها: وهو اختيار الحافظ ابن حجر، وهو: أن معاذاً فهم من المنع كراهة التنزيه (خلاف الأولى) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه مرشداً له إلى الأكمل، لا أن عليه إثماً إذا أخبر بذلك، فتعارض هذا مع الأحاديث الآمرة بالبيان وعدم الكتمان لحديث [من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار] فأخبر بذلك دفاعاً للوقوع في المحرم وهو الكتمان وإن وقع في خلاف الأولي وهو التبشير.
ثانيها: وهو اختيار القاضي عياض وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد من نهي معاذ عن البشارة النهي لا التحريم ولا التنزيه، إنما أراد أن يكسر عزمه، لئلا يذهب معاذ إلى الأسواق والمجامع وينادي حقكم على الله ألا يعذبكم إذا عبدتموه وبالتالي يحصل سوء فهم لهذه البشارة على حقيقته فكسر عزمه وقال لا تخبرهم أي الآن في هذا الوقت وأنت مندفع ومتحمس، لكن أخبرهم بعد أن تتروى ويخف الأمر على نفسك. وهذا الجواب لعله أوجه الأجوبة.
ثالثها: وقد ذكره القاضي عياض ذكراً فقط، وهو: أن معاذاً فهم المنع والتحريم من النهي، ثم تبين له النسخ بعد ذلك بالأحاديث التي فيها حض على نشر العلم وتحريم كتمانه، فبلغ الحديث. وهو وجه ضعيف، لأنه لو كان الأمر كذلك لما أخر معاذ هذا إلى وقت وفاته.
رابعها: وقد ذكره الإمام ابن الصلاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة العامة ورخص له بالبشارة الخاصة، وهذا هو الذي فعله معاذ، فإنه لم يخبر الناس في مجامعهم، لكنه أخبرهم عندما احتضر، والعادة أنه لا يحضر مجلس المحتضر إلا خواصه وأصحابه ليسلوه ويثبتوه ويدعوا له فأخبرهم عند موته.
أظهر الأجوبة والعلم عند الله الجواب الثاني، وأما الجواب الثالث ففيه بعد، والجوابان الأول والرابع مقبولان والعلم عند الله.
الجواب الثاني:
إذا قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام السؤال بحق السائلين وهذا توسل بحق مخلوق، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ومسند بن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري والحديث رواه الإمام ابن السني في كتابه (عمل اليوم والليلة) من حديث بلال وأبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً أبو نُعيم في كتاب الصلاة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، ولفظ الحديث. عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:[من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال ذلك: أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك] فهنا ورد [بحق السائلين] فكيف هذا؟
والجواب: أن السؤال بحق السائلين هو توسل إلى رب العالمين بما جعل الله سبباً لإجابة دعاء المخلوقين وذلك السبب هو: دعاء الله وعبادته، وكأن القائل للدعاء المتقدم يقول: يا رب إنك وعدت السائلين الإجابة وقطعت وعداً على نفسك بذلك لما قلت (ادعوني أستجب لكم) فأسألك بذلك الوعد الذي قطعته على نفسك وأسألك بحق السائلين هذا أن تجيرني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي (1) وهذا توسل بمعنىً مقبول فإن هناك ارتباطاً وملازمة بين المتوسَل به وبين المتوسِل.
(1) هذا كما لو أن رجلاً مثلاً نشر في جريدة بياناً أن من يأتي إلي بيته في يوم كذا سيعطيه مائة درهم فذهبت ولم يعطك إعانة فتقول له أسألك بشرطك الذي نشرته بعرضك الذي وعدته أن تعطيني مائة درهم.
وليس من هذا النوع سؤال المخلوق الخالق بحق مخلوق أو بصلاحه أو بجاهه أو بمنزلته، لأن كون المخلوق له منزلة وله جاه وله قدر وله شرف وله رتبة ليس ذلك بمعنىً موجب لإجابة الدعاء، فأي مناسبة بين صلاح إنسان ما وبين توسلك إلى الله بصلاحه في إجابة دعائك؟!! وأي مناسبة بين نبوة وجاه ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائك.
ثم إن السؤال بالجاه والمنزلة يستوي فيه الكافر والمؤمن فلو قال الكافر يا رب أسألك بجاه بينك أن تقضي حاجتي، ولو قال المؤمن يا رب أسألك بنبيك صلى الله عليه وسلم – أن تقضي حاجتي لاستوى الأمر، فهذا الكلام لو قاله الكافر لما أمر به ولو صار مؤمناً بقوله هذا، ولو قاله المؤمن لما دل على أنه متبع، بل لابد من سبب منك نحو المتوسّل به، أو منه، أو نفس الجاه والمنزلة فليس بعله في إجابة الدعاء ولا يوجب قضاء الجوائج، ولا يلزم من حصول ذلك الجاه، قضاء حاجتك إلا إذا آمنت به، فقل: اللهم إني أسألك بإيماني بمنزلة نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي، ولا حرج في ذلك، ثم إن التوسل هنا بحق السائلين إنما توسل بأمر قد وعد الله به عباده فآل الأمر إلى توسل بسبب من المتوسِّل، لأن الله قطع على نفسه عهداً أن يجيب السائل، فنحن كأننا نقول: نسألك يا رب بذلك الحق الذي آمنا به وصدقنا أن تجيب دعاءنا والدليل على إيماننا هذا الدعاء منا.
تنبيه:
حديث أبي سعد وبلال هذا ضعيف على انفراده، قال أئمتنا: هو مسلسل بالضعفاء. وقد حكم عليه بالضعف الإمام النووي في الأذكار والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله حسنه في تخريج أحاديث الأذكار لكثرة طرقه وشواهده.
وعليه فهو ضعيف على انفراده، لكن له شواهد ترفعه لدرجة الحسن، فلا مانع من الدعاء به إذا خرج الإنسان إلى المسجد.
الجواب الثالث:
قررنا في الجواب السابق أن هذا التوسل يؤول في النهاية إلى أنه توسل إلى الله بفعلنا، ويمكن أن يقال هنا في هذا الجواب، أن هذا من باب التوسل إلى الله بأفعاله أيضاً، فالله جل وعلا عندما وعد السائلين العطاء والداعين الإجابة فهذا فعل من أفعاله، ويجوز أن نتوسل إلى الله جل وعلا بأفعاله وصفاته كما يجوز بذاته، فكأننا نقول: يا رب كما أنك تعطي السائلين وتجيب الداعين نتوسل إليك بهذا الفعل الذي يجري منك والذي تكرمت به علينا وأن تقضي حوائجنا وأن تعطينا طلبنا (دخول الجنة، والإجارة من النار، ومغفرة الذنوب) .
وكل من الجوابين أفادهما الإمام ابن تيمية في كتابه الجليل (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) من صـ52 إلى صـ65، وأعاده في صـ145 إلى صـ147.
الجواب الرابع: في جواب أنه لا يجوز أن نقول بحق فلان
…
أنه لو كان التوسل بالجاه مشروعاً لاستوى الأمر في ذلك كون المتوسَّل به حياً أو ميتاً وإذا كان الأمر كذلك فجاه نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى جاه وأرفعه وأتمه، فلو كان التوسل بجاهه جائزاً لما عَدَل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، لان جاه نبينا عليه الصلاة والسلام جاه رفيع عالٍ لا يختلف سواء كلن حياً أو ميتاً.
ولم ينقل عن صحابي أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، بل غاية ما قاله عمر كما تقدم في صحيح البخاري [إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه الصلاة والسلام فاسقنا] .
فإذن عدول الصحابة عن التوسل بجاه نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته دل على أنه لا يجوز التوسل بجاهه في حياته لأن الجاه لا يختلف حياً أو ميتاً، نعم كانوا يتوسلون به لكن بدعائه واستشفاعه لا بجاهه، ولو كانوا يتوسلون بجاهه في حياته لتوسلوا بجاهه بعد مماته.
الجواب الخامس: وهو آخر الأجوبة:
نقول: أمور الاعتقاد ينبغي فيها غاية الاحتياط ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً – بعد أن قررنا في الأجوبة الأربعة الماضية أنه لا يجوز – لو سلمنا أن هذا النوع من التوسل اختلف في جوازه مع أن المذاهب الأربعة يقولون: "ولا يُسأل الله إلا به (1) فلا تقل: أسألك بملائكتك أو أنبيائك أو رسلك" وهذا نص متن الحنفية في كتاب (الاختيار) وهذا على سبيل المثال لو سلمنا أن فيه خلافاً فتركه متعين عند المهتدي خشية أن يكون فيه ضلال وهو لا يدري فليترك الصيغة المختلف فيها فليقل صيغة لا اختلاف فيها.
إخوتي الكرام.... انتبهوا!! نظير هذه المسألة مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أم لا؟
فالإمام ابن تيمية قال: لا يجوز شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد] ، فجاء الإمام السُبكِي ورد عليه بعد ذلك بكتاب سماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) ، ثم ألف الإمام الحافظ ابن عبد الهادي بعد ذلك كتاباً رد فيه على السبكي سماه (الصارم المُنْكِي في الرد على السُبْكِي) .
(1) أي لا يسأل الله إلا بالله، أو بسبب مشروع كطلب الدعاء من إنسان أو عمل صالح منك تتوسل به إلى الله، إذن فتتوسل إلى الله بالله، وتتوسل إلى الله بدعاء إنسان وتتوسل إلى الله بعمل صالح، والأول أعلى أنواع التوسل أن تتوسل إلى الله بالله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث [في رواية: بك أستغيث] فأصلح لي شأنيَ كُلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
إخوتي الكرام
…
والله ما أدري أن الأمر يستدعي هذا الخلاف الطويل الشديد، ولا أرى هذا مشروعاً، فالمسألة تحل بسهولة، قال لي بعض الإخوة مرة، وأنت ما رأيك في المسألة فقلت: والله إن المسألة أقل من أن نبذل جهداً في حلها، ثم قلت له: هل تجوز زيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: بالإجماع تجوز، قلت: وإذا دخلنا المسجد فهل يجوز أن نسلم على النبي عليه الصلاة والسلام وأن نبكي في الروضة المشرفة شوقاً إليه وحزناً على عدم رؤيته أم لا؟ قال: يجوز، قلت: إذن لا خلاف في المسألة، فلماذا بدلاً من أن أقول شددت الرحل إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أقول شددت الرحل لزيارة المسجد ثم بعد دخول المسجد أزور النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لا ينوي من يريد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم نية مجمعاً على جوازها ولا يقول لأى أحد إنك قد ابتدعت، لأنه نحن في الأصل لا خلاف بيننا في النهاية أنا وأنت سنزور النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلافنا في القصد هل نشد الرحل للزيارة المجردة أو للمسجد قلت: ما أحد يشد الرحل للزيارة المجردة، فهل يعقل أن يذهب أحد إليه ولا يصلي فيه مع أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة؟!! وهل يعقل أن يذهب أحد للروضة ولا يصلي فيها؟!! هذا مستحيل.
إذن فالذي يذهب إلى المدينة المنورة فلينو الذهاب إلى المسجد ثم يقول بعد ذلك: سأزور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
بعض المتوسلين ممن كان يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم قال لي – وهو يعلم أنني لا أجيز هذا – وكأنه يريد أن يتحداني -: يا شيخ هؤلاء الوهابية يقولون لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن للنبي جاه فمن له جاه؟!
إخوتي الكرام
…
لو أردت أن أقابل عنفه بعنف فلن نصل إلى حل، فقلت له: يا عبد الله لا أريد الآن لا وهابية ولا صوفية، هذه الشريعة إسلامية ونحن نعبد الله بها، وأقل ما في هذه الصورة التي تقولها أن فيها خلافاً وعندنا صيغة أخرى تؤدي مدلولها وفيها زيادة عليها ولا خلاف في جوازها، قل: أسألك بحبي لنبيك عليه الصلاة والسلام أن تقضي حاجتي وأرح نفسك وخلص الأمة من الخلافات والمشاكل وهل صار الدين نكاية ببعضنا، فلكوني لا أجيز هذا أنت ستتحداني، بل تعال يا عبد الله لنقل كلمة مجمع عليها، أنا أقول لك جزاك الله خيراً، وأنت تقول لي جزاك الله خيراً، وأنت مهتد وأنا مهتدي إن شاء الله تعالى.
إخوتي الكرام.... بالنسبة لتوحيد كلمة الأمة والتأليف بين القلوب هذا مطلوب لاسيما إن لم يكن في ذلك ترك لركن أو شعيرة، ولم يكن فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم، أما لو كان فيه ذلك وكان فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم فإننا لا نوافق أهل الأرض على كلامهم بحجة التأليف وتوحيد الكلمة فلا مجاملة في دين الله، والأمر الذي عندنا ليس كذلك فليس في توحيد الكلمة فيه ترك لركن أو شعيرة بل وهو مما ليس فيه أيضاً احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يجب على المهتدي أن يقول صيغة في توسله لا خلاف فيها حتى، لا يُعترض عليه لاسيما أننا في أمر اعتقاد، وليس في أحكام عملية فرعية حتى يُقال دعوا الأمة في سعة، وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ما يشير إلى هذا عند كلام الإمام أحمد في
أنه يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لكم هذا، وأننا إذا أقسمنا بالله فهو قسم جائز بالإجماع، وإذا أقسمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو مما فيه خلاف، فلنترك ما فيه خلاف إلى ما لا فيه خلاف، وهنا كذلك، التوسل بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحوه من التوسل الجائز أفضل من التوسل بالجاه لأنه مما أُجمع على جوازه، ثم إن فيها معنىً أعلى من التوسل بالجاه أيضاً، بالإضافة إلى ما فيها من توحيد القلوب وتآلفها، ودين الله ليس نكاية ببعضنا البعض، فنحن كلنا نتبع نبياً واحداً عليه الصلاة والسلام ونعبد إلهاً واحداً، فأنا إذا رأيت فعلك شرعياً، وعندي بعد ذلك رأي يمكن أن يخالف فعلك، فأقول: أفعل الفعل الشرعي الذي تفعله كي أوافق أخي وأترك رأيي وإن كان شرعي خير وأحسن من فعل يفعله واحد وهو شرعي.
…
إخوتي الكرام
…
الاحتياط في أمور الاعتقاد مطلوب، وإذا رأيتم من يفعل هذا النوع من التوسل – وما أكثرهم – فعظوه برفق ولطف، وقل له: أدري أنك لا تقصد بدعة ولا ضلالاً ولا انحرافاً بدعائك هذا، بل أنت لا تقصد إلا خيراً، لكني سأرشدك إلى صيغة أحسن من هذه وأكمل وتدل على تعلقك بنبيك عليه الصلاة والسلام – وأنت إذا قلت هذا فسيفرح حتماً ويقول لك: وما هي التي أعلى منها؟ فقل له قل: أسألك بحبي للنبي عليه الصلاة والسلام، فبالرفق ادعوه وأما إذا رأيته يتوسل بالجاه وقلت له: هذه بدعة، فإنه سيسبك أنت وأبويك والذي علمك ومن هم على طريقتك من أهل الأرض لأنه يفسّر هذا القول منك بأنه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم وامتهان له مع أن الأمر ليس كذلك، واللهِ إن الذي يقول لا يوجد جاه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإذ لم يكن للنبي جاه فمن الذي له جاه؟!! وهو الذي يقول عن نفسه:[أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فهل بعد هذه السيادة من سيادة؟!!!.
واختموا الكلام عن هذا السؤال وأجوبته بقول أئمتنا، وهو:
إن السؤال بجاه مخلوق هذا من باب الاعتداء في الدعاء، وهو حرام، وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاعتداء في الدعاء.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه – والحديث صحيح – عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه [أنه سمع ابناً له يدعو فيقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: يا بني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطُّهور، فإذا دعوت فسَل الله الجنة واستعذ به من النار] .
هذا التحكم وهذا التحديد وهذا الشطط من باب الاعتداء في الدعاء، بل الواجب أن تسأل الله الجنة، وأن تستعذ به من النار، ولا تحدد وتتحكم.
والاعتداء في الطهور هذا موجود وهو الإسراف في الوضوء والغسل، فتراه يتوضأ ببرميل واثنين وأكثر ويرى أنه لم يتطهر ولم يغتسل ولم يسبغ الوضوء، حتى أن البعض ينغمس في البركة خمس مرات ثم يخرج ويقول الماء لم يبلغ جسمي!!!.
وقد رأيت أمثال هؤلاء الموسوسين في حلب لما يأتي للصنبور (الحنفية) يضربها برجله خشية أن يكون مسها إنسان ونجسها ثم يجلس يتوضأ من بداية الآذان وتنتهي الصلاة وما زال يتوضأ وكلما قام رجع وقال لم أسبغ الوضوء بعد!!!.
وجاء رجل إلى الإمام ابن عقيل الحنبلي فقال له أغتسل في البركة ويوسوس لي الشيطان بأنني لم أبلّغ أعضائي ولم يسقط غسل الجنابة عني، فماذا أعمل؟ فقال له الإمام: تسمع مني؟ قال: نعم، قال: اترك الصلاة، قال: وكيف أتركها؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث ذكر منهم: وعن المجنون حتى يعقل، ولا يفعل هذا إلا مجنون.
الحاصل أن الإسراف في الماء من الاعتداء في الطهور، والطهور إنما شُرع لأجل أن يزيل الخطايا والذنوب لا ليطهّر الأعضاء الحسية، فلا داعي للإسراف وإياكم أن تعتدوا!!!.
وكذلك الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم هذا من باب الاعتداء في الدعاء، فإياكم أن تعتدوا!!!.
تنبيه ثانٍ:
روي الحاكم في المستدرك (2/615) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما اقترف آدم الخطئية (1) ، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي (2) ، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه (3) ، قال: يا رب إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله، صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك]، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
فقد يقول قائل: هذا حديث في المستدرك على الصحيحين وقد صححه الحاكم مع أن فيه: أن آدم توسل بحق محمد – عليه الصلاة والسلام – فكيف تقولون: إنه لا يجوز أن نسأل الخالق بحق مخلوق؟
والجواب: إن الإمام الذهبي علق على كلام الحاكم في تلخيص المستدرك وهو مطبوع مع المستدرك في حاشيته: "صحيح الإسناد!! قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ" إذن هذا حديث موضوع مكذوب فلا حجة فيه.
والسبب في أن الحاكم أخطأ في كثير من الأحاديث وصححها وهي ضعيفة بل موضوعة، أن كتابه المستدرك هذا كتبه تلامذته وكان هو يمليهم من صدره، فلما كتبه التلاميذ بقى في حيز المسوّدات ولم يبيضه الحاكم وكان ينوي أن يعيد النظر فيه، ويراجعه، فتوفي قبل ذلك رحمه الله.
(1) أي أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
(2)
أي أسألك بحق محمد أن تغفر لي.
(3)
أي ما الذي أدراك به وأنت أول البشر، ولم يحصل لك للآن نسل أو أولاد، فكيف عرفت به وهو آخر رسل الله على الإطلاق.
والإنسان أحياناً عندما يحدث من حفظه قد يشتبه عليه بعض الرواة فيكون الراوي ضعيفاً أو كذاباً ولا ينتبه له عندما يحدث من حفظه، لكن عندما يجلس ليؤلف ويصنف فهناك يتحقق، ودائماً الحديث الشفوي النظري ليس له من التحري والتأكد كما يكون في حال الكتابة والتوثيق، فهذا مثلاً في هذا الحديث عند الرحمن بن زيد بن أسلم واهٍ لكن خفي هذا الكلام على الحاكم، لأنه في مجلس إملاء – كما قلت – ومجالس (1) الإملاء كانت في سلفنا وانقضت بانقضاء السلف الصالح وما خلفهم أحد يسد مسدهم والعجب لموقف الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية نحو هذا الحديث، ففي كتاب الاستغاثة الذي سماه في الرد على البكري، يقول في صـ5: هذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فلم يخرجه أحد من أصحاب الصحيحين ولا المسانيد ولا السنن ولا الحاكم في المستدرك ولا غيرهم.
(1) مجالس الإملاء: كان الشيخ يجلس فيها ويملي من صدره لا من كتابه، فأحياناً يملي في المجلس الواحد ألف حديث أو خمسمائة حديث أو مائة حديث بأسانيدها ومتونها من صدره، وهذا كان يتميز به سلفنا عمن بعدهم؟ فالعلم في صدورهم لا في كتبهم، وكما قيل: العلم ما حواه الصدر لا ما حواه القِمَطْرُ.
وحقيقة مجالس الإملاء تدل على نبل العلماء لكن كما ذكرت ليس فيها من التحري ما يوجد في التصنيف، والتأليف والتحقيق فهذه كما قال البخاري: لم أودع حديثاً في الجامع الصحيح إلا بعد أن اغتسلت وصليت ركعتين واستخرت الله في وضعه، فانظر لهذا التحري من الإمام البخاري؛ لأن هذا تصنيف وليس من إملائه على أحد، لكن الحاكم ليس كذلك كان يملي وتلامذته يكتبون وراءه ما يملى عليهم، فمات قبل أن ينظر فيما كتب عنه وكانت فيه أحاديث ليست بصحيحة فجاء الإمام الذهبي واستدركها على الحاكم وسماه تلخيص المستدرك.
وجاء في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة فقال صـ69 بعد أن ذكر هذا الحديث: "رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك وهذا مما أنكر عليه".
وفوق كل ذي علمٍ عليم – وهذا حال البشر – فلعله – والعلم عند الله – ألف كتاب الاستغاثة في أول الأمر وما علم بوجود هذا الحديث في المستدرك ثم اطلع عليه بعد ذلك فتعرض له في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين أن هذا الحديث موضوع.
فهذا الحديث باطل قطعاً وجزماً [لولا محمد ما خلقتك] ، والحديث الموضوع الآخر [لولاك لما خلق الله الأفلاك] أي الكواكب والنجوم والحديث الموضوع الآخر [خلق الله الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم] .
هذه الأحاديث كلها أحاديث موضوعة يضعها بعض المخرفين الذين يزعمون أنهم بوضع هذه الأحاديث يحبون النبي الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا فرقة ضالة في الأمة الإسلامية أجازت وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب هم الكرامية (1)
(1) الكرامية هم أتباع محمد بن كرام السِّجستاني الذي هلك سنة 225هـ، هؤلاء أجازوا وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب يقول أئمتنا في ترجمة هذا العبد المخذول – محمد بن كرام -: التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها – وهؤلاء أولاً: يقولون بتشبيه الخالق بالمخلوقات. ثانياً: يقولون بجواز وضع الأحاديث على خير البريات وقالوا: نحن نكذب له لا عليه ونحن نروج دعوته، وكأن دين الله الحق ليس فيه ما يحبب الناس فيه حتى احتاج إلى كذب الكذابين وإفك الآفكين؟!! سبحان الله!! منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وهي أعلى منزلة بلا خلاف.
وأفضل الخلق على الإطلاق
…
نبينا فمِلْ عن الشقاقج
لكن لا يجوز بعد ذلك أيضاً الإطراء والغلو أيضاً، كما حذرنا عليه صلوات الله وسلامه ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب مرفوعاً [لا تطروني كما أَطْرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] والإطراء هو المدح بالباطل والمجازفة في المدح والمبالغة فيه بحيث تذكر في الممدوح ما لا يوجد فيه، فهل خلق الله الكون من أجل محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أم أنه ما خُلِق هو، والخلق كلهم إلا لتوحيد الله وعبادته؟!! (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، فلماذا هذا الإطراء والافتراء على رب الأرض والسموات لولا محمد ما خلقتك، ولولا محمد ما خلق الله الأفلاك، هذا كلام باطل وهو من الإطراء المنهي عنه فاحذروا، وعندنا في التفسير آيات تسمى آيات العتاب، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (عفى الله عنك لم أذنت لهم) (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) . ثالثاً: يقولون الإيمان مجرد نطق باللسان وإن لم يعتقد بالجنان (القلب) ، فهذه هي ضلالات الكرامية الثلاثة.
وجوز الوضع على الترغيب
…
قوم ابن كرّام وفي الترهيب
س: حُكمنا على هذا الحديث جاء من المتن أو الإسناد؟
جـ: جاء من الأمرين معاً: فالسند كما قلنا فيه عبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف بالاتفاق، وخفي ضعفه على الحاكم، فليس هو من رجال البخاري ولا من رجال مسلم، وأخرج له الترمذي وابن ماجه القزويني، ولذلك إذا نظرت في ترجمته في تقريب التهذيب ترى الحافظ ابن حجر قال:"عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من الثامنة ضعيف، ت، ق" أي هو من طبقة الرواة الثامنة، وهو من رجال الترمذي والقزويني ابن ماجة.
ثم إن معنى الحديث كما قلت باطل ومردود منكر، فالآفة من الأمرين، والحاكم في الأصل أنه يورد في المستدرك أحاديث الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، ولكن عبد الرحمن بن زيد ليس كذلك بل وليس هو أيضاً على شرط الصحيح مطلقاً.
.. حكم عليه الإمام الذهبي بالوضع، وإلا فالسند لا يقوى على الوضع، والراوي الضعيف أحياناً نحكم على روايته بالوضع لا لأنه ضعيف إنما لأن هذه الرواية خالفت عندنا الأصول الشرعية الثابتة، فلعله لضعفه التبس الأمر عليه ووهم، لكن شتان بين من يتعمد الوضع وبين من يخطئ ويهم وينسى ولا يضبط، فنحن بالنسبة لعبد الرحمن على انفراده لا نقول عنه إنه وضاع كذاب لكن نقول: هذه الرواية موضوعة ووهم في روايتها، هذا كما لو جاءنا راوٍ ثقة برواية مقلوبة، فما معنى مقلوبة؟ يعني موضوعة لكن أئمتنا أرادوا أن يهذبوا اللفظ لأن لفظ الوضع فيه شناعة لا يليق أن توصف به رواية الراوي الثقة كالحديث الثابت في صحيح مسلم عن السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله] هذا مما انقلب على الراوي والصحيح الثابت عند البخاري وغيره من الأئمة [حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] ، كأن القلب وضع، لكن هناك فرق بين يكون الراوي تعمد ذلك وبين أن يكون قد أخطأ، فلما أخطأ قلنا هذه مقلوبة في المتن، والمقلوب ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه موضوع لكنه لا يوصف بأنه موضوع كما ذكرنا ولا يوصف الراوي بأنه وضاع بل يبقى عندنا ثقة، وهنا كذلك الراوي ضعيف لكن الرواية موضوعة نص على وضعها الذهبي في تلخيص المستدرك، ونص على وضعها أيضاً الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله.
س: لماذا أورد الحاكم هذا الحديث مع بطلانه وضعف سنده؟
جـ: بالإضافة إلى ما ذكرناه من أنه رحمه الله لم يصنف هذا الكتاب إنما أملاه إملاءً وكتبه تلامذته وراءه، نضيف هنا فنقول: الإمام الحاكم رحمه الله يجمع ما بلغه وما نُقل له وما حَدَّث به ثم يبقى بعد ذلك دور الغربلة والتنقية: هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ يحتاج لنظر ولو صح هل وجد ما يعارضه أم لا؟ فإذا وجد ما يعارضه هل هذا أقوى أم ذلك حتى نعمل بينهما ترجيحاً؟ فشتان بين جمع الأحاديث فقط وبين جمعها للاستدلال بها. ففي الحالة الأولي (الجمع) يجمع فقط، وفي الثانية (الاستدلال) يختار ويمحص.
…
وقد قلت مرة لأحد شيوخنا الشيخ مصطفى الحبيب الطير في مصر، وهو من المشايخ الصالحين الطيبين قلت له: موضوع أئمة الإسلام المتقدمين كأمثال ابن جرير (ت: 310هـ) وغيره كأبي نُعيم والخطيب البغدادي ملأوا كتبهم بالأحاديث الضعيفة، بل في بعضها موضوع أيضاً، فهذا العمل منهم يحيرني وهم الجهابذة وعلماء السنة والرجال والتاريخ.
فقال لي: يا بني، إن عصرهم كان عصر جمع فقط، وهذا من أمانتهم وتقاهم وخشوعهم لربهم وتحريهم جمعوا ما بلغوا لكن لا تظنوا أنه جمع كجمعنا كحاطب ليل، بل جمع بأدق وأحسن وأتم طرق الجمع معه علامات تدل على قبول الرواية أوردها، وهذه العلامات هي الإسناد، وكأنهم يقولون لنا: هذا الكنز الذي نقلناه إليكم لم نخنكم فيه، بل أعطيناكم علامات تدل على ثبوته أو على رده وهي الإسناد.
ولذلك قال أئمتنا: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقالوا أيضاً: إذا روى الإنسان حديثاً موضوعاً فلا يبرأ من عهدته ولا يخرج من إثم روايته إلا بأحد أمرين:
أ) إما أن يرويه بالسند، فمن أسند لك فقد حملك.
ب) وإما أن يبين أنه موضوع.
وإذا لم يفعل أحد هذين الأمرين فهو آثم، وهو أحد الكاذبَيْن على رسول الله صلى الله عليه وسلم [من كذب علي....] وهو هنا الذي نشر الكذب، لا الذي أنشأه وصاغه.
وقال السخاوي في فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، كان الإسناد من جملة البيان عند المتقدمين، وفي الأعصار المتأخرة صار ذكر الإسناد وعدمه سواء عند الناس فإذن هذا من أمانة العلماء المتقديمن.
ثم قال لي – وهو جواب على ما استشكل على -: يا بني قد يكون الحديث ضعيفاً عند الطبري، والضعف يسير محتمل، وقد يوجد هذا الحديث نفسه عند أبي نُعيم من طريق آخر ضعيف أيضاً، وكذلك يوجد الخطيب البغدادي الحديث نفسه من طريق آخر ضعيفاً فلو أن كلاً منهم أهمل هذا الحديث بحجة أنه ضعيف عنده لأهملوا لنا ثروة عظيمة وهي الشواهد والمتابعات، فهذا الحديث الذي رواه الطبري وهو ضعيف يتقوى بما رواه أبو نعيم ويتقوى بما رواه الخطيب، فيصل لدرجة الحسن ويصبح مقبولاً.