المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

التعليق على الطحاوية (مبحث الميثاق)   للشيخ الدكتور عبد الرحيم الطحان مبحث الميثاق يقول الإمام الطحاوي - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ١٢

[عبد الرحيم الطحان]

فهرس الكتاب

التعليق على الطحاوية

(مبحث الميثاق)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

مبحث الميثاق

يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:

"والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق".

إخوتي الكرام

الميثاق معناه في اللغة: العهد المؤكد، والوثاق هو حبل أو قيد يشد ويربط به الأسير أو الدابة، يقول الله تعالى:(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ، ما معنى الوثاق؟ حبل وقيد، فما يقيد به يسمى وثاق لأن فيه أحكاماً وربطاً وهكذا الميثاق عهد مؤكد، لكن العهد معنوي إن أكدته بيمين أو بالتزام وتصميم يقال له ميثاق كما أن ذاك إذا قيدته بالحبل يقال له أحكمت وثاقه وجعلته في ميثاق محكم لكنه ميثاق حسي.

إنما أصل الميثاق – كما قلت – عهد مؤكد ولذلك قال الله جل وعلا في سورة النساء (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق هنا عهد مؤكد، وقوله، (غليظاً) أي ميثاقاً مؤكداً كثيراً وكثيراً، إذن التأكيد فيه كثير ولذلك [إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح مسلم، فالميثاق الغليظ هذا هو عقد النكاح عندما يتم إيجاب وقبول، هذا ميثاق غليظ فهو عهد مؤكد أمرنا الله أن نرعى هذا العهد وأمرنا ولي المرأة أن نرعى هذا العهد وأن نتقي الله في عرضه وهكذا المرأة جاءت إلى الرجل لتكون في كنفه ورعايته وأعطاها عهداً بذلك عن طريق العهد فإذن هذه ميثاق غليظ وعهد مؤكد بمزيد التأكيد.

فالمراد بالميثاق إخوتي الكرام

أقام الله جل وعلا ميثاقه على عباده وحججه عليهم بأمور كثيرة، كثرتها تنضبط في ثلاثة أمور:

أولها: وهو أولاها بالاعتبار – إرسال الرسل.

ص: 1

الثاني: العهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر عندما استخرجوا من صلب أبيهم آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ومن أصلاب آبائهم.

الثالث: الفطرة المستقيمة التي فطر الله عباده عليها.

أما إرسال الرسل فهو آخر الأمور وآخر المواثيق التي أخذها الله على عباده وهو أهمها، وأول المواثيق التي أخذها الله على المكلفين هو الميثاق الذين أخذ عليهم في عالم الذر، وبين هذين الميثاقين ميثاق الفطرة، وهذه المواثيق الثلاثة هي شيء واحد فكل المقصود منها هو أخذ العهد على العباد وإقامة الحجج عليهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، جرى هذا في عالم الذر، وفطر الله العباد عليه بعد أن خلقهم وأرسل إليهم الرسل بعد أن أوجدهم ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده لا شريك له.

وسنتكلم عن هذه المواثيق كلها لنعرف الميثاق من جميع وجوهه، ولنعرف بعد ذلك الميثاق الذي أُخذ علينا في عالم الذر وأشار إليه ربنا في سورة الأعراف (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) آية 172، 173.

1-

الميثاق الأول: إرسال الرسل:

يشترك لتكليف العباد إرسال الرسل إليهم وغالب ظني أنه تقدم معكم في السنة الأولى أنه يشترط في تكليف العباد بتوحيد ربهم أربعة شروط:

أولها: العقل.

وثانيها: البلوغ.

ثالثها: سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، فلابد من وجود واحدة منها، أما لو كان أعمى وأصم في آنٍ واحد فيرفع عنه التكليف كما لو كان مجنوناً، أما لو كان أعمى أو أصم، فلا يرفع عنه التكليف، لأنه إن كان أعمى فنبلغه دعوة الله عن طريق السمع، وإن كان أصم فنبلغه دعوة الله عن طريق الإشارة.

رابعها: بلوغ الدعوة عن طريق رسل الله الكرام.

ص: 2

والذين لا توجد فيهم هذه الشروط لتكليفهم بتوحيد ربنا المعبود يمتحنون في عَرَصات الموقف كما امتحنا نحن في هذه الحياة فمن أطاع الله منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وهذا القول ثبتت به الأحاديث تقارب الأحاديث المتواترة حكم عليها أئمتنا بأنها مستفيضة وهذا القول هو الذي يجمع بين الأحاديث التي وردت في هذه المسألة.

فقد وردت بعض الأحاديث التي تخبر بأن أولاد المشركين في النار، وبعض الأحاديث تقول إنهم في الجنة، وبعض الأحاديث تقول الله أعلم بما كانوا عاملين، وبعض الأحاديث – كما قلت لكم – أخبرت أنهم يمتحنون فالجمع بين هذه الأحاديث أن نقول:

? إن الأحاديث التي أخبرت أنهم في النار أي هم في النار بعد أن يمتحنوا ويعصوا.

? والأحاديث التي أخبرت أنهم في الجنة أي هم في الجنة بعد أن يمتحنوا ويطيعوا.

? وأما الأحاديث توقف فيها نبينا عليه الصلاة والسلام وقال الله أعلم بما كانوا عاملين، أي الله أعلم بمصيرهم هل هو إلى الجنة أو على النار قبل الامتحان، فهذا لا نعلمه نحن قبل أن يمتحنوا بل الله وحده هو العالم بما سيعملون بعد امتحانهم.

? والأحاديث التي أخبرت أنهم سيمتحنون هذا هو الواقع وهذا هو الذي سيحصل فيمتحنون فيظهر معلوم الله فيهم، فبعضهم يدخل الجنة وبعضهم يدخل النار.

إذن أولاد المشركين وهكذا الذين ماتوا في الفترة ومن في حكم من لم تكتمل فيهم شروط تكليفهم يمتحنون في عرصات الموقف وساحة الحساب فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار كما امتحنا نحن في هذه الحياة.

ص: 3

.. إذن الميثاق الأول هو إرسال الرسل وهو حجة عظيمة أقامها الله جل وعلا على عباده بواسطة الرسل فأخبرنا الله في كتابه أنه لا يعذب العباد إذا لم يرسل إليهم رسولاً قال في سورة الإسراء آية رقم 15 (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)، وأخبرنا الله جل وعلا أنه لو عذب العباد قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم لاحتجوا على ربهم جل وعلا يقول الله جل وعلا في سورة طه آية رقم 134 (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (من قبله) : أي من قبل إرسال الرسل إليهم، يعني لو عاقبنا الكفار من عتاة قريش وغيرهم قبل إرسال رسول إليهم لاعترضوا وقالوا كيف تعذبنا ولم يأتنا منك رسول ليبلغنا دعوة الله على أتم وجه، ولذلك قلت لكم هذا الميثاق الثالث الذي هو آخر المواثيق به يتعلق ويربط التكليف، فإذا لم يوجد فلا عبرة بميثاق الفطرة ولا بالميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر.

وأخبرنا الله في كتابه أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة فقال جل وعلا في سورة النساء آية 163-165 (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً) .

الشاهد: رسلاً مبشرين ومنذرين.

ص: 4

.. وأخبرنا الله جل وعلا في سورة الزمر أنه يقول للكفار يوم القيامة إن الرسل جاؤوكم فكذبتم واستكبرتم وما أعذبكم إلا بعد قيام الحجة عليكم، فقال جل وعلا 54-59 (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرَّةً فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) .

الشاهد: بلى قد جاءتك آياتي.

ولذلك أخبرنا الله في آخر السورة بعد ذلك أن الكفار يعترفون بأن الرسل أرسلوا إليهم وبلغوهم دعوة ربهم (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم قالوا بلى

) الآية 71 سورة الزمر.

وأخبرنا الله في أوائل سورة الملك أن الله أعد للكفار عذاب جهنم وبئس المصير وأنهم يعترفون بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في نار الجحيم، يقول الله جل وعلا (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنوبهم فسحقاً لأصحاب السعير) . سورة الملك آية 6-11.

ص: 5

.. وثبت في صحيح البخاري وصحيح ابن خزيمة – وهذا حديث يقرر إرسال الرسل إلى المخلوقين من أجل إقامة الحجة عليهم – عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وليلقين أحدكم ربه فيقول الله له: ألم أرسل إليك رسولاً فيبلّغْكَ؟ فيقول: بلى] أي بلى أرسلت إليّ رسولاً بلغني وثبتت الحجة عليّ.

2-

الميثاق الثاني: إشهاد العباد على أنفسهم في عالم الذر عندما أخرجهم من صلب آبائهم وصوّرهم وكلمهم قُبُلاً وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.

وقد وقع هذا في عالم الذر للأرواح والأبدان فاستخرج الله الصور والأبدان من المواد التي ستخلق منها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ثم بعد أن استنطقهم وأشهدهم أعادهم إلى تلك المواد التي سيُخرجون منها بعد ذلك والله على كل شيء قدير، ولم يكن الخلق للروح فقط، ولا للبدن فقط – بل كما قلنا – للأرواح والأبدان خلقها الله وبثها بين يده وكلمنا قبلا ً.

هذا الميثاق وردت آية من القرآن تدل عليه، وحديثان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقررانه، وآثر موقوف صحيح، كما سأورد أحاديث تشهد لمعناه – وهي كثيرة – ولكن ليس فيها التصريح بأن الله أخرج الذرية من صلب آدم في ذلك الوقت.

أما الآية

فهي في سورة الأعراف وتقدم ذكرها، يقول الله جل وعلا:(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم (1) ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .

(1) قال (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره) لأن هذه الفروع مأخوذه من ذلك الأصل فهم أخرجهم الله من ظهر آدم ثم هذه الفروع أيضاً أخرها من بعضها، إذن أخرج الأحفاد من الآباء، والآباء من الأجداد، وكل من سيولد من أب بعد ذلك سيكون ممن أخرج من ظهره.

ص: 6

فإذاً تم جوابهم عند قوله بلى، فتكون كلمة شهدنا إما من الله أو من الملائكة أي فقالت لهم الملائكة شهدنا، أو قال الله شهدنا عليكم بذلك:(أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) فلا تتعللوا بأحد أمرين: الأول: لا تقولوا نحن في غفلة عن هذا وما عندنا علم به فأنا أشهدتكم وأنتم في عالم الذر، الثاني: لا تقلدوا آباءكم في الضلالة ولا تقولوا نحن تبعنا آباءنا فهم كانوا على ضلال ونحن على طريقتهم، لا تقولوا هذا أيضاً فكل نفس بما كسبت رهينة أنا أخرجت كل واحد منكم وأشهدته على نفسه من ربك ومن إلهك؟ فقال: أنت إلهي وأنت ربي، فنحن إذ شهدنا عليكم بذلك ولذلك يحسن الوقف على كلمة بلى إذ كان جوابهم ينتهي عند هذه الكلمة (بلى) .

وإذا تم جوابهم عند قوله شهدنا فيكون المعنى: أخذنا عليكم العهد والميثاق في عالم الذر لئلا تقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .

إذن كلمة (شهدنا) إما أن تكون من الله ومن ملائكته أي: شهدنا لئلا تقولوا إنا كنا

وإما أن تكون من قول الذرية، أي أخذنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدناهم على أنفسهم لئلا يقولوا إنا كنا.... وكلا التقديرين حق وأنت على حسب ما تلاحظه من المعنى تحدد الوقف.

وأما الحديثان المرفوعان:

ص: 7

أولهما: ثبت في مسند الإمام أحمد – بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع (7/25، 189) – والحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/28) وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، ورواه ابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردُوْيَهْ في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنَعْمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرَّيّة ذرأها، فنثرها بين يديه (كالذر) ثم كلمهم قُبُلاً، قال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ] .

(قُبُلاً) أي مشفاهة بدون واسطة.

فكان هذا الميثاق عليهم إذن فى عرفة وهي معروفة والتي يقف فيها الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في مكان معروف اسمه نعمان من عرفات أخذ الله علينا العهد في ذلك الوقت، أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالو: بلى.

وهذا لم يكن في الجنة، بل كان بعد أن أهبط (1) آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى الأرض، وهذا الذي وقع في عالم الذر هذا من الإيمان بالغيب نؤمن به ولا نبحث في حقيقته.

(1) هل كان إهباط آدم وإنزاله في عرفات أو في الهند؟ أقوال قيلت في ذلك لا دليل علي شيء منها أنه ثبت صحيح أن نزوله كان في مكان كذا، لكن أخذ على ذريته الميثاق في ذلك المكان، وهذا فيما يظهر والعلم عند الله أنه يرجح أن نزوله كان من الجنة إلى هذه البقعة المباركة الطاهرة (عرفات) ولا مانع أن يكون نزوله في أرض الهند ثم أتى به إلى هذا المكان واستخرج الله من صلبه وظهره كل ذرية ستكون إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً.

ص: 8

وقد حاول الإمام ابن كثير أن يحكم على هذا الأثر بالوقف لأن الرواة اختلفوا فيه فمنهم من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على ابن عباس وهي محاولة غير مرضية لأن مثل هذا لا يقدح في المرفوع فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وزيادة الثقة مقبولة، فإذا رفع راوٍ ثقة الحديث، ووقفه راوٍ آخر فيحكم بالزيادة وبرفع الحديث؛ لأن معه زيادة علم، فلعل ذاك شك فوقف الحديث على ابن عباس، وهذا تأكد وتحقق بأنه مرفوع وأنه سمعه من شيوخه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فصرح برفعه.

على أننا لو سلمنا أن هذا الأثر موقوف فله حكم الرفع قطعاً وجزماً لأن مثله لا يقال من قبل الرأي ولا الاجتهاد ولا الاستنباط.

الثاني: رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/77) عند تفسير هذه الآية – التي تقدم ذكرها – من سورة الأعراف – عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أُخذوا من ظهره كما يؤخذ بالشطر من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقالت الملائكة (1) : (شهدنا أن تقولوا

) الآية] .

قال الإمام ابن جرير بعد أن روى هذا الأثر: لا أعلمه صحيحاً، فإن الثقات رووه عن سفيان الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه. ويعني بقوله: لا أعلمه صحيحاً أي لا أعلمه صحيحاً مرفوعاً، إنما أعلمه أنه موقوف على عبد الله بن عمرو.

نقول: لو ثبت الوقف فله حكم الرفع، والرواية المتقدمة ورد التصريح بأنها مرفوعة وهي صحيحة. فهذان هما الحديثان المرفوعان.

وأما الأثر الموقوف:

(1) هنا كلمة شهدنا مصّرحٌ بأن قائلها هم الملائكة وليست ذرية بني آدم، والآية تحتمل الأمرين فلا مانع من أن يقول الذرية شهدنا، وأن تقول لهم الملائكة بعد ذلك شهدنا على قولكم وشهادتكم. وتقدم.

ص: 9

.. فهو ما رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً، والحاكم في المستدرك (2/324) وقال إسناده صحيح وأقره الذهبي، والحديث رواه أصحاب التفاسير الثلاثة المتقدمة أيضاً: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوْيَهْ – فهؤلاء الخمسة رووا الحديث الأول المرفوع عن ابن عباس، ورووا هذا الأثر أيضاً – عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال في قول الله جل وعلا:(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم....) الآية. قال فيها: [جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قال (1) : فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأراضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم – عليه السلام – أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بذلك، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل لكم رسلي (2) يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا (3) بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك فأقَرّوا بذلك] .

وهذا الإيجاد الذي حصل لهم في عالم الذر أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فنؤمن به دون البحث في كيفيته إذ هو من باب الإيمان بالغيب.

فإن قيل: إن العلم بهذا الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر غير معلوم لنا، فما فائدته؟

فنقول: تحصل لنا فائدتان:

(1) أي قال الله هذا بعد أن قالت الذرية بلى، ولم يذكر أبي جواب الذرية لأنه معلوم وقد ذكر في القرآن الكريم.

(2)

هذا هو الميثاق الأخير والذي تدارسناه أول شيء، لأنه أهمها.

(3)

فكلمة شهدنا هنا إذن من كلام ذرية بين آدم وقلت لكم الآية تحتمل الأمرين ونجمع بينهما بأنهم قالوا شهدنا فقال الله وملائكته شهدنا على شهادتكم فحذار حذار من إهمالها ونسيانها، والله أعلم.

ص: 10

الفائدة الأولي: أنه قد أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأتانا بما يقرره ويوضحه ويثبته في رسالته ودعوته، فإذا آمنا بهذا يحصل لنا شرف وفضل الإيمان بالغيب.

الفائدة الثانية: أنه يحصل علينا بهذا الميثاق مزيد من حجة وإثبات، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: انتبهوا!! أنتم إذا لم تتبعوني فإنكم تعتبرون عاصون لله مباشرة حيث أخذ الله عليكم العهد في عالم الذر بتوحيده وعدم الإشراك به.

إذن جحدتم إقراركم أمام ربكم ثم عصيتم أمري ولم تتبعوني فانتبهوا فليس الكفر بي يعتبر رداً لدعوتي فقط، إنما هو رد لشهادتكم التي صدرت منكم أمام ربكم جل وعلا أيضاً.

وكلما كثرت وسائل الإثبات على الإنسان كلما دعاه هذا للاستحياء من نفسه ومن ربه، فالله عندما يقول لعبده: أنا أشهدتك على نفسك بين يدي فشهدتّ، وأوجدت في فطرتك ما يدل على أنني إلهك وربك، وأرسلت إليك رسلاً يقررون هذا ففي هذا الكلام تحذير للعبد من المخالفة، فليست هي شهادة واحدة ولا حجة واحدة ولا بينة واحدة فقط.

ص: 11

.. ولذلك الله جل وعلا عندما يحاسب عباده يوم القيامة هل يحاسبهم أيضاً بشهادة واحدة وببينة أم بشهادات وبينات؟ بشهادات وبينات فالملائكة والأرض تحدث أخبارها بما عمل ابن آدم على ظهرها من خير أو شر فتشهد عليك يوم القيامة، والصحف تشهد، والجوارح تشهد، والله كفى به شهيداً لا تخفى عليه خافية، قال الله جل وعلا (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم)، وقال جل وعلا في سورة النور في حق القاذفين (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وقال في سورة فصلت:(حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم (1) بما كانوا يعملون) ، وثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه كان بين أصحابه فضحك، فقالوا له: أضحك ألله سنك يا رسول الله، ما الذي أضحكك؟، فقال ضحكت من محاجة العبد لربه، يقول: فإني لا أقبل على نفسي شهيداً إلا من نفسي فيقول الله له: لك ذلك، فيختم على فيه، ويقول لجوارحه انطقي فتشهد عليه يداه ورجلاه وجوارحه بما عمل، ثم خلى الله بينه وبين الكلام فقال لجوارحه بُعداً لكُنْ وسحقاً فعنكُنَّ كنت أناضل] أي عنكن كنت أدافع، فقالت الجوارح (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحادثة.

(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)

العمر ينقص والذنوب تزيد

وتُقال عثرات الفتى فيعودج

هل يستطيع جحود ذنب واحد

رجلٌ جوارحه عليه شهودج

(1) كثير من المفسرين قالوا: المراد من الجلود خصوص الفرج، فكنى بالجد عن الفرج الذي إذا فعل الإنسان حراماً يشهد عليه، ولفظ الجلد أعم من ذلك يشمل الفرج وغيره من الجوارح الأخرى، فلو كشف فخذه سيشهد عليه هذا الفخذ بأنه كشف أمام من لا يحل أن ينظر إليه، وهكذا لو كشفت المرأة يدها أو شعرها أو شيئاً سيشهد عليها ذلك أمام الله، لأنها كشفته أمام من لا يحل أن ينظر إليه.

ص: 12

.. فأنت يكلمك الله قبلاً وجهاً لوجه في عالم الذر دون واسطة ويقول عبدي ألست بربك فقلت: بلى يا رب وإلهي وسيدي وخالقي، ولا أشرك بك شيئاً، ويقول لك انتبه!! ملائكتي تشهد وأنا أشهد شهدنا عليك بهذا الإقرار فإياك إذا خلقتك في الحياة أن تقول إنا كنا عن هذا غافلين، وإياك أن تقلد آباءك في الضلالة، فكل نفس بما كسبت رهينة فأنت عبدي وأنا خالقك وربك أشهدتك وأخذت إقرارك فإياك أن ترجع فإذا رجعت وبال ذلك عليك، ومع ذلك لن يكون حسابي لك في الآخرة على حسب هذا الميثاق فقط، بل سأجعل معه ميثاقاً آخر وهو الفطرة وسأجعل معه ميثاقاً آخر وحجة أقوى وهي أن أرسل إليك رسلاً تكلف بإتباعهم بعد بلوغك ووجود عقلك وسلامة إحدى حاستيك وأن تبلغك الدعوة، فرفعت الأعذار عنك؟ فلم يبق لك عذر ولا شبهة، ولذلك يقول الكفار (لو كنا نسمع أو نعقل) لأنهم حقيقة لا يسمعون ولا يعقلون، وينطبق عليهم قوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل) وينطبق عليهم قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) وقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) ، وكذلك قوله (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) .

إذن كان لهم سمع وكانت لهم قلوب وما أرادوا بهذا أنهم كانوا في حكم المجانين ليس لهم قلوب وليس لهم أسماع، لا، إنما لا يسمعون آيات الله كما قال جل وعلا عن الكفار (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) فلا يسمعونها سماع تلذذ أو تدبر، ولا سماع قبول لأجل العمل، لا هذا ولا ذاك، بل إعراض من جميع الجهات.

ص: 13

.. إذن هذا الميثاق – ميثاق عالم الذر - لا ينبغي أن يقول أحد نحن لا نعلم به فما فائدته؟!!!.

هذه الآثار الثلاثة المتقدمة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم أجمعين ورد ما يدل عليها ويقررها من حيث المعنى العام لا من حيث التصريح بأن الله أخرجنا من ظهور آبائنا ومن صلب أبينا آدم في عالم الذر، ومن هذه الأحاديث:

1-

ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله جل وعلا للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم رب، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي] . فالحديث فيه دلالة على أنه أخذ علينا العهد في ظهر أبينا آدم لكن كيف كان؟ هذا لم يفصله الحديث.

2-

وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج من ظهره ذرية فقال هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من خلقه الله للجنة فسيوفق لعمل أهل الجنة حتى يختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، ومن خلقه الله للنار فسيوفق لعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل النار فيدخل النار] ، فهذا الحديث فيه دلالة على أنه استخرجهم الله جل وعلا من صلب أبيهم آدم، فوقع هنا استخراج، والأحاديث المتقدمة دلت على أنه حصل استنطاق وإشهاد مع الاستخراج.

ص: 14

وهذا التقدير الأزلي ليس فيه شائبة إكراه ولا قسر ولا جبر إنما ربنا جل وعلا يعلم الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة ويعلم ما سيقع في كونه وفي ملكه، فكونه يعلم أن هذا سيختار الكفر أو أن هذا سيختار الإيمان ليس في هذا جبر ولا إكراه، فالله جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وليس حاله كحال المخلوقات لا نعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ولو قيل لنا فلان سيختم له على الإيمان أو الكفر؟ لقلنا لا ندري، ولو كان الله سبحانه وتعالى كحالنا لما كان إلهاً، سبحانه وتعالى وتنزه بل هو بكل شيء عليم يستوي في عمله ما وقع وما سيقع فالكل عنده سواء ولذلك العلم صفة انكشاف يعلم بها ربنا جل وعلا الأشياء على ما هي عليه وقعت أم لم تقع.

ولو أن فلاناً من الناس قبل أن يتزوج قيل لنا ماذا سيولد له؟ هل نعلم؟ لا طيب ولو تزوج واستقر الحمل في بطن زوجته بعد أربعة أشهر يمكن أن نعلمه أم لا؟ يمكن أن نعلم ما في بطن زوجته هل ذكر أم أنثى لأنه لا يحول بيننا وبينه إلا جلدة البطن، فلو علمنا ما في الرحم بواسطة الأشعة فهذا ليس علماً بغيب وليس مختصاً بالرب بل علمته الملائكة التي تبعث إلى الجنين وهو في الرحم، فليس هذا العلم من العلم بالغيب الذي اختص به الرب جل وعلا، فإذا علمه الأطباء وقبلهم الملائكة فلا حرج في ذلك، لكن قبل أن تنفخ فيه الروح وهو نطفة لو اجتمع أطباء الأرض ليعرفوه هل هو ذكر أم أنثى لن يستطيعوا.

ثم إن علم الأطباء هذا قاصر وجزئي، فإنهم لا يعلمون هل سيولد أعمى أم بصير، سميع أم أصم؟ ذكي أم بليد؟ طويل أم قصير؟ سمين أو ضعيف؟ سيقولون لك لا ندري، إذن لم يعلم الأطباء من الجنين إلا كونه ذكراً أو أنثى.

إذا علمت هذا علمت سخف من يزعم أن القرآن متناقض ويقول كيف يقول الله في كتابه (يعلم ما في الأرحام) ونحن قد علمنا؟!! سبحان الله الحمد لله على نعمة العقل.

ص: 15

.. الشاهد إخوتي الكرام

ليس في قول ربنا [هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون] إكراه أو جبر لأن الله يعلم الغيب والمستقبل كما يعلم الحاضر، فهؤلاء للجنة أي سيؤمنون ويدخلون الجنة وأنَّ الله أعلم ما سيقع في المستقبل، [وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون] فسيكفرون وأنَّ الله أعلم ما سيكون في المستقبل، فكلام الله جل وعلا هذا ليس من باب الإكراه وإلا لارتفع التكليف، ولذلك لما قال الصحابة ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فحسب ما يختار يكون الأمر.

إخوتي الكرام

لا يلتبس عليكم الأمر ولا بمقدار شعرة والشيطان يستغل مثل هذه الأحاديث ليلبس على الناس، عندنا للإنسان في هذه الحياة حالتان:

الحالة الأولي: هو فيها مكره، مجبور مقسور مسيّر لا اختيار له فيها ولا يستطيع أن يخرج عنها أبداً، فإذا وجدت هذه الحالة فلا ثواب ولا عقاب إلا إذا صدر منه رضاً أو كراهية نحو هذا الأمر الذي قُسِر عليه فيثاب أو يعاقب على العمل الذي صدر منه لا على ما وقع عليه قسراً

مثلاً: أنت خلقت ذكراً وتلك خلقت أنثى فهل لذكورتك فضل عند الله، وهل لأنوثتها نقص عند الله أو العكس؟ كلا، هذا غير حاصل لأن هذا (الذكورة والأنوثة) مما لا اختيار لواحد من الصنفين فيه، ولو كانت إحدى الصفتين باختيار الإنسان لربما قلنا في هذه مدح أو في هذه نقص، لكن ليس في هذه مدح ولا في هذه نقص (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) ، فلا ثواب على الذكور ولا عقاب على الأنوثة والعكس كذلك لا ثواب على الأنوثة ولا عقوبة على الذكورة، إنما يثاب الإنسان إن شكر الله على ذكورته أو أنوثته، ويعاقب إن كفر وسخط على ذلك وإن لم يحصل منه شكر ولا سخط فلا ثواب ولا عقاب.

ص: 16

والحالة الثانية: هو فيها: مختار، مريد، شاءٍ (له مشيئة) ، مخيّر، انتبهوا لهذا لإزالة هذا الإشكال الذي يستفعله أحياناً الشيطان يقول للإنسان: إذا كنت مكرهاً ومقسوراً إذن لا حرج عليك في أن تفعل ما شئت إن كنت من أهل الجنة فستدخلها، إن كنت من أهل النار فلا داعي لأن تهتم وتجد وتجتهد في العبادة ونحو ذلك من الوساوس، هذا كلام باطل بل أنت مخير ومريد فيما يريد الشيطان أن يثني عزمك عن فعله في كل ما كلفنا به فعلاً أو تركاً نحن مخيرون مريدون.

المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها لنا فيها اختيار أو نحن مجبورون مكرهون؟ بل لنا فيها اختيار قطعاً وجزماً، فليس صلاتي كذكورتي، لأن ذكورتي لا يمكن أن أغيرها وأما صلاتي فيمكن لي أن أصلي ويمكن أن لا أصلي، وليس إيماني كلوني أيضاً.

فالإيمان والصلاة هذا اختياري، فكل ما كُلفنا به وهو محل الثواب والعقاب فهذا لك فيه اختيار والفارق بين الحالتين كالفارق بين تحريك اليد اختياراً أو اضطراراً، فالمرتعش تتحرك يده بغير اختياره اضطراراً فهو مجبور ولا يستطيع أن يسكنها، فذكورتنا وأنوثتنا، طولنا وقصرنا، جمالنا ودمامتنا، طول أعمارنا وقصرها، هذا كله كحركة المرتعش، مجبور مقسور.

والأعمال الاختيارية التكليفية من أمر ونهي كالصلاة والصوم وترك الزنا والخمر، هذا كتحريك اليد باختيارك يمكنك تحريكها وتسكينها.

فانتبهوا رحمكم الله فهذه المسألة ليست من باب القسر والجبو فكل ميسر لما خلق له، فما علمه الله منه سيقع، فعلم الله من هذا أنه سيؤمن، ومن ذاك سيكفر لكن ليس هذا العلم فيه قسر للعباد ولا إكراه لهم.

س: هل الإنسان الذي خلق للجنة سيوفق لعمل أهل الجنة؟ والذي خلق للنار سيوفق لعمل أهل النار أرجو توضيح هذا.

ص: 17

جـ: لا شك عندنا أن الله جل وعلا منّ على المؤمن وخذل الكافر، فالتوفيق هذا شيء لا شك فيه. ولذلك المؤمن إذا عمل الطاعة فبجده واجتهاده أم بتوفيق الله له؟ بتوفيق الله له، وذاك عندما يعمل المعصية بحيله ومكره أم بخذلان الله له؟ بخذلان الله له هذا مما لا شك فيه يقول الله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) لكن هو لا يكره إلا من يستحق الكراهة كما قال الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)(وزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) ، فإذن ما عندنا شك في أن من وفق لطاعة فهذا بفضل الله وأن من عمل معصية هذا بخذلان الله له، لكن عندنا بعد ذلك ما يقرر على سبيل القطع أن الله حكيم، أقول – ولله المثل الأعلى – أنت لو عندك ولدان وهما من صلبك واحدٌ تكرمه، والآخر تهينه فهل تفعل هذا اعتباطاً وسفاهة أو لأنك ترى واحداً مطيعاً نجيباً، والآخر عاقاً شقياً، فبالنسبة لنا ظهر فعل اختياري هنا، أفلا يعلم الله معادن الناس؟ أفلا يعلم الله نحاسة ونجاسة معدن الكفار عندما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) أفلا يعلم نجاسة هذه المعادن وأنها بكيفية لا تقبل التطهير؟! ولذلك خذلها وامتهنها وأعرض عنها وجعلها في دار غضبه وسخطه.

ص: 18

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [نظر الله في قلوب العباد فرأى قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير القلوب وأتقاها فاختاره لرسالة، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب الصحابة خير القلوب وأتقاها فاختارهم (1)

(1) أي أن الله سبحانه وتعالى عندما اختار أبا بكر لصحبة نبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر الصحابة لم يخترهم اعتباطاً بل هو حكيم يضع الأمور في مواضعها، يعني هل يتصور أن يكون قلبنا أو قلب أحد من الصحابة كقلب أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة؟ هذا مستحيل، إذن قلوب طاهرة علم الله فيها هذا فجعل لها هذه المكانة وبعد ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم [لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوني على الحوض] فما معنى شر منه؟ يعني هل الأيام فيها شر وتتغير أو أهلها والناس الذين يعيشون فيها؟ بل الناس، وتأمل أحوال العالم منذ أن كان نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليوم خير يقل وشر يتزايد فإذن القلوب كلما تأخرت تدنست وتنجست وفسدت وخبثت هذا علمه الله من أحوال القلوب، فإذن هل تصلح مثل هذه القلوب لأن تكون في العصر الأول؟ الحمد لله مع شوقنا والله لرسولنا صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يخلقنا في ذلك الوقت لأنه لو خلقنا آنذاك لخذلنا نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن لسنا بأهل لأن نصحبه، وما عندنا شك في ذلك، ونسأل جل وعلا أن يكرمنا بجنات النعيم برؤيته ورؤية نبيه صلى الله عليه وسلم بفضله وكرمه، لكن هل نحن عندنا جد الصحابة وعزيمتهم واجتهادهم؟ هيهات هيهات..

ص: 19

لصحبة نبيه فاعرفوا لهم قدرهم] ، فأمر الرسالة أسند إلى من هو بكل شيء عليم فعندما اختار محمداً عليه الصلاة والسلام لحمل رسالته ليس الأمر اعتباطاً بل لأن (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فإذن هو عندما وضعها في ذلك المكان فهذا هو الجدير بها لكن يبقى الأمر من فضل الله عليه ولا شك في ذلك، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان)(فألهمها فجورها وتقواها)(هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي خلقكم كافراً ومؤمناً على أصح القولين في التفسير، وقيل: هو الذي خلقكم فانقسمتم إلى كافر ومؤمن، لكن هذا الانقسام لا يكون إلا على حسب التقدير الذي سبق عند الرحمن ويبقى الأمر كما قلت لا قسر فيه ولا إجبار، فهذا وفقه الله وذاك خذله لكن هل هذا فيه إكراه؟ لا، وكل واحد يميز هذا من نفسه عندما يريد أن يعصي ربه، فمثلاً عندما يريد أن يشرب الخمر سل عصاة أهل الأرض أجمعين هل جاء أحد وأخذك من بيتك إلى الفندق في الساعة الواحدة ليلاً وأضجعوك وفتحوا فمك وصبوا فيه الخمر دون رضاك؟ أم أن الواقع هو أنه ذهب باختياره ودفع الفلوس وسكر، وسل الزاني هل جاء أحد وأخذك من فراشك ودارَ بك على بيوت الناس حتى ألقاك على أنثى وأكرهك على عملية الزنا؟ أم أن الواقع أنك تراه يجوب الشوارع هنا وهناك من أجل أن يحصل على خبيثة مثله، فهل هذا إذن كان باختياره أو باضطراره؟ باختياره، يعني عندما قال الله جل وعلا (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) انظر لهذا الحافظ الذي جعله الله عندنا، فلما كانت العين تتعرض لرؤية ما لا يحل، جعل الله جل وعلا منع النظر في منتهى السهولة لئلا يقول إنسان كيف سأتصرف إذا عرض لي ما لا يحل لي النظر إليه، فقال الله لك لا يحتاج هذا منك إلى تصرف كبير لا دخول سرداب ولا دخول حجرة، الحل كله يتمثل في إطباق الجفن على الجفن (قل للمؤمنين يغضوا) ما معنى الغض؟ أن تطبق الجفن على الجفن.

ص: 20

.. ثم هذا اللسان الذي هو ثعبان وتراه يلدغ الحي والميت والكبير والصغير والحاضر والغائب جعل الله له أيضاً حافظاً هو الشفتان إذا ضممتهما لن تتكلم فتسلم، ولست مجبوراً على الكلام فلم يأت أحد ولن يأت ويحرك لسانك دون إرادة وقصد منك، وهذا لو حصل لو حصل فأنت تكون مجبوراً لأنك لا تريد الكلام ولكن غيرك يحرك لسانك ويتكلم وحينئذ يرفع التكليف عنك [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا أكرهنا لن يكلفنا ربنا، لن يبقى من اهتدى منا فبفضل الله، ومن شقي فبعدل الله والله خذله ووكله إلى نفسه لكن ذلك التوفيق بسبب أنه معدن طيب، وهذا الخذلان بسبب أنه معدن نحس، ولذلك قال الله (فلما آسفونا انتقمنا منهم) ما معنى الأسف هنا؟ شدة الغضب أي لما أغضبونا غضباً شديداً بسبب ما قاموا به من أعمال خبيثة انتقمنا منهم، إذن هم أغضبوا الله وآسفوه فحل عليهم مقته وغضبه ولعنته وسخطه، والذي يقرر هذا كما قلنا أن من يموت قبل التكليف أو قبل البلوغ أو قبل بلوغه الدعوة وإذا لم يكن عنده عقل، فالقلم مرفوع عنه، فإن كان من أولاد المؤمنين تفضل الله عليه بأن يكون من أهل الجنة، وإن كان من أولاد الكافرين فنقول هنا سيظهر العدل الإلهي، سيمتحنه الله في عرصات الموقف، فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار.

قد يقول قائل: لِمَ لم يجعل الله ابن الكافر كابن المؤمن؟

ص: 21

نقول: الزم حدك، هذا فضل ولصاحب الفضل أن يعطيه لمن يشاء لكن لا يجوز له أن يظلم ويجور، فمثلا ً: لو كان عندك ألف دينار فلك حرية التصرف في أن تعطيها لأي أحد فلو أعطيتها لخالد مثلاً فهل يحق لي أن أقول لك أنت ظلمتني لأنك أعطيت خالداً ولم تعطني؟ لا يحق فتقول أنت: هذا فضل، وهو مالي وحقي أعطيه لمن أشاء ما دمت لم أظلمك ولم أعتد على مالك ولم آخذ منك شيئاً، وهنا كذلك الله سبحانه وتعالى ما جار على ابن الكافر وكونه رحم أولاد المؤمنين هذا فضله يعطيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا يجوز عليه الظلم (ولا يظلم ربك أحداً)[إني حرمت الظلم على نفسي] ، هذا حال الرب جل وعلا.

إذن هذا حديث عمر رضي الله فيه دلالة عامة على أن العباد أخرجوا من صلب أبيهم في عالم الذر، وهذا الحديث الثاني.

ص: 22

3-

روى الإمام الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه والبهيقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كُلُّ نسمة من ظهره كائنة إلى يوم القيامة وجعل جل وعلا بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور (1) ثم عرضهم على آدم عليه السلام فقال من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك إلى قيام الساعة، فرأى فيهم إنساناً أعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أَيْ رَبِّ، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال كم عمره؟ فقال الله له: ستون عاماً، قال: زده يا رب أربعين، فقال الله جل وعلا: لا أزيده إلا أن تزيده من عمرك (2) ، فقال: قبلت يا رب أعطه من عمري أربعين سنة، فلما جاء ملك الموت إلى آدم قبل الألف بأربعين سنة ليقبض روحه، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، فقال له ملك الموت إنك وهبتها لابنك داود، فقال ما وهبته شيئاً ما وهبته شيئاً، فذهب وعاد إلى ربه وأخبره بذلك فأمر الله ملك الموت أن يزيد في عمر آدم أربعين سنة، وأن لا ينقص هذه الأربعين من عمر داود، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته وخَطئ آدم فخطئت ذريته] وإسناده صحيح، ارتكب الخطيئة وذريته تخطئ، نسي ولم نجد له عزماً وذريته تنسى.

فإن نسيت عهوداً منك سالفة

فاغفر فأول ناس ٍ أول الناسجج

ولعل جحود آدم – والعلم عند الله – سببه نسيان ولا يستبعد أنه بعد أن مر عليه تسعمائة وستون سنة أن ينسى العهد الذي أعطاه على نفسه، أو أن هذا الجحود من باب التدلل على الرب المعبود جل وعلا أي كأنه يقول: يا رب ينقص من ملكك إن تركت الأربعين لي كما كانت وزدت عبدك وداود أربعين من فضلك فحقق الله الأمرين.

(1) أي شيئاً من نور وضوءاً من نور.

(2)

وكان عمر آدم الذي قدره الله ألف سنة، وتقدم معنا أن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا.

ص: 23

الشاهد: أنه مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة فهذه الأحاديث تشهد في الجملة للأحاديث الثلاثة المتقدمة الحديثان المرفوعان وحديث أُبيّ الموقوف.

وكما قلت لكم عن الذي حصل في عالم الذر هو إخراج للأرواح مع الصور (الأجساد) ، استخرجها الله من موادها بكيفية يعلمها ولا نعلمها ثم بعد أن أشهدها أعادها إلى موادها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما ما قاله ابن حزم من أن الخلق في عالم الذر كان للأرواح فقط، وذلك يقول خلقت الروح قبل الجسد فأشهدها الله ثم وضعها في مكان عنده سبحانه وتعالى فإذا خلق الجسد جاءت روح كل إنسان إلى بدنه فدخلت فيه، فقوله هذا لا تدل عليه الآثار المتقدمة، إنما ما ذكرته لكم هو الذي حصل وإذا ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فنؤمن به دون أن تحيط عقولنا بكيفيته، فعقولنا أعجز من ذلك، وإذا كانت الروح التي بين جنبينا نحن عاجزون عن إدراك ماهيتها وحقيقتها أو أي صفة من صفاتها (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فكيف سندرك بعد ذلك ما هو مغيب عنا مما يدهش العقول ويحير الألباب (إشهاد الذرية) ، وتقدمت معنا قاعدة (كل ممكن رود به السمع يجب الإيمان به)(آمنا به كل من عند ربنا) .

3-

الميثاق الثالث: ميثاق الفطرة:

وهو الميثاق المتوسط بين ميثاق عالم الذر وميثاق إرسال الرسل ويراد بالفطرة: ما ركزه الله في طبيعة الإنسان وجِبِلّتِه من الإقرار بربوبية الله جل وعلا وألوهيته، وأنه وحده لا شريك له يستحق منا العبادة سبحانه وتعالى.

وهذا الدليل أعني الاستدلال بالفطرة من الأدلة المعتبرة عند أئمتنا الكرام وقد قرر أئمتنا الكرام أن الأدلة التي يستدل بها دليلان:

الأول: سلفي شرعي وله نوعان والثاني:

خلفي بدعي وله نوعان، فالمجموع أربعة أنواع:

أما السلفي الشرعي، فالنوع الأول منه: النصوص الشرعية من كتاب وسنة، أما الكتاب:

ص: 24

أ) قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) ، فالله خلقهم وفطرهم بصورة يقرون بأن الله ربهم ومالكهم وخالقهم.

ب) وقال الله جل وعلا في كتابه مبيناً استدلال الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام على أقوامهم بدليل الفطرة: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى) وقبلها حكى الله عن الأقوام أنهم قالوا: (إنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) فقالت لهم رسلهم أفي الله شك، فلم يجبهم الأقوام عن هذا ولم يذكر الله جوابهم لأنه معلوم ضرورة أن ليس في الله شك وهو الذي خلقنا وخلق كل شيء.

جـ) وقال جل وعلا في سورة النمل آية 51 وما بعدها (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا ًوجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) .)

ص: 25

أذن فاستدل الله عليهم بما ركزه في فطرهم أإله مع الله

، واستدل عليهم بما يُسلّمون به. وهو الإقرار بوجود الله جل وعلا وأنه خالق كل شيء علي ما يخالفون فيه وهو إفراده بالعبودية. فهم يقولون الله موجود لكن ينبغي أن نجعل بيننا وبينه وسائط وشفعاء فنقول لهم: اطرحوا الشفعاء، فهذا الموجود هو الذي يُقصد ويُعبد ولا يجوز أن تلجأوا إلى غيره، ولذلك قال أئمتنا توحيد الربوبية باب إلى توحيد الألوهية، فأنت إذا أقررت بأن الله ربك وسيدك، ومالكك ويتصرف في أمرك فيجب عليك أن تعبده وأن توحده وأن تفرده بالعبادة سبحانه وتعالى.

ص: 26

إذن هذا دليل الفطرة المستقيمة وهو أن الله فطرنا على الإقرار بوجوده، ويترتب على هذه فطرة ثانية وهي وجوب تعظيمه لأن العقل يقول: إذا كان الله خالقنا وخالق كل شيء فيجب أن يعبد وأن لا نصرف العبادة لما سواه سبحانه وتعالى، وقد قرر الله هذا المعنى في آيات كثيرة من كتابه فأخبرنا الله في قرآنه أننا فقراء وهو الغني، وهذا مما يقرر دليل الفطرة الذي فينا فكل واحد يلحظ هذا من نفسه بأنه فقير لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره ويلحظ أن الذي يملك أمره وأمر العالمين هو رب العالمين قال تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الفقر وهذا خلاف ما يقوله الفلاسفة والمتكلمون يقولون العلة في احتياج العالم هي الحدوث أي كون العالم حادث والحادث لابد له من محدث وموجد، ويقولون العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الإمكان أي ممكن الوجود ليس بواجب الوجود، وهذا كلام باطل نقول الإمكان والحدوث علامتان على الفقر وليستا بعلة لاحتياج العالم إلى الله، فالفقر ممكن الوجود، فالإمكان في هذا علامة فقره لأن يمكن أن يوجد ويمكن أن يُقدم والذي رجح أحد الضدين هو الله جل وعلا والحدوث علامة فقر لأنه لا يمكن أن يوجد إلا بحادث وموجد وهو الله رب العالمين.

ولذلك أخص وصف في المخلوق أنه فقير وأخص وصف في الخالق أنه غني ويوجد للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله قصيدة من (11) بيتاً تتعلق في بيان حقيقة الخالق والمخلوق وقد ذكرها تلميذه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين (1/520، 521 – ط دار الكتاب العربي) يقول الإمام ابن القيم: "وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهره أبيات بخطه من نظمه:

أنا الفقير إلى رب البريات

أن المسكين في مجموع حالاتي

ص: 27

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة

ولا عن النفس لي رفع المضرّات

وليس لي دونه مولىً يدبرني

ولا شفيع إذا أحاطت خطيئاتي

إلا بإذن من الرحمن خالقنا

إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ

ولست أملك شيئاً دونه أبداً

ولا شريك أنا في بعض ذراتي

ولا ظهير له، كي يستعين به

كما يكون لأرباب الولايات

والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبداً

كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم

وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلباً من غير خالقه

فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله مِلء الكون أجمعه

ما كان منه وما من بعد قد ياتي

وأما السنة فقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام الفطرة المستقيمة في أحاديثه الكثيرة:

ص: 28

أ- ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [كل مولود يولد على الفطرة] أي على الإسلام الحق وعلى الدين الحنيف [فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) كما تُنْتَج (2) البهيمة جمعاء (3) هل تحسون فيها من جدعاء (4) ] أي هي تولد سليمة الأطراف لكن صاحبها هو الذي يغيرها، وهكذا بالنسبة للناس في صغرهم فطرهم الله على الحنيفية السمحة، لكن من الذي غيّر من تغير منهم؟ آباؤهم أو أمهاتهم أو مجتمعهم وغيرهم ولذلك ثبت في كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 192) بسند ضعيف – لكن هذا الحديث يشهد له – عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مغيِّر الخُلُق كمغّير الخَلْق] ، أي مغير الأخلاق الطيبة إلى خبيثة ومغير الإسلام إلى عصيان وشرك بالرحمن كمغير الخلق أي كما لو غير بعض أطراف المولود، أو لو أن المرأة بدلت خلقتها وصورتها وهكذا الرجل بالنمص (ترقيق الحواجب أو إزالتها) أو بالوشم، أو حلق اللحية بالنسبة للرجل أو قص الشعر من الرأس بالكلية بالنسبة للمرأة فهذا كله من تغيير خلق الله.

(1) كان بعض شيوخنا إذا روى الحديث يقول [أو يرذلانه] أي إذا كان أبواه مسلمين رذيلين بالفساد والفجور فسيرذلانه، وأول الفساد الآن جهاز التلفاز جهاز الشيطان فاتقوا الله، وحذار حذار أن ترذلوا أولادكم.

(2)

أي توجد وتخلق.

(3)

جمعاء: أي كاملة الخلق سليمة الأطراف.

(4)

جدعاء: أي مقطوعة الأنف والأذن أو مشقوقة ونحو ذلك من التشويه.

ص: 29

.. إخوتي الكرام

والمراد بالفطرة في الحديث دين الإسلام والحنيفية السمحة، وقد قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) ويسمى (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) في مائتي صفحة متتابعة بأن المراد من الفطرة هي الإسلام، فانظروا بحثه المحكم الرشيد فيه (8/370) وما بعدها، والحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري (3/248) نقل عن عامة السلف أن المراد من الفطرة الإسلام، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله ختم كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل) بهذه المسألة، فانظروا الكتاب من صـ283 إلى آخر الكتاب صـ307 وهذا الكتاب (شفاء العليل) هو أحسن ما كتب في قدر الله جل وعلا.

ب- وأشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذه الفطرة المستقيمة أيضاً في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: [ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال (1) نحلته عبداً حلالاً، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (2) عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً، وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء....] إلخ الحديث، ومعنى حنفاء أي مائلين عن الشرك إلى الهدى مستقيمين مهتدين على الفطرة.

(1) ؟؟؟؟؟ عذراً الحاشية غير واضحة في التصوير.

(2)

الحاشية غير واضحة في التصوير.

ص: 30

ج- ويكفي دليلاً على الفطرة ما ثبت في الصحيحين [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية أين الله، فقالت في السماء.....] الحديث. وأما النوع الثاني من الدليل السلفي الشرعي فهو الفطرة المستقيمة، فإن في النفس فطرة توجب عليه الإيمان بأن الله ربنا وخالقنا ورازقنا ومدبرنا فهي فطرة توصل إلى التوحيد لو لم تغير.

ولذلك عندما جلس أبو المعالي إمام الحرمين غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه وهذيانه جلس يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال: كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان أي ليس فوق عرشه على سمواته، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب يا الله إلا طلب المعونة فمن فوقه، فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا، فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني.

أي حيره في الجواب، لأن الأدلة الكلامية يمكن التلاعب بها والتصرف فيها وتأويلها لكن هذه الضرورة في النفس ماذا سيقول عنها؟ وبماذا سيفسر هذا الالتجاء من الإنسان حيث يلجأ إلى فوق ولا يلجأ إلى يميناً ولا يساراً ولا تحتاً؟!! إن هذا الشعور وهذه الضرورة هي الفطرة التي فطر الله عباده عليها (مناقشة الشيخ الطحان لآراء الدكتور البوطي حول العلو لما جاء إلى دبي وألقى محاضرة في ذلك) .

وكل نص من كتاب أو سنة مما سبق ذكره هو من حيث وروده هو دليل على الفطرة من النصوص الشرعية، وهو من حيث دلالته هو دليل على ميثاق الفطرة من الفطرة.

2-

وأما الدليل الخلفي البدعي فالنوع الأول منه:

دليل العقل المتعمق المتكلف فيه من جوهر وحيز وعرض وغيرها من الاصطلاحات التي نعتها المتكلمون وعكفوا عليها كما عكف المشركون على الأصنام.

ص: 31

.. وهذا كما هو عند المتكلمين فهو عند الفلاسفة ولم يوصلهم هذا إلا إلى متاهات عندما عولوا على العقل وتركوا النقل، وتقدم معنا أن العقل مع النقل كالعين مع الشمس، فمن أراد أن ينظر بدون شمس ونور لا يرى، ومن أراد أن يفكر بدون وحي لا يهتدي.

والنوع الثاني منه:

دليل الكشف، الذي ابتدعه الصوفية، يقول: ألقي في روعيَ كذا، ووقع في قلبي كذا، وحَدثت بكذا حدثني قلبي عن ربي، وما شاكل هذا، كما كان ابن عربي الصوفي صاحب الضلالات يقول حديث [كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني] يقول هذا الحديث لم يثبت عند المحدثين عن طريق الإسناد لكن ثبت عن طريق الكشف.

وقد كان شيوخ التصوف الصالحين الصادقين يحذرون من هذا الدليل، فكانوا يقولون: دوروا مع الشرع حيث دار لامع الكشف، فإنه يخطئ، وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله يقول:"إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة" أي إذا وقع في قلبي معنىً من المعاني، واستنباط ومن الاستنباطات عن طريق الكشف والفتح والإلهام فإني لا أجزم بثبوت هذا حتى أتحقق من ذلك بشاهدين عدلين هما القرآن والسنة هل يشهدا بصحة ما وقع في قلبي أم لا؟ ولذلك قال أئمتنا:

وينبذ الإلهام بالعراء

أعني به إلهام الأولياء

وقد رآه بعض من تصوفا

وعصمة الباري توجب اقتفا

أي لا يستدل بالإلهام بل ينبذ فهو من الأدلة البدعية، وبعض الصوفية رأوا الإلهام والكشف دليلاً شرعياً معتبراً يُقدم على النصوص الشرعية، لكن عصمة الباري للأنبياء توجب أن نقتفي أثرهم وأن نتبعهم؛ لأن وحيهم وإلهامهم معصوم وأما إلهام الأولياء فليس بمعصوم.

هذه هي مواثيق ثلاثة أخذت علينا أو خذاً ما أخذ علينا في عالم الذر يليه ما ركز في فطرنا يليه إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد.

ص: 32

.. والميثاق الأخير (الذي جعلناه أولاً – إرسال الرسل) لم يذكره عندما شارح الطحاوي وهو في الحقيقة أقوى المواثيق وأعظمها وأبلغ الحجج، وهو مناط التكليف ولا يحصل تكليف إلا به، ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة النحل آية 89:(ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة للمسلمين) ومثل هذا في سورة النساء آية 41 (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) .

الشاهد في الآيتين أن أعظم المواثيق إرسال الرسل فالله جل وعلا يقول للأمم ألم أرسل لكم رسلاً؟ فيكذبون ويجحدون ذلك، فيأتي برسلهم ويقولون: يا رب بلغنا دعوة الله فيقول الله للرسل السابقين من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد بأننا بلغنا أقوامنا، فيستشهد الله هذه الأمة فيشهدون، فيقول الله: كيف تشهدون وأنتم لم تروا ذلك؟ فيقولون: بعثت إلينا رسولاً فأخبرنا بذلك وأنزلت علينا ذلك في كتابك بأن نوحاً وغيره من الأنبياء بلغوا دعوتك إلى أقوامهم وهذا هو معنى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) ثم يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام على شهادة هذه الأمة ثم بعد ذلك يعاقب الله المكذبين من الأمم السابقين الذين جحدوا إرسال الرسل إليهم، وهذا الجحود منهم يحصل في الموقف قبل أن يقضى بالناس إلى الجنة أو النار، يطنون أن هذا الجحود ينفعهم.

وقول الله سبحانه وتعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى

) الآية، نتحدث عن ميثاقين اثنين:

1-

ميثاق عالم الذر.

2-

ميثاق الفطرة.

ص: 33

فلاهما مراد بالآية هذا القول الصحيح وقد خالف هذا بعض أئمة الإسلام – وسيأتي ذكرهم – وقالوا: الآية لا تشمل إلا ميثاق الفطرة وسأذكر شبهتهم فيما بعد وأدحضها إن شاء الله تعالى، وأما ميثاق عالم الذر – لم تثبت به الأحاديث؟؟؟؟؟؟ يقولون لكن ثبت موقوفاً ووهم بعض الرواة في رفعه وقد تقدم معنا إن زيادة الثقة مقبولة وهذا لا يدعونا إلى أن نرد الرواية المرفوعة لأن بعض الرواة وقفها وبعضهم رفعها ولو سلمنا بوقفه فله حكم الرفع ومحاولة هؤلاء الأئمة على جلالتهم وتقربنا إلى الله بحبهم محاولة ضعيفة في غير محلها.

والقول بأن الآية تشمل ميثاق عالم الذر لا ينفي أنه ركز الله في فطرتنا، لكن القول بقصر الآية على ميثاق الفطرة فإنه ينفي بذلك ميثاق عالم الذر.

فعلى القول بأن الآية تشمل ميثاق الذر يكون معنى الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى

) أي قالوا بلى بلسان مقالهم.

ص: 34

.. وعلى القول بأن الآية لا تشمل ميثاق عالم الذر يكون معنى الآية، قالوا بلى بلسان حالهم أي حالهم يدل على أنهم مربوبون مخلوقون لخالقهم الحي القيوم، هذا كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت

) فالجمال والسماء هذه لو لم تنطق وتقل الله خلقني والسماء تقول الله رفعني لو لم تقل هذا بلسانها بصوت نسمعه لكان حالها يدل على هذا، وكذلك الإنسان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فحالك يا إنسان يدل على الحي القيوم ولو لم تنطق وكل إنسان – مهما كفر وطغى وتجبر – حاله تشهد بذلك بأنه فقير إلى غني وأنه مخلوق لخالق ضعيف لقوي، ولذلك قال موسى لفرعون (لقد عملت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر..) أي أنت تعلم يا فرعون أني رسول من رب العالمين، وإن هذه الآيات والدلائل لم ينزلها ولم يعطني إياها إلا رب العالمين، فإذن شهادتك بحالك ثابتة لكن لسانك لم ينطق بهذا، وكذلك هو حال العالم كله يدل على أن الله خالقه وهذا بدلالة الحال لا بدلالة المقال، هذا كقول العربي:

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلاً رويداً قد ملأت بطني

فهنا (قال) بحاله فالحوض امتلأ ولم يعد يمسك ماءً وإذا صببت فيه نزل فحاله هذه كأنه يقول لك لا تصب في الماء.

إذن فحال المخلوقات بأسرها تدل على أنها فقيرة إلى ربها، ولا يوجد أحد من خلقه مستغن ٍ عنه:

الله قل وذر الوجود وما حوى

إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققتهم

عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها

لولاه في محوٍ وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده لولاه عين محال

والعارفون بربهم لم يشهدوا

شيئاً سوى المتكبر المتعالي

ورأوا سواهم على الحقيقة هالكاً

في الحال والماضي والاستقبال

فقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) أي هالك في الحال والماضي والاستقبال، من مضى هلك ومن هو موجود سيهلك ومن سيأتي سيهلك.

س: هل الحال تعتبر شهادة أو لابد ومن نطق اللسان؟

ص: 35

جـ: إنسان يقر بقلبه أنه مقهور مجبور فقير لخالق جليل فهذه شهادة وإن نفاها بلسانه، وإذا جحد بلسانه، فشهادة القلب ثابتة، ولهذا أمثلة:

1-

كقوله تعالى في سورة التوبة (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي مقرين على أنفسهم بالكفر بحالهم، فلا يشترط أن يقول الكافر: أنا كافر، بل حاله يدل على أنه كافر.

2-

كقوله تعالى (أنه على ذلك لشهيد) فعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الإنسان فالتقدير: أن الإنسان لشهيد على كنوده وجحوده كيف هذا الشهود؟ بأنه مغمور بنعم الله فلا يشكر الله وهذا جحود ولا يشترط أن يقول عن نفسه: أنا جاحد، فإذن هذه شهادة من الإنسان على نفسه بالحال لا بالمقال. وهو محل الشاهد.

وعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الله سبحانه وتعالى فالتقدير وأن الله لشهيد على كنود الإنسان وجحوده ولا تخفى عليه خافية. وكلا المعنيين والتقديرين ثابت. فالإنسان يشهد على جحوده بحاله والله يشهد عليه بعلمه فلا تخفى عليه خافية من أمور العباد

3-

وكقوله هنا معنا في الآية (أشهدهم) أي بحالهم على أن الآية تشمل ميثاق الفطرة فقط، أي ركز هذا في فطرهم وعلموه وثبت عندهم بعد أن خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض جيلاً بعد جيل.

إذن هذا هو المعنى على أنه ميثاق الفطرة فقط وعلى أنه ميثاق عالم الذر تشمل الآية أيضاً فالمعنى مسح ظهر آدم وأخرج من صلبه كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً، فهنا – ميثاق الفطرة – أشهدهم على أنفسهم بما ركزه في فطرهم وهناك أشهدهم على أنفسهم وكلمهم مقابلة بلا حاجز ولا واسطة هنا جعل هذا في فطرهم أنهم يقررون بربهم، وهناك قالوا بلى بلسانهم وهنا قالوا بلى بحالهم وهذا هو معنى الآية على القولين وكل منهما تشمله الآية، وهذا هو المعتمد في تفسيرها.

ص: 36

وقد ذكر هذا عدد من المفسرين من جملتهم الإمام القرطبي والإمام ابن الجوزي في زاد المسير والإمام الألوسي في روح المعاني وغيره. (الآية تشمل الميثاقين) .

? واقتصر كثير من المفسرين على الميثاق الأول وحملوا الآية عليه وهو الذي حصل في عالم الذر فقط، منهم الإمام الثعلبي والإمام البغوي في معالم التنزيل.

? وقد ذهب بعض أئمة الإسلام ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن كثير والإمام ابن القيم وشارح الطحاوية ابن أبي العز إلى أن آية الأعراف لا تشمل إلا ميثاق الفطرة، ورجحوا حمل الآية عليه.

وقولهم – كما قلت لكم – مردود ومن جملة من رد عليهم شيخنا المبارك الشيخ الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان (2/336) ، والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد وبين أن الآية تشمل الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر والقول به لا يتنافر مع الميثاق الثاني (ميثاق الفطرة) بخلاف الاقتصار على الميثاق الثاني بإن بالقول به إلغاء للميثاق الأول.

وأما ما احتج به الإمام ابن كثير وابن أبي العز – وهو موجود عندكم في شرح الطحاوية – فمردود منقوض لا حجة فيه ولا دلالة على أن المراد من الميثاق ميثاق الفطرة فقط.

وهذه الحجج التي ذكروها وهي (عشر حجج) أولوا بها الآية وأن المراد منها ميثاق الفطرة فقط لو لم يذكرها صاحب الكتاب ابن أبي العز لأعرضت عنها صفحاً فحقيقة لا فائدة منها، لكن بما أنها مذكورة أذكرها على سبيل الإيجاز وأنقضها إن شاء الله، وهذه الحجج موجودة في كتاب الروح لابن القيم أيضاً من ص ـ167 إلى صـ168.

حجة من قال بأن الآية يراد بها ميثاق الفطرة فقط: (عشر حجج)

1) الحجة الأولى: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من بني آدم) ولم يقل من آدم، فإذن هو جعلهم خلائف في الأرض ولم يخرجهم من صلب أبيهم آدم في عالم الذر.

ص: 37

والجواب عن هذا: لا عبرة بهذا القول ولا يعترف به على ما قلناه لأن ذكر آدم معلوم في؟؟؟؟؟؟؟ (آدم) أخرج الذ رية منهم وأخرج الذرية التى يستخرج من تلك الظهور إلى يوم القيامة فهي ليست من صلب آدم فقط بل هي من ظهر كل من سيخلق. فذكر الآباء لأن ذكر الأب معلوم وهؤلاء الأبناء لا يكونون إلا بعد وجود أبيهم.

2) الحجة الثانية قالوا: قال (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره.

والجواب عن هذا: كالجواب عن الحجة الأولى، فأخذ العهد من الفرع مستلزم لأن يخرج ذلك الفرع من الأصل، فذلك الفرع لا يكون إلا بعد وجود الأصل.

3) الحجة الثالثة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من ذريتهم) ولم يقل من ذريته.

والجواب عن هذا: كالجوابين المتقدمين، فبما أن هذه الذرية أخرجت من صلب آدم وهم بنوه فما يشملهم يشمله ولم يذكر هو لأنه معلوم، فلا يمكن أن توجد هذه الذرية إلا بواسطة وجود الأصل وهو آدم فأضيفت الذرية إلى الفرع الذي أخذت منه كما تضاف إلى الأصل الذي خرجت منه، ولذلك ورد في الحديث إضافتها إلى ظهر أبيهم، وفي الآية إضافتها إلى ظهور آبائها.

4) الحجة الرابعة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (وأشهدهم) فهذا دليل على أن المراد من هذه الشهادة ما ركز في فطرهم لا أنهم شهدوا بألسنتهم، لأن معنى أشهدهم جعلهم شاهدين ولابد لحصول تلك الشهادة من كون الشاهد ذاكراً لشهادته وهم في هذه الحياة لا يذكرون الشهادة التي صدرت منهم في عالم الذر بل يذكرون الشهادة التي ركزت في فطرهم.

والجواب عن هذا: أن الشهادة التي حصلت منهم في عالم الذر يدل على أنهم شهدوا في ذلك الوقت على أنفسهم وتحققت الشهادة منهم وعلموا بها ثم ذكرهم الرسل بها في هذه الحياة فكأنهم علموها في هذه الحياة وكأنها ركزت في فطرهم، فصار كأنه أمر علمناه في هذه الحياة ونحن نشهده ونحن نذكره ونحن نستحضره عندما أعلمنا بها الرسل.

ص: 38

5) الحجة الخامسة: قالوا: الحكمة من الإشهاد إقامة الحجة على العباد والحجة لا تقام عليهم إلا بالفطرة وبإرسال الرسل وأما ما وقع في عالم الذر فهذا لا تقوم الحجة به على أحد.

والجواب عن هذا: إذا أخبرنا الرسل الكرام عليه الصلاة والسلام بتلك الشهادة فقط فقد أقيمت الحجة علينا بذلك.

6) الحجة السادسة: المقصود من أخذ الميثاق عليهم (ميثاق الفطرة) تذكيرهم بهذا الميثاق لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) وهم لا يذكرون إلا ميثاق الفطرة فلم يغفلوا عنه طرفة عين وأما الميثاق في عالم الذر هم في غفلة عنه ولا يعلمونه.

والجواب عن هذا: بعد أن يعلموه صار له من المكانة كميثاق الفطرة بل ما هو أشد من ذلك.

قال الإمام القرطبي: ومثال هذا مثال من طلق زوجته ثم نسي وغفل عن طلاقه فإذا قامت عليه البينة لشهادة شاهدين على أنه طلق، فإنه يثبت عليه الطلاق مع أنه في غفلة عنه.

وهنا شهدنا ثم غفلنا عن تلك الشهادة ونسيناها فذكرنا بها الرسل فصار لها من الثبوت والمنزلة كثبوت دليل الفطرة ومنزلته بل ما هو أشد من ذلك.

7) الحجة السابعة: قالوا: إن الله جل وعلا ذكر حكمتين اثنتين لذلك الميثاق أولها: لئلا يقول الناس إنا كنا في غفلة عن هذا، والثانية لئلا يقولوا إننا قلدنا آباءنا وما عندنا ما يردعنا ويبين الحق لنا، وهاتان الحكمتان لا تحصلان إلا بعد دليلين معتبرين وحجتين عظيمتين: إرسال الرسل والفطرة، فالفطرة لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه، وبإرسال الرسل لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه وبهما أيضاً لا يجوز أن يقلد آباءه على الضلال والشرك.

ص: 39

والجواب عن هذا: هذا الاعتراض الذي ذكرتموه منقوض في حق دليل الفطرة فهل يعاقب الله عباده إذا كانوا في غفلة عن عبادته، ولم يوحدوه وقلدوا آباءهم في شركهم وضلالهم إذا لم يرسل لهم رسولاً؟ لا، إذن فالفطرة وحدها ليست كافية وهكذا نقول أيضاً إن ميثاق عالم الذر ليس بكافٍ وحده لإقامة الحجة بل لابد من إرسال رسول وقلت لكم هذا هو مناط التكليف، فإذن فميثاق الفطرة وحده لا تثبت به حجة وكذلك ميثاق عالم الذر لا تثبت به وحده حجه وعليه فهما متساويان فكيف تحملون الحكمة من الإشهاد على دليل الفطرة دون دليل وميثاق عالم الذر.

8) الحجة الثامنة: قالوا: إن الله جل وعلا لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار ولا يحصل قطع عذر العباد إلا بدليل الفطرة وإرسال الرسل ولذلك يقول الله جل وعلا مشيراً إلى نفي عذر الناس وأنه أخذ عليهم الميثاق لئلا يتعللوا ويتعذروا (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي كيف تهلكنا ونحن لم تقم علينا الحجة.

والجواب عن هذا: كالجواب عن الذي قبله تماماً فالحجة لا تثبت على الناس بميثاق الفطرة فقط ولا تثبت عليهم بميثاق عالم الذر، فالإعذار لا يقطع إلا بإرسال الرسل فعلام أنتم حملتم هذا الميثاق في الآية على ميثاق الفطرة فقط وهذا لا يقطع عذر العباد، (قلت: ز- والحجة السابعة والثامنة والله أعلم – كأنها ناشئة من توهم أننا نرى أن ميثاق عالم الذر تحصل به الحكمتان ويحصل به الإعذار ونحن لا نقول بهذا على الإطلاق، فإن الظاهر من ميثاق احتجاجهم علينا أنهم يقصرون الحكمتين والإعذار على ميثاق الفطرة وإرسال الرسل فقط ويقولون لنا ميثاق عالم الذر لا يحصل به شيء من هذه الأمور الثلاثة (الحكمتين والإعذار) !! فكان الجواب كما ذكر شيخنا حفظه الله أن هذه الأمور الثلاثة إنما تثبت في حق ميثاق واحد هو ميثاق إرسال الرسل، ولا تثبت في حق ميثاق الفطرة كما زعمتم، ولا تثبت في حق ميثاق عالم الذر كما نقول نحن والله أعلم) .

ص: 40

9) الحجة التاسعة: قالوا إن الله أشهد كل واحد على نفسه واحتج عليهم بتلك الشهادة وهذه الشهادة التي يحتج بها عليهم هي ما ركز في فطرهم، ولذلك قال الله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) .

والجواب عن هذا: نقول وكذلك الشهادة التي شهدوا بها في عالم الذر يحتج بها ربنا علينا فقال في هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)، فإن قيل: إن كثيراً من الناس لا يستحضرونها، أو كل الناس لا يعلمونها، نقول: إذا أعلمهم الرسل بها فصارت كما لو علموها كدليل الفطرة كما تقدم معنا.

10) الحجة العاشرة: قالوا: إن الله جل وعلا بعد أن ذكر هذا الميثاق قال: (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) والآيات جمع آية والآية هي الدلالة الواضحة البينة التي لا يختلف عنها مدلولها، ودليل الفطرة لا يختلف عنها مدلوله. وهو الإقرار بأن الله ربهم وخالقهم.

والجواب عن هذا: كم من إنسان يقر بفطرته بأن الله خلقه لكنه يجحده؟ فإذن لا يلزم من الإقرار الفطري أن يعبده ولا يلزم من الإقرار في عالم الذر أن يعبده وعليه فهذه الحجج كلها لا تقوم ولا تنهض، بل هي مجرد تكلف في أن المراد من الآية ميثاق الفطرة لا ميثاق عالم الذر.

المواثيق الثلاثة وحجج الله على عباده التي أقامها عليهم انتهينا منها وعندنا تعليق يسير على هذا المبحث.

الميثاق الفطري لا ينكره أحد فهذا موجود في الفطرة هو غريزة من الغرائز الموجودة في الإنسان، فالعباد فيهم غرائز يقومون بموجبها لأفعال في هذه الحياة منها غريزة التدين أو غريزة الجنس أو غريزة حب التملك، لذلك فالغريزة أصوات إلهية تقود المخلوقات بأسرها إلى إيجاد ما جعله الله فيها (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .

ص: 41

فمثلا ً سواء وردت شريعة بحل النكاح أو لم ترد سيحصل اتصال بين الذكور والإناث لأن هذه غريزة جعلها الله في قلوب الناس فالأنثى عندها غريزة لا تهنأ إلا إذا صارت أماً والرجل لا يهنأ إلا إذا صار أباً ولذلك إذا تزوج ولم يأته أولاد تراه يبحث عن أطباء الأرض من أجل إنجاب ذرية.

فإذن هذه (الجنس) غريزة تقود المخلوقات فترى الناس يسعون لتنفيذها لكن المؤمن هنا يتميز عن الكافر أو الفاسق، فالمؤمن يقوم بإشباع هذه الغريزة على حسب هدي الشرع فيثاب عليها [وفي بضع أحدكم صدقة] وأن الكافر أو الفاسق فيقوم بإشباع هذه الغريزة غالباً عن طريق الشهوة البهيمية والمتعة الحرام فيعاقب.

ص: 42

وكذلك التدين غريزة فلابد لكل إنسان أن يتدين لكن إما أن يتدين تديناً معوجاً وإما أن يتدين تديناً مستقيماً، فإما أن يتدين لله وهو التدين المستقيم وإما أن يتدين التدين المعوج فيتدين لبشر كحال الشيوعية أنكرت وجود الإله وقيام الساعة وكذبت وخونت الرسل عليهم الصلاة والسلام لكنهم يتدينون رغم ذلك لمن؟ يعبدون لينين بدلا ً من أن يعبدوا رب العالمين، وإما أن يتدين لبقر، أو لحجر أو لذكر، أو لشمس أو لقمر، لكن لابد من تدين فالإنسان عندما يشعر بضعفه وفقره ومسكنته يريد أن يلجأ إلى ما يراه أنه أقوى منه وأغنى منه، فالمؤمن يلجأ إلى الغني الحقيقي القوي، والمشرك تراه إما أن يلجأ إلى بشر أو إلى شمس أو إلى قمر أو حجر وما شاكل هذا، وما عبادة الأحجار والأشجار والأبقار إلا دليل على إشباع غريزة التدين، ولذلك فلابد لكل مخلوق مهما كان شأنه من عبادة لكن إما أن يعبد الله وإما أن يعبد غيره وإما أن يعبد نفسه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، والقلب لابد له من تعلق لكن إما أن يتعلق بالرب وإما أن يتعلق بالخلق بصور أو بفرد أو بنساء أو بخمر أو ببقر ووصل هوس المهوسيين في موضوع التعلق بالمقبورين أنهم كانوا يقولون إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أي الجؤوا للأموات سبحان الله!! ماذا يغنون عنكم بل ماذا يغنون عن أنفسهم؟؟ لكن هذا هو القلب الخربان وهذه هي الذلة لغير الله، وأعز الناس في هذه الحياة وهو صاحب الحرية الحقيقية من لا تنحني جبهته إلا لخالقه سبحانه وتعالى ولا يذل نفسه إلا لربه وأما من عداه فلا يذل نفسه له.

تغرب لا مستعظماً غير نفسه

ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً

ص: 43

أي لا يستعظم إلا نفسه (عزة إيمانية) ولا يقبل إلا حكم الخالق جل وعلا وحقيقة هذه هي الحرية هذا هو العز وهذه هي الكرامة وليس في تذلل الإنسان لخالقه منقصة، لكن في تذلله لغيره كل المنقصة ولذلك السؤال في حالة ضرورة يجوز لكن تركه أولى، لأن السؤال ذل ولا يليق أن يتذلل المخلوق لمخلوق؟! لا، إن الموت أحسن من أن تتذلل لمخلوق، ثم إن في سؤال المخلوقين ثلاث أنواع من الظلم:

أولها: في حق نفسك حيث امتهنتها والله أمرك أن تعزها.

والثانية: في حق المسئول لأنك أضجرته وآذيته، فبنو آدم عندما يسألون يتضجرون.

والثالثة: اعتديت على الخالق لأن الله هو الذي يقول يا عبادي سلوني لأقضي حوائجكم.

لا تسألن بُني آدم حاجة

وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبُني آدم حين يُسأَل يغضب

فإذن التدين غريزة، ركز في فطرنا وكذلك التملك غريزة، فكل واحد يحب أن يتملك وأن يكون في جيبه دراهم، فهذا فطر الله القلوب عليه (وتحبون المال حباً جماً)(وإنه لحب الخير لشديد) وبعض الناس وصل الآن سفاهتهم أنهم قالوا الدراهم مراهم، ولكن الحقيقة قالها بعض الأكياس الفطناء سمي الدرهم درهماً لأنه يُدِرُ الهم أي يجلبه ويأتي به.

الشاهد أن حب التملك غريزة يحبها الإنسان ولا حرج عليه في ذلك إذ أخذها عن طريق شرعي [نِعْم المال الصالح للرجل الصالح] فيأخذه من حله ويضعه في حقه، وليس في جلب المال منقصة ما دمت تأخذه من حله وأنت مأجور وتضعه في حقه وأنت مثاب على ذلك وكما في الصحيحين [لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس] فلا حرج عليك في جمعه ولا تجعله يطغيك ولا تسرف فيه ولا تبطر به.

ص: 44

.. وليس في حب النساء منقصة للإنسان ما دام على حسب شريعة الله وكذلك حب المال ما دام على حسب شريعة الله وقد قال سيد الكاملين عليه الصلاة والسلام [حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة] فمثل هذه الطيبات لا حرج في حبها ما دامت على حسب شريعة الله، قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة

) فهذه الطيبات يتمتع بها المؤمن والكافر في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فلا يشارك المؤمن فيها أحد. (هذا الكلام كله جعلته كالتمهيد للإشكال الذي سيأتي، وهو مأخوذ من كلام الشيخ حفظه الله) .

الإشكال:

قد يقول قائل: إذا أخذ الله علينا الميثاق في عالم الذر – كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة – على أنه خالقنا وربنا ومالكنا، وأودع هذا في فطرنا وغرزه فينا – وهو الميثاق الثاني – فجعلنا نقر بوجوب عبادته، فعلام توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب، وقد أخذ علينا ميثاقين (في عالم الذر، والفطرة) ؟

الجواب عن الإشكال: توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب لأمرين:

الأمر الأول: أن العباد يكلفون قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم بتوحيد ربهم، لكن الله جل وعلا كرماً منه وفضلاً رفع عنا العقاب قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب فقط لأن الغريزة الفطرية وإن كانت مركوزة في النفس الإنسانية إلا أنها في عرضة – أحياناً – للتغيير وللتلاعب وللخطأ، فلابد من إرسال الرسل لتكون الغريزة مستقيمة تهتدي بهدي ذلك الرسول، فغريزة التدين موجودة لكنها عرضة للتغيير.

والعباد إذا أشركوا بالله قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ظالمون معتدون مسرفون لكن لا عقاب على ظلمهم كرماً من الله وفضلاً.

ص: 45

.. وقد قرر الله هذين الأمرين (أن العباد ظالمون إذا لم يوحدوا الله قبل إرسال الرسل، وأنه لا عقاب عليهم مع ظلمهم) في سورة الأنعام يقول الله جل وعلا: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الآيات 128- 131 (ألم يأتكم رسل منكم؟؟؟؟؟؟؟؟) وهو إرسال الرسل، (ذلك أن لم يكن..) هذا هو الشاهد أي إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد لئلا يهلك الله القرى بظلم منهم وبشرك منهم وضلال منهم، وهم غافلون عن بلوغ الدعوة ووصول الرسالة.

إذن فأثبت لهم الظلم في حال غفلتهم وعدم إرسال الرسول إليهم إذ لم يعبدوه ولم يوحدوه ومع ذلك لا عذاب عليهم كرماً منه وفضلاً سبحانه وتعالى، وكان الأصل أن يعذبوا لأنهم جحدوا الميثاق الفطري لكن الله تكرم فقال أنا لا أعذب إلا بعد قيام الحجة على أتم وجه فانتبهوا يا عبادي أشهدتكم على أنفسكم في عالم الذر، وركزت في فطركم الإقرار بوجودي ووجوب عبادتي وأرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وتركتكم على المحجة البيضاء، فمن ضل بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولو عذبنا على الميثاق الفطري لاستحققنا العذاب لأننا ظالمون.

ص: 46

الأمر الثاني: الفطرة وإن دلت على وجود الله ووجوب تعظيمه إلا أنها لا تستطيع أن تحدد الأشكال التي يحصل بها تعظيم ذي العزة والجلال أي لا تستطيع أن تحدد شكل العبادة وشكل التعظيم الذي يتقرب به إلى الله، فقد يقول هذا أنا أعبد الحمار الذي خلقه الله تقرباً إلى الله، ويأتي هذا ويقول أنا أعبد هبل، وآخر يقول: اللات، وآخر لنين وآخر الشمس وآخر القمر وآخر الحجر وهكذا كلٌ سيعبد ما شاء إن لم يرسل رسولاً وينزل كتاباً على البشر.

ولذلك كل ما يحصل به تعظيم الله جل وعلا هو عبادة والعبادة توقيفية لا مجال للعقل فيها، فنعبد الله بما يشاء لا بما نشاء ولذلك [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] .

(ذكر الشيخ قصة عن الشيخ صالح الجعفري من علماء الأزهر حيث كان يقول لا يوجد شيء اسمه بدعة فكل ما نقصد به الخير فهو جائز مستدلاً بالآية (وافعلوا الخير..)) .

(ذكر الشيخ قصة المهوس عيسى؟؟؟ وضلالاته التي يقررها من جواز الاستغاثة بغير الله، وأن أهل السنة حذفوا لفظ وعترتي من حديث فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وغير ذلك من الضلالات

)

فمن أجل الأمرين السابقين توقف التكليف على إرسال الرسل وإنزال الكتب.

ص: 47