الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصبية في القرآن (1)
(لقاء ديني)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
عصبية في القرآن (1)
قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا} وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قُطْر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القُتْر لغة في القطر. {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر.
وقرأ الباقون بالمدّ؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يعذَّبون في الله ويُسألون الشرك، فكلٌّ أعطى ما سألوه إلا بلالاً. وفيه دليل على قراءة المدّ، من الإعطاء.
ويدل على قراءة القصر قوله: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} ؛ فهذا يدل على «لأَتَوْهَا» مقصوراً.
وفي «الفتنة» هنا وجهان: أحدهما سُئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ} أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يهلكوا؛ قاله السّدِّي والقُتَيبِيّ والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
ابن كثير:
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله، من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة، وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود ـ عليهم لعائن الله ـ آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبيٍّ بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت، ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم.
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي، تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى:{إن الذين يكفرون} با لله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان، {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً} أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال:{أولئك هم الكافرون حقاً} أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعياً إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله، لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} أي كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} في الدنيا والآخرة. وقوله:{والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى:{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن با لله} الآية، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال:{أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} على ما آمنوا بالله ورسله {وكان الله غفوراً رحيماً} أي لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب.
إنه é_
القرطبي:
وله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} أي بأن يُظهروا لك السلم، ويُبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة. {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيك الله؛ أي يتولّى كفايتك وحياطتك. قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاءُ وانشقّتِ العصا
…
فحسبُكَ والضّحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ
أي كافيك وكافي الضحاك سيفٌ.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي قوّاك بنصره. يريد يوم بدر. {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار. {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي جمع بين قلوب الأَوْس والخَزْرج. وكان تألّف القلوب مع العَصبية الشديدة في العرب من آيات النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يُلطَم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشدّ خلق الله حَمِيّة، فألّف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدِّين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والمعنى متقارب.
حدثني أحمد بن حماد الدولابي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير ومغيرة، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت، قال: أسأل الشهود أنه ضربه، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات، فإن كان بسلاح فهو قود، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد.
وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير، أنه قال: وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم، قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود.
وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ، ما:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَاّ السَّيْفَ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ» .
وعلة من قال: حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد، ما:
حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا أبو الوليد، قا: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقتله بين حجرين.
قالوا: فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد. قالوا: وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء؛ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدا فِيها} فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه. ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
وقال آخرون: عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا؛ قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاًّ قتله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا، فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم أُلفي يتغنى:
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ
…
سَرَاةَ بني النَّجَّار أرْبابِ فارعِ
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أظُنُّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا، أمَا وَاللهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمِّنُهُ فِي حِلٍّ وَلا حَرَمٍ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ» فقتل يوم الفتح؛ قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا}
…
الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم.
وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن يحيى الجاري، عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأني له التوبة والهدى، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:«ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمِّدا، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي» . والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدهما من برهان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما} فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا؟ فقال: وأنَّى له التوبة!.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام عن يحيى، عن رجل، عن سالم، قال كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟ قال: جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنَّى له الهدى ثكلته أمه! والذي نفسي بيده لسمعته يقول ـ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلَّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ، إمَّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي؟» فما جاء نبيّ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا عمان بن زريق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء، ولقد سمعته يقول: {وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ ثم ذكر الحديث نحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أي عديّ، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزي: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلَاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما} قال: نزلت في أهل الشرك.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين، فذكر نحوه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني سعيد بن جبير، أو حُدثت عن سعيد بن جبير، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} .... إلى آخر الآية، والتي في الفرقان:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما}
…
إلى: {وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا} قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له. وأما التي في الفرقان، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت {إلَاّ مَنْ تابَ}
…
الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: ما نسخها شيء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته، فقال: لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء.
حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إياس معاوية بن قرّة، قال: أخبرني شهر بن حوشب، قال: سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} بعد قوله: {إلَاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا} بسنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سلم بن قتيبة، قال: ثنا شعبة، عن معاوية بن قرّة، عن ابن عباس، قال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: نزلت بعد: {إلَاّ مَنْ تَابَ} بسنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إياس، قال: ثني من سمع ابن عباس يقول: في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة، فقلت لأبي إياس: من أخبرك؟ فقال: شهر بن حوشب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا} قال: ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا}
…
الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في سورة الفرقان بثمان سنين، وهو قوله:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلها آخَرَ}
…
إلى قوله: {غَفُورا رَحِيما} .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف، عن أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس، قال: هما المبهمتان: الشرك، والقتل.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله وقتل النفس التي حرّم الله؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما} .
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، قال: نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر.
حدثنا ابن البرقي قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما، يقول: يا ربّ دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضي بينهما. ثم نزع بهذه الآية:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدا فِيها}
…
الآية. قال ابن عباس: والذي نفسي بيده ما نسخها الله جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر، قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا}
…
إلى آخر الآية، بعد قوله:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلها آخَرَ}
…
إلى آخر الآية.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد، قال: سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة، قال: أراه بستة أشهر، يعني:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا} بعد: {إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.
قال أبو جعفر: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله:{يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا} .
فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله:{إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} والقتل دون الشرك.
ابن كثير:
يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون {إنما أعظكم بواحدة} أي إنما آمركم بواحدة وهي {أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} أي تقوموا قياماً خالصاً لله عز وجل من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد من جنون. فينصح بعضكم بعضاً {ثم تتفكروا} أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك، ولهذا قال تعالى:{أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتاده وغيرهم، وهذا هو المراد من الآية.
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعطيت ثلاثاً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة، قال الله تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفراد} وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي» فهو حديث ضعيف الإسناد، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} قال البخاري عندها: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن خازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني» قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم:«فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا. فأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم. حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فنادى ثلاث مرات، فقال:«أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم، فبعثوا رجلاً يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه، أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم» ثلاث مرات، وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني» تفرد به الإمام أحمد في مسنده.
الطبري:
أويل ذلك: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء: أي بشرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:{وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ} كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب!
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:{وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} يقتل بعضكم بعضا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألّف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانا.
فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها، والعداوة التي كانت بينهم، التي قال الله عز وجل:{إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة. كما:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام وهم على ذلك، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فذكَّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا، وخوّف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به، وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانا. وكان سببُ ذلك ما:
حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَما الَّذِي مَعَكَ؟» قال مجلة لقمان ـ يعني حكمة لقمان ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعْرِضْها عَليَّ!» فعرضها عليه، فقال:«إنَّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَّي هُدًى وَنُورٌ» . قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بُعاث.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني الحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل: أن محمود بن أسد أحد بني عبد الأشهل، قال: لما قدم أبو الجيش أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال:«هَلْ لَكُمْ إلى خَيْرٍ ممَّا جِئْتُمْ لَهُ؟» قالُوا: وَما ذَاكَ؟ قال: «أنا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي إلى العِبادِ أدْعُوهُمْ إلى اللَّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وأَنْزَلَ عَلَّي الكِتابَ» . ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له! قال: فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله لهم خيرا. قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «مَنْ أنْتُمْ؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال:«أمِنْ مَوَالىَ يَهُودَ؟» قالوا: نعم، قال:«أفَلا تَجْلِسُونَ حتى أُكَلِّمَكُمْ؟» قالوا: بلى. قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيا الآن مبعوث قد أظلّ زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود، ولا يسبقُنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، وسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعزّ منك! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدّقوا، وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار، فآمنوا به وصدّقوه، فأراد أن يذهب معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن بين قومنا حربا، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد. فوعدوه العام المقبل، وقالوا: يا رسول الله نذهب، فلعلّ الله أن يصلح تلك الحرب! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلح؛ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا، فذلك حين يقول:{وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} .
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} ففي حرب {فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإسلام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، بنحوه، وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان، فتثاور الحيان، فقال بعضهم لبعض: موعدكم الحرة! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآية:{وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا}
…
الآية، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا، وحتى إن لهم لحنينا، يعني البكاء.
وسمير الذي زعم السديّ أن قوله {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} عنى به حربه، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله:
إنَّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُ
…
قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أبقوا
إنْ يَكُنِ الظَّنُّ صَادِقي ببني النَّـ
…
ـجَّارِ لم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا
وقد ذكر علماء الأنصار أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي، يقال له: الحر بن سمير، من مزينة، وكان حليفا لمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك معنى قول السديّ: حرب ابن سمير.
وأما قوله: {فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا} فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم، ولا تحاسد. كما:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:{فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا} ، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} .
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام، يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. وشفا الحفرة: طرفها وحرفها، مثل شفا الركية والبئر، ومنه قول الراجز:
نحْنُ حَفَرْنا للحَجيج سَجْلَهْ
…
نابِتَةً فوقَ شَفَاهَا بَقْلَهْ
يعني فوق حرفها، يقال: هذا شفا هذه الركية مقصور، وهما شفواها. وقال:{فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} يعني فأنقذكم من الحفرة، فردّ الخبر إلى الحفرة، وقد ابتدأ الخبر عن الشفا، لأن الشفا من الحفرة، فجاز ذلك، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل التي ذكرها في هذه الآية خبرا عن الحفرة، كما قال جرير بن عطية:
رأتْ مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي
…
كما أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر مرّ السنين، ثم رجع إلى الخبر عن السنين. وكما قال العجاج:
طُولُ اللّيالي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي
…
طَوَيْنَ طُولي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:{وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ} كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين: فارس، والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات رُدّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظا، وأدقّ فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورّثكم به الكتاب، وأحلّ لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:{وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} يقول: كنتم على الكفر بالله، {فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} من ذلك، وهداكم إلى الإسلام.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ:{وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول: كنتم على طرف النار من مات منكم أُوبق في النار، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا حسن بن يحيّ: {وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} قال: عصبية.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: كذلك كما بين لكم ربكم في هذه الآيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من علماء اليهود، الذي يضمرونه لكم، وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم، وصنائعه لديكم، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. {لَعَلَّكم تهتدون} يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها.
القرطبي:
«صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل» . قال أبو عمر: وهذا كله نصٌّ في موضع الخلاف قاطع له عند من أُلْهِمَ رشدَه، ولم تَمل به عصبيّته. وذكر ابن حبيب عن مُطَرِّف وعن أَصْبَغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يُبْرَز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تُصلَّى في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدَّرْدَاء وجابر يفضّلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض قال: يا ربّ هذه أحب إليك أن تُعبدَ فيها؟ قال: بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.
قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يُعبَّر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:
وإن فؤاداً قادني بصَبَابَةٍ
…
إليكِ على طولِ المَدَى لَصَبُورُ
وقيل: جمع وَفْد، والأصل أوفدة، فقدّمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفوداً من الناس تَهْوي إليهم؛ أي تَنزع؛ يقال: هوِي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تَهوِي هُوِياً فهي هاوية إذا عَدَت عَدْواً شديداً كأنها في هواء بئر، وقوله:{تَهْوِي إِلَيْهِمْ} مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال:«مِنَ النَّاسِ» فهم المسلمون؛ فقوله: «تَهْوي إِلَيْهِمْ» أي تحنّ إليهم، وتحنّ إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد «تَهْوَى إِليهِم» أي تهواهم وتجلّهم. {وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار.
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: «فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسمعيل يطالع تَرِكَته فلم يجد إسمعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عَتَبة بابه، فلما جاء إسمعيل كأنه آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاكِ بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عَتَبة بابك؛ قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الْحَقِي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ولم يكن لهم يومئذ حبّ ولو كان لهم دعا لهم فيه» . قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث.
وقال ابن عباس: قول إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} سأل أن يجعل الله الناس يهوون السُّكْنى بمكة، فيصير بيتاً محرّماً، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جُرْهُم. ففي البخاريّ ـ بعد قوله: وإن الله لا يُضيِّع أهْلَه ـ وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السّيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرّت بهم رُفقة من جُرْهُم قافلين من طريق كُدَا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليَدُور على ماء! لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين فإذا هُم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأمّ إسمعيل عند الماء؛ فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقّ لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: « (فألفى) ذلك أمّ إسمعيل وهي تحب الأنس» فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شَبَّ الغلامُ، وماتت أم إسمعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوّج إسمعيل يطالع تَرِكَته؛ الحديث.
القرطبي:
ع. قال الزهريّ: حَمِيَّتُهم أنفتهم من الإقرار للنبيّ صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو؛ على ما تقدّم. وقال ابن بحر: حمِيّتهم عصبيّتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل:«حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا؛ واللات والعُزَّى لا يدخلها أبداً. {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أي الطمأنينة والوقار {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قيل: لا إله إلا الله. روي مرفوعاً من حديث أُبَيّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو قول عليّ وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كُهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مُصَرِّف، والربيع والسّدي وابن زيد. وقاله عطاء الخراساني، وزاد «محمد رسول الله» . وعن عليّ وابن عمر أيضاً هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهريّ: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يُقِرّوا بهذه الكلمة؛ فخص الله بها المؤمنين. و «كَلِمَةَ التَّقْوَى» هي التي يتَّقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضاً أن «كَلِمَةَ التَّقْوَى» الإخلاص. {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي أحق بها من كفار مكة؛ لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} .