المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

التعليق على الطحاوية (مبحث علو الرحمن وفوقيته جل وعلا)   للشيخ الدكتور عبد الرحيم - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ١٣

[عبد الرحيم الطحان]

فهرس الكتاب

التعليق على الطحاوية

(مبحث علو الرحمن وفوقيته جل وعلا)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

مبحث علو الرحمن

وفوقيته على مخلوقاته

هو أشرف مباحث علم التوحيد وأجلها وهو العَلَم الفارق بين أهل السنة وبين سائر فرق المبتدعة فالمؤمن السني الموحد يقول: الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه، والمبتدع عندما تقول له أين الله؟، يقول لك كيف تقول أين؟ الله لا يُقال عنه أين، الله لا فوق ولا تحت ولا شمال ولا يمين ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، لا جوهر ولا عرض، قل له، يا مسكين هذا ليس حي قيوم بل هو إله معدوم، وهذا كمن يزعم أن في بيته نخلةٍ ثم تسأله عن أوصافها، فيقول لك لا أوصاف لها فقل له إذن هذه نخلة في ذهنك لذلك حقيقة قول المعطلة تقضي إلى أن الله عدم لذلك قال أئمتنا: المعطل يعبد عدماً والممثل يعبد صنماً وهذه المسألة سأقرر أدلتها المتنوعة وهي خمسة:

1) أدلة الكتاب.

2) السنة.

3) الإجماع الصحيح القطعي.

4) العقل الصريح.

5) الفطرة المستقيمة.

أولاً أدلة الكتاب:

دل على أن الله فوق عباده على عرشه سبحانه وتعالى، من أوجه كثيرة أحاول أن أوجزها وأن أجمعها في سبعة أوجه:

الوجه الأول: تصريح آيات القرآن بأن ربنا الرحمن فوق عباده ومخلوقاته (فوق) قال الله جل وعلا: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) في حق الملائكة. وقال جل وعلا: (وهو القاهر فوق عباده) . وهذا الدليل في منتهى الظهور والوضوح، وهذه الفوقية شاملة لفوقية الذات ويلزم منها فوقية القَدْر المنزلة والرتبة والمكانة فذاته عالية فوقنا ومنزلته ورتبته أيضاً فوقاً فله الفوقية من جميع الاعتبارات.

وقبل الانتقال إلى الدليل الثاني سأذكر تأويل المبتدعة للفوقية وندحضه إن شاء الله ثم نذهب إلى الوجه الثاني من أدلة القرآن، وقبل أن أذكر الوجوه دائماً إذا مررت على شبهة فندتها حتى لا نفرد الشبهة في مبحث مستقل.

تأويل لبعض المبتدعة حول هذا الوجه:

ص: 1

قالوا: المراد من الفوقية هنا الفوقية المعنوية، أي هو فوق عباده في الرتبة والمنزلة أي شأنه أعلى من شأنهم (يخافون ربهم من فوقهم) أي يخافون ربهم الذي هو أعلى منهم رتبة ومنزلة، كما تقول الملك فوق الوزير رتبة، وحقيقة قد يخدعون كثيراً من السذج والدهماء بهذه العبارات المعسولة.

ونجيب: لو صح ما قلتم لكان في هذا ذمٌ لربكم، إن قالوا: كيف؟ نقول: أنتم تقولون: إنه فوقهم في الرتبة فإذن عندنا فاضل ومفضول اشتركا في فضيلة فالمفضول هو المخلوق والفاضل هو الله جل وعلا، أي أنه يشترك مع عباده في الفضائل لكنه يزيد عليهم في الفضالة، كما لو قلت الدينار فوق الدرهم فإن بإمكانك أن تشتري بالدينار وبالدرهم، فهناك قدر يشتركان فيه – أي الدرهم والدينار – لذلك نقول لهم: أف لكم ولتأويلكم، فما المزايا التي اشترك فيها المخلوق مع الخالق حتى قلنا إن الخالق أفضل من المخلوق؟!! والله إن هذا ذمٌ للخالق من حيث لا يشعرون.

ولو قال إنسان عندي سكين أَحدُ من الخشبة لاتهمناه بالخرف لأنه لا مفاضلة بينهما بل إن المفاضلة بينهما عين الذم. وهذا كما لو قال شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من اليهود وأبي جهل، فهذا ذم له صلى الله عليه وسلم لأنه لا فضيلة فيهم بل لا قيمة لهم حتى تفاضل بينهما، لكن لو قلت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين لكان كلامك وجيهاً وفي محله.

إذن فكيف ستفاضل بين الخالق والمخلوق وقد تقدم معنا أن أخص وصف في المخلوق الفقر وأخص وصف في الخالق الغنى فأين فضل الفقير حتى تفاضل بينه وبين الغنى؟!! وكيف ستسووا بينهما؟!! لكننا نقول (وهو القاهر فوق عباده) أي هو فوق عرشه على سمواته، فيدخل العلو الذاتي والمعنوي (المنزلة) لا علو المنزلة فقط كما يزعمون.

إذن فلا تُعقد المفاضلة إلا بين موصوفين يشتركان في فضائل ويزيد أحدهما على الآخر وإذا كانت المفاضلة بين السيف والعصا ذم للسيف فكيف بعقد مفاضلة بين الفاني والباقي.

ص: 2

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل السيف أمضى من العصا

فإن قيل (اعتراض) : جاءت نصوص في التنزيل فيها تفضيل الخالق على المخلوق وهذا خلاف ما تقولونه قال الله تعالى في سورة يوسف مخبراً عن نبيه يوسف لما قال لصاحبه في السجن (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) فهذا فيه عقد مفاضلة بين أوثان وبين الله، وقال تعالى (آلله (1) خير أما تشركون) .

وهكذا قول السحرة في سورة طه (والله خير وأبقى) ، ففي هذه الآيات عقد مفاضلة فكيف تقولون لا تجوز المفاضلة بين الخالق والمخلوق؟

والجواب: تفضيل الخالق على المخلوق ابتداءً يعتبر نقصاً لكن إذا كان الكلام خرج لمجادلة الخصم الذي يزعم أنه لآلهته شأن ومنزلة فلا حرج به حينئذ فنبي الله يوسف يريد أن يبين لهم زيف آلهتهم المتنوعة فلم يخرج الكلام منه قضية مبتدأة أنما هو جدال مع مشركين يرون لآلهتهم شأناً، أي أنتم تقولون أن للآلهة شأناً فلو سلمنا لكم بذلك فأي الشأنين أعظم شأن آلهتكم أم شأن الله؟ فسيقولون كلهم شأن الله، فتكون نتيجة النقاش اطرحوا آلهتكم ما دمتم تسلمون بأن الله شأنه أعظم.

وهكذا (والله خير وأبقى) منك يا فرعون يا من تدعي أنك رب وأنك ملك مصر فالله خير منك وما عنده لا ينفذ وما عندك نافذ ونظير هذا قول الله تعالى في سورة النور (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) أي خير لكم من الدخول بغير استئذان وخير لكم من تحية الجاهلية.

نقول: هل للدخول بغير استئذان والتحية بتحية أهل الجاهلية خيرية؟

(1) هذا مد كلمي مثقل، والتعبير صحيح عنه أن يقال مد فرق، ويمد ست حركات باتفاق القراء.

ص: 3

لا، ولا خيرية لها، لكن لأنهم كانوا يرون في دخولهم بغير استئذان عزة والوقوف على الباب ذلة لهم، فكأن الله يخيرهم أنه لو كان في فعلكم خير فهناك خير منه وهو الاستئذان فافعلوه لأنه هو أخيرهما، وإن كان لم يثبت لفعلهم خيرية لكن هذا على سبيل المجادلة.

ونظير هذا النوع من الجدال والخصام مجادلة إبراهيم عليه السلام للنمرود حين حاجه بعد أن ادعى أنه يحيي ويميت فحاجه بأمر آخر وكأنه من باب التسليم له وتنزلاً له فحاجه بقضية أخرى تسكته وهي أن يطلع الشمس من مغربها.

ولهذا إذا تجادلت مع مكابر فدع ما فيه نزاع وانتقل إلى ما لا نزاع فيه.

الوجه الثاني: إخبار الله جل وعلا في كتابه بصعود العمل الصالح إليه ورفع بعض المخلوقات إليه، ومن المعلوم أن الصعود والرفع يكون من أسفل إلى أعلى.

ص: 4

.. قال الله جل وعلا في كتابه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال جل وعلا في حق عيسى عليه السلام (بل رفعه الله إليه) وقال جل وعلا (يا عيسى إني متوفيك (1) ورافعك إليّ) وهذا الرفع وهذا الصعود معلوم ضرورة في اللغة أنه من، أنزل إلى أعلى ومن أسفل إلى أعلى، والدلالة واضحة.

الوجه الثالث: تصريح الله في كتابه بأنه عليّ، قال تعالى في آية الكرسي:(وهو العلي العظيم)، وهكذا قوله تعالى:(إن الله كان علياً كبيراً) وهناك آيات كثيرة تصف الله بالعلو وتسميته بأنه عليّ وهذا يفيد علو الذات وعلو الصفات وعلو المنزلة والقدر، ويقال فيه ما يقال في الفوقية، فهو فوقهم وهو عليّ عليهم وإذا ثبتت الفوقية والعلو فكيف تقولون يا مبتدعة لا يجوز أن نقول إنه فوقنا وأعلى منا؟!.

(1) قيل بمعنى الوفاة الصغرى، أي منيمك وقد ألقى الله على نبيه عيسى النوم عندما أراد اليهود قتله ورفعه وهو نائم لئلا يفزع والنوم في حالة الحرب والخوف هذا سكينة من الله، (إذ يغشيكم النعاس أمنة..) فاعلم أنه متى ما نام المجاهد فقد نزلت عليه سكينة، وقيل: بمعنى الوفاة الكبرى (الموت) وعليه يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقديم: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك أي سأرفعك ثم سأنزلك لتتوفى في الأرض، ورفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء إلى الله جل وعلا ثابت في القرآن ومتواتر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيخرج في آخر الزمان وهو من أشراط الساعة الكبرى، وبلغت الأحاديث المتواترة في نزوله (70) حديثاً، وهذا الأمر يخالف فيه علماء الأزهر وينفوه فانتبهوا لهذا!! واشتروا كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) للشيخ محمد أنور شاه الكشميري، يقارب 400 صفحة جمع فيه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب.

ص: 5

الوجه الرابع: تصريح الله جل وعلا في كتابه بتنزيل أشياء من عنده، قال جل وعلا:(تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) ، (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) إلى غير ذلك من الآيات، والنزول ضد الصعود فهو هبوط من أعلى إلى أسفل، فالقرآن نزل من الرحمن أي هبط من أعلى إلينا، لذلك قال أئمتنا:

لفظ الإنزال للقرآن يدل على فوقية ذي الجلال والإكرام.

الوجه الخامس: إخبار الله جل وعلا عن الملائكة بأنهم عنده في جواره الكريم، والملائكة فوقنا وأعلى منا ومسكنها السموات المباركة، قال الله جل وعلا في آخر آية من سورة الأعراف: (

إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) ، وفي سورة حم السجدة (فصلت) آية 38 (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون) وهكذا في سورة الأنبياء (وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسحرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وهكذا في سورة الزخرف (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً

) هذه قراءة، وقرأ المدنيان نافع وشيخه يزيد بن القعقاع وابن عامر وابن كثير قارئ مكة ويعقوب قارئ البصرة:(وجعلوا الملائكة هم عند الرحمن) وكلا القراءتين متواترتان، فهم عباده وهم عنده.

وهذه العندية تحدد لنا أين رب البرية، فالملائكة في السموات العلى والله هو العلي الأعلى ولو كانت هذه العندية الثابتة لهم عنديتنا لما كان لهم ميزة علينا ولما كان لتخصيصهم بالعندية فائدة، بل لهم مزيد من قرب إلى الرب جل وعلا.

ص: 6

الوجه السادس: تصريح الله جل وعلا بأنه في السموات في آيات كثيرة متواترة غراء: (أأمنتم من في السماء (1)) .

علماء الكلام أصحاب الثرثرة والهذيان أكثروا اللغظ والشغب والخصام حول هذا الدليل من القرآن فقالوا: الآية لا تدل على علو الله وفوقيته، لأنه ليس المراد من كون الله في السماء وذاته في العلو بل المراد سلطانه وقهره.

وهذا التأويل أبرد من الثلج كتأويل الضالين السابقين في الفوقية، لأنه إن كان هو السلطان في السماء فمن إذن السلطان في الأرض؟!!.

السلطان هو الله في السماء والأرض لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، لذلك يقول الله جل وعلا (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) أي بسلطان منه وتمكين وقوة وقدرة إذا أمدكم بذلك فيمكنكم لكن هو جعلكم ضعفاء وعاجزين لا يخرج أحد منكم من سلطانه سبحانه وتعالى.

(1) كلمة (السماء) تحتمل معنيين على كل احتمال يتضح لنا معنى في، فقيل: المراد من السماء العلو المطلق، فكل ما علاك فهو سماك وليس المراد السموات الاصطلاحية، فتكون (في) ظرفية على حقيقتها، أي أأمنتم من في العلو، إذن فكل ما علاك فهو سماك قال تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) فالمراد بالسماء هنا سقف البيت أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله لن يعلي شأنه فسيعلي شأنه وإذا انغاظ هذا فليمدد حبلاً إلى السقف ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، وهذا من أساليب اللغة.، وقيل: المراد من السماء الأجرام السمواية المعروفة وهي السبعة ويكون معنى (في) : علا، أي أأمنتم من على السماء أي من فوق السموات لأن الله ليس بداخل السموات، وهذا كقوله تعالى (فسيحوا في الأرض) ، وقوله (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل، حروف الجر تتناوب كما قال أئمتنا.

ص: 7

.. ومما يقرر هذا أن العاتي فرعون عليه لعنة الله قال لقومه عندما أراد أن يلبس على قومه: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) فهذا يفيد أن نبي الله موسى أخبر قومه ومنهم فرعون بأن الله في العلو على السموات فوق العرش فاستغل فرعون هذه الدعوى فطلب من هامان أن يبني له بناءً عالياً لينظر إلى إله موسى الذي هو في السماء.

ولو كان كلام فرعون باطلاً لرد عليه موسى عليه السلام بأن الله ليس في السماء وفرعون يكذب وهذه القصة التي جرت من فرعون جرت من بعض المشايخ المصريين وقد أفضى لما قدم إذ أنه لما تناقل الناس خبر الصعود إلى القمر فسُأل هل الصعود للقمر ممكن أم لا؟ فقال لهم: أخبركم بالجواب غداً. ففي اليوم التالي امتلأ جامع الأزهر بالناس وجلس الشيخ وقال: هؤلاء كذابون دجالون لأني بقيت البارحة أنظر إلى القمر فلم أر شيئاً!!.

ولا أعلم جوابه هذا كان من باب البله والغفلة أم هو من باب العتو كفرعون إذ كيف سيرى القمر وهو في الأرض؟! كيف سيراه بعينه المجردة؟ فالأفضل لو أنه سكت عن الجواب ولم يجب بهذا.

ولذلك قال أئمتنا: من نفى علو الله فهو فرعوني، ومن أقر بعلو الله فهو موسوي (1) محمدي بعد أن قالوا إن المراد بمن في السماء أي بمن في السماء سلطانه قالوا: توجد آيات تعكر على قولكم تدل على أن الله في السموات وفي الأرض كقوله تعالى في سورة الأنعام: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) ، فلماذا تقولون إنه فوق عرشه على سمواته وهذه الآية ترد عليكم؟.

نقول: من سوء فهمكن أتيتم وجعلتم الآيات تتضارب ويرد بعضها بعضاً فهذه الآية تحتمل ثلاث معان ٍ كلها صحيحة:

(1) أي من أتباع نبي الله موسى الذي أخبرنا بأن الله فوقنا.

ص: 8

المعنى الأول: عليه جمهور السلف أن الوقف لازم على لفظ (السموات) فيكون معنى (في) أي ظرفية أي في العلو المطلق، والأرض متعلقة بيعلم أي ويعلم سركم وجهركم وما تكسبون في الأرض، أي مع علوه لا تخفى عليه خافيه من أمركم، وانظر هذا المعنى الذي نقل عن جمهور السلف تدل عليه آية الاستواء في سورة الحديد (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) فهذه الآية كآية سورة الأنعام حث أخبرنا بأنه فوق السموات على العرش ومع ذلك يعلم ما يلج في الأرض، وهذا الوجه هو أرجح الوجوه وأقواها.

المعنى الثاني: (في السموات وفي الأرض) متعلق بيعلم، والآية لم تسق لبيان أين الله بل لبيان إحاطة الله وعلمه بكل شيء، والتقدير: وهو الله يعلم سركم وجهركم أينما كنتم في السموات أو في الأرض فهو يعلم ما تكسبون ولهذا قال أئمتنا هذا وقف حسن على لفظ الجلالة (وهو الله) ثم تستأنف كلاماً آخر يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض

، وانظروا هذا في كتاب منار الهدى في الوقف والابتداء للإمام الأشموني، يقول: الوقف على لفظ الجلالة، ويتم المعنى بذلك.

المعنى الثالث: الآية لم تسق لبيان أين الله ولا لبيان إحاطة علمه بكل شيء، إنما سيقت لبيان أنه هو الإله الحق المعبود الذي يجب على أهل السموات وأهل الأرض أن يألهوه ويعبدوه ولا يشركون به شيئاً فالإله هو المألوه أي المعبود، والتقدير: وهو المعبود في السموات وفي الأرض....فأين الفهم الذي فهمتموه؟!! وهذه المعاني الثلاثة أمامكم ليس في واحدة منها أن الله موجود في الأرض كما تزعمون وأوردوا آية ثانية ليقروا هذا الضلال وهي قوله تعالى في سورة الزخرف (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) يقولون: إذن فهو موجود في السماء والأرض وليس في السماء كما تقولون.

ص: 9

والجواب: هذه الآية معناها كالمعنى الثالث لآية سورة الأنعام، أي وهو المعبود في السماء وفي الأرض وهو إله من في السماء وإله من في الأرض وهو المألوه في السماء وهو المألوه في الأرض، فلا إله إلا هو.

ونحن نقول لهم أيضاً إن كان في الأرض فعلام يصعد الكلم الطيب إليه وعلام يعرج إليه أشياء ويرفع أشياء؟!! ولو كان الله في الأرض فلماذا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة؟!!.

الوجه السابع: تصريح الله في كتابه بأنه استوى على عرشه في سبع آيات من كتابه ضمن سبع سور:

1) آية سورة الأعراف آية 54: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) .

2) آية سورة يونس: آية رقم 3.

3) آية سورة الرعد: آية رقم 2.

4) آية سورة طه: آية رقم 5.

5) آية سورة الفرقان: آية رقم 59.

6) آية سورة السجدة: آية رقم 17.

7) آية سورة الحديد: آية رقم 4.

والمفسرون بحثوا مسألة الاستواء عند أول آية وهي آية سورة الأعراف إلا شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فإنه تكلم على الاستواء في الآية الثالثة من سورة يونس (الموضع الثاني) في أضواء البيان.

والاستواء معناه في اللغة: يأتي لأربعة معان ٍ: استقر، وارتفع، وعلا، وصعد، وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه قال (الرحمن على العرش استوى) قال: علا، انظر صحيح البخاري في كتاب التوحيد (13/403- مع الفتح) وفيه أيضاً – أي في صحيح البخاري – قال أبو العالية:(الرحمن على العرش استوى) : ارتفع، وقد ورد هذا في التفسير الثاني في معالم التنزيل للبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 10

هذا تفسير الاستواء في اللغة فله العلو والارتفاع والفوقية على سائر مخلوقاته، وهذا الدليل والواضح (سبع آياتٍ) جاء المؤولة وتلاعبوا فيه وقالوا: استوى أي: استولى وقال فريق منهم: كناية عن الهيمنة والسيطرة وتدبير الملك. هذا تفسير باطل قطعاً وجزماً لغةً ومعنىً.

أما اللغة فلا تشهد لهذا قطعاً، أي تفسير استوى باستولي لا يعرفه علماء اللغة كما قال الأزهري في تهذيب اللغة وابن الأعرابي وهو من أئمة اللغة. وقد أبطل الإمام ابن القيم تفسير استوى باستولي باثنين وأربعين وجهاً في كتابه الصواعق المرسلة في الرد على الجهنمية والمعطلة، انظروا مختصر الصواعق (2/126-152) ، أما المعنى فهو معنىً باطل بل هو أبطل من بطلانه من ناحية اللغة لأن الاستواء أخذ الشيء بعد غلبة ومنازعة، فهل كان العرش في ملك أحد غير الله حتى نازعه الله فقهره حتى غلبه وانتصر عليه وأخذ العرش واستولى عليه؟!! لا، يقولون: هذا استيلاء بلا غلبة ولا منازعة، كما قال الأخطل:

ص: 11

قد استوى بِشْرٌ (1) على العراق

من غير سيف ودم مراق

فهو استوى على العراق من غير منازعة بالسيف أو بقتل وإراقة الدماء.

نقول: لا زلنا معكم، يعني هل كان في يد غيره ثم أخذه منه؟ يعني هل خرج العرش عن ملك الله طرفة عين حتى تقول إنه استولى عليه إذن فكلا جوابيكم باطل وقلتم استولي بغلبة ومنازعة أو بدون ذلك، ثم إنه لا يجوز الاستدلال بهذا البيت على تفسير استوى باستولى لأن هذا مخلوق والله ليس كمثله شيء، ولأن البصرة حقيقة لم تكن في أمرته ولا تحت ولايته بل عهد إليه أخوه عبد الملك بذلك فيصح أن نقول إنه استولى، لكن هل كان العرش كذلك؟ لا والله، فهو لم يخرج عن ملكه طرفة عين، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية:

قبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه

وإذا استدل يقول قال الأخطل

ويقول الإمام ابن القيم:

(1) هو بشر بن مروان، أخو عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وهو أول من ولي على البصرة في بلاد العراق، وامتدحه الأخطل الشاعر النصراني بهذا البيت، ومعناه: أن بِشْراً استولى على العراق بعهد من أخيه عبد الملك بن مروان دون مقاتلة وقتل وقطع رقاب وقال أئمتنا في ترجمة بِشْر: كان من الكرماء وكان لا يغلق بابه عن أحد من رعيته، ومن أقواله – ونعم ما قال -: وليس الأمراء في هذا الوقت يقتدون بهذه الحكمة التي أثرت عنه – يقول: "إنما يحتجب النساء فالأمير لا يحتجب" ولما احتضر يقول الحسن البصري ولما احتضر أدركته وكان على سريره فنزل وهو يتلوى على الأرض ثم نادى بأعلى صوته: يا ليتني كنت في البادية أرعى الماشية، فقيل هذا لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يفرون إلينا ولا نفر إليهم، والله لازال الله يرينا فيهم عبراً، فالعالم أو غيره لا يتمنى عند موته لو أنه كان أميراً، لكن الأمير يتمنى عند موته لو أنه لم يكن أميراُ بل كان راعياً أو غيره ولما يراه عند سكرات الموت، توفي سنة 74 هـ رحمه الله.

ص: 12

ولهم في ذلك بيت قاله

فيما يقال الأخطل النصراني

نون اليهود ولام جهميًّ هما

في وحي رب العرش زائدتان

(نون اليهود) قال الله لهم قولوا حطة أي حُط َّ الذنوب عنا، فلم يقولوها وزادوا نوناُ فقالوا: حنطة أو حبة حنطة أو حنطة في شعرة استهزءوا بكلام الله جل وعلا، وهذا حال اليهود، فانظر كيف بدلوا كلام الرب المعبود.

والجهمية زادوا لاماً، فهى استوى فزادوها استولى، ومعنى (هما في وحي رب العرش زائدتان) أي لم ينزل رب العالمين لا نون اليهود ولا لام الجهمية.

ولذلك قال الإمام مالك وشيخه ربيعة وأمنا أم سلمة رضي الله عنها والإسناد ثابت إلى مالك وإلى ربيعة ولكنه ضعيف عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها وثبت عن الإمام أبي جعفر الترمذي ليس صاحب السنة أبو عيسى الترمذي، قالوا:"الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".

(الاستواء معلوم) أي معلوم في اللغة استقر، ارتفع، علا.

(والكيف مجهول) أي كيفية استواء الرب مجهولة لان الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت الذات مجهولة فالصفات كذلك ولذلك إيماننا بصفات ربنا كإيماننا بذاته، والمخلوقات تتفق في مسمى الصفة وتختلف في حقيقتها، فمثلاً لك يد للقط يد لكن لم تشبه اليدان بعضهما، فكيف ستشبه يد المخلوق الخالق!! فلكل موصوف ما يناسبه من الصفات (ليس كمثله شيء) .

(والإيمان به واجب) لأنه ورد في كتاب الله وإذا تركته فقد ضللت.

(والسؤال عنه بدعة) وكان بدعة لأمرين: الأمر الأول: لأنه سؤال عما لا يمكن لعقول البشر أن تدركه، والأمر الثاني: لأنه لم يجر هذا السؤال في عهد خير هذه الأمة وأطهرها وأبرها، والبدعة ما حدث بعدهم فلم يسأل الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية صفة بل يسألون عن الإيمان بها وثبوتها وهكذا المؤمن يسأل في القدر – كما تقدم معنا – من الحكم ووجوده لا عن العلة من الحكمة، ولذلك لا تقل لم؟ بل قل بم؟.

ص: 13

ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه بسند حسن عن أبي رزين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ضحك ربنا عند قنوط عباده وقرب غِيَرِه (1) ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال أبو رزين: أوَ يضحك ربنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً] ، فسأل أبو رزين هنا عن ثبوت صفة الضحك لا عن الكيفية ومن ضحك الله له لن يحاسبه كما ورد في الحديث، أي من فعل فعلاً أضحك به الرب فلن يحاسبه الله، وهذا الاستواء كما يليق بربنا.

مبحث العرش والكرسي

(هما مبحثان مستقلان لكن ندخلهما في هذه الآيات)

العرش في اللغة: سرير المَلِك، والمراد كرسي عظيم مرصع بالجواهر والأحجار الكريمة كحال الملوك القدماء.

(1) أي وقرب غير القنوط وتغير الحال، وقنوط العباد كان بسبب القحط والبلاء وهنا، أي قرب تغير الحال من العسر إلى اليسر.

ص: 14

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن ثلاث عروش: عرشين لمخلوقين وعرش له سبحانه وتعالى استوى عليه: أحد عرشي المخلوقين عرش ملكة سبأ (1) وهو عرش بلقيس: (

وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) والثاني عرش نبي الله يوسف (

ورفع أبويه على العرش) والله جل وعلا استوى على هذا العرش بكيفية يعلمها ولا نعلمها.

ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال [سمي العرش عرشاً لارتفاعه]، والله يشير لهذا المعنى في كتابه يقول:(وهو الذي أنشأ جنات معروشات) أي مرتفعة (وغير معروشات) أي منبسطة ليس لها ساق تقوم عليه وذكر العرش معلوم في أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، قال أمية بن أبي الصلت (جاهلية) :

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق الناس

وسوى فوق السماء سريرا

شرْجَعَنْ (2) لا يناله ناظر العين

ترى دونه الملائكة صورا (3)

(1)[ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة] ، وقد حكي أن رجلا ً من أهل اليمن افتخر في مجلس عبد الملك ابن مروان، فقال عبد الملك: من يرد على هذا المفاخر؟ فقام بعض الحاضرين وقال: أيها الملك، ماذا تقول في قوم ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد وغرقتهم فأرة وهم ما بين حائك برود ودابغ جلد وسائس قرد وكل بلدة فيها نقائص والمؤمن لا يوصف لوجوده في مكان من الأمكنة وألفاظ العموم لا يدخل فيها الأخيار كما قال أئمتنا، أهل الشام أذل الناس وأطوعهم في معصية الله وأهل مصر أظرفهم صغيراً وأحمقهم كبيراً وأهل العراق أسرع الناس في فتنة وأعجزهم عنها، وكل مصر وبلد له وصفه لكن يتنزه عنه الأبرار.

(2)

أي بناءاً عالياً مرتفعاً.

(3)

جمع أصْور أي: مائل الرقبة، والمراد أن الملائكة مائلة العنق من خشيتها وتذللها.

ص: 15

وقال عبد الله بن رواحة (قال الإمام ابن عبيد ابن عبد البر في الاستيعاب وهذه القصة ثابتة رُويناها من أوجه صحيحة مشهورة) ، وذلك أنه عندما جاءته سٌرِّيته وواقعها على فراش زوجته، فعلمت زوجته بالأمر فاعتراها شيء من الغيرة، فقالت في حجرتي وعلى فراشي، فقال: ما فعلت شيئاً؟ أي لم أفعل شيئاً حراماً، فقالت اقرأ القرآن إن كنت صادقاً لأن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: عبد الله رضي الله عنه:

شهدت بأن الله حق

وأن النار مثوى الكافرين

وأن العرش فوق الماء طافٍ

وفوق العرش رب العالمين

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة الإله مسوِّمين (1)

وقال أيضاً:

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشق معروف من الفجر ساطعا

وبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

فقالت زوجته: آمنت بالله وكذبت بصري والكلام أو سع من أن يكذب ظريف كما قال أئمتنا، فإذا اضطررت للكذب فلا تكذب بل استعمل التورية (2) كما كان إبراهيم انخعي يعمل حيث كان يطلب من ابنه أن يقول لمن يطرق بابه في وقت لا يريد فيه مقابلة أحد، يا بني قل لهم إن إبراهيم ليس هنا، أي ليس موجود في المكان الذي يتكلم فيه أي يشير إلى مكان ليس فيه والده إبراهيم موجوداً فيه، والسامع يظن أن إبراهيم ليس في البيت والدار، وولده صادق، وهو لو قال لهم مشغول فقد يلحون عليه بطلب الدخول أو قد يتضايقون من هذا الجواب (أي لو قال لهم مشغول) فيصرفهم بالتي هي أحسن.

(1) ويصح مسِوَّمين، كما ورد في سورة آل عمران (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين) وقرئت مسوَّمين، وهما قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعنى مسوَّمين: معلِّمين، ومعنى مسوَّمين معلَّمين أي عليهم علامة يتميزون بها.

(2)

وهي أن تسمع السامع شيئاً وأنت تعتقد في نفسك حقاً غيره.

ص: 16

.. وصفة الاستواء على العرش نقول فيها ما نقول في سائر الصفات فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وتقدم معنا أن إيماننا بصفات ربنا إقرار وإمرار (ليس كمثله شيء) إمرار (وهو السميع البصير) إقرار فنقر بالصفة دون البحث في كنها وكيفيتها وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.

والعجز عن درك الإدراك إدارك

والبحث في كنه ذات الإله إشراك

والصفات تختلف باختلاف الموصوفات، فلكل موصوف معنىً يناسبه من تلك الصفة على حسب ذاته، فمثلاً اليد تختلف فينا بني الإنسان عنها في الكلاب عنها في الأبواب فمن بابٍ أولى أن تختلف يد الخلاق جل وعلا.

ص: 17

وعرش الرحمن فوق المخلوقات كلها، ولا يوجد فوقه شيء مخلوق لا يوجد إلا الخالق جل وعلا، فالمخلوقات كلها تحت العرش ولذلك يُقال "العالم من عرشه إلى فرشه مخلوق" أو من علوه إلى سفله وهو الأرض السابعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه] ، والعرش هو أكبر المخلوقات تحمله ثمانية من الملائكة، كما أخبرنا الله عن ذلك في كتابه (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهؤلاء الثمانية يتجاوبون بصوت رقيق رخيم فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك ويجيبهم الأربعة الآخرون سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، هذا هو تسبيح حملة العرش، وهذا ثبت بإسناد صحيح عن حسان بن عطية وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: الله سبحانه وتعالى يعلم ما نعمل، ولولا حلمه لما ترك على الأرض من دابة، وهو قدير على عقوبتنا فلولا عفوه لأهلكنا، وثبت في تفسير ابن جرير أن الله خلق حملة العرش قالوا ربنا لم خلقتنا؟، قال: لتحملوا عرشي، قالوا: ومن يقوى عليه وعليه جلالك ووقارك وأنت رب العالمين؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا هذه الكلمة وبها أطاقوا حمل العرش، وقد قال أئمتنا هذه الكلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) لها تأثير عجيب وخاصية مجربة بأن من قالها ذلل الله له الصعاب وفرج عنه الكروب وأعانه على الشدائد ومعنى هذه الكلمة لا تحول من حالٍ إلى حال من معصية إلى طاعة ومن ضعف إلى قوة ومن فقر إلى غنىً

ولا تحصل قوة إلا بالله جل وعلا.

وأما الكرسي:

فهو دون العرش أي أنزل منه وأصغر، والعرش أكبر المخلوقات وأولها وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى،

ص: 18

.. وقد ثبت تفسير الكرسي بذلك في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وكتاب التوحيد لابن خزيمة والأسماء والصفات للبيهقي وتفسير ابن جرير، والأثر رواه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال:[الكرسي موضع القدمين والعرش لا يعلم قدره إلا الله] .

قال الله في وصف الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) فهذا الكرسي يسع السموات والأرض وهو أعظم منها.

والكرسي ذكر في موضعين فقط في القرآن:

1) آية الكرسي من سورة البقرة (وسع كرسيه السموات والأرض) .

2) في سورة ص (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) ، فالكرسي الأول له جل وعلا، والثاني في سورة ص والكرسي واحد الكراسي وهو معروف كما قال علماء اللغة.

وهذا التفسير – الأول – الذي نقل عن ابن عباس، ثبت أيضاً عن أبي موسى الأشعري في تفسير ابن جرير والأسماء والصفات للبيهقي، وفي تفسير ابن المنذر بإسناد صحيح قاله الحافظ في الفتح (8/199) وثبت في تاريخ بغداد عن أبي ذر مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أثبت وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يدرك بالرأي.

وهذا هو المعتمد عند أهل الحق أن الكرسي هو موضع قدمي الرب، وهناك أربعة أقوال باطلة في تفسير الكرسي احذروها وكونوا على علم بها:

أولها: - وهو أرذلها – نُقل عن الزمخشري المعتزلي، وهو من شر ما قاله في صفات الله – يقول "الكرسي: تخييل حسي " أي لا يوجد هناك كرسي لا صغير ولا كبير، لكن الله أراد أن يظهر لنا عظمته ويقرب لنا شأنه فذكر هذا الأمر لذلك يعني المراد من الآية: لو كان له كرسي لوسع السموات والأرض، لكنه لا يوجد، ومعنى قول الزمخشري (حسي) أي أتى بتعبير محسوس ليقرب المراد.

ص: 19

.. وهذا التفسير الذي ابتدعه الزمخشري هنا في الكرسي عول عليه في كثير من آيات الصفات في الكشاف فانظر مثلاً تفسير قول الله تعالى في سورة الزمر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يقبض الأرضين بشماله ويطوي السموات بيمينه، ويقول أنا الملك أين ملكوم الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟] .

فالزمخشري يستعمل هذا الأسلوب أيضاً في نفي صفة اليمين والشمال والقبض والطي، فيقول هو في هذه الآية: هذا تخييل حسي فالله يريد أن يخيل لنا عظمته فجاء بهذا المثال الحسي الذي فيه كأن السموات بيمينه وكأن الأرض بشماله وليس له لا طي ولا قبض وليس له يمين ولا شمال، وهذا كما قلت لكم من أشنع ما قيل في صفات الله سبحانه وتعالى لأن مؤداه أن الله يكذب علينا، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ثانيهما: الكرسي بمعنى العرش فهما سواء، ونقل هذا عن الحسن البصري، وروي هذا عنه من طريق جويبر عن الضحاك، وهذا الأثر لا يثبت عن الحسن البصري (1)، لأنه فيه علة وهي: ضعف الأسناد فجويبر تالف.

قال الإمام ابن كثير والإمام البيهقي في الأسماء والصفات، والصحيح عن الحسن وغيره من السلف أن العرش غير الكرسي.

ثالثهما: قيل الكرسي بمعنى العلم، (وسع كرسيه السموات والأرض) أي علمه، نقل عن ابن عباس رضي الله عنه بإسناد – قال عنه ابن كثير والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة إنه شاذ أي هذا الإسناد شاذ والرواية المحفوظة عنه الثابتة أن الكرسي موضع القدم.

(1) حكى الشيخ الفوزان هذا القول عن الحسن في كتابه شرح العقيدة الواسطية، ولم يتعقب القول، وهو قول غير صحيح كما بينا؟؟؟

ص: 20

.. وهذا التفسير رده الإمام ابن جرير في أول الأمر وقال: "إن الرواية الثابتة عن ابن عباس في تفسير الكرسي وهو موضع القدمين، هي المعتمدة" ثم انتكس الإمام ابن جرير عليه رحمة الله في تفسيره عند آية الكرسي فنقل هذه الرواية الشاذة وقال هي المعتمدة في تفسير الكرسي، فبعد أن قرر أن القول الأول هو المعتمد نقضه وقال القول الثاني هو المعتمد وهذا عجيب من مثل الإمام ابن جرير، وقد قرر الإمام ابن جرير هذا القول الشاذ بقوله تعالى حكاية من الملائكة (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) ، وهذا الاستدلال في الحقيقة لا يتناسب مع حذق الإمام ابن جرير وفهمه لأنه يلزم على قوله أن يفسر الكرسي بالرحمة كما فسر بالعلم، لأن ذكرت الآيتين، ثم إنه لا مناسبة بين الكرسي والعلم، لأن الكرسي واحد الكراسي وهو معروف، والعلم معروف فلا مناسبة بينهما ولو صح تفسير الشيء بما لا يدل عليه في لغة العرب لصح أن نفسر بعد ذلك الأحكام الشرعية كما نريد (1) وهذا التفسير تبناه محمد عبده في هذا العصر وعليه جمهور المؤولة.

رابعهما: تبناه الرازي في تفسيره فقال: لا يصح تفسير الكرسي بالعرش ولا تفسيره بالعلم فقد دلت الآثار على أنه جسم عظيم أعظم من السموات والأرض – وهذا كله حق مقبول لكن انظر بعد ذلك للانتكاس يقول: لكن الرواية الثابتة عن ابن عباس موهمة مشكلة فيجب أن نقف نحوها موقفين:

(1) فالله جل وعلا يقول: (كتب عليكم الصيام) فيأتي الباطنية ويفسرون اللفظ بما لا يدل عليه فيقولون: الصيام هو حفظ سر الشيخ فهذا هو معنى الصيام عند الدرزية والنصيرية، وعندهم – الباطنية – الحج هو زيارة الشيخ، ويقولون في الآية:(حرمت عليكم أمهاتكم) المقصود (بأمهاتكم) عندهم: مراتب شيوخهم، فلا تتمنوا رتبة الشيخ، أما أمك فلا حرج عليك في وطئها – وهذا كله عندهم – وكذلك لا حرج في وطء أختك أو بنتك!! فهذا كله يشبه تفسير الكرسي بالعلم لأنه من قبيل تفسير اللفظ بما لا يدل عليه.

ص: 21

الموقف الأول: أن نردها، لأنها توهم التشبيه.

الموقف الثاني: وإذا قبلناها فلابد من تأويلها (1)، وقال: موضع القدمين أي موضع قدمي الروح الأعظم الذي هو جبريل أو موضع قدمي ملك آخر غيره (2) وهذا تأويل باطل يجب طرحه.

والأقوال الثلاثة قبله باطلة أيضاً والمعتمد هو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي ذر، وتقدم ذكره وقد ورد أن الكرسي بجانب العرش كحلقة في فلاة والسموات السبع والأراضين السبع بجانب الكرسي كحلقة في فلاة.

2-

وأما السنة:

تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث المتواترة لن أفيض فيها إنما سأذكر ثلاثة منها:

(1) وهذا حال المبتدعة يتذبذبون بين أمرين إما أن يرد النص وإما أن يؤوله، والتأويل أخو الرد، وهذا كالحديث الصحيح [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع الجبار عليها قدمه (وفي رواية رجله) فينزوى بعضها إلى بعض، فتقول قط قط] يقول المبتدعة: القدم هنا معناها أي قوم قدمهم للنار، [ورجله] هذا مأخوذ من رجل الجراد وهو الجماعة والمعنى حتى يضع عليها جماعة مثل جماعة الجراد، يلقيهم فيها فتمتلئ وتقول [قط قط] ، سبحان الله هل هذا هو معنى الرجل ومعنى القدم؟ هلا قلتم إقرار وإمرار، ولا داعي بعد ذلك للتلاعب وكل يؤول على مزاجه.

(2)

وقد وصل الشطط بالرازي في تفسيره سورة الفجر آية (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) قال هذه الآية موهمة لابد من تأويلها ذكر ستة أوجه في تأويلها أحد الأوجه يقول (وجاء ربك) أي الملك الذي كان يربيك يا محمد وهو أعظم الملائكة فهذا سيأتي يوم القيامة ويأتي معه الملائكة صفاً صفاً!!!

ص: 22

أولها: الأحاديث بمجموعها متواترة، لكن هذا الحديث متواتر بنفسه، قال الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) صـ16: من الأحاديث المتواترة في علو الله وفوقيته حديث معاوية بن الحكم السُّلمي، وحديثه ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي – وهو حديث متواتر – وخلاصة الحديث: يقول معاوية رضي الله عنه [كانت لي جارية ترعى غنماً لي فجاءت في يوم من الأيام وقد أخذ الذئب شاة منها، يقول: وأنا امرؤ من بني آدم (1) – آسف كما يأسفون فحزنت على هذه الشاة، وصككت الأمة ثم ندمت فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وقلت له: ألا أعتقها، (وفي رواية: إن عليّ كفارة ألا أعتقها؟) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعها لي، فجاءت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: رسول الله، فقال اعتقها فإنها مؤمنة] .

قال الذهبي والحديث فيه أمران:

1-

جواز السؤال عن الله بأين (2) ، فهو شرعي سأل بهذا نبينا صلى الله عليه وسلم.

2-

والجواب عن هذا السؤال، أن الله في السماء كما تواترت الأحاديث بذلك.

ولفظ السماء تقدم معناها إن كان المراد العلو فـ (في) ظرفية على حقيقتها أي في العلو، وإن كان المراد من السماء الأجرام السبعة فـ (في) بمعنى على أي على السماء وهذا الحديث فيه رد على المؤولة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن سلطانه وقهره جل جلاله فلم يقل أين سلطان الله؟.

(1) يريد بهذا أن يذكر عذره في عمله الذي فعله بالأمة، أي أنا امرؤ من بني آدم آسف كما يأسفون وأحزن كما يحزنون.

(2)

إذن هو جائز ومن قال لا فقد رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والمبتدعة يقولون لا يجوز أن تقول: أين الله؟ ومن باب الأولى لا يجوز أن تجيب عليه!!!.

ص: 23

ثانيها: حديث نزول ربنا الجليل وهو حديث قال عنه الإمام الذهبي: هو حديث متواتر أقطع بذلك وأُسأل أمام الله، وقد رواه الشيخان البخاري ومسلم – وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه الإمام أحمد ومالك في الموطأ الدارمي وغيرهم من أئمة الحديث ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له] . فربنا يتصف بأنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، ولفظ النزول في اللغة لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، فهو ينزل بكيفية تليق بجلاله من غير تشبيه ولا تعطيل ولا يلزم من نزوله أن تكون السموات فوقه، فهو في حال نزوله مستو ٍ على عرشه، ولا تقل كيف؟ فهذا السؤال ارفعه ولا تسأل به، هذا ولله المثل الأعلى – كالإنسان عندما ينام لا يسمع ولا يجيب مع أن روحه فيه فمع أن روحه معه إلا أنه كمن رفعت روحه.

ثالثها: حديث رواه الإمام الترمذي وحسنه، وابن خزيمة في كتاب التوحيد والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين رضي الله عنه:[أن والده حصين لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله: إنك أشأم رجل على قومه فرقت جماعتنا وعبت آلهتنا وسفهت أحلامنا وكفرت من مضى من آبائنا فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا حصين اجلس، فجلس، فقال له: كم إلهاً تعبد؟ فقال له: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء (1) ، فقال: من الذي تُعدُّه لرغبتك ورهبتك؟ فقال: الذي في السماء، فقال: اترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك كلمتين إذا أسلمت، فأسلم فعلمه أن يقول: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي] . فكرروا هذا الدعاء إخوتي الكرام.

3-

وأما الإجماع الصحيح:

(1) انظر هذا جواب حصين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنبهوا.

ص: 24

.. والإجماع على هذه المسألة ليس في هذه الأمة بل هو إجماع بين المِليين أي الموحدين منذ آدم إلى يوم القيامة، أجمعوا على هذا وأن الله على عرشه فوق سماواته.

قال الشيخ عبد القادر الجيلاني – كما في الذيل على طبقات الحنابلة – (1/296) : "العلو لله جل وعلا مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل" أي ذكر الله جل وعلا هذا في الكتب المنزلة على الرسل التي أرسلهم عليهم الصلاة والسلام، فهو متفق عليه في الكتب، كل رسول يشير بهذا إلى قومه.

وثبت عن الإمام الأوزاعي أنه كان يقول: "كنا نقول والتابعون متوافرون الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه" أي منفصل عن خلقه ليس حالاً فيهم ولا حالون فيه.

ولذلك قيل للإمام أبي حنيفة: ما تقول فيمن لم يعرف أين الله؟ فقال: إنه كافر، فقيل له: ما تقول فيمن قال إن الله على العرش لكن لا أعلم أين العرش؟ فقال: هو كافر.

وقال الإمام ابن خزيمة في كتابه التوحيد: من أنكر العلو يستتاب – فإن تاب وإلا ضربت رقبته، ثم لا يدفن في مقابر المسلمين ولا اليهود ولا النصارى.

4-

وأما العقل الصريح:

وقد دل على علو الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته، على مرحلتين وبخطوتين:

المرحلة الأولي: العقل يقول ويقرر "كل موجودين لابد لهما إما من الاتصال أو الانفصال، واتصال الخالق بالمخلوقات أو المخلوقات بالخالق وامتزاج أحد الموجودين بالآخر مستحيل لأنه يؤدي إلى جعل المخلوق عين الخالق وجعل الخالق مخلوقاً، ويؤدي إلى القول بالحلول ووحدة الوجود وأن كل شيء هو الله.

فإذا انتفى الاتصال ثبت الانفصال، وأفضل كلمة قالها أئمتنا في التوحيد ما قاله الإمام الجنيد:"إفراد الحادث عن القديم" أي تمييز الحادث المخلوق عن القديم الخالق، فكلاهما منفصل عن الآخر ولا يحل واحد منهما في الآخر.

ص: 25

المرحلة الثانية: إذا ثبت انفصال الرب عن مخلوقاته، فإما أن يكون فوقهم أو تحتهم، أما التحتية فمستحيلة لأنها صفة ذم ونقص وهي مأوى القاذورات، ويتنزه الله عن ذلك فثبتت له الفوقية ولذلك لو لم يرد نص شرعي ولو لم يأت رسول للبشر يخبرهم بأن الله جل وعلا فوقهم لجزم العقل بعلو الله وفوقيته على عباده، ولذلك من يقول خلاف هذا فهو ضال بلا شك.

وقد وجدت شبهتان في هذا الدليل لعلماء الكلام:

الشبهة الأولي: تولاها الجهمية أن الله في كل مكان أي بذاته (لا بعلمه فهذا موضع اتفاق) أي أن الله بذاته في كل مكان في البيوت وفي المساجد وفي الأسواق وفي المزابل وفي الحمامات - تعالى الله عما يقولون – ولذلك كان يقول غلاة الجهيمة من الصوفية:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا

وما الله إلا راهب في كنيسة

فالكلب والخنزير والراهب وكل شيء إله لأن الله في كل مكان – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – فكفر هؤلاء أشنع من كفر اليهود والنصارى لأن اليهود قصروا الحلول في عزير، وأما النصارى فقصروا الحلول في عيسى وأمه، وأما هؤلاء فقالوا إنه حل في كل نقيصة وقذر.

الشبهة الثانية: بعض علماء الكلام لا يجوز أن تقول أين الله؟ يقول: لأن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال لا أمام ولا وراء، لا داخل العالم ولا خارج العالم، نقول له: يا مسكين أنت بهذا لم تثبت الحي القيوم بل جعلته موهوماً معدوماً، ولذلك لما تناظر أبو بكر ابن فورك في مجلس محمود بن سُبُكْتَكِين وهو من الأمراء الصالحين، تناظر هذا المؤول أي بن فورك مع بعض أهل السنة فقال: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، فقال هذا السني للأمير: ايها الأمير اطلب إلهاً غير إلهك، فهؤلاء قد ضيعوا إلهك.

إذن فقولهم بفضي إلى أن نجعل الله عدماً، فجعلوا العلي الأعلى الذي كرسيه أعظم من السموات والأرض جعلوه معدوماً صرفاً وموهوماً محضاً، فانتبهوا لهذا!!!.

ص: 26

كلا الشبهتين باطلتان.

ولذلك عندما جلس أبو المعالي أمام الحرمين – غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه – يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان دعنا من هذه الأمور وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب إلا وطلب المعونة ممن فوقه فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا؟ فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني، فرجع إمام الحرمين عن قوله.

5-

وأما الفطرة المستقيمة:

وتقدم معنا أن الأدلة على الفطرة قسمان:

أ) سلفي شرعي، والسلفي الشرعي قسمان

1.

نصوص الكتاب والسنة.

2.

الفطرة المستقيمة.

ب) وخلفي بدعي وهو قسمان:

1) عقل متكلف فيه متعمق.

2) كشف خيال.

فالفطرة السوية تقرر علو رب البرية، ووجه ذلك: أنه لا يلجأ أحد إلى الله إلا واتجه إلى فوق، فهذا مركوز في أذهان وقلوب نساء البادية فضلاً عن غيرهن، فهذه فطرة ولذلك عندما ندعو نمد أيدينا إلى فوق أو إلى الوراء أو إلى أسفل إلى العلو إلى فوق، وعندما نسجد نقول سبح

ص: 27