الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أو طلحة وانطلق إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يقول أبو طلحة، إنك لتعلم يا رب إنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد، انطلق، فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدما، فولدت غلاماً، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح احتملته، فانطلقت به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فصادفته ومعه ميسم – وهو الحديدة التي تحمي بالنار، وتوسم بها الدواب – فلما رآني قال:"لعل أن سليم ولدت" قلت: نعم، فوضع الميسم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، ودعا له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعجوة من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في فيّ الصبي، فجعل الصبي يتلمظها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"انظروا إلى حب الأنصار التمر" قال فمسح وجهه وسماه: عبد الله.
.. هذا لفظ رواية صحيح مسلم والمسند، وفي لفظ للإمام أحمد عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: تزوج أبو طلحة أم سليم – وهي أن أنس والبراء – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: فولدت له بنياً، قال: فكان يحبه حباً شديداً، قال: فمرض الغلام مرضاً شديداً فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – فيصلى معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيئ يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب فلم يجيء إلى صلاة العتمة، قال: فزاح عشية، ومات الصبي، قال: وجاء أبو طلحة، قال: نسجت عليه ثوباً وتركته، قال: فقال لها أبو طلحة: يا أم سليم كيف بياض بني الليلة؟ قالت: يا أبو طلحة ما كان ابنك منذ اشتكى أسكن منه الليلة، قال: ثم جاءته بالطعام فأكل، وطابت نفسه، قال: فقام إلى فراشه، فوضع رأسه، قالت: وقمت أنا فمسست شيئاً من طيب، ثم جئت حتى دخلت معه الفراش فما هو إلا أوجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله، قال: ثم أصبح أبو طلحة يتهيأ كما كان يتهيأ كل يوم، قال: فقالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن رجلا ً استودعك وديعة فاستمتعت بها ثم ثم طلبها، فأخذها منك تجزع من ذلك؟ قال: لا، قالت: فإن ابنك قد مات، قال أنس: فجزع عليه جزعاً شديداً، وحدث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما كان من أمرها في الطعام والطيب، وما كان منه إليها، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فبتما عروسين وهو إلى جنبكما؟ " قال: نعم يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "بارك الله لكما في ليلتكما" قال: فحملت أم سليم تلك الليلة، قال: فتلد غلاماً، قال: فحين أصبحنا قال لي أبو طلحة: احمله في خرقة حتى تأتي به رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، واحمل معك تمر عجوة، قال: فحملته في خرقة، قال: ولم يحنك، ولم يذق طعاماً، ولا شيئاً قال: فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – ولدت أم سليم، قال:"الله أكبر، ما ولدت؟ " قلت: غلاماً، قال:"الحمد لله" فقال: "هاته إليّ" فدفعته إليه، فحنكه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم قال له:"معك تمر عجوة؟ " قلت: نعم، فأخرجت تمرات، فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تمرة وألقاها في فيه، فما زال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يلوكها حتى اختلطت بريقه، ثم دفع الصبي، فما هو إلا أن وجد الصبي حلاة التمر يمص بعض حلاة التمر، وريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكان أولمن فتح أمعاء ذلك الصبي على ريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"حبّ الأنصار التمر" فسمي عبد الله بن أبي طلحة، قال: فخرج منه رجل كثير، قال واستشهد بفارس، وفي المسند: فما كان في الأنصار شاب أفضل منه وقد ورد في البخاري عن رجل من الأنصار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنه رأى تسعة أولاد من ولد عبد الله كلهم قد قرأ القرآن – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
.. واعلم أن تغيظ أبي طلحة، وغضبه – رضي الله تعالى عنه – كان بعد استرجاعه كما في رواية في المسند أن أم سليم قالت: يا أبا طلحة إن آل فلان استعاروا من آل فلان عارية، فبعثوا إليهم ابعثوا إلينا بعاريتنا، فأبو أن يردوها، فقال: أو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العارية مؤداة إلى أهلها، قالت: فإن ابنك كان عارية من الله – عز وجل – وإن الله قد قبضه، فاسترجع (1) وما كان من أبي طلحة – رضي الله تعالى عنه – من تغيظ وغضب إنما كان بسبب تأخير أعلامها بموت ولده، حتى جرى منه ما جرى، ولم يكن ذلك التغيظ تسخطاً على المقدور، وتبرماً من فعل من بيده مقاليد الأمور، فاعلم هذا والله يتولى هدانا جميعاً، فهو الهادي لا إله غيره، ولا رب سواه.
فانظر – رعاك الله الكريم – إلى ذلك العقل الراجح العظيم، والنظر السديد القويم، من تلك المرأة من سلفنا الصالحين، عندما أيقنت أن لله ما في السموات وما في الأرض، فلله أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، كيف دعاها ذلك الإيمان للسكينة والاطمئنان، وانشراح الصدر بقضاء الرحمن، ولله در من قال:
وما المالُ والأهلون غلا وَدَائِعُ
…
ولابدّ أنْ تُردّ الوَدَائعُ
(1) انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة: (3/169)، وأول كتاب العقيقة:(9/587) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الآداب – باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وحمله إلى صالح يحنكه:(3/1690) وكتاب فضائل الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري – رضي الله تعالى عنه –: (4/1909)، والمسند:(3/105، 106، 181، 196، 287-288) وعمل اليوم والليلة لابن السني: (231) .
وقد تلقى سلفنا الأبرار، تلك المعاني العالية من هدي نبينا المختار – صلى الله عليه وسلم – فهو أسوتهم في تلك الفعال، ثبت في الصحيحين، وغيرهما عن أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فأرسلت إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول:"ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" فعاد الرسول، فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي، ونفسه تقعقع كأنها في شنة (1)
(1) الشنة: القربة الخلق: أي البالية اليابسة كما في مختار الصحاح: (371)"شنن" والمعنى: لروحه اضطراب وتحرك في جسده يشبه صوت الماء إذا ألقي في القربة البالية كما في شرح النووي: (6/225) قال الحافظ في الفتح: (3/157) : شبه البدن بالجلد اليابس الخلق / وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها 10هـ وورد في رواية البخاري "كأنها شن" قال الحافظ: فكأنه شبه النفس بنفس الجلد وهو أبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف، وذلك أظهر في التشبيه..
ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: "هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (1) " نسأل الله أن يمن علينا بكمال المتابعة لنبينا الميمون – صلى الله عليه وسلم – في كل حركة وسكون، إنه حي قيوم.
(1) انظر الحديث في صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب 32: (3/151)، وكتاب المرض – باب عيادة الصبيان:(10/118)، وكتاب القدر – باب "وكان أمر الله قدراً مقدوراً":(11/494) وكتاب الإيمان والنذور – باب قول الله تعالى: "أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ": (11/541) وفي كتاب التوحيد – باب قول الله تبارك وتعالى –: "قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى": (13/358)، وباب ما جاء في قول الله تعالى –:"إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ": (13/434) بشرح ابن حجر في الجميع، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب البكاء على الميت –:(2/635-636)، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب الأمر بالاحتساب والصب عند نزول المصيبة:(4/19)، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في البكاء على الميت:(1/506)، والمسند:(5/204، 207) .
قال الحافظ في الفتح: (3/156) الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب ابنة النبي – صلى الله عليه وسلم –، وأن الولد صبية كما ثبت في المسند:(2/207)"أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمامة بنت زينب" ثم قال الحافظ: والذي يظهر أن الله – تبارك وتعالى – أكرم نبيه – عليه الصلاة والسلام – لما سلم لأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة وعاشت تلك المدة – أي تزوجت – وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة، والله المستعان.
وكما حصل للمكلف الرضا بقضاء الله – جل وعلا – من أثر معرفته بأن ما في السموات والأرض لله – جل جلاله – فانشرح صدره، وقرت عينه، واطمأن قلبه، فسيحصل له القناعة أيضاً وهي الغنى الحقيقي، والعز اليقيني، لأن ما قدره مالك السموات والأرض سيأتيه، فلا حاجة للتعب والنصب فيه وفي المستدرك بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه، فلا تستبطئوا الرزق، واتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم"، وفي معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحصلوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته"، وفي الحلية ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله"ولفظ الطبراني: "أكثر مما يطلبه أجله (1)
(1) انظر المستدرك – كتاب البيوع –: (2/4) وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي وذكره شاهداً لحديث جابر – رضي الله تعالى عنه – الذي رواه وهو بنحوه، وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي أيضاً: (4/325) أيضاً. ثم ذكر شاهداً له آخر بزيادة ألفاظ عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – وسكتا عليه، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(2/64، 3/233) ، ورواه ابن أبي الدنيا في القناعة – أي رواية ابن مسعود – والبيهقي في شعب الإيمان، وقال: إنه منقطع، وانظر رواية جابر في صحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب البيوع – باب في طلب الرزق:(267)، وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/183) .
وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد: (4/72)، وفيه: عفير بن معدان وهو ضعيف وانظر الرواية الثالثة في حلية الأولياء: (6/86)، ومجمع الزوائد: وفيه: رجاله ثقات، هذا وقد روي الحديث عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – عند البزار بسند قال فيه الهيثمي في المجمع:(4/71) فيه قدامة بن زائدة لم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات، وروى أبو يعلى نحوه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – بسند فيه عبيد بن بسطاس مولى كثير بن الصلت ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد أيضاً:(4/70-71) ، وما في بعض تلك الروايات من ضعف ينجبر بالصحيح من الروايات الأخرى، والله أعلم. وانظر الكلام على شواهد كثيرة للحديث في المقاصد الحسنة:(113-114)، وفيض القدير:(2/251) .
".
ورسوخ تلك المعاني في قلب العبد الفاني سعادة ليس بعدها سعادة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ليس الغني من كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (1)
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب الغنى غنى النفس: (11/271) بشرح ابن حجر وفيه: ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عبد اله خير وأبقى، وانظر الحديث في صحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب ليس الغنى عن كثرة العرض:(2/726)، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء أن الغنى غنى النفس:(7/108)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –:(2/1386) وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب الغنى غنى النفس: (624) وقد علمت وجوده في الصحيحين فتنبه، والمسند:(2/243، 261، 315، 390، 438، 443، 539، 540) ومسند الحميدي: (2/458)، والحديث رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم – ورجال الطبراني رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(10/237) – كتاب الزهد – باب ليس الغنى عن كثرة العرض، وروى الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –:(4/327) وابن حبان في صحيحه – المكان المتقدم – عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم، قال: فترى قلة المال هو الفقر؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال: ليس كذلك، إنما الغنى غنى القلب والفر فقر القلب" الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، واقره الذهبي ورواه الطبراني كما في مجمع الزوائد:(10/237)، وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه..
" وفي سنن الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن فضالة بن عبيد – رضي الله تعالى عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "طوبى لمن هُدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع (1)
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الكفاف: (7/95)،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو في المسند:(6/19)، والمستدرك – كتاب الإيمان:(1/35) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، واقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب في القناعة:(631)، ورواه النسائي في الكبرى كما في تخريج أحاديث الإحياء:(3/232) .
وثبت في صحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب في الكفاف والقناعة: (2/730)، وسنن الترمذي – المكان المتقدم – وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –:(2/1386)، والمسند:(2/168، 173)، والمستدرك – كتاب الأطعمة:(4/123)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي مع أنه في صحيح مسلم كما تقدم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه" والكفاف: ما كف عن السؤال، كما في غذاء الألباب:(2/525)، ولذلك قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب:(4/69) ، والكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية، وروى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز، أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ قال: شبع يوم، وجوع يوم 1هـ وفي جامع الأصول:(10/138) : والكفاف: الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص 10هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وهذان الحديثان يشهدان لحديث أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – الذي جرى حوله كلام من قبل بعض الأئمة الأعلام، فيؤكد أن كونه من الأحاديث الحسان، حسبما قرره بعض الأئمة الكرام، ولفظ الحديث عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –:"إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نفض بيده، فقال: عجلت منيته، وقلت بواكيه، قل تراثه" والحاذ: الحال، والظهر كما في اللسان:(5/20)"حوذ" والمراد في الحديث كما في الترغيب والترهيب: (4/154) : خفيف الحال، قليل المال وفي جامع الأصول:(10/138) : والخفيف الظهر من العيال، القليل المال القليل الحظ من الدنيا 1هـ، والحديث رواه الترمذي – المكان المتقدم – وقال: هذا حديث حسن وأقر الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (10/137) تحسين الترمذي، فقال: وإسناده حسن، قال الترمذي: هذا حديث حسن 10هـ وهو في سنن ابن ماجه – كتاب الزهد باب من لا يؤبه له: (2/1379)، والمسند:(5/252)، ومسند الحميدي:(2/404)، والمستدرك – كتاب الأطعمة:(4/123)،وقال: هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: لا، بل إلى الضعف هو، وحكى المنذري في الترغيب والترهيب:(4/154) تصحيح الحاكم وقال: كذا قال، وقد حكم الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(3/271) على سندي الترمذي وابن ماجه بالضعف، فقال: رواه الترمذي وابن ماجه بإسنادين ضعيفين 10هـ وانظر زيادة تقرير في فيض القدير: (2/427) ، والله تعالى أعلم.
وفي كتاب العزلة: (87) قصة طريفة فيها تقرير ما ورد في هذا الحديث الشريف، فدونكها، وحذار حدذار من الغفلة عنها: قال الأمير زياد لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه، فقال: ما صنعتم شيئاً، إن لأعواد المنبر هيبة، وإن لقرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط الناس عندي رجل له دار لا يجري عليه كراها، وزوجة صالحة قد رضيته ورضيها، فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، ولأنه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأهذهبنا دينه ودنياه 10هـ.
".
قال الإمام السفاريني – عليه رحمة الله تعالى – ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه، ورضي عنه –:
وَجَدْتُ القناعة َ ثوبَ الغِنى
…
فَصِريُ بأذيالها أمْتَسِمكْ
فَلْبسني جاهُها حُلة
…
يَمُرُّ الزمأأانُ ولم تُنْتَهِكْ
فَصِرْتُ غنياً بلا دَرْهم ٍ
…
أمُرُّ عزيزاً كأني مَلِكْ
وسئل الإمام بشر الحافي – عليه رحمة الله تعالى – عن القناعة، فقال: لو لم يكن فيها إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزي، ثم أنشد:
أفادَتنا القناعةُ أيَّ عزّ
…
ولا عِزَّ أعزُّ من القناعة
فخذ ْ منها لنفسك رأسَ مال ٍ
…
وصَيّرْ بعدها التقوى بضاعة
تَحُزْ حالتين: تُغْنَى عن بخيل ٍ
…
وتَسْعَدُ في الجِنان بِصَبْر ساعة
ولبعضهم:
هي القناعة فالْزَمْها تَعِش مَلِكاٍ
…
لو لم يكن فيها إلا راحة ُ البَدّن ِ
وانظرْ لمنْ مَلَك الدنيا بأجْمعها
…
هل راح منها سوى بالقُطْن والكَفَنِ (1)
(1) انظر تلك الأبيات في غذاء الألباب: (2/257) وفي منظومة الآداب المشروحة في غذاء الألباب:
…
بما لَلَّبَ الرحمن واشكره تحمد
0@وكنْ صابراً بالفقر وادّرِع ِ الرضا
فما العزّ إلا في القناعة والرضا
…
بأدني كَفَاف حاصل والتزهد
فمن لم يُقْنِعْه ُالكَفَاف فما إلى
…
رضاه سبيل فاقتنع وتَقَصّد
فمن يَتغنى يُغْنِهُ الله ُ، والغنى
…
غنى النفس لا عن كثرة المُتعَدّد
وانظر شرك تلك الأبيات بكلام لذيذ مستطاب في غذاء الألباب: (2/513-555)، فمت ذلك قوله:(2/532) : وما أحسن قول الإمام الشافعي – رضي الله تعالى عنه –:
خَبَرتُ بني الزمان ِ فَلَمْ أرَ مِنْهُمُ
…
سوى خَادع والخُبْثُ حَشْوً إهَابهْ
فجَرَّدْتُ مِنْ غَمْدِ القناعة صارِماً
…
قطَعْتُ رجائي مِنْهمُ بِذبَابِهْ
فلا ذا يراني واقفاً بطريقهِ
…
ولا ذا يراني قاعداً عند بابهْ
غنيّ بلا مال ٍ عن الناس كلّهم
…
وليس الغِنى إلى عن الشيء لا بهْ
وقوله: وقال غير وأحسن:
إذا أعْطشَتْك أكفُّ اللئام ِ
…
كَفَتْكَ القناعة ُ شِبَعاً وَرِيَّا
ج
فكنْ رَجُلا ً رِجْلُه في الثَّرى
…
وهامَة ُ هِمَّتِه في الثُّريَّا
أبيّاً بنفسه عن بَاخِل ٍ
…
تراه بما في يديه أبِبيّا
فإنَّ إراقة ماء الحَيَا
…
ة ِ دونَ إراقة ِ ماء المُحَيّا
وانظر لزاماً الإحياء: (3/232-237) ففيه مدح القناعة والحث عليها، وبيان الأمور التي توصل إليها، ولله دره حيث يقول: في القناعة الحرية والعز، ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت أميره، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك، ثم سرد أبياتاً لطيفة رقيقة في ذلك منها:
العَيشُ ساعات تَمُرّ
…
وَخطوبُ أيام تكِرّ
اقنعْ بعيْشك ترْضَهُ
…
واترك هواك تعيش حرّ
فَلَربَّ حتْف ٍ ساقه
…
ذهب وياقُوتٌ ودُرّ
ومنها:
أرْفه ببال ِ فتى أمسى على ثقة ٍ
…
إنَّ الذي قسَمَ الأرزاق يرزقهُ
فالعِرضُ منه مصُون لا يدنِسُهُ
…
والوجْهُ منه جَديد ليس يُخْلِقُهُ
إن القناعة َ منْ يحللْ بساحَتِها
…
لم يلقَ في دهره شيئاً يؤرِقُهُ
ومنها:
حتى متى أنا في حَلّ ٍ وترْحال ِ
…
وطول سعي وإدبار وإقبال
ونازح ِ الدار لا أنْفَكّ مُغْتَرِباً
…
عن الأحبّة لا يدرون ما حَالي
بمشرق ِ الأرض طوْراً ثم مغربها
…
لا يخطر الموتُ منْ حرْصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دَعَة ٍ
…
إن القُنوع َ الغِنَى لا كثرة المال ِ
ومنها:
أراكَ يزيدك الإثراءُ حِرْصاً
…
على الدنيا كأنك لا تموتُ
فهل لك غاية ٌ إنْ صرْتَ يوماً
…
إليها قلت: حسبي قد رضيت ُ؟
وانظر تحفة السادة المتقين: ففيه تقرير ما ذكره الغزالي بكلام محكم متين، وانظر أيضاً ذلك المبعث العظيم في روضة العقلاء:(121-165) وفي صيد الخاطر ك (300-301) وفيه:
تفضلْ على منْ شئتَ واعنْ بأمره
…
فأنت ولو كان الأميرَ أميرُه
وكنْ ذا غِنىً عمن تشاء من الوَرى
…
ولو كان سُلطاناً فأنت نظيرُه
ومنْ كنتَ مُحتاجاً إليه ووافقا
…
على طمع منه فأنت أسيرُه
وفي مجموع الفتاوى: (1/99) : أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله – عز وجل – وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره..إلخ وفي شرح تائهة السلوك: (11-22) ومما نقله عن الإمام الشافعي – عليه رحمة الله تعالى –:
أمَتُّ مطامعي فأرَحتُ نفسي
…
فإنَّ النفس ما طمعتْ تهونُ
وأحييتُ القُنوع وكان ميتاً
…
ففي إحيائه عِرْضُ مصُونُ
إذا طمعٌ يحُلُّ بلقبِ عبد ٍ
…
عَلتْهُ مهانة ٌ وعلاه هُونُ
وله أيضاً:
ورزْقك لا يفوتك بالتَّواني
…
وليس يزيدُ في الرزق العناءُ
إذا ما كنت ذا قلب قنوع ٍ
…
فأنت ومالك الدنيا سواءُ
ولبعضهم:
النفسُ تأبى أن تكونَ فقيرة
…
والفقر خير من غنىً يطغيها
فغنى النفوس هو الكفاف فإن أبَت
…
فجميع ما في الأرض لا يكفيها
ولبعضهم:
خذْ من العيش ما كفى
…
فهو إنْ زاد أتلفها
كسراج ٍ منوّر
…
إن طَفا دُهْنُه انطفا
ولبعضهم:
عزيزُ النفس من لزم القناعة
…
ولم يكشِفْ لمخلوق قِنَاعَهْ
أفادتْنا لقناعة ُ كلَّ عزّ
…
وهلْ عزُّ أعزّ من القَنَاعة ْ
ج
فصيرها لنفسك رأسَ مال ٍ
…
وصيّرْ بعدها التقوى بضاعة ْ
لِتَغْنى في حياتك عن لئيم ٍ
…
وتسْعَدُ في الجنان بصبر ساعة ْ
ولبعضهم:
دع ِ الحرص على الدنيا
…
وفي العيش فلا تطْمعْ
فإنَّ الرزق مقسوم
…
وسوء الظن لا ينفعْ
فقير كل ذي حرص
…
غنيٌّ كل من يقنع
وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك: (......) قول جبريل لنبينا – صلى الله عليه وسلم – "يا محمد: عس ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"، وقد سأل نبينا – صلى الله عليه وسلم – ربه – جل وعلا – ما يسد حاجته ويكفيه، وعن غيره يغنيه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
انظر الحديثين في صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقاق –: (4/2281) والثاني فيه أيضاً في كتاب الزكاة – باب في الكفاف والقناعة –: (2/730)، وصحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب كيف عيش النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وتخليهم عن الدنيا:(11/283) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في معيشة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأهله:(7/100-101) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب القناعة –:(2/1387)، والمسند:(2/232، 446، 481) .
وقد أخبر نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن من حصل له ما يكفيه من تمتع بالأمن والعافية فقد أحرز النعم، وتمت في حقه كل المنن، ففي سنن الترمذي وغيره من عبيد الله بن محصن – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب 34:(7/93-94)، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه – في كتاب الزهد – باب القناعة – (2/1387)، والبخاري في الأدب المفرد:(46) باب من أصبح آمناً في سربه –. ورواه ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب فيمن أصبح معافى: (620) لكن من رواية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية فقال وفي الباب عن أبي الدرداء، وقد مال الذهبي في الميزان:(2/191) إلى تضعيف رواية الترمذي، وحكم على سند الرواية الثانية باللين أيضاً، والله أعلم.
قال ابن الأثير في جامع الأصول: (10/136) : "آمناً في سربه" أي في نفسه، يقال: فلان واسع السرب أي: رخىُّ البال، وروي بفتح السين ـ وهو: المسلك والمذهب 10هـ وفي فيض القدير: (6/68) عند شرح هذا الحديث، قال: وقال نفطية:
إذا القوتُ يأتي لك والصحة ُ والأمنُ
…
وأصبحتَ أخا حُزْن ِ فلا فَارَقَكَ الحُزْنُ
.. نسأل الله الكريم الرضا عنه وعنا، وأن يقنعنا بما قسم لنا، وغلى سواه أن لا يلكنا فهو ولينا وحسبنا.
ب) تعليق الأمل بالله، وقطع الرجاء من غيره: فالأمور كلها من الله – جل وعلا – وإليه، ومن عداه ليس بشيء ليده، فهو لا يملك نقيراً ولا قطميراً، قال الله – جل ثناؤه –: " {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (1) }
(1) الآيات: (13-17) من سورة فاطر، والقطمير هو: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة كما في تفسير الجلالين:(348)، ومختار الصحاح:(570)"قمطر" وأما النقير فهو: النقرة التي في ظهر النواة كما في المختار: (700)"نقر" – جل وعلا – يقول في سورة النساء: (53) : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَاّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} وفي تفسير الجلالين: (68) : أي ليس لهم شيء منه، ولو كان " فَإِذاً لَاّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً " أي: شيئاً قدر النفرة في ظهر النواة لفرط بخلهم..
فاطر13-17، وفي سورة يونس: يقول ربنا المعبود: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يونس106-107، وتقدم حديث حصين – رضي الله تعالى عنه – وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – له:"كم تعبد اليوم إلها؟ فقال حصين: سبعة، ستة في الأرض، وواحداً في السماء، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: فأيهم تعد لرغبتم ورهبتك؟ فقال حسين: الذي في السماء، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فيستجيب لك وحده، وتشكرهم معه؟ " ثم أسلم حصين – رضي الله تعالى عنه – وتقدم – أيضاً – في هذا الكتاب المبارك – حديث الأسود بن سريع – رضي الله تعالى عنه – وفيه: أتى النبي – صلي الله عليه وسلم – بأعرابي أسير، فقال: أتوب إلى الله – عز وجل – ولا أتوب إلى محمد – صلى الله عليه وسلم –: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "عرف الحق لأهله (1) ".
(1) انظر تخريج الحديثين في صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك.
وثبت في المسند وسند الترمذي بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنت خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً فقال: "يا غلام أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1)
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب صفة القيامة: باب 60: (7/203-204) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظره في المسند:(1/293، 303، 307) ومسنده صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (2669، 2763، 2804)، وانظره في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم:(3/541-542) لكن سند طريقته ضعف كما بين الذهبي في تلخيص المستدرك، والسيوطي في الجامع الكبير:(1/974)، وانظر الحديث في حلية الأولياء:(1/314) والاعتقاد للبيهقي: (72)، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد:(14/125) عن أبي سعيد الخدري. قال ابن منده كما في جامع العلوم والحكم: (174) وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه وصى به ابن عباس بهذه الوصية من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر وفي اسانيدها كلها ضعف 1هـ وانظر من خرج الحديث غير ما تقدم في الجامع الكبير:(1/974)، وجامع العلوم والحكم:(174)، والفتح المبين: (175.
وهذا الحديث هو الحديث التاسع عشر في الأربعين النووية، قال الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم:(174) : وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فواأسفاه من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه، قلت – القائل: ابن رجب – وقد أفردت لشرحه جزءا كبيراً، وقال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث في مجموع الفتاوى:(1/93) : فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله – عز وجل – ولا يضر غيره، فمن سلك هذا المسلك استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفضل بن عياض – رحمه الله تعالى –: من عرف الناس استراح، يريد – والله أعلم – أنهم لا ينفعون، ولا يضرون 10هـ.
" وفي سنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل (1)
(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الهم في الدنيا وحبها –: (7/82-83)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، والحديث ورد بهذا اللفظ في الطبعة الحمصية وهي المتقدمة ف، وفي الطبعة المصرية:(4/563) وفي عارضة الأحوذي: (9/200) وتحفة الأحوذي: (3/263)، وفيه "برزق عاجل" بالعين المهملة "أو آجل" بهمزة ممدودة 10هـ وقد روى الحديث أبو داود في كتاب الزكاة – باب في الاستعفاف –:(2/296) بلفظ: "...... أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل، أو غنى عاجل" ومثل رواية أبي داود رواية المسند: (1/407)"أوشك اله له بالغنى، إما أجلٌ عاجل، أو غنى عاجل" لكن ورد في المسند: (1/389) : "آتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل" وفي: (1/442) : "آتاه الله برزق عاجل أو موت عاجل" هكذا وردت الرواية الأخيرة في طبعة الحلبي ووردت في النسخة الكتانية المغربية: "أو موت آجل" كما قال الشيخ أحمد شاكر: (6/117) ومال إلى إثباتها لموافقتها الرواية الماضية في الإسناد، وسند روايات المسند صحيح كما قرر الشيخ أحمد شاكر:(3696، 3869، 4219، 5/258، 333، 6/117)، والحديث في المستدرك – كتاب الزكاة:(1/408) بلفظ: "..... إما بموت آجل أو غنى عاجل" وقال الحاكم: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
ومعنى الروايات: أن من أنزل حاجته بربه – جل وعلا – سيأتيه الله بالفرج عاجلاً أو آجلا ً حسب حكمته ومشيئته، وذلك الفرج بحالتيه العاجل والآجل قد يكون يساراً ورزقاً مدراراً، وقد يكون وفاة، واستراحة من عناء الدنيا، وهذا يجمع شمل تلك الروايات وهو أولى من حمل الموت على موت قريب ليحصل الإرث لصاحب الفاقة، كما في أولى من ادعاء، أرجحية رواية:"أو غنى آجل" بالمد على رواية: "أوغنى عاجل" ونقل ذينك المعنيين المباركفوي في تحفة الأحوذي: (3/263) عن الشيخ علي القاري فتأملهما.
". وفي الحكم العطائية: لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال، لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً، ومن لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها رافعاً (1) .
(1) انظر الحكم مع شرحها لابن عباد النضري، وللشيخ عبد الله الشرقاوي:(34) .
وتقدم في هذا الكتاب المبارك أثر وهب بن منبه – عليه رحمة الله تعالى – أنه قرأ في الكتاب الأول أن الله – تبارك وتعالى – يقول: "بعزتي من اعتصم بي، فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فأكله على نفسه ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك (1)
(1) انظر صفحة: (......) .من هذا الكتاب المبارك، وانظر لزاماً ما أحلت عليه في ذلك المكان، مما فيه خلاص من الشدائد الجسام، وتأييد لمن يعتصم بالملك الرحمن، وشرح الحكم لابن عباد:(35)، قال محمد بن الحسين بن حمدان: كنت في مجلس يزيد بن هارون، وكان إلى جانبي رجل، قلت له: ما اسمك؟ فقال: سعيد، فقلت: وما كنيتك؟ قال: أبو عثمان، فسألته عن قصته وخبره، فقال: نفدت نفقتي، فقلت: ومن تؤمل لما قد نزل به؟ فقال: يزيد، فقلت: إذن لا يسعفك بحاجتك، ولا ينجح طبلك، ولا يبلغك أملك، فقال: وما علمك بهذا – رحمك الله –؟ قلت: إني قرأت في بعض الكتب أن الله – عز وجل – يقول: وعزتي وجلالي وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في علو مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل لغيري بالإياس، ولأكسوته ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمل غيري في النوائب والشدائد بيدي؟ وأنا أنحى، ويرجى غيري، وتطرق الفكر أبواب غيري، وبيدي الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا أملني لنائبة فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني؟ أم من ذا الذي يقرع بابي فلم أفتحه له؟ جعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فتعلقت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخراً لهم عندي فلم يرضوا بحفظي، وملأت سمواتي ممن لا يملون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري؟ فما لي أراه بآماله معرضاً عني؟ ومالي أراه لاهياً بسواي؟ أعطيته بجودي مالم يسألني، ثم انتزعته منه، فلم يسألني رده، وسأل غيري، أفتراني أبدأ بالعطية قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة لي؟ أوليس الرحمة والفضل بيدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ لو قلت لأهل سمواتي وأرضي: أملوني، ثم أعطيت كل واحد منهم من الفكر ما أعطيت الجميع ما نقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك كامل أنا قيمه؟ فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤس من عصاني، ولم يراقبني، وثبت على محارمي، ولم يستح مني 10هـ وهذا الأثر غاية ما يقال فيه أنه من أخبار ما سبقنا من الأمم، قبلنا، ولكل فقرة منه شواهد في شرعنا، ولذلك ترخصت في ذكره فحديث ابن عباس وابن مسعود المتقدمين قريباً يشهدان له، كما أن حديث أبي ذر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – المتقدم في هذا الكتاب المبارك:(.......) يشهد له فاعلم، والله تعالى أعلم.
". نسأل الله الكريم المجيد، أن يمن علينا بتحقيق التوحيد، وقطع الأمل من جميع العبيد، إنه فعال لما يريد.