المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مقدمة التفسير (7) (دروس تفسير)   للشيخ الدكتور عبد الرحيم الطحان بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٢١

[عبد الرحيم الطحان]

فهرس الكتاب

مقدمة التفسير (7)

(دروس تفسير)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التفسير 7

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولى الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.

{ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} [الأنعام/102] .

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء/1] .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}

[آل عمران/102] .

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا صلى الله عليه وسلم * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب/70-71] .

أما بعد: معشر الإخوة الكرام..

انتهينا من دراسة المقدمة لتفسير كلام الله جل وعلا والمقدمة دارت على أمرين اثنين:

? على منزلة كلام الله جل وعلا وأثره فى قلوب العباد.

ص: 1

وعلى بيان الطرق الحكيمة فى تفسير الآيات القيمة الكريمة.

وهذان الأمران أخذ معنا مدارستهما سبعة دروس متتالية ونبدأ الآن فى تفسير سورة لقمان التى وقع الاختيار على البدء بها وقلت إن الذى دعانى للكلام عليها دون غيرها ثلاثة أمور.

أولها: ما كنت أشرت إليه سابقا فى الدرس الماضى وهو أمر قريب قريب أننى كنت أتصفح سير أعلام النبلاء فى الجزء الحادى عشر فى الجزء الذى فيه ترجمة إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد رحمه الله ونضر وجهه ونور قبره وقع نظرى على ترجمة عبد صالح وهو حاتم الأصم نعت بأنه لقمان هذه الأمة فقلت لعله فى ذلك إشارة إلى أن نبدأ بتفسير هذه السورة قبل غيرها وتقدم معنا شىء من الإشارة إلى أحوال هذا العبد الصالح الذى لقب بلقمان هذه الأمة المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه كما وجد لقمان فى الأمم الماضية هذه الأمة نعت عبد صالح بهذا التعت ووجدت فيه الحكمة كما وجد فى ذلك العبد الصالح وتقدم معنا أنه توفى سنة سبع وثلاثين ومائتين للهجرة عليه رحمة الله.

قلت وقد نعت فى هذه الأمة عبد آخر صالح مبارك بأنه حكيم هذه الأمة وهو أبو مسلم الخولانى عبد الله ابن ثوب وتوفى سنة اثنتين وستين على المعتمد وقيل كانت وفاته قبل الستين قبل موت معاوية رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 2

أما السبب الثانى: فقلت هذه السورة التى سميت باسم هذا العبد الصالح لقمان فتشير إلى حكمة هذا العبد الصالح ونحن فى وقت ينبغى أن ننتبه إلى الحكمة لنضع الأمور فى مواضعها وقلت لاأعلم عصرا جرى فيه الخلل والفساد والاضطراب وانقلبت فيه الموازين كالعصر الذى نعيشه فى هذا الحين رحمة الله على الإمام أحمد عندما يقول إذا رأيتم شيئا مستقيما فتعجبوا فكيف يكون حاله لو رأى زماننا أسأل الله العافية والسلامة وحسن الخاتمة وأن يثبتنا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.

وأما السبب الثالث: فهذا ما سنتدارسه فى هذا الدرس إن شاء الله السبب الثلث قلت إن سورة لقمان سورة مكية وحقيقة ينبغى على المفسر إذا أراد أن يبدأ بتفسير كلام الله جل وعلا أن يوجه أنظار المستمعين وأنظار من يتدارس معهم إلى طبيعة القرآن المكى لا سيما فى هذا العصر كيف كانت الأمة ضالة حائرة تائهة ضائعة فاهتدت بهذا القرآن بالقرآن المكى الذى نزل عليها فترة إقامة النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة رسولا ونبيا مدة ثلاث عشرة سنة فسورة لقمان سورة مكية وحالنا كما قلت يزيد على حال الجاهلية قبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه فى الفوضى والاضطراب فينبغى أن نبدأ بسورة مكية لعلها تعالج داءنا ويكون فيها دواؤنا سورة لقمان سورة مكية والقرآن ينقسم إلى قسمين إلى مكى ومدنى ولعلمائنا الكرام فى ضبط كل منهما ثلاثة أقوال.

منهم من لاحظ [الإخوة الكرام الذين هم فى مؤخرة المسجد إن شاؤوا أن يحضروا معنا وإن شاؤوا فليتفرقوا عن أنفسهم ولا يشوشوا علينا] .

لهم فى ملاحظة المكى فى ضبط المكى والمدنى ثلاثة أقوال إما على ملاحظة المكان أو الزمان أو المخاطب.

ص: 3

فقيل بناء على ملاحظة المخاطبين ما فيه يا أيها الذين آمنوا مدنى وما فيه يا أيها الناس يا بنى آدم مكى والسبب فى هذا أن أهل المدينة مجتمع إيمانى مسلم فخوطبوا بوصف الإيمان والإسلام وأما فى مكة فالأمة مشركة ضالة تائهة يخاطبهم [يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم] ، [يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا وريشا لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير] ، [يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان] فيخاطب أهل مكة بما ليس فيه وصف الإيمان لأن أكثرهم ليسوا على صفة الإيمان.

فقيل ما فيه يا أيها الذين آمنوا مدنى وما فيه يابنى آدم يا أيها الناس مكى، وهذا فى الحقيقة ليس بمسلم وهو ضابط غير سديد وهو مردود لأنه ليس بجامع وليس بمانع فعندنا سور ليس فيها يا أيها الذين آمنوا وليس فيها يا بنى آدم وليس فيها يا أيها الناس ففى أى الأقسام سندخلها فما جمع إذن جميع أنواع التعريف فى المعرف عندنا سور ليس فيها يا بنى آدم ولا يا أيها الذين آمنوا فإذن لا تدخل فى المكى ولا فى المدنى وعندنا سور فى كتاب الله جل وعلا فيها يا أيها الناس وهى مدنية بالإجماع كسورة النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} وعندنا سور فيها يا أيها الذين آمنوا وهى سور مكية فإذن هذا غير جامع لا يجمع جميع أنواع التعريف فى المعرف، وهو غير مانع لا يمنع من دخول المكى فى المدنى ولا المدنى فى المكى وعليه فهو ضابط غير معتبر.

ص: 4

وقيل فى تعريف المكى والمدنى ما نزل فى مكة وفى ضواحيها فهو مكى وما نزل فى المدينة وضواحيها فهو مدنى وهذا لاحظ المكان كما أن التعريف الأول لاحظ المخاطبين وهذا أيضا تعريف غير سديد لأن هذا وإن كان مانعا من دخول غير المعرف فى التعريف فما نزل فى مكة مكى وما نزل فى المدينة مدنى لكنه ليس بجامع هو مانع لا يدخل القسم المكى فى المدنى ولا المدنى فى المكى لكنه لا يجمع أيضا جميع سور القرآن فى هذا التعريف فعندنا سور فى القرآن نزلت لا فى مكة ولا فى المدينة نزلت فى أسفار النبى عليه الصلاة والسلام كسفرته إلى تبوك عليه صلوات الله وسلامه فإذن هذا فى أى القسمين ستدخل ستبقى إذن خارجة من القرآن المكى والمدنى فهو وإن كان مانعا من دخول غير المعرف فى التعريف لكنه ليس بجامع.

ويشترط فى قبول التعريف أن يكون جامعا مانعا يجمع أنواع المعرف فى التعريف ويمنع من دخول غير هذا النوع فى هذا النوع.

وعليه الاعتبار الثالث هو المعتمد فى تعريف القرآن المكى والمدنى فما نزل قبل هجرة النبى عليه الصلاة والسلام فهو مكى وما نزل بعد هجرته عليه صلوات الله وسلامه فهو مدنى وإن نزل فى مكة لأن الملاحظ فى هذا التعريف الزمان لا المكان ولا المخاطبين وهذا فى الحقيقة جامع مانع جمع جميع سور القرآن وقسمها إلى قسمين مكى ومدنى ومنع من دخول غير المعرف فى التعريف فالمكى مكى قبل الهجرة والمدنى مدنى بعد الهجرة فى أى مكان نزل وهذا التعريف كما قلت هو المعتمد بناء على ملاحظة الزمان.

ص: 5

السور المكية المتفق على أنها نزلت فى مكة اثنتان وثمانون سورة والمدنية المتفق على أنها نزلت فى المدينة أى بعد هجرة النبى عليه الصلاة والسلام على حسب الضابط الذى اعتمدنا عليه وعولنا عليه الذى نزل بعد الهجرة عشرون سورة باتفاق وقبل الهجرة اثنتان وثمانون بالاتفاق والمجموع مائة وسورتان بقى معنا اثنتا عشرة سورة اختلف فيها هل هى مكية أو مدنية؟ مكية أو مدنية اثنتان وثمانون مكية بالاتفاق عشرون مدنية بالاتفاق ثناتا عشرة سورة جرى الخلاف فيها هل هى مكية أو مدنية؟

وقد ثبت أن ابن عباس رضي الله عنهما كما فى طبقات ابن سعد سأل أبى ابن كعب عن السور المدنية فقال إنها سبع وعشرون سورة وعليه زاد على العشرين سبع سور من الذى اختلف فيه فيصبح إذن عدد المدنى سبع وعشرون وزد خمسة على الاثنتين والثمانين سبع وثمانون سبع وعشرون مدنى وسبع وثمانون مكى على هذا والعمدة فى كون هذه السورة مكية أو مدنية عند العلماء النقل لا العقل والرواية لا الرأى ولا دخل للاجتهاد فى هذا على الإطلاق والنقل يؤخذ من طريقين لا ثالث لهما إما من الصحابة وكلامهم فى هذا له حكم الرفع المتصل إلى النبى عليه الصلاة والسلام فهم الذين شهدوا وقائع التنزيل ونزول القرآن الجليل أو من أقوال التابعين فلكلامهم حكم الرفع لكن المرسل حكم الرفع المرسل لعدم الاتصال وتقدم معنا يؤخذ بقول التابعي فى التفسير إذا كان من أئمة التفسير أو إذا لم يكن من أئمة التفسير وتعزز بمرسل آخر كما تقدم معنا.

ص: 6

والسورة تسمى بأنها مكية أو مدنية بأحد اعتبارين عند أئمتنا من الصحابة والتابعين إما باعتبار الفاتحة وبداية السورة فإذا نزلت بدايتها فى مكة قلنا مكية وقد لا تكتمل وينزل آيات منها فى المدينة كما هو فى سورة لقمان كما سيأتينا منها ثلاث آيات نزلت فى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه إنما هذا باعتبار الفاتحة ،الفاتحة كما قلت نزلت فى مكة وكل سورة ابتدأت بحروف التهجى بالحروف المقطعة فهى مكية باستثناء الزهراوين البقرة وآل عمران.

وفى الرعد خلاف أما ماعدا هذا من سور القرآن تسع وعشرون سورة افتتحت بالحروف المقطعة طه كهيعص طه المص جميع هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة فهو مكية وسيأتينا لم وما وجه الحكمة من هذا وكون هذه السور نزلت فى مكة ولم ينزل منها بكثرة بهذا الأسلوب فى المدينة غير سورتين كما قلت البقرة وآل عمران سيأتينا وجه الحكمة فى هذا عند تفسير سورة لقمان إن شاء الرحمن.

إذن إما باعتبار الفاتحة فالفاتحة نزلت فى مكة مكية نزل شىء من السورة فى مكة لكن فاتحتها وبدايتها تأخر نزولها فنزلت فى المدينة فيقال لها مدنية مع أن بداية نزولها آيات هذه السور نزل فى مكة لكن لم تنزل الفاتحة إنما الذى نزل شىء من وسطها وأما الفاتحة نزلت فى المدينة فقال النبى عليه الصلاة والسلام ضعوها فى أول سورة لقمان.

إذن إما باعتبار الفاتحة وإما باعتبار كثرة الآيات فإذا كانت نزلت آياتها فى مكة أو فى المدينة فإما على حسب الفاتحة كما قلت وإما على حسب كثرة الآيات فيقال لها مكية أو مدنية.

ص: 7

إخوتى الكرام: ترتيب هذا القرآن بهذه الكيفية معجز بلا شك ومن تأمل حال ترتيب القرآن وجمعه وتأليفه يعلم إذا كان عنده أدنى شىء من عقل أن هذا القرآن كلام الرحمن وليس لمحمد عليه صلوات الله وسلامه فيه أى مدخل إلا البلاغ كيف هذا؟ نبينا عليه صلوات الله وسلامه أمى لا يقرأ ولا يكتب فكان ينزل عليه الوحى ويقول للكتبة من الصحابة ضعوا هذه الآية فى سورة كذا وكذا وضعوا هذه الآية فى سورة كذا وكذا ما نزلت السورة إذن متتابعة سورة البقرة أول ما هاجر نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلى المدينة نزل شىء منها ما اكتملت إلا قبل وفاته بتسعة ليال عليه صلوات الله وسلامه إذن مدة عشر سنين ينزل آيات فى سورة البقرة وآخر شىء من القرآن آية فى سورة البقرة.

كما ثبت فى تفسير ابن أبى حاتم عن قتادة رحمه الله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} آخر آية نزلت من القرآن وضعت فى سورة البقرة وسورة لبقرة من أوائل ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام فى المدينة إذن فى عشر سنوات آية توضع هنا على رأس مائتين وثمانين وآية على رأس ثمانين وآية على رأس خمسين ثم تنظر بعد ذلك فى ترتيب هذه السورة فتراه فى غاية الإحكام والإتقان كأنها صيغت فى هذا الوقت بهذه السورة.

ص: 8

هذا فى الحقيقة ليس من جهد بشر إنما هذا من كلام رب العالمين فهذا هو الإعجاز وترتيب الآيات فى سورها هذا توقيفى عن طريق ما أخبر به جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام بالإجماع ولا خلاف بين العلماء فى هذا لكن اختلف فى تفسير السور فى القرآن هل هو توقيفى أو هو توفيقى باجتهاد الصحابة؟ ولا خلاف بين العلماء فى الحقيقة كما قال الإمام الزركشى فمن قال إنه توفيقى أشار أراد أن النبى عليه الصلاة والسلام رمز للصحابة وأشار إليهم بترتيب السور لكن لم يقل لهم اجعلوا الفاتحة فى البداية ثم البقرة ثم آل عمران ثم ثم لم يقل هذا لكن رمز لهم وأشار إليهم بهذا فهو توقيفى لكن ليس عن طريق القول عن طريق الأشارة والرمز.

والقول الأول يقول توقيفى عن طريق القول فلا خلاف فى المآل بأن جميع سور القرآن ترتيبها توقيفى.

وأما الآيات فى السورة فهذا توقيفى من قبل النبى عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن ربنا الجليل سبحانه وتعالى بلا خلاف فإذن هذه السور ينزل بعضها فى مكة لا تكتمل إلا فى المدينة لا ترى فيها خللا ولا فجوة ولا فاصلا إنما هى متلاحق بعضها ببعض الآخر يمسك بما قبله كأنها حلقة متصلة ببعضها لا تعلم أين طرفاها.

هذا كلام الله جل وعلا فهذا فى الحقيقة من أوجه إعجاز القرآن العظيمة ونبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت أمى يقول اكتبوا هذه الآية فى مكان كذا فى السورة التى يذكر فيها البقرة على رأس ثمانين ومائتين ثم هم يكتبون هذا فينظرون بعد ذلك فى الترتيب فى غاية الإحكام والإتقان {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فهذا الترتيب فى كلام الله جل وعلا معجزا من أنواع الإعجاز العظيمة.

إذن سورة لقمان مكية نزلت على نبينا عليه صلوات الله وسلامه قبل الهجرة هذه السورة المكية كما قلت ينبغى أن نبدأ فى تفسيرها وفى مدارستها لنعرف طبيعة القرآن المكى ليكون ذلك الدواء علاجا للداء الذى نعيش فيه فى هذه الأيام.

ص: 9

إخوتى الكرام: القرآن المكى عنى بثلاثة أمور هى محور القرآن المكى وهذه الأمور حقيقة بها حصلت تربية القلوب وطهارتها على وجه التمام والكمال.

الأمر الأول: الذى عنى به القرآن المكى ودار حديث القرآن المكى حوله ربط القلوب بعلام الغيوب سبحانه وتعالى ربط القلوب بعلام الغيوب هذه القلوب لا بد من بنائها لأنها إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فلا بد إذن من بنائها وتطهيرها من آفاتها ورعوناتها.

القرآن المكى بنى القلوب فى مكة وطهرها عن طريقين اثنين:

الأمر الأول: تعريف هذه القلوب وتعريف هؤلاء الناس بخالقهم جل وعلا انظر لسورة لقمان التى معنا كيف يعرفهم ربنا جل وعلا به سبحانه وتعالى أشار فى هذه السورة وفى سائر السور المكية إلى أنه رب العالمين سبحانه وتعالى ومالكهم وسيدهم وخالقهم المتصرف فيهم وليس لأحد عداه شىء من ذلك يقول ربنا جل وعلا فى سورة لقمان {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} ، {خلق السماوات بغير عمد ترونها} هذا هو الخالق {وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم} الجبال لتستقر الأرض ولتثبت {وبث فيها من كل دابة} تدب وتمشى على ظهر الأرض {وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم*هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين} .

ويقول جل وعلا مقررا هذه الحقيقة {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} .

ص: 10

ويقول جل وعلا: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} إذن هو الخالق هو الرب هو المدبر لهذا المخلوق ولأمر هذا الكون فلا رب سواه سبحانه وتعالى يبنى القلوب هو يطهرها عن طريق لفت أنظار الناس إلى هذه القضية فهذه المخلوقات لها خالق وهو رب البرية سبحانه وتعالى هذا الرب الذى قرر ربنا جل وعلا فى هذه السور ربوبيته فى السور المكية أشار إلى أنه يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان سبحانه وتعالى فهو الذى يعلم كل شىء فى هذا الكون كيف لا وهو ربه وخالقه سبحانه وتعالى وهو الغنى عما سواه ومالك لكل ما فى هذا الكون.

يقول جل وعلا: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} .

ويقول جل وعلا: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} .

ويقول جل وعلا فى آخر السورة: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} إذن هذه صفات ربنا الجليل سبحانه وتعالى يعلم كل شىء فى هذا الكون وإذا أيقنت بأنه ربك سبحانه وتعالى وخلقك ويعلم جميع تصرفاتك يبنى على هذا أمور فى المستقبل حصلت فى الجيل الأول فى الصحابة الكرام فى العصر المكى رضوان الله عليهم أجمعين.

يخبرنا الله جل وعلا فى هذه السورة المكية بأن له ما فى السموات وما فى الأرض {لله ما فى السماوات وما فى الأرض إن الله هو الغنى الحميد} فله ما فى السماوات وما فى الأرض خلقا هو خلقهم وملكا وتدبيرا لا يخرجون عن قبضته ولا عن مشيئته طرفة عين.

ص: 11

إذن رب العالمين وخالق المخلوقات أجمعين يعلم كل شىء وهو الغنى عما سواه وله كل شىء سبحانه وتعالى إذا كان الأمر كذلك فينبغى أن نفرده بالعبادة وأن نشكره على نعمه التى أسداها إلينا وهذا ما أشار إليه ربنا جل وعلا فى سورة لقمان: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} ، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} .

{أن اشكر لله} ورأس الشكر أن توحد الله جل وعلا وأن تفرده بالعبادة وأن تسير جميع شؤونك على حسب ما يريد ربك الذى خلقك سبحانه وتعالى {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} لا ينتفع بطاعتك ولا يتضرر بمعصيتك {ومن كفر فإن الله هو غنى حميد}

وهكذا يقول ربنا جل وعلا: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} .

فكما أحسنت إليك إحسانا لا تظير له فينبغى أن تشكرنى وأن تفردنى بالعبادة ينبغى أن تشكر أيضا من أحسن إليك بعد ذلك بتدبيرى وتقديرى ومشيئتى وهو الأبوان {أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير} فإذا تعارضت طاعة الله مع طاعة الأبوين.

{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} رب العالين خالقهم مالكهم يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن يفرد بالعبادة فلا نلجأ إلى غيره سبحانه وتعالى.

انتهى الأمر عند هذا الحد لاالقلوب لا زالت بحاجة إلى أمر رابع وهو أن هذا الرب جل وعلا الذى خلقنا وغنى عنا ومالكنا وأمرنا بعبادته وتسيير جميع شؤون حياتنا حسب شرعه سنأول إليه ليحاسبنا على أعمالنا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} .

ص: 12

يقول الله جل وعلا فى أوائل هذه السورة: {تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} فسيأولون إلى الله جل وعلا وليست المسألة تكليف وينتهى إلى ضياع وفوت وموت لا بعث بعده لا {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} .

هذا سوء ظن برب العالمين إذا خلقنا من غير تكليف وإذا خلقنا وكلفنا ولم يبعثنا هذا سوء ظن بربنا فيسوء ظننا به ولا نقدره حق قدره إذا ظننا أننا خلقنا هملا وإننا لم نبعث بعد موتنا لنحاسب على أعمالنا {أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} يترك سدى هملا من غير تكليف يترك سدى يموت فيفوت ولا يبعث أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا للعبث والتلهى بلا تكليف بلا أمر ونهى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا تكلفون ولا تبعثون ولا تحاسبون كل من الأمرين يستحيل فى حكمة الحى القيوم سبحانه وتعالى فلم نخلق عبثا إذن رب عظيم خلقنا ويملكنا يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن نفرده بالعبادة سنؤول إليه سبحانه وتعالى فإذا رجعنا إليه المؤمن له ثواب والجاحد له عقاب يقول جل وعلا {أولئك على هدى من ربهم} هؤلاء الذين هم بالآخرة هم يوقنون مع ما قاموا به من الأعمال الصالحات وأولئك هم المفلحون فى هذه الحياة على صراط وبينة فالضلال انتفى عنهم وهم على صراط الله المستقيم وهم يفوزون فى الآخرة بجنة النعيم.

ص: 13

صنف آخر يقابل هذا ومن الناس من يشترى لهو الحديث عندما انحرف عن صراط الله المستقيم وأقبل على لهو الحديث الذميم العقيم ذل وتاه وضاع لعقوبة أولى فى الدنيا والثانية {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} مع ضلاله وضياعه فى الدنيا له ما يهينه فى الآخرة والجزاء من جنس العمل فعندما أهان الحق أهانه الحق فى يوم القيامة {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} .

وهكذا آيات كثيرة فى هذه السورة عاد بعد ذلك إلى جزاء المؤمنين فقال {إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم *خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} ثم جاء بعد ذلك إلى آخر السورة فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور *إن الله عنده علم الساعة} إلى آخر الآية.

إذن هذا الأمر الأول من الأمرين فى بناء القلوب الإشارة إلى هذا الخالق سبحانه وتعالى وما يتصف به سبحانه وتعالى وجل شأنه رب العالمين خالق هذا الكون مالكه يتصرف فيه يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن يفرد بالعبادة سنؤول إليه ليحاسبنا على أعمالنا هذا الركن الأول من الأمرين فى بناء القلوب.

ص: 14

أما الركن الثانى: فهو تعريف العباد بقدر نفوسهم كان القرآن المكى يضرب على هذا الوتر ويدور على هذا المحور باستمرار فى بيان وصف الرب جل وعلا وشأنه وفى بيان وصف هذا العبد وبيان حقيقته وما ينبغى أن يحصل من صلة بين الخالق والمخلوق وبين العبد والرب سبحانه وتعالى فأنت أيها الإنسان وما حولك وجميع ما فى هذا الكون مقصورون مقهورون مضطرون لما يريده الحى القيوم لا يملك واحد أن يخرج لنفسه خروجا عن هذا طرفة عين خرج إلى الدنيا من غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره وصار فى صورة شاءها الله على غير اختياره إذن عبوديتنا لربنا جل وعلا واقعة قصرا وجبرا.

ص: 15

والعباد فقراء لله جل وعلا {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} فإذا كانت العبودية الاضطرارية القصرية القهرية واقعة فانتقل منها أيها الذكى الذكى إلى العبودية الاختيارية فالثواب والمدح يحصل باتصاف الإنسان بعبوديته لربه عبودية اختيارية لا اضطرارية لأنه ليس فى العبودية الاضطرارية إلا الإشارة إلى أنه موجود والله يتصرف فيه كما يريد لكن العبودية الاختيارية التى تحصل بتذلل العبد لربه وحبه له من جميع قلبه هذه التى يرتبط بها الثواب وبتفريطها يحصل العقاب وبذلك يحصل المدح والذم يقول الله جل وعلا: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} ينقاد له من فى السماوات ومن فى الأرض ذليل صاغر ثم قال جل وعلا: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} سبحان الله كثير من الناس دخل فى اللفظ الأول {ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات وما فى الأرض} وفى الأرض دخل الناس فهم يسجدون لله رغم أنوفهم وينقادون له حسب مشيئته شاءوا أم أبوا فلم قال بعد ذلك وكثيرمن الناس وكثير حق عليه العذاب فلا يسجدون السجود الأول اضطرارى قسرى قهرى لايخرج عنه أحد فهم منقادون بمشيئته خلق هذا ذكرا ليس باستطاعة أهل الأرض أن يقلبوه إلى أنثى وخلق تلك أنثى ليس باستطاعة أهل الأرض أن يجعلوه ذكرا {هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء} {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} .

ص: 16

لكن فى وسع الإنسان وإمكانه ومشيئته أن يكون صالحا وأن يكون طالحا يكون تقيا وأن يكون شقيا أن يكون صادقا وأن يكون كاذبا أن يعفر جبهته لربه فى التراب وأن يتذلل له وأن يتمرد على الله جل وعلا وأن يعاديه هذا باستطاعته لكنه لا يخرج عن مشيئة الله الكونية فالسجود الثانى غير الأول {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} .

هؤلاء كلهم منقادون لقهره سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته {وكثير من الناس} يسجدون سجودا اختياريا فلهم الثواب وكثير من الناس يمتنعون من التذلل والحب لله فعليهم عقاب {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم} .

ففقر العباد واحتياجهم إلى ربهم جل وعلا هذا اضطرارى فى المخلوقات فالله أخص أوصافه أنه غنى أخص أوصافه الغنى قائم بنفسه سبحانه وتعالى حى قيوم قائم بشؤون غيره وأخص أوصاف العباد أنهم فقراء فلا بد إذن من الإشارة إلى هذه القضية فى القرآن المكى ليعرف الإنسان قدره وموقعه فى هذه الحياة ولذلك العلة فى احتياج هذا العالم من عرشه إلى فرشه إلى ربه جل وعلا العلة فى احتياج العالم إلى الله فقر من عدا الله وغنى الله العباد محتاجون إلى الله لأنهم فقراء والعباد محتاجون إلى الله لأنه غنى الغنى الحميد فأخص وصف فى المخلوق أنه فقير وأخص وصف فى الخالق جل وعلا أنه غنى عن العالمين.

ص: 17

ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله فى طريق الهجرتين ومفتاح باب السعادتين ويقصد بالهجرتين هجرة إلى الله جل وعلا عن طريق عبادته وحده لا شريك له وهجرة إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عن طريق متابعته دون اتباع إمام غيره عليه صلوات الله وسلامه بهاتين الهجرتين يحصل التوحيد الكامل الحق للمؤمن لعبادة الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله حسبما شرع وبين وحسبما أحب وأراد محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه يقول فى طريق الهجرتين فى أوائل كتابه فى صفحة خمسة وستة وما بعدها علة احتياج العالم إلى ربه أن العالم بأسره فقير وأن الله غنى وليست العلة فى احتياج العالم إلى الله الإمكان ولا الحدوث كما يقول الفلاسفة والمتكلمون فالمتكلمون علماء الكلام يقولون العلة فى احتياج العالم إلى ربه أنه حادث مخلوق والحادث لا بد له من محدث والمخلوق لا بد له من خالق والفلاسفة يقولون العلة فى احتياج العالم إلى الله جل وعلا أنه ممكن وجوده ممكن وعدمه ممكن ولا يرجح أحد الممكنين إلا إرادة مريد وقدرة قدير وهو الله جل وعلا يقول الإمام ابن القيم وهذا غلط الإمكان والحدوث علامتان على الفقر فهذا العالم مخلوق لأنه فقير لو كان غنيا لكان خالقا فإذن المخلوقية فيه علامة على فقره وليست المخلوقية فى العالم علامة على احتياج العالم إلى ربه وكون العالم ممكنا حدوثه وعدمه ويتصور وجوده وفناءه فالذى رجح أحد الأمرين هو إله عظيم هذا علامة على فقره لأنه لما كان فقيرا يتصور أن يوجد وأن لا يوجد وأما الله جل وعلا فلا يتصور زواله طرفة عين {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} فإذن فى هذه السورة وفى السور المكية بعد أن أشار ربنا جل وعلا إلى ما يتعلق به وما يتصف به أشار إلى حال العباد فهم فقراء وفقرهم على قسمين.

ص: 18

فقر قهرى اضطرارى: قسرى لا يخرجون عن مشيئته الكونية وإرادته القدرية فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} ، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .

وهناك فقر اختيارى: طلبنا به بعد أن عرفنا فقرنا الاضطرارى وعرفنا ربنا فهو خلقنا ويتصرف فينا سبحانه وتعالى يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان ينبغى أن نعبده وحده لا شريك له وأن نحكم شرعه فى جميع شؤون حياتنا وسنصير إليه ليوفينا جزاء أعمالنا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} ونحن مقصورون لما يريد ولما يشاء إذن ينبغى أن نطيعه اختيارا وطوعا لننال الأجر الذى أشار إليه ربنا جل وعلا وكثير من الناس يسجد لله طواعية واختيارا وانقيادا لعظمة الله جل وعلا وكبريائه وألوهيته وربوبيته وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب فيمتنع عن هذا وهذا ما يشير إليه ربنا جل وعلا فى هذه السورة فى سورة لقمان فبعد أن قرر ربنا جل وعلا ربوبيته وأنه خالق هذا الكون {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} ماذا خلقوا هم فقراء {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} ، {ما لهم شرك فى السماوات ولا فى الأرض} هم ما خلقوا شيئا فى هذا الكون لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم نفعا ولا ضرا {هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين} .

ص: 19

وهذا الأمر يسلم به حتى المشركون ولا يوجد من يجحد توحيد الربوبية إلا من باب المكابرة والمغالطة وأما أنه يجحد هذا من حقيقة نفسه فلا ثم لا {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} .

وهنا يقول الله جل وعلا فى سورة لقمان: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} ، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} فإذا كان هو الخالق والمتصرف والمدبر وانت ومن معك وجميع ما فى هذا الكون لم تخلقوا فيه ذرة فينبغى أن تضعوا الأمور فى نصابها أنت عبد تهتدى بهدى الرب سبحانه وتعالى أنت مخلوق تعبد هذا الخالق {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} .

ويقول جل وعلا مقررا هذه الحقيقة: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}

{وإذا غشيهم موج} لجأوا إلى الله جل وعلا {دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} .

إذن هذا الأمر الأول: الذى دار حوله القرآن المكى بيان ما يتعلق بربنا الرحمن وبيان لحال الإنسان وما يحيط به فى هذا الكون فالله جل وعلا رب العالمين يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان يجب أن يعبد وحده لا شريك له سنؤول إليه وأنت أيها الإنسان مخلوق لهذا الخالق لا تستطيع أن تخرج عن إرادته الكونية فالتزم بأمره الشرعى وحذار حذار أن تخرج عن ذلك طرفة عين.

ص: 20

ولذلك القضية المقررة مما تقدم أنه إذا كان الأمر كذلك فلا أسعد ولا أحسن حالا ممن أفرد ربه بالعبادة وهذا ما أشارت إليه هذه السورة {هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ولا أتعس ولا أشقى ولا أخبث ولا أنكد معيشة فى هذه الحياة وهلاكا بعد الممات ممن أعرض عن عبادة الله وانحرف عن شرع الله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} ثم بين مآل الصنف الأول {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} .

إذن هذا الأمر الأول الذى دار حوله القرآن المكى بناء القلوب لتتصل بعلام الغيوب عن طريق بيان الصلة بين الخالق والمخلوق سبحان ربنا جل وعلا.

أما الأمر الثانى: الذى دار حوله القرآن المكى التحدث عن أمهات الفضائل التى يطالب بها العباد بوصفهم عبادا لله فى جميع العصور على مر الأيام والدهور وهذا الفضائل لا يدخلها النسخ كما يقول علماء الأصول فى كتب الأصول أمهات الفضائل لا يقع فيها نسخ بر الوالدين الإحسان إلى المحسن الأمر بالفضيلة والتحذير من الرذيلة هذه أمهات فضائل وأخلاق عالية يستوى فى معرفة حسنها جميع الناس بغض النظر عن كونهم مؤمنين أو كافرين بر الوالدين مطلوب؟ مطلوب فهما محسنان حض الناس على الفضيلة وتحذيرهم من الرذيلة مطلوب كل واحد يقول مطلوب ونعم الفاعل.

ص: 21

لذلك فالقرآن المكى كان يشير إلى هذه القضية ولذلك يقول ربنا جل وعلا فى سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} هذا من أمهات الأخلاق ومن الأخلاق العالية الفاضلة لا يتصور أن تنسخ شريعة من الشرائع هذا الحكم فهذا أمر به المسلمون والناس بوصفهم عبادا لله من عهد أبينا آدم إلى نبينا محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه.

وهكذا يقول الله جل وعلا فى هذه السورة مخبرا عن وصية لقمان الحكيم لابنه الكريم يابنى أقم الصلاة ثم يقول وأمر بالمعروف هذه فضيلة هذه فضيلة ينبغى أن توجد فى جميع العصور وأمر بالمعروف وانه عن المنكر يحضه على خلق الصبر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ثم يحذره من الأخلاق الرذيلة الدنيئة ومن سفاسف الأمور {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور} كل عاقل بوصفه بشرا يقر بحسن هذه الوصية {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} فهذا وجد فى القرآن المكى الإشارة إلى أمهات الأخلاق والفضائل.

ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما فى تفسير الطبرى أنه قال جمع الله أحكام التوراة من أولها إلى آخرها فى خمس عشرة آية من سورة الإسراء أولها قول الله جل وعلا {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا *وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} .

ص: 22

ثم انتقل إلى بقية الآيات خمس عشرة آية جميع أحكام التوراة فى هذه الآيات جمعها الله فى القرآن المكى وسورة الأسراء مكية والتوراة امتازت بذكر الأحكام بخلاف الإنجيل فالإنجيل كان فيه المواعظ وترقيق القلوب وهى تكمل ما فى التوراة فنبى الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يرجع إلى التوراة والمواعظ فى الإنجيل أحكام التوراة جمعها الله لهذه الأمة فى خمس عشرة آية من سورة الإسراء {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا * وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} .

ثم انتقل إلى بقية الخصال فى النهى عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن التطفيف فى الكيل والميزان إلى غير ذلك من الخصال الحسان التى كما قلت لا يتصور فيها نسخ قتل النفس {ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق} فلا يتصور في هذا نسخ أمهات الفضائل والأخلاق ذكرت فى القرآن المكى.

الأمر الثالث: الذى ذكر فى القرآن المكى وعنى به القرآن المكى بكثرة القصص والإشارة إلى أحوال الأمم السابقة لأن القصص فى الحقيقة هو يقرر الأمرين المتقدمين والثانى فرع عن الأول فإذا طهرت القلوب وأفردت علام الغيوب بالعبادة ينبغى بعد ذلك أن تأمر بكل فضيلة وأن تبتعد عن كل رذيلة لأجل تقرير هذين المعنيين ذكر الله القصص ما جرى للأمم السابقة للإشارة إلى أن تلك الأمم أمروا بعبادة الله كما أمرنا وبهذه الأخلاق الكريمة كما أمرنا فكانت النتيجة أن من أعرض عن شريعة الله شقى فى الدنيا وما له من العذاب بعد موته أكبر وأفظع القصص وهنا ذكر الله فى هذه السورة المكية شأنا من القصص فيما يتعلق بالعبد الصالح لقمان {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} .

ص: 23

وفائدة القصص سيأتينا الكلام عليها إن شاء الله على وجه التفصيل بإسهاب عند قصة لقمان وأذكر الفوائد العشرة من مجىء القصة فى القرآن وأنواع القصة فى القرآن عند قصة العبد الصالح لقمان لكنى الان أشير إلى ثلاثة أمور تتعلق بموضوعنا فيما يتعلق بطبيعة القرآن المكى القصة أشارت إلى وحدة الأديان فالله جل وعلا أرسل رسله بدءا من نبى الله أبينا آدم وانتهاء وختاما بنبينا محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه بأمر واحد {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وحدة الأديان هذه يستنبطها الإنسان من القصص وفى ذلك حكمة عظيمة وهى أن الثلة الطيبة فى مكة عندما تريد أن تؤمن ستكون معزولة غريبة عن أهل الأرض فالشرك خيم فى أرجاء المعمورة والظلام دامس والضلال منتشر الذى سيؤمن سيشعر بالغربة فالله جل وعلا سيسليه بذكر القصص فيقول له انتبه يا عبدى أنت ما تنتسب إلى شىء غريب أنت نسبك عريق عريق قديم قديم تنضم إلى قافلة عظيمة أول من ركبها أبوك آدم ثم أنبياء الله الذي جاءوا بعده والموحدون فأنت لست بمنقطع النسب وما أتيت بشىء محدث ولا مبتدع إنما هؤلاء الضالون هم الذين يسيرون فى بنيات الطريق وفى المتاهات والضلالات وأما أنت فعلى هدى وإذا كنت على هدى وتنتمى إلى نسب عريق شريف أصيل فلا يضيرك ولا يضرك بعد ذلك من عاداك ومن غمزك ومن آذاك ومن احتقر بك ومن استهزأ بك.

ص: 24

فالقصص فى العهد المكى بمثابة تثبيت قلوب المؤمنين على الحق ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام آمرا أن يقول {قل ما كنت بدعا من الرسل} ما أتيتكم بشىء مبتدع وليس مجيئى ببدعة وحادث ما سبق له نظير ولا مثيل هذا الكون منذ أن أسس أسس على توحيد الله جل وعلا وعبادته وحده لا شريك له {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع ما يوحى إلى وما أنا إلا نذير مبين} ، {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ، {إن الدين عند الله الإسلام} .

ص: 25

ولذلك إخوتى الكرام: يقول الله جل وعلا فى سورتى فى سورة الأنبياء وفى سورة المؤمنون: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} ذكر الله جل وعلا هذه الآية في هاتين السورتين إن هذه أمتكم ملتكم ملة واحدة الأمة هنا بمعنى الملة دينكم واحد وهو الإسلام الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له كل نبى كان يقول هذا لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ، {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ذكر الله هذه الآية فى هاتين السورتين لإشارة بليغة تظهر لى وهى أن من آمن بالله جل وعلا فقد آمن من عبد الله وآمن به فقد آمن بجميع الرسل واتبع جميع الرسل وانعقد بينه وبين المؤمنين الأخيار أخوة فى الله جل وعلا من سبقه ومن سيأتى بعده ممن يلحقه {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ومن انحرف عن هذا من كفر برسول من رسل الله الأنبياء فقد كفر بجميع الرسل من تبرأ من الأخوة الإيمانية فقد برأ منه المؤ منون وانفصل من هذه الرابطة الإسلامية فالإيمان برسول إيمان بجميع الرسل والكفر برسول كفر بجميع الرسل {كذبت قوم نوح المرسلين} كيف كذبوا رسل الله وهم ما أدركوا إلا نبيهم لأن ما أمر به نوح هو ما أمر به آدم وهو ما أمر به محمد على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه فتكذيب نوح يعنى تكذيب الأنبياء أجمعين عليهم صلوات الله وسلامه والإيمان بنوح يعنى الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه فمن آمن بنبى آمن بالأنبياء وانعقد بينه وبين المؤمنين ولاء وإخاء {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ومن كفر بنبى كفر بالأنبياء وصار بينه وبين المؤمنين عداء وبغضاء فمن كفر بنبى ليس بمؤمن وليس بمتبع لنبى من الأنبياء ومن آمن بنبى آمن بالأنبياء وهو من عباد المؤمنين ذكر الله هذا فى هاتين السورتين المؤمنون

ص: 26

يؤمنون بالأنبياء جميعا وبينهم وبين المؤمنين ولاية من تقدمهم ومن يلحقهم هؤلاء أهل التوحيد ينتسبون إلى حزب الله المجيد ألا أن حزب الله هم المفلحون هم الغالبون ومن كفر بنبى من الأنبياء فقد ابتعد عن هذه الخصلة الحميدة وعنة هذه الصفة السديدة فهو كافر بالأنبياء وليس بنه وبين المؤمنين محبة وولاء.

إذن القصة تشير إلى وحدة الأديان ولا بد إذن من ذكر هذا فى العهد المكى ليحصل هناك تقوية للقلوب التى ستكون غريبة فى ذلك الزمان فالمؤمن عندما يعلم أن الطريق الذى يسير فيه سار فيه أنبياء الله المطهرون وسار فيه المؤمنون المباركون يقول لى فيهم أسوة كون الناس ضلوا بعد ذلك ما له ولهم فإذن هذا تثبيت وتقوية لقلب المؤمن.

الأمر الثانى: ليشير الله فى القصص المكى فى السور المكية إلى أن قضية الكفر والضلال والانحراف والضياع والتياه موجودة على مر العصور منذ أن وجد البشرية كان يوجد من ينحرف منهم ويضل فإذا وجد ضال فما ينبغى أن نتأثر به وما ينبغى أن يحزننا ذلك بحيث نتخاذل ونجبن أمامه لا {من كفر فعليه كفره} ، {فلا يحزنك كفرهم إلينا مرجعهم نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} .

فإذن لا يضيرنا ولا نتأثر بكفره ولا يعنى أننا نهادنه أو نصالحه أو نحبه أو نوده أو نطلب معونة ونصرة منه أو أو لا لا إنما إذا كفر وقمنا نحوه بما يجب فى العصر المكى فلا حرج علينا من كفره كل نفس بما كسبت رهينة فهذه القضية موجودة ولذلك ما ينبغى أن يتأثر المؤمن فى العصر المكى بكفر من حوله ولا يبالى بهم {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون} ، {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ولذلك يقول الله {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد} .

ص: 27

العبرة الثالثة والحكمة الثالثة: التى تتعلق بموضوع السور المكية من ذكر القصص فى السور المكية أن فى ذكر القصة فى القرآن المكى إشارة إلى حتمية تاريخية دينية وسنة اجتماعية مطردة تشبه اطراد سنن الله الكونية فى الآفاق وفى الأنفس لكن تلك سنن كما قلنا كونية هذا ذكر وتلك أنثى وليل يأتى يتبعه نهار شمس وقمر وهذا مطرد {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} القصة تشير إلى سنة من سنن الله الكونية كما أن تلك كما قلنا سنن اجتماعية كونية فى الآفاق والأنفس ما هى؟

هذه السنة الدينية هى أن الله سيؤيد الحق وينصر أهله وسيخذل الباطل ويمحق أهله هذا لا بد فالله عندما كان يذكر على المسلمين فى مكة أخبار المتقدمين إذن فى ذلك تبشير لهم أن دولتهم عما قريب ستقوم على أركان متينة لكن لابد من الصبر والمصابرة {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} .

يقول الله جل وعلا: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .

{لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} .

{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} .

{ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} .

فإذن ينبغى أن يعتبر هؤلاء بالقصص الذى ذكر فى مكة {لقد كان لسبأ فى مسكنهم آية} كيف عاقبهم الله جل وعلا عندما عتوا وبغوا واستكبروا وانحرفوا عن شرع الله.

ص: 28

قصة قوم عاد عندما عتوا {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} .

ثمود {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون *ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} .

القصص يشير إلى هذه السنة الدينية والحتمية الشرعية التى لا تتبدل أن الله سينصر الحق وأهله ويعز الموحدين وسيخذل الباطل وأهله وسيذل الكافرين {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين *إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} .

فهذه الأمور الثلاثة هى محور القرآن المكى ربط القلوب بعلام الغيوب عن بيان ما يتصف به ربنا جل وعلا وما له من حق على عباده وبيان حقيقة الإنسان وما ينبغى أن يكون بينه وبين ربه من صلة عن طريق ذكر أمهات الفضائل.

ص: 29

الأمر الثالث: ذكر القصة فى القرآن المكى بكثرة لأمور كثيرة سأذكر كما قلت عشرة منها إن شاء الله عند ذكر قصة العبد الصالح لقمان والثلاثة منها الآن على وجه الإيجاز فيما يتعلق بالتمهيد للدخول فى تفسير هذه السورة إذن هذا هو محور القرآن المكى لهذه الأمور التى تقدمت غير الله الأفكار والمشاعر وأزال العقدة الكبرى عند بنى الإنسان وغير الطريقة التى تحصل بها تلك الأفكار والمشاعر أما الأفكار والمشاعر فقد غيرها الإسلام وجعل بهذا المنهج السديد الذى ذكر فى القرآن المكى أن فكر الإنسان وشعوره يدور حول الحلال والحرام حول رضوان الله وسخطه لا على منفعة عاجلة ولا على شهوة حاضرة يفكر ويبحث فى الأمر حلال أفعله يرضى الله أفعله حرام أبتعد وإن كان فيه من المصالح ما كان هذا متى بعد أن اتصلت الغيوب بعلام الغيوب عندما علم الإنسان أن الله ربه ورب كل شىء يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان أنت ينبغى أن تصرف شؤونك على حسب ما شرع ستؤول إليه ليحاسبك على فعلك.

إذن الحلال والحرام هو الذى يحركنا فى هذه الحياة وهذا المقياس كفر به فى هذا الوقت إلا من رحم ربك هذا المقياس نحى من الأنظمة والقوانين من فترة فالمقياس عند الناس فى الأنظمة وفى المعاملات الفردية إلا من رحم ربك المنفعة أينما وجدت المصلحة أينما وجدت المنفعة يميل الإنسان وجدت مضرة يبتعد شهوة يميل إليها هناك بعد ذلك شىء يرضى الله لا يناسب شهوته يبتعد عنه هذا خلاف المسلمين فى العصر الأول يقول الحق وإن كان سيؤدى إلى قطع الرقبة ويلتزم بدين الله وإن كان سيترتب على هذا ما يترتب وأما الآن فهذا المقياس نحى فالقوانين بدأت على حسب الفكرة الغربية تدور حول الأمور النفعية الدنيوية وصلة المؤمنين بين بعصهم إلا من رحم ربك حول النفع تحصل منه نفعا مغنما إذن بينك وبينه ود لا تحصل هذا بينك وبينه افتراق.

ص: 30

هذا المقياس هدمه الإسلام فى العصر المكى عندما غير الفكرة والشعور ففكر الإنسان مرتبط بالحلال والحرام وبذلك ذاقوا حلاوة الإيمان [أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لايحبه إلا لله وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف فى النار] .

ثبت فى صحيح البخارى عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل والمفصل على المعتمد يبتدأ من سورة ق إلى نهاية القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام دخلوا فى دين الله بعد أن طهرت القلوب وأخبروا بأنهم سيؤولون إلى الله والمحسن فى الجنة فى جنات النعيم وأولئك لهم عذاب مهين فبشره بعذاب أليم حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل من أول الأمر لا تزنوا لقالوا لا ندع أبدا ولو نزل من أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا لا نترك الخمر أبدا أنزل على النبى عليه الصلاة والسلام وأنا جارية ألعب بل الساعة موعدهم فى سورة القمر {والساعة أدهى وأمر} .

وما نزلت البقرة وآل عمران إلا وأنا عنده فى المدينة رضي الله عنها وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

فأول ما نزل سورة من المفصل أى من أول ما نزل وتعنى بها سورة المدثر وفيها يقول ربنا جل وعلا: {فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير} وهذه نزلت بعد صدر سورة العلق بعد خمس آيات من سورة العلق نزلت سورة المدثر وهى أول سورة اكتمل نزولها من القرآن وأول سورة كلف بها نبينا عليه الصلاة والسلام بالقيام بالرسالة والدعوة والتبليغ {يا أيها المدثر قم فأنذر} ثم يقول الله {فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير* على الكافرين غير يسير} فلما طهرت القلوب وتعلقت بعلام الغيوب نزل بعد ذلك الحلال والحرام.

ص: 31

إذن الأفكار والمشاعر تغيرت كانت تدور حول شهوات حول ريالات حول لذائذ عاجلة صارت تدور بعد ذلك حول رضوان الله وتبتعد عن سخط الله وغضب الله يحركها الحلال والحرام حرام نبتعد عنه حلال نفعله وهذا مقياس وضابط سلوك الإنسان فى هذه الحياة حلال نفعله ففيه رضوان الله حرام نتركه ففيه سخط الله كون النفس تشتهيه أو لا تشتهيه تميل إليه أو لا تميل ليس هذا فى حسبان المؤمن على الإطلاق إذن غير الفكر والشعور أزال العقدة الكبرى المؤمن فى هذه الحياة يواجه أعظم مشكلة من أوجدنى لما وجدت إلى أى شىء سأصير ما الغاية من وجودى لابد من هذا هذه أعظم عقدة أعظم مشكلة تواجه الإنسان إذا أزالها بحل شرعى مقنع يقنع العقل ويطمئن القلب عاش الإنسان فى جنة عاجلة مع ما له من رضوان الله فى الدنيا ولآخرة وإلا فهو فى شقاء وبلاء.

من أوجدنى تقدم معنا فى القرآن المكى أن الله جل وعلا أخبرنا أنه رب الإنسان ورب كل شىء {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة} فهو ربك ورب كل شىء لما وجدت {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} ، إلى أى شىء ستؤول إليه وستصير إليه؟ ستصير إلى ربك جل وعلا إما فى جنات النعيم وإما فى عذاب مهين.

إذن هذه العقدة الكبرى أزيلت بأدلة فطرية لا تكلف فيها ولا مغالطة تدركها نساء البادية ويستوى فى فهمها من يحمل أعلى شهادة ومن كان أميا فى البادية يرعى الإبل قرر ربنا جل وعلا هذه الأدلة فجعل القلوب فى بهجة ونور.

من أوجدك؟ الذى أوجد كل شىء.

لما؟ لتقوم بوظيفة فى هذه الحياة {وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} .

ص: 32

إلى أى شىء سيؤول إليه أمرك؟ إلى الله ليحاسبك على ما قدمت لذلك يستريح المؤمن، غير المؤمن عندما يبحث من الذى أوجدنى يقول وجدت فلتة وصدفة لو عرضنا هذا على العجماوات وعلى أحطها دركة على الحمار لرفع رأسه ونهق أعظم نهيق استنكارا لهذا وجدت فلتة وصدفة لا لابد لهذا المخلوق من خالق فأنت فقير كما تقدم معنا فقير فى وجودك فقير فى بقائك لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرا وجدت بغير اختيارك ستزول بغير اختيارك فى صورة بغير اختيارك إذن هذا الفقر إذن لا بد من أن يستند إلى إله غنى بعد ذلك أوجدك ويدبر أمرك وهو الله رب العالمين سبحانه وتعالى.

إذن هذه العقدة لا بد من أن تزال أزالها القرآن فى العهد المكى، انظر لانحطاط البشرية فى هذا العصر المتقدم المتطور الآسن الردى انظر يقول شاعر الإلحاد فى هذه الأيام:

أتيت لا أدرى من أين أتيت

ورأيت قدامى طريقا فمشيت

من أين جئت لست أدرى

ولما لست أدرى لست أدرى

من الذى أوجده لا يدرى ولما لا يدرى لا يدرى.

إذن بأى شىء ستسلى نفسك حقيقة والله الذى لا إله إلا هو لو لم يكن لهذا الكون إله سبحانه وتعالى إله خلقنا وكلفنا وسنؤول إليه والله الذى لاإله إلا هو لقتل العاقل نفسه واستراح من شناعة الدنيا ومن بلائها إذا لم يكن لهذا الكون إله ننعم بذكره فى هذه الحياة وسنؤول إليه لنتلذذ برضوانه والنظر إلى وجهه فى نعيم الجنات والله لاستعجل العاقل الموت فى هذه الحياة وكلما اكتمل عقله كلما سارع إلى نحر نفسه يعنى هى الحياة فقط كالبهيمة ما له إلا أن يعبأ ويفرغ يعبأ ويفرغ ثم بعد ذلك تنظر للحياة صعلوك لا يسوى حذاء باليا بدأ يعربد ويتمرد ويتنمرد ويقطع رقاب الصالحين المتقين ويعيث فى الأرض فسادا هذه حياة، كان بعض الصالحين يقول والله لولا يوم القيامة لكنت أطق أطق أى أنفجر أتمزق.

ص: 33

فإذن هذه العقدة الكبرى لا بد من إزالتها أزيلت فى العصر المكى يا عبد الله هذه دنيا متاع ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بما ترجع.

فأنت كلفت هنا بغاية إذا قمت بها نلت سعادة الدارين سواء حصل لك بعد ذلك عز وتمكين فى هذه الحياة أو لم يحصل وكم من صحابى توفى فى العصر المكى ولم ير دولة الإسلام قائمة فى المدينة أجره وجب على الله وحصل السعادة فى ذلك العصر وما له من السعادة بعد موته أعظم.

إذن لا بد من إزالة العقدة الكبرى فى هذه الحياة من أوجدك لما وجدت إلى أى شىء ستصير وإلى من ستؤول القرآن المكى أزال هذا بأدلة كما قلت تقنع القلب وتشرح الصدر وتطمئن القلب وكما أن القرآن المكى غير الأفكار والشعور وأزال العقدة الكبرى فقد غير الكيفية التى تحصل بها الأفكار والشعور.

كنت أتمنى أن أنهى هذه المقدمة للقرآن المكى فى هذه المحاضرة وهذه الموعظة أقف عند هذا المقدار وأنتقل إن شاء الله إلى إكمال

ص: 34