المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

نماذج من توحيد العبادة (توحيد الألوهية)   للشيخ الدكتور عبد الرحيم الطحان بسم الله الرحمن - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٣

[عبد الرحيم الطحان]

فهرس الكتاب

نماذج من توحيد العبادة

(توحيد الألوهية)

للشيخ الدكتور

عبد الرحيم الطحان

بسم الله الرحمن الرحيم

نماذج من توحيد العبادة

"توحيد الألوهية"

تقدم الكلام عن بيان أقسام توحيد ذي الجلال والإكرام، أن توحيد العبادة يقوم على ركنين ركنين، ويشيد بناءه على دعامتين متينتين، وهما: إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة، وإفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، لتكون عبادته جل جلاله بما شرع بالأهواء والبدع إياك أريد، بما تريد، وهذا هو مدلول كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجله أوجد الله العبيد.

وقد تقدم البيان - أيضاً - أن الكلام في هذا النوع من توحيد ربنا الرحمن هو من باب الإنشاء فهو توحيد في القصد والطلب، في الإرادة والعمل، ولذلك ينحصر موقف المكلف نحوه في أمرين لا ثالث لهما، وهما: الامتثال مع الحب، أو الإعراض مع البغض.

وكنت أشرت فيما سبق أن أكثر الناس في القديم والحديث، أعرضوا عن هذا النوع من التوحيد وعكفوا على عبادة الطواغيت، ولما كان الأمر كذلك، سأستعرض من توحيد العبادة بعض النماذج ليحذر المهتدي من المهالك، ويفوز برضوان الرب المالك.

أولا الخوف والرجاء:

ص: 1

.. لابد لسالك طريق الآخرة من إفراده ربه بخوفه ورجائه، فبذلك تستقيم أفعاله، وتصلح أحواله وتحسين عاقبته ومآله، فيبتعد عن الأمن من مكر الله – جل وعلا – والقنوط من رحمته، إذ لا يقود إلى فعل الفضائل الموصلة إلى النعيم، وترك الرذائل المردية في العذاب الأليم، إلا خوف مالك يوم الدين، ورجاء رحمة الرحمن الرحيم، ومن أجل ذلك كان الخوف والرجاء للإنسان، بمنزلة جناحي طائر الحيوان، قال أبو علي الروذباري – عليه رحمة ربنا الباري –: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطائر، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت (1) .

(1) انظر نسبة ذلك إليه في مدارج السالكين: (2/36) ، والروذباري بضم الراء وسكون الواو والذال المعجمة، وفتح الباء الموحدة وبعد الألف راء، ويقال هذا لمواضع عند الأنهار الكبار، فيقال لها: الروذبار، وهي موضع عند طوس ينسب إليها أو علي محمد بن أحمد بن القاسم الروذباري الصوفي سحب الجنيد، وكان فقيهاً محدثاً نحوياً، وله شعر رقيق، توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة كما في اللباب:(2/41)، وانظر ترجمته المباركة في تاريخ بغداد:(1/329-333) ، وفيه أقام بمصر وصار شيخ الصوفية، ورئيسهم بها، وله تصانيف حسان في التصوف نقلت عنه، وكان من أهل الفضل والفهم، وقيل له: من الصوفي؟ فقال: ومن لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وانظر ترجمته في الحلية:(10/356-357) ، والبداية والنهاية (11/180-181)، والرسالة القشيرية:(1/185) وفيما تقدم من الكتب الثلاثة الأخيرة، وفي كف الرعاع عن المحرمات اللهو، والسماع مطبوع في نهاية الزواجر:(2/284)، سئل عمن يستمع الملاهي لأنه وصل إلى درجة لا تؤثر فيه اختلاف الأحوال فقال: نعم قد وصل، ولكن وصوله إلى سقر، وكان يقول كما في الحلية: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى، وانظر بيان حاله أيضاً في صفوة الصفوة:(2/454-455)، وطبقات الصوفية:(497-500) والطبقات الكبرى للشعراني: (1/145)، وشذرات الذهب:(2/296-297) .

ص: 2

وقال الحسن البصري – رحمه الله تعالى – الخوف والرجاء مطيتا المؤمن (1) .

وقد وصفت آيات القرآن الكريم عباد الله المخلصين، بالجمع بين الخوف من رب العالمين، وبين رجاء رحمة أرحم الراحمين، قال ربنا الكريم – وهو أصدق القائلين –:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء90، وضمائر الجمع تعود للأنبياء المتقدم ذكرهم في السورة – على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه –، والمعنى: إن من تقدم ذكرهم من الأنبياء – على نبينا وعليهم الصلاة والسالم – كانوا يبادرون إلى فعل الخيرات، ويجدون في عمل الحسنات، وهم مع ذلك راغبون في رحمتنا، راجون لها، وراهبون عن غضبنا خائفون منه (2) ،

(1) انظر نسبة ذلك إليه في حلية الأولياء: (2/156) .

(2)

وهذا هو الراجح في عود الضمائر كما في روح المعاني: (17/87)، فقال: وعليه المعول وعليه وقع الاقتصار في تفسير الجلالين: (263) ، وقيل إن الضمائر تعود لأقرب مذكور، وهم زكريا وامرأته ويحيى – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – وقد حكى ابن الجوزي في زاد المسير:(5/385) القولين دون ترجيح، وذكر ابن كثير في تفسيره:(3/193-192) ما يفيد ترجيح القول الثاني حيث ساق رواية ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم، قال: خطبنا أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ويدعوننا رغبا ورهباً، وانظر الخطبة كاملة في الحلية:(1/35) ..

ص: 3

وأخبر ربنا – جل وعلا - في سورة الإسراء أن من عبدوا من دون الله من الصالحين يتنافسون في طاعة رب العالمين، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه الأليم، فقال – جل جلاله –:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء56-57، وفي تفسير ابن كثير لقول الله الجليل:"وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ" لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف عن المناهي، وبالرجاء يكثر من الطاعات (1) ،

(1) انظر تفسير ابن كثير: (3/47) ، وأوضح ما عني بالآية الكريمة ما رواه البخاري في صحيحه – كتاب التفسير – سورة الإسراء باب "6،7" في تفسير الآية المتقدمة: (8/397-398) بشرح ابن حجر ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – تفسير سورة الإسراء: (2/362)، وقال هذا حديث صحيح ابن جرير في تفسير:(15/72)، وأبو نعيم في الدلائل:(126) ، ورواه عبد الرزاق، والفريابي وسعيد بن منصور، وابن شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما في الدر المنثور:(4/189) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم، هذا لفظ البخاري وفي لفظ لابن جرير وأبي نعيم: فأسلم النفر من الجن، واستمسك هؤلاء – الإنس – بعبادتهم، فأنزل الله:"أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ" الآية، قال الحافظ في الفتح:(8/397) : وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية.

هذا وقد روى ابن جرير في تفسيره: (15/73) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قولاً ثانياً في بيان المراد بالآية الكريمة، وهو: كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة، يقال لهم الجن، ويقولون: هم بنات الله، فأنزل الله – عز وجل –:"أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ" الآية، وبعد أن رجح الإمام الطبري القول الأول مال أيضاً إلى قبول الثاني، واحتمال الآية له، فقال: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود

ولا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما التنزيل، وقد حكى ابن كثير في تفسير:(3/47) ترجيح ابن جير للقول الأول، ولم يتعرض لبيان موقفه من القول الثاني، قال الحافظ في الفتح:(8/397) ، وإن ثبت ذلك فمجمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدل على أنهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة، وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في حديث الباب:"فعيرهم الله بذلك" وقد وري قول ثالث في بيان المراد بالآية المباركة في تفسير ابن جرير: (15/73)، وغيره فانظر الدر:(4/190) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – هم: عيسى وأمه وعزير، والشمس والقمر، وقد رد ذلك ابن جرير تمسكاً بأن الآية في بيان ما كان حاصلاً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –، ومعلوم أن عيسى وأمه وعزيراً لم يكونوا موجودين إذ ذاك، فكيف يبتغون إلى ربهم الوسيلة؟ فهم إذن لا سبيل لهم في ذلك الوقت إلى العمل كما هو حال الشمس والقمر، ويضاف إلى هذا ما قرره الحافظ في الفتح:(397) من ضعف طرق تلك الرواية، وفيه: تنبيه: استشكل ابن التين قوله: "ناساً من الجن من حيث أن الناس ضد الجن، وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من ناس إذا تحرك، أو ذكر للتقابل حيث قال: ناس من الإنس، وناساً من الجن، وياليت شعري على من يعترض؟.

ص: 4

.. وقد أخبرنا خاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – أن من تحقق بالخوف والرجاء، فقد حظي برضوان رب الأرض والسماء، ففي سنن الترمذي، وابن ماجه عن أنس – رضي الله تعالى عنه – قال: دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – على شاب، وهو في الموت، فقال:"كيف تجدك؟ " قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف (1) .

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب الجنائز – باب "11": (3/364) ، وقال الترمذي هذا حديث سحن غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له:(2/1423)، ورواه النسائي في السنن الكبرى أيضاً كما في تخريج أحاديث الإحياء:(4/141)، وفيه: قال النووي إسناده جيد، وهو في كتاب عمل اليوم والليلة لابن السني:(201-202) – باب ما يستحب من جواب المريض –، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير (1/922) إلى أبو يعلى، وشعب الإيمان للبيهقي.

ص: 6

.. والخوف والرجاء متلازمان، فكل منهما يستلزم الآخر، فكل خائف راج، وكل راج خائف، كما قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله – وقال: ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يسحن فيه وقوع الخوف، قال الله – تبارك وتعالى –:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} نوح13، قال كثير من المفسرين المعنى: ما لكم لا تخافون الله عظمة؟ قال: والرجاء بمعنى الخوف، والتحقيق: أنه ملازم له، فكل راج خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال – تبارك وتعالى –:{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ} الجاثية14، قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم (1) .

(1) انظر مدارج السالكين: (2/51)، وانظر النص على تلازمهما في المفردات:(190) – كتاب الراء – والإحياء: (4/160) ، وقد قرر أئمة اللغة أن لفظ الرجاء من الأضداد يستعمل في الأمل، كما يستعمل في الخوف والوجل، انظر الأضداد للأصمعي:(23)، وللسيجستاني:(81) ولابن السكيت: (179) وذيل الأضداد للصفاني: (230) ومن مجيئه بمعنى الأمل قول الله – عز وجل –: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، وقوله – جل وعلا –: في نفس السورة: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} الإسراء28، وقوله – عز وجل – في سورة القصص:{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} القصص86، ومنه قول كعب بن زهير – رضي الله تعالى عنه – في قصيدة "بانت سعاد": ضمن مجموع مهمات المتون: (78) :

أرجو وآمُلُ أنْ تدنو مودتها

وما إخالُ لدينا منك تَنْويلُ

قال السيجستاني في الأضداد: (80) أراد الطمع 10هـ ومنه ما في تفسير القرطبي: (3/18) قال الشاعر:

أترجو أمة قَتَلَتْ حُسَيْنا

شفاعة جدّه صلى الله عليه وسلم يومَ الحساب

ومن مجيئه بمعنى الخوف والوجل الآيتان المتقدمان في كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى، وقد نص على كون الرجاء في الآية الأولى بمعنى الخوف الأصمعي في الأضداد:(23)، والسيجستاني في الأضداد:(81)، وابن السكيت في الأضداد أيضاً:(79)، وفي تلك الكتب الثلاثة ومعاني القرآن للفراء:(2/265)، واللفظ له: وأنشدني بعضهم:

لا تَرْتجي حين تلاقي الذائدا

أسبعة لاقتْ معاً أم واحدا

أي: لا تخاف ولا تبالي 10هـ والذائد هو المحامي المدافع، والبيت غير منسوب في الجميع، قال الفراء: وهي لغة تهامية يضعون الرجاء في موضع الخوف، إذا كان معه جحد، وفي الإتقان:(2/111) نقلاً عن السهيلي: إنها لغة هذيل: وفي الأضداد للسيجستاني: إنها لغة هذيل، وكنانة، ونصر، وخزاعة، وفي الأضداد للأصمعي:(24)، وابن السكيت:(179)، قال يونس:

إذا أهل الكرام يكرموني

فلا أرجو الهَوَان من اللئام

وانظر شواهد أخرى فيما تقدم، وفي اللسان:(19/23-24)"رجا" ومجاز القرآن: (2/73)، ومن احتمال لفظ لرجاء للوجل والأمل قول الله – جل وعلا – في سورة الفرقان:(21){وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} الفرقان21، كما في تفسير القرطبي:(18/19)، ونقل عنه ذلك شيخنا في الأضواء:(6/303-304)، وأقره ومنه قول الله – جل وعلا – في سورة النساء:{وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} النساء104 كما في روح المعاني: (5/138) .

ص: 7

.. وتحقيقاً لاستلزام كل من الخوف والرجاء للآخر، كان المؤمن يخاف من رد طاعته، ويرجو قبولها، ويخاف من العقوبة على ذنوبه، ويرجو غفرانها، ويخاف من وقوعه في النار، ويرجو السلامة منها، ويخاف من طرده من الجنة، ويرجو نيلها ودخولها.

وذانك الأمران مع أنهما متلازمان، فهما ركنا محبة الرحمن – جل وعلا – وعلى ذلك مدار الإيمان، قال الإمام ابن القيم – نور الله مرقده –: وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محب راج خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه، وكذلك خوفه، فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له، وإبعاده، واحتجابه عنه، فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة، فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له، لما يحصل له به من حياة روحه، ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه، وبرده وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه، فرجاؤه أعظم رجاء، واجل وأتمه، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة فكل محبة فهو مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة، بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما 10هـ.

ص: 8

.. وعلى المحبة وركنيها يقوم الدين، وإلى ذلك أشار رب العالمين، فقال في سورة الإسراء في وصف عباده المخلصين، الذين تحققوا بمقامات الدين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – ابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه، الحب، والخوف، والرجاء (1) .

(1) انظر مدارك السالكين: (2/42-43، 43، 35)، ومثله في طريق الهجرتين:(363)، وانظر تنصيص شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – على كون محركات القلوب إلى الله – عز وجل – ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء في مجموع الفتاوى: (1/95)، وقرر أيضاً في التحفة العراقية في الأعمال القلبية ضمن مجموع الفتاوى:(10/61) أن المحبة أصل كل عمل ديني، والخوف والرجاء يستلزمان المحبة ويرجعان إليها، ونحوه في إحياء علوم الدين:(4/163) .

ص: 9

.. وإذا فرط الإنسان في بعض تلك المقامات، وقع الهلاك والآفات، ولذلك قرر سلفنا أهل العقول الزاكيات أن من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي (1) .

(1) هو قول مكحول الدمشقي كما في الإحياء: (4/163) ، وكرر الإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – الاستشهاد بذلك الكلام، وترداده في كثير من كتبهما العظام انظر مجموع الفتاوى:(10/81، 207، 15/21)، وبدائع الفوائد:(3/11)، وانظره في شرح الطحاوية:(283) ، ومكحول الدمشقي تابعي من رجال مسلم والسنن الأربعة مات سنة بضع وعشرة ومائة – رحمه الله تعالى – كان إمام الشام في زمانه، وهو أفقه من الزهري، انظر هذا وغيره من ترجمته العطرة في تذكرة الحفاظ:(1/107-108)، وطبقات ابن سعد:(7/453-454)، والبداية والنهاية:(9/305) وميزان الاعتدال: (4/177)، وتهذيب التهذيب:(10/289-293)، وشذرات الذهب:(1/146) .

ومعنى قوله: من عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ما وضحه شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم الهمام – عليهما رحمة رب الأنام – وخلاصة ما في مجموع الفتاوى وبدائع الفوائد في الأمكنة المتقدمة: أن المحبة إذا لم تقرن بالخوف فإنها تضر صاحبها، لأنها توجب الإدلال والانبساط، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع جهله وحمقه، ويقول أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله ويكون فيما يفعله عدوان وجهل وهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى:{نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة18، والذين توسعوا في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق، واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، قال الشيخ وتلميذه – عليهما رحمة الله تعالى –: وحدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة، فقال له: أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه مسقط للجمعة في حقه، فقال له: هذا غرور، بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله، وحفظ قلبه مع الله، فتأمل كيف آل الأمر بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة، وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله – جل وعلا – بحبه، وذلك كان المشايخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، وقد آل الأمر ببعضهم إلى استحلال المحرمات بدعوى أن المحب لا يضره ذنب.

قال مقيد هذه الكلمات – غفر الله له السيئات –: وقد عانيت في حداثة سنة من ظلال الصوفية ما عانيت، ولما لمت بعضهم في تقديس من هو متلبس بكل نقيصة وتارك لكل فريضة، أجابني بأن أصوله لهم عند الله مقام، والفرع منهم ولو مال، كما هو الحال في أغصان الأشجار، وخبرني جاهل ضال أن شيخهم المريد يقول لهم: لا تخافوا أولادي من النار، فإذا كان يوم القيامة وضعتكم في رقبتي كما توضع القلادة في عنق المرأة، وطرت فوق جهنم إلى الجنة، فقلت له، وإذا سقط الشيخ فماذا سيكون حالكم، وانظر لزاماً ما لبسه الشيطان على من ادعى محبة الرحمن، دون خشيته في السر والإعلان في كتاب تلبيس إبليس:(341-350) فقد وصل الشطط ببعضهم أن قال يخوفنا الله بالنار، ما النار؟ لو رأيتها لأطفأتها بطرف مرقعتي، ولو بصق المحب على النار لأطفأها، سبحانك سبحانك هذا بهتان عظيم، وقائله شيطان رجيم، ويقصد بقوله: ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي: ما آل إليه غالبية المرجئة وزنادقتهم من أن النار لا يدخلها أحد من أهل التوحيد، ولا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا قول مخترع في دين الله – جل وعلا – لم يقل به أحد من السلف الكرام كما في مجموع الفتاوى:(7/181، 501)، قال شيخنا محمد الحامد – عليه رحمة الله تعالى – ردود على أباطيل:(118) وقال قائلهم – أي قائل غلاة المرجئة –:

متْ مُسلماً ومن الذنوب فلا تخف

حاشا المهيمن أن يرى تنكيدا

لو رامَ أن يصليك نار جهنم

ما كان ألهمَ قلبك التوحيدا

فمن تقلد تلك النحلة الخبيثة دعاه ذلك إلى التفريط في الواجبات، وإلى ارتكاب الموبقات تعويلاً على رجاء رب الأرض والسموات بسبب ما عنده من إيمان، حسبما يوسوس له الشيطان.

ويراد بقوله: ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري: أن هذا مسلك الخوارج، فهم الحرورية، فالخوارج تلك الفرقة الضالة على أمير المؤمنين عليّ – رضي الله تعالى عنه – وكان خروجهم في قرية بظاهر الكوفة تسمى حوراء فنسبوا إليها، وفي صحيح مسلم – كتاب الحيض – باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة:(4/27) بشرح الإمام النووي عن معاذة أن امرأة سألت عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم لا تؤمر بقضاء، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى – قولها: أحرورية أنت؟ هو بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى، وهي نسبة إلى حوراء وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها، فمعنى قول عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة – رضي الله تعالى عنها – هو استفهام إنكار، أي: هذه طريقة الحرورية، وبئست الطرقة 10هـ.

وطريقة الخوارج الحرورية قائمة على التصديق بنصوص الوعيد دون الوعد فهي عكس طريقة غلاة المرجئة كما في مجموع الفتاوى: (8/270) ، وعليه فليس عبادة الحرورية رجاء، إنما هي خوف وعناء، وأهل السنة الأتقياء قامت عبادتهم لرب الأرض والسماء على المحبة والخوف والرجاء.

فائدة:

لفظ المقام الوارد في كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة ربنا الرحمن – خلاصة الأئمة في بيان حقيقته: أن الواردات التي ترد على القلوب في طاعة علام الغيوب لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدورها، فإذا أحلت في القلب وباشرته كانت أحوالا، فإذا تمكنت منه، وثبتت له من غير انتقال، فهي مقامات، قالوا ردات لوامع وبوارق ولوائح في أولها، وأحوال في وسطها، ومقامات في نهاياتها، فتنوعت العبارات لتنوع الاعتبارات، انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين:(1/135-139)، والرسالة القشيرية:(1/204) والتعريفات: (203)، وعوارف المعارف على هامش الإحياء:(4/281-298) وإحياء علوم الدين: (4/139) وأشار إلى المقامات والأحوال الشيخ ابن تيمية في أول التحفة العراقية ضمن مجموع الفتاوى: (10/5)

ص: 10

.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له جميع الذنوب والآثام -: إذا كان الخوف والرجاء من مقامات الإيمان، وعليهما تتوقف سعادة الإنسان، فهما له كالجناحان لطائر الحيوان، فينبغي اعتدالهما في سائر الأزمان، والحكم الذي في حق متقي الرحمن، المتصف بكمال الإيمان، لكن لما كان أكثر الخلق ذوو تفريط وعصيان، قرر العلماء الكرام، تعليب الوجل على الأمل ما لم يحضر الأجل، بشرط أن لا يخرجه ذلك إلى اليأس المفضي إلى ترك العمل، ولا يؤدي به إلى القنوط الموصل إلى قطع الطمع من مغفرة الزلل، وأما عند نزول الموت، فالأصلح للإنسان تغليب الرجاء على الخوف، لثلاثة أسباب قررها أولو الألباب:

السبب الأول:

الخوف كالسوط الباعث على العمل، والحاجز المانع من الوقوع في الزلل، وليس ثمة عمل، ولا مجال لوقوع الجوارح في الخلل، فالخوف في هذه الحالة يقطع قلبه، ويعجل موته، ولا فائدة في ذلك، أما الرجاء فيقوي القلب، ويحبب إليه لقاء الرب – جل وعلا – وهي الفائدة الثانية فدونكها بدليلها.

السبب الثاني:

ص: 11

.. غلبة الرجاء عند السياق تحبب إلى العبد لقاء الرب الخلاق – جل جلاله – فيحب الله لقاءه، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فقال:" ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه"، وفيه أيضاً عن شريح بن هانئ أنه سمع أبا هريرة – رضي الله تعالى عنه – يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، قال: فأتيت عائشة – رضي الله تعالى عنها – فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً، إن كان كذلك فقد هلكنا، فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما ذاك؟: قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وليس منا أحد إلا ويكره الموت، فقالت: قد قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه (1)

(1) انظر روايات الحديث الشريف المتعددة مع اتفاقها في الدلالة على أن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فيما يأتي مع بيان رواتها:

أولا: رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه –: (11/357) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه:(4/2065)، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه:(4/21)، وأشار إلى روايتها أيضاً في كتاب الزهد – باب ما جاء من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه –:(7/72)، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب فيمن أحب الله لقاءه –:(4/8-9)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له –:(2/1425)، والمسند:(6/44، 55، 207، 218، 236، 218، 236)، ومسند الحميدي:(1/111) .

ثانياًَ: رواية عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن النسائي – في الأمكنة المتقدمة – وسنن الترمذي في المكانين المتقدمين، والمسند:(5/316، 321)، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في حب لقاء الله –:(2/312)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الجنائز – باب ما جاء في حسن الظن بالله والكشف لكل إنسان عن مصيره –:(1/153)، وتاريخ بغداد:(6/272) .

ثالثاً: رواية أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – في الصحيحين، وأشار إليه الترمذي في المكانين المتقدمين.

رابعاً: رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب التوحيد – باب "35": (13/466)، بشرح ابن حجر والموطأ: كتاب الجنائز – باب جامع الجنائز –: (1/240) ، وصحيح مسلم، وسنن النسائي – في المكانين المتقدمين، وأشار إليه الترمذي في المكانين المتقدمين أيضاً، والمسند:(2/313، 346، 418، 420، 451)، وتاريخ بغداد:(12/311) .

خامساً: رواية أنس – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (3/107) ، وأشار إليها الترمذي في المكان الثني.

سادساً: رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن فلان بن فلان الذي سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسند: (4/459) .

ص: 12

"

وفي المسند، ومعجم الطبراني بسند حسن عن معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن شئتم أنبأتكم أول ما يقول الله – عز وجل يوم القيامة وما أول ما يقولون له، قلنا: نعم يا رسول الله، قال: إن الله – عز وجل – يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقولون: قد وجبت لكم مغفرتي"، وفي رواية الطبراني: "فيقولون: رجونا رحمتك وعفوك، فيقول: وقد وجبت لكم رحمتي (1) ".

السبب الثالث:

(1) انظر المسند: (5/238)، ومجمع الزوائد – كتاب البعث – باب ما يقول الله تعالى للمؤمنين:(10/358)، وفيه: رواه الطبراني بسندين، أحدهما حسن، وابن أبي الدنيا في كتاب الموت كما في بلوغ الأماني:(7/38) .

ص: 13

.. إذا غلب على عبد الرجاء، عند مفارقة دار الابتلاء، فإن ذلك سيدفعه لحسن ظنه برب الأرض والسماء، ونحن مأمورون بذلك في وقت الرجاء، فكيف في حال السياق؟ ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يقول الله – عز وجل –: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة" وفي المسند دخل واثلة ابن الأسقع – رضي الله تعالى عنه – على أبي الأسود في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه، وجلس، فأخذ أبو الأسود يمين واثلة فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها، قال: وما هي؟، قال: كيف ظنك بربك؟، فقال أبو الأسود، وأشار برأسه، أي: حسن، فقال واثلة: أبشر فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "قال الله – عز وجل –: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء (1)

(1) الحديث رواه البخاري – كتاب التوحيد بسندين – باب "15"، وباب "35":(13/384، 466) ، بشرح ابن حجر، ومسلم – كتاب الذكر والدعاء – باب الحث على ذكر الله تعالى – وباب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى:(4/2061، 2067)، وكتاب التوبة – باب الحض على التوبة والفرح بها:(4/2102) – باب حسن الظن بالله تعالى –: (9/299)، وابن ماجه – كتاب الأدب – باب فضل العمل:(2/1256)، والمسند:(2/215، 315، 391، 413، 445، 480، 482، 516، 517، 524، 534، 539)، وابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى:(595)، كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وانظر رواية واثلة – رضي الله تعالى عنه – في المسند:(3/491، 4/106)، والدارمي – كتاب الرقاق – باب حسن الظن بالله تعالى –:(2/305)، ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد – كتاب الجنائز – باب حسن الظن بالله تعالى –:(2/318)، وفيه: ورجال أحمد ثقات، ورواه ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى –:(595)، والحديث روي عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في المسند:(3/210، 277) ، قال الهيثمي في المجمع – المكان المتقدم – وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وعزاه إلى يعلى في كتاب الأدعية – باب "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" وباب حسن الظن بالله تعالى –:(10/148)، وقال: هو حديث حسن ورجاله رجال الصحيح، وقد روى الحديث الطبراني عن معاوية بن حيدة – رضي الله تعالى عنه – كما في المجمع – المكان المتقدم – وفيه: يحيى بن إبراهيم، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

ص: 14

".

وفي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم وهو يحسن الظن بالله – عز وجل – (1) . وقد كان ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه ظنه، وذاك بأن الخير في يده (2)، ولما حضرت سليمان التيميّ الوفاة قال لابنه: يا بني حدثني بالرخص، واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله تعالى على حسن الظن به، وكذلك لما حضرت سفيان الثوري الوفاة، واشتد جزعه، جمع العلماء حوله يرجونه، وقال أحمد بن حنبل لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء، وحسن الظن بالله تعالى – رحمهم الله أجمعين – (3) .

(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة – باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت –: (4/2205، وسنن أبي داود – كتاب الجنائز – باب ما يستحب من حسن الظن بالله تعالى عند الموت –: (3/484)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد - باب التوكل واليقين –:(2/1395)، والمسند:(3/293، 315، 325، 330، 334، 390)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الجنائز – باب ما جاء في حسن الظن بالله تعالى –:(1/153)، والحلية:(5/87،8/121)، ورواه في:(5/246) عن واثلة – رضي الله تعالى عنه – ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: (140/348) عن جابر، وفي:(1/396) عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

(2)

قال الهيثمي في المجمع – كتاب الأدعية – باب حسن الظن بالله تعالى –: (10/148) ، رواه الطبراني موقوفاً ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم -.

(3)

انظر تلك الأخبار في الإحياء: (4/164)، والأول في مختصر منهاج القاصرين:(327) .

ص: 15

.. وجرياً على ما سبق من البيان، سأبدأ الكلام في الخوف من ربنا الرحمن، لمناسبته حال أكثر الأنام، وأسأله – جل وعلا – حسن الختام، والفوز بدار السلام، ونيل الرضوان، إنه كريم رحمن.

* خوف المكلفين من رب العالمين:

ضبطاً لسير البحث بانتظام، سأتكلم عليه ضمن مراحل جسام، فدونكها يا أخا الإسلام.

تعريف الخوف: هو عبارة عن تألم القلب واحتراقه، وبسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة.

وقد قرر العلماء الكرام أن كل ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ينقسم إلى موجود في الحال، وإلى موجود فيما مضى في الاستقبال: فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي: ذكراً وتذكراً، وإن كان ما خطر ببالك موجوداً في الحال سمي: وجداً وذوقاً وإدراكاً، وذلك لأنه حالة تجدها في نفسك، وتحس بها وتدركها، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال، وغلب على قلبك، سمي: انتظاراً وتوقعاً، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سمي: خوفاً وإشفاقاً ووجلاً، وإن كان محبوباً حصل من انتظاره، وتعلق القلب به، وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح، سمي ذلك الارتياح: رجاءً أو أملاً (1) .

* الخوف من الرحمن كما تحدث عنه القرآن:

(1) انظر تقرير ذلك في إحياء علوم الدين: (4/139، 152)، ومختصر منهاج القاصرين:(316، 322)، والمفردات:(161) – كتاب الخاء –، والتعريفات:(91) .

ص: 16

.. وصف ربنا الكريم، عباده المقربين، السابقين منهم واللاحقين، بخشيته في كل حين، فقال في سورة الإسراء وهو أصدق القائلين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} الإسراء57، وإذا كان هذا وصف الجن المؤمنين لما بلغتهم دعوة رب العالمين، فإن ذلك الوصف هو وصف أهل الكتاب الصادقين، وفي آخر السورة يقول ربنا العظيم:{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} الإسراء105-109، روى الأئمة الكرام ابن المبارك في الزهد، والدارمي في سننه، والطبري في تفسيره، وأبو نعيم في الحلية عن عبد الأعلى التيمي – رحمهم الله جميعاً – قال: من أوتي من العلم مال ايبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله – تبارك وتعالى – نعت العلماء فقال:"إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً" الآية (1)

(1) انظر كتاب الزهد: (41)، وسنن الدارمي – المقدمة – باب من قال العلم الخشية وتقوى الله:(1/88)، وجامع البيان:(15/121)، وحلية الأولياء:(5/88)، وانظره في زاد المسير:(5/98)، ونسب السيوطي في الدر:(4/206) تخريجه إلى ابن أبي سيئيه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم..

ص: 17

وهذا المعنى قرره رب الأرض والسماء، فذكر أن الخشية منه هي خاصة العلماء، فقال – جل وعلا – في سورة فاطر:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} فاطر27-28، وقال – عز وجل – في سورة الزمر:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} الزمر9، فتلك صفات العلماء، ومن يتصف بها فهو من الأغبياء السفهاء، وفي سنن الدارمي باب بهذا الخصوص في المقدمة، وهو: باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله – وفيه: قال مجاهد – رحمه الله تعالى – الفقيه: من يخاف الله عز وجل –.

ص: 18

وسئل سعد بن إبراهيم من أفقه أهل المدينة؟ فقال: أتقاهم لربه – عز وجل – وعن عمران المنفزي قال: قلت للحسن يوماً في شيء قاله: يا أبا سعيد، ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، ورأيت فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه، ثم بوب الدارمي باباً آخر فقال: باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله – جل وعلا – نقل فيه عن مسروق – رحمه الله تعالى – أنه قال: كفى بالمرء علماً أن يخاف الله – عز وجل – وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله، وروي عن ابن عطاء – رحمه رب الأرض والسماء – أن نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له، قال: يا رب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي، وعن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – قال: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه، ولسانه ويده، وصلاته، وزهده 10هـ ولذلك قال الغزالي في الإحياء: وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف، لأن الخوف ثمرة العلم (1) .

(1) انظر تلك الآثار في سنن الدارمي – المقدمة – باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله – عز وجل –: (1/88-89) ،وباب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله – عز وجل – (1/102، 106 -107)، وانظر كلام الغزالي في إحياء علوم الدين:(4/157)، وانظر أثر نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – في الزهد لابن المبارك:(75)، وانظر بعض تلك الآثار وما في معناها في كتاب أخلاق العلماء:(57/1047) .

ص: 19

.. وقد أخبرنا ربنا العلام أن من شروط الإيمان، الخوف من الرحمن، فقال في سورة آل عمران:{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران172-175، قال الغزالي – رحمه الرب الباري –: فأمر بالخوف، وأوجبه، وشرطه في الإيمان، فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف، وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسن ضعف معرفته وإيمانه (1) .

(1) انظر إحياء علوم الدين: (4/158)، وفي سبب نزول تلك الآيات الكريمات روايتان:

الرواية الأولى:

مال قاله ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: لما انصرف المشركون عن أحد، قالوا: لا محمداً، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ المشركين، فقالوا: نرجع من قابل، فرجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكانت تعد غزوة، فأنزل الله – جل وعلا –:" الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ " الآية.

الرواية الثانية:

قاله ابن عباس أيضاً – رضي الله تعالى عنهما – وهو منقول عنه في نهاية السبب الأول المتقدم، وفيه: وقد كان أبو سفيان قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه، فلم يجدوا به أحد، وتسوقوا، فأنزل الله – عز وجل –:" فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ " الآية.

انظر ذلك الأثر بشقيه في مجمع الزوائد – كتاب المغازي – باب منه في وقعة أحد –: (6/121) ، وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز وهو ثقة، وقال السيوطي في الدر:(2/101) ، رواه النسائي والطبراني وابن أبي حاتم بسند صحيح، وقال الحافظ في الفتح:(8/228-229) أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح، إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ومن الطريق المرسلة أخرجه ابن أبي حاتم وغيره.

وقد رجح ابن جرير في تفسيره: (4/121) السبب الأول، ومال إليه، لأن ذلك يوافق خروجهم وبهم الجراح والكلوم، وأما خروجهم لبدر بعد عام فلا يتأتى فيه ذلك لاندمال الجرح، وبرء الكلوم، وانظر تفصيل الروايات فيما ورد في سبب نزول هذه الآية فيه:(4/116-123)، وزاد المسير:(1/503-507)، وتفسير ابن كثير:(1/428-431)، ولباب النقول:(54-55)، وأسباب النزول:(87-88)، وحمراء الأسد موضع على ثمانية أميال من المدينة المنورة كما في جامع البيان:(4/117)، ومراصد الاطلاع:(1/424) .

ص: 20

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: دلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال – جل وعلا –:" فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ " المائدة: 44، فخوف الله: أمر به، وخوف أولياء الشيطان: نهي عنه، قال الله تعالى:" لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي " البقرة 150 فنهى عن خشية الظالم، وأمر بخشيته، وقال – جل وعلا –:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} الأحزاب39، وقال – جل وعلا –:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} البقرة40.

ص: 21

.. وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك، وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحداً، فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله، وإنما يتسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته، وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق3، وتسليطه يكون بسبب ذنوبه، وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك، واستغفرته لم يسلط عليك، كما قال – جل وعلا –:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال33، وفي الآثار: يقول الله تعالى – أنا الله لا إله إلا أنا، ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ وأطيعوني أعطفهم عليكم، ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد، قال:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران165 (1) .

(1) من سورة آل عمران، وانظر كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (1/57-58، 14/203-206، ويتعلق بكلامه ثلاثة أمور، ينبغي بيانها ليحصل السرور:

الأمر الأول: الأثر القدسي الذي ذكره رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن راشد وهو متروك كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ك (5/249)، ولفظه: عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملك، وملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة، فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشتغلوا بالذكر والتضرع ألفكم ملوككم"، وفي طبقات ابن سعد:(7/172) كان الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – إذا قيل له: ألا تخرج فتغير؟ قال: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف. وفي:(7/164-165) قال الحسن: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع، وقال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، والله ما جاؤوا بيوم خير قط.

الأمر الثاني: آية آل عمران المصرحة بأن ما أصاب الصحابة الكرام يوم أحد فمن عند أنفسهم محمولة على ثلاثة أمور:

أحدهما: إن ذلك بسبب أخذكم الفداء يوم بدر ففي المسند: (1/31، 32)، ومعجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد:(6/115)، وتفسير ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير:(1/424) وسند المسند صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (1/207، 219) رقم: (208، 221) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله – تبارك وتعالى –:"َوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا" الآية. بأخذكم الفداء.

وثبت في سنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء: (5/292-293) عن علي – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن جبريل هبط عليه، فقال له: خير – يعني أصحابك، في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم" قالوا: الفداء، ويقتل منا، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة، وروى أبو أسامة هم هشام عن ابن سيرين عن علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وروى ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة عن ا/لنبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً هـ وقد صحح الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(8/206) إسناد الترمذي، فقال: إسناده صحيح 10هـ والحديث أخرجه الطبري في تفسيره: (4/110) عن عقيدة مرسلاً، وعن علي – رضي الله تعلى عنه – مرفوعاً، ورواه ابن حبان عن علي مرفوعاً – موارد الظمآن – كتاب المغازي والسير – باب في أسرى بدر –:(411) ونسبه السيوطي في الدر: (2/93) إلى ابن أبي شيبة وابن مردويه، ونسبه ابن كثير في تفسيره:(1/425) إلى النسائي – أي: في السنن الكبرى.

وعلى هذا القول فالصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – طلبوا الخيرتين، أخذ الفدية، وأن يقتل منهم سبعون فيما بعد طلباً لفضل الشهادة وشرفها، كما في تفسير الطبري:(4/110) عن عبيدة – رحمه الله تعالى –.

ثانيهما:

وقع ذلك بسبب معصية الرماة يوم أحد، ومفارقتهم مكانهم، وتركهم أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نسب ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير:(1/496) ذلك إلى ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ومقاتل وكذلك فعل أبو حبان في البحر المحيط: (3/107) ، ولم أقف على نسبة ذلك إلى ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – من طريق ثابت صحيح، وقد نسبه إليه الفيروز آبادي في تنوير المقابس مطبوع على هامش الدر (1/218) لكن أنت خبير أن الكتاب بجملته مروي بسلسلة الكذب، لأنه من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح، وأوهى الطرق عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – طريق الكلبي عن أبي صالح، وإذا انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب، كما في الإتقان:(4/239) .

ثالثهما:

جرى ذلك بسبب مخالفتهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الخروج من المدينة يوم أحد فإنه – صلى الله عليه وسلم – أمرهم بالتحصن فيها، فقالوا: بل نخرج، روى ذلك الطبري في تفسيره:(4/109) عن قتادة والربيع بن أنس، وعكرمة، والحسن، وابن جريج، ونسبه ابن الجوزي في زاد المسير:(1/496) إلى قتادة والربيع، ونسب السيوطي في الدر:(2/93) تخريج أثر الحسن وابن جريج إلى تفسير ابن أبي حاتم، ونسب تخريج ذلك القول إلى تفسير ابن المنذر عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –.

واعلم أن ما قاله ابن كثير في تفسير: (1/425) : وقال محمد بن إسحاق، وابن جرير والربيع بن أنس، والسدي:"قل هو من عند أنفسكم" أي: بسبب عصيانكم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أمركم أن لا تبرحوا مكانكم فعصيتم ذلك، يعني: الرماة 10هـ فيه نظر، وغير مسلم، لأن ابن جرير لم يذكر في تفسيره إلى القول الأول والثالث، ولم يتعرض لمخالفة الرماة وهو القول الثاني، وذكر قول الربيع ضمن قول من قال بالقول الثالث فتأمل.

هذا وقد اقتصر البغوي في معالم التنزيل، والخازن في لباب التأويل:(444) الأول على هامش الثاني، على القول الأول وذكر القرطبي في تفسيره:(4/265) الأقوال الثلاثة وكذلك فعل الزمخشري في الكشاف: (1/477) فقال: أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو تخليكم المركز، وعن علي – رضي الله تعالى عنه – لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم 1هـ، قال أبو حبان في البحر:(3/107) بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة: وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص.

الأمر الثالث:

ما قرره شيخ الإسلام – عليه رحمة ربنا الرحمن – من أن تسليط الجبابرة الطغاة، على المكلفين من الأنام، وقع بسبب ما جرى منهم من الفسوق والعصيان، حق وصواب يا أخا الإيمان، وسأسوق لك كلام تلميذه الهمام، ثم أختم الكلام، بحديث شريف من أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – لتعر داءنا ودواءنا في هذا الزمان، عاملنا الله بلطفه وإحسانه، إنه كريم منان.

قال الإمام ابن قيم الجوزية – عليه رحمة رب البرية – في كتابه الجليل مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: (1/253-254) وتأمل حكمته – تبارك وتعالى – في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، وبل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن ظهر فيهم المكر والخديعة كذلك، وإن منعوا حقوق الله – جل وعلا – لديهم وبخلوا بها، منعت ملوكهم وولاتهم مالهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم، ولما كان الصدر الأول خيرا القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، شابت لهم الولاة، فحكمة الله – جل وعلا – تأبى أن يولى علينا في مثل هذه الأزمان – أي في القرن الثامن ذلك، ثم تأمل حالنا في هذا الزمان في القرن الخامس عشر – مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فضلاً عن مثل أبي بكر وعمر – رضي الله تعالى عنهما – بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنة إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه، كما في الخلق والأمر سواء، فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئاً من أقضية أقداره عار عن الحكمة البالغة، بل جميع أقضيته – جل وعلا – وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها، كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت، ونطقت وقالت، كما أن الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار.

خفافيشُ أعْشاها النهارُ بضوئه

ولازمها قَطعٌ من الليل مظلم

وإليك حديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – الذي يقرر ذلك تقريراً في غاية القوة والإحكام: ثبت في المستدرك – كتاب الفتن والملاحم –: (4/540-541) ، وقال الحاكم صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العقوبات –:(2/1332-1333)، ونسبه المنذري في الترغيب والترهيب:(1/543، 3/169) إلى البزار والبيهقي، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير:(2/979) إلى تاريخ ابن عساكر، وهذا لفظ رواية المستدرك عن عطاء بن أبي رباح قال: كنت مع عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فأتاه فتى يسأله عن إسدال العمامة، فقال ابن عمر: سأخبرك عن ذلك بعلم إن شاء الله – تبارك وتعالى – قال: كنت عاشر عشرة في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عوف، وأبو سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فجاء فتى من الأنصار، فسلم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم جلس، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلفاً، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قبل أن ينزل بهم، أولئك من الأكياس ثم سكت الفتى، وأقبل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا معشر المهاجرين خمس إن ابتليتم بهن، ونزل فيكم، أعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله – صلى الله عليه وسلم – إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، ولم لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم" ثم أمر عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنه – يتجهز لسرية بعثه عليها، وأصبح عبد الرحمن قد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم نقضه وعممه بيضاء، وأرسل من خلفه أربع أصابع، ونحو ذلك، وقال: "هكذا يا ابن عوف اعتم، فإنه أعرب وأحسن"، ثم أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بلالاً – رضي الله تعالى عنه – أن يدفع إليه اللواء فحمد الله تعالى، وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: خذ ابن عوف، فاغزوا جميعاً في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله، ومسيرة نبيه – صلى الله عليه وسلم.

والحديث رواه الطبراني في الكبير كما في الترغيب والترهيب: (1/544)، والجامع الكبير:(1/513) ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير: (3/452) فيض القدير، ووهم المناوي في فيض القدير، فقال: خرجه ابن ماجه باللفظ المزبور عن ابن عباس كما بينه الدليمي وغيره 10هـ وابن ماجه لم يخرجه عن ابن عباس، إنما رواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية الطبري هذه قال عنها المنذري في الترغيب والترهيب: سنده قريب من الحسن، وله شواهد 1هـ والحديث السابق يشهد لهذه الرواية ولفظها عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "خمس بخمس، قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات، وأخذوا بالسنين"، وروى البزار بسند رجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(7/269) عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلك الله عليهم الموت، ولا منع قوم قط الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر".

ص: 22

وإذا كانت تلك صفات المؤمنين، فإن من عداهم على نقيض ذلك الوصف الكريم، فهم لاهون ضاحكون، لا يخشون من الله ولا يبكون، قال – جل وعلا – في آخر سورة النجم:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} 59-62 (1) ،

(1) قال الإمام القرطبي في تفسيره: (17/122)" وَلَا تَبْكُونَ " انزجاراً وخوفاً من الوعيد 10هـ وفي تفسير ابن جرير: (27/48) ومسند البزار ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/116) ورواه عبد الرزاق، والفريابي في فضائله، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في قوله – تبارك وتعالى –:" وَأَنتُمْ سَامِدُونَ " قال: الغناء كانوا إذا سمعوا القرآن، تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن، يقال: أسمدي لنا، أي: غني لنا، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد:(7/116)، والطبراني في تفسيره:(17/48) ، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: معرضون لاهون، وقد قرر الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان:(1/258) أنه لا تنافي بينهما ولا تناقض، لأن الغناء يجمع هذا ويوجبه..

ص: 23

(1) في قوله – جل وعلا –: " مُّسْتَنفِرَةٌ " قراءتان متواترتان، بفتح الراء وبها قرأ ابن عامر والمدنيان، وقرأ الباقون بكسرها كما في تقريب النشر:(184)، والمعنى: إنها مذعورة على قراءة الفتح، ونافرة على قراءة الكسر كما في حجة القراءات:(724)، وزاد المسير:(8/412) وفي قوله: " قَسْوَرَةٍ " سبعة أقوال: الأسد، والرماة، حبال الصيادين، عصب الرجال، ركز الناس أي: حسهم وأصواتهم، ظلمة الليل، النبل، انظر في زاد المسير:(8/412-413)، والدر المنثور:(6/386) وغير ذلك من كتب التفسير – والذي أحب أن أنبه عليه هو القول الأول ففي الدر: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في قوله – جل وعلا –: " قَسْوَرَةٍ " قال: هو بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: قسورة، وهو في تفسير الطبري:(29/107) أيضاً، ولعلماء الإسلام في هذا ونظائره كلام، هاك خلاصته يا أخا الإيمان، اتفق العلماء على وجود أعلام عجمية في كلام رب الأرض والسماء كما في الإتقان:(2/126)، وفي قطر الندى:(123) جميع أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة: محمد، وصالح، وشعيب، وهود، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه –..واختلفوا في وجود ألفاظ أعجمية في كلام رب البرية بغير اللغة العربية فمنع ذلك الإمام الشافعي في الرسالة:(41/53) في بحث شيق مسهب زاد على عشر صفحات، وتبعه على ذلك كثير من الأئمة منهم الطبري في تفسيره:(1/6-9) ، وأبو عبيدة، معمر بن المثنى في مجاز القرآن:(10/17)، وابن فارس في الصاحبي:(23)، وأبو القاسم بن سلام في كتابه: ما ورد في القرآن من لغات القبائل مطبوع على هامش تفسير الجلالين: (1/125) ، وحمل هؤلاء ما ادعى تعريبه أنه من باب التوافق بين اللغتين وتواردهما، وجوز وجود لغات في القرآن الكريم غير عربية الأصل، ووجود ذلك فيه فعلاً، وذلك بعد أن استعملها العرب، ودرجت على ألسنتهم، وسيروها على أوزان كلمهم، إذ أصحبت بذلك من لغتهم، وإن كان أصلها لغيرهم، وقد صدق من قال بهذا القول – القول المتقدم – نظراً إلى الاستعمال، كما صدقوا أنفسهم وصوبوا رأيهم نظراً إلى الأصل، فهي غربية في الحال، لما طرأ عليها من الاستعمال، عجمية الأصل والمآل، وقد قال بهذا الإمام الجواليقي في المعرب:(52-53)، وتبعه على ذلك كثير من الأئمة منهم ابن الجوزي كما في الإتقان:(2/129)، وابن عطية في مقدمة تفسيره: مطبوعة ضمن: مقدمتان في علوم القرآن: (276-277)، ونقله عنه الزركشي في البرهان:(2/289)، ومال إلى هذا القول الرازي في تفسيره:(17/226)، وابن منظور في لسان العرب:(5/163) – فصل التاء من حرف الراء –، والسيوطي في الإتقان:(2/126)، والمزهر:(1/269)، وسبق الجميع إلى القول بهذا الأزهري في تهذيب اللغة:(14/270) – رحمهم الله جميعاً – وانظر تفصيل البحث في فتح الباري: (8/252-253) ، وفيه نظم ما ادعى أنه معرب.

ص: 24

.. وقد دلت آيات القرآن على أن من لم يخف إلا من الرحمن، فله العز والتمكين في دار الامتحان وله الفوز والإكرام في دار الجنان، أما ما يحصل له في العاجل، فقد أخبر عنه ربنا القوي القادر بقوله – عز وجل – في سورة إبراهيم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم13-14 (1) ،

(1) قوله – جل وعلا –: " ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي " كقوله – عز وجل – في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46، وكقوله – جل وعز – في سورة النازعات:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات40-41 وللمفسرين في معنى ذلك قولان بارزان أحدهما: أن ذلك من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمعنى: خاف قيام ربه وكونه مهيمناً عليه، مراقباً له، حافظاً لأحواله، فالمقام للرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية، كما قال – جل وعلا – في سورة الرعد:{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الرعد33، والثاني: كون ذلك من باب إضافة المصدر إلى المخوف، والمعنى: خاف قيامه بين يدي ربه – عز وجل – عند لقائه لمجازاته على عمله، والأمران مقبولان، وقررهما المفسرون الكرام، انظر زاد المسير:(8/119)، والجامع لأحكام القرآن:(17/176) ، وروح المعاني (13/200، 27/115) ومال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (1/523) إلى الثاني، وقال: إنه أليق بالآية.

ص: 25

وقال في سورة الأنعام بعد إعلان براءة خليل الرحمن – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – من الأوثان، وانقياده لرب الأنام:{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام80-82، وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك: تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله – جل وعلا –: " وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ " بالشرك، ومن الشرك خوف غير الله – عز وجل – فاعلم (1) .

(1) انظر صفحة: (....) من هذا الكتاب المبارك، وفي مجموع الفتاوى:(1/74) العبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء، والاستغاثة، والخشية، والرجاء، والتوكل، والتوبة، والاستغفار كل هذا لله وحده لا شريك له، وفي:(1/94) قرر شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحمن – أنه أذا كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، وإذا نقص خوفه من المخلوق، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد يسلم أحد منه إلا من عصمه الله – تبارك وتعالى – ونحوه في كتاب الروح:(354-355) .

ص: 26

وانظر إلى حال نبي الله هود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لما تحقق بكمال خشية الرحمن – جل وعلا – لم يبال بمن كاده من إنس وجان، قال ذو الجلال والإكرام:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} هود50-58.

ص: 27

.. قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: إن من أخفى آيات الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – آيات هود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – حتى قال له قومه: "يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ" ومع هذا فبينته من أظهر البينات، وقد أشار الله – جل وعز – إليها بقوله:{إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ} هود54-55 فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع، ولا خوار، بل واثق مما قاله، جازم أنه وليه وناصره، وأنه غير مسلطهم عليه – إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة –: أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم، واحتقارهم وازدرائهم، وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ثم يعالجونه ولا يمهلونه، وفي ضمن ذلك: أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك، وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين، ثم قرر دعوته أحسن تقرير، وبين أن ربه – تبارك وتعالى – وربهم، الذي نواصيهم بيده، هو وليه ووكيله، القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه، وآمن به، ولا يشمت أعداءه، ولا يكون معهم عليه، فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه – في قوله وفعله – يمنع ذلك ويأباه، وتحت هذا الخطاب: أن من صراطه المستقيم: أن ينتقم ممن خرج عنه وعمل بخلافه، وينزل به بأسه، فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب – جل وعلا –، ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام، ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم، وأنه يذهب بهم ويتخلف قوماً غيرهم، ولا يضره ذلك شيئاً، وأنه القائم – سبحانه وتعالى – على كل شيء حفظاً ورعاية، وتدبيراً وإحصاء (1) .

(1) الآيات: 50-58 من سورة هود، وانظر كلام الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (3/464-465.

ص: 28

.. وأما جزاء الآخرة لمن خشي ذي العزة والمغفرة، فهو حلوله في جنة النعيم، ومجاورته لرب العالمين، قال ربنا الرحيم في آخر سورة البينة:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} البينة7-8، وفي سورة الملك يقول ربنا الملك:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} الملك12، قال – جل وعلا – في سورة ق:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق31-35، وقال – جل جلاله – في سورة الرحمن:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46، قال الحافظ ابن كثير – عليه رحمة ربنا الجليل –: وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شاباً كان يتعبد في المسجد فهوته امرأة، فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف201، فخر مغشياً عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – فعزى فيه أباه، وكان قد دفن ليلاً فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر – رضي الله تعالى عنه – فقال: يا فتى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن46 فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي – عز وجل – في الجنة مرتين (1) .

(1) انظر تفسير ابن كثير: (2/279)، وعزا السيوطي في الدر:(6/147)، والألوسي في روح المعاني:(27/116) القصة إلى شعب الإيمان للبيهقي، واعلم أن ما أورده الفراء في معاني القرآن:(3/118) من احتمال كون المراد بالجنتين جنة واحدة، لأن العرب تثني الجنة في أشعارها، فهو باطل منكر، قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن:(439-440) : وهذا من أعجب ما حمل عليه كتاب الله، ونحن نعوذ بالله أن نتعسف هذا التعسف، ونجيز على كتاب الله – جل ثناؤه – الزيادة والنقص في الكلام لرأس الآية..... وكيف يجوز هذا وهو – تبارك وتعالى – يصفها بصفات الاثنين، وحكم الرازي في مفاتيح الغيب:(29/123) على ذلك القول بالبطلان، ونقل القرطبي في تفسيره:(17/177) عن النحاس أن ذلك القول من أعظم الغلط على كتاب الله – عز وجل –.

قال عبد الرحيم: ويرد ذلك القول السقيم، ما ثبت عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الرحمن – باب: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ "، وباب:" حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ": (8/624)، وكتاب التوحيد – باب قول الله – عز وجل –:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ": (13/423) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم كتاب الإيمان - باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم – سبحانه وتعالى –:(1/163)، وسنن الترمذي – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة غرف الجنة –:(7/212)، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية –:(1/66)، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في جنات الفردوس –:(2/333)، والمسند:(4/411، 416)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في جنات الفردوس ورؤية الله – عز وجل – في الجنة:(2/243)، والأسماء والصفات:(302)، والاعتقاد:(65-66)، وكتاب الرد على الجهمية لابن منده:(94) ، وروى ذلك الحديث ابن أبي شيبة، والنسائي في الكبرى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في البعث كما في الدر:(6/146) ، وكلهم عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، هذا وقد روى الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة الرحمن –:(2/475)، وقال الذهبي: إنه على شرط مسلم، ورواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال في قوله تعالى –:" وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ": جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، ورواه ابن جرير في تفسيره:(27/85) عنه مرفوعاً، وكذلك ابن أبي حاتم، وابن مردويه بلفظ:"جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين".

واعلم – أيضاً – أن هذه الآية الكريمة عامة في الإنس والجن، فهي أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، كما قال الإمام ابن كثير في تفسيره:(4/276) ، وهذا هو قول الجمهور، وهو أحد أقوال أربعة في هذه المسألة، فانظرها إن شئت في آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان:(57/60) .

ص: 29

.. وقد أخبرنا ربنا العظيم، أن أهل جنة النعيم، يتحدثون بمنة الله الكريم بنجاتهم من العذاب الأليم، ويخبرون عن أنفسهم أنهم كانوا في أهلهم مشفقين، ففي سورة الطور يقول رب العالمين:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الطور25-28، جعلنا الله من أهل ذلك الوصف العظيم، بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.

* حال نبينا – عليه الصلاة والسلام – في خوفه من ذي الجلال والإكرام:

ص: 30

.. إذا كان رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم – أعلم المخلوقات برب العالمين، فإن ذلك يستلزم كونه أكثرهم خوفاً من مالك يوم الدين، وأشدهم له خشية في جميع الأحايين، وهذا هو واقع نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: صنع النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئاً ترخص فيه ن فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (1) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الأدب – باب من لم يواجه الناس بالعنف –: (10/513)، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع:(13/276) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم = كتاب الفضائل – باب علمه – صلى الله عليه وسلم.– بالله تعالى وشدة خشيته –:(4/1829)، والمسند:(6/45، 181) .

ص: 31

وذلك الذي ترخص رسولنا –صلى الله عليه وسلم – في فعله، وتنزه عنه من تنزه تعللاً بالبون الشاسع بينهم وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورد في التصريح به في روايات صحيحة ففي صحيح مسلم وغيره عن عمر بن أبي سلمة – رضي الله تعالى عنهما – أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: سل هذه لأم سلمة – رضي الله تعالى عنها –، فأخبرته أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله – قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له (1)

(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته –: (2/779)، ومن طريقه رواه ابن حزم في المحلى:(6/207)، ورواه مالك في الموطأ – كتاب الصيام – باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم –:(1/291-292) عن عطاء بن يسار أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأله له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، الله يحل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"ما لهذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ألا أخبرتها أني أفعل ذلك؟ " فقالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الله يحل لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال:"والله إني لأتقاكم، وأعلمكم بحدوده" ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار – كتاب الصيام – باب القبلة للصائم –: (2/94)، ورواه الشافعي في الرسالة:(404-405) عن شيخه مالك – رحمهما الله تعالى – وقال: وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله 10هـ، وقد وصله أحمد في المسند:(5/434) عن رجل من الأنصار – رضي الله تعالى عنه –، قال الهيثمي في المجمع:(3/166 رجاله رجال الصحيح 1هـ، ووصله عبد الرزاق بإسناد صحيح كما في شرح الزرقاني: (2/163، وفتح الباري: (4/151 1هـ وكذلك وصله ابن حزم في المحلى: (6/207، وعبد الرزاق في المصنف: (4/184)، وبلوغ الأماني:(10/51-) .

واعلم أنه لهذين الحديثين وغيرهما استحب ابن حزم القبلة للصائم وكرر ذلك في عدة صفحات من المحلى، ففي:(6/205) قرر أن القبلة والمباشرة للرجل مع امرأته سنة حسنة، مستحبة للصائم وفي:(6/208) نص على أنها حسنة مستحبة، وسنة من السنن، وقربة من القرب إلى الله – تبارك وتعالى – وكرر في:(6/213) القول باستحبابها، وقول ابن حزم هذا فيه مبالغة قطعاً، ولذلك قال الحافظ في الفتح:(4/150) بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها 10هـ نعم من أراد التنزه عن ذلك الفعل رغبة عما أحل الله، فالتقبيل في حقه متعين مطلوب لئلا يقع في التنطع الممقوت المردود، وأما من ترك ذلك لعدم تطلعه إليه، أو لخشيته من الوقوع فيما لا يضبط نفسه عليه، فلا حرج عليه، بل تركه لذلك في الحالة الثانية زين لئلا يقع في الشين، وهذا هو الحق في هذه المسألة، وأعدل ما قيل فيها، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار:(2/93) ، وقد تواترت الآثار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقبل وهو صائم، فدل ذلك أن القبلة غير مفطرة للصائم، وفي شرح الزرقاني:(2/163) قال ابن عبد البر: اجمعوا على أن القبلة لا تكره لنفسها، وإنما كرهها من كرهها خشية ما تؤول إليه، وأجمعوا على أن من قبل وسلم فلا شيء عليه 10هـ ومن العجيب المدهش فتيا عبد الله بن شبرمة يفطر من هو صائم كما نقل ذلك عنه الحافظ في الفتح:(4/150)، وقد ثبت عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – بأصح طريق عنه كما في المحلى:(6/212) أن رجلاً قال لابن عباس: إني تزوجت ابنة عم لي جميلة، وبنيت بها في رمضان، فهل لي إلى قبلتها من سبيل؟ فقال له ابن عباس: هل تملك نفسك؟ قال: نعم، قال: قبل، فقال: فبأبي أنت وأمي هل إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟، قال: نعم، قال: فباشرها، قال: فهل لي أن أضرب بيدي على فرجها من سبيل؟ قال: وهل تملك نفسك " قال: نعم، قال: اضرب، وفي مصنف عبد الرزاق:(4/186-191)، وفيه: ومن طرق صحاح عن سعد بن أبي وقاس – رضي الله تعالى عنه – أنه سئل: أتقبل وأنت صائم؟ قال: نعم، واقبض على متاعها 10هـ وفي البخاري تعليقاً عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في كتاب الصوم – باب المباشرة للصائم –:(4/149) بشرح ابن حجر ووصله الطحاوي في شرح معاني الآثار: (2/95) عن حكم بن عقال، قال: سألت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها، قال الحافظ: إسناده صحيح إلى حكيم بن عقال، وفي المحلى:(6/211) ومصنف عبد الرزاق: (4/190)، وإسناده صحيح كما في الفتح:(4/149) عن مسروق قال: سألت عائشة – رضي الله تعالى عنها – ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كل شيء غلا الجماع، وفي مصنف عبد الرزاق:(4/191)، والمحلى:(6/212) بأصح طريق عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أنه كان يباشر امرأته نصف النهار وهو صائم –.

انظر تفصيل هذه المسألة في الفتح: (4/149-153)، وشرح معاني الآثار:(02/88-969) ومصنف عبد الرزاق: (4/182-191)، والمغني:(3/47-48)، وسنن الترمذي - كتاب الصوم – باب ما جاء في القبلة للصائم –:(3/78-79)، ومجمع الزوائد – كتاب الصيام – باب القبلة والمباشرة للصائم –:(3/165-197) .

ص: 32

".

وثبت في صحيح مسلم وغيره أيضاً عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – تدركني الصلاة وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال الرجل: لسنا مثلك يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم –، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعملكم بما أتقي (1) ".

(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب –: (2/781) والمسند: (6/76، 156، 245)، وسنن أبي داود – كتاب الصوم – باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان –:(2/783)، وفيه: فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع" ونسبه المنذري في مختصر السنن: (3/268) إلى النسائي – السنن الكبرى –.

ص: 33

.. وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي – صلى الله عليه وسلم – قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا – فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب الترغيب في النكاح –: (9/104) بشرح ابن حجر، وقد ورد الحديث دون قوله:"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" في صحيح مسلم – كتاب النكاح – باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة -: (2/1020)، وسنن النسائي – كتاب النكاح – باب النهي عن التبتل –:(5/49-50)، والمسند:(3/241-259، 285)، وقد وردت جملة:"إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده" في المسند: (6/226) موجهة لعثمان بن مظعون – رضي الله تعالى عنه – عندما شدد على نفسه، فدخلت امرأته على أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهما – وهي باذة الهيئة، فسألها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرت عائشة ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلقي عثمان، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفمالك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده" وورد الحديث دون ذكر تلك الجملة أيضاً في سنن أبي داود – كتاب قيام الليل – باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة –: (2/101-102)، وسنن الدارمي – كتاب النكاح – باب النهي عن التبتل –:(2/133) .

ص: 34

.. فهذه الروايات الصحيحة فيها بيان ما ترخص نبينا – صلى الله عليه وسلم – في فعله، وتنزه عنه من تنزه تعلقاً بالتباين البين بينهم وبين خلق الله – صلى الله عليه وسلم (1)

(1) قال الحافظ في الفتح: (10/514) لم أعرف أعيان القوم المشار غليهم في هذا الحديث ولا الشيء الذي ترخص فيه، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك، وذكر حديث أمنا عائشة وأنس – رضي الله تعالى عنهما –. ولم يذكر حديث عمر بن أبي سلمة – رضي الله تعالى عنهما –، وأشار إليه في:(13/279) فقال: وأومأ ابن بطال إلى أن الذي تنزهوا عنه: القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر 10هـ وهو سبب رابع فاعلم..

ص: 35

– وقد رد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم زعميهم وأعلمهم أن من كان أعلم بما يقرب إلى الله – عز وجل – فهو أولى بالعمل بها، ورتبة الكمال الإنساني منحصرة في الجمع بين القوة العلمية، والقوة العملية، ولا وجود لهما على وجه التمام إلا في خير البرية – صلى الله عليه وسلم – ثبت في صحيح البخاري عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعر الغضب في وجهه، ثم يقول:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وفي المسند عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: إن ناساً كانوا يتعبدون عبادة شديدة، فنهاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال:"والله إني لأعلمكم بالله – عز وجل – وأخشاكم له (1) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب قول النبي –صلى الله عليه وسلم –: "أنا أعلمكم بالله": (1/70) بشرح ابن حجر، والمسند:(6/122)، وانظر التنصيص على دلالة الحديث على الجمع بين القوة العلمية والقوة العملية لنبينا خير البرية – صلى الله عليه وسلم – في الفتح:(1/71، 10/513، 13/279) فقوله – صلى الله عليه وسلم –: "أعلمكم" إشارة إلى القوة العلمية، وقوله:"أشدكم له خشية" إشارة إلى القوة العملية، فهو – فداه أبي وأمي – أعلم بالفضل، وأولى بالعمل به – عليه صلوات الله وسلامه – فمن أراد القرب إلى الله فعليه بالإتباع وحذار من مخيلات النفوس والأهواء، انظر شرح الإمام النووي على صحيح مسلم:(15/107) .

ص: 36

.. وإذا كانت تلك الخشية لرب العالمين، ملازمة لحبيبنا خير خلق الله أجمعين في جميع الأحايين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – فكان إذا صلى يسمع لصدره الشريف أزيز كأزيز المرجل من البكاء من خشية رب الأرض والسماء، ففي المسند، وسنن النسائي، وأبي داود، وشمائل الترمذي عن عبد الله بن الشخير – رضي الله تعالى عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، ولصدر أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وفي رواية أبي داود: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.

وقد كان نبي الله إبراهيم الخليل – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – متصفاً بذلك الخلق الجميل فكان إذا قام إلى مناجاة ربنا الجليل، يسمع أزيز صدره من مسافة ميل، كما قال أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنه – (1) .

(1) انظر المسند: (4/25-26)، وسنن النسائي – كتاب السهو – باب البكاء في الصلاة –:(3/12)، وسنن أبي داود – كتاب الصلاة – باب البكاء في الصلاة –:(1/557)، والشمائل المحمدية – باب ما جاء في بكاء الرسول – صلى الله عليه وسلم –:(165)، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(5/435) ، وهو حديث صحيح، وانظر قول أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الإحياء:(4/178) ، والمرجل هو القدر من الحجارة والنحاس، وقيل: هو قدر النحاس خاصة، وقيل: هي كل ما طبخ فيها من قدر وغيرها كما في اللسان: (13/291)"رجل"، وأزيز القدر هو اشتداد غليانه، ومعنى الحديث: أن جوفه يجيش ويغلي بالبكاء كما في اللسان: (7/170) : "أزيز" بسبب ما كان يعرض له في الصلاة من الخوف الذي يوجب ذلك الصوت، كما في جامع الأصول:(5/436)، والرحى معروفة وهي التي يطحن فيها كما في اللسان:(19/26)"رحا" وأزيز الرحا هو صوتها وجر جرتها كما في معالم السنن: (1/557) .

ص: 37

وكان فداه أبي وأمي – إذا تلي عليه القرآن، تفيض عيناه بالبكاء خشية للرحمن ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم –: "اقرأ علي القرآن" فقلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال:" فإني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} النساء41، قال:"أمسك" فإذا عيناه تذرفان (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة النساء – باب " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ": (8/250)، وكتاب فضائل القرآن – باب من أحب أن يستمع إلى القرآن من غيره –:(9/93)، وباب قول المقرئ للقارئ: حسبك: (9/94)، وباب البكاء عند قراءة القرآن:(9/98) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر –:(1/551)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة النساء –:(8/195-196)، وأورده في كتاب الشمائل أيضاً – باب ما جاء في بكاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:(165-166)، وسنن أبي داود – كتاب العلم – باب في القصص –:(4/74)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –:(12/1403)، والمسند:(1/374، 380، 433)، وشرح السنة للبغوي – كتاب فضائل القرآن – باب سماع القرآن –:(490-491)، ومسند الحميدي:(1/55)، وتفسير الطبري:(5/60)، ورواه الحاكم في المستدرك:(3/319) – كتاب معرفة الصحابة – عن عمر بن حريث – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لعبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: "اقرأ علي القرآن" الحديث، وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد:(7/4) وقال السيوطي في الدر: (2/163) بسند حسن وزاده نسبته إلى ابن أبي حاتم، والبغوي في معجمه عن محمد بن فضالة الظفري وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الآية:" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً " فبكى حتى اضطرت لحياه، تثنية لحىً وهو منبت اللحية كما في مختار الصحاح:(619) : "لحى"، وروى الطبراني عن لبيبة الأنصاري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قرأ تلك الآية بكى قال الهيثمي في المجمع:(7/5) : عبد الرحمن بن لبيبة لم أعرفه وبقية رجاله ثقات، وفي تجريد أسماء الصحابة:(2/37) لبيبة الأنصاري: روى عنه ابنه عبد الرحمن، وفي تفسير الطبري:(5/59)، وابن المنذر كما في الدر:(2/163) عن ابن جريح في قوله – جل وعلا: " وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً "، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى عليها فاضت عيناه.

ص: 38

وقد أخبرتنا أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن عظيم خوف النبي – صلى الله عليه وسلم – من ربه – جل وعلا – وخشيته له، وهي المطلعة على ما لم يطلع عليه أحد من أحواله – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين وغيرهما أنها قالت – رضي الله تعالى عنها –: ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيثاً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون في عذاب؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممصرنا" وفي رواية لمسلم: أنها قالت – رضي الله تعالى عنها – كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا عصفت الريح قال:" اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت فسألته: فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} الأحقاف24 (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الأحقاف – باب "فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ": (8/578)، وكتاب الأدب – باب التبسم والضحك –:(10/504) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الاستسقاء – باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم –:(2/616-617)، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما يقول إذا هاجت الريح –:(5/329)، والمسند:(6/66)،ورواية مسلم رواها البخاري – في كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في قوله – عز وجل –:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} الأعراف57: (6/300) بشرح ابن حجر من قولها: كان إذا رأى مخيلة في المساء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير لونه، الحديث، وكذلك رواه الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأحقاف:(9/11)، وابن ماجه – كتاب الدعاء – باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر:(2/1280)، وابن المبارك في الزهد والرقاق:(48) – باب العمل والذكر الخفي.

ومعنى "مستجمعاً" قاصداً له، مجداً فيه، واللهوات جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المتعلقة في أعلى الحنك، ومعنى "تخيلت" من المخيلة وهي سحابة فيها رعد وبرق، يخيل إلى الناظر أنها ماطرة كما في شرح النووي:(6/197) .

تنبيه أول:

لا مناة بين إخبار أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – بأنها ما رأت النبي – صلى الله عليه وسلم – مستجمعاً ضاحكاً حتى تظهر لهواته، وبين ما ثبت من ضحك نبينا –صلى الله عليه وسلم – حتى بدت نواجذه، في مناسبات متعددة، ومنها ضحكه من مقال الحبر وقد تقدم الحديث في صفحة:(......) من هذا الكتاب المبارك ففي بعض روايات الصحيحين وغيرهما أنه ضحك حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وسبب عدم المنافاة أن النواجذ وإن كان المراد بها الأضراس على الأشهر في إطلاق اللغة، فالمراد منها في الحديث الأنياب كما قال أبو العباس ثعلب وجماهير أهل اللغة، وإذا بدت الأنياب لا تظهر اللهاة وكان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يفعل ذلك في بعض الأوقات ـ ومعظم ضحكه تبسم، هذا هو قول المحققين، فيما نقله عنهم الإمام النووي – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – انظر تهذيب الأسماء واللغات:(2/160) القسم الثاني وقرر الإمام ابن حجر هذا في الفتح: (8/578)، فقال: قولها: إنما كان يتبسم، لا ينافي ما جاء في الحديث الآخر: أنه ضحك حتى بدت نواجذه، لأن ظهور النواجذ، وهي الأسنان التي في مقدم الفم أو الأنياب، لا يستلزم ظهور اللهاة، واعتبر في:(10/505) هذا الجواب أقوى الأجوبة في دفع ذلك التعارض، وقال: إن المثبت غير المنفي، ثم ختم الكلام بقوله: والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه – صلى الله عليه وسلم – كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط فيه لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال، والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك، فقد روى البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – رفعه:"لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". وانظر الحديث في الأدب المفرد: (39-40) باب الضحك –، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –:(2/140)، قال في الزوائد: إسناده صحيح: (7/69) من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

ولبيان حقيقة النواجذ والأنياب إليك عدد الأسنان في فم الإنسان، يبلغ عدد الأسنان في فم الإنسان عند اكتمال نموه اثنان وثلاثون، مقسمة كما يلي كما في قواعد التجويد:(37) :

أ-

الثنايا

:

وعددها أربع في كل فك اثنتان

ب-

الرباعيات

:

عددها أربع في كل فك اثنتان

جـ-

الأنياب

:

عددها أربع في كل فك اثنتان

د-

الضواحك

:

عددها أربع في كل فك ضاحكان، وهي تلي الأنياب وهي أول الأضراس

هـ-

الطواحين

:

عددها اثنا عشر طاحناً في كل فك ست، وهي تلي الضواحك

و

النواجذ

:

عددها أربع في كل فك ناجذان، وهي آخر الأضراس

التنبيه الثاني:

يستحب للإنسان أن يقول الدعاء المتقدم في رواية مسلم عند هبوب الرياح، وقد كان نبينا – صلى الله عيه وسلم – يقول غيره أيضاً، فانظر كتاب الأم:(1/253)، والأذكار:(151-153) لتقف على ما ينبغي أن يقال عند اشتداد الرياح، لتكون من أهل الخير والفلاح.

ص: 39

وكان – عليه الصلاة والسلام – يسأل ربه الثبات، ويكثر من ذلك في جميع الأوقات ففي سنن الترمذي بسند حسن عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلب على دينك" فقلت: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:"نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" وفي رواية للترمذي بسند حسن أيضاً عن شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة – رضي الله تعالى عنها –: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت: يا رسول الله ما أكثر دعائك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: "يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ" فتلا معاذ – أحد الرواة –: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران8، وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عن النواس بن سمعان – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:"يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك" قال "الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواماً، ويخفض آخرين إلى يوم القيامة" وفي المسند وصحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه كيف يشاء" ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك (1)

(1) انظر رواية أنس – رضي الله تعالى عنه – في سنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن – عز وجل –: (6/314)، وسنن ابن ماجه – كتاب الدعاء – باب دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:(2/1260)، والمسند:(3/112، 257)، والمستدرك – كتاب الدعاء:(1/256)، وقال: صحيح، وأقره الذهبي، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/101)، والشريعة للآجري:(137)، والصفات للدارقطني:(54)، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد:(10/176) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كان يقول: "يا وليّ الإسلام وأهله ثبتني به حتى ألقاك"، وانظر رواية أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "95":(3517، 9/182)، والمسند:(6/294، 302، 315)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الأذكار والدعوات – باب ما جاء في دعوات النبي – صلى الله عليه وسلم –:(1/256)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/100-104) والشريعة للآجري: (316)، والتوحيد لابن خزيمة:(81)، وانظر رواية النواس بن سمعان – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب فيما أنكرت الجهمية –:(1/72)، والمسند:(4/182)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الأدعية – باب أدعية رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:(600)، والمستدرك – كتاب الدعاء:(1/525)،وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكتاب التفسير –:(2/289)، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي، وكتاب الرقاق –:(4/321)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/98، 103)، والشريعة للآجري:(317-318)، والاعتقاد للبيهقي:(79-80)، والأسماء والصفات له:(341)، والصفات للدارقطني:(55)، والتوحيد لابن خزيمة:(80) والرد على الجهمية لابن منده: (87) ، وقال رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم، وانظر رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح مسلم – كتاب القدر – باب تصريف الله القلوب كيف يشاء –:(4/2045)، والمسند:(2/168، 173)، والسنة لابن أبي عاصم:(1/100، 104)، والشريعة للآجري:(316)، والأسماء والصفات للبيهقي:(340)، والصفات للدارقطني:(45، 72) .

والحديث مروي عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في المسند: (6/291، 251) قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك" فقالت له: إنك تكثر أن تقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك"، فقال: صلى الله عليه وسلم –: "وما يؤمنني، وإنما قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله – عز وجل – إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه"، ورواه الإمام أحمد عنها أيضاً في مسند أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –:(2/418) بلفظ: "ما رفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه إلى السماء إلا قال: "يا مصرف القلوب ثبت قلبي على طاعتك"، وقد اقتصر الهيثمي في المجمع:(7/210) على عزو الرواية الأخيرة إليها، وقال: فيه مسلم بن محمد بن محمد بن زائدة، قال بعضهم: وصوابه صالح بن محمد بن زائدة، وقد وثقه أحمد وضعفه أكثر الناس، وبقية رجاله رجال الصحيح، وعزا الهيثمي على معجم الطبراني الأوسط عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – نحو الروايتين المتقدمتين في المسند:(6/91-251)، وقال: فيه العلاء بن الفضل، قال ابن عدي: في بعض ما يرويه نكارة، وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف وانظر رواية الحديث عنها في السنة لابن أبي عاصم:(1/100-101، 104)، والشريعة للآجري:(317) .

والحديث مروي أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في المستدرك – كتاب التفسير –: (2/288-289)، وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكتاب الصفات للدارقطني:(54)، ومسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد:(10/6-17)، والرد على الجهمية لابن منده:(88)، وقال الحافظ ابن منده: هذا حديث ثابت باتفاق، وأشار الترمذي عند رواية أنس المتقدمة إلى هذه الرواية: فقال: وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي – صلى الله عليه وسلم –، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.

والحديث مروي أيضاً عن شهاب بن المجنون الجرمي – رضي الله تعالى عنه – في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "135" 3581: (9/220-221) عن طريق عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن جده، وجده هو الصحابي شهاب الجرمي – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الترمذي: هذا غريب من هذا الوجه، ومراده بذلك أن متن الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة، وانفرد كليب بروايته عن والده الصحابي شهاب، ويقال لهذا: إنه غريب إسناده لا متناً كما في تدريب الراوي: (376)، وقد حكم ابن حجر في التقريب:(1/385، 2/236) على عاصم بأنه صدوق رمي بالإرجاء، وعلى كليب بأنه صدوق، وحكى في تهذيب التهذيب:(5/55-56، 8/445-446) خلافاً واسعاً في أمرهما، وذكر الحديث في الإصابة:(2/159) ، في ترجمة شهاب الجرمي الصحابي – رضي الله تعالى عنه – وعزاه إلى أبي يعلى، ومطين، والبارودي، والطبري، وآخرين وقال: قلت: رجاله موثقون إلا أن أبا داود قال: عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء.

هذا وقد روى الحديث الطبراني بسند رجاله ثقات عن نعيم بن همار كما في مجمع الزوائد: (7/211) وابن أبي عاصم أيضاً في كتاب السنة: (1/99) ، وروياه أيضاً بسند رجاله ثقات عن سبرة ابن فاتك – ويقال سمرة بن الفاتك – رضي الله تعالى عنه – انظر المكانين المتقدمين، وروياه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – من طريق عبد الله بن صالح قال الهيثمي: وثقه عبد الملك بن شعيب، وضعفه غيره، انظر المجمع:(7/211)، وكتاب السنة:(1/103) ، وليس في الروايات الثلاثة ذكر الدعاء بل فيها الإخبار بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله – عز وجل – ومن شاء أن يقيمه أقامه، ومن شاء أن يزيغه أزاغه، نسأل الله الكريم أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن لا يزيغنا إذا هدانا، فهو ربنا ومولانا.

ص: 40

".

وتحقيقاً لما تقدم من بيان حاله – صلى الله عليه وسلم – في الخوف من ربه – جل وعلا – والخشية له فقد كان يختم كل مجلس من مجالسه – صلى الله عليه وسلم – بسؤال الخشية من ربه، ففي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قلما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما حييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحكما" هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ولفظ رواية الحاكم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: أ، هـ لم يكن يجلس مجلساً كان عنده أحد أو لم يكن إلا قال:"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، اللهم ارزقني من طاعتك ما تحول بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك، وارزقني من اليقين ما تهون به عليّ مصائب الدنيا، وبارك لي في سمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، اللهم وخذ بثأري ممن ظلمني، وانصرني على من عاداني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي، اللهم ولا تسلط عليّ من لا يرحمني"، فسئل عنهن ابن عمر، فقال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يختم بهن مجلسه (1) .

* حال الملائكة المقربين، والأنبياء المطهرين – عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين في الخوف من رب العالمين:

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب "83" 3497، والمستدرك – كتاب الدعاء –:(1/528)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، واقره الذهبي، وانظره في الزهد والرقاق:(144-145) .

ص: 41

.. إذا كان ما تقدم هو حال نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، في الخوف من مالك يوم الدين، فإن ذلك الخلق الكريم، هو خلق الصفوة الطيبين، من الملائكة والنبيين – على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلوات وأزكى التسليم –، ففي سورة الأنبياء:(26-28) ، يخبرنا ربنا عن حال ملائكة السماء، فيقول – جل ثناؤه –:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء26-28، وقال – جل وعلا – في سورة النحل:{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} النحل49-50، وقد بلغ الحال بعظماء الملائكة الكبار – على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه – أن واحداً منهم لم يضحك منذ أن خلق الله النار ففي المسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لجبريل – عليه السلام –:"مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟ فقال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".

ص: 42

.. قال الإمام العراقي – رحمه الله تعالى –: وورد ذلك في حق إسرافيل – عليه السلام – رواه البيهقي في الشعب، وفي حق جبريل – عليه السلام، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين (1) .

(1) انظر المسند: (3/224)، قال الهيثمي في المجمع:(10/395) ، رواه أحمد من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين، وهي ضعيفة، وبقية رجاله ثقات، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار:(4/178) رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية ثابت عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بإسناد جيد، ورواه ابن شاهين في السنة من حديث ثابت مرسلاً، وورد ذلك في حق إسرافيل رواه البيهقي في الشعب، وفي حق جبريل رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين ونقل ذلك عنه الترمذي في إتخاف السادة المتقين:(9/245) .

ص: 43

.. قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: وإنما اشتد خوف النبيين، والملائكة المقربين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم – لاطلاعهم على مالم يطلع عليه سائر المكلفين، من صفات رب العالمين، ومما يكون في الآخرة من نعيم وجحيم، وما يسبق ذلك من أهوال تذهل الحليم، وتشيب الولدان أجمعين، ولذلك قال خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم –:" إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطرت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها أربع أصابع إلا وملك (وملك) واضح جبهته ساجداً لله – عز وجل – والله لو تعلون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم على الصعدات تجأرون إلى الله، والله لوددتم أني كنت شجرة تعض (1)

(1) الحديث من رواية أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – رواه الترمذي – كتاب الزهد – باب في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً": (7/74-75) ، وقال هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –:(2/1402)، والحاكم في المستدرك – كتاب الأهوال –:(4/579)،وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ورواه في كتاب التفسير – سورة الإنسان:(2/510)، وأبو نعيم في الحلية:(2/236)، وفي الروايات الأربعة وردت جملة:"لوددت أني كنت شجرة تعضد" مرفوعة من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال الترمذي ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر – رضي الله تعالى عنه – قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد 1هـ ونحوه في الحلية وورد التصريح بذلك في رواية المسند: (5/173)، فقال أبو ذر – رضي الله تعالى عنه –: والله لوددت أني شجرة تعضد، وقد مال المباركفوري في تحفة الأحوذي:(3/359) على كون تلك الجملة من كلام أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – لكن ابن العربي في عارضة الأحوذي: (9/195) ذهب إلى خلاف ذلك، وقرر كون تلك الجملة من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: وفي قوله: "وددت أني كنت شجرة تعضد" خبر عن عظم همه بأمته لما يرى فيهم من المكروه، فأما هو في ذاته الشريفة، ومنزلته الكريمة، فهو أمر لا يوازيه شيء.

وقد وردت جملة: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" من رواية عدة من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – وإليك البيان:

الرواية الأولى:

رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في صحيح البخاري – كتاب الكسوف – باب الصدقة – في الكسوف –: (2/529)، وكتاب النكاح – باب الغيرة –:(9/319) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الكسوف – باب صلاة الكسوف –:(2/618)، وسنن النسائي – كتاب الكسوف – باب نوع آخر من صلاة الكسوف عن عائشة – رضي الله تعالى عنها –:(3/108)،وباب كيف الخطبة في الكسوف؟:(3/123)، والموطأ – كتاب صلاة الكسوف – باب العمل في صلاة الكسوف:(1/186) والمسند: (6/81، 164)، ورواية أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة المائدة – باب:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم –: (8/280) ، وكتاب الرقاق – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً": (11/319) بشرك ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الصلاة – باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما –: (1/320) ، وكتاب الفضائل – باب توقيره – صلى الله عليه وسلم –: (4/1832) وسنن النسائي – كتاب السهو – باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة –: (3/69) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء –: (2/1402) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب: "لو تعلمون ما أعلم": (2/306) ، والمسند: (3/102، 126، 154،180، 193، 210، 217، 240، 245، 251، 168، 290) وفي الأماكن التي تحتها خط بلفظ: "لو رأيتم ما أريت" وأخرجه عنه ابن مردويه كرواية أبي ذر المتقدمة كما في الدر: (3/265) .

ومن رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – المكان المتقدم – وكتاب الإيمان والنذر – باب كيف كانت يمين النبي – صلى الله عليه وسلم –: (11/524) بشرح ابن حجر، وسنن الترمذي – المكان المتقدم –، والمسند:(2/257، 312، 313، 418، 432، 467، 477، 502)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب المواعظ:(616) والمستدرك – كتاب الأهوال: (4/579)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وأقره الذهبي.

ومن رواية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/320)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه بهذه السياقة وأقره الذمبي، ورواه الطبراني البزار من طريق ابنة أبي الدرداء عن أبيها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال الهيثمي: ولم أعرفها وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/230)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع:(1/666) ومن رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الكبير والأوسط ومسند البزار كما في مجمع الزوائد: (10/29)، وفيه: وفيه عبد الله بن سعيد قائد الأعمش وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال يخطئ، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف.

ومن رواية عبد الله بن مكتوم – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/230) ، ومن رواية سمرة بن جندب – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني، ومسند البزار كما في المجمع:(10/230)، وفيه إسناد الطبراني من لم أعرفهم وإسناد البزار ضعيف 10هـ ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في الجامع الكبير:(1/665) .

ص: 44

". أي تقطع.

وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن شدة حزن أبينا آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لمفارقته ما رآه، وبعده عما كان فيه، فقال – صلى الله عليه وسلم –: "لو أن بكاء داود – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – وبكاء جميع أهل الأرض يعدل ببكاء آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – ما عدله (1) ، وما ذاك إلا لأنه عاين ما عاين عند رب العالمين، فهو وجل من عذابه الأليم، وراج ٍ لفضله العميم، وكل من كان في علمه بالله من الراسخين، وبما عند الله من المستيقنين، سيسلك طريق أبيه الكريم، الذي سار عليه سائر الأنبياء والمرسلين – عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم – وقد كان سلفنا الطيبين على ذلك الخلق العظيم، قال ابن أبي مليكه – وهو من أئمة التابعين – عليه رحمة رب العالمين –: جلسنا إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في الحجر، فقال: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته (2) .

(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط بسند رجاله ثقات عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – كما في مجمع الزوائد: (8/198) – كتاب ذكر الأنبياء – باب ذكر نبينا آدم – على نبينا وعليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه –.

(2)

وروى ذلك الحاكم في المستدرك في كتاب الأهوال: (4/578-279) ، وقال – هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وثبت في المسند:(4/185) وإسناده جيد كما في مجمع الزوائد: (10/225) عن عتبة بن عبد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لو أن رجلاً يخر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله لحقره يوم القيامة".

وورد الحديث في المسند أيضاً: (4/185، وكتاب الزهد والرقاق لابن المبارك: (12 موقوفاً عن محمد بن أبي عميرة – وكان من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "لو أن رجلاً خر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله – عز وجل – لحقره ذلك اليوم، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب" قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/225 رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في الإصابة: (3/381) سنده قوي وانظر كلام الحافظ لتقف على من عزا إليه تخريجه أيضاً، وانظر الروايتين المتقدمتين المرفوعة والموقوفة في أسد الغابة:(5/109) .

ص: 45

* تحريض النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – لأمته على الخوف من رب العالمين:

حثنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – على الخوف من الله الجليل، ورتب على التحلي بذلك الخلق النبيل، واسع الفضل والثواب الجزيل، فأخبرنا – صلى الله عليه وسلم – أن من خاف ربه في هذه الحياة، يأمن عندما تفزع المخلوقات، وتقوم لرب الأرض والسموات، ففي صحيح ابن حبان، وغيره من دواوين الإسلام عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ذي الجلال والإكرام أنه قال:"وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته في يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة (1) ".

(1) انظر موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب الخوف من الله تعالى –: (617) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – به، وعنه رواه البيهقي في شعب الإيمان كما في تخريج أحاديث الإيحاء:(4/159) وفيه وفي الترغيب والترهيب: (4/261) حكاية تصحيح ابن حبان للحديث، وهو في كتاب الزهد والرقاق لابن المبارك:(51) عن الحسن مرسلاً، وكذلك رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين كما في تخريج أحاديث الإحياء، واخرج البزار الروايتين المتقدمين المتصلة والمرسلة كما في مجمع الزوائد:(10/308) كتاب الزهد – باب ما جاء في الخوف والرجاء – وقال الهيثمي: شيخ البزار مجمد بن يحيى بن ميمون لم أعرفه، وبقية رجال المسند والمرسل رجال الصحيح غير محمد بن عمرو ابن علقمة وهو حسن الحديث، وقد تعقب الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على كتاب الزهد والرقاق كلام الحافظ الهيثمي، قلت: محمد بن يحيى بن ميمون روى عنه البزار ويحيى بن صاعد فليس بمجهول العين.

ص: 46

.. ويترتب على الأمن يوم الدين، أن يظلل بظل عرش رب العالمين، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، وجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (1) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد –:(2/143)، وكتاب الزكاة – باب الصدقة باليمين –:(3/293)، ومختصراً في كتاب الرقاق – باب البكاء من خشية الله – عز وجل –:(11/312) ، وكتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش:(12/112) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة:(2/715)، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الحب في الله – عز وجل –:(7/119)، وسنن النسائي – كتاب آداب القضاة – باب الإمام العادل –:(8/196)، والموطأ – كتاب الشعر – باب ما جاء في المتحابين في الله – عز وجل –:(2/952)، والمسند:(2/439) .

تنبيه:

حصر العدد في السبعة الواردة في الحديث الشريف لا مفهوم له، بدليل ورود غيرهم في روايات أخرى، وقد جمع الإمام ابن حجر عدد من ورد في الأحاديث أنهم يظللون تحت ظل العرش فبلغوا أربع سبعات – ثمانية وعشرين –، وأفردهم في جزء وسماه: معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، كما في فتح الباري:(2/144) .

ص: 47

.. ويوالى إحسان العزيز الغفار، على من خافه في دار الزوال، فينجيه من النار، مع ما يحصل له من الأمن والإكرام في عرصات دار القرار، ثبت في سنن الترمذي، وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم (1) ".

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله – عز وجل –: (5/351) وكتاب الزهد – باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله – عز وجل –: (7/73-74)،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه:(6/11)، والمسند:(2/505)، والمستدرك – كتاب التوبة والإنابة –:(4/260) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير:(1/938) لهناد والبيهقي في شعب الإيمان أيضاً، وهو في مسند الطيالسي – منحة المعبود:(1/234) .

ص: 48

.. وفي سنن الترمذي بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله (1)

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله – عز وجل –: (5/357) ، وقال هذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(9/487) : وهو حديث صحيح بشواهده، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في المتفق والمفترق كما في جمع الجوامع:(1/513) ، والحديث رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات، والطبراني في الأوسط بنحوه عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد:(5/288)، والترغيب والترهيب:(2/249)، وعنه رواه الخطيب في تاريخ بغداد:(2/360) وروي الحديث عن العباس بن عبد المطلب – رضي الله تعالى عنه – بسند ضعيف في معجم الطبراني كما في مجمع الزوائد: (5/288)، وتاريخ ابن عساكر والفيلانيات لأبي بكر الشافعي كما في جمع الجوامع:(1/513) ورواه الطبراني أيضاً عن معاوية بن حيدة – رضي الله تعالى عنه – وفي السند أبو حبيب العنقري، قال الهيثمي في المجمع:(5/288) لا أعرفه، وقال المنذري في الترغيب والترهيب:(2/249) لا يحضرني حاله، وبقية رجاله ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب الجهاد –:(2/82-83) من طريقين عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفي الطريق الأول عمر ابن راشد وقد ضعفوه، كما قال الذهبي والطريق الثاني منقطع كما قال الذهبي، والمنذري في الترغيب والترهيب:(2/250)، وعنه رواه البغوي من شرح السنة من طريق المسعودي – كتاب السير والجهاد – باب فضل الجهاد –:(10/355) ، والحديث صحيح بشواهده المتقدمة، وقد رواه الحاكم أيضاً – المكان السابق – بسند صحيح وأقره الذهبي عن أبي ريحانة – رضي الله تعالى عنه – وهو في سنن الدارمي – كتاب الجهاد – باب في الذي يسهر في سبيل الله – حارساً –:(2/203)، والمسند:(4/134-135)، ومعجم الطبراني الكبير كما في مجمع الزوائد:(5/287)، وفيه: ورجال أحمد ثقات.

ص: 49

".

وبالختام فالخوف من ذي الجلال والإكرام، ينجي من الآثام، ويحفظ الإنسان من الزلل والطغيان ويكسبه نيل رضا الرحمن، ولذلك كان نبينا – عليه الصلاة والسلام يوصي به أصحابه الكرام، ويحث على التخلق به جميع الأنام ففي سنن الترمذي بسند صحيح حسن عن عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله، ما النجاة؟ فقال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك (1)

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في حفظ اللسان –: (7/128)، والمسند:(4/148، 158، 5/259)، والزهد والرقاق لابن المبارك:(43)، والعزلة للخطابي:(8/8)، والحلية:(2/9) وعزاه السيوطي في الجامع الكبير: (1/154) إلى البيهقي في شعب الإيمان، وزاد المنذري في الترغيب والترهيب:(3/524) عزوه إلى ابن أبي الدنيا في العزلة، وفي الصمت، وإلى البيهقي في الزهد وغيره، وعزاه لأبي داود أيضاً ولم أجده فيه بعد بحث فراجع، والحديث رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وحسن إسناده عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – وفي إسناده المسعودي وقد اختلط كما في مجمع الزوائد:(10/299)، ورواه الطبراني بسند فيه عفير بن معدان وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد:(10/299) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ولفظه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويشهد أني رسول الله فليسعه بيته، وليبك على خطيئته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشهد أني رسول الله، فليقل خيراً ليغنم، أو ليسكت عن شر فيسلم". وقد أوصى ابن مسعود ابنه أبا عبيدة بما ورد في هذا الحديث فقال له: أي بني أوصيك يتقوى الله، وليسعك بيتك، وابن على خطيئتك، وروى ذلك الطبراني بإسنادين رجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(10/299)، وفي الزهد للإمام أحمد:(156) قال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لابنه: يا بني، ليسعك بيتك، وأملك عليك لسانك، وابك من ذكر خطيئتك..وفي الزهد والرقاق لابن المبارك:(42)، والحلية:(11/135) أن رجلاً قال لابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: أوصني، فقال: ليسعك بيتك، وابك من ذكر خطيئتك، وكف لسانك.

ص: 50

" وفي معجمي الطبراني الصغير والأوسط بسند حسن عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه –

: "طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته (1) " فمن سعادة الإنسان خشية الرحمن في السر والإعلان كما روى عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما المهلكات: فشح مطاع، وعوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه (2) ".

نسأل الله ربنا أن يرزقنا خشيته أينما كنا، وأن يجعل سرنا خيراً من علننا، فهو مولانا وحسبنا.

(1) انظر مجمع الزوائد: (10/299)، والترغيب والترهيب:(3/524)، والعزلة لابن أبي الدنيا كما في جمع الجوامع:(1/567) .

(2)

الحديث ضعيف وله شواهد كثيرة، وروي عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في معجم الطبراني الأوسط، وفي سنده ابن لهيعة ومن لا يعرف كما في مجمع الزوائد:(1/91)، وانظر فيض القدير:(3/308) ففيه الحكم بتضعيف هذه الرواية، وروي عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في مسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط، وفيه زائدة بن أبي الرقاد، وزياد النميري، وكلاهما مختلف في الاحتجاج به كما في مجمع الزوائد:(1/91)، وعنه رواه أبو نعيم في الحلية:(2/343، 6/268) عن زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري في المكان الثاني، وفي المكان الأول من طريق الفضل بن بكر عن قتادة به، ورواه أبو الشيخ في التوبيخ كما في الجامع الصغير:(3/307) معه الفيض، ورواه الخطيب في المتفق والمفترق، والعسكري في الأمثال كما في الجامع الكبير:(1/487)، والبيهقي في شعب الإيمان كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(3/235)، وقال العراقي: سنده ضيف، وروي ذكر المهلكات في حديث ابن عباس وابن أبي أوفى – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في مسند البزار وفي المسند محمد بن عون الخرساني وهو ضعيف جداً كما في مجمع الزوائد:(1/91) .

ص: 51

* أسباب خوف المكلفين من رب العالمين

مهما تعددت دوافع الخوف من الملك الوهاب، فإنها ترجع لثلاث أسباب، إليكم بيانها يا أولي الألباب:

السبب الأول إجلال الله وتعظيمه – عز شأنه وثناؤه –:

ويحصل ذلك الأمر الجليل، نتيجة للتأمل في الصلة بين العبد الحقير، والرب الكبير، فمن علم من حاله الضعف والفقر والاحتياج والجهل، وعلم من ربه – جل جلاله – ضد تلك الأوصاف، فهو القوي الغني ذو الجلال والإكرام، خاف رب العالمين، وأجله إجلال تعظيم، وإن كان من عباد الله المقربين، وقد أشارت إلى ذلك آيات الذكر الحكيم، ففي سورة آل عمران يقول ربنا الكريم:{لَاّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} آل عمران28-30 فكرر ربنا – جل وعلا – قوله: " يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ " مرتين للإشارة إلى أن ما لله الجليل من صفات يحتم الخوف منه على المخلوقات، وقد تقدمت إشادة القرآن بمن خاف من مقام الرحمن، وأن ذلك يحتمل قيام الله عليه، أو قيام العبد في الآخرة بين يديه، وعلى كلا التأويلين ففي الآية دلالة على عظيم رتبة من خشي رب الكونين، لما يتصف به من صفات توجب ذلك على العباد، حيث جاء ذلك مقدماً على رتبة من خاف العذاب:{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم14،

ص: 52

قال ذو النون المصري – عليه رحمة الله تعالى –: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجيّ (1) .

السبب الثاني: خشية التفريط ويكون ذلك في الطاعات والمعاصي:

(1) كما في الإحياء: (4/165)، وشرحه:(9/223)، ومختصر منهاج القاصدين:(328)، وذو النون المصري هو ثوبان وقيل: الفيض بن إبراهيم توفي سنة ست وأربعين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – قال ابن كثير في البداية والنهاية: (10/347) هو أحد المشايخ المشهورين، وكان حكيماً فصيحاً، قيل، وسئل عن سبب توبته فذكر أنه رأى قبرة عمياء نزلت من وكرها، فانشقت لها الأرض عن سكر جنتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه وشربت من هذه 10هـ القبرة: ضرب من الطير كما في المختار: (524) قبر، والسكرجة: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل من الأدم، كما في لسان العرب:(3/123)"سكر".

ومن طيب كلامه: بصحبة الصالحين تطيب الحياة، والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك وإن ذكرت أعانك، ومن تطأطأ لقط رطباً من تعالى لقي عطباً. انظر ذلك وغيره من ترجمته المباركة في الحلية:(9/331-395) : (10/4-5)، وصفة الصفوة:(4/315-321)، وشذرات الذهب:(2/107-108) .

ص: 53

.. أما الطاعات فلا يدري الإنسان حالها عند رب الأرض والسموات، هل فبلت فضارت من المقربات، وسبباً لنيل عظيم السعادات، أم ردت فصارت من المهلكات، المرديات في أسفل الدركات، فللقبول شروط في الفعل والفاعلين، هيهات أن تحصل على وجه الكمال في أحد من المكلفين، فالله يتقبل من المتقين، إذا كانت أعمالهم مشروعة في الدين، ومرداً بها وجهه الكريم، ولذلك عظيم خوف المؤمنين، وإن كانوا بطاعة ربهم قائمين، قال رب العالمين – جل شأنه العظيم –:{إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} المؤمنون57-61 وفي المسند وسنن الترمذي وابن ماجه والمستدرك عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت، قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قول الله – عز وجل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ " أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله – عز وجل –؟ قال – صلى الله عليه وسلم –: "لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، وهو مع ذلك يخاف الله – عز وجل (1)

(1) انظر المسند: (6/159، 205)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة المؤمنين:(8/318-319)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب التوقي على العمل:(2/1404)، والمستدرك – كتاب التفسير – تفسير سورة المؤمنين:(2/393-394)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وهو في تفسير ابن جرير:(18/26)، ومعالم التنزيل:(5/39-40) ، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر:(5/11)، والحميدي في مسنده:(1/132-133) .

والحديث من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – ولم يدركها كما في تهذيب التهذيب: (6/186)، وله شاهد يتقوى به من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في تفسير الطبري:(18/26) ، ورواه ابن أبي الدنيا، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه كما في الدر:(5/11) ، وأشار إليه الترمذي في المكان المتقدم، وقد نص على ذلك الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(2/245) .

ص: 54

"، ولذلك قال الحسن البصري – عليه رحمة ربنا القوي – إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} المؤمنون57-61، وقال المنافق: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} القصص78، وروي عن الحسن أيضاً ابن المبارك في الزهد قال في تفسير قول الله – عز وجل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا " قال: يعطون ما أعطوا، " وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ " قال: يعملون ما عملوا من أعمال البر، وهم يخشون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم – عز وجل – (1) وهذا ما قرره أئمة التفسير، قال الإمام ابن كثير – عليهم جميعاً رحمة ربنا الجليل –: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " أي: يعطون العطاء، وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط (2) .

(1) انظر جامع البيان: (18/25)، ورواه عنه ابن أبي حاتم أيضاً كما في الدر:(5/11)، وانظر الزهد والرقاق:(6)، وهو أيضاً في تفسير الطبري:(18/25)، ورواه عبد بن حميد كما في الدر:(5/11) .

(2)

انظر تفسير ابن كثير: (3/248)، ونحوه في تفسير ابن جرير:(18/24-25)، ومعالم التنزيل:(5/39) .

ص: 55

وأما المعاصي، فكل إنسان لا يخلو من هفوات، ولا يسلم من زلات وعثرات، فهو مفرط في جبن رب الأرض والسموات، ولا يدري هل سيغفر له بعد الممات، أو سيصلى النار المعدة للعاصين الغواة، فالعاقل يرى نفسه أنه أسير ذنبه، فيعظم خوفه من ربه وفي صحيح ابن حبان، وحلية الأولياء عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – يعني الإبهام والتي تليها – لعذبنا، ثم لم يظلمنا شيئاً (1) ".، ولذلك قال على – رضي الله تعالى عنه – لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه (2) .

(1) انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب الزهد – باب الخوف من الله – سبحانه وتعالى – وأنه يعذب من يشاء ويرحم من يشاء –: (617)، وحلية الأولياء:(8/132) .

(2)

روى ذلك أبو نعيم في الحلية: (1/75) فساق بسنده إليه إنه قال: احفظوا عني خمساً فلو ركبتم الإبل في طلبهن لأفضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسم، ولا إيمان لمن لا صبر له.

ص: 56

وصور عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – حال المؤمن مع ما يفلت منه من الذنوب بمثال يخلع القلوب، فقال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا، قال الحافظ في الفتح: قال ابن أبي جمرة – رحمة الله عليهم أجمعين –: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة، وحاصله: أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن من العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيئ، وأما الفاجر فهو مظلم القلب فوقوع الذنب منه خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل، والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده، لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالباً العين، وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضاً لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره.

ص: 57

وقال الحافظ أيضاً، قال المحب الطبري – عليهما رحمة الله تعالى –: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله – عز وجل – وعقوبته، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله – عز وجل – فلذلك قل خوفه، واستهان بالمعصية (1) .

(1) انظر أثر ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب الدعوات – باب التوبة –: (11/102) بشرح ابن حجر ورواه الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب "50": (7/90)، ورواه ابن مبارك في الزهد – باب ما جاء في تخويف عواقب الذنوب –:(23)، وأبو نعيم في حلية الأولياء:(4/29) ، وانظر ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة، والمحب الطبري في الشرح:(11/105) مع تصرف يسير في التقديم والتأخير.

ص: 58

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ولذلك عظم خوف الصحابة الصادقين – عليهم رضوان رب العالمين – فكانوا يحترسون مما وقع فيه كثير من المتأخرين، مما يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، وفي المسند أيضاً عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، وفي المسند والمستدرك وغيرهما عن عبادة بن قرط – رضي الله تعالى عنه – قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات، قال حميد بن هلال فقلت لأبي قتادة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ فقال أبو قتادة لكان لذلك أقول، وفي المسند وسنن الدارمي فذكروا ذلك لمحمد بن سيرين فقال: صدق، أرى جر الإزار منها (1) .

(1) انظر الرواية الأولى في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب ما يتقى من محقرات الذنوب: (11/329) بشرح ابن حجر، والرواية الثانية في المسند:(3/3) قال الهيثمي في المجمع: (10/190) ورجاله رجال الصحيح، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(4/18، 170) رواه أحمد والبزار بسند صحيح، وانظر رواية البزار في المجمع:(1/106)، قال الهيثمي: وفيه عباد بن راشد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه أبو داود وغيره، والرواية الثالثة في المسند:(5/79)، والمستدرك – كتاب التوبة والإنابة –:(4/291-292)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في الموبقات:(2/315) والطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/190)، وقال الهيثمي وبعض أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح والتاريخ الكبير:(6/94)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود –:(2/64) - كتاب الكبائر – باب الترهيب من احتقار الذنوب الصغيرة – وانظره في أسد الغابة: (3/162)، والإصابة:(2/270)، وعبادة بن قرط وقيل: ابن قرص أصح وقال الهيثمي: قال الطبراني: عبادة الله أعلم، قتله الخوارج سنة إحدى وأربعين عندما كان بالأهواز بعد رجوعه من الغزو في سبيل الله فسمع أذاناً فأقبل نحوه، فإذا هو بالخوارج، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخوكم، فقالوا: أنت أخو الشيطان، فلما أرادوا قتله، قال لهم أما ترضون بما رضي النبي – صلى الله عليه وسلم – مني، أتيته وأنا مشرك فشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخلى عني، فقتلوه، قتلهم الله، ورضي عنه وأكرمه – انظر تفصيل ذلك في التاريخ الكبير:(6/93-94)، وأسد الغابة:(3/162)، وتجريد أسماء الصحابة:(1/294)، والإصابة:(2/269-270) القسم الأول من حرف العين، وتعجيل المنفعة –:(209-210) .

ص: 59

وفي المسند عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيصير بها منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتحاضن على الخير، أوليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم (1) .

قال كاتب هذه الأسطر: ستره رب العالمين والمسلمين أجمعين –: إذا كان كل إنسان لا يخلو من تقصير في حق الرب الجليل، ولا يعلم بأي ذنب يحل عليه غضب الرب الكبير، فينبغي أن يكون شديد الوجل من العزيز القدير، محترساً تمام الاحتراس من كل ذنب كبير وصغير، فلا ينظر إلى صغر الخطيئة وحقارتها، ولكن ينظر إلى كبرياء وجلال من واجهه بها، ثبت في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً" ورواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: "إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله – عز وجل – طالباً (2) ".

(1) انظر المسند: (5/390)، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(1/128، 4/169) رواه أحمد بإسناد فيه جهالة.

(2)

انظر موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب اجتناب المحقرات –: (617-618)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الذنوب –:(2/1417)، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وانظره في سنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في المحقرات –:(2/303)، وانظر رواية المسند فيه في:(6/70، 151) ورواه النسائي في السنن الكبرى كما في فتح الباري: (11/329) .

ص: 60

وفي المسند ومعجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها (1) ".

(1) انظر المسند: (1/402-403)، ومجمع الزوائد – كتاب التوبة – باب فيما يحتقر من الذنوب –:(10/189)، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عمران ابن داور القطان، وقد وثق، وقد صحح الحديث الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(5/313) رقم "3818 لكنه تعقب صنيع الهيثمي بالتساهل لأن عبد ربه لم يرو له شيء في الصحيحين ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع: (1/363) ، والحديث رواه الطبراني بنحوه موقوفاً بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(10/189-190) .

ورواه بنحوه أيضاً أحمد في المسند: (5/331) عن سهل بن سعد – رضي الله تعالى عنه – بسند حسن كما في فتح الباري: (11/329) ورجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (10/190) والطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبد الوهاب بن عبد الحكم، وهو ثقة، كما في المجمع:(10/191) .

ورواه بنحوه الطبراني عن سعد بن جنادة – رضي الله تعالى عنه – وفيه نفيع أبو داود وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (10/191) .

ص: 61

وإذا كان للمحقرات تلك الدركات، فهي تهلك من يتلبس بها من المخلوقات، وفاعلها في غفلة وفي سبات، فإن الشيطان يرضى بصدورها من المكلفين والمكلفات، كما أخبرنا عن ذلك خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات – ففي سنن الترمذي وغيره عن عمر بن الأحوص – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أباداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى له (1) ".

وقد سار سلفنا الأكابر على ذلك الهدي الفاخر فحذروا من الصغائر كما حذروا من الكبائر لما في الأمرين من انتهاك لحرمة العزيز القادر قال بلال بن سهد – أسكنه الله جنان الخلد –: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (2)، قال ابن المعتز:

خَلّ الذنوبَ صغيرها

وكبيرها ذاك التُقَى

واصنعْ كَمَاش ً فوق أر

ض الشّوك ِ يحْذرُ ما يرى

لا تَحْقِرَنّ صغيرة

إنّ الجبالَ منَ الحَصَى (3)

السبب الثالث خوف سوء الخاتمة حسبما قدر على العبد في السابقة:

(1) ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لا يوجد الحاشية رقم 2.

(2)

انظر رواية ذلك عنه في كتاب الزهد لابن المبارك: (24)، وحلية الأولياء:(5/223)، وصفة الصفوة:(4/218) ، وبلال بن سعد شامي ومنزلته في بلاد الشام كمنزلة الحسن البصري في بلاد العراق، وكانت وفاته في حدود العشرين ومائة، ومن جميل كلامه: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوا له في السر، وكفى بنا ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، وانظر ذلك وغيره من أخباره الطيبة فيما تقدم، وفي البداية والنهاية:(9/248-250)، وتهذيب التهذيب:(1/503-504) .

(3)

انظر نسبة ذلك إليه في تفسير القرطبي: (1/162)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير:(1/1) والأبيات في روح المعاني: (1/108) دون نسبة.

ص: 62

.. وهذا السبب العظيم هو الذي من أجله طاشت له قلوب الصديقين، وطارت بسببه أفئدة الراسخين، فاشتد خوفهم من رب العالمين، وسألوه الثبات على دينه الكريم في جميع الأحايين، وخاصة عند اشتداد السياق بهم وهو الكرب العظيم، ومن سلك هذا المسلك الكريم، فيرجى له التثبيت من قبل رب العالمين، على صراطه المستقيم، والحظوة بفضله العميم، ومن انحرف عن ذلك من المكلفين، فهذا علامة خسرانه المبين، نسأل الله العظيم أن يثبت قلوبنا على دينه القويم، وأن يجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين، وأن يمن علينا بجنات النعيم، والنظر إلى وجهه الكريم فهو ربنا لكريم، وهو خير المسئولين.

ص: 63

.. ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلفه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالذي لا إله إلا غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (1) ".

ولسوء الخاتمة أسباب تجمع في سببين عند أولي الألباب:

السبب الأول:

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام –: (6/303)، وكتاب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب خلق آدم وذريته –:(6/363)، وأول كتاب القدر –:(11/477)، وكتاب التوحيد – باب "28":(13/440) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – أول كتاب القدر –:(16/189-195) بشرح النووي، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في القدر –:(5/82)، وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم –:(6/310)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –:(1/29)، والمسند:(1/382، 414، 430)، ومسند الحميدي:(1/69)، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب الإيمان بالقدر –:(1/129)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب القدر – باب تقدير حال الإنسان وهو في بطن أمه –:(1/31)، والسنة لابن أبي عاصم:(1/77)، والشريعة للآجري:(182)، وقال: والحديث ابن مسعود طريق عن جماعة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ثم ساقها، والاعتقاد للبيهقي:(70) .

ص: 64

.. الأمن على الإيمان من الاستلاب، عند الخروج من دار التكليف إلى دار الحساب ومن أمن من تقلبات القلوب عند تغاير الأحوال والأسباب، فهو من أهل التباب بلا ارتياب، ولذلك كان أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنه – يحلف بالله – جل وعلا – أنه ما من أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه، ولما احتضر سفيان الثوري – عليه رحمة الله القوي – جعل يبكي ويجزع، فقيل له، يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أو على ذنوبي أبكي؟ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله – جل وعلا – بأمثال الجبال من الخطايا (1) .

قال عبد الرحيم – ختم الله الكريم له وللمسلمين بالحسنى آمين –: اعلم أخي المؤمن يا من يريد نصح نفسه، والفوز برضوان ربه، أنه لن يمر على الإنسان في كياته كرب كالكرب الذي سيلقاه عند مفارقة الدنيا، روى الإمام أحمد في المسند عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لم يلق ابن آدم شيئاً قط خلقه الله أشد عليه من الموت، ثم إن الموت لأهون مما بعده (2) "، وذلك من وجهين فتأملهما، واعتن بما يلزمهما، عن طريق إعداد العدة لهما، فعما قريب سينزلان بك وستعرف حقيقتهما.

الوجه الأول:

(1) انظر الخبرين في إحياء علوم الدين: (4/168-169)، وإتحاف السادة المتقين:(9/229-230)، والخبران في مختصر منهاج القاصدين:(329)، والخبر الأول رواه الرازي في كتاب صفات المنافقين:(47) عن أبي إدريس الخولاني – رحمه الله تعالى – بلفظ: ما على ظهرها من بشر يخاف على إيمانه أن يذهب إلا ذهب.

(2)

تنظر المسند: (3/154) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (2/319) رجاله موثقون.

ص: 65

.. شدة سكرات الموت التي تذهل الحليم، وتحول القوي الشديد إلى عليل سقيم، وتأمل ما وقع لنبينا – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – لترى ما يقع عند الموت من شدة لعباد الله المقربين، فضلاً عن بقية المكلفين، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توفي في بيتي، وفي يومي بين سحري ونحري – السحر: الرئة، وتعني بذلك أنه مات في حضنها – وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت، دخل عليّ عبد الرحمن – وهو ابن أبي بكر فهو أخوها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت، ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته له، فأمره – أي: على أسنانه فاستاك به -، وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض، ومالت يده" وفي لفظ في المسند وسنن الترمذي، وابن ماجه عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعنى على سكرات الموت (1) ".

(1) انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته –: (8/144)، وكتاب الرقاق – باب سكرات الموت –:(11/361) بشرح ابن حجر فيهما، والمسند:(6/64، 70، 77، 151)، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء في التشديد عند الموت –:(3/361)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:(1/519) .

ص: 66

.. ولذلك كانت – رضي الله تعالى عنها – تقول: مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أمره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي لفظ للترمذي عنها – رضي الله تعالى عنها – قالت: ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1) .

(1) انظر الحديث في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته: (8/140) بشرح ابن حجر، وسنن النسائي - - كتاب الجنائز – باب شدة الموت –:(4/6)، والمسند:(6/74، 77)، وسنن الترمذي – كتاب الجنائز – باب ما جاء في التشديد عند الموت –:(3/262)، وشرح السنة – كتاب الجنائز – باب شدة الموت –:(5/297)، وقال: هذا حديث صحيح، قال السيوطي في زهر الربى على المجتبى:(4/7) الحاقنة هي الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق، والذاقنة بالذال المعجمة: الذقن، وقيل: طرف الحلقوم، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر 10هـ وقال ابن الأثير في جامع الأصول: (11/67) الحاقنة: ما سفل من البطن، والذاقنة: طرف الحلقوم الناتيء، وقيل: الحاقنة: المطمئن من الترقوة والحلق، والذاقنة: نقرة الذقن.

ص: 67

.. وثبت في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: "لما ثقل النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل يتغشاه، فقالت فاطمة – عليها السلام – واكرب أباه، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، فلما مات – صلى الله عليه وسلم – قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة – عليها السلام –: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم التراب (1) ؟.

وجاء في مراسيل الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – بيان شدة الموت وما فيه من كربات بما يضعضع الجبال الراسيات، قال الحسن: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر الموت وغصته وألمه، فقال:"هو قدر ثلاثمائة ضربة بالسيف (2) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته: (8/149) بشرح ابن حجر، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –:(1/522)،وفيه قال حماد: رأيت ثابتاً – الراوي عن أنس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – حين حدث بهذا الحديث بكى حتى رأيت أضلاعه تختلف، والحديث في المسند:(3/141) قال الحافظ في الفتح: (8/149) ، وسكت أنس عن جوابها – رضي الله تعالى عنها وعنه وعنا معهما – رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرناها على فعله امتثالاً لأمره – صلى الله عليه وسلم –.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً بسند رجاله ثقات كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (4/447) .

ص: 68

قال الإمام الغزال – عليه رحمة الملك الباري –: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقاً بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، ولا سيما وهو في كل نفس بصدده، كما قال بعض الحكماء: كرب بيد سواك، لا تدري متى يغشاك، وقال لقمان لابنه: يا بني أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك، والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك المموت بسكرات النزع، وهو عنه غافل فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.

واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه.

فأما القياس الذي يشهد له، فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإن كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو حرج أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، والمؤلم يتفرق على اللحم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم، فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح، ولا يلاقي غيره ما أعظم ذلك الألم وما أشده.

ص: 69

والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجده إنما يجري في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة، وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهراً وباطناً إلا وتصيبه النار فتحسه الأجزاء الروحانية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم، وأما الجراحة فإنما تصيب الموضع الذي مسه الحديد فقط، فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار، فألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه، فإنه المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من الفرق إلى القدم، فلا تسأل عن كربه وألمه، حتى قالوا: إن الموت لأشد من ضرب السيف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلم لتعلقه بالروح، فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح، وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوته في قلبه، وفي لسانه، وإنما انقطع صوت الميت وصياحه مع شدة ألمه لأن الكرب قد بالغ فيه، وتصاعد على قلبه، وبلغ كل موضع فهد كل قوة، وضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشه، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد ضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خواراً وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه واربد حتى كأنه ظهر منه التراب الذي هو أصل فطرته، وقد جذب منه كل عرق على حياله، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه، وتتقلص الشفتان، ويتقلص اللسان إلى أصله، وترتفع الأنثيان إلى أعالي موضعهما، وتخضر أنامله، فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب

ص: 70

عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها ويغلق دونه باب التوبة، وتحيط به الحسرة والندامة ثم نقل الغزالي عن أخبار أهل الكتاب أن نبي الله موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لما صارت روحه إلى الله – تبارك وتعالى – قال له: يا موسى كيف وجدت الموت؟ قال: وجدت نفسي كالعصفور حين يقلى على المقلى، لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير، وروي عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية تسلخ بيد القصاب (1) .

الوجه الثاني:

إن الإنسان مع كونه في تلك الحال عند الاحتضار، فإن الشياطين الأشرار، تحيط به من جميع الجهات والأقطار، ويقول بعضهم لبعض: دونكم هذا، فإن فاتكم فلن تدركوه، فيجتمع على الإنسان عند السياق أمران فظيعان:

الأول: ضعف قواه، لدهاه من كربات الموت واعتراه.

الثاني: كثرة المردة الطغاة، وبذلهم ما في وسعهم لجعل المحتضر من العتاة، الغواة.

فإن تداركت رحمة أرحم الراحمين عبده الضعيف المسكين في ذلك الحين، وثبته بالحق المبين، فقد سعد أبد الآبدين، وفاز بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وإلا فهو من الهالكين الخاسرين، المخلدين في نار الجحيم.

(1) انظر إيحاء علوم الدين: (4/445-447)، ومختصر ذلك في مختصر منهاج القاصدين:(416) .

ص: 71

.. فكيف يأمن العاقل على إيمانه، ولا يدري في ساعة الاحتضار عن حال جنابه، أو ما علم الإنسان أن قلب يتقلب مدى الأزمان، والمحفوظ من حفت به ألطاف ربنا الرحمن، قال نبينا – عليه الصلاة والسلام –:"لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" وفي رواية: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" ولذلك كان أكثر دعاء نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" كما تقدم (1) ولله در من قال:

أحْسَنْتَ ظنّكَ بالأيام إذ ْ حَسُنَتْ

ولم تخَفْ سُوءَ ما يأتي به القَدَرُ

وسالمَتْكَ الليالي فاغْتَرَرْتَ بها

وعند صفْو ِ الليالي يحْدثُ الكدرُ (2)

(1) الحديث رواه عن المقداد بن الأسود – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كل الأئمة الكرام: أحمد في المسند: (6/4)، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة آل عمران –:(2/289)، وقال: هذا حديث على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه ابن أبي عاصم في السنة:(1/102)، والطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: كتاب القدر – باب ما جاء في القلب –: (7/211)، وأبو نعيم في حلية الأولياء:(1/175)، وانظر حديث "يا مقلب القلوب" في صفحة:(.....) من هذا الكتاب المبارك.

(2)

انظر الأبيات في إحياء علوم الدين: (4/173)، ومدارج السالكين:(1/516) .

ص: 72

.. ولذلك كانت حلية الأبرار، عدم الأمن على إيمانهم ما داموا في هذا الدار، ولا يشعرون بالسعادة، وحصول الأمن إلا إذا فارقوا هذه الدنيا على توحيد العزيز الغفار، ذكر الأئمة الكرام في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل شيخ الإسلام – عليهم جميعاً رحمة رب الأنام – أن ولده عبد الله قال: لما حضرت أبي الوفاة جعل يفرق ثم يفيق، ثم يفتح عينه، ثم يقول بيده هكذا لا، بعد، لا، بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبتي أي شيء هذا، قد لهجت به في هذا الوقت؟ تفرق حتى تقول: قد قضيت، ثم تعود، فتقول: لا، بعد، لا بعد؟ فقال لي: يا بني ما تدري؟ فقلت: لا، فقال: إن إبليس – لعنه الله تعالى – قائم حذائي عاض على أنامله، يقول لي: يا أحمد فتني، وأنا أقول له، لا، بعد، حتى أموت (1) .

ولما احتضر أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – بكى، وقال: والله ما أبكي حزناً على الدنيا، ولا جزعاً من فراقكم، ولكن أنتظر إحدى البشارتين من ربي، بجنة أو بنار.

وقيل لجابر بن زيد عند الموت: ما تشتهي؟ فقال نظرة إلى الحسن البصري – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، فلما دخل عليه الحسن رفع طرفه إليه، ثم قال: يا أخو أناه الساعة والله أفارقكم إلى النار أو إلى الجنة.

وقال محمد بن واسع – رحمه الله تعالى – عند الموت: يا إخواناه، السلام عليكم، إلى النار أو يعفو الله – عز وجل –.

قال الغزالي – رحمه الله تعالى –: فخوف سوء الخاتمة قطع قلوب العارفين، وهو من الدواهي العظيمة عند الموت (2) .

(1) انظر القصة في مناقيب الإمام أحمد لابن الجوزي: (408) – سياق ذكر حاله عند احتضاره، ونحوها في كتاب الزهد لابن المبارك:(104) عن عطاء بن يسار قال: تبدى إبليس لرجل عند الموت فقال: نجوت مني، قال: وأمنتك بعد.

(2)

انظر إحياء علوم الدين: (4/449-450) ، وفيه الأخبار الثلاثة المتقدمة.

ص: 73

السبب الثاني لسوء الخاتمة: الاغترار بالحال الحاضرة، والعجب بما يصدر عن الإنسان من طاعات ناقصة قاصرة، والغفلة عما في المكلف من الآفات، التي توجب له سوء الخاتمة عند الممات، وأمهات ذلك ثلاث بليات مهلكات، قل أن يخلو عن واحد منها أحد من المخلوقات، والمحفوظ من حفظه رب الأرض والسموات.

البلية الأولى باتفاق: اتصاف المكلف بالنفاق والغفلة عما فيه من سوء الأخلاق، ولا يخلو عن ذلك إلا الصديقين المقربون، لأن حقيقة النفاق اختلاف السر والعلانية، وتغاير المدخل والمخرج، وتضاد القلب والفعل، قال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور، وأنشد في هذا المعنى:

إذا السرُ والإعلان في المؤمن استوى

فقد عزّ في الدارين واستوْجبَ الثنا

فإنْ خالفَ الإعلانُ سِراً فماله

على سعْيه فضلٌ سوى الكَدِّ والعنا

فما خالِصُ الدينار في السوقُ نافِقٌ

ومغشوشه المردودُ لا يقْتضي المُنا (1)

(1) انظر قول يزيد بن الحارث وأبيات الشعر في إحياء علوم الدين: (4/379)، ونحوه في الحلية:(2/156) عن الحسن.

ص: 74

.. وفي كتاب الزهد لابن المبارك عن أبي عمر وقيس بن رافع، قال: اجتمع ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند ابن عباس، فتذاكروا الخير فرقوا، وواقد بن الحارث – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ساكت، فقالوا: يا أبا الحارث ألا تتكلم؟ فقال: قد تكلمتم وكفيتم، فقالوا: تكلم فما أنت بأصغرنا سناً، فقال: أسمع القول فالقول خائف، وانظر الفعل فالفعل فعل آمن، وقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: إن الناس قد أحسنوا القول كلهم، فمن وافق قوله فعله، فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالفه فإنما يوبخ نفسه (1) .

واعلم أن لفظ الصدق كما يستعمل في صدق القول، يستعمل أيضاً في غيره، وقد نص العلماء الكرام على استعمال الصدق في ستة أقسام:

1-

صدق في القول: وهذا أشهر أنواع الصدق وأظهرها فواجب على كل عبد حفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق ويدخل في هذا مراعاة معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه – جل وعلا – كقوله: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " فإن كان منصرفاً عن الله مشغولاً بالدنيا فهو كاذب.

(1) انظر كتاب الزهد والرقاق: (25) ، وقيس بن رافع يكنى بأبي عمرو، وبأبي رافع مصري تابع وهو مدني الأصل، ووهم من ذكره في الصحابة روى له أبو داود في المراسيل كما في تهذيب التهذيب:(8/391)، وتقريبه:(2/128)، وتجريد أسماء الصحابة:(2/20)، وواقد بن الحارث يكنى بأبي الحارث وهو صحابي باتفاق – رضي الله تعالى عنه – وقد روى هذه القصة في ترجمته ابن الأثير في أسد الغابة:(5/431-432)، ورواها ابن حجر عن كتاب الزهد في كتابه الإصابة:(3/627-627) القسم الأول من حرق الواو، وانظر تجريد أسماء الصحابة:(2/25) .

ص: 75

2-

صدق في النية والإرادة: ومرد ذلك إلى الإخلاص، وحقيقته: أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا رضاء رب الأرض والسموات، فإن مازج نيته شيء من حظوظ النفس، وخالطها شوب من رعوناتها فهو بمعزل عن وصف الصدق عن رب العالمين، ويظهر كذبه يوم الدين، وتسعر به نار الجحيم، وقد ثبت هذا عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – (1) .

(1) ثبت في صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار –: (3/1513)، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب من قاتل ليقال فلان جريء –:(6/20-21)، والمسند:(2/322) واقتضاء العلم العمل: (69-70)، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الرياء والسمعة –:(7/112-114)، وتفسير ابن جرير:(2/9-10) ، وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة كما في الترغيب والترهيب:(1/62-65) ، ورواه ابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور:(3/323)، وهذا لفظ مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار"، وفي رواية الترمذي، وابن جرير، وابن خزيمة عن شفى الأصبحي أنه دخل المدينة المنورة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة – أي: شهق وغشي عليه كما في اللسان: (10/339)"نشغ" – فمكث قليلاً ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة أخرى، ثم أفاق فمسح وجهه، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح وجهه، فقال: أفعل لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته علي طويلاً، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وساق الحديث نحو ما تقدم، وفي آخره:"ثم ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ركبتي: يا أبا هريرة – أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" فأخبر شفى معاوية بهذا الحديث عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال – رضي الله تعالى عنه –: قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية – رضي الله تعالى عنه – ومسح عن وجهه، وقال: صدق رسول الله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هود15-16.

فتأمل هذا الحديث يا عبد الله، يا من يريد نصح نفسه وسعادتها، كيف اعتبر الله – جل وعلا – كدر النية وفسادها كذباً، وأوجب لأهل ذلك الوصف ناراً ملتهبة، مع أن ما صدر من أولئك الأصناف في منتهى الفضيلة والجلال، ولم ينف الله صدوره من العمال، إنما نفى إرادة وجهه الكريم بتلك الأعمال.

وقد ثبت عن نبينا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – ما يخلع قلوب المتعلمين، إذا لم يخلصوا لله رب العالمين، ففي المستدرك – كتاب العلم –:(1/85) وهو حديث صحيح وسنده ثقات رواته على شرط الشيخين ولم يخرجاه كما قال الحاكم، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب العلم – باب في النية في طلب العلم:(51)، وسنن أبي داود كتاب العلم – باب في طلب العلم لغير الله تعالى –:(4/71)، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به:(1/92-93)، والمسند:(2/338)، وشعب الإيمان للبيهقي كما في جمع الجوامع:(1/764)، وجامع بيان العلم وفضله:(1/190)، وقد حكم العراقي على الحديث في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(1/67) بأنه جيد الإسناد، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني: ريحها.

وفي شرح الشرنوبي على تائية السلوك: (31-32) أبيات سديدة رشيدة في هذا المعنى، على طريق الإخبار عن الكبير المتعال، وهي:

تعَلمْ ما استطعت لقصْدِ وجهي

فإن العلم من سفن النجاة

وليس العلمُ في الدنيا بفخر ٍ

إذا ما حل في غير الثقاتِ

ومن طلب العلوم لغير وجهي

بعيدٌ أنْ تراه من الهُداةِ

فعليك أخي المسلم في كل عمل باستحضار النية، وجعلها خالصة لرب البرية، فالعمل بغير نية عناء وهباء، والنية في غير إخلاص من شرك ورياء، نسأل الله الكريم أن يجعل علمنا صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً، إنه سميع الدعاء.

ص: 76

لأنه لا مشقة في ذلك، والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن هاجت الشهوات فانحلت العزائم، وتأخر الإنسان عن فعل المكارم، وهذا مضاد للصدق في العزيمة، ومعاقبته وخيمة وهو خلق المنافقين الفجار، ويتنزه عنه المؤمنين الأبرار، كما أخبرنا عن ذلك العزيز الغفار، وقال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} الأحزاب23، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: غاب عمي أنس بن النضر – رضي الله تعالى عنه – عن قتال بدر، فقال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني: أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني: المشركين – ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد ما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بعضاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا ببنانه، قال أنس: كنا نرى – أو نظن – أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه:" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " إلى آخر الآية (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب "12" قول الله – عز وجل – " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " الآية: (6/21)، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد –:(7/354-355)، كتاب الإمارة – باب ثبوت الجنة للشهيد –:(3/1512)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأحزاب:(8/341-342)، والمسند:(3/194، 201، 253)، وجامع البيان:(21/93)، وحلية الأولياء:(1/121)، ومعالم التنزيل:(5/246) ، والحديث أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، وابن سعد، والبغوي في معجمه، والبيهقي في دلائل النبوة، والنسائي في السنن الكبرى، وابن المنذر، والحاكم كما في الدر المنثور:(5/191)، قال الحافظ في الفتح:(6/22) قوله: " فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ " أي: مات، وأصل النحب: النذر، فلما كان كل حي لابد له من الموت فكأنه لازم له، فإذا مات فقد قضاه، والمراد هنا: من مات على عهده لمقابلته بمن ينتظر ذلك، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

قال عبد الرحيم: يحصل الأجر للمكلفين بمقدار صدقهم في وفائهم على ما عزموا عليه من طاعة رب العالمين، فمن تم صدقه اكتمل أجره، ومن خف صدقه قل أجره كما ثبت في سنن الترمذي في كتاب الجهاد – باب ما جاء في الشهداء عند الله – عز وجل –:(5/360-361) ،وقال حسن غريب، والمسند:(1/23)، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(1/221) رقم: "150" إسناده حسن عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: " الشهداء أربعة، رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، - قال الراوي –: فما أدري أقلنسوة عمر أراد، أم قلنسوة النبي – صلى الله عليه وسلم، قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فلقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة".

وإذا تلبس المكلف بالنفاق، فالعمل مردود عليه فاتفاق، ففي سنن الدارمي – كتاب الجهاد – باب في صفة القتل في سبيل الله:(2/206-207)، والمسند:(4/185-186)، ومجمع الطبراني كما في مجمع الزوائد:(5/291)، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير المثنى الأملوكي وهو ثقة، وقال المنذري في الترغيب والترهيب:(2/317) إسناد أحمد جيد، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب جاء في الشهادة –:(388) ورواه البيهقي كما في الترغيب والترهيب: (2/317) كلهم عن عتبة بن عبد السلمي – رضي الله تعالى عنه – واللفظ لرواية المسند أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: والقتلى ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وما له في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلى بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا – وفي رواية غير المسند: فتلك مصمصمة محت ذنوبه وخطاياه – أي: ضربة بالسيف الصمصام تكفر عنه الأوزار والآثام – وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل، فإن ذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق".

ص: 77

.. وقال جل وعلا – في الإخبار عن حال الفجار، الذين نكثوا عهودهم مع العزيز القهار –:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ (1) }

(1) اعلم أخي – علمني الله وإياك – أن المعتمد في تفسير الآية الكريمة، الذي لا يصح القول بغيره أن الآية المباركة نازلة في منافقين لم يسموا، ولم تعلم أعيانهم، وقد وقعت حوادث ظاهرة لكثير من المكلفين، وتحدث عنها القرآن الكريم، ولم تعرف أعيان المقصودين، فما في هذه الآية الكريمة أولى، لأنها تتحدث عن أمر باطني، وهو نقض العهود مع الرب المعبود، ولا يطلع على ذلك إلا خالق الوجود، ولله – جل وعلا – في إخفاء تسميتهم حكم لا يعلمها إلا هو، وقد أخبر ربنا العظيم نبيه الكريم – صلى الله عليه وسلم – في نفس سورة التوبة أنه يوجد في أهل المدينة المنورة من مهر في النفاق، وليس عنده علم عما في قلوبهم من الشقاق، فغيره – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم ذلك باتفاق، قال الله – جل وعلا –:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} التوبة101، وسورة التوبة تكرر فيها: ومنهم، ومنهم وذلك هتكاً لسرائر المنافقين، لعلهم يتوبون إلى رب العالمين، ولذلك سميت بسورة الفاضحة، ثبت ذلك عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في صحيح البخاري – كتاب التفسير – أول سورة الحشر:(8/629) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب التفسير – سورة الأنفاق وبراءة والحشر:(4/2322) عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: سورة التوبة، قال: آلتوبة؟ بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها، وقد اقتصر في عزو هذه الرواية في الدر المنثور:(3/208) إلى أبي عبيد وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وتبعه على ذلك الألوسي في روح المعاني:(10/40) وهذا عجيب منهما فهو في الصحيحين فالعزو إليهما أولى وأقوى، وعزاه السيوطي في الإتقان:(1/92) إلى البخاري فقط وقد علمت وجوده في الصحيحين، وقد ورد تسميتها بالفاضحة أيضاً عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – عند أبي الشيخ كما في الدر والإتقان، وورد تسميتها بذلك أيضاً عن قتادة في تفسير ابن أبي حاتم كما في الإتقان في الأمكنة المتقدمة.

وأولئك المنافقون اللئام عاهدوا الملك العلام على مواساة فقراء الأنام، والاستقامة على هدي الإسلام، إذا أعطاهم ربنا شيئاً من الحطام، فلما أغدق عليهم ربنا – جل وعلا – صنوف الأموال مالوا عن طريق الاستقامة والاعتداء، ونقضوا عهودهم مع ذي العزة والجلال، فهم في تنفيذ ما عزموا عليه كاذبون، وعن الوفاء بعهدهم معرضون فجازاهم الحكم العدل من جنس ما يعلمون، وزادهم رجساً إلى رجسهم الملعون، وما ظلمهم الله وكلن كانوا أنفسهم يظلمون، وقد علم ربنا أنهم لن يقلعوا عن العصيان، وسيصحبهم الخذلان حتى لقاء الرحمن – جل وعلا – نقل الحصاص في أحكام القرآن:(3/144) عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن الله – جل وعلا – حرمهم التوبة كما حرم إبليس.

فإن قيل: كيف اعتبرهم ربنا بالمال باخلين، مع أن الزكاة كانت تؤخذ من المنافقين؟

والجواب عن ذلك يا أخي في الدين: إن الزكاة وإن أخذت من الأموال الظاهرة كالأنعام والزروع والثمار وعروض التجارة، فالأموال الباطنة كالنقدين لا يعلم مقدارهما إلا صاحبهما، يضاف إلى هذا أن الزكاة فيهما موكولة إلى أصحابها، فالمنافقين وإن أخذ منهم زكاة الأموال الظاهرة فقد بخلوا بزكاة الأموال الباطنة، ويضاف إلى هذا أيضاً، أنه شتان شتان بين من يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، وبين من يراها أنها جزية أو أخت الجزية، فهذا هو المعنى الصحيح للآية الكريمة، فاعلمه فعلم المرء بنفعه، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

واعلم – سددك الله تعالى – أنه قد جرى في كثير من كتب التفسير تساهل كثير فيما يتعلق في بيان المعنيين بهذه الآية الكريمة، وكثرت منهم في ذلك الأقاويل، وليس لها أي اعتبار عند طالب العلم النحرير، لأنه ليس لها في ميزان النقد الجليل، وعلم الجرح والتعديل، [وزن كثير] وزن كثير أو قليل، وإليك خلاصة ذلك مع التحقيق الوفير، فاغتنمه واشكر الرب القدير

القول الأول:

وعليه اقتصر كثير من المفسرين منهم الواحدي في أسباب النزول: (171-172) والوجيز في تفسير القرآن العزيز: (1/348)، والزمخشري في الكشاف:(2/203) والرازي في مفاتيح الغيب: (16/138)، وابن جزي في التسهيل:(2/181)، وابن كثير في تفسير:(2/373-374)، والثعالبي في الجواهر الحسان:(2/143-144)، والخطيب الشربيني في السراج المنير:(1/634-635)، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم:(4/85)، والجمل في حاشيته على الجلالين:(2/301-302)، والسيوطي في لباب النقول:(120/121)، والإتقان:(4/99)، والدر المنثور:(3/260-261)، وتكملة تفسير الجلال المحلى:(185)، والقاسمي في محاسن التأويل:(8/3208)، والشوكاني في فتح القدير:(2/386)، والسيد قطب في ظلال القرآن:(3/1680)، وقال ابن العربي في أحكام القرآن:(2/980-981) عن هذا السبب: إنه أصح الروايات وهو حديث مشهور، وكذلك قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن:(8/208-210)، والرازي في تفسيره:(16/138) وقال الألوسي في روح المعاني: (10/144) إنه الأشهر، وهو الصحيح.

وذكر ذلك الخبر في تفسير الآية الكريمة الطبري في جامع البيان: (10/130-131) وهو في معالم التنزيل: (3/124-126)، وكتاب التأويل:(3/125-126)، وتفسير البيضاوي:(1/353)، والنسفي:(2/100)، وتفسير المراغي:(10/169) والتفسير الواضح: (2/74-75)، وتفسير ابن سعدي المسمى بتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:(3/137)،وصفوة التفاسير:(1/551)، ومختصر تفسير ابن كثير:(2/157-158)، وكرر الرازي الاستشهاد به في عدة أماكن من تفسيره غير ما تقدم:(10/2، 28/91-92) والبحر المحيط: (5/74)، وروح البيان:(3/469-470)، وتفسير النيسابوري:(10/128-129)، وورد الخبر في الإحياء:(3/264-265) وتلبيس إبليس: (178، 181)، والتبصرة:(1/138)، والاستبصار:(280)، والمنهاج في شعب الإيمان:(2/514-516) ، وأطال الحليمي في توجيه الخبر، ولم يأت بطائل.

وهذا نص الخبر عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ادع الله أن يزقني مالاً، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه" قال أبو أمامة – رضي الله تعالى عنه – ثم قال ثعلبة مرة أخرى، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً، لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"اللهم ارزق ثعلبة مالاً" فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة، فسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه، فأخبر خبره فقال:"يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة" وأنزل الله – جل وعلا –: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} التوبة103، ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتاباً كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما:"مروا بثعلبة، وبفلان – رجل من بني سليم – فخذا صدقاتهما" فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلى أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا يجب عليك هذا، فقال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذا منه، فلما فرغا من صدقاتهما مرا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما رآهما، قال:"يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي، فأنزل الله – جل وعلا – في ثعلبة:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} التوبة إلى آخر الآيات وكان عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فأتى ثعلبة النبي – صلى الله عليه وسلم – وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك" فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال – صلى الله عليه وسلم –:"هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني" فرجع ثعلبة إلى منزله، وقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يقبل منه شيئاً، ثم أتى أبا بكر – رضي الله تعالى عنه – حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه –: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – ولم يقبضها، فلما ولي عمر – رضي الله تعالى عنه – أتاه فقال: يا عمر اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك، فقبض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان – رضي الله تعالى عنه – فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها منه وهلك ثعلبة في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه–.

وهذا الخبر الوارد في سبب نزول الآية الكريمة، وفيه تعيين المراد بالذين عاهدوا الله – جل جلاله – ثم نقضوا عهدهم وأخلفوه بثعلبة بن حاطب باطل باطل، لا يقبله مسلم عاقل لعدة أمور، هاكها يا أخي الفاضل:

الأول:

الخبر مروي من طريق معان بن رفاعة السلمي عن أبي عبد الملك على بن يزيد الألهاني عن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله تعالى عنه –.

أما معان بن رفاعة السلمي فهو وإن وثقه على بن المديني ودحيم كما في تهذيب التهذيب: (10/201) فقد قال عنه ابن حبان في المجروحين: (3/36) منكر الحديث يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب على روايته ما تنكر القلوب استحق ترك الاحتجاج به، ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب تضعيفه عن ابن معين وقال الجوزجاني: ليس بحجة 10هـ.

والذي حط عليه كلام المحققين في أمره أنه لين الحديث بذلك حكم عليه يعقوب بن سفيان البسوي في المعرفة والتاريخ: (2/451)، وابن حجر في التقريب:(2/258)، وقال الذهبي في الميزان:(4/134)، وهو صاحب حديث ليس بمتقن 1هـ قلت: ومع تليين الأئمة له فأمره أيسر ممن بعده.

وأما علي بن يزيد الألهاني بفتح الهمزة وسكون اللام وفي آخرها نون، نسبة إلى ألهان بن حمدان كما في اللباب:(1/83)، والمغني:(31) فمتفق على ضعفه، وحكم عليه البخاري في التاريخ الكبير:(6/301)، والضعفاء الصغير:(82) بأنه منكر الحديث، وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين:(77) : متروك الحديث وقال ابن حبان في المجروحين: (2/110) منكر الحديث جداً، ويجب التنكب عن روايته لما ظهر عمن فوقه ودونه من ضد التعديل، وقال في:(2/63) إذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر، وعلي ابن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن الخبر إلا مما عملت أيديهم، فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب:(7/13) ليس في الثلاثة من اتهم إلا علي بن يزيد، وأما الآخران فهما في الأصل صادقان، وإن كان يخطئان وقد أطال الحافظ في تهذيب التهذيب:(7/396-397 في نقل كلام الأئمة في تضعيفه فمن ذلك، قال ابن معين: علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة كلها ضعاف، وقال يعقوب: وهيّ الحديث، كثير المنكرات، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي أحاديثه منكرة، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال أبو نعيم: منكر الحديث، وقال الساجي: اتفق أهل العلم على ضعفه 10هـ قلت: ومن كان كذلك فخبره مطروح عن رتبة الاعتبار، وانظر مزيد تقرير لما تقدم في بيان حاله في المغني في الضعفاء: (2/457، وميزان الاعتدال: (3/161-162) والجرح والتعديل: (6/208-209) .

وأما القاسم بن عبد الرحمن فهو في درجة معان ولعله أرفع درجة منه، وهو وإن قال عنه ابن حبان في المجروحين:(2/212) يروي عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المعضلات، ويأتي عن الثقات بالأشياء المقلوبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان كالمعتمد لها، ثم نقل بسنده إلى الإمام أحمد أنه قال فيه: منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم، ونقل ذلك عن الإمام أحمد أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب:(8/323)، وبعضه في الميزان:(3/373) فالمعتمد في أمره أنه صدوق كما في تهذيب التهذيب: (2/118) فحديثه مقبول إن شاء الله تعالى.

وإذا كان المعتمد في حال معان اللين، وفي حال علي بن يزيد الألهاني الضعف الشديد فالحديث مردود، وبذلك حكم عليه الأئمة ذوو التحقيق المشهود، قال الحافظ في الفتح:(3/266) إنه حديث ضعيف لا يحتج به، وقال في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف:(77) هذا إسناد ضعيف جداً، وقال في الإصابة:(1/198) إن صح الخبر ولا أظن يصح، وقال الإمام العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(3/266) رواه الطبراني بسند ضعيف، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد:(7/32) رواه الطبراني وفيه على بن يزيد الألهاني وهو متروك، وحكم الإمام الذهبي على الحديث في تجريد أسماء الصحابة:(1/66) بأنه منكر بمرة، وقال الإمام ابن حزم في المحلى:(11/207-208) في رواته معان بن رفاعة، والقاسم بن عبد الرحمن، وعلى بن يزيد وكلهم ضعفاء، وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة:(108) هي قصة تالفة مريضة، وفي تفسير العلي القدير:(2/357) لم تثبت صحتها.

واعلم أخي النبيه أن المراد بقول ابن العربي ومقلده القرطبي، وقول الرازي أيضاً: إن الحديث مشهور: المشهور على الألسنة، وبين العامة والوعاظ والقصاص، لا المشهور الاصطلاحي وهو ما رواه ثلاثة فأكثر ولم يبلغ عدد التواتر، ولم يقل العدد عن ثلاثة في كل طبقة من طبقات السند انظر أنواع الحديث المشهور في تدريب الراوي:(368-370)، وشرح البيقونية:(75-76) وتيسير مصطلح الحديث: (22-24) .

وقد جمع ما اشتهر على الألسنة من الأحاديث السخاوي في المقاصد بالحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، واختصره ابن الديبع في كتابه تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، وألف في هذا الشأن السيوطي كتاب الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، والعجلوني كتاب كشف الخفاء ومؤيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسن الناس وكلها مطبوعة، وانظر كتباً كثيرة ألفت في هذا الشأن في الرسالة المستطرقة:(191-192) .

الثاني:

ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه – من الأنصار – رضي الله تعالى عنهم – وقد شهد بدراً فيما قرر أئمتنا الأبرار، ابن سعد في الطبقات:(3/460)، وابن عبد البر في الاستيعاب:(1/200) على هامش الإصابة، وابن الأثير في أسد الغابة:(1/283-285) وابن حجر في الإصابة: (1/198) ، ولم يذكر هؤلاء غير ابن حجر من اسمه ثعلبة بن حاطب في الصحابة إلا واحدا فقط، أما ابن حجر اثنين مسميين بهذا الاسم فقال:

ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، ذكره موسى بن عقبة، وابن إسحاق في البدريين ن وكذا ابن الكلبي، وزاد أنه قتل بأحد.

وثعلبة بن حاطب أو ابن أبي حاطب الأنصاري ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار، وروى البارودي وابن السكن وابن شاهين وغيرهم في ترجمة الذي قبله من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالاً

الحديث.

قال الحافظ: وكون صاحب هذه القصة إن صح الخبر، ولا أظن يصح هو البدري المذكور قبله نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضاً أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية العوفي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في الآية المذكورة قال: إن رجلاً يقال له: ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار، أتى مجلساً فأشهدهم فقال: لئن آتانا الله من فضله، فذكر القصة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب والبدري قد اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:"لا يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية"، وحكى – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – عز وجل – أنه قال أهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الحديث الأول خرجه الإمام أحمد في المسند:(3/396) عن جابر – رضي الله تعالى عنه – وأخرجه في: (6/362) عن أم مبشر – رضي الله تعالى عنها –، وفي:(6/285) عن أمنا حفصة – رضي الله تعالى عنها –. ورواه عنها أيضاً ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر البعث: (2/1431)، وورد في صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب فضائل أصحاب الشجرة –:(16/58) بشرح النووي عن أم مبشر – رضي الله تعالى عنها – بلفظ: "لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" وهو عنها أيضاً في المسند: (6/420)، ونحوه في المسند:(3/35)، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الخلفاء:(15/41)، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب ما جاء في فضل من بايع تحت الشجرة:(9/183)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

والحديث ورد من رواية على – رضي الله تعالى عنه – في صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب فضل من شهد بدراً –: (7/305)، وباب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بغزو النبي – صلى الله عليه وسلم –:(7/519)، وكتاب التفسير – سورة الممتحنة – باب:"لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء": (8/633)، وكتاب الجهاد – باب الجاسوس –:(6/143)، وباب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله – تبارك وتعالى – وتجريدهن:(6/190)، وفي كتاب الاستئذان – باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره:(11/46)، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم – باب ما جاء في المتأولين:(12/304) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة وأهل بدر:(16/55-56) بشرح النووي، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً:(3/108-110)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الممتحنة:(9/43-45)، والمسند:(1/80، 105) .

وورد من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الخلفاء: (5/42)، والمسند:(2/295)، والطبراني في الأوسط بسند جيد كما في مجمع الزوائد:(6/106) وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في فضل أهل بدر: (2/313) .

وورد في رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (..../331)، وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند:(5/25)"3062"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:(9/119-120) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلح الغزاري وهو ثقة وفيه لين.

وورد من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – في المسند أيضاً: (2/109) ورواه أبو يعلى بنحوه كما في مجمع الزوائد: (9/303) ، وفيه رجال أحمد رجال الصحيح.

وورد من رواية جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (3/350)، ورواه أبو يعلى أيضاً كما في مجمع الزوائد:(9/303) وفيه: رجال أحمد رجال الصحيح.

وورد من رواية عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الكبير والأوسط، وأبي يعلى والبزار ورجالهم رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(9/304) .

وورد عن رواية عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أبيه عند الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (9/304) ، والحديث فيه قصة طويلة في بعث حاطب بن أبي بلتعة كتاباً لأهل مكة يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانظرها فيما تقدم.

فائدة:

المراد من قول الله – عز وجل – لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" غفران ذنوبهم في الآخرة، وإلا فلو وجب على أحدهم حد مثلاً لم يسقط عنه في الدنيا كما قال الحافظ في الفتح:(10/259) ، وفي الحديث بشارة عظيمة لأهل بدر الكرام، في أنهم يوافون الله الكريم بالإيمان، وما يصدر منهم من هفوات مغفور عند ربنا الرحمن، وبهذا جزم ابن القيم في الفوائد:(16)، وهو أحد تأويلين ذكرهما الرازي في تفسيره:(23/191) .

هذا وقد أشكل معنى الحديث على كثير من الناس، لأن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم، وتخييرهم فيما شاؤوا منها وذلك ممتنع، وللخلوص من ذلك:

ا) قال الإمام ابن الجوزي: ليس المراد من قوله: "اعملوا" الاستقبال وإنما هو للماضي، وتقدير الكلام: أي عمل كان لكم فقد غفرته، أي: غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم ودلل على قوله بشيئين: 1- لو كان للمستقبل كان جوابه " فسأغفر لكم ". 2- كان يكون إطلاقاً في الذنوب ولا وجه لذلك.

وهذا القول ضعيف لوجهين: 1- لفظ "اعملوا" يأباه فإنه للاستقبال دون الماضي، وقوله:"قد غفرت لكم" لا يلزم أن يكون اعملوا مثله، لأن المراد من قوله:"قد غفرت" تحقيق وقوع المغفرة قي المستقبل، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم ففي أول سورة النحل:"أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ". 2- نفس الحديث يرده، فإنه سببه قصة حاطب – رضي الله تعالى عنه – وذلك واقع بعد غزوة بدر لا قبلها، وهو سبب الحديث وهو مراد منه قطعاً، كما في الفوائد:(15) .

ب- أورد الرازي احتمالاً ثانياً في بيان معنى الحديث وخلاصته: افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة، ولا يخفى مصادمة هذا لسبب ورود الحديث، فالمعتمد في بيان معناه ما تقدم فاعلم، وللشيخ أحمد شاكر في رسالته كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر:(83-85) تعليل عليل لهذا الحديث الجليل، وخلاصته: سقوط بعض العقوبات الدنيوية وإن كانت حداً مقدراً من أهل بدر الكرام، وذلك باطل باتفاق أئمة الإسلام.

فمن يكون بهذا المثابة كيف يعقبه الله – تبارك وتعالى – نفاقاً في قلبه، وينزل فيه ما نزل، فالظاهر أنه غيره، والله تعالى أعلم 1هـ ونقل السيوطي في الحاوي للفتاوى:(2/97) كلام ابن حجر الذي نقله عن الكلبي في التفرقة بين ثعلبة بن حاطب وثعلبة بن أبي حاطب وارتضاه، وكذلك فعل الألوسي في روح المعاني:(10/143) حيث قال: وليس هو البدري – أي: الذي نزلت فيه الآية الكريمة – لأنه استشهد بأحد – رضي الله تعالى عنه – 10هـ، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة:(10/285) في ترجمة ثعلبة بن حاطب البدري – رضي الله تعالى عنه – القصة المتقدمة الباطلة، وقال: وكلهم – أي: ابن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم هذه الترجمة، فإما أن يكون ابن الكلبي قد وهم في قتله، أو تكون القصة غير صحيحة، أو يكون غيره، وهو هو لا شك فيه 10هـ.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – الاحتمال الثاني الذي ذكره ابن الأثير هو الصحيح وعليه التعويل، وقد تقدم إقامة البرهان على عدم ثبوت تلك الرواية عند أئمة الإسلام، وما حاوله الإمام ابن حجر اعتماداً على ما نقله عن ابن الكلبي وأيده ابن مردويه من التفرقة بين ثعلبة بن حاطب، وثعلبة بن أبي حاطب، وأن الأول بدري استشهد بأحد، وأما الثاني فهو الذي توفي في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه – وهو المعني بالآية المتقدمة، وفيه نزلت، فتلك المحاولة منه على فرض ثبوت الخبر كما قال: إن صح الخبر ولا أظن يصح، وقد جزم هو بعدم ثبوته وصحته في الفتح، وفي تخريج أحاديث الكشاف كما تقدم فتذكر ولا تغفل، وقد تبعه على تلك المحاولة السيوطي، والألوسي، وتلك المحاولة لا يدعمها نقل ثابت، ولا برهان واضح، إنما بنيت على مجرد الفروض والاحتمالات، ويظهر لي بطلانها لخمسة أمور بينات، فاستمع إليها واشكر رب الأرض والسموات:

الأمر الأول:

عدم صحة الخبر الوارد في سبب نزول الآية الكريمة، كما بينت ذلك بالأدلة القوية المتينة، ومن المعلوم أن الاشتغال بتأويل الروايات، وإزالة ما فيها من إشكالات متوقف على كونها من الثابتات، ولا داعي لشيء من ذلك إذا كانت الواهيات الباطلات.

الأمر الثاني:

الذين صنفوا في طبقات الصحابة الطيبين من أئمتنا المتقدمين كابن منده، وأبي نعيم، وابن عبد البر، والذهبي – عليهم رحمة رب العالمين – لم يذكروا غلا رجلاً واحداً من الصحابة الكرام يسمى بثعلبة بن حاطب الأنصاري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وما ورد في رواية ابن الكلبي من وجود رجل يسمى بثعلبة بن أبي حاطب فلا يعول عليه، لأن الكلبي محمد بن السائب أقل أحواله أنه متروك، وقد اتهم بالكذب، بل صرح هو بالاعتراف بكذبه ففي التاريخ الكبير:(1/101)، والجرح والتعديل:(7/271)، والمجروحين:(2/254)، وميزان الاعتدال:(3/557)، وتهذيب التهذيب:(96/180) عن سفيان الثوري قال: قال الكلبي: ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – فهو كذب فلا ترووه، وقال ابن حبان في المجروحين:(2/255) وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به، وانظر حاله في غير ما تقدم في الضعفاء الصغير:(101)، والضعفاء والمتروكين للنسائي:(91)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني:(342)، والمعرفة والتاريخ:(3/35) باب من يرغب عن الرواية عنهم –، وتنزيه الشريعة:(1/105) – فصل في سرد أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع من رواة الأخبار – وتقريب التهذيب: (2/163)، وفي الإتقان:(4/239) ، وأوهى الطرق عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، فإن انضم على ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة من الكذب.

وتأييد رواية الكلبي برواية ابن مردويه عن عطية العوفي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – لا ينفع لأن عطية بن سعد العوفي ضعيف كما في الضعفاء والمتروكين للنسائي: (86)، وانظر حاله في التاريخ الكبير:(8/7)، والجرح والتعديل:(6/382-383)، والمجروحين:(2/176)، وميزان الاعتدال:(3/79)، وتهذيب التهذيب:(7/224-226)، والإتقان في علوم القرآن:(4/239) .

الأمر الثالث:

الادعاء بأن ثعلبة بن حاطب البدري – رضي الله تعالى عنه – استشهد يوم أحد مردود، وذلك الزعم غير موجود لأمرين:

1-

الذين صنفوا في طبقات الصحابة الكرام، وبيان عددهم، من أئمتنا الذين تقدم ذكرهم لم يقل واحد منهم إن ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – استشهد يوم أحد.

2-

الذين استشهدوا في غزوة أحد – رضي الله تعالى عنهم – معروفون، وأحصى العلماء عددهم، وضبطوا أسماءهم، ولم يذكر من بينهم ثعلبة بن حاطب انظر سيرة ابن هشام:(2/122-127) ذكر من استشهد يوم أحد.

لا داعي لقول الكلبي على أنه من جملة الاحتمالات للتوفيق بين الروايات، كما مال إلى ذلك ابن الأثير في أسد الغابة:(1/285) .

الأمر الرابع:

حكي تردد واضطراب في زمن موت ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه – من بعض من كتب في تراجم الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فقيل: توفي في خلافة عمر، وقيل: في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في الاستيعاب: (1/201) ، والقول الأول وهم، ولم يعول عليه أحد، وهو أولى من قول الكلبي إنه استشهد بأحد، والصحيح وفاته في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

الأمر الخامس:

اتهام ثعلبة بن حاطب البدري، لا يؤثر على مقامه العالي الجلي، عند ربنا العظيم العلي لأن ذلك الاتهام، وقع عن طريق الاجتهاد الخاطئ، والتأويل المعذور، ولن يضير ذلك ثعلبة ولا من اتهمه عند العزيز الغفور، كما لم يضر حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – عندما راسل أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – قول عمر – رضي الله تعالى عنه –: إنه قد نافق، دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم –:"إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وتقدم الحديث قريباً.

قال ابن هشام في السيرة النبوية: (1/522) بعد أن نقل عن ابن إسحاق: أن ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير هما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الله، ولنكونن من الصالحين، إلى القصة، ومعتب بن قشير، هو الذي قال يوم أحد:"لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" آل عمران 154 إلى القصة، وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله – عز وجل –:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} الأحزاب12، وأن ثعلبة بن حاطب، وأخاه الحارث بن حاطب ومعتب بن قشير من منافقي الأنصار الذين اجتمعوا مع اليهود، – قال ابن هشام بعد أن نقل ذلك –: معتب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب هم من بني أمية بن زيد من أهل بدر، وليسوا من المنافقين، فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم، وقد نسب ابن إسحاق ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر 10هـ.

وقد اتهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، بأنهما شاركا في بناء مسجد الضرار كما في سيرة ابن هشام:(2/530)، والبداية والنهاية:(5/22) ، وإن ثبت ذلك فلن يضرهما – إن شاء الله تعالى – فلعلهما خدعا من قبل بعض المنافقين، كما خدع حاطب بن أبي بلتعة من قبل حبه لأهله وقرابته، فأقدم على ما أقدم، ثم تاب الجميع مما تبين لهم خطؤه من فعلهم، والله غفور رحيم، وليس معنى غفران الله – جل وعلا – لمن شهد بدراً العصمة من الذنوب والخطأ، إنما المراد الغفران لهم في الآخرة، كما تقدم بيان ذلك عند حديث:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

وبما تقدم نجزم بأن الآية ليست نازلة في ثعلبة بن حاطب لأنه من أهل بدر الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ولا يوجد في الصحابة الكرام من يسمى بذلك الاسم غيره، وكانت وفاته في خلافة عثمان – رضي الله تعالى عنه –.

ثالث الأمور في بيان ما في تلك الرواية من البهتان والزور:

إن تلك الرواية لنصوص الشرع القطعية الثبوت والدلالة من أن التوبة مقبولة من المكلفين ما لم يغرغر العبد بروحه، أو تطلع الشمس من مغربها، قال الله – عز وجل –:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} النساء17-18 فكل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، انظر تقرير هذا في صفحة:(22-23) من كتاب الملل والنحل، وقال – جل وعلا – في سورة الأنعام:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} الأنعام158، والمراد بقوله – جل وعز –:" أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ " طلوع الشمس من مغربها، انظر أدلة هذا في صفحة:(24-25) من كتاب الملل والنحل.

وقد دعا ربنا الكريم عباده المجرمين الذين قتلوا أولياءه الصالحين إلى التوبة لرب العالمين فقال – وهو الرؤوف الرحيم –: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} البروج10، قال الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – كما في تفسير ابن كثير:(4/466) انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة 10هـ وإذا كان هذا في حق الفجار الذين قتلوا الأبرار وعذبوهم بالنار فما ظنك بمن ارتكب ما دون ذلك من الأوزار، وجاء يهرول تائباً إلى العزيز الغفار، وينثر التراب على رأسه تذللاً للعزيز الجبار، وقولهم: إنه فعل ما فعل خشية العار، يحتاج إلى دليل كالنهار، ثم هو مناف لما روي من مجيئه إلى أبي بكر وعمر وعثمان الأئمة الأخيار – رضي الله تعالى عنهم – وعرضه عليهم قبول صدقته لينجو في دار القرار.

رابع الأمور في مخالفة تلك الرواية للحق الثابت والنور:

انفردت هذه القصة بأمر لا نظير له في الشرع، لأن ثعلبة إما أن يعامل معاملة المؤمنين فتؤخذ منه الزكاة، أو معاملة الكفار المرتدين فيضرب عنقه لجحوده فريضة رب العالمين أما كونه يعامل معاملة المؤمنين في بعض الأمور، ومعاملة الكفار في بعضها الآخر فهذا لا نظير له في الشرع، ولا يثبت ذلك الحكم بخبر شديد الضعف منكر السند والمتن حكم على انفراده وإلى هذا أشار ابن حزم في المحلى:(11/207-208)، فقال: هذه صفة أوردها الله – تبارك وتعالى – يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه، وليس فيها نص ولا دليل على أن صاحبها معروف بعينه، لأن الله – عز وجل – أمر بقبض زكوات أموات المسلمين، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – عند موته أن لا يبقى فيه جزيرة العرب دينان، فلا بخلو ثعلبة من أن يكون مسلماً فعرض على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – قبض زكاته ولابد، ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافراً ففرض أن لا يقر في جزيرة العرب، فسقط هذا الأثر بلا شك ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب عن عدة من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – وإليك البيان:

روت ذلك أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: كان آخر ما عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان " كما في المسند: (6/275) ورواه الطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، كما في مجمع الزوائد:(5/325) وورد ذلك عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في سنن أبي داود – كتاب الخراج والفيء – باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب –: (3/425)، وسنن الترمذي – كتاب الزكاة – باب ما جاء ليس على المسلمين جزية –:(2/398)، وسنن البيهقي – كتاب الجزية – باب لا يسكن أرض الحجاز مشرك:(9/208) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا يجتمع ملتان في بلد واحد" وفي لفظ البيهقي: "لا يجتمع قبلتان في جزيرة العرب".

وثبت في صحيح البخاري – كتاب الجزية – باب إخراج اليهود من جزيرة العرب: (6/271) وكتاب الجهاد – باب هل يستشفع إلى أهل الذمة، ومعاملتهم:(6/170)، وكتاب المغازي – باب مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – ووفاته:(8/132) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه:(3/1258) ، وسنن أبي داود، والبيهقي – في المكانين المتقدمين – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".

وروى ذلك أيضاً أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله تعالى عنه – ففي المسند: (1/195-196) بإسنادين رجالهما ثقات متصل إسنادهما كما في مجمع الزوائد: (5/325)، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب إخراج المشركين من جزيرة العرب –:(2/233) ، والسنن الكبرى للبيهقي – المكان المتقدم، ومسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد:(5/325) عن أبي عبيدة – رضي الله تعالى عنه – قال: آخر ما تكلم به النبي – صلى الله عليه وسلم –: "أخرجوا اليهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب" ورواه الحميدي في مسنده بلفظ: "أخرجوا يهود الحجاز من الحجاز".

ونقلت ذلك أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – روى ذلك الطبراني من طريقين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (5/325) قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب".

وورد ذلك عن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – مرسلاً في الموطأ – كتاب الجامع – باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة: (2/892)، ومن طريقه البيهقي في المكان المتقدم – بلفظ:"لا يبقين دينان بأرض العرب".

وورد ذلك عن محمد بن شهاب الزهري – رحمه الله تعالى – مرسلاً أيضاً في المصدرين المتقدمين بلفظ: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" قال مالك – رحمه الله تعالى –: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – حتى أتاه الثلج واليقين، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر.

وروي ذلك عن أبي رافع – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أن لا ندع في المدينة ديناً غير الإسلام، رواه الطبراني، وفيه شريك وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيهما ضعف، وحديثهما حسن كما في مجمع الزوائد:(5/325) .

وروي ذلك عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – فيما عهد إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – ففي المسند: (1/87) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يا عليّ إن وليت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب"، قال الهيثمي في المجمع:(5/185) فيه قيس غير منسوب، والظاهر أنه قيس بن الربيع وهو ضعيف، وقد وثقه شعبة والثوري، وبقية رجاله ثقات وقد جزم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(2/70)"661" بأن قيساً هو ابن الربيع، وأنه ثقة، ولذلك قال: إسناده صحيح.

وقد عزم نبينا – صلى الله عليه وسلم – على إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إن عاش ففي صحيح مسلم – كتاب الجهاد والسير – باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: (3/1388)، وسنن الترمذي – كتاب السير – باب ما جاء في إخراج اليهود من جزيرة العرب:(5/330) ، وسنن أبي داود، والبيهقي في المكانين المتقدمين، والمسند:(1/29، 32) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً". وفي رواية للترمذي والبيهقي وأحمد: "لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلماً".

تلك تسعة روايات من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – وهذه رواية عاشرة ثبتت في المسند: (1/32) موقوفة على عمر – رضي الله تعالى عنه – قال: "لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب"، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(1/248)"215" إسناده صحيح، وقد عاش وحقق الله له أمنيته كما تقدم في رواية الموطأ وسنن البيهقي – رضي الله تعالى عنه –، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. وحكى الطبري في تفسيره نحو هذا عن بعض السلف وعبارته:(10/133-134) ، وقال قوم كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون شيئاً نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ثم ساق بسنده إلى سعيد بن ثابت قال: قوله – عز وجل –: " وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ " الآية إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله:{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} التوبة78.

خامس الأمور في تفنيد تلك الرواية عند أهل الحبور:

إن سورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، كما ثبت ذلك عن عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – وتحدثت آياتها عما جرى في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع كما في سيرة ابن هشام:(2/515) والمعتمد أن فريضة الزكاة كانت سنة اثنتين للهجرة المباركة قال ابن كثير في البداية والنهاية: (3/347) : وفيها – السنة الثانية – فرضت الزكاة ذات النصب وفرضت زكاة الفطر 1هـ ونسب الصنعاني في سبل الإسلام: (2/159) ذلك القول لأكثر العلماء وانظر تفصيل القول في هذه المسألة في فتح الباري: (3/266) ودلل الحافظ على أن الزكاة كانت مفروضة سنة خمس يقيناً، وذلك لا يمنع تقدم فريضتها فاعلم.

وإذا كانت سورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، وتحدثت عما وقع في غزوة تبوك وهي في السنة التاسعة فكيف يلتئم ذلك مع ما ورد في تلك الرواية المنكرة، وأنزل الله – جل وعلا –:" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً " ونزلت عليه فرائض الصدقة إلخ مع أن فرضية الزكاة كان السنة الثانية للهجرة الشريفة.

وقد أشار إلى الأمور الثلاثة الأخيرة رشيد رضا في تفسير المنار: (1/561) فقال بعد أن أورد قصة ثعلبة المتقدمة: وفي الحديث إشكالات تتعلق بسبب نزول الآيات:

1-

ظاهر سياق القرآن أن نزول الآية كان في سفر غزوة تبوك، وظاهره أيضاً أن الآية نزلت عقيب فرضية الزكاة، والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية.

2-

عدم قبول توبة ثعلبة، وظاهر الحديث لا سيما بكاؤه أنها توبة صادقة.

3-

كان العمل جارياً على معاملة المنافقين بظواهرهم، وظاهر الآيات أنه يموت على نفاقه، ولا يتوب من بخله وإعراضه، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – عامله بذلك، لا بظاهر الشريعة ولا نظير له في الإسلام 1هـ مختصراً مرتباً.

* وصفوة المقال:

إن تلك القصة باطلة عند العلماء الأطهار، لخمسة أمور لها اعتبار، فسندها منكر لا يثبت بحال، وثعلبة بدري من الأبرار – عليه رضوان العزيز الغفار – وفيها مخالفة لنصوص الشرع الثابتة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، الدالة على قبول التوبة ما لم يغرغر العبد بروحه أو تطلع الشمس عليه من مغربها في هذه الدار، ثم القصة متناقضة عند أولي الاعتبار حيث لم تعط لثعلبة حكم المؤمنين الأخيار، ولا حكم الكافرين الفجار، ولا نظير لذلك في شريعة الواحد القهار وخامس الأمور مخالفة تلك القصة للتاريخ، ففريضة الزكاة كانت في السنة الثانية، وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم.

القول الثاني في سبب نزول الآية الكريمة:

قيل أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – كان له مال بالشام فأبطأ عنه، فجهد له جهداً شديداً، فحلف بالله لئن أتانا الله من فضله – أي من ذلك المال – لأصدقن منه، ولأصلن، فآتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت الآية الكريمة:" وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ " إلخ ذلك في زاد المسير، والجامع لأحكام القرآن، ولباب التأويل، والبحر المحيط، في الأماكن المتقدمة.

وهذا السبب باطل لأمرين، هاكهما لتقربهما العين:

ا) وردت تلك الرواية عن طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -، وقد تقدم بيان حال الكلبي عند الكلام على القول الأول ونقلت هناك إقرار الكلبي على نفسه بالكذب وقوله: ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – فهوكذب فلا ترووه.

ب) حاطب بن أبي بلتعة من أهل بدر الكرام، وممن شهد بيعة الرضوان – عليهم جميعاً رضوان ربنا الرحمن – وتقدم عند القول الأول وإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، وأخبر عن ربه – عز وجل – أنه قال لأهل بدر:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وثبت في صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل حاطب ابن أبي بلتعة وأهل بدر:(16/57) بشرح النووي، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب فيمن سب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم –:(9/384)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والمسند:(3/349) عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – ورواه أحمد في المسند: (6/362) والطبراني ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (9/3.4) عن أم مبشر أيضاً – رضي الله تعالى عنها – أن عبداً لحاطب جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية" وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقبه الله – عز وجل – نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه، هذا لا يقول به عاقل، انظر ترجمة حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه – في الاستيعاب:(1/348-351) على هامش الإصابة، وأسد الغابة:(1/431-433) والإصابة: (1/200) القسم الأول، وتجريد أسماء الصحابة:(1/113-114) وطبقات ابن سعد: (3/114-115) .

القول الثالث في سبب نزول الآية:

قيل: إن ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير خرجا على ملأ فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقن فلما رزقهما بخلا، فنزلت هذه الآية ورد ذلك في زاد المسير، والجامع لأحكام القرآن، والبحر المحيط – في الأماكن المتقدمة – منسوباً إلى الحسن ومجاهد – عليهما رحمة الله تعالى –.

وهذا القول باطل، وقد تقدم عند بيان بطلان القول الأول استحالة نزولها في ثعلبة بن حاطب – رضي الله تعالى عنه –، وذكرت هناك أيضاً عدم صحة نزولها أيضاً في معتب بن قشير – رضي الله تعالى عنه – لأنه بدري، وما اتهم به فبعضه لم يثبت ولا يصح، وبعضه له فيه عذر الاجتهاد، وخطؤه مغفور عند رب العباد، إن شاء الرحيم التواب، انظر ترجمته في الاستيعاب:(3/462)، وفيه: شهد بدراً وأحداً، وكان قد شهد العقبة 1هـ والإصابة:(3/443) – القسم الأول –، وتجريد أسماء الصحابة:(2/86)، وأسد الغابة:(5/222)، والاستبصار:(290) .

القول الرابع في سبب نزول الآية:

قيل: إنها نزلت في نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن، فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت الآية الكريمة. وورد ذلك في الكتب الثلاثة المتقدمة منسوباً إلى الضحاك – عليه رحمة الله تعالى –.

وهذا القول لا يصح، وهو مردود كسابقه، وقد علمت بالأدلة القوية بطلان نزولها في ثعلبة ابن حاطب، ومعتب بن قشير – رضي الله تعالى عنهما – وأما الآخران فقد اتهما بالنفاق، وقد قيل: إن الجد بن قيس تاب وحسن إسلامه كما في الاستيعاب: (250-251)، وأسد الغابة:(1/327)، والإصابة:(1/228-229) القسم الأول، وتجريد أسماء الصحابة:(1/80) .

وأما نبتل بن الحارث فقال ابن حجر في الإصابة: (3/549) القسم الأول – ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب النسب مقروناً بأخيه أبي سفيان، وقد ذكره ابن الكلبي ثم البلاذري في المنافقين، فيحتمل أن يكون أبو عبيد اطلع على أنه تاب.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: وعلى فرض عدم توبة الجد بن قيس، ونبتل بن الحارث مما اتهما به من النفاق، فليس في قصتهما ما في قصة ثعلبة من مجيئه بصدقته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم إلى خلفائه الثلاثة – رضي الله تعالى عنهم – من بعده، وعدم قبولهم جميعاً لصدقته، إنما غاية ما في الأمر أنهما عاهدا الله الكريم على الإحسان إلى عباد الله المحتاجين، ومواساة الفقراء والمساكين، ثم بخلا على عباد الرحمن، ونكثا العهد مع ذي الجلال والإكرام، والأمر في هذا يسير، وليس في القول به مخالفة لشرع الله الجليل، هذا إن ثبت هذا القول، مع أن في النفس من ثبوته شيء كبير، لأن السند في تلك الكتب لم يذكر حتى نقف على حالة تلك الرواية، وعلى فرض ثبوتها، وثقة ناقليها، فهي منقول الضحاك – عليه رحمة الله تعالى – وذلك القول وإن كان له حكم الإرسال ففي الحكم بموجب تلك الرواية المرسلة بالنفاق على بعض المكلفين غير مستقيم، يضاف إلى هذا أن تلك الرواية تركت في حق ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير – رضي الله تعالى عنهما – ولم يؤخذ بها فيهما، لما علمت من حالهما، فعدم الأخذ بها أيضاً في حق الجد بن قيس، ونبتل بن الحارث أقوم واسم، والله – جل وعلا – أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا الكريم، والحمد لله العليّ الأكرم.

ص: 78

التوبة75-78.

5-

صدق في الأعمال، وتحقيق ذلك بمطابقة الأحوال الباطنة للأعمال الظاهرة، وحذار حذار من دلالة الظاهر على خلاف ما في الباطن كأن يتحلى المكلف بحلية الصادقين المخلصين، والزاهدين المتوكلين وليس منهم، فيلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم، فيكون كافياً في دلالة الظاهر على الباطن، فكم من واقف على هيئة الخشوع في صلاته، وقلبه غافل عن الصلاة لاه عنها، فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله – عز وجل – وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته، وكم ممن يمشي على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك، فهذا وما قبله وما شاكلهما من الأفعال يعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً يكون المكلف فيه كاذباً، حيث دل الظاهر على خلاف ما هو في الباطن، ولا ينجو العبد من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية، بأن يكون باطنه مثل ظاهره، أو خيراً من ظاهره.

مما ينبغي التنبه له أن مخالفة الظاهر للباطن تعتبر كذباً وإن صدر ذلك من المكلف من غير التفات للخلق ودون قصد إلى نظرهم، وأما إذا قصد إطلاع الناس على أعماله الظاهرة فذلك الرياء المحبط للعمل في الآخرة، كما تقدم في القسم الثاني.

ص: 79

6-

صدق في مقامات الدين: وهذا القسم هو أعلا درجات الصدق عند المتقين، ولا يتم إلا بالرسوخ في تلك المقامات، وبلوغ المكلف فيها أعلى الدرجات، لأن الصدق لا يطلق إلا عند اكتمال حقيقة الشيء من جميع الجهات، قال رب المخلوقات – جل جلاله –:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات15، وقال – عز وجل –:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال2-3، وقال – جل ثناؤه –:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة177.

فمن ادعى الإيمان، فمن علامة صدقه في ذلك المقام، تحقيق تلك الأوصاف الحسان، ومن ادعى الخوف والرجاء، فلا يصدق في دعواه إلا إذا أخذ نفسه بما في هذا البحث المبارك وهكذا الأمر في سائر مقامات الدين، كالزهد والرضا، والتوكل، وحب رب العالمين، فتنبه يا أخي ولا تكن من الغافلين.

ص: 80

وصفوة الكلام يا أخا الإسلام: إن منزلة الصدق في شرع الرحمن، ميزت أهل النفاق من أهل الإيمان، وفرقت بين سكان الجنتان وأهل النيران، قال ذي الجلال والإكرام:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب24، فالإيمان أساه الصدق، كما أن النفاق أساسه الكذب، ولا يجتمعان في قلب عبد. ثبت في مسند البزار وأبي يعلى بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب (1)

(1) انظر مجمع الزوائد – كتاب الإيمان – باب ما جاء أن الصدق من الإيمان –: (1/92)، وقال: رواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب:(3/595) ، رواته رواة الصحيح، وذكره الدارقطني في العلل مرفوعاً وموقوفاً، وقال: الموقوف أشبه بالصواب 10هـ، ونسب العراقي تخريجه أيضاً في تخريج أحاديث الإحياء:(3/133) إلى ابن عدي في مقدمة الكامل، وغلى ابن أبي الدنيا في الصمت، وذكر كلام الدارقطني المتقدم، وفي فيض القدير:(6/463)، قال ابن حجر في الفتح: سنده قوي، والحديث عزاه السيوطي في الفتح الكبير:(1/1003) إلى سنن الدارقطني، وسنن البيهقي، ونص على أنه حسن.

والحديث رواه الإمام أحمد في المسند: (5/252) عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – وهو منقطع بين الأعمش وبين أبي أمامة كما في مجمع الزوائد: (1/92)، والترغيب والترهيب:(3/595) وعزا تخريجه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/133) إلى مصنف ابن أبي شيبة ومقدمة الكامل لابن عدي.

ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (1/93) وفيه عبيد الله بن الوليد وهو ضعيف، ورواه عنه البيهقي في شعب الإيمان عن طريق آخر ضعيف أيضاً كما في فيض القدير:(6/463) .

والرواية الأولى ثابتة كما تقدم، وتغني عن الطريقين الآخيرين، وبها يتقويان، وقد ورد الحديث موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد:(1/93) .

ص: 81

".

والصدق خير للعبد من العاجل والآجل، والخلل فيه ضرر على العبد في دار الزوال ودار القرار، أما خيرية ذلك في دار الانتقال فيشير إليها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن حكيم بن حزام – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث أن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شئوم المعاصي يذهب بخيري الدنيا والآخرة (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب البيوع – باب إذا بين البيعان، ولم يكتما ونصحا –:(4/309)، وباب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع –:(4/312)، وباب "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا":(4/328)، وباب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع؟:(4/334) بشرح ابن حجر في الجميع، وفي المكان الأول وكلامه المتقدم وصحيح مسلم – كتاب البيوع – باب الصدق في البيع والبيان –:(3/1164)، وسنن أبي داود – كتاب البيوع – باب في خيار المتابعين:(3/737-738)، وسنن الترمذي – كتاب البيوع – باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا –:(4/245)، وسنن النسائي – كتاب البيوع – باب ما يجب على التجار من التوقية في مبايعتهم:(7/215)، وباب وجوب الخيار للمتابعين قبل افتراقهما –:(7/217)، وسنن الدارمي – كتاب البيوع – باب في البيعان بالخيار ما لم يتفرقا –:(2/250)، والمسند:(3/402، 403، 434)، ومسند الطيالسي:(1/266) – منحة المعبود –.

ص: 82

وأما خيرية ذلك للمكلفين يوم الدين، فيشير إليها قول رب العالمين:{قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} المائدة119، وقال – جل وعلا – في سورة الزمر:{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الزمر33-35.

فالصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلى قطعه، ولا واجه باطلاً إلا صرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فساط اليقين، ودرجته تالية لدرجة "النبوة" التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قولبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين، قال بعض الصالحين: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت، قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق (1) .

(1) ذلك هو نص كلام الإمام ابن القيم – رحمه رب العالمين – في مدارج السالكين: (2/268-279) وبعضه موجود في مجموع الفتاوى: (10-15) فانظره ففيه تقرير كون الصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق.

ص: 83

ولذلك أمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجهن على الصدق، فقال – جل وعلا – في سورة الإسراء:{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} الإسراء80، وأخبر الله الكريم عن خليله إبراهيم – على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال في سورة الشعراء:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الشعراء83-84، وبشر الله عباده المؤمنين بأن لهم قدم صدق، ومقعد صدق فقال – جل جلاله – في فاتحة سورة يونس:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} يونس1-2، وقال – جل ثناؤه – في آخر سورة القمر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} القمر54-55 (1) .

(1) أفاد ذلك الجمع والترتيب الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: (2/270-272)، وفسره بما خلاصته: فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله – عز وجل – الموصل إليه – جل وعلا – وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله حقاً ثابتاً لله – عز وجل – وفي مرضاته، فالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه، أو مدخلاً آخر إلا بصدق أو كذب، فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب، والله المستعان.

وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر من يأتي بعده من الأمم بالصدق، ليس ثناء الكذب، كما قال – جل وعلا – عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والمرسلين – على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم –:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} مريم49-50، والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن، فلما كان الصدق باللسان، وهو محله، أطلق الله ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقاً، وعبر به عنه.

وأما قدم الصدق، ففسر بالجنة، وفسر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وفسر بالأعمال الصالحة والثلاثة مرادة قدم صدق، لأن حقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه، وهم قدموا الأعمال الصالحة، ورأس ذلك الإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ومحبته ويقدمون على الجنات الواسعات عند رب الأرض والسموات.

وأما مقعد الصدق فهو الجنة عند الرب – تبارك وتعالى – 10هـ وإنما ذكر لفظ المقعدون المجلس للإشارة إلى أنه لا زوال له، وهم يلازمون ذلك المكان، ولبثهم فيه لا يعتريه انفصام كما في الإتقان:(2/366)، وفي روح المعاني:(27/96) نقلاً عن جعفر الصادق – رحمه الله تعالى –: مدح المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح – عز وجل – لهم النظر إلى وجهه الكريم 10هـ من علينا بذلك إنه رؤوف رحيم.

ص: 84

هذه هي منزلة الصدق، وتلكم هي أقسامه العظام، وهيهات ثم هيهات أن توجد على وجه التمام والكمال في إنسان، فكل واحد منا إن لم يكن متحقق النفاق، فيحتمل كونه من أهله باتفاق، وإذا تردد حالنا بين ذينك الأمرين، فينبغي أن يعظم خوفنا من رب الكونين، والناظر في حياة سلفنا الصالح يرى تحقق ذلك فيهم رأى العين، ففي أصح الكتب الصنفة عقد الإمام البخاري – عليه رحمة الملك الباري – رباب في كتاب الإيمان، يشير إلى شدة خوف سلفنا الكرام، فقال – عليه رحمة ربنا الرحمن –: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل، ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران135.

ص: 85

وشرح الحافظ ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – تلك النقول في صفحتين كبيرتين، وخلاصتهما قوله: وقال إبراهيم التيمي وهو من فقهاء التابعين وعبادهم، وقوله: مكذوباً يروى بفتح الذال، يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفاً لقولي، فيقول: لو كنت صادقاً ما فعلت خلاف ما تقول وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس، ويروى بكسر الذال، وهي رواية الأكثر، ومعناه: أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذم الله – عز وجل – من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وقصر في العمل فقال – جل وعلا –:{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف3، فخشي أن يكون مكذباً، أي: مشابهاً للمكذبين، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم، وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلهما عن سفيان الثوري عن أبي حبان التيمي عن إبراهيم المذكور.

قوله: قال ابن أبي مليكه، هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولاً في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصراً كما هنا، وقد أدرك ابن أبي مليكة جماعة من أجلة الصحابة الكرام، وروى عنهم منهم أمنا عائشة، وأختها أسماء، وأمنا أم سلمة، والعباد له الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عمرو، وأبو هريرة وغيرهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عنهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله فيشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الروع والتقوى، وقال ابن بطال: إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت.

ص: 86

قوله: ويذكر عن الحسن، هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل الحافظ العراقي – رحمه الله تعالى – وهي: أن البخاري لا يخص صيغة التمريض يضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى، أو اختصره أتى بها أيضاً ـ لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك، وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه، فقال الإمام النووي:"ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق"، يعني: الله – عز وجل، وكذا شرحه جماعة، وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنه خلاف مراد المصنف، وخلاف مراد من نقله عنه، والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار، وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق فلنذكره، روى الفريابي عن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق، وروى الإمام أحمد في كتاب الإيمان عن الحسن قال: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وما أمنه إلا منافق.

ص: 87

قوله: وما يحذر، وهو بضم أوله، وتشديد الذال المعجمة، ويورى بتخفيفها، وما مصدرية، والجملة في محل جر لأنها معطوفة على خوف، أي باب ما يحذر، وفصل بين الترجمتين بالآثار لتعليقها بالأولى فقط، ومفهوم الآية التي ذكرها: مدح من استغفر لذنبه ولم يصر، وذم من لم يفعل ذلك ومن أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر، وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – المخرج عند أحمد مرفوعاً قال: ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره، وللترمذي عن أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً:"ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة" إسناد كل منهما حسن (1) .

(1) انظر صحيح البخاري وشرحه فتح الباري: (1/109-112)، وانظر أثر إبراهيم التيمي موصولاً كما ذكر الحافظ في التاريخ الكبير:(1/335)، وكتاب الزهد:(363)، وهو في كتاب صفات المنافقين:(51) والعباد له الأربعة هم كما ذكرتهم، كما نص على ذلك أئمة المصطلح قال السيوطي في ألفيته:(223) :

والبحْرُ وابنا عُمَرَ وعَمْرو

وابنُ الزبير في اشتهار يجري

دون ابن ِ مسعود لهم عبادلة

وغلطُوا مَنْ غيْر هذا مَالَ لَهْ<

وقيل لهم ذلك لأنهم عاشوا حتى احتيج إلى عالمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، كما في فتح المغيث:(3/109)، ومقدمة ابن الصلاح معها التقييد والإيضاح:(303) وتدريب الراوي: (405) .

وانظر حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – الذي عزاه الحافظ إلى المسند، في المسند:(2/165، 219)، ورواه الطبراني أيضاً كما في مجمع الزوائد – كتاب التوبة – باب فيمن يصر على الذنب:(10/191)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي، ووثقه ابن حبان 10هـ وقد حكم عليه الحافظ في التقريب:(1/147) بأنه ثقة، ولفظ الحديث كاملاً:"ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" والأقماع جمع قمع بسكون الميم وفتحها ما يصب فيه الدهن وغيره كما في مختار الصحاح: (577)"قمع".

وانظر حديث أبي بكر – رضي الله تعالى عنه – كما عزاه الحافظ في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب: "ما أصر من استغفر" –: (9/206-207)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي، وهو في سنن أبي داود – كتاب الوتر – باب الاستغفار –:(2/177)، والحديث حسنه الحافظ كما تقدم وفيه مولى أبي بكر وهو مجهول كما نص على ذلك الحافظ أيضاً في تهذيب التهذيب:(12/256-295) وعليه فلعله حسنه في الفتح لشواهده، أما حال السند على انفراد فقد قال الترمذي: ليس إسناده بالقوي، ونقل ذلك عنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(1/321) ، ولم يعترض عليه.

ص: 88

وقد بلغ من شدة خوف سلفنا الطيبين من أخلاق المنافقين، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان – عليهم رضوان ربنا الرحمن – هل سماه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من جملة المنافين، حسبا عهد إليه بسره في هذا الأمر العظيم، فيجيبه حذيفة – رضي الله تعالى عنهما –: لا، ولا أوءمن منها أحداً بعدك (1) . وقد تكرر ذلك منه، فدخل على أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولا أبريء أحداً بعدك (2) .

(1) روى ذلك ابن إسحاق بلاغاً، فقال: وذكر لنا في تفسير ابن كثير: (2/384)، وثبت في صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم –:(4/2143)، والمسند:(4/320، 5/390)، عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال قال النبي – صلى الله عليه وسلم –:"في أصحابي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم" أي: يظهر ويعلو، وانظر مجمع الزوائد:(1/107، 113) – كتاب الإيمان – باب في المنافقين – ففيه عدة روايات بمعنى تلك الرواية.

(2)

روى ذلك البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (1/72)، ونص الحديث كاملاً عن أم سلمة أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليها – رضي الله تعالى عنهما – فقال: يا أمه قد خفت أن يهلكني مالي، أنا أكثر قريش مالاً، قالت يا بني فانفق، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:"إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه" فخرج عبد الرحمن بن عوف فلقي عمر فأخبره بالذي قالت أم سلمة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فدخل عليها عمر فقال: الحديث.

ص: 89

وثبت في صحيح البخاري عن الأسود بن يزيد النخعي قال: كنا في حلقة عبد الله بن مسعود فجاء حذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – حتى قام علينا، فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله، إن الله يقول:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} النساء145، فتبسم عبد الله بن مسعود، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله بن مسعود، فتفرق أصحابه، فرماني بالحصاة فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكة، وقد عرف ما قلت لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيراً منكم ثم تابوا، فتاب الله عليهم (1) .

ولما قيل للحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى –: إن أقواماً يقولون: إنا لا نخاف النفاق، قال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إليّ من تلاع الأرض ذهباً، ولما قيل له: يقولون: إن لا نفاق اليوم، قال: لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق، ولو نبت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ الأرض بأقدامنا (2) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة النساء – باب "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ": (8/266) بشرح ابن حجر، ومراد حذيفة – رضي الله تعالى عنه – كما في الفتح ملخصاً ابتلي من كان من طبقة الصحابة بالنفاق، وارتد بعضهم ونافق، ومنهم من تاب وأناب، ومنهم من أصر على التباب، فاحذروا الاغترار، فإن القلوب تتقلب في الليل والنهار، والأعمال بالخواتيم فحذار حذار من الأمن من مكر رب العالمين، وإن كنتم في إيمانكم من الصادقين.

(2)

انظر تلك النقول عن الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – في الإحياء: (1/128-129)، وفي:(4/169) قال الحسن: لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. وانظر قوله هذا وما قبله في كتاب صفات المنافقين: (44، 48، 49) ومن نظم الزمخشري كما في ترجمته في آخر الكشاف: (4/309) .

زمانٌ كلٌ حِب ٍ فيه خَبٌ

وطَعْمُ الخِل ِ خَلٌ لو يُذاقُ

لهم سُوقٌ بِضاعتُه نِفَاق ٌ

فنَافِقْ فالنفاقُ له نَفَاقُ

ص: 90

فإذا تأمل المسلم ذلك، وخاصة طالب العلم انخلع قلبه، وطار لبه، فنحن ندعي الإيمان، بل ونصف للناس الإسلام، وعندنا تفريط في العمل بشريعة رب الأنام، وتلك صفة المنافقين اللئام، كما قال حذيفة بن اليمان – عليهما رضوان رب الأنام –: المنافق الذي يصف الإسلام ولا يعمل به (1) ، وفي المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قال: "أكثر منافقي أمتي قراؤها (2)

(1) روى ذلك عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – أبو نعيم في حلية الأولياء: (1/282)، والرازي في كتاب صفات المنافقين:(43) .

(2)

انظر رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – في المسند: (2/175)، وروى ذلك عنه الطبراني كما في مجمع الزوائد:(6/230) قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وكذا رجال أحد إسنادي أحمد ثقات وحكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(10/162-164) رقم "6633، 6634، 6637" على إسناد المسند بالصحة، والحديث رواه ابن المبارك في الزهد:(152)، والبيهقي في شعب الإيمان كما في جمع الجوامع:(1/137)، وهو في كتاب صفات المنافقين:(33) .

وانظر رواية عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (4/151، 154)، ورواها عنه الطبراني كما في مجمع الزوائد:(6/229) قال الهيثمي: واحد أسانيد أحمد ثقات أثبات، والحديث رواه أيضاً الخطيب في تاريخ بغداد:(1/357) والرازي في كتاب صفات المنافقين: (32-33) .

والحديث رواه الطبراني أيضاً عن عصمة بن مالك – رضي الله تعالى عنه – وفي سنده الفضل بن المختار وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد: (6/230) .

ص: 91

" وبأولئك المنافقين، يؤيد الله الدين وليس لهم خلاق عند رب العالمين، كما ثبت في الصحيحين عن رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" وفي المسند: "إن الله – عز وجل سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1)

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر –: (6/179) وفي كتاب المغازي – باب غزوة خيبر –: (7/417)، وفي كتاب القدر – باب العمل بالخواتيم –:(11/498) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه:(1/105)، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر –:(2/240-241)، والمسند:(2/309) كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –.

وانظر رواية المسند: (5/45) عن أبي بكرة – رضي الله تعالى عنه – رواها الطبراني ورجالهما ثقات كما في مجمع الزوائد: (5/302) .

ورواه عن أنس – رضي الله تعالى عنه – ابن حبان في صحيحه – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب فيمن يؤيد بهم الإسلام –: (387)، وأبو نعيم في الحلية:(3/13، 6/262)، والبزار والطبراني في الأوسط وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال: كما في مجمع الزوائد: (5/302) ،ورواه الضياء المقدسي في المختارة، والنسائي في سننه الكبرى كما في جمع الجوامع:(1/181) .

ورواه ابن حبان – المكان السابق – عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، ورواه الطبراني عنه موقوفاً كما في مجمع الزوائد –:(5/303) .

ورواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – بلفظ: "نزلت سورة نحواً من براءة، فحفظت منها: إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" كما في مجمع الزوائد: (5/302) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير على بن زيد وفيه ضعف، ويحسن حديثه لهذه الشواهد.

ورواه الطبراني أيضاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – ليؤيد هذا الدين برجال ما هم من أهله" كما في مجمع الزوائد: (5/302-303)، وقال الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف لغير كذب فيه 1هـ قلت ويحسن أيضاً لما تقدم من الشواهد.

ورواه أيضاً الطبراني عن النعمان بن مقرن في ترجمة عمرو بن النعمان بن مقرن وضبب عليه، ولا يستحق التضبيب لأنه صواب، وقد ذكر المزي في ترجمة أبي خالد الوالبي أنه روى عن عمرو بن النعمان بن مقرن، وعن النعمان بن مقرن، قلت: ورجاله ثقات، قرر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد:(5/303) .

ومعنى قوله: ضبب عليه: كتب (صـ) ويسمى هذا تضبيب وتمريض، وهو: أن لا يمد الكاتب على ما ثبت نقلاً، وهو فاسد لفظاً أو معنى، أو ضعيف أو ناقص، خطاً أو له كالصاد، ولا يلزقه بالممدود عليه لئلا يظن ضرباً وإبطالاً، ويسمى ذلك ضبة لكون الحرف مقفلاً بها، لا يتجه لقراءة، كضبة الباب يقفل بها كما في تدريب الراوي:(298-299)، وفي الألفية مع شرحها فتح المغيث:

وإن أتى في الأصْل لحْنُ أو خطأ

فقيل: يروى كيف جاء غلطاً

ومذهبُ المحصلين يُصلِحُ

ويقرأ الصّوابَ وهو الأرْجَحُ

في اللحْن لا يخْتلفُ المعنى به ِ

وصوبوا الإبْقاء مع تضبيبهِ

ويذكر الصوابَ جانِباً كذا

عن أكثر الشيوخ نقلاً أخِذا

والحديث رواه ابن النجار عن كعب بن مالك – رضي الله تعالى عنه – كما في جمع الجوامع: (1/177) ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية: (3/13) عن الحسن مرسلاً

وورد في معنى هذا الحديث عدة أحاديث فانظرها في مجمع الزوائد: (5/302-303) .

ولفظ حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – كاملاً في الصحيحين، قال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – شهدنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خيبر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لرجل معه ممن يدعي الإسلام:" هذا من أهل النار " فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح، فأثبتته، فجاء رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار؟ قاتل في سبيل الله من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –:"أما إنه من أهل النار" فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هو على ذلك إذا وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، صدق حديثك، انتحر فلان فتقل نفسه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"يا بلال قم فأذن، لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".

ص: 92

".

واعلم أخا الإسلام أن النفاق نفاقان، أحدهما مخرج من ملة الإسلام، وملحق صاحبه في أسفل دركات النيران، ومحل هذا النفاق الجنان، حيث يظهر صاحبه الإيمان، ويبطن الكفران، ويدخل في هذا كل ما يستلزم ذلك من أوصاف أهل الخسران المنافية لأصل الإيمان، كأن لا يرى وجوب تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما أخبر، ولا وجوب طاعته فيما أمر، ولا وجوب الانتهاء عما عنه زجر، أو يحصل له المسرة بانخفاض الدين، وظهور المشركين، أو يظهر منه المساءة بعلو الدين، واندحار الكافرين، ونحو ذلك من صفات الملاعين، التي لا يكون صاحبها إلا عدواً لرب العالمين، ولرسوله الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، وهذا هو النفاق المحض ويقال له: النفاق الأكبر.

ص: 93

وأما النفاق الثاني فمحله الأعمال (1) ، كأن يطلب العلم لغير وجه ربنا ذي الجلال، كما هو حال المرائين، أو يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما ابتلي بالأول كثير من المتكلمين، وبالثاني كثر من المتصوفين، فكل من الفريقين يعتقد وجوب تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما قال وأخير، وطاعته بما طلب وأمر لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكاً آخر، إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه، فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطناً وظاهراً بأن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أكمل الخلق وأفضلهم، وهو رسول الله إليهم وأعلمهم، ويدخل في هذا النوع الإعراض عن الجهاد، والكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والتلبس بالخيانة، والفجور عند المخاصمة، فكل هذا من خصال أهل النفاق ويقال له: النفاق الأصغر عند أهل السنة باتفاق.

(1) وفي سنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في عالمة المنافق –: (7/290-291) : روى عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب.

ص: 94

والنفاق الأول، وهو النفاق الأكبر يوجب سوء الخاتمة قطعاً، ويفضي إلى أسفل دركات جهنم حقاً وصدقاً، والنفاق الثاني يؤدي إلى سوء الخاتمة أيضاً، فإن استحكمت في المكلف تلك الصفات الخبيثات فقد يتزعزع إيمانه عند الممات، فيلقى الله بالكفر وهو أشنع السيئات، وإذا كان فيه شيء من تلك الصفات الرديات، ولم تستحكم فيه كل البليات، فقد تعرض له عند السكرات، فيميل إليها لتعلقه بالقاذورات، فتفارقه روحه في تلك اللحظات، وهو وإن لم ينتزع منه الإيمان، فقد لقي ربه بالعصيان، وأمره مفوض إلى الرحمن، إن شاء عامله بالفضل والامتنان، وإن شاء عذبه بالنيران ثم نقله إلى دار الجنان، فهو الحكيم العليم، ذو الجلال والإكرام (1) .

(1) انظر تقرير ذلك وتفصيله في مجموع الفتاوى: (28/434-436، 7/471، 639-640) وإحياء علوم الدين: (1/129، 4/169-171) .

ص: 95

وإذا كنا نرى سلامة أنفسنا من النفاق الأول، ونحن منه سالمون بعون الله العظيم، فإن النفاق الثاني لي فيه درجة الراسخين، وإذا كان سلفنا الأبرار قد اتهموا أنفسهم بالنفاق تواضعاً من نفوسهم الكريمة وإجلالاً لربنا ذي الصفات العظيمة (1) ،

(1) كما ثبت في صحيح مسلم – كتاب التوبة – باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا:(4/2106)، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب "60":(7/201-202)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب المداومة على العمل –:(2/1416)، والمسند:(4/178، 346)، وهذا لفظ صحيح مسلم: عن حنظلة الأسيدي – وكان من كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: لقيني أبو بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"وما ذاك؟ " قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونوا عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.

وورد نحوه عن أنس بن مالك أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – وذكر الحديث بنحو ما تقدم، وهو في المسند:(3/175) ، ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير زهير بن محمد الرازي وهو ثقة، ورواه أبو يعلى أيضاً كما في مجمع الزوائد: كتاب الزهد – باب ساعة وساعة –: (10/308)، وباب علامة البراءة من النفاق –:(10/310) وقال أيضاً الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح غير غسان بن برزين وهو ثقة.

وورد نحوه أيضاً من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا رأيناك رقت قلوبنا، وذكر الحديث بنحوه ما تقدم وفيه زيادة في آخره في وصف الجنة، وإجابة دعوة الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، والمظلوم، وهو في المسند:(2/304-305)، وسنن الترمذي – كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها –:(8/210-211)، وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدله عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – 10هـ وقد أخرج الإمام أحمد الحديث من طريق الإسناد الآخر الذي أشار إليه الترمذي، وأخرجه من ذلك الطريق الحميدي أيضاً في مسنده ك (2/486)، قال الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(10/497، 11/13) له طرق وشواهد يقوى بها، فهو حسن بشواهده، وفي حال سلفنا الأبرار يقال ما ذكره الغزالي في الإحياء:(4/170)، وقال بعضهم لبعض العارفين: إني أخاف على نفسي النفاق، فقال: لو كنت منافقاً لما خفت النفاق، والأثر رواه الطبراني في الكبير بسند منقطع عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – كما في مجمع الزوائد – كتاب الإيمان – باب البراءة من النفاق:(1/114) .

ص: 96

فحالي يختلف تماماً عن حالهم، فما أخبر إلا بما أنه فيّ محقق، ومنه وجل، والله الكريم، أسأل أن يتوب عليّ وعلى إخواني وأخواتي من المسلمين والمسلمات، وأن يتكرم علينا بتثبيت الإيمان في قلوبنا عند الممات، وأن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع المغفرة كثير الرحمات.

وختاماً للكلام على النفاق، المؤدي لسوء خاتمة المكلف عند الفراق، وخذلانه يوم التلاق، أدعو بما دعا به سيد الخلق على الإطلاق – صلى الله عليه وسلم – فعسى ربنا الكريم الخلاق، يحفظنا من البلاء والشقاق، ويجعلنا من أهل الخير، إنه سميع الدعاء، ثبت في المستدرك بإسناد صحيح عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق، والنفاق والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون والجزام، والبرص وسيء الأسقام (1) .

(1) انظر المستدرك – كتاب الدعاء –: (1/530-5319، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، واقره الذهبي، ورواه الطبراني في المعجم الصغير: (1/114)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد:(10/143) رجاله رجال الصحيح، وبعضه في الصحيح.

وروى أبو داود في سننه – كتاب الصلاة – باب في الاستعاذة –: (2/191)، والنسائي في كتاب الاستعاذة – باب الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق –:(8/232)، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق"، ضعف الإمام النووي في الأذكار:(337) سنده، وأقره ابن علان في الفتوحات الربانية –:(7/222)، وبذلك جزم الشيخ الأرناءوط في تعليقه على جامع الأصول:(4/357) ، وقوي حكمه بكلام الإمام النووي – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – وما قبله يشهد له، وله شواهد أخرى ثابتة فاعلم هذا، والله تعالى أعلم.

ص: 97

البلية الثانية من السبب الثاني لسوء الخاتمة تلبس المكلف بالبدعة:

وحد البدعة عند أهل الإيمان: كل محدث في دين الإسلام، عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وهي قسمان:

القسم الأول:

مكفرة لصاحبها الخلود بالنيران، وضابطها: إنكار ما هو متواتر من شرع الإسلام، ومعلوم من الدين بالضرورة عند كل من ينتمي إلى الإيمان، كما هو الحال في بدعة زنادقة الصوفية وبدعة الغلاة من القدرية الغوية، وأصحاب هذا النوع من البدعة يعاملون في الدنيا معاملة الكفار، ولهم في الآخرة جهنم وبئس القرار.

القسم الثاني:

ص: 98

.. بدعة مفسقة، وهي: كل بدعة ليست مكفرة، وهي دركات، وشرها ما كان متعلقاً بالاعتقادات، كبدعة المعتزلة والخوارج، والمنحرفين عن الصوفية الذين لم يصلوا إلى دركة الزنديقية، وصاحب هذه البدعة يعتبر في الدنيا من أهل الإسلام، ويعزز بما يردعه عن الزيغ والطغيان، وأما في الآخرة فيستحق العذاب الشديد، دون أن يحكم عليه بالتخليد، إذا لقي الله بالتوحيد، وتعتبر بدعته من أخبث الذنوب، ويزيد جرمها على الكبائر من المعاصي عند علام الغيوب، وقد تقدم عند بيان طرق الشياطين في إغواء المكلفين، أن الشيطان يقدم إيقاع الناس بالبدعة على إيقاعهم بالكبيرة، ولا يقدم شيئاً على إيقاعهم بالبدعة إلا الشرك، والسبب في ذلك أن المبتدع مع مضادته لشرع الرحمن، ومحادته لرب الأنام، ومشاقته لخاتم الرسل الكرام – عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام – يرى نفسه أنه من أهل الإحسان، وأنه سيدخل الجنة بسلام، ولذلك فهو يزدري أهل السنة الكرام، وهذا خسران ما بعده خسران، وهيهات هيهات أن يوفق للإقلاع عما هو عليه من التزوير والخداع والبهتان، والرجوع إلى جادة الإسلام، كما قال الإمام سفيان الثوري – عليه رحمة ربنا الرحمن –: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: ومعنى قوله: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله – جل وعلا – ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم – قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً لأن أول التوبة العلم بأن فعله شيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً، وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب (1) .

(1) تقدم في صفحة: (121) بيان من نقل ذلك عن سفيان، وانظر مجموع الفتاوى:(10/9)، وكرر نفس المعنى في:(14/467)، فقال: والسالكون للشريعة المحمدية إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع

إلخ، وقال في:(28/470) : اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب

إلخ، وانظر السنة لابن أبي عاصم:(1/21-22) .

وقد تقدم في صفحة: (102، 105، 121) ، كلاماً سديداً عن البدع والتنفير منها، وفي كتاب الملل والنحل:(12/43-51) تفصيل لأقسام البدعة، وحكم كل قسم، وبيان للكتب التي فصلت ذلك.

ص: 99

.. قال مقيد هذه الصفات – غفر الله له السيئات –: ولتلك الاعتبارات، خشي علينا خير البريات – عليه صلوات وسلام رب الأرض والسموات – الوقوع في البدع المهلكات، وحذرنا من تلك الضلالات وأمرنا بالتمسك بسننه الثابتات الواضحات، حسبما سار عليه سلفنا الأبرار أهل العقول الزاكيات، ثبت في كتب الحديث الشريفات عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – قال: صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم – صلاة الفداة – ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) .

(1) انظر الحديث الشريف في سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة –: (5/13-15)، وسنن الترمذي – كتاب العلم – باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة –:(7/319-321)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – المقدمة باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين:(1/15-16)، والمستدرك – كتاب العلم –:(1/95-98)، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعاً، ولا أعرف له علة، وقد صح هذا الحديث والحمد لله، وأقره الذهبي، والمسند:(4/126-127)، وعزاه لهؤلاء الخمسة ابن حجر في الفتح:(13/253)، وكذلك المنذري في الترغيب والترهيب:(1/79) لكن دون الأخير، وانظر الحديث في سنن الدارمي – المقدمة – باب إتباع السنة –:(1/44-45)، وفي السنة لابن أبي عاصم:(1/17-19، 29-30)، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب الاعتصام بالكتاب والسنة –:(1/205)، والشريعة للآجري:(46-47)، وسنن النسائي – كتاب العيدين – باب كيف الخطبة –:(3/153-154) وفي الأخير بن زيادة: "وكل صالة في النار" وانطلاقاً من مدلول هذا الحديث الشريف كان شعار أهل السنة الكرام إتباع السلف وشعار المبتدعة اللئام ترك ذلك كما في مجموع الفتاوى: (4/155)، وفي ترتيب المدارك:(1/172) سأل رجل مالكاً فقال: من أهل السنة؟ فقال الإمام مالك – رضي الله تعالى عنه –: الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري.

ص: 100

.. وقد كان لرأفته ورحمته بأمته – عليه صلوات الله وسلامه – يحذر أمته من الابتداع عند آكد لقاء، وأوجب اجتماع، ألا وهو شهود صلاة الجمعة ثبت في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول:"صبحكم ومساكم" ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول:"فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، ومن ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ (1) ".

وتقدم في أوائل هذا الكتاب المبارك حديث أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (2) ".

(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة –: (2/592)، ورواه ابن ماجه – المقدمة – باب اجتناب البدع والجدل –:(1/17)، والمسند:(3/310، 319، 371)، وشرح السنة:(1/16)، والشريعة للآجري:(45-46) .

والحديث رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (13/249) بشرح ابن حجر، والدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي:(1/69) كلاهما موقوفاً على ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – ولفظ البخاري عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها ـ وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

(2)

انظر صفحة: (7) وفي هذا المكان إثبات دوران الشرع المطهر على ثلاثة أحاديث هذا أحدها،.

ص: 101

.. وقد تتابع سلفنا الصالح على التحذير من البدعة، والتواصي بالابتعاد عنها فقال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: اتبعوا ولا تبتدعوا، وقال رجل لابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أوصني، فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع، وقال حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما –: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً (1) .

(1) انظر الأول في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: (14)، وسنن الدارمي – المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي:(1/69)، ونسب الشاطبي في الموافقات:(1/79) تخريجه لابن وضاح أيضاً، وانظر الأثر الثاني في سنن الدارمي – المقدمة – باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع –:(1/53)، والباعث على إنكار البدع والحوادث:(16)، والأثران في شرح السنة:(1/214)، والأثر الثالث في صحيح البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:(13/250) بشرح ابن حجر وخلاصة ما قاله الحافظ:: (13/257) في شرحه وضبط: قوله " استقيموا" أي: اسلكوا طريق الاستقامة، وهي كناية عن التمسك بأمر الله – جل وعلا – فعلاً وتركاً، وقوله فيه:"سبقتم" بفتح أوله وحكي الضم، والأول المعتمد وقوله:"سبقاً بعيدا" أي: ظاهراً، ووصفه البعد لأنه غاية شأو السابقين، وكلام حذيفة – رضي الله تعالى عنه – منتزع من قول الله – تبارك وتعالى –:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام153.

ص: 102

.. واعلم أخا الإسلام أن الأمور تغيرت بعد موت نبينا – عليه الصلاة والسلام – وكلما امتد الزمان زادت البلايا والفتن وعظم الامتحان، وفي صحيح البخاري عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –:"لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده، شر منه" وتقدم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً عليه: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، وتجيء أقوام يقيمون الأمر برأيهم (1) .

(1) الحديثان مفصل تخريجهما في كتاب الملل والنحل: (3)، وذكر الشيخ على القاري في مرقاة المفاتيح:(5/141) قصة في تقرير معنى الحديث فقال: وهذا من مقتضيات البعد البعدية عن زمان الحضرة النبوية، فإنها بمنزلة المشعل المنور للعالم، فكلما أبعد عن قربه وقه في زيادة ظلام من أنفسهم وقد أدركت الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – مع كمال صفاء باطنهم التغير من أنفسهم بعد دفنه، وحكى عن بعض المشايخ الكبار قال: إني كنت في جامع شيراز مشغولاً بوردي في ليل إذ هجم على الخاطر، وأراد بالخروج من غير ظهور داع وباعث، فخرجت فإذا امرأة ملتصقة بجدار، فخطر لي أنها تريد بيتها وتخاف في طريقها من أهل الفساد، فذكرت لها ذلك فأشارت إليّ بأن نعم، فتقدمت عليها، وقلت لها ما قال موسى لابنة شعيب – على نبينا وعليهم الصلاة والسلام – إن أخطأت الطريق القويم ارمي حجراً يدلني على الطريق المستقيم، فأوصلتها إلى بيتها ورجعت إلى حزبي ولم يخطر لي حينئذ شيء من الخطرات النفسانية، ثم بعد مدة من الأزمنة المتأخرة عن تلك الحالة الروحانية هجس في النفس، وتوسوس في الخاطر من الأمور الشيطانية فتأملت أنه هل باعث هذا تغير في مأكلي، أو مشربي، أو ملبسي، أو في مقصدي لعبادتي وطاعتي، أو حدوث حادث في صحبة أحبتي، أو خلطة ظالم وأمثال ذلك، فما رأيت سبباً لظهور هذه الحالة إلا بعد زمان الحضرة، الموجب لحصول هذه الخطرة.

ص: 103

.. وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لامرأته: اليوم خير من أمس؟ فقالت: لا أدري، فقال: لكني أدري، أمس خير من اليوم واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة، وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، أو أماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن (1) .

(1) الأثر الأول في مجمع الزوائد: كتاب الفتن – باب فيما مضى من الزمان، وما بقي منه:(7/286)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وانظر الأثر الثاني فيه في:(1/188) كتاب العلم – باب في البدع والأهواء –. وقال الهيثمي: رجاله موثقون.

ص: 104

.. وقد شعر الصحابة الأبرار، بما شعروا به بعد موت نبينا المختار – عليه صلوات وسلام ربنا العزيز الغفار – ففي المسند وسنن الترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة أضاء فيها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء، وما نفضنا الأيدي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى أنكرنا قلوبنا" وفي لفظ للمسند:"وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا"، وفي لفظ الترمذي:"وما نفضنا الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" وفي مسند البزار بسند جيد عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: "وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" ويزيد أنس وأبو سعيد – رضي الله تعالى عنهما – بقولهما ذلك، أن القلوب تغيرت عما عهدوه في حياته – صلى الله عليه وسلم – من الألفة والشفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب – عليه صلوات الله وسلامه (1)

(1) انظر أثر أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – في سنن الترمذي – كتاب المناقب – باب ما جاء في فضل النبي – صلى الله عليه وسلم –: (9/242)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –:(1/522)، والمسند:(3/221، 268)، وفي سنن الدارمي – المقدمة – باب في وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم –:(1/41)، والمسند أيضاً:(3/240، 287) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وشهدته يوم موته، فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.

وانظر نسبة قول أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – إلى مسند البزار في فتح الباري: (8/149) ، وفيه الحكم على سند الرواية بأنه جيد، وإيضاح ذلك القول وبيان معناه مأخوذ منه أيضاً، ونقله عنه الزقاني في شرح المواهب اللدنية:(8/297)،وحكم الهيثمي في مجمع الزوائد:(9/38) على سند البزار بأن رجاله رجال الصحيح.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ومما يقرر ما تقدم ويوضحه بمثال عملي واقع ما رواه ابن ماجه في سننه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –: (1/522) عن أمنا أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت: كان الناس في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا قام المصلى يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه فتوفي أبو بكر وكان عمر – رضي الله تعالى عنهما – فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، وكان عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه – فكانت الفتنة، فتلفت الناس يميناً وشمالاً" قال الحافظ أبو عبد الله في تسلية أهل المصائب:(19) إسناده مقارب، ونقل ذلك عنه السفاريني في غذاء الألباب وأقره (2/335) ، وقال، قلت: والآن تفاقم الأمر، وتلاشى الحال فكم من قائم في الصلاة وهو غير مكترث بها، حتى لا يفرق بعين قلبه بين وقوفه فيها، ووقوفه في الأسواق، فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا الله إنك لا تخيب من دعاك.

ومعنى قوله: إسناده مقارب – بكسر الراء وفتحها – أن بعض الرواة في سند الحديث يقارب الناس في حديثه، ويقاربونه أيضاً، وليس حديثه بشاذ ولا منكر، كما في فتح المغيث:(1/339)، وانظر تدريب الراوي:(234) .

وقد قرر العلماء الكرام أن أعظم المصائب المصيبة في الدين، وأعظم مصائب الدين موت نبينا الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – انظر تسلية أهل المصائب:(18-19)، وغذاء الألباب:(2/334-335)، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية:(8/283-297)، وفي صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أم أيمن – رضي الله تعالى عنه –:(4/1079-1908)، وسنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ذكر وفاته ودفنه – صلى الله عليه وسلم –:(1/523-524)، عن أنس بن مالك قال: قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: انطلق بنا إلى أم أيمن، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزورها، قال: فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها ما يبكيك؟ ما عند اله خير لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع عن السماء، قال: فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، وورد في سنن ابن ماجه – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الصبر على المصيبة –:(1/510) عن أمنا عائشة – رضي اله تعالى عنها – قالت: فتح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باباً بينه وبين الناس، أو كشف ستراً فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فحمد الله على ما رأي من حسن حالهم ورجاء أن يخلفه اللهف يعم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليعتز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي، لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" الحديث من رواية موسى بن عبيدة وهو ضعيف مع كونه من العباد كما في تقريب التهذيب:(2/286)، وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك:(.......) قول نبينا – صلى الله عليه وسلم – "أنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي" وهو حديث حسن، ويشهد لهذا فاعلم.

ص: 105

–.

ولما رأي الصحابة الأطهار – رضي الله تعالى عنهم – ما ابتدعه بعض الأشرار، أنكروه غاية الإنكار، غضباً لله الواحد القهار، وتأثروا بسبب ذلك تأثراً يذيب الجبال الكبار، ثبت في صحيح البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بدمشق، وهو يبكي، فقلت ما يبكيك؟، فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة – باب تضييع الصلاة عن وقتها –: (2/13) بشرح ابن حجر ورواه الترمذي في سننه – كتاب صفة القيامة – باب: "18" بلفظ: ما أعرق شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت – القائل هنا أبو عمران الجوني – أين الصلاة؟ قال: أولم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث أبي عمران الجوني، وقد روي من وجه عن أنس – رضي الله تعالى عنه –.

قال الحافظ في الفتح: (2/13-14) كان قدوم أنس – رضي الله تعالى عنه – إلى دمشق في إمارة الحجاج على العراق، قدمها شاكياً من الحجاج للخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، ثم قرر معنى الأثر بأن مراد أنس – رضي الله تعالى عنه – أنه لا يعرف شيئاً موجوداً من الطاعات معمولاً به على وجهه غير الصلاة، وهذه الصلاة أيضاً قد ضيعت بإخراجها عن وقتها، لأن الحجاج وغيره من الأمراء في ذلك الوقت كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وإطلاق أنس – رضي الله تعالى عنه – محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة.

هذا وقد ورد في صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب إثم من لم يتم الصفوف –: (2/209-210) بشرح ابن حجر، والمسند:(3/113-114) عن بشير بن يسار الأنصاري عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، قال الحافظ في الفتح: هذا الإنكار غير الإنكار الذي تقدم ذكره في باب تضييع الصلاة عن وقتها، فإن ذاك كان بالشام وهذا بالمدينة وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن.

ص: 106

وتكرر هذا النكير من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – ففي المسند عن أم الدرداء – رضي الله تعالى عنها – قالت: دخل علي أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنهما – وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً.

وتكرر أيضاً من كبار التابعين – عليهم رحمة رب العالمين – ففي الموطأ عن مالك بن أبي عامر الأصبحي قال: ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة (1) .

(1) انظر الرواية الأولى في المسند: (6/443)، والثانية في الموطأ – كتاب الصلاة – باب ما جاء في النداء للصلاة –:(1/72) ، ومالك بن أبي عامر من كبار التابعين روي عن عمر، وعثمان، وطلحة، وعقيل بن أبي طالب، وأبي هريرة وأمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ولذلك صنفه ابن حجر في التقريب:(2/225) في الطبقة الثانية، وهو ثقة، أخرج عنه الستة كما في تهذيب التهذيب:(10/19) .

قال الباجي في شرح الموطأ: (1/138) قوله: ما أعرف شيئاً.... إلخ يريد الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – لأنه قد أنكر أكثر أفعال أهل عصره، ورأى أنها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة وذلك أن التغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة عن أوقاتها، ويمكن أن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف، والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله، وقوله:"إلا النداء" يريد أنه باق على ما كان عليه، ولو دخله تغيير لعرف الناس ذلك، ولعرفوا أول من غيره، فاتصل الخبر بالمدينة على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل، وفي شرح الزرقاني على الموطأ:(1/150)، قال ابن عبد البر: فيه أن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء، ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى، وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع – رضي الله تعالى عنهم – في أكثر الأشياء.

ص: 107

وإذا كان الحال في العصر الأول جرى فيه ما جرى، فكيف الحال بالعصور بعده، لقد تغير بلا شك كل شيء، وعبد الناس أنفسهم، واتبعوا أهواءهم وتحاكموا إلى الأعراف والتقاليد وعكفوا حول الشيطان المريد، ونبذوا وراءهم ظهرياً شرع الرب المجيد، إلا قلة يسيرة من ذوي الرشد السديد جعلنا الله منهم بمنه وكرمه فهو الفعال لما يريد، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى –: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف 10هـ ورحمة الله على السيد قطب إذ يقول في كتابه العظيم:"معالم في الطريق": إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية، إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة إدعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله – جل وعلا – للحياة، وفيما لم يأذن به الله – عز وجل – نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم، وتقاليدهم موارد ثقافاتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، وهو كذلك، من صنع هذا الجاهلية (1) .

(1) انظر كلام الحافظ في الفتح: (13/253)، وكلام سيد قطب في معالم في الطريق:(9، 23)، وقال في:(18) ذلك الجيل – جيل الصحابة الكرام – استقى من ذلك النبع وحده – وهو القرآن – فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد، ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع صبت في النبع الأول الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ن ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه الأصول أيضاً، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك، فلم يتكرر ذلك الجيل أبداً 10هـ وهذا الكلام مع أنه جد ثقيل لكنه هو حال واقعنا الهزيل، وما سلم منه إلا القليل، وفي صون المنطق والكلام عن فن المنطق:(9) قال الصلاح الصفدي: حكى أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى، كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة من بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه إلا بطريق واحد فإنه قال: جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها، وحدثني من أثق به أن الشيخ تقى الدين بن تيمية كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون، لإدخاله هذه العلوم الفلسفية إلى الأمة الإسلامية 1هـ ملخصاً وبتصريف يسير.

ص: 108

وإذا كان ذلك هو حال البدعة، فلا ينجو منها إلا من كان كامل اليقظة، يحتكم إلى السنة في كل سكنة وحركة، وهيهات أن يتم ذلك لأحد منا، وبالتالي فلا نعلم بم سيختم لنا، ونسأل الله الكريم أن يثبتنا، فهو أرحم بنا من أنفسنا.

أما البدع المكفرة فسيختم لصاحبها بأعظم الحسرة، لأنه ليس من المسلمين وسيلقى جزاءه عند رب العالمين، هذا ابن الفارض الذي كان ينعق في شعره باتحاد الخالق بمخلوقاته، لما احتضر ورأى حقائق الأمور، استبان له أنه كان في دعواه دجال مغرور، وله جزاء ذلك الويل والثبور، فقال وهو الملوم المحسور:

إنْ كان منْزلتي في الحبِّ عِندكمُجج

ما قد لَقيتُ فقد ضَيّعْتُ أيامي

أمْنية ٌ ظفِرتْ نفسي بها زمنا

واليومَ أحْسبها أضغاثُ أحْلاميج

ص: 109

قال أبو حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن –: ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة، وعدد أبو حبان طائفة من أعيانهم منهم ابن عربي، وابن الفارض ثم قال: وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله – عز وجل – يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين ولحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله – تبارك وتعالى – ورسله – عليهم الصلاة والسلام – ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث، وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياءه (1) .

(1) انظر البحر المحيط: (3/449)، وانظر ما أنشده الزائغ التائه الزنديق ابن الفارض في مجموع الفتاوى:(2/246)، وفيه: حدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت، وهو ينشد، فذكر البيتين، ثم قال الشيخ ابن تيمية: وحدثني الفاضل تاج الدين بن الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولان: كيف الطريق؟، وكرر الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى – ذكر البيتين المتقدمين ففي مجموع الفتاوى أيضاً:(4/73-74) : وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائهة المعروفة: "بنظم السلوك" وقد نظم فيها الاتحاد نظماً رائق اللفظ، فهو أخبث من لحكم جنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك.... ولما حضرته الوفاة أنشد....

وابن الفارض هو عمر بن على الهالك سنة اثنتين وثلاثين وست مائة قبل ابن عربي بست سنتين وكل (وكل) منهما دجال مأفون ينعق بالاتحاد الملعون قال الإمام ابن حجر – عليه رحمة الله تعالى – في لسان الميزان: (4/318) في ترجمة ابن الفارض: وقد كنت سألت شيخنا الإمام سراج الدين البلقيني عن ابن عربي، فبادر الجواب بأنه كافر فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحب أن أتكلم فيه قلت: فما الفرق بينهما، والموضع واحد؟ وأنشدته من التائهة، فقطع عليّ بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر، هذا كفر.

وقد تقدم في هذا الكتاب المبارك بيان حال الضال ابن عربي: (.......) وهذا – ابن الفارض – صورة طبق الأصل له، وتشابهت قلوبهم، فتشابهت أحوالهم وكتبهم فكتاب فصوص الحكم لابن عربي ليس فيه إلا تكرار نغمة الاتحاد الفاحشة الموحشة كما قال شيخ الإسلام مصطفى صبري – عليه رحمة الله تعالى – في كتاب موقف العقل:(1/94)، وكتاب الفتوحات لابن عربي يقول عنه الشيخ مصطفى صبري في الكتاب المتقدم:(3/285) نقلاً عن كتاب العلم الشامخ: (456) : إذا حققت وأنصفت وعندك توفيق وللكتاب والسنة عندك قيمة، ونظرت بعدها في كتب الفلاسفة والمنجمين والباطنية وأهل الخواص والسحر بأنواعه تجد ذرية بعضها من بعض فإن أحببت كتاباً ينوب عن الجميع فالفتوحات لابن عربي 10هـ ولذلك قال عنه أبو حبان في البحر:(6/156) ينبغي أن يسمى كتاب الفتوح المكية بالقبوح الهلكية، وفي:(5/175) وتعوذ أبو حبان بالرحمن مما جاء في ذلك الكتاب من الهذيان، وقد أطال أئمة الإسلام الكرام في التحذير من ابن الفارض ذي الخسران، وبيان ما في كتبه من شنيع الضلالات والآثم، وقد أورد ابن حجر في اللسان:(4/317-318) اثني عشر بيتاً مما قاله ابن الفارض في قصيدته التائهة التي وسوس له بها الشيطان، ثم قال الإمام ابن حجر: وفي قصائده من هذا النمط فيما يتعلق بالاتحاد شيء كثير، وقال الذهبي في الميزان:(3/214-215) ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة فتدبر ولا تستعجل، ولكنك حسن الظن بالصوفية، وما ثم إلى زي الصوفية، وإشارات مجملة، وتحت الزي والعبارة فلسفة وأفاعي، فقد نصحتك، والله الموعد.

ونقل الإمام البقاعي في كتابه مصرع التصوف المسمى أيضاً بتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي في صفحة: (214-217) عن أربعين عالماً رموه بالزندقة، وهم من دعائم الدين من عصر ابن الفارض إلى عصر الإمام البقاعي المتوفى:(885) – عليه رحمة الله تعالى – وختم الكلام بقوله: فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواتراً معنوياً، ثم تتبع في الصفحات التالية ما في القصيدة التائهة من أمور كفرية، وقد زادت تلك القصيدة على سبعمائة بيت.

وبذلك تعلم أيها المسترشد المهتدي – هداني الله وإياك صراطه المستقيم – أن ما جاء في شذرات الذهب: (5/152) من أن الشيخ عبد الرؤوف المناوي قرر في طبقات الصوفية له وجوب اعتقاد رفعة منزلة ابن عربي وابن الفارض ومن على شاكلتهما، ولزوم تعظيمهم، مع تحريم النظر في كتبهم على من لم يصل لدرجتهم، كلام باطل ظاهر السقوط، وليس هو إلا صرير باب أو طنين ذباب، فاحترسوا من ذلك التباب يا أولي الألباب.

واعلم أخي في الإيمان أنه لا يحسن القول في أولئك الزنادقة اللئام، إلا صنفان:

أ) عتاة من أتباع الشيطان، وهم في دركة أولئك في الضلال والكفران.

ب) لا يعلمون أحوالهم العلم التام، وينخدعون بانتساب أولئك للإسلام.

فالصنف الأول غواة، والصنف الثاني لا يعول على أقوالهم عند الهداة، وإلا فقل لي بربك – جل جلاله – ما الذي حملهم على إظهار الكفر وإبطان الإيمان وهم في دار الإسلام؟ قال الإمام ابن الجوزي: في المنتظم: (8/185) ، ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل – عليهم جميعاً رحمة الله الجليل – أنه قال من العجائب أن المعري أظهر من الكفر البارد، الذي لا تبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصر فيه كل التقصير، وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطناً، وأنه مسلم في الباطن، فلا عقل له ولا دين، لأنه تظاهر بالكفر، وزعم أنه مسلم في الباطن، وهذا عكس قضايا المنافقين والزنادقة حيث تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر، فهل كان في بلاد الكفار حتى يحتاج إلى أن يبطن الإسلام فلا أسخف عقلاً ممن سلك هذه الطريقة التي هي أخس من طريقة الزنادقة والمنافقين إذا كان المتدين يطلب نجاة الآخرة لا هلاكها في الدنيا حين طعن في الإسلام في بلاد الإسلام، وأبطن الكفر، وأهلك نفسه في المعاد، فلا عقل له، ولا دين 10هـ وقد تقدمت في هذا الكتاب المبارك ترجمة الزنديق الغوي أبي العلاء المعري:(......) فاحذر تلك الوساوس يا من نور الله قلبه بالإيمان، وليعظم غضبك عندها إجلالاً للملك الرحمن، وحذار حذار من مسلك المنافقين الذين يحيلون عند حقوق رب العالمين، ومن أجل حظوظهم يخاصمون الخلق أجمعين – جعلنا الله بمنه وكرمه ممن يعظمه حق تعظيمه، ويتقيه حق تقاته، ويحب ويبغض فيه، ويعادي ويسالم من أجله إنه سميع الدعاء....

ص: 110

أما البدعة المفسقة، فحال صاحبها متردد بين الختم له بالكفران، أو بالفسوق والعصيان، إذا لم يتكرم عليه ربنا الرحمن، بالتثبيت في ذلك الأوان، ويكون حاله كحال من اتصف بالنفاق الأصغر، كما تقدم في البلية الأولى من السبب الثاني، وذلك لأن صاحب البدعة المفسقة لا يقل دركة عن اتصاف المكلف بالنفاق، بل إن خطر البدعة أشنع باتفاق، لأن حال المبتدع بشير إلى أن الشريعة غير تامة ولا كاملة، وهو يستدرك عليها ببدعته، وهذا أسوأ أنواع الكذب، ولذلك قال الإمام مالك – رحمه الله تعالى –: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم (1) – وقد توعد الله العظيم كل مفتر بالذلة والغضب فقال – جل وعلا –: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الأعراف152، قال الإمام مالك – عليه رحمة الله تعالى –: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة، وقرأ هذه الآية، وقال سفيان بن عيينة – عليه رحمة الله تعالى –: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله – عز وجل –.

(1) نقل ذلك عنه الإمام أبو شامة بسنده إليه في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث: (22) .

ص: 111

قالوا: وأين هي؟ قال: أوما سمعتم قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا"؟ قالوا: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: لا اتلوا ما بعدها: " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة (1) . نسأل رب الأرض والسموات، أن يحفظنا من المخالفات، وأن يجعلنا من أهل الموافقات، المتبعين لشرعه في الحركات والسكنات، لنحظى بحسن الخاتمة عند الممات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.

البلية الثالثة من السبب الثاني لسوء الخاتمة: التعلق بالدنيا

(1) انظر قول الإمام مالك في زاد المسير: (3/266) ، وتفسير القرطبي ك (7/292)، ولباب التأويل:(3/293)، ومفاتيح الغيب:(15/13)، وانظر قول سفيان بن عيينة في زاد المسير:(3/266)، وتفسير القرطبي:(9/49) ، ورواه عنه ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور:(3/128) ، وانظره في معالم التنزيل، وفي لباب التأويل:(2/293) – الأول على هامش الثاني –.

ص: 112

.. وهذه البلية من المهلكات، وقل من سلم منها من المكلفين والمكلفات، والنفس إذا تعلقت بشيء كرهت مفارقته، والخروج عنه، ومن أجل ذلك كره الناس القدوم على ربهم، لأنهم عمروا دنياهم، واستأنسوا بها، روى الدارمي في سننه، وأبو نعيم في حليته، أن الخليفة سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة المنورة وهو يريد مكة المكرمة، فأقام بها أياماً، فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم –؟ فقالوا له: أبا حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، وأي جفاء رأيت مني؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني، قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل هذا اليوم، ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب الزهري، فقال: أصاب الشيخ، وأخطأت، قال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال أبو حازم: لأنكم أخربتم الآخرة، وعمرتم الدنيا، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.

ص: 113

.. قال سليمان: أصبت يا أبا حازم، فكيف القدوم غداً على الله – عز وجل –؟ قال أبو حازم: أما المحسن فالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري مالنا عند الله – جل وعلا –؟ قال أبو حازم: أعرض عملك على كتاب الله – عز وجل – قال سليمان: وأي مكان أجده؟ قال أبو الحازم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار13-14، فقال سليمان: فأين رحمة الله – جل وعلا –؟ قال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف56 (1) .

(1) كما قال الله – جل وعلا – في سورة الأعراف: (56)، وقد أخذت تلك المحاورة بين سليمان وأبي حازم ثلاث صفحات فانظرها في سنن الدارمي – باب إعظام العلم –:(1/155-158) – وحلية الأولياء: (3/234-237)، وصفة الصفوة:(2/158-160)، ومن بديع أبي حازم سلمه بن دينار كما في الأخيرين: ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني، وقوله: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح، وكان يمر على الفاكهة في السوق فيقول: موعدك الجنة، توفي سنة أربعين ومائة – عليه رحمة الله تعالى – وقد أخرج له الجماعة، وقال ابن خزيمة كما في تهذيب التهذيب:(4/144) لم يكن في زمانه مثله، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ:(1/134) : كان فقيه النفس، ومناقبه كثيرة، وكان ثقة فقيهاً ثبتاً كثير العلم، كبير القدر، وانظر ترجمته المباركة في المعرفة والتاريخ:(1/676-680) .

ص: 114

.. وقد شوهد من أحوال المتعلقين بالدنيا عند الاحتضار، ما يدعو العاقل للزهادة في هذه الدار، وتعليق الهمة بدار القرار، قال الغزالي في الإحياء – عليه رحمة رب الأرض والسماء –: إن المرء يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه، ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة، فيقول: خمسة ستة أربعة، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت (1) . وقد حدثني بعض الصالحين أنه حضر موت جار له، فلقنه كلمة التوحيد، فأجابه بقوله: القفل بليرتين، القفل بليرتين، ثم خرجت روحه، ومثل هذا كثير كثير، فنسأل الله الثبات عند الممات.

واعلم أن صاحب التعلق بالدنيا إذا وصل تعلقه بها إلى درجة العبودية الخالصة لها بحيث جعلها غايته الأولى، ولم يأخذ من دين الله – جل وعلا – إلا بما لا يتعارض معها، فهو في صف الكافرين، وإن زعم أنه من المؤمنين، وسيختم له بما يسود وجهه عند رب العالمين، ويصليه العذاب الأليم، كما قال ربنا العظيم:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} محمد12.

(1) انظر الإحياء: (4/175)، وقد ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:"من مات على شيء بعثه الله عليه"، رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –:(4/313)، وأحمد في المسند:(3/314) ورواه أبو يعلى، والضياء المقدسي في المختارة كما في الجامع الكبير:(1/835) كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – مرفوعاً، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، وأقره الذهبي.

ص: 115

.. وأما إذا لم يصل المتعلق بالدنيا إلى تلك الدركة، بل اقتصر تعلقه بها على حرصه عليها وفرحه بإقبالها، وحزنه على إدبارها، فمال إليها وعمرها، وأنس بزهرتها وزينتها، ولم يكن حاله فيها كحال المسافر الذي يعبر ولا يعمر، والناس يتفاوتون في نسبة ذلك التعلق ما بين مقل ومكثر وما بين ذلك من المراتب المتفاوتات، التي لا يحيط بها إلا رب الأرض والسموات، ويخشى على صاحب هذا التعلق من سوء الخاتمة، بمقدار ركونه إلى هذه الدنيا الفانية، وهو وإن لم يختم له بمثل حال من جعل الدنيا إلهه، فإن روحه قد تفيض وهو مشغول البال بهذه الدنيا الدنية، فيلقى رب البرية على تلم الحالة الردية.

ص: 116

واعلم أخا الإسلام أن نبينا – عليه الصلاة والسلام – كان أزهد الناس في هذا الحطام، وما ركن إلى الدنيا ساعة من الزمان، ثبت في المسند وصحيح ابن حبان والمستدرك بسند صحيح عن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنه – أنه قال للناس وهو على المنبر: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم، أما هو فأزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها، وقال أيضاً – رضي الله تعالى عنه –: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزهد فيه، أصبحتم ترغبون في الدنيا، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزهد فيها، والله ما أتت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له، فقال بعض أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد رأينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستسلف (1) .

(1) انظر المسند: (3/203، 204)، واللفظ له ولرجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(10/315) وفيه: ورواه الطبراني، وانظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب علامات نبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم – باب في زهده –:(526)، والمستدرك – كتاب الرقاق –:(4/315) ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على التصحيح لكنه قال: ليس على شرط واحد منهما، وانظره في مسند الطيالسي – منحة المعبود:(2/44) .

ص: 117

.. وقد كان فداه أبي وأمي وعليه صلوات الله وسلامه – يرد نعيم الدنيا عندما يعرض عليه من قبل أصحابه الأبرار، ويخبر عن حاله في هذه الدار، بما يبين أنه في سفر وارتحال، فليست الدنيا بدار قرار، ومالها عنده أي مقدار ولا اعتبار، روى الأئمة الكرام: أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم – عليهم رحمة الله تعالى –: بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: نام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على حصير، فقام وقد أثر في جبينه فقلنا يا رسول الله: لو اتخذنا لك وطاء، فقال:"مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، هذا لفظ الترمذي، ورواية ابن ماجه بنحوه، ورواه الطبراني بلفظ:"دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في غرفة كأنها بيت حمام – أي: لما فيها من الحر والكرب – وهو نائم على حصير قد أثر بجنبه، فبكيت فقال – صلى الله عليه وسلم –: "ما يبكيك يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله، كسرى وقيصر يطؤون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير، قد أثر بجنبك؟ قال – صلى الله عليه وسلم –: "فلا تبك يا عبد الله، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا وما مثلي ومثل الدنيا إلا كمثل راكب نزل تحت شجرة ثم سار وتركها (1)

(1) انظر سنن الترمذي – كتاب الزهد – باب: "44": (7/110) ، وقال هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن عمرو بن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والمسند:(1/393، 441)، وسنده صحيح كما قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(5/264، 6/114) رقم: "3709، 4208". وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب مثل الدنيا –: (2/1376)، وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد –:(10/326)، وفيه: وفي سنده عبيد الله بن سعيد قائد الأعمشي وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.

وانظر الحديث في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/310)، وأورده الحاكم شاهداً لحديث ابن عباس في دخول عمر – وقوله مثل قول ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وانظره في مسند الطيالسي – منحة المعبود –:(2/120)، والزهد للإمام أحمد:(8) وطبقات ابن سعد: (1/467)، وحلية الأولياء:(2/102، 4/234)، وعزاه السيوطي في جمع الجوامع:(1/711) لهناد ومعجم الطبراني الكبير، وشعب الإيمان للبيهقي، وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب:(4/178) إلى كتاب الثواب لأبي الشيخ، وانظره في كتاب الأمثال للرامهرمزي:(55) .

ص: 118

".

وقد تكرر ذلك منه – فداه نفسي وعليه صلوات الله وسلامه ربي – مع عدة من الصحابة الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – ففي المسند والمستدرك وصحيح ابن حبان وغير ذلك من دواوين الإسلام بسند صحيح عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عليه عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا نبي الله، لو اتخذت لك فراشاً أوثر من هذا؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"مالي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها (1) ".

(1) انظر المسند: (1/301)، ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(10/326)، وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(4/262)"2744" إسناده صحيح، والمستدرك – كتاب الرقاق –:(4/309-310)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان – كتاب الزهد – باب ما جاء في عيش السلف –:(626)، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير:(1/711) إلى معجم الطبراني الكبير، وشعب الإيمان للبيهقي.

ص: 119

وفي سنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم – قال: دخلت على رسول الله وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزار، وليس عليه غيره، وإذا قد أثر الحصير في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرظ في ناحية الغرفة – والقرظ: شيء يدبغ به الجلد – وإذا إهاب معلق – والإهاب: الجلد غير المدبوغ فابتدرت عيناي، فقال: صلى الله عليه وسلم –: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ " فقلت: يا نبي الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته، وهذه خزانتك، قال – صلى الله عليه وسلم –: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى (1)

(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ضجاع آل محمد – صلى الله عليه وسلم –: (2/1390-1391)، والمستدرك – أول حديث في كتاب الأطعمة –:(4/104)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

والحديث رواه ابن حبان في موارد الظمآن – كتاب الزهد - باب ما جاء في عيش السلف: (626) وأحمد في المسند: (3/139-140)، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد:(10/326)، وفيه: رجال أحمد رجال الصحيح غير مبارك بن فضالة وقد وثقه جماعة، وضعفه جماعة، كلهم رووه عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – دخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر نحو ما تقدم، وهو في سنن الترمذي مختصر – كتاب صفة القيامة – باب:"28": (7/168)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأصل الحديث في الصحيحين ضمن حديث إيلاء النبي – صلى الله عليه وسلم – من أزواجه – رضي الله تعالى عنهن – انظر صحيح البخاري – كتاب المظالم – باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوع ونحوها: (5/114-116)، وفي كتاب التفسير – سورة التحريم – باب:"تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ": (8/657-658)، وكتاب النكاح – باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها:(9/278-279) بشرح ابن حجر في الجميع ومسلم في كتاب الطلاق – باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن: (2/1106-1113)، وهو في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة التحريم:(9/55، 58)، والمسند:(1/33-34) .

وقد ورد الحديث من رواية أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – وفيه مشاركة أبي بكر لعمر – رضي الله تعالى عنهما فيما جرى، روى ذلك ابن حبان – المكان السابق – وفي سنده الماضي بن محمد وهو ضعيف كما في التقريب:(2/223)، وأشار المنذري في الترغيب والترهيب:(4/201) إلى وجوده في سند ابن حبان، وفصل الكلام في حاله في:(4/278)، ورواه الطبراني في الأوسط كما في المجمع:(10/327) ، وفي سنده عبد العزيز بن يحيى المدني نزيل نيسابور وهو كذاب.

وورد الحديث من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في مسند البزار كما في مجمع الزوائد: (10/327) ، وفيه داود بن فراهيج، وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح وهو في المسند أيضاً:(2/298) .

وورد الحديث من رواية جندب – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني كما في مجمع الزوائد: (10/327) ، وفيه سند الحديث عمر بن زياد وثقه ابن حبان، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 120

".

وتلك المعاني الجليلة، كان يغرسها نبينا – صلى الله عليه وسلم – في صدور أصحابه ذوي المراتب النبيلة – رضي الله تعالى عنهم – وكانوا أشد الوجل، إذا لم يقوموا بها على الوجه الأكمل، وكان يظهر عليهم عند اقتراب الأجل، ما فيه عبرة لمن عقل، روى ابن ماجه وغيره بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهما – قال: اشتكي سلمان الفارسي فعاده سعد بن أبي وقاص – رضي الله تعالى عنهما – فرآه يبكي، فقال له سعيد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضناً للدنيا، وكراهية للآخرة، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عهد إليّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إليّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إلا قسمت، وعند همك إذا هممت.

ص: 121

ولا تظن أخي المبارك أن سلمان الفارسي – رضي الله تعالى عنه – تعلقت همته بالدنيا، وتعدى حدود الشرع المطهر، فهو من الزهاد، والعباد، الذين يعدون العدة ليوم التناد، فما قال ما قال إلا تواضعاً لذي العزة والجلال، ورهبة من الكبير المتعال، وكل ما تركه – رحمه الله ورضي عنه – بضعة وعشرين درهماً، وأمتعة قومت بأربعة عشر أو خمسة عشر درهماً، هذا وهو أمير المدائن وتحت إمرته زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وعطاؤه خمسة آلاف درهم، وما انتفع منه بدرهم في مصالحه العاجلة، إنما كان ينفقه كله طلباً لرضوان الله في الحياة الآجلة، ويعيش من عمل يده (1) .

(1) انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب الزهد في الدنيا –: (2/1374-1375) قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/168) ورواته ثقات احتج بهم الشيخان إلا جعفر بن سليمان فاحتج به مسلم وحده، وانظره في المستدرك – كتاب الرقاق –:(4/317)، وقال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، صحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب ما يكفي من الدنيا –:(614)، وكتاب الزهد للإمام أحمد:(28-152) ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن يحيى بن الجعد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/254)، وحلية الأولياء:(1/195-197) .

هذا وقد ورد تسمية القائل لسلمان بسعد في رواية ابن ماجه، والحاكم، وأبي نعيم في الحلية، وورد تسمية القائل في رواية الطبراني، وأبي نعيم أيضاً، وورد عند أبي نعيم أيضاً ضم عبد الله ابن مسعود إلى سعد وورد التنصيص على كون ابن مسعود قال ذلك لسلمان في طبقات خليقة بن خياط كما في الإصابة:(2/63) ، وعند ابن حبان وأبي نعيم أيضاً نسبة القول لن حضر دون تسمية أعيانهم – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –. والذي يظهر لي – والله أعلم – أن كل من تقدم ذكرهم قالوا له ذلك وكان ذلك في أوقات مختلفة حسب مجيء المرض لسلمان، ويدل على هذا أمران:

الأول: موت ابن مسعود سنة ثلاث وثلاثين قبل سلمان وبثلاث سنين – رضي الله تعالى عنهم.

الثاني: ما ورد في الحلية: (1/208) ، أن سلمان قال لامرأته افتحي أبواب العلية، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليّ، ثم دعا بمسك، وقال لزوجه، انضحيه حول فراشي، ثم انزلي فامكثي فسوف تطلعين فتريني على فراشي، فاطلعت فإذا هو قد أخذ روحه كأنه نائم على فراشه – رضي الله تعالى عنه –.

هذا وقد ورد في رواية ابن ماجه عن ثابت قال: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهماً من نفقة كانت عنده، وفي الحلية عن الحسن وحميد قوم متاعه فبلغ نحواً من عشرين درهماً، وفي صحيح ابن حبان، والحلية: فجمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهماً، قال أبو نعيم: وقال عامر بن عبد الله ديناراً واتق الباقون على بضعة عشر درهماً وفي رواية الطبراني والحلية عن علي ابن بذيمة قال: بيع متاع سلمان فبلغ أربعة عشر درهماً قال الهيثمي في المجمع: (10/254) ، وإسناده جيد غلا أن علي بن بذيمة لم يدرك سلمان فإن كانت تركته تأخرت فهو متصل، ونحوه في الترغيب والترهيب:(4/225) ، والذي يظهر أنه ترك بضعة وعشرون درهماً وأمتعة قومت دون عشرين درهماً والله أعلم.

وسلمان الفارسي يقال له سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، عاش على الراجح أزيد من خمسين ومائتي سنة، كان يقول: أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، ضحكت من مأمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه – صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الطاهرين – وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة، انظر ذلك وغيره من ترجمته العطرة المباركة في الحلية:(1/185-208)، وصفة الصفوة:(1/523-556)، والإصابة:(2/62-63) القسم الأول من حرف السين، وأسد الغابة:(../417-421)، وشذرات الذهب:(1/44) والمعارف: (117)، وطبقات ابن سعد:(6/16-17) .

ص: 122

وقد تكرر من الصحابة مثل موقف سلمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ففي معجم الطبراني ومسند أبي يعلى عن يحيى بن جعدة قال: عاد خباباً ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله ترد على محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: فكيف بهذا وأشار إلى البيت وأسفله، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"إنما يكفي أحدكم من الدنيا كزاد الراكب"، وفي طبقات ابن سعد والحلية عن طارق بن شهاب قال: عاد خباباً نفر من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تقدم عليهم غداً، فبكى، وقال: أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك قد مضوا بأجورهم كما هي وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم، وفي الحلية أيضاً عن شقيق بن سلمة، قال: دخلنا على خباب بن الأرت في مرضه، فقال: إن في هذا التابوت ثمانين ألف درهم، والله ما شددت لها من خيط، ولا منعتها من سائل، ثم بكى، فقلنا: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن أصحابي مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئاً، وإنا بقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعاً إلا التراب، ولوددت أنها كذا وكذا، بعراً أو غيره (1) .

(1) انظر مجمع الزوائد: كتاب الزهد – باب ما يكفي من الدنيا –: (10/253-254)، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن جعدة وهو ثقة، وقال المنذري في الترغيب والترهيب:(4/223) : إسناده جيد وطبقات ابن سعد: (1/166)، والحلية:(1/144-146)، وفي الحلية:(1/360) الحديث المتقدم عن يحيى بن جعدة وكذلك في مسند الحميدي: (1/83) ورواه البيهقي في شعب الإيمان، والبارودي، والضياء المقدسي في المختارة كما في مجمع الجوامع:(1/289)،وانظر خير طارق بن شهاب في مسند الحميدي:(10/86)، وكتاب الزهد لابن المبارك:(183-184)، وقوله: لم نجد له موضعاً إلا التراب، يرد به الإنفاق في البنيان كما في الفتح:(10/129) وقد روى ذلك القول عنه البخاري في كتاب المرضى – باب تمني المريض الموت –: (10/127)، وكتاب الرقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها:(11/244) بشرح ابن حجر في الجميع، وهو في مسند الحميدي:(1/83-84) وورد في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة –: (3/383) بسند صححه الحاكم وأقره الذهبي عن خباب – رضي الله تعالى عنه – قال: لقد خشيت أن يذهب بأجورنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أصبنا بعده من الدنيا.

ص: 123

وورد في الصحيحين وغيرهما عن أبي وائل، قال: عدنا خباباً فقال: هاجرنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، وترك نمرة، فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (1) ".

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا لم يجد كفناً إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه: (3/142)، وكتاب مناقب الأنصار – باب هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى المدينة:(7/226، 7/253)، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد:(7/354)، وباب من قتل من المسلمين يوم أحد –:(7/374)، وكتاب الرقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها:(11/245)، وباب فضل الفقر –:(11/273) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم. وصحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب في كفن الميت –: (2/649)، وسنن الترمذي – كتاب المناقب – باب مناقب مصعب بن عمير – رضي الله تعالى عنه –:(9/377)، وسنن النسائي – كتاب الجنائز – باب القميص في الكفن –:(4/32)، والمسند:(5/109، 112، 6/395)، ومسند الحميدي:(1/84) .

ص: 124

وما خشيه سلمان وخباب خشيه كل من امتدت حياته من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – بعد موت نبينا – صلى الله عليه وسلم – روى البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنهم – أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام – وكان صائماً – فقال: قتل مصعب بن عمير – وهو خير مني – كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه وأراه قال: وقتل حمزة – وهو خير مني – ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط – أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد –: (3/142) ، وباب الكفن من جميع المال – (3/141)، وكتاب المغازي – باب غزوة أحد:(7/353)، وهو في كتاب الزهد لابن المبارك:(183) .

ص: 125

وهكذا كان حال صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – مع أنه لم ينل من الدنيا شيئاً، ولم يتغير حاله في معيشته عن حاله السابق في عهد نبينا – صلى الله عليه وسلم – وحياته، وروى البزار عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فاستسقى، فأتى بماء وعسل، فلما وضعه على يده بكى وانتحب حتى ظننا به شيئاً، ولا نسأله عن شيء فلما فرغ، قلنا: يا خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ما حملك على هذا البكاء؟ قال بينما أنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ رأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولا أرى شيئاً، فقلت: يا رسول الله، ما الذي أراك تدفع ولا أرى شيئاً؟ فقال:"الدنيا تطولت لي، فقلت: إليك عني، فقالت: أما إنك لست بمدركي" قال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه –: فشق عليّ، وخشيت أن أكون خالفت أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولحقتني الدنيا، ورواه الحاكم في المستدرك عن زيد بن أرقم أيضاً بلفظ: كنا مع أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته، قال: ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً، ولم أر معه أحداً، فقلت: يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال: "هذه الدنيا مثلت لي، فقلت لها: إليك عني، ثم رجعت فقالت: إن أفلت مني فلن ينفلت مني من بعدك (1)

(1) انظر رواية البزار في مجمع الزوائد – كتاب الزهد – باب فيمن كره الدنيا –: (10/254)، وقال الهيثمي: وفيه عبد الواحد بن زيد الزاهد وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يعتبر حديثه إذا كان فوقه ثقة، ودونه ثقة، وبقية رجاله ثقات، قال المنذري في الترغيب والترهيب:(4/207) بعد ذكر كلام ابن حبان، وهو كنا كذلك، وعزاه أيضاً إلى ابن أبي الدنيا وانظر رواية الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –:(4/309)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله قلت: عبد الصمد بن عبد الوارث تركه البخاري وغيره 10هـ والذي يظهر للعبد الضعيف وهم الذهبي فيما قاله، فالبخاري ما تركه، وترجم له في التاريخ الكبير:(6/105)، وقال: سمع شعبة وأباه وهشاماً الدستوائي 10هـ وما ورد في الجرح والتعديل: (6/51) من أن أبا حاتم قال عنه شيخ مجهول فالكلام فيه سقط ومبتور، ولذلك قال محقق الكتاب: لعله ههنا سقط، فإن عبد الصمد بن عبد الوارث مشهور معروف 10هـ وقد حكم عليه الذهبي نفسه في الكاشف:(2/173) بأنه حجة وأشار إلى أنه من رجال السنن الأربعة، وقال ابن حجر في التقريب:(1/507) صدوق، ثبت في شعبة، ونقل في تهذيب التهذيب:(6/327 -328) توثيقه عن ابن حبان، وابن سعد، وابن قانع، وابن نمير، وقال الحاكم ثقة مأمون، وقد ذكر شيخ الإسلام الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(3/198) تصحيح الحاكم، ولم يعترض عليه – ونسب تخريجه أيضاً إلى ابن أبي الدنيا، والبيهقي من طريقه بلفظه.

ص: 126

".

فتأمل يا عبد الله تلك الأخبار عن سلفنا الأبرار، وانظر كيف اشتد وجلهم مما أصابوه من الدنيا عن طريق الحلال، واشتد خوفهم عند فراق هذه الدار، لا حزناً عليها ولا زهداً في مقابلها، ولكن خشية عدم الالتزام بالمسلك الأقوم الذي كان عليه نبينا – صلى الله عليه وسلم – مع أنهم – رضي الله تعالى عنهم – لم يشدوا خيطاً على ما أتاهم من مال، ولم يمنعوه من تعرض لهم بالسؤال وبذلوه في الخيرات آناء الليل وأطراف النهار، فكيف بنا وقد ركنا إلى الدنيا، فلم نقنع منها بالقليل ولم نشبع من الكثير، وقد حذرنا رسولنا الجليل – صلى الله عليه وسلم – من هذا المسلك الحقير؟ نسأل الله أن يبصرنا بعواقب الأمور، وأن يوفقنا لإيثار الآخرة على دار الغرور، لنحظى بخاتمة السعادة عند انتقالنا إلى القبور، ولنفوز برضوان ربنا الغفور في دار الحبور والسرور.

ص: 127

روى الأئمة الكرام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطبراني في معجمه، وغيرهم بسند صحيح رجاله ثقات عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقي على ما يغني (1)

(1) انظر المسند: (4/412)، وصحيح بن حبان – موارد الظمآن – كتاب الزهد – باب فيمن أحب دنياه أو آخرته:(612)، والمستدرك – كتاب الرقاق –:(4/308، 319)، وانظر رواية الطبراني في مجمع الزوائد:(10/249) ، ورواه أيضاً البزار، قال الهيثمي: ورجال أحمد والطبراني والبزار ثقات، وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب:(4/175)، ونسبه أيضاً إلى كتاب الزهد للإمام البيهقي وقد صحح الحاكم الحديث فقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال في المكان الثاني صحيح، وأقره الذهبي في المكان الثاني، وتعقبه في الأول فقال، قلت: فيه انقطاع، مع أن السند فيهما من رواية عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والذي يظهر لي – والله أعلم – أن السند متصل، وقد أطال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للإمام الشافعي:(97-103) الكلام فيمن سمي بالمطلب وهو من بني حنطب فارجع إليه فلن تظفر به في مكان آخر، والذي حط عليه كلامه – رحمه الله تعالى –: أن المطلب الذي يروي عنه عمرو بن أبي عمرو كان رجلاً في عصر عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وأنه من المحتمل جداً بل من الراجح القريب من اليقين أنه من صغار الصحابة من طبقة ابن عمر وجابر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأن من اليقين – الذي لا يدخله الشك – أنه إن لم يكن صحابياً فهو من كبار التابعين، وأن المحدثين الذين أعلوا رواياته بالإرسال، وبأنه لم يدرك فلاناً وفلاناً من الصحابة، وأنه لم يسمع منهم، إنما شبه لهم هذا المطلب بمن يسمى بهذا الاسم من المتأخرين عن عصره، وهم من بني حنطب.

وقد حكى العراقي في تخريج ألأحاديث الإحياء: (3/197)، والمنذري في الترغيب والترهيب:(4/175) تصحيح الحاكم ولم يعترضا عليه.

ص: 128

".

وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن فرح المرء بالحياة العاجلة، وحرصه على جمع عروضها الزائلة، يفسد أعظم من أفساد الذباب الضارية في قطعان الغنم الغافلة ثبت في المسند وسنن الترمذي وغيرهما بإسناد صحيح عن كعب بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند جيد حسن عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فساداً فيها من حب المال والشرف في دين المرء المسلم (1)

(1) انظر المسند: (3/456، 460)، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب:"43": (7/109-110)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن ورواه الدارمي في كتاب الرقاق – باب ما ذئبان جائعان –: (2/304) ورواية الطبراني في الأوسط في مجمع الزوائد – كتاب الزهد – باب في حب المال والشرف –: (10/250)، وقال الهيثمي: إسناده جيد وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب: (4/177) ، وعن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – رواه أيضاً أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الملك زنجويه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثقا كما في مجمع الزوائد، وقال المنذري في المكان السابق: إسناده جيد، وهو في الحلية أيضاً:(7/89)، ونسبه ابن رجب في شرح هذا الحديث – مطبوع ضمن جامع بيان العلم وفضله:(1/167) إلى سنن النسائي الكبرى وكذلك العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (3/226) .

والحديث ورد عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما – أيضاً في مسند البزار، قال الهيثمي – المكان السابق –: وفيه قطبة بن العلاء، وقد وثق، وقال المنذري – المكان السابق – إسناده حسن وهو في الحلية:(7/89)، ونسبه السيوطي في جمع الجوامع:(1/704) إلى تاريخ ابن عساكر.

وورد من رواية عاصم بن عدي – رضي الله تعالى عنه – في معجم الطبراني الأوسط وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد – المكان السابق –.

وورد حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عند الطبراني في الأوسط أيضاً وفيه عيسى بن ميمون وهو ضعيف، وقد وثق، كما في المجمع – المكان السابق – وهو في الحلية:(10/219-220) .

وورد أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – عند الطبراني في الأِوسط لكن فيه خالج بن يزيد العمري وهو كذاب كما في المجمع – المكان السابق – وانظر حال خالد في الميزان: (1/646)، وفيه: كذبه أبو حاتم، ويحيى، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات وقرر ذلك ابن حجر في اللسان: (2/390) .

وورد الحديث من رواية أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنهما – في حلية الأولياء: (7/89) ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: (1/167) عن وهب بن منيه أنه قال: إن جمع المال وغشيان السلطان لا يبقيان من حسنات المرء إلا كما يبقي ذئبان جائعان ضاريان سقطا في حظار فيه غنم، فباتا يجوسان حتى أصبحا.

هذا وللإمام العلم الحافظ الصالح شيخ الإسلام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله تعالى – رسالة فذة مباركة في شرح هذا الحديث، مطبوعة ضمن جامع بيان العلم وفضله:(1/167-183) فانظرها لزاماً.

ص: 129

".

وقد حقق الصحابة الكرام – رضوان الله تعالى عليهم – الزهد في متاع الدنيا وعرضها من مال ومنزلة وجاه، فعلت رتبتهم، وكانوا أفضل ممن جاء بعدهم، ولو عملوا من الصالحات الظاهرة أكثر منهم، روى الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه – قال: أنتم: أي: يا معشر التابعين – أكثر صلاة، وأكثر صياماً من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم –، وهم كانوا خيراً منكم قالوا: وبم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة (1) .

(1) انظر المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/315)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه الطبراني كما في مجمع الزوائد:(10/325)، وقال الهيثمي: فيه عمارة بن يزيد صاحب ابن مسعود ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات 10هـ وعمارة موجود في سند الحاكم ولكن ليس بالصفة التي ذكرها الهيثمي، بل هو عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فتأمل كلام الهيثمي، وانظر سند الطبراني، وانظر الأثر في كتاب الزهد والرقاق:(173)، وحلية الأولياء:(1/136) .

ص: 130

وفي كتاب الزهد للإمام ابن المبارك، وحلية الأولياء عن إبراهيم التيمي – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – قال: كم بينكم وبين القوم؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فاتبعتموها (1) .

وما خوف من خاف ممن تقدم ذكرهم من الصحابة الطاهرين من إقبال الدنيا عليهم إلا خشية نقصان درجتهم عند رب العالمين، لأن كل من أصاب من الدنيا نعيماً نقص من درجاته عند رب العالمين، وإن كان عليه كريماً، روى ذلك ابن أبي الدنيا بسند جيد عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ونص كلامه: لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله – جل وعلا – وإن كان عليه كريماً (2) .

(1) انظر كتاب الزهد والرقاق: (194)، وحلية الأولياء:(4/212)، وروي عنه في:(4/214) أنه قال: إن من كان قبلكم يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم، ولهم من القدم ما لهم، وأنتم تتبعونها وهي مدبرة عنكم ولكم من الأحداث مالكم، فقيسوا أمركم وأمر القوم، وكان يقول كما في الحلية:(4/215) إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه، انظر أخباره الطيبة، وترجمته العطرة في صفة الصفوة:(3/90-92)، وفيه كانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وذكر سبباً لذلك يدل على نبله وفضله فانظره لزاماً وانظر تذكرة الحفاظ:(10/73) وتهذيب التهذيب: (1/176-177) .

(2)

انظر الترغيب والترهيب: (4/163)، وفيه: رواه ابن أبي الدنيا وإسناده جيد، وروي عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً، والموقوف أصح، ونقل الحافظ في الفتح:(11/280) كلام المنذري في حكمه على سند الموقوف بأنه جيد، ولم يعترض عليه.

ص: 131

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين، ورفع من قلبه حب الدنيا والتعلق بها آمين لي وللمسلمين –: ولأثر ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – شواهد ثابتة في الشرع المطهر، واضحة المعنى ظاهرة الدلالة كوضوح الشمس في رابعة النهار، وكظهور القمر ليلة البدر، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم الأجر" وفي لفظ لمسلم وغيره أيضاً: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم (1)

(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم –: (3/1514-1515)، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في السرية تخفق –:(3/18)، وسنن النسائي – كتاب الجهاد – باب ثواب السرية تخفق –:(6/16)، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب النية في القتال:(2/931)، والمسند:(2/169) .

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم –: (13/52) : وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم وأن الغنيمة هي في مقابل جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – كقوله: منا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها، تقدم في صفحة:(.....) تخريج هذا القول، فهذا الذي ذكرناه هو الصواب، وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا فتعين حمله على ما ذكرناه 10هـ وكذلك قرر الحافظ في الفتح:(6/8-10)، والألوسي في روح المعاني:(11/28) .

ص: 132

". أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يرفع من قلوبنا التعلق بزهرة الدنيا وزينتها لحب لقاءه، ونحظى برضاه، إنه مولانا وحسبنا ونعم الإله ربنا (1) .

مسألة جليلة:

يتعلق بالخوف من سوء الخاتمة، بالأسباب المفضية إليها أمر مهم ينبغي التنبيه عليه، وهو: الاستثناء في الإيمان، أي: قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الرحمن ووجه تعلق هذه المسألة بخوف سوء الخاتمة، وبالأمور الموصلة إليها، أن المؤمن لا يخلو من تقصير، ولا يعلم إلى أي شيء سيصير، وكم وكم يختم لمدعي الإيمان بموجب خلوده في النيران – نسأل الله الكريم السلامة من ذلك، والنجاة من جميع المهالك، فهو الرحيم المالك – وإليك تفصيل القول في ذلك.

للناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، وفي الكتب مزبورة:

القول الأول:

حرم الاستثناء في الإيمان على المكلفين من البرية، طائفة من الحنفية وعدد من الفرق الزائغة الغوية، وهم: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والجهمية.

وحجتهم في ذلك أمران باطلان:

الأمر الأول:

تفسيرهم للإيمان بالتصديق الذي بقلب الإنسان، دون اعتبار العمل بالأركان، وزعموا أن التصديق لا تتفاوت نسبه في الإنس والجان، وعليه فلا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأنه متحقق بالجنان، وثابت بالبرهان.

الأمر الثاني:

(1) من أدعية أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – كما في الحلية: (1/219) والزهد – الرقاق –: (224)، وصفة الصفوة:(1/639) : اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال وكان يقول كما في الحلية: (1/217-218) : يا أهل دمشق ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون، فقد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولاداً، فمن يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟

ص: 133

زعمهم أن من استثنى في إيمانه من المكلفين، فهو من الشاكين، وذلك كفر برب العالمين، ويوجب لصاحبه الخلود في سجين.

والأمران باطلان يا طالب العلم الهمام، فاحذر تلك الوساوس والأوهام

* أما الأول فمنقوص من وجهين:

1-

قصر الإيمان على التصديق بالجنان مخالف لصريح القرآن، وللأحاديث المتواترة عن خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – ولما أجمع عليه سلفنا الكرام – عليهم الرحمة والرضوان – من أن الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة والإذعان، وينقص بالفسوق والعصيان (1) .

(1) انظر إيضاح هذا وتقريره في فتح الباري: (1/46-47)، وشرح النووي لصحيح مسلم:(1/144-150) ، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب بيان أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، والرد على المرجئة:(1/33-47)، وكتاب الإيمان ابن منده:(1/305) فما بعدها باب ذكر ما يدل على أن اسم الإيمان واقع على من يصدق بجميع ما أتى به المصطفى – صلى الله عليه وسلم – عن الله نية وإقراراً وعملاً وإيماناً – وباب ذكر ما يدل على أن الإيمان هو الطاعات كلها –: (1/327) فما بعدها، وباب ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد وينقص:(2/341) ، فما بعدها وانظر كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ضمن المجلد السابع من مجموع الفتاوى، وانظر كتاب الإيمان لابن أبي شيبة وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام كل منهما في خمسين صفحة.

ص: 134

2-

على التنزل في تفسير الإيمان بالتصديق فقط، فالقول بعدم تفاوت نسبة التصديق غلظ، لان نفس التصديق يزيد بكثرة الأدلة وتظاهرها، فالاعتقاد عقدة على القلب تارة تشتد وتقوى، وتارة تضعف وتسترخي، كحال العقدة على الخيط تماماً، يضاف إلى ذلك أن القيام بالأعمال يؤثر في نمام التصميم وزيادته، كما يؤثر سقى الماء في نماء الأشجار، ولذينك الاعتبارين كان إيمان الصديقين، أقوى من إيمان سائر المكلفين، فلا تؤثر فيهم وساوس الشياطين، بل لا تعتريهم شبهة في الدين، ولا تزال قلوبهم منشرحة بنور رب العالمين في كل حين، ولا يحصل ذلك المقام الكريم لغيرهم من المؤمنين ولا يشكك في هذا ذو عقل سليم (1) .

وإذا ذانك الوجهان – وهما ثابتان بالبرهان – فيصح الاستثناء في الإيمان، لأنه غير متحقق على وجه التمام، فاعلم هذا يا أخا الإسلام.

* وأما الأمر الثاني فمردود أيضاً:

لأن الاستثناء في الإيمان، لا يعني شك الإنسان في ربنا الرحمن، بل ذلك اعتبارات حسان، عند سلفنا الكرام، سيأتيك بيانها بالحجة والبرهان، عند القول الثالث إن شاء ذو الجلال والإكرام.

القول الثاني:

أوجب أبو يعلى وطائفة من المحدثين الكرام الاستثناء في الإيمان، وحجتهم في ذلك بعض حجج القول الثالث، وسأنبه عليها عند بيان القول الثالث واستعراض حججه فانظرها هناك.

القول الثالث:

قول السلف الأخيار وهو مذهب أهل السنة الأبرار، أن كل من الاستثناء وعدمه جائزان باعتبار، لكن لما نبز أهل البدع الأشرار، أهل السنة الأطهار، بأنهم شكاك (2) ولاستثنائهم في إيمانهم بالعزيز الغفار، استحب أهل السنة الكرام، الاستثناء في الإيمان، رداً على أهل الزيغ والطغيان، وإليك تفصيل قولهم بالبرهان.

أولاً:

(1) انظر تفصيل ذلك وتقريره في إحياء علوم الدين: (1/125)، وشرح صحيح مسلم:(1/148-149) .

(2)

انظر نبز المرجئة لأهل السنة بذلك اللقب الشنيع في مجموع الفتاوى: (5/111، 7/666) .

ص: 135

.. جواز ترك الاستثناء في الإيمان برب الأرض والسماء، نظراً لدخول المكلف في الإيمان، وجريان أحكامه عليه في دار الامتحان، عندما يقر بعقيدة الحق باللسان، قال الإمام سفيان الثوري – عليه رحمة ربنا الرحمن –: نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما ندري ما نحن عند الله – عز وجل – وقال أيضاً: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في المناكحة والطلاق والأحكام فأما عند الله – جل وعلا – فلا ندري ما هم، وقال أيضاً: نحن مؤمنون، والناس عندنا مؤمنون، وهؤلاء القوم – أي: أهل البدع من المرجئة وأشباههم – يريدون منا أن نشهد أنا عند الله مؤمنون، ولم يكن هذا فعال من مضى (1) .

ثانياًَ:

جواز الاستثناء في الإيمان برب الأرض والسماء لأربعة أشياء:

1-

للشك في كمال الإيمان لا في أصله عند الإنسان، فكل مكلف لا يجزم ببلوغه في إيمانه درجة التمام، بل عنده شيء كثير من النقصان، يدل على هذا وجهان سديدان:

الوجه الأول:

لا يتحقق كمال الإيمان إلا بالبراءة من النفاق، ولا يسلم مكلف منه باتفاق، كما تقدم تقرير ذلك، فمل عن الشقاق.

الوجه الثاني:

(1) انظر نسبة تلك الأقوال إليه في الإحياء: (1/127)، ومسائل الإمام أحمد:(274) ، وشرح السنة (1/42)، وفي مجموع الفتاوى:(7/669) وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عني به أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه، وفي شرح صحيح مسلم:(1/150) : فمن أطلق نظر إلى الحال، وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال.

ص: 136

.. يشترك لكمال الإيمان، القيام بطاعة الرحمن، ولا يمكن لأي مكلف كان أن يدعي حصولها على وجه الكمال والتمام، قال ذو الجلال والإكرام:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال2-4، وقال – جل جلاله –:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات15، وقال – عز وجل –:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة177، فمن ادعى كمال الإيمان فعليه بتحقيق تلك الأوصاف الحسان، ليكون من المؤمنين حقاً عند الرحمن، ومن الصادقين في دعواهم بالبرهان، وقد ثبت عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1)

(1) وورد الحديث بلفظ: "بضع وستون شعبة" ولا منافاة بين الروايتين لأن القليل داخل في الكثير، انظر روايات الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب أمور الإيمان –:(1/51) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها، وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان:(1/63)، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في رد الإرجاء:(5/55-56)، وسنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه:(7/278-279)، وسنن النسائي – كتاب الإيمان وشرائعه – باب ذكر شعب الإيمان –:(8/96-97)، وسنن ابن ماجه – المقدمة – باب في الإيمان –:(1/22)، والمسند:(2/379، 414، 445)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الإيمان – باب ما جاء في شعب الإيمان:(1/23)، وشرح السنة – كتاب الإيمان – باب بيان أن الأعمال من الإيمان:(1/34)، وكتاب الإيمان لأبي عبيد:(60-61) كلهم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –.

ص: 137

". فمن قام بجميع شعب الإيمان فقد صدق في دعواه الإيمان، واستحق دخول الجنان، ونيل رضوان الرحمن، ومن لا فأمره موكول لمشيئة ذي الجلال والإكرام، ولا ينبغي له أن يجزم بدعوى الإيمان، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء ربنا الرحمن، وهذا هو المنقول عن السلف الكرام، روى أبو عبيد في كتاب الإيمان عن الحسن البصري – رحمهما الله تعالى – قال: قال رجل عند عبد ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: فأنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو: فقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ وروى عبد الرزاق في مصنفه عن شقيق – رحمهما الله تعالى – قال: كنا مع ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في سفر، فلقي ركباً، فقلنا: من القوم؟ قالوا: نحن المؤمنون، فقال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: فهلا قالوا نحن من أهل الجنة؟ قال الشيخ ابن تيمية نقلاً عن الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري – عليهما رحمة الله تعالى –: فذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان، فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة – رحمهم الله جميعاً – الاستثناء في الإيمان، وهذا متواتر عنهم وصرحوا بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه (1) .

(1) انظر أثر ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الإيمان لأبي عبيد: (67-68)، ومصنف عبد الرازق:(11/127)، وورد في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة أيضاً:(9، 46)، وانظر ما نقله الشيخ ابن تيمية عن الشيخ الأنصاري في مجموع الفتاوى:(7/438-439)، باختصار يسير وفي الإحياء:(1/127)، وقيل للحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى –: أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله – سبحانه وتعالى –: كذبت يا حسن، فتحق عليّ الكلمة، وكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله – جل وعلا – قد اطلع عليّ في بعض ما يكره، فقال: اذهب فلا قبلت لك عملا، فأنا أعمل في غير معمل.

ص: 138

2-

للشك في الخاتمة، فلا يدري الإنسان، أيختم له عند الموت بالإيمان، أم يسلب عنه في ذلك الأوان، وقد تقدم بيان شدة خوف سلفنا الكرام من سوء الختام، ولذلك ينبغي على الإنسان الاستثناء في الإيمان، وتعليل الاستثناء بخوف سوء الخاتمة مع صحته، وبه علل كثير من المتأخرين، فليس ذلك التعليل مراداً من قول ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – ومما شاكله من أقوال السلف الكرام، ومن فهم ذلك من كلامهم فهو غالط عليهم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: إن الإمام أحمد وغيره من السلف – عليهم رحمة الله تعالى – لم يكن هذا مقصودهم – أي: تعليل الاستثناء بخوف سوء الخاتمة – وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله – جل وعلا –، وأنا مؤمن تقي، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك، وابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت، فإن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أجل قدراً من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله أعلم، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية، يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات، وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك (1) .

(1) انظر مجموع الفتاوى: (7/417-418)، وورد تقرير ذلك أيضاً في:(7/432، 439، 669) .

ص: 139

والحاصل: أن تعليل الاستثناء في الإيمان بخوف سوء الخاتمة تعليل صحيح مقبول، وإن لم يكن ذلك التعليل هو المراد من قول أئمة السلف الفحول، قال الإمام البغوي – عليه رحمة ربنا القوي –: ويجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده مت حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله – تبارك وتعالى – فيه عليه، فإن أمر السعادة والشقاء يبتني على ما يعلم الله من عبده، ويختم عليه أمره لا على ما يعلمه العبد من نفسه (1) .

(1) انظر شرح السنة: (1/41)، ونحوه في إيحاء علوم الدين:(1/129-130)، والمنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج:(1/150) .

ص: 140

3-

خشية تزكية النفس، والله – جل وعلا – قد نهى عن ذلك وحذر منه، فقال – جل وعلا –:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} النجم32، وقال – جل جلاله –:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} النساء49-50، وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح؟ قال: ثناء المرء على نفسه، وعقب الغزالي على هذا بقوله: والإيمان من أعلا صفحات المدح، والجزم به تزكية مطلقة، وصيغة الاستثناء كأنها نقل من عرف التزكية، كما يقال للإنسان: أنت طبيب، أو فقيه، أو مفسر؟، فيقول: نعم، إن شاء الله – تبارك وتعالى – لا في معرض التشكيك، ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه، فالصيغة صيغة الترديد، والتضعيف لنفس الخبر، ومعناه التضعيف للازم من لوازم الخبر وهو التزكية (1)، ولذلك لما قيل لعلقمة – عليه رحمة الله تعالى – أمؤمن أنت؟ قال: أرجو (2) .

(1) انظر الإحياء: (1/127)، ونحوه في مجموع الفتاوى:(7/668)، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام:(69) ، واعلم أنه لا ينبغي للإنسان أن يخبر بمحاسن نفسه إلا لمصلحة شرعية، كما قال نبي الله يوسف – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف55، وانظر ذلك في الإحياء:(3/278) .

(2)

روى ذلك عنه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان: (9)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان أيضاً:(68)، ونقله عنه الغزالي في الإحياء:(1/127) .

ص: 141

4-

طلباً للتأدب بذكر الله – جل وعلا – في كل حال، وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله – تبارك وتعالى –، فبذلك أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – فقال – جل وعلا –:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} الكهف23-24، ولم يقصر ربنا ذلك على ما يشك فيه، بل جعله أيضاً فيما لا يشك في حصوله، وهو واقع لا محالة، فقال – جل وعلا –:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح27، ولذلك كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن شاء الله فيما يخبر عنه معلوماً كان أو مشكوكاً كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: أتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم المقبرة، فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وفيه أيضاً عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية (1) ،

(1) تقدم تخريج الحديثين الشريفين في هذا الكتاب المبارك ك (

/196) ..

ص: 142

ومن المعلوم أن اللحوق بهم غير مشكوك، ولكن مقتضى الأدب ذكر الله – جل وعلا – وربط الأمور به، وهذه الصيغة دالة عليه، حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني، فإذا قيل لك: إن فلاناً سيموت سريعاً، فتقول: إن شاء الله، فيفهم منه رغبتك لا تشكك، وإذا قيل لك: فلان سيزول مرضه ويصح، فتقول: إن شاء الله، بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة، وكذلك العدول إلى معنى التأدب بذكر الله – تبارك وتعالى – كيف كان الأمر (1) .

(1) هذا تقرير الإمام الغزالي في الإحياء: (1/127-128)، وبه قال سلفنا الكرام ففي كتاب الإيمان لأبي عبيد بن سلام عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن" لقول الله – عز وجل –: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ" وقد علم أنهم داخلون، ونحوه في مجموع الفتاوى:(7/668-229، 682) .

ص: 143

وهذه الاعتبارات الأربعة للاستثناء في الإيمان هي عمدة من قال بموجب الاستثناء في الإيمان، لا سيما على الاعتبارين الأوليين ويليهما الثالث، لكن القول بالوجوب في كل حال وعلى كل اعتبار غير مسلم وقد علمت وجه اعتبار عدم الاستثناء في الإيمان عند أهل السنة الكرام، وعليه فالوجهان جائزان، وهذا هو العدل من الكلام، في هذه المسألة العظيمة الشأن، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: والقول بالتخيير حسن صحيح نظراً إلى مأخذ القولين، ورفعاً لحقيقة الخلاف، وقال الإمام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: وأما الاستثناء في الإيمان فالناس فيه على ثلاثة أقوال، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال، وكرر ذلك الكلام أيضاً، فقال: ومنهم من يجوزه أو يستحبه، وهذا أعدل الأقوال، وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز رداً على من نهى عنه، وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام – عليه رحمة الله تعالى –: كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه واسعين (1) .

* خوف سلفنا الصالحين من رب العالمين – جل وعلا –:

(1) انظر شرح صحيح مسلم: (1/150)، ومجموع الفتاوى:(7/429، 666، 681) والإيمان لأبي عبيد: (68) .

ص: 144

.. سأختم بحث الخوف من ربنا العظيم، بذكر نماذج من خوف سلفنا الطيبين، لنحذو حذوهم الكريم، ونحظى برحمة أرحم الراحمين، فعند ذكرهم تنزل الرحمات، ويرضى رب الأرض والسموات (1) .

(1) ولذلك قال سفيان ابن عيينة – عليه رحمة الله تعالى –: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، كما في مسائل الإمام أحمد لأبي داود:(283)، وصفة الصفوة:(1/45)، والمصنوع من معرفة الحديث الموضوع:(125)، والأسرار المرفوعة:(249-250)، والمقاصد الحسنة:(292)، وتمييز الطيب من الخبيث:(110)، وأسنى المطالب:(140) ، وليس لهذا الأثر أصل في المرفوع، وفي علوم الحديث لابن الصلاح:(368) مع المحاسن: روينا عن أبي عمر وإسماعيل بن نجيد أنه سال أبا جعفر أحمد بن حمدان – وكانا عبدين صالحين – فقال له: بأي نية أكتب الحديث؟ فقال: ألستم تروون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: نعم، قال: فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأس الصالحين 10هـ قال الشيخ القاري في الأسرار المرفوعة: (250) إن كان "تروون" بواوين فيدل في الجملة على أنه حديث، وله أصل، وإن كان "ترون" من الرواية مجهولاً أو معلوماً فلا دلالة فيه إذ معناه: تعتقدون أو تظنون 10هـ والذي يظهر لي – والله تعالى أعلم – أن لفظ "تروون" وإن كان بواوين، فلا دلالة فيه على أنه حديث، لأن معناه: تروون عن غيركم من العلماء موقوفاً عليهم من قولهم، وانظر أثر أبي عمرو بن الجنيد المتقدم في فتح المغيث:(2/313)، وقد نسب الغزالي في الإحياء:(2/231) كلام ابن عيينة المتقدم حديثاً مرفوعاً، وتعقبه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، فقال: ليس له أصل في المرفوع، وإنما هو من كلام سفيان بن عيينة، كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة.

هذا وقد ورد عن سلفنا الطيبين الحث على ذكر الصالحين ففي أسد الغابة: (4/162) قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: أكثروا ذكر عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – فإنكم إذا ذكرتموه ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله – تبارك وتعالى –.

ص: 145

* خوف صديق هذه الأمة أبي بكر – رضي الله تعالى عنه –:

تقدمت الإشارة إلى شدة وجله، وكثرة بكاءه، حتى أبكى من حوله، عندما استسقى فأتي بماء وعسل وسأقتصر على ذكر خبرين موجزين من أخباره الكثيرة الشهيرة، الدالة على عظيم خوفه من ربنا ذي النعم الكثيرة، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن أبي عمران الجوني قال: قال أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه –: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، وروى الحسن البصري قال: قال أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه –: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد (1) ، وإذا كان هذا حال صديق هذه الأمة في الخوف من ربه، فكيف ينبغي أن يكون حال غيره، ولكن هيهات أن يصل أحد إلى ذلك المطلوب، لأن الخوف ليس من كثرة الذنوب، إنما هو من صفاء القلوب، ومراقبة علام الغيوب.

* هذه الأمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –:

(1) انظر كتاب الزهد ك (108، 112)، ونقلهما ابن الجوزي في صفة الصفوة:(1/251)، والأثر الثاني في مختصر منهاج القاصدين:(334) .

ص: 146

تقدمت الإشارة – أيضاً – إلى شدة خوفه، بحيث كان يسأل حذيفة بن اليمان وأمنا أم سلمة عن نفسه – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –،ويقول: هل سماني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المنافقين؟ وقد بلغت به شدة الخوف مبلغاً عظيماً، حتى صار في وجهه المبارك خطان أسودان من كثرة البكاء خشية للرحمن، وسأقتصر أيضاً على خبرين من أخباره المتواترة، الدالة على شدة وجله مما يكون في الدار الآخرة، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أخذ تينة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التينة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني ليتني لم أك شيئاً، ليتني كنت نسياً منسيا (1) . وهذا القول كقول سابقه أبي بكر –رضي الله تعالى عنهما –، فلما ظهرت القلوب، تماثلت الأقوال في الدلالة على الخوف من علام الغيوب.

وكان – رضي الله تعالى عنه – شديد المحاسبة لنفسه، ليحظى برضوان ربه، وكان يحث الرعية للاتصاف بتلك الرتبة العلية قال ثابت بن حجاج قال عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب إذا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (2) .

(1) انظر إحياء الأثر في صفة الصفوة: (1/285)، وتاريخ عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –:(187) وإحياء علوم الدين: (4/180) .

(2)

انظره في الزهد لابن المبارك: (103)، والزهد للإمام أحمد:(120) وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة –: (7/166) ، ويروي..... فذكره، وقوت القلوب:(1/157)، وحلية الأولياء:(1/52) والإحياء: (4/391)، وصفة الصفوة:(1/286)، وتاريخ عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه –:(201)، وذم الهوى:(40)، والمصباح المضيء:(1/353، 2/7)، وأسد الغابة:(4/172)، ومختصر القاصدين:(401)، ومحاضرة الأبرار لمن هو من الأشرار:(1/136) .

ص: 147

* خوف الصحابة الأبرار من العزيز الغفار:

من تأول حال الصحابة الكرام تحقق عنده بالبرهان، شدة خوفهم من ربنا الرحمن، فكانوا – رضي الله تعالى عنهم – يقلون الكلام، ويبتعدون عن الحرام، ويصلون بالليل والناس نيام، وأعينهم تفيض بالدمع لرب الأنام، ثم هم في النهار فرسان في نشر دين الإسلام، وباختصار يقول الواقف على أحوالهم الحسان: إنهم كانوا في حياتهم كأنهم ينظرون إلى ما في الآخرة رؤيا عيان، روى أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن الجوزي في صفة الصفوة أن علياً – رضي الله تعالى عنه – صلى صلاة الفجر، فلما سلم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح، قال وقلب يده: لقد رأيت أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما أرى اليوم أحدا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله – جل وعلا – يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله – عز وجل – مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح ن وخملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين (1) .

ولقد أخبر ابن عباس عن حال الصحابة الطيبين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال: قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله – عز وجل – موقفنا (2) .

(1) انظر الأثر في حلية الأولياء: (1/76)، وصفة الصفوة:(1/331-332)،وإحياء علوم الدين:(4/180)، ومختصر منهاج القاصدين:(334) .

(2)

ورد ذلك في إحياء علوم الدين: (4/181) .

ص: 148

.. وثبت في السنن بسند صحيح حسن عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – قال: صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم – صلاة الغداة – ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" الحديث (1) .

* خوف التابعين من رب العالمين:

(1) انظر تكملة الحديث وتخريجه مفصلاً في صفحة: (.....) من هذا الكتاب المبارك.

ص: 149

سار المهتدون من التابعين، على هدي الصحابة الطاهرين، في الخوف من رب العالمين، وسيبقى ذلك ديدن الصالحين، إلى يوم الدين، جعلنا الله الكريم منهم بمنه ورحمته آمين آمين وإليك بعض نماذج من أحوالهم النفيسة، لتكون زاداً لك في هذه الدنيا الخسيسة، روى أبو نعيم في الحلية عن إمام التابعين الحسن البصري – عليه رحمة رب العالمين – أنه قال: يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله – تبارك وتعالى – مشهده، أن يطول حزنه في الدنيا، وكان يقول: إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً وإن كان محسناً لا يصلحه إلا ذلك، ولا يمسي إلا خائفاً، وإن كان محسناً، لأنه بين مخافتين، بين ذنب قد مضى لا يدري ماذا يصنع الله – تبارك وتعالى – فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك، وقال أيضاً: إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله – جل وعلا –، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشيء بعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من وصلة إليك، هيهات قد حل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا والله مالي عذر بها، ووالله لهذا أبداً إن شاء الله تعالى، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، ولا يأمن شيئاً حتى يلقى الله – عز وجل – يعلم أنه مأخوذ عليه في ذلك كله، وقال أيضاً: المؤمن من يعلم أن ما قال الله – عز وجل – كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين – أي: الجنة، ويدخلها – لا يزداد صلاحاً وبراً وعبادة إلا ازداد فرقاً يقول: لا أنجو وكان يقول: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن، إلا حزن، وذبل، وإلا نصب، وإلا ذاب وتعب، والله يا بن

ص: 150

آدم لئن قرأت القرآن، ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك وليكثرن في الدنيا بكاؤك (1) .

وقد كان رحمه الله تعالى – يلتزم بما يقول، وينتصح بما ينصح به غيره، ففي الحلية وصفة الصفوة عن إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: ما رأيت أطول حزناً من الحسن، وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وفي صفة الصفوة عن حكيم بن جعفر قال: قال لي مسمع: لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج، وفيه عن محمد بن سعد قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز – رحمهم الله جميعاً – كأن النار لم تخلق إلا لهما، وعن خفص بن عمر قال: بكى الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا أبالي (2) .

(1) انظر تلك الأخبار في الحلية: (2/132، 133، 153، 157-158)، والخبر الأول ذكره الحافظ في الفتح:(11/320)، وانظر بعض تلك الأخبار في صفة الصفوة:(3/234-235)، والزهد للإمام أحمد:(258-259) .

(2)

انظر حلية الأولياء: (2/133)، وصفة الصفوة:(3/233)، والزهد للإمام أحمد:(259، 266) ومن أجل وجود تلك الصفات المباركات فيه شهد له معاصروه بأنه على هدي الصحابة الأبرار ففي طبقات ابن سعد: (7/161-162)، قال أبو قتادة العدوي: عليكم بهذا الشيخ – يعني الحسن البصري – فإني والله ما رأيت رجلاً قط أشبه رأياً بعمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – منه، وقال أبو إسحاق الهمداني: كان الحسن يشبه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وروى في: (7/174) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة في المسجد، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات عليه رحمة رب الأرض والسموات.

ص: 151

وفي إحياء علوم الدين: مر الحسن – عليه رحمة الله تعالى – بشاب وهو مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكاً، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد كيف أصبحت؟ قال: بخير: كيف حالك؟ فقال الحسن: تسألني عن حالي، ما ظنك بناس ركبوا سفينة، حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكونون؟ قال الرجل: على حال شديدة، قال الحسن: حالي أشد من حالهم، قال الغزالي: وروي أنه ما ضحك الحسن أربعين سنة، وكنت إذا رأيته قاعداً كأنه أسير قدم لتضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإن سكت كأن النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة خوفه وحزنه، فقال: ما يؤمنني أن يكون الله – عز وجل – قد اطلع علي في بعض ما يكره، فمقتني فقال: اذهب فلا غفرت لك، فأنا أعمل في غير معتمل (1) .

(1) انظر الإحياء: (4/181، 183-184)، وانظر الخبر الأول في كتاب الزهد لابن المبارك:(105) وشبيه بالخبر الثاني في الزهد للإمام أحمد: (262) .

ص: 152

وإذا كان يزيد بن حوشب يقول: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز وكأن النار لم تخلق إلا لهما، وقد علمت مما تقدم من النقول حال الحسن، فاسمع إلى حال عمر بن عبد العزيز كما تخبر من تخالطه في سره وتطلع على حقيقة أمره، ألا وهي زوجه فاطمة – رحمهم الله تعالى جميعاً – روى الأئمة الكرام ابن المبارك، وأحمد، وأبو نعيم عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة قد يكون في الرجال من هو أكثر صلاة وصوماً من عمر بن عبد العزيز، ولكن لم أر رجلاً من الناس قط كان أشد فرقاً من ربه – عز وجل – من عمر بن عبد العزيز، كان إذا دخل بيته ألقى بنفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو، حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع (1) .

وروى أبي نعيم في الحلية عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك أن عمر بن عبد العزيز بكى فبكت زوجته فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: يا أبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ فقال: ذكرت – يا فاطمة – منصرف القوم من بين يدي الله – عز وجل – فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته (2) .

(1) انظر الزهد لابن المبارك: (308)، والزهد للإمام أحمد:(299)، والحلية:(5/260) .

(2)

انظر الخبرين في حلية الأولياء: () 5/269، 316) ، والأول في البداية والنهاية:(9/264)، وصفوة الصفوة:(2/121)، ونحو الخبر الثاني في الزهد لابن المبارك:(309) .

ص: 153

وكان يوصي الناس بإصلاح السرائر والاستعداد لليوم الآخر فيقول: يا أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم – علي نبينا وعليه الصلاة والسلام – أب حي لمغرق حتى الموت (1) .

واعلم أخي الكريم أن غالبية سلفنا الطيبين كانوا على ذلك الخلق العظيم فالإمام عبد الأعلى التيمي – عليه رحمة الله تعالى – يقول: شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله – عز وجل – (2) .

وقد بلغ بهم الخوف من الرحمن – جل وعلا – مبلغاً عظيماً قال الجنيد سمعت السري السقطي – عليهما رحمة الله تعالى – يقول: إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود، وقال إبراهيم بن أدهم كان عطاء السلمي – عليهما رحمة الله تعالى – يمس جلده بالليل خوفاً من ذنوبه، مخافة أن يكون قد مسخ (3) .

(1) كما في الحلية: (5/265-266)، وقد أخبرت زوجه فاطمة كما في الحلية:(5/315) أن جل مرضه كان بسبب خوفه من ربه – عز وجل – وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: (291) بكى عمر بن عبد العزيز حتى بكى الدم.

(2)

كما في حلية الأولياء: (5/89)، وتقدم في صفحة:(....) من هذا الكتاب المبارك نقل الكلام عنه في ملازمة البكاء للعلماء الأتقياء.

(3)

انظر الخبر الأول في الحلية: (10/116)، وصفة الصفوة:(2/376)، وإحياء علوم الدين:(4/181)، ومختصر منهاج القاصدين:(335)، والخبر الثاني في الحلية:(6/222)، والإحياء:(4/182) .

ص: 154

قال العبد الخطاء مقيد هذه الأخبار عن أئمتنا الأتقياء: كيف لا يعظم خلف سلفنا النجباء من مالك جميع الأشياء، وقد دلت آيات القرآن الكريم، أنه لا تحصل النجاة من دار الجحيم، والفوز بدار النعيم، إلا بالخوف من رب العالمين، فاستمع للدلالة على ذلك من آي الذكر الحكيم حسبما نقل عن سلفنا الصالحين، روى أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم التيمي – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فاطر34، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة، لأنهم قالوا:{إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} الطور26 (1) اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية، واجعل سرنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا صالحة، واختم لنا بما يرضيك عنا، واجعل خير أيامنا يوم لقاك، بفضلك ورحمتك يا من لا يخيب من رجاك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ثانيا: رجال المؤمنين، رحمة أرحم الراحمين:

تقدم البرهان على أن الخوف والرجاء متلازمان، وتقدم أيضاً البيان على أن ما يقع في قلب الإنسان من الأمور المستقبلة في الأزمان، إن كانت من الخيرات الحسان، حصل للقلب تعلق بها، وطمع في وجودها، ورغبة في حصلوها، وارتياح بسبب حلولها، وذلك هو الرجاء.

وبناء على ما تقدم يقال في تعريف الرجاء: إنه ارتياح القلب لانتظار محمود تمهدت أسبابه الدخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس في اختياره، وهو فضل الرب – جل وعز –.

وفي تعريف الرجاء أمران مهمان، ينبغي أن يعرفهما بنو الإسلام وهما:

(1) انظر حلية الأولياء: (4/215) والآية الأولى من سورة فاطر: (33)، والآية الثانية من سورة الطور:(26) .

ص: 155

الأمر الأول: لا يطلق اسم الرجاء إلا على ما يقع التردد في حصوله، فلا يقال ذلك اللفظ فيما هو مقطوع في حصوله، كما هو الحال في الخوف تماماً، يقال: أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه، وأرجو مغفرة ذنوبي يوم الحساب، وأخاف من المؤاخذة والعقاب، ولا يقال: أرجو نزول المطر وقت نزوله، وأخاف انقطاعه وقت انقطاعه، وأرجو قيام القيامة، وأخاف عدم قيامها.

الأمر الثاني: إذا لم يبذل المكلف ما في وسعه من الأسباب، فهو في دعوى الرجاء كذاب، وذلك حماقة وغرور، وعجز وتمن من قبل أهل الشطط والثبور، وإليك تقرير هذا بالأمثلة الحسيات، ثم إقامة البرهان عليه بالأدلة البينات (1) .

المثال الأول:

من رجا حصول الولد بذل ما في وسعه من الأسباب الممكنة للحصول عليه بطريقة محكمة، فيسعى في تحصيل منكح له قابل للولادة، ولا يكفي حصوله عنده لوجود الولد، حتى يلقي البذر فيه عند أهل الرشد، وهذا ما في وسه كل أحد، ثم يرجو فضل ربه الصمد، في خلق الولد، ودفع الآفات عنه وعن أمه إلى أن يكتمل حمله، ويتسهل خروجه، فمن قام بذينك الأمرين: بذل ما في الوسع، وانتظار فضل الرب – جل وعلا – فهو كيس عاقل.

ومن رجا الولد ولم ينكح ما هو قابل للولادة، أو نكح ولم يلق في منكوحه البذر فهو أحمق مغرور باتفاق أهل العقول، ولا يعتبر ذلك من الرجاء عند الأذكياء الأزكياء، بل هو عته وسفاهة باتفاق العقلاء.

وهكذا الحال في رجاء رحمة رب الأرض والسماء، سواء بسواء، فمن رجاها، ولم يعمل بمقتضاها، فهيهات هيهات أن يلقاها.

المثال الثاني:

(1) انظر إيضاح هذا في إحياء علوم الدين: (4/139)، ومدارج السالكين:(2/35)، ومختصر منهاج القاصدين:(316-318)، وموعظة المؤمنين:(342)، واتحاد السادة المتقين:(9/165-166)، والتعريفات:(97) – باب الراء –.

ص: 156

.. إذا رجا المزارع محصولاً طيباً، طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم أمده بما يحتاج إليه، وهو: سوق الماء إليه في أوقاته، ثم نقى الأرض من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، وهذا الأمر في وسعه، فإذا انتظر بعد ذلك فضل ربه – جل وعز – في دفع الصواعق، والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبغ غايته فهو راج حقيقة، وانتظاره رجاء حقاً.

وأما إذا بث المزارع في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، أو كان البذر عفناً مسوساً، ثم انتظر محصولاً جيداً فهو مغرور بلا ارتياب، فكيف يكون حكمه إذا لم يلق في الأرض بذراً أصلاً عند أولي الألباب، لا شك أنه في رجاءه أحمق كذاب، وذلك الرجاء سفاهة وتباب.

ص: 157

فاعتبروا بذلك يا أهل العقول، وقيسوا رجاء العبد رحمة العزيز الغفور، برجاء المزارع بلوغ المأمول، وجودة المحصول، فالدنيا مزرعة الآخرة عند الأكياس العدول (1)

(1) جملة: "جملة مزرعة الآخرة" أوردها الغزالي في الإحياء: (4/19) على أنها حديث نبوي وقال العراقي في تخريجه: لم أجده بهذا اللفظ مرفوعاً، وروى العقيلي في الضعفاء، وأبو بكر ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم:"نعمت الدنيا لمن تزود منها لآخرته" وإسناده ضعيف 10هـ، ونص السبكي في طبقات الشافعية:(6/356) على أن ما أورده الغزالي لم يجد له إسناداً، وذكره الصفاني في الموضوعات:(55)، وقال عنه السخاوي في المقاصد الحسنة:(217) لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في الإحياء، وتبعه على ذلك تلميذه ابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث:(80)، والفتني في تذكرة الموضوعات:(174) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1/412)، والحوت في أسنى المطالب:(151) وعلى القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (101)، والأسرار المرفوعة:(199)، وفيه: ومعناه صحيح يقتبس من قوله – جل وعلا –: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الشورى20، وانظره في الفوائد الموضوعة:(104) .

هذا وقد أخرج الحاكم في المستدرك – كتاب الرقاق –: (4/312-131) عن طارق – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه – عز وجل –، وبئست الدار لمن صدته عن آخرته، وقصرت به عن رضاء ربه، وإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت: قبح الله أعصانا لربه" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: بل منكر، وعبد الجبار بن وهب لا يعرف، روى عنه يحيى بن أيوب العابد 10هـ وقال في الميزان:(2/535)، ونقله عنه ابن حجر في اللسان وأقره:(3/390) : عبد الجبار بن وهب لا يدري من هو، قال العقيلي: حديث غير محفوظ، ثم ذكر له الحديث المتقدم، وقال الذهبي: قال العقيلي: هذا يروى من قول علي – رضي الله تعالى عنه –.

ص: 158

فالقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.

والعبد إذا بث بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله – عز وجل – تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره رجاء حقيقياً في نفسه، باعثاً له على المواظبة، والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت.

وإن قطع العبد عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق، وانهمك في طلب اللذات، ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور، وهو من أهل الزيغ والثبور.

المثال الثالث:

لو استأجر كريم أجيراً، ليقوم بإصلاح بيته وتحسينه، وشرط له أجره معلومة وكان الشارط المستأجر يفي بوعده، بل يزيد عليه بمقتضى كرمه وفضله، فالأجير يتوقع الأجرة على التمام، بل والزيادة عليها بمقتضى الفضل والإحسان، إن قام بالعمل خير قيام وتوقعه رجاء حقاً عند الأنام.

أما إذا هدم الأجير البيت ونقضه، وأتلفه وأفسده، ثم جلس ينتظر الأجرة، ويتوقع عليها الزيادة، اعتماداً على كرم المستأجر وإحسانه فانتظاره غرور، وتوقعه دجل وزور عند جميع أهل العقول.

والله رب العالمين، خلق المكلفين، للقيام بشرعه المبين، ووعدهم على ذلك جنات النعيم، فمن قام بما خلق من أجله، ثم رجا الله الكريم من فضله، فهو راج عند الفضلاء، وحاشا أن يخيب رجاؤه عند رب الأرض والسماء.

ص: 159

ومن عطل جوارحه عن الطاعات، وشغلها بالمخالفات، ثم رجا دخول الجنات، فهو من أهل السفاهات والحماقات عند أهل النهى الزاكيات، وهيهات أن يحصل ما رجاه عند رب الأرض والسموات.

ما بالُ دينك ترضى أن تُدنسَهُ

وثوبك الدهرَ مغسولٌ من الدّنس ِ

ترجو النجاة ولم تسْلكْ مسَالِكها

إنّ السفينة لا تجري على اليَبَس ِ

والله – جل وعلا – قرر هذا في كتابه فقال في سورة آل عمران: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} آل عمران185، فماذا سيوفى من لم يقم بالعمل، ولم يقع منه إلا الفساد والزلل؟ إنه سيعاقب لما جرى منه من الخلل، فإذا طمع صاحب هذه الحالة في المثوبة عند الله – عز وجل – فهو بلا شك من أهل الزيغ والخطل، قال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى –: الفرق بين الرجاء والتمني: أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل (1) .

وإليك بعد تلك الأمثلة الواضحات، الأدلة البينات، من كلام رب الأرض والسموات، وحديث خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات –، وأقاويل سلفنا أهل العقول الزاكيات.

آيات القرآن الكريم:

(1) انظر مدارج السالكين: (2/35) وانظر الأمثلة الثلاثة والكلام عليها في الإحياء: (4/139-140، 3/374)، ومختصر منهاج القاصدين:(317)، وموعظة المؤمنين:(342، 303) .

ص: 160

دل كلام ربنا الرحمن، على أن رجاء نيل الرضوان ودخول الجنات الحسان منوط بعمل الإحسان، والالتزام بشرع الإسلام، قال ذو الجلال والإكرام:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة218، قال الغزالي – عليه رحمة الملك الباري –: معناه: أولئك الذين يستحقون أن يرجوا رحمة الله – تبارك وتعالى – وما أراد به تخصيص وجود الرجاء، لأن غيرهم أيضاً قد يرجو، ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء (1) .

وقال – جل وعز –: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} طه82، فعلق ذو الجلال والإكرام، المغفرة على أربعة شروط حسان: التوبة من جميع الذنوب والآثام، ورسوخ الإيمان في الجنان، وقيام الجوارح بشعائر الإسلام، والاستمرار على ذلك حتى لقاء الرحمن، قال الغزالي – عليه رحمة الله –: وعد المغفرة في جميع كتاب الله – عز وجل – منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، لا بالإيمان وحده (2) .

(1) انظر إحياء علوم الدين: (4/140) وأقره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين: (9/167) وقال القرطبي في تفسيره: (3/50)، وإنما قال:"يرجون" وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله – جل وعلا – كل مبلغ لأمرين، أحدهما: لا يدري بم يختم له، والثاني لئلا يتكل على عمله، ونحوه في السراج المنير:(1/141)، وروح المعاني:(2/111) .

(2)

انظر الإحياء: (3/371)، ونحوه:(4/167)، وانظر تفسير الآية الكريمة كما قررت في الجامع لأحكام القرآن:(11/231)، وتفسير ابن كثير:(3/161)، وروح المعاني:(16/240) .

ص: 161

وقال – جل وعلا –: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فاطر29-30، قال أبو السعود – عليه رحمة الرب المعبود –: والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم 10هـ، وقال الإمام ابن كثير – عليه رحمة ربنا الكبير – يخبر – تبارك وتعالى – عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله – تبارك وتعالى – في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، " سِرّاً وَعَلَانِيَةً "، " يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ " أي: يرجون ثواباً عند الله – عز وجل – لابد من حصوله (1) .

(1) انظر إرشاد العقل السليم: (7/152)، وتفسير القرآن الكريم:(3/554) ، ونقل الإمام الألوسي كلام أبي السعود، وقال: وفي إخباره – تبارك وتعالى – عنهم بذلك – أي: بقوله: " يَرْجُونَ " إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم، بل يأتون ما أتوا من الطاعة وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم.

ص: 162

وقال – جل ثناؤه –: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف55-56، وتقدم في هذا الكتاب المبارك ما دار بين الإمام أبي حازم وخليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – وفيه قول سليمان: ليت شعري ما لنا عند الله؟ – جل وعلا – فقال له أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله – عز وجل – قال: وأي مكان أجده؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار13-14، قال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف56 (1) .

وقد أخبر ربنا الكبير أن من رجا ثوابه الجزيل، فعليه العمل بما في التنزيل، مريداً بذلك وجهه الجليل، فقال – جل جلاله – في آخر سورة الكهف:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف110، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الله تعالى –:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ " أي: ثوابه، وجزاء عمله الصالح، " فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً " أي: ما كان موافقاً لشرع الله – عز وجل –، " وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً " وهو الذي يراد به وجه الله وحده، لا شريك له: وهذان ركنا العمل المتقبل، لابد أن يكون خالصاً لله – جل وعلا – صواباً على شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2) .

(1) انظر صفحة: (.....-......) من هذا الكتاب المبارك لترى من خرج تلك المحاورة المباركة.

(2)

انظر تفسير ابن كثير: (3/108)، وتقدم الكلام على ركني قبول الأعمال في:

ص: 163

وقد استنكر ربنا الوهاب، على من رجا حصول الثواب، دون القيام بالأسباب، والالتزام بما شرعه الله من الهدى والصواب، فقال – جل وعز –:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَاّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} الأعراف168-170، وخلاصة معنى الآيات الكريمات كما ورد في تفاسير أئمتنا الثقات: أن رب الأرض والسموات فرق بني إسرائيل في الأرض طوائف متعددة، مختلفات، فيهم الصالح والطالح، واختبرهم – جل وعلا – بالرجاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، لعلهم يستقيمون على شريعة رب الأرض والسماء، ويقلعون عن الزيغ والالتواء، فخلف بعد ذلك الجيل ما هو شر من الحمير ليس فيهم من الخير قليل ولا كثير، ورثوا دراسة التوراة، واستعاضوا عنها بزينة الحياة، ويقولون كذاباً وغروراً: سيغفر لنا وننال أجراً كبيراً، وذلك الفعل ديدنهم، فكلما لاح لهم شيء من الدنيا استخلفهم وجذبهم، وقد أخذ عليهم ربنا الميثاق، بأن لا يقولوا إلا الحق، ولا يكونوا من أهل الشقاق، وفي ذلك إشارة إلى فساد مسلكهم في أخذهم الحطام، وكذبهم فيما صدر عنهم من الكلام، بأنه سيغفر لهم عند ربنا الرحمن، ثم ختم ربنا الكريم الكلام على مسلكهم الأثير، بما يفيد كونهم من المجانين، حيث آثروا الدنيا على ما عند الله العظيم من

ص: 164

النعيم المقيم، ثم بعد وصف أولئك الملاعين، بين الله وصف عباده الصالحين، فأخبر عن تمسكهم بشرعه القويم، وقيامهم بشرائع الدين، فلهم الأجر الوافر عند رب العالمين.

وقد أخبر معاذ بن جبل – رضي الله تعالى عنه – عن صدور ما يقارب وصف الحمقى المغرورين من بني إسرائيل في هذه الأمة ففي سنن الدارمي عنه – رضي الله تعالى عنه – قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع، لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئاً (1) .

(1) انظر سنن الدارمي – كتاب فضائل القرآن – باب في تعاهد القرآن –: (2/439)، وانظر معنى الآية المتقدمة في تفسير ابن كثير:(2/260)، وروح المعاني:(9/95-98)، والتسهيل لعلوم التنزيل:(2/52)، وتفسير القرطبي:(7/310-313) ، وفيه الاستشهاد بأثر الدارمي عن معاذ – رضي الله تعالى عنه – في مشابهة المفترين أصحاب الأماني من هذه الأمة لمن ماثلهم في بني إسرائيل، وعبارته: وهذا الوصف الذي ذم الله – تبارك وتعالى – به هؤلاء موجود فينا، ثم سرد الأثر المتقدم، وقال بعد تفسير قول الله – تبارك وتعالى –:"أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ" قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا – صلى الله عليه وسلم – وكتاب ربنا – عز وجل – ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.

ص: 165

وشبيه بتلك الآيات في الدلالة قول الله – جل وعلا –: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} مريم77-80، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن خباب بن الأرت – رضي الله تعالى عنه – قال: كنت قيناً – أي: حداداً – في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – قلت: لا أكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: بلى، قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث، فسوف أوتي مالاً وولداً فأقضيك، فأنزل الله – عز وجل –:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} مريم77-80 (1) .

(1) انظر صحيح البخاري – كتاب البيوع – باب ذكر القين والحداد: (4/317)، وكتاب الإجازة – باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟:(4/452)، وكتاب الخصومات – باب التقاضي:(5/77)، وكتاب التفسير – سورة مريم – باب:" أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ": (8/429)، وباب:" أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ": (8/430)، وباب:" كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ": (8/431)، وباب:" وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ": (8/431) ، بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – باب سؤال اليهود النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الروح:(4/2153)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة مريم:(8/308-309)، والمسند:(5/110، 111)، وطبقات ابن سعد:(3/164)، وتفسير ابن جرير:(16/91-92)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب التفسير – سورة مريم:(2/21)، وأسباب النزول للواحدي:(204) ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (4/283) إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والطبراني أيضاً.

ص: 166

ومثل آية سورة مريم تماماً قول الله – جل جلاله –: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فصلت49-50، وذلك التمني تخرص وغرور، وهو من وساوس اللعين الغرور، وهو قياس فاسد خسيس، ومن جنس إمامهم إبليس، وما ضل من ضل إلا بذلك المسلك التعيس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (1) .

(1) انظر سنن الدارمي – المقدمة – باب تغير الزمان، وما يحدث فيه:(1/65)، وجامع بيان العلم وفضله – ذكر من ذم القياس على غير أصل:(2/76) عن الحسن وابن سيرين – عليهم جميعاً رحمة الله –: أول من قاس إبليس، زاد ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وهذا في القياس على غير أصل، والقول في دين الله بالظن كما قال ذلك سائر الفقهاء فيما نقله عنهم ابن عبد البر وقد أطال الإمام الغزالي في الإحياء (4/372-373) ، في بيان فساد ذلك القياس وأتى بما يسر به الأكياس، وخلاصته: إن المشركين استدلوا بما لا يدل على الإكرام، بل يدل على هوائهم عند الرحمن، فانظر ذلك لزاماً يا أخا الإسلام.

ص: 167

تلك دلالات القرآن، وفيها الحجة والبرهان، على أن رجاء رحمة الرحيم الرحمن، منوط بالعمل بشرائع الإسلام، والثبات على هدي خير الأنام، نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام – ومن فرط في ذلك من إنس وجان، ورجا من ربه الإحسان، والتنعم بدخول الجنان، فهو من ذوي السفاهة والخسران، ومن أهل الحماقة والخذلان، ورجاؤه أضغاث أحلام، بل هو من تسويلات الشيطان، بلا خوف عند أهل الإيمان، رزقنا الله الأدب معه في جميع الأحيان، ومن علينا بحسن الختام، والتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم في غرف الجنان.

دلالات الحديث النبوي على ذلك التقرير السوي:

سأقتصر على حديث واحد فقط في بيان ذلك الإيضاح القوي الصحيح، وهو في بابه نص صريح لما فيه من قوة البيان ووضوح التصريح، ورد في المسند والمستدرك، وسنن الترمذي، وابن ماجه وغيرهم من كتب الحديث الشريفة عن شداد بن أوس – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله – عز وجل – (1) .

(1) انظر المسند: (4/124)، والمستدرك – كتاب الإيمان:(1/57)، وكتاب التوبة والإنابة:(4/251)، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب:"26": (7/165-166)، وسنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له:(2/1423) ،ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الترغيب في الأعمال الصالحة – باب الترغيب في خصال من أعمال البر مجتمعة، والترهيب من ضدها:(2/32)، وتاريخ بغداد:(12/50)، وحلية الأولياء:(1/267، 8/174)، وعزاه السيوطي في جمع الجوامع:(1/438) إلى العسكري في الأمثال، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس، وإلى البيهقي في السنن الكبرى، وللطبراني في المعجم الكبير.

والحديث قال عنه الحاكم في المكان الأول: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله قلت: لا والله، وأبو بكر بن أبي مريم الغساني واه، وقال الحاكم في المكان الثاني: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي مع كونه من طريق أبي بكر بن أبي مريم، ومدار الحديث عليه في جميع الروايات، وقد رمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير، فتعقبه المناوي في شرح الجامع الصغير المسمى بفيض القدير:(5/68 بكلام الذهبي المتقدم، وقول ابن طاهر: مدار الحديث على أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف جداً 10هـ وقد حسنه الترمذي، ونقل التحسين عنه النووي في رياض الصالحين: (46، ولم يعترض عليه، وكذلك ابن علان في دليل الفالحين: (2/305)، وقال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(..../13) في سنده أبو بكر بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف ومدار الحديث عليه، ومع ذلك فقد قال الترمذي: هذا حديث حسن 10هـ واقتصر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء على عزو الحديث إلى الترمذي وابن ماجه، وذكر خلاصة ما تقدم دون ميل إلى شيء منها السخاوي في المقاصد الحسنة:(329-330)،وابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث:(127-128)، والعجلوني في كشف الخفاء:(1/136)، والبنا في بلوغ الأماني:(19/22)، واستدل به على أنه حديث ثابت ابن تيمية في مجموع الفتاوى:(14/460-461)، والمعلمي في التنكيل:(196) ، وضعفه الألباني في تعليقه على التنكيل، ومشكاة المصابيح:(3/1454) ، والذي يظهر للعبد الضعيف راقم هذه الحروف أن أبا بكر بن أبي مريم الغساني مع أنه ضعيف فالحديث حسن لما له من الشواهد الكثيرة، وما في أبي بكر بن أبي مريم من ضعف فسببه ضعف حفظه وهو مع ذلك متماسك ومن أوعية العلم، وهو من العباد البكائين، وما فيه من ضعف يزول إذا شهد لروايته ما ثبت عن الأئمة الفحول، انظر ترجمته والحكم عليه في تقريب التهذيب:(2/398)، وتهذيب التهذيب:(12/28-30)، وميزان الاعتدال:(4/497-498) .

ص: 168

.. والحديث الشريف – كما ترى – كلمة الفصل في هذا المقام، حيث وقع التصريح فيه بأن الناس صنفان، عاقل يقوم على حساب نفسه، ويبذل جهده فيما ينفعه بعد موته، فهو حقيق برجاء رحمة ربه، والصنف الثاني أحمق أخرق يرخي لنفسه العنان، لتتخبط في وساوس الشيطان، ثم يتمنى على الملك الرحمن، ما يزينه له الشيطان – نعوذ بالله من الخذلان –.

بعض الآثار عن سلفنا الأبرار في بيان حقيقة رجاء الأخيار، وحماقة الأشرار:

الآثار عنهم في ذلك كثيرة، إليك ثلاثة منها شهيرة، فيها دلالة لتلك المسألة الجليلة الكبيرة، قال الإمام معروف الكرخي – رضي الله تعالى عنه –: طلب الجنة بل عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق، وقال: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه خذلان وحمق (1) .

(1) كما في حلية الأولياء: (8/367)، وطبقات الصوفية للسلمي:(89)، ومختصر القاصدين:(318)، وشرح الحكم لابن عباد:(1/66)، ومعرفو الكرخي من أئمة الهدى وكانت وفاته في نهاية القرن الثاني – رحمه الله تعالى – رئي بعد موته على حالة حسنة وهو ينشد:

موتُ التقيّ حياةٌ لا نفاد لها

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

وهو من أسرة نصرانية فأسلم وأسلمت أسرته تبعاً له، وكان يقول: نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل، وكلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله – عز وجل – وقال: إنما الدنيا قدر تغلي وكييف يرمى، وسأل عبد الله أباه الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال له: يا بني كان معه رأس العلم خشية الله – عز وجل –، انظر هذا وغيره من ترجمته المباركة في الحلية:(8/260-268) ، وصفة الصفوة (2/318-324)،وفيه: إنما اقتصرنا ههنا على اليسير من أخباره لأنا قد جمعنا أخباره ومناقبه في كتاب أفردناه لها، والمختصر في أخبار البشر:(2/33)، وشذرات الذهب:(1/360)، وطبقات الصوفية للسملي:(82-90)، والرسالة القشيرية:(1/74-78)، والطبقات الكبرى للشعراني:(1/84)، وتاريخ بغداد:(13/199-209) .

ص: 169

.. وقال العابد الجأر يحيى بن معاذ – عليه رحمة العزيز الغفار –: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله – عز وجل بغير طاعة، وانتظار الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله – عز وجل – مع الإفراط في الأمل، وقال أيضاً: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل وعلامة التائب، إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس، عند كل همة، وكان يقول – عليه رحمة الله تعالى –: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم طمع في الكواعب الأتراب؟ هيهات، هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقوالك لو خالفت هواك، وقال أيضاً: الكيس من فيه ثلاث خصال: من بادر بعمله، وتسوف بأمله، واستعد لأجله، والمغبون يوم القيامة من فيه ثلاث خصال: من قرض أيامه بالباطلات، وبسط جوارحه على الحسرات، ومات قبل إفاقته من السكرات، ومن أقواله لا يزال العبد مقروناً بالتواني ما دام على الأماني (1) .

(1) انظر القول الأول في الإحياء: (4/140)، وشرحه:(9/167)، وانظر القول الثاني والثالث في صفة الصفوة:(4/90-91)، والقول الرابع في الحلية:(10/58)، والخامس في طبقات الصوفية للسلمي:(111) ، وانظر ترجمته العطرة في الكتب الثلاثة الأخيرة، وفي الرسالة القشيرية:(1/113-114)، والمنتظم:(5/16-17)، وشذرات الذهب:(2/838)، وتاريخ بغداد:(14/208-212)، والطبقات الكبرى للشعراني:(1/94)، وحالة أهل الحقيقة مع الله – عز وجل –:(84)، وكانت وفاته سنة ثمان وخمسين ومائتين – رحمه الله تعالى – ومن أقواله السديدة: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرجه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، ومنها: يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقاً ما دام القلب بحب الدنيا متعلقاً، ومنها: الدنيا لا قدر لها عند ربنا وهي له، فما ينبغي أن يكون قدرها عندك وليست لك؟ ومنها: إن الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه بيدك، فإنه إن لدغك قتلك، ومنها: من خان الله في السر هتك ستره في العلانية، ومن طريف ما روي عنه أنه رأى رجلاً يقلع جبلاً في يوم حار، وهو يغني، فقال: مسكين ابن آدم قلع الأحجار أهون عليه من ترك الأوزار.

ص: 170

وفي حلية الأولياء: عن معاوية بن قرة قال: دخلت على مسلم بن يسار – رحمهم الله جميعاً – فقلت: ما عندي كبير عمل إلا أني أرجو الله – عز وجل – وأخاف منه – فقال مسلم بن يسار: ما شاء الله، من خاف من شيء حذر منه، ومن رجا شيئاً طلبه، وكان مسلم بن يسار يقول: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، وما أدري ما حسب رجاء امرئ عرض له بلاء لم يصير عليه لما يرجو وما أدري ما حسب خوف امرئ عرض له شهوة لم يدعها لما يخشى، وفي الحلية والإحياء: كان مسلم بن يسار يطيل السجود لله الواحد القهار، فوقع الدم في ثنيتيه فسقطتا فدفنهما، فقال له رجل: إنا لنرجو الله – عز وجل – فقال مسلم: هيهات، هيهات من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه (1) .

(1) انظر حلية الأولياء: (2/291-292)، والإحياء:(3/374)، ومسلم بن يسار توفي في نهاية القرن الأول – عليه رحمة الله تعالى – قال ابن كثير في البداية والنهاية:(9/186) ، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابداً ورعاً زاهداً كثير الصلاة والخشوع وكان يقول كما في الحلية:(2/294) : ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله – عز وجل – وقد بلغ تلذذه بمناجاة ربه – جل وعلا – كما في الكتابين السابقين وصفة والصفوة: (3/239-240)، وطبقات ابن سعد:(7/186) أنه كان قائماً يصلي فوقع إلى جنبه حريق فما شعر به حتى طفئت النار، وانهدمت ناحية من المسجد، ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت، وهو من رجال أبي داود والنسائي، وابن ماجه كما في التقريب:(2/247)، وفيه: إنه فقيه ثقة، عابد، وانظر ترجمته الطيبة في تهذيب التهذيب:(10/140-141)، ومشاهير علماء الأمصار:(88) وشذرات الذهب: (1/119) .

ومعاوية بن قرة القائل لمسلم بن يسار ما قال من أئمة التابعين الكبار توفي سنة ثلاثة عشرة ومائة – عليه رحمة الله تعالى – وهو من رجال الكتب الستة ثقة عالم كما في التقريب: (2/261) وفي الحلية: (2/299)، وصفة الصفوة:(3/257) عنه قال: كما عند الحسن البصري – رحمهم الله تعالى جميعاً – فتذاكرنا أي العمل أفضل، فكلهم اتفقوا على قيام الليل، فقلت أنا: ترك المحارم فانتبه لها الحسن، فقال: تم الأمر ثم الأمر – بالتاء المثناة، والثاء المثلثة –، وكان يقول: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار، انظر ترجمته الكريمة في تهذيب التهذيب:(10/216-217)، وطبقات ابن سعد:(7/221)، ومشاهير علماء الأمصار:(92)، وشذرات الذهب:(1/147) .

ص: 171

فتأمل أخي المسلم تلك النقول عن سلفنا الأتقياء لتقف على حقيقة الرجاء، فقد بدل معنى ذلك اللفظ عند السفهاء، ولم يفهموا منه إلا الجراء والجسارة على رب الأرض والسماء، قال الإمام الغزالي في الإحياء: ما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله – تبارك وتعالى – وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور، وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به – صلى الله عليه وسلم – فلقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة ربهم، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله – عز وجل – زاعمين أنهم واثقون بكرم الله – تبارك وتعالى – وفضله راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – والصحابة والسلف الصالحون – رضي الله تعالى عنهم – فإن كان هذا الأمر يدرك بالتمني، وينال بالهوينى فعلام إذن بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟ (1) .

(1) انظر الإحياء علوم الدين: (3/375)، ونحوه في مختصر منهاج القاصدين:(247-248) .

ص: 172

والحديث الذي أشار إليه الغزالي من غلبة الغرور على آخر هذه الأمة رواه أهل السنن والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة105، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراُ، سألت عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال:"بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من روائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" قيل: يا رسول الله – أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: "لا، بل أجر خمسين رجلاً منكم (1)

(1) انظر الحديث الشريف في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة المائدة –: (8/222)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي –:(4/512)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ": (2/1330-1331)، والمستدرك – كتاب الرقاق:(4/322)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب فيمن بقي في حثالة كيف يفعل –:(457-458)، وتفسير ابن جرير:(7/3)، وأحكام القرآن للجصاص:(2/30)، ومعالم التنزيل:(2/101)، وحلية الأولياء:(2/30)، وعزاه السيوطي في الدر:(2/339) إلى البغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث حسنه الترمذي كما علمت ونقل ذلك عنه العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(2/304، 3/359) ، ولم يعترض عليه، وصححه الحاكم وأقره الذهبي كما تقدم ونقل السيوطي في الدر تصحيح الحاكم أيضاً ولم يعترض عليه.

والحديث الشريف بمعنى الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في المكان المتقدم، وابن ماجه في كتاب الفتن – باب التثبيت في الفتنة:(2/1307-1308)، والنسائي في السنن الكبرى كما في تهذيب السنن:(6/190)، وأحمد في المسند:(2/162، 212، 220، 221)، وأسانيد المسند جميعها صحيحة كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند:(10/12، 11/194، 12/12، 19-20)"6508، 6987، 7049، 7063"، وذكر في المكان الأول فوائد تتعلق في تحقيق نسبة رواية الحديث إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – وأطال في ذلك ووسع الكلام بحيث استغرق سبع صفحات كاملة فارجع إليها إن شئت، والحديث رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الفتن:(4/435-525)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، ويبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأمنياتهم، واختلفوا وكانوا هكذا " – وشبك بين أصابعه – قالوا: فكيف تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم" قال سعيد بن منصور المكي أحد رواة الحديث: "حثالة الناس": رداءتهم، ومعنى قوله:"مرجت عهودهم": إذا لم يفوا بها 10هـ والحديث أشار إليه البخاري معلقاً في كتاب الصلاة – باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره –: (1/565) بشرح ابن حجر، وقال الحافظ: وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له 10هـ وأشار إليه البخاري أيضاً في ترجمة باب فقال في كتاب الفتن – باب إذا بقي في حثالة من الناس: (13/38) بشرح ابن حجر والحديث رواه ابن حجر والحديث رواه ابن حبان – المكان المتقدم – والطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (7/283) – كتاب الفتن – باب في أيام الصبر وفيمن يتمسك بدينه في الفتن – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس؟ " الحديث، واعلم أن ما ذكره الشيخ شاكر في المكان المشار إليه قريباً من أن حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – هذا لم يجده في شيء من الكتب الستة، وأن صاحب مجمع الزوائد لم يذكره ولذلك لا يستطيع الجزم بأنه في الكتب الستة ولا بأنه من الزائد، غفلة منه فقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد فاعلم.

قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له جميع العصيان –: يتعلق هذان الحديثان الشريفان بقطب الإسلام، وبما تدور عليه رحى الإيمان، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآثام وفيه مباحث عظام سأتكلم على خمسة منها جسام حسب دلالة هذين الحديثين من أحاديث نبينا – عليه الصلاة والسلام –.

الأول:

من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وترك ذلك عصيان للرب الكبير، وموصل إلى عذاب السعير قال الإمام ابن عبد البر فيما نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره:(4/48) – عليهما رحمة الله تعالى –: أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره 10هـ وقال الإمام ابن العربي – عليه رحمة الله تعالى – في أحكام القرآن:(1/266) : المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر، والآيات في ذلك كثيرة، والأخبار متظاهرة، وهي فائدة الرسالة، وخلافة النبوة، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة 10هـ وقال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء:(2/308) ، قد ظهر بالأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به 1هـ.

قال عبد الرحيم الطحان – وهذا الأمر تدل عليه آيات القرآن، وأحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – وعليه كان مسلك سلفنا الكرام.

فمن الآيات قول رب الأرض والسموات في سورة الحجرات: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات9، والآية الكريمة – كما ترى – نص صريح في وجوب إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه حيث أمر الله – جل وعلا – بقتال المعتدين، ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر رب العالمين وترك ما هم عليه من البغي والظلم المبين، كما قرر ذلك الجصاص في أحكام القرآن الكريم:(2/32) .

ومن الأحاديث الصحيحة القوية قول خير البرية – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –:(1/69)، والترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب:(6/337)، والنسائي – كتاب الإيمان وشرائعه – باب تفاضل أهل الإيمان –:(8/98)، وابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في صلاة العيدين:(1/406)، وفي كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/1330)، وأبو داود – كتاب الصلاة – باب الخطبة يوم العيد:(1/677)، وفي كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي:(4/511)، وأحمد في المسند:(3/10، 20، 49، 52-53) والجصاص في أحكام القرآن: (2/30) كلهم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه –.

وفي رواية للنسائي: "من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".

وثبت في صحيح مسلم في المكان المتقدم، وصدر الحديث في المسند:(1/458-461) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وكلمة "خلوف" بضم الخاء، وهي جمع خلف بإسكان اللام، وهو الخالف بشر، وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير هذا هو الأشهر، وقال جماعة من أهل اللغة: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، كما في شرح الإمام النووي:(2/28) .

وقد كان سلفنا الكرام يقومون بهذا الأمر خير قيام ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلال: (142) قال أبو بكر المروزي سألت أبا عبد الله – يعني الإمام المبجل أحمد بن حنبل – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – عن كسر الطنبور، قال: يكسر وقال عمر بن صالح: رأيت الإمام أحمد بن حنبل مر به عود مكشوف فقام فكسره، وقال عمر بن الحسين: كسر أحمد بن حنبل طنبوراً في يد غلام لأبي عبد الله نصر بن حمزة، فذهب الغلام إلى مولاه، فقال: كسر أحمد بن حنبل الطنبور، فقال له مولاه: فقلت له إنك غلامي؟ قال: لا، قال: فاذهب فأنت حر لوجه الله – عز وجل – وقال: وكيع بن الجراح (المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة وهو إمام المسلمين في وقته كما قال الإمام أحمد عليهما رحمة الله تعالى – كما في تهذيب التهذيب: (11/126) : خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه كما فهل ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

ولا خلاف بين سلفنا الكرام في وجوب إزالة المنكرات والآثام على كل من قدر على ذلك من أهل الإسلام، ولا ضمان عليه على القول الحق المعتمد في شريعة الرحمن، ففي الدر المختار وحاشيته رد المحتار:(6/212)، قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى –: لا يصح بيع آلات اللهو، ولا يضمن متلفها قيمتها ولو كانت لكافر، وهذا هو المعتمد في المذهب الحنفي، وعليه الفتوى عندهم، وفي الاختيار:(3/65) لأنها أعدت للمعاصي فلا تضمن كالخمر، ومتلفها يتأول فيها النهي عن المنكر، وأنه مأمور به شرعاً فلا يضمن كأذن القاضي، بل وأولى 1هـ وفي المنهاج وشرحه السراح الوهاج:(269-270) ، (والأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء) لأنها محرمة الاستعمال (والأصح أنها لا تكسر الكسر الفاحش بل تفصل لتعود كما قبل التالف) ومقابله تكسر حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منه (فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحد لمنع صاحب المنكر) منه (أبطله كيف تيسر) إبطاله ويشترك في جواز إزالة هذا المنكر الرجل والمرأة، ولو أرقاء وفسقة 1هـ وهذا هو قول الإمام مالك – عليه رحمة الله تعالى – كما في الإفصاح:(2/33) ، وتقدم قول الإمام أحمد وفتياه فكن منها على بال يا صاحب الرشد والكمال، فهذه نصوص المذاهب الأربعة، في لزوم تغيير المنكر باليد لكل من رآه ذكراً كان أو أنثى، وأنه لا ضمان عليه في إتلاف المنكرات، وهو مأجور عند رب الأرض والسموات، وقد بوب الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باباً بهذا الخصوص فقال: باب الإنكار على زعم أنه عليه الغرم في كسر شيء من المنكرات: (145-146) ، وأورد ضمن ذلك الباب آثاراً شتى في تقرير ذلك منها أن أبا السفر سأل الإمام أحمد عن رجل رأى في يد رجل عوداً أو طنبوراً فكسره، أصاب أو أخطأ، وما عليه في كسره؟ فقال الإمام أحمد: قد أحسن، وليس عليه في كسره شيء، ومنها، قال وكيع: ليس للمعاصي قيمة، مثل الطنبور وشبهه.

وأورد الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب ما يجب على الرجل من تغيير المنكر إذا سمع وعلم مكانه ولم ير مكانه بعينيه، أو يراه في الطريق أن ينكره، آثاراً كثرة عن سلفنا الصالح في تغيير المنكر باليد لكل مكلف، من جملة ذلك فتيا الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – بأن من سمع الغناء من بيت فعليه أن يجمع عليه الجيران، ويهول عليه، ويشهر به ليرتدع من غيه، ونقل الخلال عن أحمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: كان محمد بن مصعب إذا سمع صوت عود أو طنبور من دار أرسل إليهم: أن أرسلوا إليّ ذلك الخبيث، فإن أرسلوا به إليه كسره وإلا قعد على الباب يقرأ القرآن، فيجتمع الناس فيقولون: محمد بن مصعب، فلا يدع قراءته حتى يخرج إليه ذلك الخبيث فيكسره، ومر يوماً بدار فسمع صوت عود يضرب به، فقرع الباب، فنزلت جارية فقال لها: يا جارية، قولي لمولاتك تحدر العود حتى أكسره، فصعدت فقالت لمولاتها شيخ بالباب، قال كذا وكذا، قالت: هذا شيخ أحمق، فضربت بعودين فجلس محمد بن مصعب على الباب وقرأ، فاجتمع الخلق، وارتفعت الأصوات بالبكاء فسمعت المرأة الضجة، فقالت: يا مولاتي تعالي انزلي فاسمعي، فلما سمعت قالت: أحدري العودين حتى يكسرهما.

ومحمد بن مصعب توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – وكان صالحاً قانتاً مجاب الدعوة، وكان يقول: يا رب من زعم أنك لا تتكلم، ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سموات، ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة، كما في تاريخ بغداد:(3/280)، وطبقات الحنابلة:(1/321) .

وفي الإحياء: (2/320) إذا ظهرت أصوات المزامير والأوتار بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي.

قال راقم هذه الحروف – حفظه الله من الفتن والحتوف –: وهذا الأمر – أعني تغيير المنكر باليد – ينبغي فهمه ووعيه وعياً جيداً فقد فرط بالعمل به المسلمون من قرون، وخلدوا للدعة والذلة والسكون، بل ضيعوا العلم به وانحرفوا عن الشرع الميمون، وتلك بلية كل بلية بجانبها تهون، والله المستعان على ما يصفون.

واعلم أخي طالب الحق المبين أنه لا تعارض بين ما تقدم تقريره بالبراهين وبين وظيفة الحسبة في الشرع القويم فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله كما في الأحكام السلطانية للماوردي:(240)، ومعالم القربة:(51)، وذلك الأمر هو مقصود جميع الولايات الإسلامية كما في الحسبة:(6) للشيخ ابن تيمية، والمحتسب هو المعين من قبل الحكومة الإسلامية للقيام بتلك المهمة العلية، والحسبة تصح من كل مسلم سواء كان محتسباً معينا لذلك أو متطوعاً في نشر شريعة الرب المالك، ومقاومة أهل المنكر وقمع المهالك، وقد ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية:(240-241) تسعة فروق جوهرية للفرق بين المتكوع بالحسبة والمعين لها من قبل الحكومة الإسلامية، هاك خمسة من تلك الفروق الجلية:

الفرق الأول: فرض الحسبة متعين على المحتسب المتعين لها بحكم الولاية، وفرضها على غيره داخل في فروض الكفاية.

الفرق الثاني: قيام المعين للحسبة من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام غيره بها من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.

الفرق الثالث: يجب على المعين للحسبة أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل على إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته وليس على غيره بحث ولا فحص.

الفرق الرابع: للمعين على الحسبة أن يعزز في المنكرات الظاهرة، وليس للمتطوع أن يعزز على منكر، بل يقتصر على إزالته فقط.

الفرق الخامس: يجوز للمعين على الحسبة أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز لغيره أن يرتزق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء: (2/311) اشتراط الإذن من جهة الإمام والوالي في الحسبة فاسد، فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فكست عليه عصى، إذ يجب عليه نهيه أينما رآه، وكيفما رآه على المعلوم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له، والعجب أن الروافض قالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا، بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاؤوا على القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق، لأن الإمام الحق بعد لم يخرج، فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لأحاد الرعية إلا بتفويض من الولي وصاحب الأمر، فنقول: إما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل، فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كفز التعليم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهل، ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الولي، وفيه عز الإرشاد، وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين، وكذلك النهي، وشرح القول في هذا أن الحسبة لما خمس مراتب، أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش، بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق، ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه، والخامس: التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن، ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب، وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين، ويجر ذلك إلى قتال.

وسائر المراتب لا تخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام، إلا المرتبة الخامسة، فإن فيها نظراً سيأتي، أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام، وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله – عز وجل – وما يجري مجراه فهو كلام صدق، والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث الشريف – تقدم تخريجه في كتاب الملل والنحل – فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته، فكيف يحتاج إلى إذنه، وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد، فلم يفتقر إلى الإمام وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر، واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضياً به فذاك، وإن كان ساخطاً له، فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه، ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة، ثم بعد أن سرد الغزالي عدة حوادث في ذلك قال: ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن 10هـ.

وقد وسع الإمام الجصاص القول في ذلك وأطال، وأتى بما يشرح صدور الأبرار، فقال في أحكام القرآن:(2/29-34)، ونعم ما قال: وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله، وإزالته باليد تكون على وجوه منها: أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف، وإن يأتي على نفس فاعل المنكر، فعليه أن يفعل ذلك، كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله، أو بأخذ ماله ن أو قصد الزنا بامرأة، أو نحو ذلك، وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله، لقوله – صلى الله عليه وسلم –:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده، أو بالقول امتنع عليه، ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه، ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله، وذكر أبن رستم عن محمد بن الحسن – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – في رجل غصب متاع رجل، وسعك قتله حتى تستنفذ المتاع وترده إلى صاحبه، وكذلك قال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع، وقال محمد بن الحسن قال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله، وقال في رجل يريد قلع سنك: لك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه، وهذا الذي ذكرناه يدل على قوله تعالى:"فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" – عز وجل – وترك ما هم عليه من البغي والمنكر، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" يوجب ذلك أيضاً، لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله، ولذلك قلنا في أصحاب المكوس والضرائب التي يأخذونها من أمتعة الناس: إن دماءهم مباحة، وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له، ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيماً على ذلك، وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل، إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم، وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مصراً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن، وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يرج ذلك وغلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم بعد أن يجانبهم، ويظهر هجرانهم، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"فليغيره بلسانه، فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" وقوله – صلى الله عليه وسلم –: "فإن لن يستطع" قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن، لأن قوله:"فإن لم يستطع" معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال.

ثم قال الإمام الجصاص – عليه رحمة الله تعالى –: لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن، والآثار الواردة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيره، ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى السلام وقتال الفئة الباغية، مع ما سمعوا فيه من قول الله – تبارك وتعالى –:"فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور، وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول، أو باليد بغير سلاح، فصاروا شراً على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت الثفور وشاع الظلم، وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا، وظهرت الزندقة والغلو، ومذاهب التنوية والخرمية والمزدكية، والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الإنكار على السلطان الجائر والله المستعان 10هـ.

الإمام الجصاص هو أبو بكر أحمد بن على الرازي الفقيه الحنفي انتهت الرحلة في زمنه إليه وكان على طريقة من تقدمه في الورع والزهد والعبادة والصيانة وخوطب على أن يلي قضاء القضاة مرتين فامتنع، توفي سنة سبعين وثلاث مائة – عليه رحمة الله تعالى – انظر أخبار أبي حنيفة وأصحابه:(166-167)، وتاريخ بغداد:(4/314-315)، والمنتظم:(7/105-106)، وتذكرة الحفاظ:(3/959)، والبداية والنهاية:(11/297)، وطبقات المفسرين للداودي:(1/56)، وشذرات الذهب:(3/71)، والفوائد البهية:(28)، والجصاص بفتح الجيم والصاد المشددة وفي آخرها صاد نسبة إلى العمل بالجص وتبييض الجدران كما في اللباب:(1/281) .

قال مقيد هذه الصفحات – غفر الله الكريم له الزلات، وأقاله العثرات –: تقدمت الأدلة الشرعية عند دراسة فرقة القدرية أنه يجب على الرعية خلع الإمام الجائر إن أمكن فلا فتنة عمية، وإلا فينصح ويخوف من مغبة أحواله الردية، ولا يطاع في مخالفة رب البرية، فكن على بال من تلك القضية السوية.

واعلم أخا الإسلام أنه يتعلق بتغيير المنكر باليد ثلاثة أمور عظام، فدونك بيانها بالحجة والبرهان:

أولها:

إذا قدر الناس على إزالة المنكرات، ولم يأخذوا على أيدي السفهاء والسفيهات، عم سخط الله للمخلوقات، وهم بصدد نزول العقوبة عليهم في جميع الأوقات، وربك يمهل ولا يهمل، ثم يأخذ ولا يؤخر، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهم جميعاً – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونحوا جميعاً" انظر صحيح البخاري – كتاب الشركة – باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه: (5/132)، وكتاب الشهادات – باب القرعة في المشكلات:(5/292) بشرح ابن حجر فيهما، وانظره في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب منه – أي: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –: (6/737-338)، والمسند:(4/268-270) .

وفي المسند والسنن عن قيس بن جازم قال: قام فينا أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة105، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب".

حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر: (6/335)، وكتاب التفسير – سورة المائدة:(8/221)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد رواه غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً، وروى بعضهم عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر قوله، ولم يرفعوه، وقال في المكان المتقدم في كتاب الفتن، وفي الباب عن عائشة، وأم سلمة والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمر، وحذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وهذا حديث صحيح، وهكذا روى غير واحد عن إسماعيل نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم عن إسماعيل، وأوقفه بعضهم 1هـ وانظره في سنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي:(4/510)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/1327)، والمسند:(1/2، 5، 7، 9) ، وهو أول حديث فيه، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الأماكن الأربعة الآتية:(1/153، 163، 168) وضعف سند الرواية الخامسة في: (1/176)، وانظره في مسند الحميدي:(1/3-4) ، وهو ثالث حديث فيه، ومسند أبي بكر:(154-157) رقم: "86، 87، 88، 89"، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(455) والعزلة للخطابي: (26)، وجامع البيان:(7/64)، وأحكام القرآن للجصاص:(2/31)، واستشهد به الحافظ في الفتح:(13/60)، ونسب السيوطي في الدر:(2/339) تخريجه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والعدني، وابن منيع، وأبي يعلى في مسانيدهم، وإلى النسائي في السنن الكبرى، والكجي في سننه وإلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد، وأبي الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة 10هـ.

هذا وقد أخرج القسم المرفوع من الحديث عن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كل من الترمذي في المكان الأول، وأبي داود، وابن ماجه وصحيح ابن حبان في الأمكنة المتقدمة وهو في المسند:(4/361، 363، 366)، ونسبه السيوطي في الدر:(2/339) إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد أيضاً.

قال راقم هذه الحروف: وآية المائدة تدل على أمر زين، حسبما جاء في شريعة رب الكونين ولا يفهم منها شيء من الدعة وترك القيام بالدعوة كما يتعلق بذلك أهل الشين، فاستمع للتحقيق الذي تقر به العين.

أما الأمر الحق الذي لا تدل الآية الكريمة إلا عليه، فهو ما فهمه صديق هذه الأمة – رضي الله تعالى عنه – ونبه إليه، وهو الذي اختاره ابن جرير في تفسيره:(7/65) ، وعقد الخنصر عليه، ونقله عنه الخازن في لباب التأويل:(2/103) ، ومال إليه، ونص عبارة الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الجليل –: وأولي هذه الأقوال، واصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – فيها، وهو: يا أيها الذين آمنوا ألزموا أنفسكم العمل بطاعة الله – عز وجل – وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله تعالى عنه "ولَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ"يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله – عز وجل – وأديتم فيمن ضل ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحال ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد، ومنعه منه، فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم، وأديتم حق الله – تبارك وتعالى – فيه 1هـ.

قال عبد الرحيم: فلا مناص من تغيير معصية رب العالمين، فإن قدر على ذلك بيده، فلا تبرأ ذمته إلا بقمع المنحرفين عن صراط الله المستقيم، وإذا عجز عن التغيير باليمين فليصدع بالجهر بالحق المبين، وليقم بما يقتضيه نحو ذلك من الفعل الكريم، إذا لم يجد قوله في المنصوحين، كما سيأتي بيان ذلك بعد حين، وهو في ذلك الحال في سعة من تركهم، وتفويض أمرهم إلى ربهم، كما دل على ذلك أحاديث أبي ثعلبة الخشني، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدمت مخرجة في أول المبحث الشريف.

وأما الأمر الباطل الذي لا تدل عليه الآية بحال، فهو ما يفهمه أهل الجبن والخور والضلال من أن واجب الإنسان منحصر في العناية بنفسه للبلوغ إلى درجة الكمال، وما عليه بعد ذلك من حرج في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشنآن أهل الزيغ المنحرفين عن الاعتدال غضباً لذي العزة والجلال، وهذا هو فهم أكثر صوفية هذا العصر الأرذال، بل وأكثر من ينتسب إلى شريعة الكبير المتعال من نساء ورجال، ونسأل الله تغير الحال إلى أحسن الأحوال فهو الكريم ولما يشاء فعال.

ثاني الأمور المتعلقة بتغيير الضلال والفجور بالقوة والفعل المبرور:

تقدم في أول هذا البحث الشريف أن من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وإن لحقه لوم وتعنيف من ذوي الشر والتقصير، والذي أريد أن أقرره هنا أنه لو خشي وقوع ضرب لبدنه، وقتل لنفسه من جراء أمره ونهيه فلا يجبا عليه، ولو اقتحمهما لصحة النية لديه، فذلك مما يشكر عليه، عند من تصير الأمور إليه، قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن:(1/266-267) : فإن خاف على نفسه من تغيير المنكر الضرب أو القتل، فإن رجا زواله جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج فأي فائدة فيه؟ والذي عندي: أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف كان ولا يبالي، فإن قيل: هذا إلقاء بيده إلى التهلكة، قلنا: قد بينا معنى الآية في موضعها 1هـ، قال عبد الرحيم: وهذا هو الحق المبين وتوهم القرطبي في تفسيره: (4/48) معارضة هذا لما نقل من إجماع المسلمين، لا صحة له يا أخي الكريم، وفي إحياء علوم الدين:(2/345) إذا علم المتطوع بالحسبة أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجه الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر الذي فيها أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر، ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليست الحسبة عليه بواجبة وليست بحرام بل هي مستحبة ويدل على الاستحباب الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة الحق عند الإمام الجائر – تقدم تخريج الحديث في كتاب الملل والنحل –.

قال الغزالي: فإن قيل: فما معنى قوله – تبارك وتعالى –: "وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" البقرة 195، قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار، ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك فقد قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله – تبارك وتعالى – أي: من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه، وقال البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه –: التهلكة: هو أن يذنب ثم يقول لا يتاب عليّ، وقال أبو عبيدة – رضي الله تعالى عنه –: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك.

حاشية: انظر أثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في: (2/116-117) من تفسير الطبري، وتفسير الثوري:(59)، ورواه عنه وكيع والبيهقي والفريابي وابن المنذر كما في الدر المنثور:(1/207) ، ونقل هذا القول عن عدد من السلف الكرام فانظر تفصيل ذلك في جامع البيان والدر المنثور، وتفسير الثوري، وانظر أثر البراء في تفسير الطبري:(2/118)، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة:(2/275-276)،وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه عنه وكيع بن عيينة والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر:(1/208) ، ونقل هذا القول عن غيره من السلف أيضاً فانظر ذلك في جامع البيان والدر المنثور.

وأما أثر أبي عبيدة فلم أعثر عليه، والذي يظهر لي وجودهم من الطابع في زيادة "أبي" لأن الأثر منقول عن عبيدة السلماني التابعي لا عن أبي عبيدة الصحابي كما في تفسير الطبري:(2/118)، ورواه عنه وكيع وعبد بن حميد كما في الدر:(1/208) ، والله أعلم.

وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكابة لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل على أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة، فتنكسر بذلك شوكتهم، فكذلك يجوز للمحتسب له أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية أهل الدين 1هـ.

قال مقيد هذه الصفحات: ومال كلام الإمامين ابن العربي والغزالي شيء واحد فإذا صلحت نية المحتسب، وأراد إعزاز الدين، وكسر شوكة الفاسقين، وتقوية قلوب المؤمنين، وإظهار تفاهة الدنيا عند الصادقين، وتعليق همتهم بما عند رب العالمين، فليقدم كيف كان ولا يبالي بأحد من المخلوقين، كما قال سحرة فرعون اللعين عندما آمنوا برب العالمين، وتهددهم عدو الله بالعذاب الأليم:{قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه72-73.

قال عبد الرحيم: نقل عن سلفنا الصالحين، ثلاثة أقوال في تفسير قول رب العالمين:{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة195 والآية الكريمة أعم من ذلك وإليك التحقيق المنير للحوالك:

القول الأول:

نقل عن عدد من السلف البررة أن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: الامتناع عن بذل النفقة في قتال أعداء الله الكفرة، لأن ذلك سيؤدي إلى استيلاء العدو عليهم وإهلاكهم، نقل هذا عن حبر الأمة وبحرها ابن عباس، وعن حذيفة ابن اليمان، وعن البراء بن عازب أيضاً وعن جم غفير من التابعين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في التعليقة السابقة، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة راجع إلى عدم النفقة المأمور بها في قوله – جل وعلا – في صدر الآية:"وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله".

القول الثاني:

قال كثير من سلفنا الأبرار: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: القنوط من رحمة العزيز الغفار، وعدم التوبة من الذنوب والأوزار، وذلك من خصال الأشرار، وهو موصل بلا شك إلى الهلكة في هذه الدار، وإلى العذاب الأليم في النار، وممن قال بهذا القول البراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وعبيدة السلماني – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والأثر ثابت عن البراء ثبوت صحة كما تقدم بيان ذلك في التعليقة السابقة وقول الألوسي في روح المعاني:(2/78) إن القول بذلك في غاية البعد، ولم أر من صحح خبر البراء سوى الحاكم، وتصحيحه لا يوثق به 1هـ لا يؤبه به، ولا يركن إليه، ولا يعول عليه، فخبر البراء على شرط الشيخين كما قال الحاكم وأقره الذهبي، ونقل ذلك عنه السيوطي في الدر ولم يعترض عليه، وأثر النعمان بن بشير رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(6/317) ، ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور:(1/208) ونقله البغوي في معالم التنزيل عن أبي قلابة: (1/172) ، وهو من التابعين.

وعلى هذا القول يكون قوله – جل وعلا –: "وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلقاً بقوله – جل جلاله – في الآيات السابقة: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة192.

القول الثالث:

قال بعض سلفنا ذوي الرشاد: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى الهلاك ترك الجهاد، والإقامة مع الأهل والمال والأولاد، نقل هذا عن أبي أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – ففي السنن وصحيح ابن حبان والمستدرك عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة فأخرجوا غلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري – عليه رضوان ربنا الباري – فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيه – صلى الله عليه وسلم – يرد علينا ما قلنا:"وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – شاخصاً في سبيل الله – عز وجل حتى دفن بأرض الروم بالقسطنطينية.

حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (8/164-165)، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الجرأة والجبن:(3/27)، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة –:(2/275)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب ما جاء في الجرأة –:(401)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب التفسير – سورة البقرة –:(2/13)، وتفسير الطبري:(2/119)، وأحكام القرآن للجصاص:(1/262)، ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر:(269-270) ، وعبد بن حميد، والنسائي وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور:(1/207) .

وعلى هذا القول فقوله – جل وعلا –: "وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلق بقوله – جل وعز – في الآيات السابقة: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة190.

قال راقم هذه الحروف: التهلكة مصدر كالهلك والهلاك، والمراد من النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة النهي عن كل ما يتسبب عنه هلاك النفس وشقاؤها، وذلك شامل للأقوال الثلاثة وغيرهما، وما تقدم من الأقوال عن سلفنا الأبرار هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن:(1/262) : وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية، لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف 10هـ وهذا ما قرره الإمام ابن كثير فقال في تفسيره الجليل:(1/229)، ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات خاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده 10هـ. وقرر ذلك قلهما الإمام ابن جرير فقال في تفسيره الكبير:(2/119)، والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله – جل ثناؤه – أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ" وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة فقال:"وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"،وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر أعطى فلان بيديه وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به أعطى بيديه، فمعنى قوله – عز وجل –:"وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ": لا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا، والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذ

لك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداء ما فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله – جل ثناؤه – جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال – جل وعلا –:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة60، فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للتهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال:{وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف87، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً علق بيده إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله – جل وعلا –:"وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" ولم يكن الله – عز وجل – خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله – ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي 1هـ.

وعلى كل حال فليس معنى الآية الكريمة بكل اعتبار عدم مقاومة الأخيار للأشرار وإن تحققوا إصابتهم بالأخطار ثبت في مسند الإمام أحمد: (4/281) بسند رجاله رجال الصحيح غير سليمان ابن داود الهاشمي، وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(5/328)، وبوب عليه الهيثمي باباً في كتاب الجهاد بهذا الخصوص فقال: باب فيمن يحمل على العدو وحده، ولفظ الأثر عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله – عز وجل – بعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ} النساء84، إنما ذاك في النفقة، رواه الطبري في تفسيره:(2/118) بلفظ: "لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم –: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ"، قال الجصاص في أحكام القرآن: (1/262) ، وقيل: هو – أي التهلكة – أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو التأويل الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأخبر فيه بالسبب، ثم قرر الجصاص أن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تلك الشاكلة، فمن رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلا درجات الشهداء 10هـ وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلال: (93-94) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، قال أبو عبد الله – الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى –: نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم، وإن أنكر بيده فهو أفضل، وسئل عن الرجل يأمر بالمعروف بيده، فقال: إن قوي على ذلك فلا بأس به، فقيل له: قد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"

حاشية: أخرجه الترمذي – كتاب الفتن – باب "67": (7/35)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى –:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ": (2/1332)، والمسند:(5/405) ، ورواه أبو يعلى، والضياء في المختارة كما في جمع الجوامع:(1/940) كلهم عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق".

والحديث رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ورجال الطبراني في الكبير رجال الصحيح غير زكريا بن يحيى بن أيوب ذكره الخطيب، روى عن جماعة وروى عنه جماعة ولم يتكلم فيه أحد، ورواه الطبراني في الأوسط أيضاً عن على –رضي الله تعالى عنه – من طريق الخضر عن الجارود ولم ينسبا ولم أعرفهما كما في مجمع الزوائد:(7/275) .

بأن يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به، قال: ليس هذا من ذلك 10هـ وهذا – بلا شك – كلام العلماء الصلحاء، لأن ما ينال الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الإيذاء من قبل المردة والسفهاء سيكون سبباً لرفعة درجته وعزة نفسه عند رب الأرض والسماء، حيث حصل منه الوفاء بالصفقة التي تمت بين خالق الأشياء، وبين أهل الخوف والرجاء {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة111، ومن الطريف ما يتعلق بهذه الآية، وجليله وجميله أن حمزة والكسائي وخلف – عليهم رحمة الله تعالى – قرأوا بتقديم الفعل المجهول في:" فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " كما في تقريب النشر: (103) ، وفي ذلك دلالة على عظيم مدحهم لتعلق هممهم بالاستشهاد في سبيل الله رب العباد، ومن لم يرزق منهم شرف الاستشهاد فما وهن بعد قتل إخوانه أهل الرشاد، بل قاتل بجرأة حتى قتل أهل الفساد والعناد كما في حجة القراءات:(325)، وروح المعاني:(11/29) .

ثالث التنبيهات المتعلقة بإزالة المنكرات:

إذا كان مغير المنكر بيده لا يلحقه من تغييره إلا اللوم والتعنيف فيجب عليه إزالة الفساد، واحتساب أجره على ما يلقاه من الأذى عند رب العباد، وأما إذا تحقق حصول ضرب له فما فوقه جاز له أن يغيره، بل يستحب، وما يصيبه من الأذى يكافئه عليه الرب.

والذي أريد بيانه هنا: تحديد درجة الاحتمال التي تسقط عن المكلف واجب تغيير المنكر باليد، قال الغزالي في الإحياء:(2/316) : إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب، فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل نظر، فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أن يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنما يجب عليه إذا علم أنه لا شرر فيه عليه، أو ظن أنه لا ضرر عليه، والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف 1هـ.

وصفوة الكلام إن تحقق إصابته بضرب فما فوقه لا يجب عليه التغيير باليد، وكذلك إن غلب على ظنه، ويستحب له في تينك الحالتين التغيير واحتساب أجره عند الخبير البصير، ومجرد تجويز حلول العذاب عليه واحتمال نزوله به لا يسقط وجوب تغيير المنكر باليد بالإجماع، وأما إذا شك من غير رجحان في أحد الطرفين فالمعتمد وهو الحق وجوب إزالة المنكر باليد نظراً لقضية الأصل ولا يوجد ما يعارضه، فعض أخي الجليل بالنواجذ على هذا التفصيل، وقم بما يجب عليك نحو العليّ الكبير، وحذار حذار من المبالاة بالمخلوق الحقير الذي ليس له من الأمر قليل ولا كثير، ولا يملك من نقير ولا قطمير.

ثاني المباحث الخمسة:

إذا عجز المكلف عن تغيير المنكر بيده حسب التفصيل المتقدم بأدلته فيتعين عليه الإنكار باللسان إذا لم يخش وقوع ضرر على الأبدان كما تقدم بيان هذا في أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – فإن زالت المعاصي والآثام بذلك النصح والبيان فالأمة في خير وعافية من ربنا الرحمن، وإلا فهي مهددة بالعقوبة والانتقام، وسيعم ذلك جميع الأنام، كما قال ذو الجلال والإكرام:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الأنفال25، قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة:(2/298-299) : يحذر الله – تبارك وتعالى – عباده المؤمنين فتنة واختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب بل يعمها حيث لم تدفع ولم ترفع 1هـ وروى ابن جرير في تفسيره:(9/144)، وابن أبي حاتم كما في الإكليل:(113) ، وابن المنذر، وأبو الشيخ كما في الدر:(3/177) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: أمر الله – عز وجل – المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، قال الإمام ابن كثير:(2/299) ، وهذا تفسير حسن جداً، والقول بأن هذا التحذير يريعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه – إن شاء الله تعالى – كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف 1هـ وهذا هو المعتمد في تفسير الآية الكريمة، وهو الذي تعضده الأحاديث الصحيحة كما في تفسير القرطبي:(7/391) ، وسيأتيك ذكرها قريباً فلا تعجل، وفي تفسير الطبري:(9/144) عن مجاهد قال: هي أيضاً لكم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك كما في الدر المنثور:(3/177)، قال: تصيب الظالم، والصالح عامة.

قال عبد الرحيم: وتلك الإصابة العامة تكون عقوبة للمفسدين، وإخوانهم المقرين لهم على معصية رب العالمين، وأما في حق المنكرين لما يسخط أحكم الحاكمين فتكون طهرة لهم عند مالك يوم الدين، ومصيبة ينالون بها الأجر الكريم، وإليك بعض أحاديث خاتم النبيين – عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – في تقرير ذلك الأمر العظيم.

ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟، قال:"بخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتم".

حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (4/338) – كتاب البيوع – باب ما ذكر في الأسواق – وعلق الجملة الأولى منه في كتاب الحج – باب هدم الكعبة – عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً: (3/460) بشرح ابن حجر، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الفتن – باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت:(4/2208-2011)، وهو في المسند:(6/105، 259)، ورواه مسلم أيضاً في نفس المكان عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – وهو عنها في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب "10":(6/337) ، وأشار إلى الرواية المتقدمة، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب جيش البيداء:(2/1351)، وسنن أبي داود – كتاب المهدي:(4/476)، والمسند:(6/289 - 290، 316-317، 323)، ورواه عنها الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد – كتاب الفتن – باب ما جاء في المهدي –:(7/314-316) .

والحديث رواه الترمذي عن صفية – رضي الله تعالى عنها – في كتاب الفتن – باب ما جاء في الخسف: (6/347)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المكان المتقدم، وأحمد المسند:(6/336-337، 337) .

والحديث رواه ابن ماجه عن حفصة – رضي الله تعالى عنها – في المكان المتقدم، وهو في المسند:(6/286، 287)، ومسند الحميدي:(1/137) رقم "286"، ورواه الطبراني في الأوسط عن أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم –، ورواه البزار عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم.

وقوله: "أسواقهم" بالمهملة والقاف جمع سوق، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم، وقوله:"ومن ليس منهم" أي: من رافقهم ولم يقصد موافقتهم، كما في الفتح:(4/340)، وفي رواية لمسلم:"فقلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم" ووجه الاستدلال بهذا الحديث الشريف أن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – لما استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، أجيبت بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم، فيخسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، كما في الفتح:(4/340-341)، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:(18/7) في هذا الحديث من الفقه: التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلون لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه: أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا 10هـ ونحوه في شرح السنوسي: (7/239) .

وثبت في الصحيحين والمسند عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" وفي رواية ابن حبان عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: "يا عائشة إن الله – عز وجل – إذا أنزل سطوته بأهل نقمة وفيهم الصالحون فيصابون معهم، ثم يبعثون على نياتهم".

حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (13/60) – كتاب الفتن – باب إذا أنزل الله بقوم عذاباً، وصحيح مسلم آخر كتاب الجنة وصفة نعيمها:(4/220)، والمسند:(2/40)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب أنهلك وفينا الصالحون:(457)، واستشهد الحافظ في الفتح:(13/60) برواية ابن حبان وحكى المنذري في الترغيب والترهيب: (3/227) تصحيح ابن حبان وأقره.

قال الحافظ في الفتح: (13/60) قوله: "أصاب العذاب من كان فيهم" أي: ممن ليس هو على رأيهم، وقوله:"ثم بعثوا على أعمالهم" أي: بعث كل واحد منهم على حسب عمله – إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين، ونقمة على الفاسقين أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق الحسن بن محمد بن أبي طالب عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – مرفوعاً:"إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل: يا رسول الله وفيهم أهل طاعته؟ قال: نعم ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى" 10هـ قال راقم هذه الحروف: وهذه الرواية رواها أحمد في المسند: (6/41)، وفي إسناده امرأة لم تسم كما في مجمع الزوائد:(7/268) .

حاشية: وفي المستدرك – كتاب الفتن والملاحم –: (4/516)، عن أنس بن مالك قال: دخلت على أمنا عائشة ورجل معها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة فقالت: يا أنس إن حدثتك عنها عشت حزيناً، وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك، فقلت: يا أماه حدثينا، فقالت: إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله – عز وجل – من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها ناراً وشنارا، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف غار الله في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها عليهم، فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت: رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالاً وسخطة وعذاباً للكافرين، قال أنس: فما سمعت بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً أنا أشد به فرحاً مني بهذا، بل أعيش فرحاً، وأبعث حين أبعث وذلك الفرح في قلبي، أو قال في نفسي، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله: بل أحسبه موضوعاً على أنس، ونعيم بن حماد منكر الحديث إلى الغاية، مع أن البخاري روى عنه 1هـ وفي حكم الذهبي مبالغة بل مجازفة، فما سبب وضع الحديث؟ ونعيم لا يصل أمره على حد غاية النكارة، فهو في الميزان:(4/267) قال عنه: أحد الأئمة الأعلام على لين في حديثه 1هـ وقال عنه في الكاشف: (3/182) مختلف فيه 1هـ والمعتمد في أمره ما قاله الحافظ في التقريب: (2/305) صدوق يخطئ كثيراً 1هـ والحديث استشهد به ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1/264) من غير طريق نعيم، ونسب تخريجه لابن أبي الدنيا، وله شواهد كثيرة صحيحة.

وورد مثلها أيضاً في المسند: (6/304، 318) بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في المجمع: (7/268) عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – قالت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم اله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم صالحون؟ قال: بلى، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان.

وما تقدم من الأحاديث الصحيحة من عموم هلاك الناس صالحهم وطالحهم، عند انتشار المنكرات بين ظهرانيهم، ثم يتفاوتون عند ربهم بحسب نياتهم، يوضح ما ورد من الأحاديث المصرحة باستواء الناس في عقوبة العاجل، دون بيان مصيرهم في الآجل فتنبه لهذا البيان، واحمل الأحاديث الساكتة عن بيان مصير المتقين عند الرحمن، مع مشاركتهم في العقوبة العاجلة لأهل العصيان، على تلك التحقيقات الحسان، من أمثال حديث أمنا حبيبة بنت أبي سفيان عن أمنا زينب بنت جحش – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها يوماً فزعاً يقول:"لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها – قالت أمنا زينب ابنة جحش قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث".

حاشية: انظر صحيح مسلم البخاري بشرح ابن حجر: (13/11، 105-106) – كتاب الفتن – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ويل للعرب من شر قد اقترب" – باب يأجوج ومأجوج –، وصحيح مسلم – أول كتاب الفتن –:(4/2207)، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء من خروج يأجوج ومأجوج:(6/348-349)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب ما يكون من الفتن:(2/1305)، والمسند:(4/428-429)، ومسند الحميدي:(1/147-148) ، ورواه الطبراني في الأوسط عن أمنا أن حبيبة – رضي الله تعالى عنها – بسند رجاله ثقات، ورواه في الصغير والأوسط عن أنس – رضي الله تعالى عنه – بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(7/269) .

قال الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي: (9/36)، ونقله عنه الحافظ في الفتح:(13/109)، قوله:"نعم" في هلاك الصالح مع الطالح البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، وفيه وجهان: أحدهما: إذا لم يغير عليه خبثه. والثاني: إذا غير لكنه لم ينفع التغيير، بل كثر المنكر بعد النكير، فيهلك حينئذ القليل والكثير، ويحشر كل أحد على نيته، عدل الله في حكمه بحكمته 1هـ، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:(18/3-4) : "الخبث" فتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً، ومعنى الحديث: أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون 10هـ، وما فسر به الجمهور لفظ:"الخبث"، واستظهره الإمام النووي فواه الحافظ في الفتح:(13/109) فقال: وهو أولى، لأنه قابله بالصلاح 10هـ قلت: وذلك شامل لفشو أولاد الزنا، ويدخل ذلك الأمر دخولاً في الخبث فاعلم، وفي المسند:(6/333) ورواه أبو يعلى والطبراني وفي سند الحديث محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع فالحديث صحيح أو حسن، كما قال الهيثمي في المجمع:(6/257)، عن أمنا ميمونة – رضي الله تعالى عنها – قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "لا تزال أمتي بخير – ولفظ أبي يعلى والطبراني: لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها – ما لم يفشى فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب".

قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له الآثام – يتعلق بإنكار باللسان، تنبيهان عظيمان فكن على بال منها يا أخا الإسلام:

التنبيه الأول:

إذا خشي الإنسان من وقوع ضرر على الأبدان إذا أمر بالمعروف ونهى عن الآثام عن طريق اللسان، فيجوز له السكوت كما تقدم في ذلك البيان، ويجوز له بل يستحب الجهر والإعلان، وتحمل البلاء الذي يقع على الأبدان ولو كان عن طريق الحسام أو التحريق بالنيران، طلباً لنيل الرضوان، والأجور العظام، عند ذي الجلال والإكرام، وإليك تقرير هذا بالأدلة القوية الحسان.

ثبت في المسند والسنن بإسناد صحيح حسن أن رجلاًً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "كلمة حق عند سلطان جائر" ولاشك في أن ذلك مظنة خوف من وقوع ضرر عليه كما في الإحياء: (2/315) بل أقول – القائل راقم هذه الحروف – إن وقوع الضرر عليه متحقق وقوعه في الغالب لديه، ومع ذلك فقد أثنى نبينا – صلى الله عليه وسلم – عليه، وفي الحديث الذي يشهد له ما قبله:"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

حاشية: تقدم تخريج الرواية الأولى في كتاب الملل والنحل: (35)، وأما الرواية الثانية فرواها الحاكم في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم –:(3/195)، والخطيب في تاريخ بغداد:(6/377) بلفظ: "أفضل الشهداء" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله ك قلت حفيد الصغار لا يدري من هو 10هـ وقد تابعه حكيم بن زيد الأشعري في رواية الحديث عن إبراهيم الصائغ عند الخطيب، وحكيم متروك كما في الميزان:(1/586) عن الأزدي، وفي اللسان:(2/244)، وأسند له عن عطاء عن جابر – رضي الله تعالى عنه – رفعه: "أفضل الشهداء حمزة

" الحديث 10هـ وقد أخرج الحديث الطبراني في الأوسط بسند فيه راو ضعيف عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (7/272، 9/268) ،ونسب السيوطي في الجامع الصغير رواية جابر – رضي الله تعالى عنه – إلى الضياء المقدسي، ونسبها المناوي في الشح: (4/121) إلى الدليمي، وفي مسند البزار وفيه ممن لم أعرفه اثنان كما في مجمع الزوائد: (7/272) عن أبي عبيدة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي الشهداء أكرم على الله – عز وجل – قال: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله" قال عبد الرحيم: والرواية الصحيحة المتقدمة: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" تشهد لهذا الحديث فيعتضد بها فاعلم، والله تعالى أعلم.

وهذا الأمر – أعني جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وإن خشي على نفسه من بغي أهل الظلم والعدوان – يقرره أيضاً ما تقدم قريباً من جواز تغيير المنكر بالفعال، وإن تحقق لحوق الأضرار به من قبل الأشرار، بل إن ذلك يدل على جواز تغيير المنكر باللسان، وإن تأكد وقوع الضرر على نفسه من أهل العصيان من باب أولى عند أئمة الإسلام، لأن وقوع الضرر عليه في حال تغييره المنكر بيديه آكد وأقوى لديه، فإذا جاز ما هو أقوى، فجواز ما دونه أولى وأحرى.

واعلم أن هذا الأمر الذي أرشدت الأدلة إليه حرض سلفنا الكرام عليه ولهم في ذلك مواقف مزبورة، وأقوال سديدة مأثورة، ينالون عليها – إن شاء الله – أجوراً كثيرة، عند ربنا العالم بما في السريرة، قال ابن حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن – في مشاهير علماء الأمصار:(195) ذكر مشاهير أتباع التابعين بخراسان الذين سكنوها من الثقات والأثبات في الروايات، إبراهيم بن ميمون الصائغ، أبو إسحاق من أهل مرو، من الآمرين بالمعروف، والمواظبين على الورع، الموصوف مع الفقه في الدين والعبادة الدائمة، قتله أبو مسلم الخراساني سنة إحدى وثلاثين ومائة – رحمه الله تعالى – 1هـ. وبذلك أرخه البوي في المعرفة والتاريخ:(3/350)، وفي الميزان:(1/69)، وشذرات الذهب:(1/181)، قتله أبو مسلم الخراساني ظلماً 10هـ وفي تهذيب التهذيب:(1/173) قال ابن معين: ثقة وكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها 10هـ وإليك سبب قتله كما في أحكام القرآن للجصاص: (2/33) قال الإمام عبد الله بن المبارك: لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ – رحمهم الله جميعاً بكى حتى ظننا أنه سيموت، فخلوت به، فقال: كان والله رجلاً عاقلاً، ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر، قلت: وكيف كان سببه؟ قال: كان يقدم ويسألني، وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله – عز وجل – وكان شديد الورع، وكنت ربما قدمت إليه شيئاً فيسألني عنه، ولا يرضاه ولا يذوقه، وربما رضيه فأكله، فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله – تبارك وتعالى – فقال لي: مد يدك حتى أبايعك، فأظلمت الدنيا بيني وبينه، فقلت: ولم؟ قال: دعاني على حق من حقوق الله – عز وجل – فامتنعت عليه، وقلت له: إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر، ولكن إن وجد عليه أعواناً صالحين، ورجلاً يرأس عليهم مأموناً على دين الله – جل وعلا – لا يحول، قال: وكان يقتضي ذلك كلما قدم عليّ تقاضى الغريم الملح، كلما قدم عليّ تقاضاني، فأقول له: هذا أمر لا يصلح بواحد، ما أطاقته الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض، لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه، وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه، ولكنه ينتظر، فقد قالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} البقرة30 ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم، فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء خراسان وعبادهم حتى أطلقوه، ثم عاوده، فزجره، ثم عاوده، ثم قال ما أجد شيئاً أقوم به لله – تبارك وتعالى – أفضل من جهادك، لأجاهدك بلساني ليس لي قوة بيدي، ولكن يراني الله، وأنا أبغضك فيه، فقتله 10هـ.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ومن طريف ما يتعلق بحادثة إبراهيم بن ميمون الصائغ أنه هو أحد رواة الحديث الرائع: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فتله" فهو الذي رواه عن عطاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم –، وقد دل مسلكه على مطابقة عمله لقوله، طلباً لنيل رضوان ربه، نسأل الله أن يتقبل عمله المبرور، وأن يمن علينا بمثل سعيه المشكور، إنه عزيز غفور.

واعلم أخي الكريم أنه لا خلاف بين سلفنا الصالحين في استحباب الجهر بالحق المبين إذا قوي المكلف على تحمل العذاب الأليم من قبل أعداء الله المجرمين، فإن لم يوطن المكلف نفسه على تحمل العذاب، وخشي أن يجره ذلك إلى الانحراف عن شرع الملك الوهاب، فلا ضير عليه في عدم الإنكار بلسانه على أهل التباب، مع لزومه الصواب، كما سأوضح هذا عما قريب بفصل الخطاب.

وإذ قد اتضح لك الحق الواضح، فنزل عليه كلام سلفنا الصالح ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(86) قيل لشعيب بن حرب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لولا السيف والسوط وأشباه هذا لأمرنا ونهينا، فإن قويت فأمر وانه، وفيه:(83-84) ذكر الإمام أحمد ابن مروان الذي صلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فترحم عليه، وقال: قد قضى ما عليه وذكر أيضاً ابن أبي خالد، وكان الإمام أحمد عرف قصته في إقدامه فقال: قد عانت عليه نفسه وفيه: (90)، وفي الإحياء:(2/308) قيل لسفيان الثوري: ألا تأتي السلطان فتأمره؟ فقال: إذا انبثق البحر فمن يسكره؟ وفي الإحياء أيضاً – نفس المكان السابق – قيل للفضيل بن عياض: ألا تأمر وتنهي؟ فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا، وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا.

قال راقم هذه الحروف – وقاه الله من الفتن والحتوف – وعلى القولين الأخيرين قول الفضيل بن عياض وسفيان – عليهم جميعاً رحمة ربنا الرحمن – يتنزل ما ثبت عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" وقد تقدم تخريج الحديث قريباً وهو حديث حسن، فمن علم عدم انتفاع المنصوح بنصحه لغلبة الشح عليه، وإيثار الدنيا لديه، واتباعه لهواه مع إعجابه به جاز له عدم أمره ونهيه، فكيف إذا تحقق وقوع عذاب به، وانضم إلى ذلك شدة جزعه وعدم صبره، بحيث سيقود ذلك للتلبس بمنكرات طلباً للتخلص مما حل به من بليات، إن سكوته في هذه الحالة متعين ليسلم له دينه، فكم وكم من إنسان قام بالجهر بالحق ومقارعة أهل العصيان، فلما نزلت به العقوبة والانتقام، لجأ لصنف آخر من أهل الإجرام، بينهم وبين من عاداهم خلاف على اكتساب الحطام، فأعطاهم الولاء، لينجو مما نزل به من البلاء فحل عليه غضب رب الأرض والسماء، بل بعضهم صار في عين من عاداه وصار من حزبه ووالاه، ولم يبال بمقت مولاه، فلته ثم ليته ترك الأمر من أول الأمر، لئلا يقع فيما وقع فيه من فساد وفكر، نسأل الله الإخلاص والثبات، وحسن الخاتمة عند الممات، إنه كريم مجيب الدعوات.

وصفوة المقال: يجوز السكوت عند تلك الاعتبارات، كما دل على ذلك الأحاديث الثابتة عن خير البريات – صلى الله عليه وسلم – والجهر بالحق لمن قوي عليه أفضل وإن جر عليه أشنع النكبات وأفظع العقوبات، وليس ذلك إلقاء بالنفس للتهلكات، بل ذلك من باب بيعها في سبيل رب الأرض والسموات، ولا يقوى على ذلك إلا أصحاب الهمم العالميات، ففي المسند والسنن، وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام خطيباً فكان فيما قال:"ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه" فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا، وفي لفظ المسند:"لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا علمه" وفي لفظ له أيضاً: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم" ولفظ ابن حبان: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول أو يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه" قال أبو سعيد: فما زال بنا البلاء حتى صرنا وإنا لنبلغ في السر، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"لا ينبغي لمؤمن شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله، ولن يحرمه رزقاً هو له".

حاشية: انظر الحديث في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء فيما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة –: (6/351-352)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/1328)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –:(456)، والمسند:(3/5، 19، 44، 47، 50، 53، 84، 87، 92) – ورواه الطبراني كما في الأوسط ومجمع الزوائد: (7/265) ، وأبو يعلى، والبيهقي كما في جمع الجوامع:(1/939)، وانظر رواية البيهقي في شعب الإيمان في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(2/305)، وروى تلك الرواية أيضاً ابن النجار في الجامع الكبير:(1/393) .

وقد قام سفيان الثوري – عليه رحمة الله تعالى – بالمسلكين، فجهر بالحق المبين، وعرض نفسه لبطش الظالمين، فحفظه رب العالمين، من كيدهم الأثيم، ثم توارى عنهم واعتزل، حتى جاءه الأجل – عليه رحمة الله عز وجل –

حاشية: وبهذا يجعل الجمع بين مقارعته للجائرين، وبين قوله:"إذا انبثق البحر فمن يسكره" فقد جهر بالحق في وجه المنصور، واستمر على التحذير فيما يجري منه ومن عماله من قصور، حتى إن المنصور حين هرج إلى مكة أرسل الخشابين، وقال لهم: إن رأيتم سفيان فاصلبوه فنصبوا الخشب ونادوا عليه في المسجد الحرام، وكان رأسه في حجر الفضيل بن عياش ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله، ولا تشمت بنا الأعداء، فقام وتقدم إلى أستار الكعبة ثم أخذها وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر المنصور فمات أبو جعفر قبل أن يدخل الكعبة، وكان مسلك سفيان مع المهدي كمسلكه مع أبيه، فأمر بقتله أيضاً فخرج سفيان إلى البصرة واعتزل ولم يزل بها حتى أدركه الأجل، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ:(1/206) مات في البصرة في الاختفاء من المهدي، فإنه كان قوالاً بالحق شديد الإنكار، وانظر ترجمته المباركة، ومواقفه مع المنصور والمهدي في تاريخ بغداد:(9/151-174)، وحلية الأولياء:(6/356-393، 7/3-144)، وصفة الصفوة:(3/147-152)، والبداية والنهاية:(10/134)، وتهذيب التهذيب:(4/111-115) .

وانظر مجمع الزوائد – كتاب الفتن –: (7/272-275) ففيه عدة تراجم يشير بها إلى ذلك، باب الكلام بالحق عند الحكام، باب فيمن خاف فأنكر بقلبه ومن تكلم – باب من خشي من ضرر على غيره وعلى نفسه، ودللت على أن ذلك هو فريضة الله عليه في ذلك الحال ثم بينت بالأدلة اشتراك أهل الخير والكمال بالعذاب مع الضلال إذا لم يزل الضلال فما وجه التوفيق بين الأمرين في المآل؟.

والجواب عن ذلك أخي الكريم: إن نزول العذاب على الصالحين في ذلك الحين من باب المصائب التي يثابون عليها عند رب العالمين، لأنهم قاموا بفريضة الله عليهم في مقارعة الفاسقين لكنهم لبقائهم في دار الظالمين عذبوا بما عذب الله به المجرمين، لما تقدم من الأدلة المصرحة بعموم العذاب لمن هو في تلك الدار من الساكنين، فالمكان الذي يعمل فيه بالعصيان مهدد بعقوبة ذي العزة والانتقام، وإذا نزل بطش الرحمن عم من في ذلك المكان، فالبلاء عام عام ولذلك حذرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – من حضور الأمكنة التي يظن فيها وقوع الإجرام ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند حسن عن خرشة بن الحارث – رضي الله تعالى عنه – وكان من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"لا يشهدن أحدكم قتيلاً، لعله أن يكون قتل ظلماً، فيصيبه السخط" ولفظ البزار: "فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم" وروى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه، ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه".

حاشية: انظر الحديث الأول في المسند: (4/167)، ومجمع الزوائد:(7/300)، وفيه: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة:(2/127)، وابن حجر في الإصابة:(1/423) الحديث في ترجمته.

وانظر الحديث الثاني في تخريج أحاديث الإحياء: (2/305)، وفيه: رواه الطبراني بسند ضعيف والبيهقي في شعب الإيمان بسند حسن.

فإذا انتشرت الردايا عمت البلايا، قال الشيخ الصالح بلال بن سعد – رحمه الله تعالى – إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.

حاشية: كما في الزهد والرقاق لابن المبارك: (476)، والحلية:(5/222)، وصفوة الصفوة:(4/217) والإحياء: (2/308) ورد ذلك عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً في معجم الطبراني الأوسط لكن في إسناده مروان بن سالم الفطاري، وهو متروك كما في مجمع الزوائد:(7/268) .

فإن قيل: فما العمل وكيف تحصل النجاة؟ فالجواب: لا تحصل النجاة في هذه الدار إلا بالهجرة من دار الأشرار، كما هو مسلك الأخبار، في سائر الأعصار والأمصار، قال الإمام القرطبي في تفسيره:(7/392)، وفي التذكرة:(629) قال علماؤنا: الفتنة إذا علمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصرة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – روى ابن وهب عن مالك – رحمهم الله جميعاً – أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها 10هـ.

وقصة أصحاب السبت ينبغي تدبرها في هذا الوقت، لما بين حالنا وحالهم من التشابه التام والسعيد من اعتبر بغيره من الأنام، ونسأل الله الكريم حسن الختام، وإليك البيان في عدة نقاط حسان:

1-

أمر الله اليهود بتعظيم يوم الجمعة، فاختاروا السبت مكانه متعللين بأن الله لم يخلق فيه شيئاً، لأنه بدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وهذا من تنطعهم وضلالهم وتقديم آراءهم على شرع ربهم، وقد سار النصارى على نهجهم في المعاندة والمحادة فاختاروا بوم الأحد، لان الله بدأ الخلق فيه، فألزم الله كلا بما اختار، ووضع عليهم في ذلك الإصر والأغلال فحرم ذو العزة والجلال على اليهود الأرذال الصيد يوم السبت وجعل الأسماك تظهر بكثرة يوم السبت على الماء رافعة رؤوسها، ثم تختفي بقية الأيام امتحاناً من الله لهم، جزاء لما صدر عنهم قال الله – جل وعلا –:{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف163، وقال – جل وعز –:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النحل124، قال مجاهد كما في تفسيره:(1/355)، وتفسير الطبري:(14/130) اتبعوه – يعني يوم السبت – وتركوا الجمعة، وروى ابن أبي حاتم عن السدي كما في فتح الباري:(2/355)، والدر:(4/134)، قال: إن اله – عز وجل – فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً فاجعل لنا السبت، فلما جعل عليهم السبت استحلوا فيه ما حرم عليهم.

وقد أشار نبينا – صلى الله عليه وسلم – لاختلاف من قبلنا في يوم الجمعة، وهدايتنا له، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع فاليهود غداً والنصارى بعد غد"، وفي لفظ لمسلم وغيره عن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن والآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي لهم قبل الخلائق" وفي رواية البزار بسند رجاله رجال الصحيح: "المغفور لهم قبل الخلائق".

حاشية: انظر الرواية الأولى في صحيح البخاري – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة –: (2/353)، وباب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟:(2/382)، وفي كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب:"54": (6/515) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الجمعة – باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة:(2/585-586)، وسنن النسائي – كتاب الجمعة – باب إيجاب الجمعة:(3/71)، وصحيح ابن خزيمة – كتاب الجمعة – باب ذكر فرض الجمعة:(3/109-110)، وشرح السنة – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة:(4/200-201)، ومعالم التنزيل:(4/124)، والأم:(1/188)، والمسند:(2/243-249، 274، 312، 341-342، 502-503)، وتاريخ بغداد:(2/257) .

ووردت الجملة الأولى من الحديث الشريف: "نحن الآخرون والسابقون يوم القيامة" في صحيح البخاري – كتاب الوضوء – باب البول في الماء الدائم: (1/345) ، وكتاب الجهاد – باب يقاتل من رواء الإمام ويتقي به،:(6/116)، وأول كتاب الإيمان والنذور:(11/517)، وكتاب الديات – باب من أخذ حقه واقتضى دون السلطان:(12/216)، وكتاب التعبير – باب النفخ في المنام –:(12/423)، وكتاب التوحيد – باب قول الله تعالى –:"يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ": (13/464) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، والمسند:(2/473، 504)، وتاريخ بغداد:(2/160)، ونحوه عند ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –:(2/1434) لكن من رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون".

وانظر رواية الحديث الثانية في صحيح مسلم – المكان المتقدم – وسنن النسائي – المكان المتقدم أيضاً – وسنن ابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة – باب في فرض الجمعة: (1/344) .

واعلم أن أول من جمع أهل المدينة قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليهم، وتولي الصلاة بهم وتذكيرهم: أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مصنف عبد الرزاق: (3/159) – كتاب الجمعة – باب أول من جمع عن ابن سيرين مرسلاً، وصحح الحافظ في الفتح:(2/355) إسناده، وفي المستدرك – كتاب الجمعة:(1/280) بسند صحيح على شرط مسلم قاله الحاكم وأقره الذهبي عن عبد الرحمن بن كعب قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر له فمكثت كثيراً لا يسمع أذان الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: أي بني كان أول من جمع بنا في المدينة، وفي كتاب الثقات لابن حبان: أول جمعة جمعت بالمدينة جمعها أبو أمامة أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنه – 10هـ قال الحافظ في الفتح: (2/355) مرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم قال: وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإمام إنما خلق فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله – تبارك وتعالى – أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة 10هـ.

2-

لما فرض الله – جل وعلا – عليهم ما اختاروه، وامتحنهم بما امتحنهم به ليعلم هل يطيعوه، تجاوزا الحرمات، وارتكبوا الموبقات، فصاد فريق منهم الأسماك في يوم الإسبات، ولما لم يعاجلوا بالعقوبات، تبعهم على مسلكهم جم غفير من أهل العقول المنكوسات، ولكيفية اصطيادهم حالتان، كل منهما من وساوس الشيطان:

الحالة الأولى:

عن طريق الاحتيال الماكر، دون الاصطياد المباشر، وذلك بعمل أحواض وبرك قرب البحر فإذا دخل إليها السمك منعوها من العودة إلى البحر عن طريق وضع حواجز بين الأحواض والبرك وبين البحر، فإذا جاء يوم الأحد أخرجوها من تلك الأحواض وأكلوها، ومثل هذا أيضاً وضع مصائد وشباك للسمك يوم السبت فإذا دخلت تلك المصائد والشباك لا تستطيع الخروج منها، والعودة إلى البحر، فيصيدوها يوم الأحد ويدخل في هذا أيضاً ما فعله بعضهم من أخذ السمك وخرم أنفه وربطه بحبل ضرب له وتد في الساحل ثم يلقي السمك في الماء فإذا جاء يوم الأحد شد الحبل واخرج السمك، وكل هذا نقل عنهم، وجرى منهم، وهذا من باب التحايل على ما حرم الله – جل وعلا – ولليهود فيه مهارة ولهم عليه جسارة، وعاقبة ذلك الخذلان والخسارة، وقد حذرنا نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - من ذلك المسلك الأثيم فقال – فداه أبي وأمي –:"لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".

حاشية: أخرجه الإمام ابن بطة – عليه رحمة الله تعالى – في كتابه: "إبطال الحيل": (47) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، حكم الشيخ ابن تيمية على إسناده بأنه حسن كما في مجموع الفتاوى:(29/29)، وانظر اعتماده للحديث في كتابه:"إبطال التحليل": (24)، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:(2/257) إسناده جيد: ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيراً، ومثل ذلك قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان:(1/348)، وكتب سبعين ومائة صفحة في الحيل من:(1/338-391، 2/3-121، وختم الكلام بقوله لعلك تقول: قد أطلت الكلام في هذا الفصل جداً، وقد كان يكفى الإشارة إليه، فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجد فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين، أهل المكر والمخادعة، والاحتيال في العلميات، وأهل التحريف السفسطة والقرمطة في العلميات، وكل فساد في الدين، بل في الدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين، وانظر الرسالة التدمرية: (13) ، ففيه الحكم على الزائغين بأنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات، وفي:(67) نقل عن الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية 10هـ ومر هذا موضحاً سابقاً.

الحالة الثانية:

عن طريق التأويل الجائر للاصطياد المباشر حيث سول لهم الشيطان أن المراد من النهي: النهي عن الأكل منها يوم السبت، لا النهي عن اصطيادها ثم أكلها في غيره من الأيام، وهذا من باب تحريف النصوص، وهو مسلك المجرمين اللصوص، وتأويل النص بما لا يدل عليه، لا يقل سوءاً من جحده والاعتراض عليه، بل ذلك أشنع وأفظع، حيث إن المؤول مع زيغه يزعم أنه مطيع لربه، ورحمة الله على من قال كما في فتح الباري:(10/66) :

وأشربها وأزعمها حراماً

وأرجو عفو رب ذي امتنانج

ويشربها ويزعمها حلالاً

وتلك على المسيء خطيئتان

ولما قرر الإمام الألوسي في روح المعاني تحريم المزامير والأغاني ختم الكلام بكلام نوراني فقال: (21/79) ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو سماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له

إلخ.

3-

فلما جرى من أولئك ما جرى من الاعتداء على شريعة الله المطهرة، انقسم بنو إسرائيل نحو ذلك المسلك الوبيل ثلاثة أقسام على القول المعتمد من الأقاويل:

أ) قسم شارك في ذلك العمل الرذيل، وارتكب معصية الله الجليل.

ب) قسم عارض ذلك العمل، ثم فارق من اقترفه غضباً لله – عز وجل –.

جـ) قسم أعرض عن فعل الموبقات، وفارق من تلبس بالقاذورات، لكنه لم يعارضهم فيما قاموا به من ضلالات، لتيقنه عدم انتفاعهم بالإرشادات.

وإلى الأصناف الثلاثة أشار رب الأرض والسموات بقوله: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الأعراف164.

وما قيل: إن بني إسرائيل انقسموا قسمين نحو ذلك العمل الوبيل، فهو قول هزيل، وإليك الإيضاح بالبيان الجليل:

نقل عن الكلبي كما في تفسير الطبري: (9/67) ، وغيره، قال: هما فرقتان الفرقة التي وعظت والتي قالت لم توعظون قوماً الله مهلكهم هي الفرقة الثانية وهي الموعوظة، لكن رد ذلك البغوي في معالم التنزيل:(2/303)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن:(7/307) ، وغيرهما، وسبب الرد لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف بدل الهاء.

ونقل في بيان انقسام بني إسرائيل إلى قسمين في ذلك الزمان، تعليل آخر يعود لما قدمته من البيان ففي تفسير الطبري:(9/63) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في الدر:(3/137) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: هي قرية على شاطئ البحر، يقال لها: أيلة، حرم الله – عز وجل – عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً على ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا بذلك ما شاء الله – تبارك وتعالى –، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله – عز وجل – عليكم يوم سبتكم، فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب،:" لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وكانوا أشد غضباً لله – عز وجل – من الطائفة الأخرى، فقالوا:" قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله – جل وعلا – نجت الطائفتان اللتان قالوا:" لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" والذين قالوا: " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وأهلك الله – جل وعلا – أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير 1هـ.

فهذا القول يرجع للتقسيم الذي فصلته، فالناهون قسمان، قسم استمر على نهيه ونكيره على المخالفين لرب العالمين، ثم فارقهم خشية أن يحل به بطش أحكم الحاكمين، وقسم أعرض عن النهي عن المنكر عندما لاح لهم أن المعتدين من أهل سقر، وليس فيهم من يعتبر ويتذكر، ثم فارقوا الظالمين الظغام غضباً لذي العزة والانتقام، فعاد التقسيم إلى ثلاثة أقسام، قسم متلبس بالعصيان، وقسم ناء عن الآثام، وقسم ساكت باللسان، منكر بالجنان، بعد أن يئس من هداية أهل الطغيان.

4-

وبعد أن اعتدى الظالمون من بني إسرائيل على حرمات الله الجليل، أنزل الله عليهم عذابه الوبيل، فمسخهم قردة وخنازير، فنجا من أعرض عن فعل تلك الأوزار، وفارق ديار أهل البوار، عارضهم أو لم يعارضهم، نهاهم أو لم ينهاهم ليأسه منهم، وهلك من فعل فعلهم، أو لم يفارق ديارهم وإن لم يفعل أوزارهم، لكن الأدلة المنقولة عن سلفنا الطيبين دلت على مفارقة المؤمنين في ذلك الحين ديار المعتدين، وبهذا يجتمع شمل الأقوال في هذا المقام، فقد نقل عن بعض سلفنا الكرام كابن عباس – عليهم جميعا رضوان ربنا الرحمن – توقف في أول الأمر في مصير الذين لم ينهوا عن الآثام وقالوا لناهين:" لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، ونقل عنه أيضاً الحكم بهلاكهم كأهل العصيان، ولعل ذلك منه قبل أن يتبين له مفارقتهم للمعتدين، فلما تبين له ذلك قال بنجاتهم مع الناهين عن معصية رب العالمين، وإليك الروايات الواردة عنه بذلك يا أخي الكريم.

روى ابن جرير في تفسير (9/66-67) ، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ كما في الدر:(3/137) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: ابتدعوا السبت، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعاً، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخرم أنفه، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه، وتركه في الماء، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ن ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أخد إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، وفعل علانية، قال: فقالت طائفة للذين ينهون: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف165-166، قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: كانوا أثلاثاً، ثلث نهوا، وثلث قالوا:" لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهو وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم فجعلوا يقولون: إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم، فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قدرة يعرفون الرجل بعينه، وإنه لقرد، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله – جل وعلا –:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة65 -66.

فهذه الرواية تدل على كون الساكتين عن الإنكار على المعتدين كانوا من جملة المعذبين.

وبذلك عنون الإمام ابن جرير في تفسيره، فقال: وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" كانت من الفرقة الهالكة، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:(2/258) القول الثاني أن الساكتين كانوا من الهالكين، ثم بعد أن سرد الرواية المتقدمة قال: وهذا إسناد جيد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين له حالهم بعد ذلك.

وورد عنه ما يدل على الوقف في أمر الساكتين ففي تفسير الطبري: (9/67) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ كما في الدر:(3/138) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين، واخرج عنه عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في الدر:(3/138)، قال: لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" نجوا مع الذين نهوا عن السوء أحب إليّ من جمر النعيم، ولكني أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً.

وهذا التوقف كان في بداية الأمر من ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قبل أن يتبين له مباينة الساكتين للمعتدين، وانفصالهم عنهم في ذلك الحين، كما في تفسير الطبري:(1/261، 64-65، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير –: (2/323)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى:(10/92-93)، وأحكام القرآن للشافعي:(2/173-177) ، وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، كما في الدر:(10/75، 3/137) عن عكرمة، قال: جئت ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، قال: وإذا هو في سورة الأعراف، قال: تعرف أيلة، قلت: نعم، قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام، فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت، وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين ونهت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت، وقال الأيمنون: ويلكم لا تتعرضوا لعقوبة الله – عز وجل، وقال الأيسرون:" لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال الأيمنون:" مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم، فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم يا أعداء الله، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله – عز وجل – بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا، فوضعوا سلماً، وأعلوا سور المدينة رجلاً، فالتفت إليهم، فقال: أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب، قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت: القردة أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم، ثم قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الأعراف165، قال: فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها، قال، قلت: أي جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا:"لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال: فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين، وفي رواية للطبري:(9/66) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر كما في الدر:(3/138) عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – هذه الآية: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، فقال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حلة.

ففي هذه الرواية التصريح بنجاة الساكتين، لأنهم كرهوا اعتداء المسرفين وخالفوهم في ديارهم ذلك الحين، ولذلك لم يدر الخيار بما حل بالأشرار من عذاب العزيز الجبار حتى تسلقوا عليهم الجدار، ضحوة النهار، ولو كانوا معهم لعلموا بما صار إليه حالهم، وصفوة المقال: أن جميع الأخيار اعتزلوا، لكن قسم منهم أنكروا وقسم سكتوا، وجميع الروايات المصرحة بنجاة من حصلت له النجاة فيها التنصيص على اعتزال المؤمنين آنذاك لأهل الضلالات، روى الطبري في تفسيره:(9/67) عن أبي صالح: وضعت اليهود يوم السبت، وسبتوه على أنفسهم، فسبته الله عليهم ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتان، فجعلت تشرع يوم السبت فيتقون أن يصيبوا منها، حتى قال رجل منهم: والله ما السبت بيوم وكده الله علينا، ونحن وكدناه على أنفسنا، فلو تناولت من هذا السمك، فتناول حوتاً من الحيتان، فسمع بذلك جاره فخاف العقوبة فهرب من منزله، فلما مكث ما شاء الله – عز وجل – ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضاً في يوم السبت، فلما لم تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيداً يشربون فيه الخمور، ويلعبون فيه بالمعازف، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم انتهوا عما تفعلون إن الله مهلككم أو معذبكم عذاباً شديداً، أفلا تعقلون، ولا تعتدوا في السبت، فأبوا فقال خيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطاً، ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها سكنت أصواتهم أول الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبتهم فناموا، فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حساً، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حساً؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط، وانظر شأنهم، فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض قد مسخوا قردة، فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا، فصعدوا فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسمون فيه، فيقولون: أي فلان، أنت فلان، فيومئ بيده إلى صدره، أي: نعم بما كسبت يداي.

وقال عبد الرحيم – ستره رب العالمين –: ما دلت عليه الحادثة المتقدمة في بني إسرائيل، من وجوب مفارقة الصالحين لأهل العمل الرذيل، ليحصل لهم النجاة من الأخذ الوبيل من قبل الرب الكبير، قررته شريعة ربنا الجليل، كما تقدم تقرير هذا بشيء من التفصيل، وقد حكى الحافظ في الفتح:(13/61) عن ابن أبي حمزة – رحمهم الله جميعاً – أنه جنح إلى أن الذين يقع لهم العذاب في الدنيا إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً ولا يرسل الله – جل وعلا – عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، فقد رده الحافظ بعد حكايته له، وهو حقيق بالرد لأن الله – جل جلاله – يدفع بالأبرار العذاب عن الفجار، ما دام للحق ظهور وانتشار، وهيمنة على الأقطار، فإذا كثر الأشرار نزل بالجميع عذاب العزيز الجبار، ويختلف حكمهم في دار القرار حسب أعمالهم ونياتهم في هذه الدار، ولا ينجو من العذاب العاجل، إلا من فارق ديار أهل الباطل، وقول الإمام القرطبي في تذكرته:(628-629) على هذا يتنزل، ونص كلامه: إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون، وأخلصوا كراهيتهم لله – تبارك وتعالى – وتبرؤوا من ذلك حسب ما يلزمهم، ويجب لله – عز وجل – عليهم غير معتدين سلموا 1هـ وهذا محمول قطعاً على الهجرة، من ديار الظالمين، إذا لم تزل معصية رب العالمين، لأن ذلك دليل الإخلاص في الكراهية، والقيام بما يقتضيه التبرؤ التام، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة أصحاب السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – 10هـ.

وبذلك تعلم أن ما نسبه ابن حجر للإمام القرطبي في تذكرته من أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، فيه نظر، فقد علمت كلامه الدال على تقييد النجاة بمفارقة دار الضلال، وما أجل ما قاله الحافظ في الفتح:(13/61) في بيان ما يستفاد من حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم" ويستفاد من الحديث: مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرضى بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم وسيأتي لهذا مزيد بيان عبد المبحث الثالث في هذه المسألة العظيمة الشأن.

5-

لما فشا في بني إسرائيل الاعتداء على حرمات الله الجليل، عاقبهم ربنا القدير بالأخذ الوبيل، فجعل منهم القردة والخنازير، وأشار إلى ذلك في ثلاث سورة من سور التنزيل، سورة البقرة:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة65-66، وفي سورة المائدة:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} المائدة60، وفي سورة الأعراف:{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف163-166، وكان من مسخ نحواً من سبعين ألفاً كما في زاد المسير:(1/95)، والجامع لأحكام القرآن:(7/307)، ونقل عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في تفسير الطبري:(9/69)، وقتادة كما في تفسير الطبري:(1/262)، وعبد بن حميد كما في الدر:(1/75) أنهما قالا: صار شباب القوم قردة، وصارت المشيخة خنازير 10هـ وقد وقع ذلك المسخ حقيقة على الأبدان، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام، ولم يعقبوا بعد أن عذبوا عذاب الهوان، ويتعلق بمسخهم مسألتان، ينبغي بيان الحق فيما بالأدلة القوية الحسان:

المسألة الأولى:

ادعى مجاهد بن جبر – عليه رحمة الله تعالى – أن المسخ وقع على قلوب بني إسرائيل، ولم تمسخ أبدانهم قردة، وخنازير كما في تفسيره:(1/77-78)، وتفسير ابن جرير:(1/263)، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في الدر:(1/75)، وإسناد ذلك إلى مجاهد جيد كما في تفسير ابن كثير:(1/105) فالقول ثابت عنه، حاصل المعنى فيه أن المسخ معنوي وليس بحقيقي، وما ذلك إلا من باب ضرب المثل لهم، كما مثلهم بالحمار يحمل أسفاراً في قول الله – جل وعلا –:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجمعة5.

وقد حكى ذلك عن مجاهد ولم يرده أبو السعود في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: (1/110)، والشوكاني في فتح القدير:(1/96)، مع أنه لم يذكر إلا القول بمسخهم حقيقة في تفسير سورة الأعراف:(2/257-259)، وكذلك حكاه القاسمي في محاسن التأويل:(1/150، 7/2890) ، ولم يرده، بل يفهم من كلامه الميل إليه، ونصر ذلك القول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في تفسير المنار:(1/344) كما هي عادتهما في مثل هذا، ونص كلامهما: روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم، فمثلوا كما مثلوا بالحمار في قوله – عز وجل –:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الجمعة5، ومثل قوله – جل وعلا –:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة60، والخسوء في قوله:{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة65، وهو الطرد والصغار، والأمر للتكوين أي: فكانوا بحسب سنة الله – تبارك وتعالى – في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس، والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات، بلا خجل ولا حياء، حتى صار كرام الناس يحتقرونهم، ولا يرونهم أهلاً لمجالستهم ومعاملتهم، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى:" كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ " أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصاً فيه، ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله – جل وعلا – لا يمسخ كل عاص فيخرجه من نوع الإنسان إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله – تبارك وتعالى – في الذين خلوا أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية 10هـ.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ولوالديه وللمسلمين –: لا يرتاب عاقل في بطلان قول مجاهد إمام التابعين، وذلك معدود من زلله عند الصالحين، ومن تبع زلل العلماء، فهو من الضالين، قال سليمان التيمي شيخ المسلمين – عليه رحمة رب العالمين –: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.

حاشية: انظر نسبة ذلك إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (159)، وجامع بيان العلم وفضله: (2/91، وعقب ابن عبد البر على قوله بقوله: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً، وانظره في الحلية: (3/32، وتذكرة الحفاظ: (1/151، وفي الكتابين الأخيرين ترجمة حسنة له، فانظرها، وقد وصفه الذهبي في التذكرة بقوله: شيخ الإسلام

قال شعبة ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي كان إذا حدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تغير لونه، وقال ولده معتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء، قلت: القائل الذهبي –: كان عابد البصرة وعالمها، وكان يقول كما في الحلية: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل والشتاء غنيمة العبد، وإن الرجل ليذئب الذئب فيصبح وعليه مذلته، روى عنه أهل الكتاب الستة، وتوفي سنة ثلاث وأربعين مائة – عليه رحمة الله تعالى – وانظر ترجمته المباركة أيضاً في كتاب تهذيب التهذيب:(4/201-207)، وصفوة الصفوة:(3/296-300)، وشذرات الذهب:(1/212)، والمعرفة والتاريخ:(2/268)، وفيه: كان يسبح في كل سجدة وركعة سبعين تسبيحة.

وروى مثله عن معمر وإبراهيم بن أدهم – عليهم رحمة الله وتعالى – كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (159-160)، ونص كلام إبراهيم بن أدهم: من حمل شاذ العلماء حمل شر كبيراً، ولعله لم يبلغ مجاهداً النقل الصحيح عن بنينا – صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي بيانه عما قريب، وأما قلسفة محمد رشيد رضا، وشيخه فهي لا تعدوا عن كونها صرير باب أو طنين ذباب، وإليك نقض ما حبكه من الشبه والارتياب، وإثبات الصواب بفضل الخطاب.

دل على وقوع المسخ على الأبدان للمعتدين من بني إسرائيل في ذلك الزمان، خمسة أدلة حسان، فتدبرها يا أخا الإسلام:

الدليل الأول:

ثبوت ذلك عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك".

انظر صحيح مسلم بشرح النووي: (16/214) – كتاب القدر – باب بيان الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص –، والمسند:(1/413، 433، 455، 466)، وورد فيه بنحوه في:(1/390، 395، 397، 421)، ورواه الحميدي:(1/68-69)، والطحاوي في شرح معاني الآثار:(4/991)، ورواه أبو يعلى والطبراني عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد:(8/11-12) كتاب الفتن – باب ما جاء في المسخ، والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – وفيه: فيه ليت بن أبي سليم مدلس، وبقية رجالهما رجال الصحيح، ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما – كما في المجمع:(8/11-12)، وفيه: فيه مسلمة بن علي وهو ضعيف، والرواية المتقدمة عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – تشهد لهاتين الروايتين فاعلم، وانظر رواية أبي يعلى أيضاً في المطالب العالية:(3/334) – كتاب التفسير – سورة الأعراف.

والحديث صحيح، وهو نص صريح في وقوع المسخ على الأبدان، لكن القردة والخنازير الموجودة الآن، ليست من نسل ما مسخ في ذلك الزمان لأن الله – عز وجل – لا يجعل لما مسخ نسلاً، بل يستأصلهم، ويقطع دابرهم.

الدليل الثاني:

ظاهر الآيات الثلاث في السور الثلاثة تدل على أن المسخ وقع حقيقة على الأبدان، وترك الظواهر لا يجوز عن أهل الإيمان، ففي ذلك فتح لباب الزندقة الباطنية للتلاعب بالنصوص الشرعية، فلو لم يدل على كون المسخ حقيقة إلا ظواهر النصوص لكفى ذلك دليلاً عند طيبي النفوس، وقد كرر شيخنا المبارك – عليه رحمة ربنا القدوس – في أضواء البيان، التنويه بمنزلة هذا الدليل عند علماء الإسلام ففي:(4/672-673) مثلاً يقول: والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل الرجوع إليه 10هـ وانظر إيضاح هذا بالأدلة القوية، وما يترتب على مخالفته من بلايا ردية في القاعدة الثالثة من الرسالة التدمرية:(47-51) .

الدليل الثالث:

القول بوقوع المسخ على الأبدان هو قول جمهور العلماء الكرام، ولم ينقل في هذا خلاف عن المتقدمين إلا ما حكي عن مجاهد – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – وهو معذور لعدم وقوفه على الدليل المبرور، وظنه أن ذلك من باب المثل لأهل الثبور، وبالتالي فقوله شاذ مهجور، رده الأئمة الفحول قال الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الكبير في تفسيره (1/263) : وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله – تبارك وتعالى – مخالف، وذلك أن الله – تبارك وتعالى – أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر – جل وعلا – أنهم قالوا لنبيهم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –:{أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً} النساء153، وأن الله – تعالى ذكره – أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة، فقالوا لنبيهم:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} المائدة24، فابتلاهم بالتيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر – جل ولعا – أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله – تبارك وتعالى – عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والنكال والعقوبات التي أحلها الله – عز وجل – بهم، ومن أنكر شيئاً من ذلك، وأقر بآخر منه سئل البرهان على قوله، وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقر به، ثم يسال الفرق بين خبر مستفيض، أو أثر صحيح، هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلاً في فساد قول إجماعها على تخطئته 1هـ.

وفي كلام الإمام ابن جرير تقرير للدليل الثاني والثالث فتدبر، وتبعه على كلامه الإمام الألوسي في روح المعاني:(1/283)، وعبارته: وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين، وهو الصحيح 10هـ، وقال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (1/95) : وقول مجاهد بعيد، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:(1/105) هذا قول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره 10هـ وعلى رد قول مجاهد، وتقرير كون المسخ وقع حقيقة على الأبدان سار المفسرون الكرام، انظر معاني القرآن للفراء:(1/43) ومعاني القرآن للزجاج: (1/427)، ومعالم التنزيل:(1/69)، ومفاتيح الغيب:(3/111)، وأحكام القرآن لابن العربي:(2/798)، والجامع لأحكام القرآن:(1/441)، ولباب التأويل:(1/69)، والبحر المحيط:(1/346) والجواهر الحسان: (1/75)، والتسهيل لعلوم التنزيل:(1/50، 2/53)، والسراج المنير:(1/67) .

الدليل الرابع:

في مسخ أبدانهم حقيقة موعظة بليغة، وعبرة كبيرة، كيف لا، وقد رأى الناس حلول أشنع العقوبات بمن خالفوا رب الأرض والسموات، ومن لم ير ذلك من المكلفين والمكلفات فقد سمع به في محكم الآيات، وذلك بلا شك مما يدعوا الصنفين من رأى مصير المعتدين بعينيه، أو سمعه بأذنيه، لخشية رب الكونين، والحذر من عقوبته التي عاقب بها أهل الشين، وإن لم تعجل العقوبة لبعض أهل الآثام فما يستقبلهم في الآخرة من هوله الولدان، روى ابن جير في تفسيره:(9/68) عن الحسن البصري، ورواه عنه أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ – رحمهم الله جميعاً – كما في الدر:(3/138) أنه تلا ذات يوم: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف163، فقال: كان حوتاً حرمه الله – جل وعلا – عليهم في يوم السبت، وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله – عز وجل – عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد، ولما رأيت أحداً يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه – قال: فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قط، أثقله خزياً في الدنيا، وأشده عقوبة في الآخرة، وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوا أعظم عند الله – عز وجل – من قتل رجل مؤمن، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة، والساعة أدهى وأمر، وصدق إذ يقول:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة65، وفي تفسير ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –:(1/261) ، هذا تحذير لهم من المعصية.

إذا علمت هذا فلن ترتاب أنه من الفاسد البارد السمج المرذول قول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده، لو صح النقل بمسخهم حقيقة لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة.....

هذا عدل عما في قولهما من جسارة شنيعة، على نصوص الشريعة، رزقنا الله الأدب والإيمان وجعل عقولنا تابعة لهدي الإسلام، وحفظنا من وساوس الشيطان، إنه رحيم رحمن.

الدليل الخامس:

إن وقوع المسخ أمر ممكن وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به، وقد دلت الأدلة السمعية على وقوعه في مسر في هذه الأمة فيما سيأتي من الزمان كما وقع لأهل العصيان فيما مضى من الأزمان وفي ذلك تقرير للدليل الرابع لما في هذا الأمر من تحذير عظيم للمفسدين، وموعظة للمتقين، ثبت في أصح الكتب بعد كتاب رب العالمين عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم – يعني الفقير – لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة". وثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف"، وقال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالي –: وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر، وفي بعضها مطلق.

حاشية: انظر الحديث الأول في صحيح البخاري: (10/51) بشرح ابن حجر – كتاب الأشربة – باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه –، وأخره أيضاً البيهقي في السنن الكبرى – كتاب صلاة الخوف – باب ما ورد في التشديد في لبس الخز –:(3/372)، ورواه أبو داود مختصراً في كتاب اللباس – باب ما جاء في الخز –:(4/319) .

وإياك – أخي الكريم – ثم إياك أن تغتر بدندنة ابن حزم حول هذا الحديث حيث زعم أن الحديث منقطع من جهة أن الإمام البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ثم ساق الحديث بسنده، وغاب عن ابن حزم أن هشام بن عمار من شيوخ الإمام البخاري الذين لقيهم وأخذ عنهم، فالحديث متصل، لأن البخاري ليس من أهل التدليس، وإذا روى الراوي عن شيخه الذي لقيه وروى عنه بأي صيغة فذلك محمول على الاتصال والسماع ما لم يكن الراوي مدلساً فلا يعتد بروايته حتى يصرح بالسماع ونحوه، وقد اعتبر العلماء الكرام عزو الراوي لشيخه بصيغة:"قال وأن" ونحوهما كعزوه إليه بصيغة: "عن" قال الشيخ العراقي في ألفيته:

وإنْ يكن أول الإسناد حُذفْ

مع صيغة الجَزم فتعلقاً عُرفْ

ولو إلى آخره، أما الذي

لشيخه عَزا بقال فكذى

عَنْعَنَة ٍ كخبَر المعازف

لا تُصغ ِ لابن حزم ٍ المُخالِف ِ

وقد رد العلماء قاطبة على ابن حزم قوله في تضعيف هذا الحديث، وعدم العمل بموجبه انظر مقدمة ابن الصلاح معها التقييد والإيضاح:(89-90)، وفتح المغيث:(1/55-57)، وفتح الباري:(10/52-53)، وإغاثة اللهفان:(1/277-278)، وفيه: ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن الإمام البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه، ثم ذكر خمسة وجوه فارجع لما قيدته يده المباركة – عليه رحمة الله تعالى – وقال أيضاً في روضة المحبين:(130) : وأما أبو محمد – أي ابن حزم – فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر، وإلغائه المعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة، فوسع هذا الباب، وضيق باب المناسبات والمعاني، والحكم الشرعية جداً، وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا مطعن فيها بوجه 1هـ ورد الإمام الألوسي عليه في روح المعاني:(21/76) لكنه عكر رده وكدره بعبارات قاسية لا أستبيح ذكرها فالله يغفر لنا ولهم جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم.

وانظر الرواية الثانية في سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العقوبات –: (2/1333)، قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان:(2/278) : وهذا إسناد صحيح 1هـ والحديث رواه ابن حبان في صحيحه قريباً من رواية ابن ماجه، وانظر: موارد الظمآن – كتاب الأشربة – باب فيمن يستحل الخمر: (336) .

وانظر الحديث الثالث في: موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب في المسخ وغيره –: (466)، ورواه الطبراني في المعجم الصغير:(2/76)، والأوسط كما في مجمع الزوائد:(8/11) – كتاب الفتن – باب في المسخ والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف في متخذي القيان، وشاربي الخمر ولابسي الحرير"، وقال الهيثمي: وفيه زياد بن أبي زياد الحصاص ابن حبان، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات 1هـ وقد حكم ابن حجر في التقريب:(1/267) على زياد بأنه ضعيف، وقال الذهبي في الميزان:(2/89) مجمع على ضعفه، ورد على ابن حبان قوله: ربما يهم، ونقل عن ابن الجوزي أنه قال: في الرواة سبعة زياد بن أبي زياد ليس فيهم مجروح سوى الجصاص 1هـ وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: (45) ليس بثقة، وانظر حاله في المغني في الضعفاء:(1/243)، والجرح والتعديل:(3/532)، والتاريخ الكبير:(3/355) ، والروايات المتقدمة تشهد له فاعلم.

وانظر كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تظاهر الأحاديث في وقوع المسخ في هذه الأمة في إغاثة اللهفان: (1/284)، وفيه بعد ذلك مباشرة: قال سالم ابن أبي الجعد – عليه رحمة الله تعالى – ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً، أو جنزيراً، وليمزن الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو جنزيراً، وقال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان على العمل يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته، وقال عبد الرحمن بن غنم: يوشك أن يقعد اثنان على رحاً يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر، وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا.

وقرر الإمام ابن القيم نحو ذلك في: (1/344-346) أيضاً فقال: وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث

ثم بعد أن سرد ما تقدم من الآثار وغيرها قال: وقد ساق هذه الأحاديث والآثار ابن أبي الدنيا بأسانيدها في كتاب ذم الملاهي، فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله – جل وعلا – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلب الله – تبارك وتعالى – صورهم كما قلبوا دينه، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره، أو يوم القيامة، وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة، قال شيخنا – يعني: ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة رب البرية –: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوا مع اعتقاد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حرمها كانوا كفاراً، ولم يكونوا من أمتي، ولو كانوا معترفين بأنها حرام ولأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم:"يستحلون" فإن المستحيل للشيء هو الذي يفعله معتقداً حله، فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم، كأصوات الطيور.. وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله ابن المبارك – رحمه الله تعالى –.

وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوكج

وأحبار سَوءْ ورهبانها

ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئاً، بعد أن بلغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين تحريم هذه الأشياء بياناً قاطعاً، مقيماً للحجة 10هـ وتقدم في هذا الكتاب المبارك:(...../.....) أبيات عبد الله بن المبارك، كما تقدم في:(...../.....) الإشارة إلى تحريم اتخاذ المعازف وكون اقتنائها ديائة.

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وإن طالت بنا حياة فسنرى وقوع ذلك في كثير من المكلفين والمكلفات، وما أظنه إلا قريباً، فلا تستبعدوه وخافوا منه واحذروه.

المسألة الثانية:

يتعلق بالقول بمسخهم حقيقة رأيان فاسدان، لابد من أن يتنبه لها طلبة العلم الكرام، لئلا تزل بهم الأقدام، وإليك يا أخي البيان:

الرأي الأول:

يقوم على الظن بعدم انقراض من مسخ واستئصالهم، واحتمال بقائهم وتناسلهم، وقد تبنى هذا القول الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث:(173) والزجاج في معاني القرآن: (2/437)، وعبارة الأول: وأنا أظن أن القردة والخنازير هي الممسوخ بأعيانها توالدت، واستدللت على ذلك بقول الله – عز وجل–:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة60، فدخول الألف واللام في القرود والخنازير يدل على المعرفة، وعلى أنها هي القرود التي نعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إلا أن يصح حديث أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – في الممسوخ، فيكون كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومما يزيد في الأدلة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها بغير كتاب ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر 10هـ ونص كلام الزجاج قال قوم: جائز أن تكون هذه القرود المتولدة أصلها منهم، وقال قوم: المسخ لا يبقي ولا يتولد، والجملة: أنا أخبرنا بأنهم جعلوا قردة، والقردة هي التي نعرفها، وهي أكثر شيء في الحيوان شبهاً بابن آدم، والله أ‘لم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة 10هـ.

وهذا الرأي باطل قطعاً، وإذا كان الإمام ابن قتيبة قال ما قال عن طريق الظن، وعلق البث في الأمر على حديث أمنا أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – فحديثها قد صح وتقدم أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في صحيح مسلم وفيه قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لا يهلك قوماً أو يعذب قوماً، فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك"، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير:(1/388) فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة 1هـ، وفي هذا الحجاج رد لكلام الزجاج، والله أعلم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة، فقد أعلمنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – بأمرهم، وأن الله – جل وعلا – قطع دابرهم، واستأصلهم.

وأما ما مال إليه ابن قتيبة من تقوية قوله بكون القردة الموجودة من نسل القردة الممسوخة بإجماع المسلمين على تحريم أكلها من غير كتاب ولا أثر، كما أجمعوا على تحريم أكل لحوم الناس فغير مسلم ولا سديد لثلاثة أمور:

الأول:

تحريم أكل الإنسان لإكرامه، فمن أشنع الكبائر قتله، ولا يباح لأحد أن يقتل غيره وإن اضطر لأكله إذا كان معصوم الدم، ويجوز في حالة الاضطرار أكله إذا كان ميتاً على القول المعتمد الصحيح مع أن بعض الفقهاء منع من ذلك أيضاً لعموم قول نبينا – صلى الله عليه وسلم –:"كسر عظم الميت ككسره حياً".

حاشية: أخرجه أبو داود – كتاب الجنائز – باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان –: (3/543-544)، وابن ماجه – كتاب الجنائز – باب في النهي عن كسر عظم الميت –:(1/516)، وأحمد في المسند:(6/58، 100، 105، 168، 169، 200، 263)، والدارقطني – كتاب الحدود:(3/188)، وانظره في السنن الكبرى للبيهقي:(4/58)، وحلية الأولياء:(7/95)، وتاريخ بغداد:(12/106، 13/120)، وأخبار أصبهان:(2/186)، مشكل الآثار:(2/108)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن:(196) ، كلهم عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً، ورواه الإمام مالك في الموطأ ك (1/238) – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الاختفاء – بلاغاً عنها موقوفاً عليها.

والحديث رواه ابن ماجه – في المكان المتقدم – عن أمنا أم سلمة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والحديث صحيح بشواهده كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (11/163)،وقال الحافظ في التلخيص الحبير:(3/92) حسنه ابن القطان، وذكر القشيري أنه على شرط مسلم.

قال ابن قدامة في المغني: (11/79-80) ، وإن لم يجد المضطر إلا آدمياً محقون الدم لم يبح له قتله إجماعاً، ولا إتلاف عضو منه، لأنه مثله فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلاف غيره، وهذا لا خلاف فيه، ون كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتاً أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته، وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح ن وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم، واحتج أصحابنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد من الحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت 10هـ والذي يظهر لي أن الحديث محمول على حصول الإثم في حالة الاختيار، فإن قيل: فهلا أجزتم ذلك في حياته أيضاً في حالة الاضطرار كما أجزتموه في موته؟ فالجواب: ليست حياة أحدهما بأولى من حياة الآخر، فلا يباح ذلك لأحدهما، وأما إذا كان ذلك واقع منه على نفسه فقد صحح النووي في المنهاج:(568) جواز قطع بعضه لأكله بشرط فقد الميتة ونحوها، وكون الخوف في قطعه أقل، ومنع الحنابلة ذلك كما في المغني:(11/79) لأن ذلك ربما كان سبباً في قتله فيكون قاتلاً لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، فهذا في وقوع ذلك من نفسه على نفسه، أما على غيره فلا خلاف في منع ذلك وتحريمه، وفي أحكام القرآن لابن العربي:(4/1623)، والجامع لأحكام القرآن:(15/126)، وأحكام القرآن للجصاص:(30/378) : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز عند أحد من الفقهاء، وما جرى لنبي الله يونس – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – خاص به، لتحقيق برهانه وزيادة إيمانه.

الثاني:

المعتمد في سبب تحريم أكل لحم القردة أمران وهما:

1-

كونها من الخبائث وهي محرمة بنص القرآن، قال ربنا الرحمن:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} الأعراف157، ويكفي في التدليل على كون القردة من الخبائث حصول المسخ بصورتها، ولعله على هذا يحمل قول من قال من الفقهاء: إنها مسخ فلا تحل ففي المغني: (11/67) وهو – القرد – مسخ فيكون من الخبائث المحرمة 1هـ أي صورتها صورة ما وقع به المسخ للمجرمين، ولا يكون ذلك إلا بما هو خبيث مشين، وأما إذا قصد بأن القردة الموجودة من نسل الممسوخ حقيقة فباطل باطل، لثبوت الحديث الصحيح بانقراض الممسوخ وعدم تناسله.

2-

هي من السباع التي تعدو بنابها وتفترس به، وهذا هو المعتمد في التعليل بمنع أكل لحم القردة منع تحريم عند الحنفية كما في الاختيار:(5/13)، والشافعية كما في السراج الوهاج:(565)، والحنابلة كما في الكافي:(1/489) ، ودليل هذا القول ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع".

حاشية: انظر صحيح البخاري: (9/657) بشرح ابن حجر – كتاب الذبائح والصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباح، وصحيح مسلم – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير –:(3/1533-1534)، وسنن الترمذي – كتاب الصيد – باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب:(5/183-184)، وكتاب الأطعمة – باب ما جاء في الأكل من آنية الكفار:() 6/99، وسنن أبي داود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل السباع –:(4/159)، وسنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل السباع:(7/177)، وسنن ابن ماجه – كتاب الصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباع:(2/1077)، وسنن الدارمي – كتاب الأضاحي – باب ما لا يؤكل من السباع –:(2/85)، والموطأ – كتاب الصيد – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع:(2/496)، والمسند:(4/193-194)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل ذي ناب من السبع –:(2/327)، ومسند الحميدي:(2/386)، وشرح معاني الآثار:(4/190)، والسنن الكبرى للبيهقي:(9/331) ومسند الشافعي: (380) كلهم من رواية أبي ثعلبة الخشني – رضي الله تعالى عنه –.

ورواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مسلم والبيهقي، وابن ماجه، والنسائي، ومالك، والطحاوي، والشافعي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في لحوم الحمر الأهلية:(6/98)، والمسند:(2/236، 366، 418)، مشكل الآثار:(4/375) .

وورد من رواية ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما – عند مسلم -، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن ماجه، والطيالسي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة أكل لحوم الدجاج،:(7/182:7/182)، وكتاب البيوع – باب بيع المغانم قبل أن تقسم:(7/265)، وسنن البيهقي:(9/315)، ومنتقى ابن الجارود رقم:"892، 893"، والمسند:(1/244، 289، 302، 326، 327، 332، 339، 373) .

وورد عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – عند الترمذي في أول مكان متقدم، وهو في المسند:(3/323) .

وورد عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – عند الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة: (5/180-182) ، وورد عن على – رضي الله تعالى عنه – عند الطحاوي في المكان المتقدم، وفي المسند:(1/147)، وورد هذا المقداد بن معد يكرب عند أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة:(5/10-12)، والمسند:(4/130-131، 132) ، وورد عن خالد بن الوليد – رضي الله تعالى عنه – عند أبي داود – في المكانين الأوليين، وفي سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل لحوم الخيل –:(7/178)، والمسند:(4/89، 90)، وورد عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في المسند:(5/195، 445)، ومسند الحميدي:(1/95)، وبالجملة فهو حديث مجمع على صحته كما قال ابن عبد البر فيما نقله عنه الحافظ في التلخيص:(4/166)، وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار:(4/190) قامت الحجة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وتواترت بذلك الآثار عنه – صلى الله عليه وسلم –.

الثالث:

خالف المالكية في تحريم أكل لحم القرد، فنقل عنهم أربعة أقوال في أكله وهي: التحريم والكراهية، والإباحة مطلقاً، والإباحة إن أكل الكلأ وإلا كان مكروها، والمعتمد عندهم القول بالكراهية لأن قوله – جل وعلا –:{قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام145، يفيد حل أكله وعدك حرمته، ومراعاة قول الجمهور بمنع أكله وتحريمه تقتضي كراهيته كما في حاشية الدسوقي:(2/105) .

قال عبد الرحيم: وإذ قد ثبت الفرق المبين، بين سبب المنع من أكل القرود وأكل الآدميين مع وجود خلاف أيضاً في الأول عند أئمة المسلمين فلا يصح قياس أحدهما على الآخر عند أهل الدين، للتوصل بذلك إلى أن القردة من جملة الممسوخين، فبطل بذلك قول الإمام ابن قتيبة – علينا وعليه رحمة أرحم الراحمين – والعلم عند الله رب العالمين.

الرأي الثاني:

يجزم بكون القردة والخنازير الموجودة على ظهر الأرض من نسل أولئك الممسوخين وقد تبنى هذا القول وقرره بما لا يدل عليه الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (2/798-799)، ونص كلامه: قال علماؤنا: اختلف الناس في الممسوخ هل ينسل أم لا؟ فمنهم من قال: إن الممسوخ لا ينسل، ومنهم من قال: ينسل، وهو الصحيح عندي، والدليل عليه أمران:

أحدهما:

حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن الضب، فقال:"إن أمة من الأمم مسخت، فأخشى أن يكون الضب منها".

حاشية: أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة الذب: (3/102-103) بشرح الإمام النووي، والإمام أحمد في المسند:(3/323، 380)، والإمام البيهقي في كتاب الضحايا – باب ما جاء في الضب:(9/324)، والإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار – باب أكل الضب:(4/198) كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

ورواه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة مسلم في المكان المتقدم وكذلك البيهقي والطحاوي، وابن ماجه – كتاب الصيد – باب الضب:(2/1079)، والخطيب في تاريخ بغداد:(11/376) .

ورواه أيضاً عن عبد الرحمن بن حسنة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأبو يعلى، والطبراني في الكبير، والبزار ورجال الثلاثة الصحيح كما في مجمع الزوائد:(4/37) – كتاب الصيد – باب في الضب –.

ورواه عن ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأحمد في المسند:(5/390) من حديث حذيفة بن اليمان محالاً به على ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه النسائي في كتاب الصيد والذبائح – باب الضب –: (7/176)، وأبو داود – كتاب الأطعمة – باب في أكل الضب:(4/154) والدارمي في كتاب الصيد – باب في أكل الضب: (2/20) .

ورواه عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – البزار ورجاله رجال الصحيح كما في المجمع: (4/37)، ورواه أيضاً عن سمرة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: أحمد في المسند: (5/19، 21) ، والطحاوي في المكان المتقدم، والبزار والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال البزار ثقات كما في مجمع الزوائد:(4/37) ورواه أيضاً الطبراني من طريق آخر في الكبير بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي.

ورواه عن عبد الرحمن بن غنم – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (2/227)، قال الهيثمي في المجمع:(4/37) ، وقد ذكر لعبد الرحمن بن غنم ترجمة فهو مرسل حسن الإسناد، على رأي الإمام أحمد 1هـ وعبد الرحمن بن غنم يسمى به رجلان أحدهما صحابي والآخر مختلف في صحبته، وقال أحمد، أدرك ولم يسمع كما ذكر ذلك الحافظ في الإصابة:(2/417-418) القسم الأول، و:(3/97-98) القسم الثالث، ولا يغيبن عنك اصطلاحه في الإصابة، وللأخير ترجمة في طبقات ابن سعد:(7/441)، والاستيعاب على هامش الإصابة:(2/224-425)، وأسد الغابة:(3/487-188)، وتجريد أسماء الصحابة:(1/354) ، ولم يذكروا الأول.

وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "الفأر مسخ، ألا ترى إذا وضع له ألبان الإبل لم يشربها".

حاشية: أخرجه الإمام مسلم: (18/124) بشرح النووي – كتاب الزهد – باب أحاديث متفرقة – والبخاري: (6/351) بشرح ابن حجر – كتاب بدء الخلق – باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، وأحمد في المسند:(2/234، 279، 289، 411، 597، 507) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضعت لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاة شربته".

ووجه الاستشهاد منه عدم شرب الفأر ألبان الإبل، وقد كان ذلك من جملة الأشياء التي حرمها نبي الله يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – على نفسه فحرمها قومه تبعاً له، ففي المسند:(1/273، 274، 278)، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الرعد –:(8/277-278)، وتفسير الطبري:(4/5)، والتاريخ الكبير للبخاري:(2/114)، وأسانيد المسند صحيحة كما قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(4/156، 161) رقم: "2471، 2483، 2514"، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وكذلك ورد في تحفة الأحوذي:(4/129) لكن في الطبعة المصرية: (5/294) حسن غريب، ولفظ الرواية الأولى في المسند عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه، قبل أن تنزل التوراة؟ قال: فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب – عليه السلام – مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ ". فقالوا: اللهم نعم، وقد حرم يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – العروق أيضاً، وزائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، فانظر تفصيل ذلك في زاد المسير:(1/422-423)، وتفسير ابن كثير:(1/381-382)، وتفسير ابن جرير:(4/2-5)، وفيه: قال أبو جعفر وأولى هذه الأقوال بالصواب قول ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الذي رواه الأعمش عن حبيب عن سعيد عنه أن ذلك العروق، ولحوم الإبل (وألبانها) لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلها، وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خير وهو، ثم سرد الحديث المتقدم.

وانظر ما يتعلق بذلك في الدر: (2/51-52)، والمستدرك:(2/292) – كتاب التفسير – سورة آل عمران –، ومعالم التنزيل:(1/380)، ولباب التأويل:(1/380) مطبوع مع سابقه.

وروى البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم، ثبت في بعض نسخ البخاري، وسقط من بعضها وثبت في بعض الحديث: وقد زنت، وسقط هذا اللفظ عند بعضهم.

حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح ابن حجر – كتاب مناقيب الأنصار – رضي الله تعالى عنهم – باب القسامة في الجاهلية والحديث في التاريخ الكبير أيضاً: (6/367)، وانظر ترجمة عمرو بن ميمون في الاستيعاب على هامش الإصابة:(2/542-544)، وأسد الغابة:(4/275-276)، وتجريد أسماء الصحابة:(1/418)، والإصابة:(3/118) – القسم الأول –، وطبقات ابن سعد:(6/117-118)، وفيه المعرفة والتاريخ:(2/563)، وتذكرة الحفاظ:(1/65)، وشذرات الذهب:(1/82)، كان عمر بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله – عز وجل – وانظر الجرح والتعديل:(6/285)، وحلية الأولياء:(4/148-154)، وصفة الصفوة:(3/35)، والمعارف:(188)، وفي التقريب:(2/80) مخضرم مشهور ثقة عابد مات سنة أربع وسبعين وقيل بعدها، أخرج حديثه الستة – عليه رحمة الله تعالى –.

هذا وقد استنكر ابن عبد البر في الاستيعاب خبره المتقدم في رجم القردة فقال: هذا عند جماعة أهل العلم منكر، إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات في الجن والإنس دون غيرهما، وقد كان الرجم في التوراة، وقال ابن عبد البر: إن مدار الخبر على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما 1هـ وتبعه على هذا ابن الأثير في أسد الغابة، فقال: وهذا مما أدخل في صحيح البخاري 1هـ ومال إلى ذلك القرطبي في تفسيره: (1/441) فحكى عن الحميدي أنه قال: لعل هذا الحديث من المقحمات في كتاب البخاري 1هـ وذلك منهم – رحمهم الله جميعاً، مردود منكر، فند أقوالهم الحافظ ابن حجر في الفتح:(7/160) ، والإصابة، وعبارته في الفتح: وإنما قال ذلك – يعني ابن عبد البر – لأنه تكلم عن الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده (هو إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي المتوفى سنة: 401 هـ وهو عليه رحمة الله تعالى – له أطراف الصحيحين كما في الرسالة المستطرقة: 167) ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري، وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها

وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور. واتفاق العلماء ينافي ذلك والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وإنما أطنبت في هذا لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد 10هـ.

قال الإمام ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفاً عن سلف إلى زمان عمرو بن ميمون الأودي؟ قلنا: نعم، كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم، فأراد الله – جل وعز – أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون إبلاغاً في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم حتى يعلموا أن الله – عز وجل – يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصى ما يبدلون وما يغترون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون، وينصر نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهم لا ينصرون 10هـ هذا كله كلام ابن العربي، الأمر الثاني في كلامه غير موجود كما أشار إليه في بداية الكلام فتأمل يا أخا الإسلام.

قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: ليس فيما ذكره ابن العربي دلالة على أن القرود من نسل الممسوخين في الزمن القديم، لأن من أمعن النظر، واستقرأ الأدلة الواردة في هذا الشأن، وجمع بينها الجمع المعتبر، تبين له أن الحديثين الأوليين كانا ظناً من النبي – صلى الله عليه وسلم – وخوفاً من أن يكون الضب والفار مما مسخ، وذلك عن طريق الحدس، والتخمين قبل أن يوحى إليه – صلى الله عليه وسلم – بما آل إليه أمر الممسوخين، وقد أوحي إليه بعد ذلك بالحق المبين، فبين لنا أن القردة ليست من نسل الممسوخين، وتقدم قريباً الحديث الذي رواه الإمام مسلم وغيره، وفيه: قال رجل يا رسول الله – القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" هذا ما قرره الأئمة الكرام، الطحاوي في شرح معاني الآثار:(4/199)، والقرطبي في تفسيره:(1/442)، وابن حجر في الفتح:(6/353، 7/160)، وعبارة الأول: بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث أن المسوخ لا يكون لها نسل ، ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مما نسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب بمكروه من قبل أنه مسخ، أو قبل ما جاز أن يكون مسخاً.

وأما حديث عمرو بن ميمون في رؤية رجم القردة قردة زنت، ومشاركته في رجمها فلا يلزم أن تكون القردة المذكورة من نسل الممسوخين، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها، وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوانات، وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي، ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من الغيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه، لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده، ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ولشعر عينيه أهداب...... وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الخيل له من طريق الأوزاعي، أن مهراً أنزى على أمه فامتنع فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزى عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إليها ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد عن الفطنة من القردة فجوازها في القرود أولى، هذا كله كلام الحافظ في الفتح:(7/160-161)، وفي عيون الأخبار:(2/84) قالوا: ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقردة، وانظر كتاب حياة الحيوان:(4/36-44) باب جملة القول في القرد والخنزير.

وللإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: (172-173) كلام جيد حول ما نقل عن عمرو بن ميمون في رجم القردة قدرة، ومشاركته لهم في رجمها وهو: ويمكن أن يكون عمرو بن ميمون رأى القرود ترجم فظن أنها ترجمها لأنها زنت وهذا لا يعلمه أحد إلا ظناً، لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن، هذا ظن، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه، فإن القرود أزنى البهائم والعرب تضرب بها المثل، فتقول: أزنى من قرد، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، والبهائم قد تتعادى، ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضاً، فمنها ما يعض ومنهال ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله – عز وجل – لها كما يرجم الإنسان، فإن كان إنما رجم بعضها بعضاً لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس ببعيد، وإن كان الشيخ قد استدل على الزنا منها بدليل، وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضاً ببعيد، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة، وأقربها من بني آدم أفهاماً....... ولسنا نقول: إنها فعلت ذلك بحكم التوراة، ولكنا نقول: إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا، أو على غير ذلك من أجل أكفها، كما يخدش غيرها، ويعض، ويكسر، إذ كانت أكفها كأكف بني آدم، وكان ابن آدم لا ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم 10هـ.

وصفوة الكلام في هذه المسألة العظيمة الشأن أن المسخ وقد حقيقة على الأبدان، فيمن عتوا عن أمر ربنا الرحمن، من بني إسرائيل اللئام، ومنعوا حالة مسخهم من الشراب والطعام، كما منعوا من إعقاب الولدان، ولم يكتب لهم العيش بعد المسخ إلا ثلاثة أيام، ليكونوا عبرة وموعظة للأنام، وهذا هو المنقول عن السلف الكرام، ففي جامع البيان:(1/261) عن حبر الأمة وبحرها – عليه الرضوان –: مسخهم الله – عز وجل – قردة بمعصيتهم ولم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام ولم تأكل ولم تشرب ولم تنسل وقد خلق الله – جل وعلا – القردة، والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله – جل جلاله – في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء ويحوله كما يشاء، وفي تفسير ابن حاتم كما في الدر:(1/705) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أيضاً: ما كان للمسخ نس، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاً عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – كما في الدر المنثور:(1/75) انقطع ذلك النسل.

حاشية: وبالتحقيق الذي تقدم تعلم أخي المكرم كذب الحديث الموضوع على نبينا – صلى الله عليه وسلم – وهو من الموضوعات للإمام ابن الجوزي – كتاب المبتدأ – باب ذكر المسوخ: (1/185-186) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن المسوخ، فقال:"هم اثنا عشر: الفيل، والدب، والخنزير، والقرد، والأرنب، والضب، والوطواط، والعقرب، والعنكبوت، والدعموص، وسهيل، والزهرة، فقيل: ما سبب مسخهم؟ فقال: أما الفيل فكان جباراً لوطياً، لا يدع رطباً ولا يابساً، وأما الدب فكان رجلاً مؤنثاً يدعو الرجال إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من قوم نصارى فسألوا ربهم نزول المائدة، فلما نزلت عليهم كانوا أشد ما كانوا كفراً، وأشده تكذيباً، وأما القرد فيهود اعتدوا في السبت، وأما الأرنب فكانت امرأة لا تظهر من حيض ولا من غير ذلك، وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج بمحجنه – كل معوج الرأس كالصولجان – كما في المعجم الوسيط: (1/159) – باب الحاء – وأما الوطواط فكان يسرق الثمار من رؤوس النخيل، وأما العقرب فكان رجلاً لداغاً لا يسلم على لسانه أحد، وأما العنكبوت فكان امرأة سحرت زوجها، وأما الدعموص فكان رجلاً نماماً يفرق بين الأحبة، وأما سهيل فكان عشاراً باليمن، وأما الزهرة فكانت امرأة نصرانية ابنة بعض ملوك بني إسرائيل، وهي التي فتن بها هاروت وماروت، وكان اسمها أناهيد".

قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما وضعه إلا ملحد يقصد وهن الشريعة بنسبة هذا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو مستهين بالدين لا يبالي ما فعل، والمتهم به مغيث مولى جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: مغيث كذاب خبيث لا يساوي شيئاً، روى حديث المسوخ، وهو حديث منكر، ثم ذكر ابن الجوزي أن الحديث الصحيح المتقدم:"إن الله لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" يرد هذا.

وقد وافق الأئمة ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع وأقروه انظر تنزيه الشريعة: (1/177-178) – الفصل الأول من كتاب المبتدأ –، واللآلئ المصنوعة:(1/157-158)، والفوائد المجموعة:(491)، وفي الميزان:(4/142) معتب عن مولاه جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: معتب كذاب، وقيل: اسمه مغيث، وله حديث باطل.

ص: 173

".

أسأل الله العظيم أن يجعلنا من الخائفين الراجين، كما يريد رب العالمين، إنه كريم رحيم.

تم بحمد الله..

ص: 174