المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الملل والنحل:   … الملل جمع ملة، ومعناها في - خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان - جـ ٤

[عبد الرحيم الطحان]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الملل والنحل:

الملل جمع ملة، ومعناها في اللغة: الطريقة والسنة، أي: سنة الناس وطريقهم، ومنه الملة: أي الموضع الذي يختبر فيه، لأنه يؤثر في مكانها كما يؤثر في الطريق، وأصل ذلك اللفظ في اللغة من أمللت الكتاب إذا أمليته على غيرك، ولملاحظة ذينك الاعتبارين في الملة - المعنى وأصله - أطلق لفظ الملة في اللغة على الدين والشريعة، لأنهما طريقان متبعان يسير عليهما من ينتمي إليهما، وهما مشروعان من رب العالمين تبارك وتعالى وفي حديث نزول نبي الله عيسى في آخر الزمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم:"ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام"(1) .

وأما عند علماء الشرع المطهر، فالدين والملة مختلفان في الاعتبار، وإن كانا متحدين بالذات ويتحدد ذلك الاختلاف في ثلاث جهات:

1.

الشريعة من حيث وجوب طاعتها تسمى ديناً، ومن حيث جمعها لمن ينتمي إليها تسمى ملة.

(1) - انظر إيضاح ذلك في لسان العرب: (14/154)"ملل" والمفردات: (471) كتاب الميم ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: (1/5) وحديث نزول نبي الله عيسى في آخر الزمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - متواتر كما في تفسير ابن كثير: (4/132)،ونظم المتناثر من الحديث المتواتر:(147)، والرواية المستشهد بها رواها أبو داود في كتاب الملاحم - باب خروج الدجال -:(4/499) وأحمد في المسند: (2/406، 437) عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.

ص: 1

2.

ينسب الدين إلى الله – جل وعلا – فهو وضع إلهيٌ يدعو أصحاب العقول، إلى قبول ما هو عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –، أما الملة فلا تضاف إلا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا تكاد تنسب إلى غيره، فلا يقال: ملة الله – جل وعلا –، ولا يقال: ملتي، وملة زيد كما يقال: دين الله – عز وجل –، وديني، ودين زيد، قال الله – جل وعلا –:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النساء125.

3.

الدين يستعمل في جملة الشرائع وآحادها، أما الملة فلا تستعمل إلا في آحاد الشرائع.

النحل:

جمع نحلة، وهي في اللغة ما ينتحله الإنسان، أي: يلتزمه، ويجعله كالملك له، كما يتملك الهدية، ويحوزها، ولهذا الاعتبار أطلق في اللغة لفظ النحلة على الدين، لأن المرء يلتزمه ويأخذ به نفسه، يقال: ما نحلتك؟ أي: ما دينك؟ وعليه فيصح إطلاق لفظ الملة على النحلة أيضاً ومنه ما ورد في بعض روايات الحديث الصحيح الثابت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم – قال: ما أنا عليه وأصحابي (1) " فالمراد من الملل في هذا الحديث الشريف: النحل، وفرق الأهواء والزيغ والضلال.

(1) - انظر إيضاح هذا في لسان العرب: (14/174)"نحل" والحديث أخرجه بهذا اللفظ الإمام الترمذي في كتاب الإيمان – باب ما جاء في افتراق الأمة: (7/297) وسيأتيك عما قريب تفصيل القول في تخريجه بما يشرح الصدر إن شاء الله تعالى.

ص: 2

.. وأما علماء الشرع فيخصون لفظ النحل بأصحاب الأهواء والآراءالذين يدَّعون الالتزام بشريعة واحدة غراء، نزل بها وحي رب الأرض والسماء، أو لا يدعون الالتزام بشريعة سمحاء، بل يعولون على الأوهام والآراء، كحال الفلاسفة والزنادقة السفهاء، فالصنفان يشملهما القول بأنهم أصحاب نحل من ادعى منهم الالتزام بشريعة أو لم يدع ذلك (1) .

وسنتدارس في هذه السنة أصحاب الأهواء، وأهل النحل الخبيثة الشنعاء، الذين يدعون الانتساب لرسالة خاتم الأنبياء – عليه صلوات الله وسلامه – وتتحدد دراستنا لتلك الفرق على النحو التالي:

1.

تعداد أمهات الفرق الخبيثة، مع بيان أبرز آرائها الخسيسة.

2.

تفصيل القول في فرقة الشيعة الردية، وبيان أقسامها الغوية.

3.

دراسة موسعة للتصوف والصوفية، وتقييمها حسب الأدلة الشرعية.

وأبدأ الدراسة بتمهيد للبحث يتضمن الإشارة إلى بيان حالة الناس قبل مبعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم – وإليك تفصيل ذلك – حفظنا الله بمنه وكرمه من الآفات والمهالك.

حالة الناس قبل الإسلام:

(1) - هذا ما ظهر لي من تتبع كلام الأئمة، وإن كان بعضهم يرى تخصيص لفظ الملل بأهل الديانات ولفظ النحل بمن عداهم، وصنيع الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل":(1/11) على هامش الفِصَل في الملل والأهواء والنحل يدل على ذلك، وصنيع ابن حزم في كتابه "الفِصَل في الملل والنحل" يدل على الأول في الجملة، حيث قال في:(2/88) قد أكملنا بعون الله الكلام في الملل فلنبدأ بحول الله – عز وجل – ذكر نحل أهل الإسلام وافتراقهم فيها، وإيراد ما شغب به من شغب منهم فيما غلط فيه من نحلته، وإيراد البراهين الضرورية على إيضاح نحلة الحق من تلك النحل كما فعلنا في الملل.

ص: 3

.. كان الناس قبل الإسلام يعيشون في بيداوات من الجهل والظلم، والتقليد الأعمى، وفوضى الأخلاق يعيثون في الأرض فساداً، وسأقتصر على وصف حالهم، بكلام بعضهم، ثبت في مسند الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – بإسناد صحيح في حديث جعفر الطويل، وهجرته مع المؤمنين إلى الحبشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيه أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله – عز وجل – لنوحده، ونعبده، ونخلع ما نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا إلى جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك (1) .

(1) - انظر المسند: (1/202، 5/291) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (6/27) : رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع 1هـ والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الزكاة:(4/13) رقم 2260، وقد أشار إلى رواية ابن خزيمة للحديث الحافظ في الفتح:(13/353) والحديث رواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام: (2/87) مع الروض الأنف، وانظره في البداية والنهاية:(3/73) .

ص: 4

.. وذلك الضلال الذي كان يسري في العباد، ويخيم على البلاد، كان عاماً شاملا ً لم ينج منه إلا بقايا من أهل الكتاب، الذين ثبتوا على شرع ربهم، ولم يتلاعبوا فيه، ومن أجل ذلك عم مقت رب العالمين للناس أجمعين، إلا تلك الثلة من المتمسكين بالهدي القويم من أهل الكتاب السابقين، كما ثبت هذا في المسند وصحيح مسلم عن عياض بن حمار المُجاشِعِي – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان" الحديث (1) .

وقد قام نبينا – صلى الله عليه وسلم – بمهمة البلاغ والبيان أحسن قيام، ونشر بين الناس النور والهدى والعرفان، ولم يقبضه ربه العظيم إلى جواره الكريم حتى أقام به الملة العوجاء، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك (2) .

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: (4/2197) ، رقم 2865، ومسند أحمد:(4/162، 166) .

(2)

- تقدم توثيق هذه الصفات وتخريجها في كتاب التوحيد: (أ، 7) .

ص: 5

وبعد ذلك الاكتمال، على أحسن حال، قام شياطين الإنس بتحريش من شياطين الجن عدة محاولات للقضاء على الإسلام، بمختلف الأساليب والألوان، لكن أنى يستطيعون ذلك وقد تكفل ربنا المنان بحفظ الإسلام والقرآن، لذلك ارتدوا على أدبارهم خاسئين فانصرفوا لتشكيك المسلمين بعد أن أعياهم تغيير شرع رب العالمين، فظفروا بعد غير قليل من الدهماء المفتونين، ولن يزال ذلك البلاء في ازدياد، كلما امتدت بهذه الأمة الآماد، وهذا كما ثبت عن رسولنا خير العباد – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:"لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم (1) ".

(1) - أخرجه البخاري في كتاب الفتن – باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه: (13/20) بشرح ابن حجر عن الزبير بن عديّ قال أتينا أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم – فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج فقال: اصبروا ثم ذكر الحديث. ورواه الترمذي في كتاب الفتن – باب 35: (6/361)،وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي مسند الدارمي في المقدمة – باب تغير الزمان – وما يحدث فيه:(1/65) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير ولكنْ علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خَلَفاً وتجيء أقوام يقيسون الأمر برأيهم.

ص: 6

وقد أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً ففي مستدرك الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} النصر2، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً" وفي المسند وغيره عن جار لجابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: قدمت من سفر، فجاءني جابر يسلم علي فجعلت أحدثه عن افتراق الناس، ومما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً (1) ".

(1) - انظر مستدرك الحاكم – كتاب الفتن والملاحم –: (4/496)، ورواه أيضاً الدارمي في المقدمة – باب في وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم –:(1/41)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وانظر الرواية الثانية في المسند:(3/343)، وأخرجها أيضاً ابن مردويه كما في الدر المنثور:(6/408)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد:(7/281) – كتاب الفتن – باب خروج ناس من الدين ونعوذ بالله من ذلك – جار جابر لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح، قلت: وما قبله يشهد له.

ص: 7

قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: من عجيب أمر هذه الأمة أنها جمعت ما تفرق في غيرها من الفضائل والبلايا، بل زادت عليها في المزايا والرزايا، فتقيها خير الأتقياء، وشقيها شر الأشقياء، وقد أشار إلى ذلك رسولنا إمام الأنبياء – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – بقوله الثابت عنه في دواوين السنة الغراء: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – بيده لتفرقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة، وفي رواية:"ما أنا عليه وأصحابي"(1) .

(1) - هذا لفظ رواية ابن ماجه في كتاب الفتن – باب افتراق الأمم –: (2/1322) عن عوف بن مالك ورواه أيضاً بنحوه عن أبي هريرة وأنس – رضي الله تعالى عنهم – وانظر روايات الحديث في سنن الترمذي – كتاب الإيمان – باب ما جاء في افتراق هذه الأمة –: 7/297 عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وقال: حديث أبي هريرة حسن صحيح، وحديث ابن عمرو مفسر حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن سعد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب شرع السنة:(5/4-5) عن أبي هريرة ومعاوية، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب افتراق هذه الأمة –:(5/241) عن معاوية والمستدرك – كتاب الإيمان –: (1/6)، وكتاب العلم:(1/28) عن أبي هريرة في الأول، وقال: وقد روى عن سعد بن أبي وقاس، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثله، ورواه في الثاني عن أبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن عوف المزني، وقال بعد حديث معاوية، هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وقد روى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن المزني بإسنادين تفرد بإحداهما عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، والآخر كثير بن عبد الله المزني، ولا تقوم بهما الحجة، واقره الذهبي على ذلك، كما حكم على حديث أبي هريرة بأنه على شرط مسلم ، أقره الذهبي، ورواه أحمد في المسند:(2/332) عن أبي هريرة، وفي:(3/120، 145) عن أنس، وفي:(4/102) عن معاوية، وانظر الأحاديث الثلاثة في الفتح الرباني:(24/6-7)، ورواه ابن حبان انظر موارد الظمآن:(454) كتاب الفتن باب افتراق الأمم_عن أبي هريرة، وذكره البغوي في شرح السنة-كتاب الإيمان – باب رد البدع والأهواء –:(1/213) عن عبد الله بن عمرو، ومعاوية وعبد القاهر في أول كتابه الفرق بين الفرق:(4-7) بسنده عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأنس، وقال: للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيد كثيرة، وقد رواه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – جماعة من الصحابة، كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع وغيرهم، وساقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس:(7-8) بسنده إلى ابن عمرو ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة كما في الفتح الكبير: (1/206)، والطبراني في الأوسط والكبير عن أبي أمامة كما في مجمع الزوائد:(7/258)، وقال الهيثمي: فيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير، ورواه الطبراني أيضاً من رواية عمرو بن عوف، وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف وقد حسن حديثه الترمذي كما في مجمع الزوائد:(7/260) وتقدم الكلام على كثير بن عبد الله عند عزو الرواية إلى المستدرك، ورواه أبو يعلى عن أنس وفيه أبو معشر نجيح، وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد:(7/258) ، وانظر الحديث من رواية أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وأنس، وسعد، ومعاوية في كتاب الشريعة للآجري:(14-18) .

واعلم – وفقك الله تعالى – أن الحديث صحيح بلا شك، فقد تقدم من صححه من أساطين العلم، وأئمته، وجهابذة المحدثين وقادته، ونص على ذلك أهل العلم من المتقدين والحديثين انظر تعليق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على جامع الأصول:(10/33)، وتعليق الشيخ شعيب على شرح السنة:(1/213)، وقول الشيخ القاري في المرقاة:(3/137) وتحصل أن حديث افتراق الأمة صحيح من غير شك، فلا يعبأ بقول ابن حزم في الفصل: إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الإسناد 1هـ وانظر كلام بان حزم في الفصل: (3/138) حيث ذكر أن الحديث لا يصح أصلا ً عن طريق الإسناد، وما أراك تتوقف في رد كلام ابن حزم بعد الاطلاع على أقوال الفحول من المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الحديث، لأن ذلك من جملة انحراف ابن حزم – وشذوذه، ومن الحزم أن لا تتبع – فيما ينفرد فيه – ابن حزم، وانظر كلام ابن القيم فيه في روضة المحبين:(130)، والشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى:(4/395) ، وقد صحح الحديث الشيخ الألباني، وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم:(203، 204) وعزا تخريجه أيضاً للآجري في الشريعة، ولابن بطة في الإبانة، واللالكائي في شرح السنة، ثم فند كلام ابن حزم، ورد عليه، لكن من العجيب قوله: وأما ابن حزم فلا أدري أين ذكر ذلك، وأول ما يتبادر للذهن أنه في كتابه، الفصل في الملل والنحل، وقد رجعت إليه وقلبت مظانه فلم أعثر عليه 1هـ وقد تصفح كاتب هذه الأسطر – سترنا الله تعالى – الفصل فوجد الحديث في نصف ساعة.

وقد ذكر ابن كثير الحديث في تفسيره: (1/390)، وقال إنه رُوي من عدة طرق 1هـ وذكره الشوكاني في فتح القدير:(1/371) وعد من خرجه وصححه، ووافق على ذلك 10هـ وأورده ابن الوزير في الروض الباسم:(2/115) عند ذكر الأحاديث التي رواها معاوية، ونقلت عن غيره من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فذكر أن هذا الحديث روي عن غير معاوية ممن لم تطعن فيهم الشيعة، وذكره الشهرستاني في الملل والنحل:(1/13)، وقال: والناجية أبداً من الفرق واحدة 1هـ، وقال الشيخ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار:(3/225) أسانيد الحديث جياد 1هـ وقال الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (22/360) الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي (الكبرى) وغيرهم، وأطال في شرح الحديث وتقرير معناه بحيث أخذ ذلك خمس عشر صفحة. وانظر مجموع الفتاوى:(3/245-259)، والحديث صححه أيضاً الشاطبي في الاعتصام:(2/189) وكتب في شرحه مائة صفحة حتى: (2/287)، وصححه الفتني في تذكرته:(15) ورمز لصحته السيوطي في الجامع الصغير كما في الفيض: (2/20)، وقال المناوي: قال الزين العراقي: أسانيده جياد، وقد عده المؤلف – أي السيوطي – من المتواتر 10هـ وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة:(158) ووافقه ابن الديبع في مختصره "تمييز الطيب من الخبيث": (60) والعجلوني في كشف الخفا: (1/149-151)، وعده الشيخ الكتاني في كتابه نظم المتناثر:(32-34) من الأحاديث المتواترة.

واعلم – علمني الله وإياك – أنني توسعت في تخريج الحديث لأمرين يستدعيان ذلك ويتحتم على طالب العلم الحذر منهما لئلا يضل مع من ضل وهما:

1-

تضعيف ابن حزم للحديث، وتناقل كثير من المحدثين ذلك عنه، بل وزيادتهم عليه، فالأستاذ محيي الدين عبد الحميد يحكي الخلاف في صحة هذا الحديث، ويسترسل في حكاية نفي صحته مدعياً أنه ما من إسناد روي به إلا وفيه ضعف، انظر تعليقه على الفرق بين الفرق:(7) ، وهو كلام باطل بلا شك، وأشد بطلاناً منه قول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين:(33-34) الفرق الإسلامية لا تدخل تحت حصر، والمؤلفون الإسلاميون المتقدمون الذين كتبوا عن الفرق، وبخاصة من هم من أهل السنة أرادوا أن يحصروها استناداً إلى حديث موضوع، ثم بعد أن سرد الحديث المتقدم قال: ولهذا الحديث بصوره المختلفة أسانيد كثيرة استوفاها الحافظ الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف

ومع هذا لا يمكن أن يكون الحديث صحيحاً، وهو كلام لا يستحي الإنسان من صفع قائله فضلا ً عن اشتهاء سماعه.

2-

ما قرأته في كتاب التفكير الفلسفي في الإسلام: (97-101)، وسمعته مشافهة من بعض مدرسي التوحيد والملل والنحل من أن الحديث روي بلفظ:"كلها في الجنة إلا واحدة" وفي رواية: "كلها في الجنة إلا الزنادقة" وهذا يعارض الحديث المتقدم، وهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باتفاق أئمة الحديث، ولما سمعت هذا من بعض من يدرسون الملل والنحل قلت له: أثبت صحة الحديث وخذ ما شئت، ولما شرعت في تخريج الحديث المتقدم، نشطت الكلام عليه وعلى بيان من أخرجه وصححه، وأتبعت ذلك بالكلام على الحديث الثاني الموضوع "كلها في الجنة إلا واحدة" مما لن تراه مجموعاً في كتاب والحمد لله تعالى على ما وفق وتكرم وأنعم.

وانظر الحكم على وضع حديث "كلها في الجنة إلا واحدة" في الموضوعات: (1/267-268) – كتاب السنة وذم البدع – باب افتراق هذه الأمة – قال ابن الجوزي: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال علماء الصناعة، وضعه الأبرد بن الأشرس وكان وضاعاً كذاباً، وأخذه منه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه، وسرقه عثمان بن عفان، أما الأبرد فقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، كذاب وضاع، وأما ياسين فقال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وأما عثمان فقال علماء النقل متروك الحديث لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار، وأما حفص بن عمر فقال أبو حاتم الرازي: كان كذاباً، وقال العقيلي: يحدث عن الأئمة بالبواطيل، قال المصنف – ابن الجوزي – وهذا الحديث على هذا اللفظ لا أصل له، وقد رواه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو الدرداء، ومعاوية وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وأبو أمامة، وواثلة، وعوف بن مالك، وعمرو بن عوف المزني قالوا فيه:"واحدة في الجنة" وهي الجماعة 1هـ وقد أقر السيوطي هذا الحكم في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: (1/248) – كتاب السنة – ونقل عن العقيلي قوله: هذا حديث لا يرجع منه إلى صحة، قال السيوطي: والحديث المعروف "واحدة في الجنة وهي الجماعة" 1هـ وأورده ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة الشنيعة: (1/310) – في كتاب السنة في الفصل الأول – مشيراً بذلك إلى أن حكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع لم يخالف فيه، كما هو معلوم من اصطلاحه، وقد أشار إلى الحديث الذهبي في الميزان:(1/78) في ترجمة أبرد بن أشرس، وانظره في لسان الميزان أيضاً:(1/128، 6/56)، والميزان أيضاً:(4/133)، واللسان:(2/405)، والميزان:(1/662) وفي تذكرة الموضوعات: (15) لا أصل له، وهذه اللفظة إن قيلت فيما ذكر إسناده تدل على أن السند لا عبرة به لوجود كذاب فيه، أو وضاع كما في مقدمة المصنوع في معرفة الحديث الموضوع:(20-21)، وقد حكم العجلوني في كشف الخفا أيضاً:(1/309) ، بأن الحديث لا أصل له، ونقل الكتاني في نظم المتناثر الحكم على الحديث بالكذب والوضع عن السفاريني ثم ذكر أن ابن الجوزي رواه في الموضوعات، وتبعه السيوطي في اللآلئ، وقال ابن تيمية: لا أصل له، بل هو موضوع مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث.

والحديث قد أورده الشعراني في كشف الغمة: (1-26) في باب الاعتصام بالكتاب والسنة بعد الرواية الصحيحة المتقدمة فقال: وفي رواية: "كلها في الجنة إلا واحدة" ولم يذكر إسناد ذلك، ولم يعزه إلى أحد أيضاً، وأما ما نقله العجلوني في كشف الخفاء:(1/150) نقلا ً عن الميزان للشعراني من أن الحاكم صحح الحديث باللفظ الغريب، فلم أره في المستدرك ولعله في تاريخ نيسابور ولم ينسب أحد من العلماء الذين وقفت على أقوالهم حول هذا الحديث تصحيح الحديث للحاكم غير ما نقله العجلوني عن الشعراني، وقد تقدم تخريج الحاكم للحديث من ستة طرق عن أربعة من الصحابة في كتاب الإيمان والعلم:(1/6، 128)، وحكم على رواية:"كلها في النار إلا واحدة" بالصحة ووافقه الذهبي، وما نقله العجلوني في المكان المتقدم أيضاً من أن ابن حجر خرج الحديث بالرواية المكذوبة في تخريج أحاديث مسند الفردوس، فهو كلام مبتور فماذا قال ابن حجر عن الحديث عند تخريجه له؟ فكتاب الفردوس لشيرويه بن شهريار الديلمي فيه من الأحاديث الموضوعة ما شاء الله تعالى، قال ابن تيمية في منهاج السنة:(3/17) وهو وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن الأحاديث التي جمعها، وحذف أسانيدها ونقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها، ولهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جداً 10هـ والحديث المتقدم بلا شك من جملة ما في مسند الفردوس من الأحاديث الموضوعة الشنيعة المرذولة، قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204، وقد حاول بعض ذوي الأهواء من المعاصرين تمشية حال هذا الحديث بهذا اللفظ الباطل:"كلها في الجنة إلا واحدة" وتضعيف الحديث الصحيح: "كلها في النار إلا واحدة"،وقد بينت وضع ذاك:"كلها في الجنة إلا واحدة"، في سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 1035، ولم يطبع المجلد الثالث من السلسلة المذكورة التي فيها الحديث المشار إليه مع بيان وضعه، فاغتنم ما سبق من التحرير، والحمد لله العلي الكبير.

ص: 8

والحديث ثابت ثبوت، صحة، ولتعدد طرقه حكم عليه العلماء الكرام بتواتره، كما هو مبين في التخريج، فاغتنم ما فيه وسل الله المزيد.

وإذا كان حال الأمة سيصير إلى ما ذكرت فعليك أيها المسترشد، يا من تريد نصح نفسك، بالتمسك بصراط ربك، حسبما كان عليه الخيرة من سلفك، فلو رجعت إلى رشدك، وتأملت الأمور من حولك لعلمت أنك في زمان لو جد فيه الصديقون لاستغاثوا بالله مما يجري فيه من الزيغ والمجون، فحذار حذار من التفريط والإهمال، والاسترسال فيما يشقيك في الحال، والمآل، فكم وكم انسلخ من دين الله بسبب ذلك نساء ورجال، روى الإمام أحمد في المسند والطبراني في المعجم الأوسط عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: صحبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسمعناه يقول: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ثم يمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ثم يصبح كافراً، يبيع أقوام خلاقهم بعرض من الدنيا يسير" قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: "والله لقد رأيناهم صوراً ولاعقول، أجساماً ولا أحلام، فراش نار، وذُبَّان طمع، يغدو أحدهم بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز (1)

(1) - انظر المسند: (4/273)، ومجمع الزوائد:(7/309)، وقال الهيثمي: فيه مبارك بن فضالة، وثقه جماعة، وفيه لين، وبقية رجاله رجال الصحيح 1هـ وللحديث شواهد كثيرة، ثابتة صحيحة منها ما في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن:(1/110) وسنن الترمذي – كتاب الفتن – ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم: (6/355) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراًَ، يبيع دينه بعرض من الدنيا" ورواه الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك، وأشار إلى رواية الحديث أيضاً عن جندب، والنعمان ابن بشير، وأبي موسى – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.

ص: 9

" نسأل الله العظيم بوجهه الكريم أن لا يُزِيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه سميع مجيب.

أمهات الفرق الزائغة

الفرقة الأولى القدرية:

تنسب هذه الفرقة الضالة إلى مقالتها التي ضلت بها، وخالفت فيها الحق الثابت، وتلك المقالة النكراء تتعلق بسبق علم الله الجليل للأشياء قبل حدوثها، وتقديره لها خيرها وشرها وينقسم أصحاب هذه البدعة الخبيثة إلى قسمين:

أ) قدرية غلاة: وهم الذين نفوا تقدير الله للأشياء في القدم، ونفوا تقدم علمه بها، وزعموا أنها مستأنفة العلم، أي: إنما يعلمها الله – جل جلاله – بعد وقوعها، وكذبوا على الله – سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً – (1) .

(1) - قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: (1/156)، وهذا القول: قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضل وافترى – عافانا الله وسائر المسلمين – 10هـ وفي درء تعارض العقل والنقل للإمام ابن تيمية:(2/332)، وذكر عن طائفة أنهم يقولون: يعلم الأشياء قبل كونها إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها، وهذا قول غلاة القدرية، كمَعْبَد الجُهَني وأمثاله.

ص: 10

.. وقد نبتت تلك الفرقة الضالة في أواخر أيام الصحابة الكرام (1)

(1) - قال الشهرستاني في الملل والنحل: (1/384) فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وواثلة بن الأسقع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز، ولم يكن أحد على عهد الخلفاء الراشدين ينكر القدر..

ص: 11

– رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – وأول حديث في صحيح مسلم فيه التصريح بذلك، كما في بيان حكم أولئك فعن يحيى بن يعمر قال: كان أولمن قال في القدر بالبصرة مَعْبَد الجُهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فَوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – داخلا ً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم – وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه (أي: في سبيل الله) ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم إ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد

ص: 12

الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبثتُ ملياً، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (1) ".

(1) - انظر صحيح مسلم – أول كتاب الإيمان –: (1/150-160) بشرح النووي، ورواه أبو داود في كتاب السنة – باب في القدر –:(5/69-73)، والترمذي في كتاب الإيمان – باب ما جاء في وصف جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – الإسلام والإيمان –:(7/271-275)، والآجري في الشريعة – باب الإيمان – بأنه لا يصح لعبد إيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ولا يصح له الإيمان إلا به:(188-189)، وفي:(205)، وابن منده في الإيمان:(1/117-150) ، وقد كرره من طرق متعددة، وورد الحديث بدون ذكر قصة يحيى بن يعمر في صحيح البخاري في كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة:(1/114)، وفي كتاب التفسير – سورة لقمان –:(8/513) بشرح ابن حجر فيهما، ومن رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وهو كذلك في مسند الإمام أحمد:(4/426)، ورواه النسائي في كتاب الإيمان – باب نعت الإسلام – وباب صفة الإيمان والإسلام:(8/88-91) عن عمر وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – وكذلك رواه عنهما ابن ماجه في المقدمة – باب في الإيمان –: (1/24-25)، وكرر بعض حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – في كتاب الفتن – باب أشراط الساعة –:(2/342)، وانظره من رواية عمر كتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/55-58)، ومن رواية جرير بن عبد الله في كتاب الشريعة للآجري:(189) ، ومن رواية ابن عباس في المسند والبزار، ومن رواية ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك في المسند أيضاً، ومن رواية أنس عند البزار – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد:(1/38-40) .

ص: 13

.. وقد تكرر ذلك السؤال عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما – ففي معجم الطبراني الكبير أن رجلا ً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا نسافر فنلقى أقواماً يقولون: لا قدر، قال: فإذا لقيتم أولئك فأخبروهم أن ابن عمر برئ منهم، كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ أتاه رجل حسن الوجه طيب الريح، نقي الثوب، فقال: السلام عليك يا رسول الله، أأدنو منك؟ قال: "ادنه، فدنا دنوة قالوا ذلك مراراً، حتى اصطكت ركبتاه ركبتي النبي – صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصيام رمضان، والغسل من الجنابة، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، قال: صدقت، فما الإيمان؟، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار، والقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله، قال: إذا فعلت فأنا مؤمن؟ قال: نعم، قال: صدقت، فما الإحسان: قال: تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن، قال: نعم، قال: صدقت، قلنا ما رأينا رجلاً أطيب ريحاً، ولا أشد توقيراً للنبي – صلى الله عليه وسلم – وقوله للنبي – صلى الله عليه وسلم – صدقت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – عليّ بالرجل، فقمنا وقمتُ أنا إلى طريق من طرق المدينة، فلم نر شيئاً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل يعلمكم مناسك دينكم، ما جاءني في صورة قط إلا عرفته إلا في هذه الصورة (1)

(1) - ورجال السند موثقون كما في مجمع الزوائد: (1/40-41) ، والجمع بين هذا الحديث وما قبله أن ابن عمر حضر مع أبيه – رضي الله تعالى عنهما – سؤال جبريل للنبي – عليهما الصلاة والسلام – فروى الحديث تارة عن نفسه كما في معجم الطبراني، ورواه تارة عن والده كما في الروايات الأخرى، وفعل ذلك مع حضوره بنفسه، لأن والده عمر تغيب عن المجلس بعد تفرق الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في طلب الرجل، فلم يحضر عمر قول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" كما دل على هذا قوله: "فلبثتُ ملياً" وفي رواية النسائي والترمذي: "فلبثت ثلاثاً" وورد في رواية أبي عوانة: "فلقيني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ثلاث" وفي رواية ابن حبان: "بعد ثالثة" وعند ابن منده: "بعد ثلاثة أيام" كما في الفتح: (1/125) ، فأخبر عمر بذلك ولده عبد الله فروى ابن عمر الحديث عن والده مع حضوره بنفسه لتلك النكتة. ولم أر من أشار إلى ذلك، والله تعالى أعلم.

ص: 14

".

وتكررت مرة أخرى معه أيضاً، وأعلن براءته ممن أظهر القول بالقدر، عندما بلغه ذلك عن بعض أصحابه، ففي المسند وسنن الترمذي بسند صحيح عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قعوداً إذ جاء رجل، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، لرجل من أهل الشام، فقال عبد الله: بلغني أنه أحدث حدثاً، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه مني السلام، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:"إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف، وهو في الذندقية والقدرية".

ص: 15

وفي رواية المستدرك وسنن أبي داود بسند صحيح: عن نافع قال: كان لابن عمر –رضي الله تعالى عنهم أجمعين – صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر (1)

(1) - انظر الرواية الأولى في المسند: (2/137،108)، وسنن الترمذي – كتاب القدر – باب 16:(6/324)، وهو في سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الخسوف:(2/1350)، وشرح السنة كتاب الإيمان – باب وعيد القدرية:(1/151)، والحديث قال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(9/97) 6208، إسناده صحيح وأورده الإمام الهيثمي في المجمع:(7/203) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وانتقد الشيخ شاكر صنيع الإمام الهيثمي في إيراده الحديث في الزوائد لوروده في سنن الترمذي وابن ماجه والانتقاد في محله والحديث رواه الإمام أحمد في المسند:(2/108) ، والترمذي في المكان المتقدم مقتصرين على القسم المرفوع من الحديث، وانظر الرواية الثانية في المستدرك – كتاب الإيمان:(1/84)، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب لزوم السنة:(5/20) وهو في المسند: (2/90)، والحديث قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وحكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(8/43) 5639 بأن إسناده صحيح.

فائدة: قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في إغاثة اللهفان: (1/345) : المسخ على صورة القردة والخنازير، واقع في هذه الأمة ولابد، وهي في طائفتين:

1-

علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم –، والذين قلبوا دين الله – جل وعلا – وشرعه، فقلب الله – تبارك وتعالى – صورهم، كما قلبوا دين الله.

2-

المجاهرين المتهكمين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا، مسخ في قبره أو يوم القيامة 10هـ.

ص: 16

".

حكم القدرية الغلاة:

قال الإمام النووي – رحمه اله تعالى – هذا الذي قاله ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ظاهر في تكفيره القدرية، قال القاضي عياض – رحمه الله تعالى – هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله – تبارك وتعالى – بالكائنات والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة، قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله:"ما قبله الله منه" ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل عمله لمعصيته، وإن كان صحيحاً (1) .

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ما استظهره الإمام النووي أولا ً من دلالة فتوى ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – على كفر القدرية الغلاة، وأيده بما نقله عن القاضي عياض هو الحق في هذا الباب، وبه قال السلف أولو الألباب، فقد نقل الإمام ابن تيمية عن الأئمة المرضية مالك، والشافعي، وأحمد ذوي المراتب العلية – عليهم جميعاً رحمة رب البرية – أن من جحد علم الله السابق، وقال إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، فقد كفر وحكى الإمام ابن القيم في شفاء العليل اتفاق السلف على تكفير غلاة القدرية ومتقدميهم (2) .

(1) - انظر شرح الإمام النووي لصحيح مسلم: (1/156) .

(2)

- انظر مجموع الفتاوى: (7/385، 8/66، 430 -450)، ودرء تعارض العقل والنقل:(9/402)، وشفاء العليل:(28، 186) .

ص: 17

.. وقد ذكر الإمام السخاوي – عليه رحمة الملك الباري – أن من البدع التي لا شك في تكفير قائلها: إنكار علم الله بالمعدوم، والقول بأن الله – جل وعلا – لا يعلم الأشياء حتى يخلقها، أو إنكار علمه – جل جلاله – بالجزئيات (1) .

أصل مقالة تلك الفرقة الزائغة، وأبرز مجرميها:

لم تحدث تلك المقالة النكراء في شريعة الله الغراء، بسبب اجتهاد خاطئ من قبل أصحابها إنماتم ذلك من عدو ماكر حاقد على الإسلام والمسلمين، قصداً للتلاعب بهذا الدين القويم – ضل سعيهم اللعين –.

فأول من افترى ذلك الإثم المبين رجل خبيث من النصارى المجرمين وهو سوسن اللعين، ثم تبناه زائغان من المسلمين روى الآجري عن الأوزاعي – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: أول من نطق في القدر: رجل من أهل العراق، يقال له: سَوْسَن، وكان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه مَعْبَد الجُهني، وأخذ غَيْلان عن مَعْبَد (2) .

أما "سَوْسَن" الخبيث فلم أقف على نهاية أمره فيما وقفت عليه من كتب أئمتنا الكرام، ولعله لحق بديار قومه المشركين، كما رجع إلى دينهم المعوج السقيم، وهذا ديدن أكثر رؤوس الضلالات يشيعونها ويحملون غيرهم تبعتها، ليبوء بإثمها وعقوبتها.

(1) - انظر فتح المغيث: (1/309)، ونحوه في منهج ذوي النظر:(106)، وتدريب الراوي:(216) والفتح المبين لشرح الأربعين: (73)، وسنن البيهقي – كتاب الشهادات – باب ما ترد به شهادات أهل الأهواء:(10/203)، ومناقب الشافعي للبيهقي:(1/468) .

(2)

- انظر كتاب الشريعة: (243)، ومثله في البداية والنهاية:(9/34) وتهذيب التهذيب: (10/226)، وما جاء في مجموع الفتاوى:(7/384) من تسميته بسيسويه فهو تصحيف في الطباعة.

ص: 18

.. وأما "معبد الجهني" الذي تلقى تلك الضلالة عن "سوسن النصراني" فقد حذر منه السلف الكرام، وضللوه وحكموا عليه بالإجرام، ثم حل به بأس ذي العزة والانتقام، فشيخ الإِسلام في زمن التابعين الحسن البصري – عليه رحمة رب العالمين – كان ينهي عم مجالسة معبد، ويقول: لا تجالسوه، فإنه ضال مضل (1)، وقال طاوس – عليه رحمة الله تعالى –: أخروا معبداً الجهني، فإنه كان قدرياً يتكلم في القدر، ورآه مرة في الطواف فقال له: أنت المفتري على الله، القائل ما لا تعلم؟ فقال معبد: إنه يكذب عليّ، ودخل طاوس على ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – وسأله عن الذين يقولون في القدر، فقال ابن عباس: رضي الله تعالى عنهما –: أروني بعضهم، فقال الحاضرون: صانع ماذا؟ قال: إذاً أضع يدي في رأسه فأدق عنقه (2)، وقد قال عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنه – لمعبد الجهني لما اجتمع به: يا تيس جهينة ما أنت من أهل السر ولا العلانية، وإنه لا ينفعك الحق، ولا يضرك الباطل، وعقب الإمام ابن كثير رحمه الله الجليل – على ذلك بقوله: ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر، ويقال: إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوسن 10هـ ونقل ابن حجر عن مسلم بن يسار- رحمهم الله جميعاً – أنه كان يقول: إن معبداً يقول بقول النصارى (3) .

(1) - انظره في كتاب الشريعة: (243)، وميزان الاعتدال:(4/141)، والبداية والنهاية:(9/34) وتهذيب التهذيب: (10/226) ، وفيه جاء مثل ذلك عن الحسن من وجوه كثيرة.

(2)

- انظر ذلك في كتاب الشريعة: (124، 241)، ونحوه في تهذيب التهذيب:(10/226) .

(3)

- انظر الخبر الأول في البداية والنهاية: (9/34)، والثاني في تهذيب التهذيب:(10/226)، وانظر ابتداعه لتلك الضلالة وعدم موافقة أحد له من أصحاب الهداية في طبقات ابن سعد:(7/264) عن عبد الله بن عون.

ص: 19

وقد روى ابن منده عن يحيى بن يعمر – رحمهم الله تعالى جميعاً – ما يدل على أن بداية معبد الجهني كانت منحرفة حيث ذكر عنه أنه كان فيه زهو، وكان يتوثب على جيرانه، ثم قرأ القرآن، وفرض الفرائض وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً (1) .

وكانت عاقبة أمره خسراً، إذ ذاق وبال أمره فقتل سنة ثمانين على الراجح في عهد خلافة عبد الملك بن مروان، والذي تولى قتله الحجاج بن يوسف الثقفي – فعاقبه عقوبة عظيمة ثم قتله لخروجه على الخلافة وقيل: إن عبد الملك بن مروان هو الذي صلبه ثم قتله لتكلمه في القدر، قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب القدير – وقيل: إن الأقرب قتل عبد الملك له 1هـ والذي يظهر للعبد الضعيف: أن الحجاج هو الذي تولى قتله بطلب من عبد الملك بن مروان لإفساده أذهان الناس بما استحدثه من القول في القدر، ووافق ذلك خروج معبد على الخلافة، فقتله الحجاج بعد أن نكل به (2) .

وبعد مقتل معبد الجهني آل ذلك المذهب الردي إلى غَيْلان الدمشقي الذي كان تلميذاً لمعبد الغوي، وقد حذر السلف الصالح من غَيْلان، وكانت عاقبة أمره إلى الخسران، قال مكحول: حسب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في مثل لجج البحار، وقال له: ويحك يا غيلان، لا تموت إلا مفتوناً (3) .

(1) - انظر ذلك في كتاب الإيمان: (1/143) .

(2)

- انظر إيضاح ذلك في البداية والنهاية: (9/34) ، وتهذيب التهذيب (10/226) .

(3)

- انظر ذينك الخبرين في الشريعة: (242)، ونحوه في تهذيب التهذيب:(4/424) ولسان الميزان: (4/424) .

ص: 20

.. وقد أظهر غيلان مذهبه في زمن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – ورضي عنه (1) – فاستدعاه عمر فأظهر غَيْلان الرجوع، وقال لعمر: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالاً فهديتني، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول، فقال عمر: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً فثبته، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين.

(1) - وكانت خلافته لعشر مضين من شهر صفر الخير سنة تسع وتسعين هجرية، حتى توفي لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة، انظر ترجمته العطرة في البداية والنهاية:(9/192-219) ، وانظر أخباره في كتاب الخليفة الزاهد للشيخ عبد العزيز سيد الأهل.

ص: 21

.. لكن غيلان كان كاذباً فما أقر به على نفسه من الرجوع عن ذلك المذهب الردي والتوبة إلى ربه القاهر القوي – "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (1) " فأظهر في زمن الخليفة هشام بن عبد الملك (2) الكلام في القدر، فناظره شيخ المسلمين الأوزاعي – عليه رحمة الملك الباقي – وأفتى بقتله إن لم يرجع عن زيغه، فأصر على سوء اعتقاده، فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع لسانه ثم قتله وصلبه، وبذلك تحققت دعوة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنه – قال الساجي: كان غيلان قدرياً، دعا عليه عمر بن عبد العزيز فقتل وصلب، وكان غير ثقة ولا مأمون، وكان مالك ينهى عن مجالسته، وقال الآجري: كان غيلان مصراً على الكفر بقوله في القدر، فإذا حضر عند عمر بن عبد العزيز نافق، وأنكر أن يقول بالقدر، فدعا عليه عمر بأن يجعله الله – عز وجل – آية للمؤمنين إن كان كذاباً، فأجاب الله – عز وجل – فيه دعوة عمر، فتكلم غيلان في وقت هشام، فقتله وصلبه، وقبل ذلك قطع يده ولسانه.

(1) - كما قال ربنا – جل وعلا – في سورة فاطر، آية:(43) .

(2)

- وكانت بداية خلافته سنة خمس ومائة: وليس بينه وبين عمر بن عبد العزيز إلا خلافة أخيه يزيد ابن عبد الملك، كما في البداية والنهاية:(9/233) .

ص: 22

.. وقد حسَّن أئمة الإسلام ما فعله الخليفة هشام، بالضال غيلان، فكتب رجاء بن حَيْوَة (1) إلى هشان يقول له: بلغني – يا أمير المؤمنين – أنه وقع في نفسك شيء من قتل غيلان، فوالله لقتله أفضل من قتل ألفين من الروم، وقال عبادة بن نُسَيّ (2) لما بلغه قتل غيلان: أصاب أمير المؤمنين السنة والقضية، ولأكتبن إلى أمير المؤمنين، فلأحسنن له ما صنع، وقد قرر الإمام ابن تيمية أن قتل غيلان موافق للأدلة الشرعية، فقال – عليه رحمة رب البرية –: والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان وناظروه، وبينوا له الحق، كما فعل عمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنه – واستتابه، ثم نكث بعد التوبة فقتلوه (3) .

وبمقتل غيلان انتهى مذهب القدرية الغلاة (4) ، وآل ذلك المذهب إلى المعتزلة الغواة، فنحتوا المذهب بعض النحت، وهذبوه نوعاً ما، وهم القدرية المعتزلة، وإليك تفصيل أمرهم.

ب- القسم الثاني قدرية معتزلة:

(1) - وهو شيخ أهل الشام، ثقة فقيه كما في تذكرة الحفاظ:(1/118)، وتهذيب التهذيب:(1/248.)

(2)

- وهو شيخ أهل الشام، ثقة فاضل، قال مسلمة بن عبد الملك الأمير: بعبادة بن نُسَيّ، ورجاء بن حَيْوَة وعدي بن عدي ننصر على الأعداء، وينزل الله الغيث من المساء – رحمهم الله جميعاً – كما في تهذيب التهذيب:(5/114) .

(3)

- انظر درء تعارض العقل والنقل: (7/173)، وانظر تفصيل ما تقدم في كتاب الشريعة:(228-229، 232)، ولسان الميزان:(4/424)، والمعارف:(212)،وإياك والإصغاء لما جاء في كتاب طبقات المعتزلة السفهاء: لعبد الجبار صاحب البدع والأهواء: (229-233) من مجازفة في الثناء، على غيلان وغيره من الأشقياء.

(4)

- قال الإمام ابن حجر في الفتح: (1/119)، قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين 10هـ ونحوه في شرح الإمام النووي: (1/154) .

ص: 23

يتلخص قول هذه الفرقة الضالة في القدر: أن الله – جل وعلا – عالم بأفعال العباد قبل وقوعها – وهذا خلاف قول القدرية الغلاة –، وهو قول أهل الحق الهداة، لكن القدرية المعتزلة أُركسوا في الضلال المبين، ومخالفة السلف الصالحين، فقالوا: إن أفعال المكلفين، مقدورة لهم وواقعة على جهة الاستقلال، والله قدر الخير وأراده، ولم يقدر الشر ولم يرده، وهذا المذهب مع كونه مذهباً باطلاً في الدين أخف من مذهب الغلاة المتقدمين، ويرد على هذا المذهب باختصار بما قاله الإمام الشافعي شيخ الأخيار – عليهم جميعاً رحمة العزيز الغفار – ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وأن أنكروه كفروا، يعني يقال للقدري: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل إلى الله وهو كفر – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – (1) .

وقد ناظر أئمة السنة الكرام، أكابر المعتزلة اللئام، وفندوا ما تعلقوا به من أوهام، وإليك بعض تلك المناظرات المحكمة الحسان:

(1) - انظر إيضاح ذلك في فتح الباري: (1/119)، وشرح الإمام النووي:(1/154)، ومجموع الفتاوى:(23/349) .

ص: 24

.. اجتمع الإمام أبو إسحاق الإسفراييني (1) من أئمة أهل السنة – عليه رحمة الله تعالى – مع القاضي عبد الجبار المعتزلي (2) .

(1) - نسبة إلى إسفرايين بليدة بنواحي نيسابور إليها ينسب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإمام المشهور المتوفى سنة ثمان عشرة وأربعمائة، كما في اللباب:(1/55)، وطبقات الشافعية الكبرى:(4/256-262) والبداية والنهاية: (12/24)، وشذرات الذهب:(3/209)، وتبيين كذب المفتري:(243-244) .

(2)

- وهو من غلاة المعتزلة كما في الميزان: (2/533) ، وهو الذي تلقبه المعتزلة قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على سواه، ولا يعنون به عند الإطلاق غيره، وهو إمام الاعتزال في زمانه كما في طبقات الشافعية:(5/97)، قال ابن العماد في الشذرات:(4/202) عمر دهراً في غير السنة وتوفي سنة خمس عشرة وأربعمائة وانظر ترجمته في طبقات المفسرين للسيوطي: (59)،وطبقات المفسرين للداودي:(1/262)، ولسان الميزان:(3/386)، وتاريخ بغداد:(11/113) .

ص: 25

فقال المعتزلي: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ومراده بذلك أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد، دون مشيئة الرب – جل وعلا – لأن الله أعلا وأجل من أن يشاء القبائح في زعم المعتزلة، فقال الإمام أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار: أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق: أفيعصى ربنا مكرهاً، فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه فيّ، ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار، أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليّ بالردى، أتراه أحسن إليّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فأعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، وهو الذي يفعل ما يشاء، فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: ما لهذا جواب (1) .

(1) - انظر تلك المناظرة في طبقات الشافعية الكبرى: (4/261-262، 5/98)، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب:(286)، ومجموع الفتاوى الكبرى:(18/140)، وتحفة المريد:(1/60)، وفتح الباري:(13/451) .

ص: 26

وقد وقعت قصة لأعرابي مع إمام المعتزلة الغوي، خصمه بها الأعرابي، ودحض مذهبه الردي وحاصل تلك الحادثة: أنه جاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع الله لي أن يرد عليَّ حمارتي فقد سرقت مني، فقال عمرو بن عبيد، اللهم إن حمارته قد سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه، فقال الأعرابي: يا شيخ السوء كف عن دعائك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها، فقد يريد ردها ولا ترد، وفي كتاب الشريعة للآجري، قال أبو الفضل العباس بن يوسف الشِّكْلِي، قال بعض العلماء مسألة يقطع بها القدري، يقال له: أخبرنا أراد الله – عز وجل – من العباد أن يؤمنوا فلم يقدر أو قدر ولم يرده؟ فإن قال: قدر فلم يرد، قيل له: فمن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ فإن قال: أراد فلم يقدر، قيل له: لا يشك جميع الخلق أنك كفرت يا عدو الله (1) .

أشنع ضلالات القدرية المعتزلة، وأركان نحلتهم الباطلة:

ضم المعتزلة إلى ضلالهم في قدر الله ومشيئته ضلالات أخرى، قام على مجموعها مذهب الاعتزال عرفت بأصول المعتزلة، وها هي مفصلة:

(1) - انظر الشريعة: (244)، والشِّكْلِي: بكسر الشين المعجمة، وسكون الكاف، وفي آخرها اللام هذه النسبة إلى شِكْل، وينسب إليها أبو الفضل العباس بن يوسف الشِّكْلِي، كان روعاً ناسكاً – عليه رحمة الله تعالى – كما في اللباب:(2/205) .

ص: 27

1-

العدل: وإليه ينسبون أنفسهم فيقولون: الطائفة العدلية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية – ومضمون عدلهم: أن الله – جل وعلا – لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أكمر به شرعاً، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئة 10هـ وفي شرح الطحاوية: أما العدل فستروا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به، إذ لو خلقه ثم يعذبهم يكون ذلك جوراً، والله عادل لا يجور، ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله – تبارك وتعالى – يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون ولازمه وصفه بالعجز – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً (1) – ولله در قاضي القضاء عبد الرحمن العلامي – عليه رحمة الله تعالى – إذ أنشد:

قالوا يريدُ ولا يكون مراده

عَدَلوا ولكن عن طريق المعرفة (2) .

(1) - انظر مجموع الفتاوى: (13/357-386)، وهو ضمن دقائق التفسير أيضاً:(1/34، 70) وشرح الطحاوية: (474)، والتنبيه والرد:(37) .

(2)

- كما في البحر المحيط: (4/386) ، وقاضي القضاة العلامي يعرف بابن بنت الأعز، وهو شيخ أبي حيان، وكان من أحسن القضاة سيرة توفي سنة خمس وتسعين وستمائة كما في طبقات الشافعية الكبرى:(8/172-175) ، وفيه ذكر محنة له، كاده بها الحساد، فوقاه من مكرهم رب العباد.

ص: 28

قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: سبب ضلال القدرية المعتزلة في إرادة الله ومشيئته: هو التسوية بين إرادة الله الشرعية، وإرادته الكونية القدرية، وذلك السبب هو سبب ضلال مقابلهم أيضاً وهم القدرية الجبرية، لكن اختلفت كيفية ضلال الفرقتين، في إرادة رب الكونين، فالقدرية المعتزلة ألغت إرادة الله الكونية، والقدرية الجبرية نفت إرادة الله الشرعية، وسوى كل من الفرقتين بين الإرادتين، فالجبرية ألغت اختيار العبد، ونفت عن المكلف الاختيار، وقالوا: هو كالريشة في مهاب الهواء، وهو مجبور على أفعاله، والقدرية أثبتت للعبد الاختيار والإرادة استقلالاً، وقالوا: لا دخل لمشيئة الله وإرادته في فعله، وليس لله – عز وجل – إلا الأمر والنهي، أما اختيار أحد الأمرين فواقع من قبل العبد واختياره، دون تعلق ذلك بإرادة الله ومشيئته، فالعبد هو الذي يخلق أفعال نفسه ويقدرها: وما يفعله من الكفر والفسوق والعصيان واقع بمشيئته لا بمشيئة الرحمن، وقد وصل الشطط بثمامة بن الأشرس المعتزلي، أنه امتنع عن إطلاق القول بأن الله خلق الكافر، لأن الكافر: كفر، وإنسان، والله لا يخلق الكفر (1) .

(1) - انظر الملل والنحل: (1/110) ، وهلك ثمامة سنة ثلاثة وسبعين ومائة، قال الذهبي في الميزان:(1/371-372) من كبار المعتزلة، ومن رؤوس الضلالة 10هـ وفي تاريخ بغداد:(7/148) كان رجل في سفينة في البحر، فسمع هاتفاً يهتف، وهو يقول: لا إله إلا الله كذب المريسي على الله، ثم عاد الصوت فقال: لا إله إلا الله على ثمامة لعنة الله، وفي مجموع الفتاوى:(5/110) كان ثمامة بن أشرس يقول: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله تعالى وسلامه، وانظر بقية مخازيه في الفرق بين الفرق:(172-175)، والفصل في الملل والأهواء والنحل:(8/148-149) ولسان الميزان: (2/83-84) .

ص: 29

وقد هدى الله أهل السنة الكرام، للحق الذي دلت عليه آيات القرآن، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن الله – جل وعلا – قدر الأشياء في الأزل، وشاءها، وأرادها خيرها وشرها، فلا يقع شيء إلا وفق إرادته ومشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإرادة الله – جل وعلا – تنقسم إلى قسمين:

1-

إرادة شرعية: ولا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، وهي مرادفة للأمر، ومستلزمة للرضا، وقد يوجد مقتضاها، وقد يتخلف، قال الله – عز وجل –:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات56، وقال – جل وعلا –:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} النساء64، وتخلف المراد لا ينتج عنه أي إشكال، لأن مرد ذلك إلى الإرادة الشرعية.

وقد يوجد مقتضاها، وقد يتخلف، والواقع أنه قد تخلف في الأكثرية الغالبية، فالله – جل وعلا – أخبرنا في الآيتين الكريمتين أنه فعل كذا لنفعل نحن كذا، يوضح هذا ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"يقول الله تبارك وتعالى – لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي (أحسبه قال) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك (1) ".

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب صفات المنافقين – باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً: (4/2160) وصحيح البخاري – أول كتاب الأنبياء –: (6/363)، وكتاب الرقاق – باب من نوقش الحساب عذب –:(11/400)، وباب صفة الجنة والنار –:(11/416) بشرح ابن حجر في الجميع، والمسند:(3/127، 129، 218، 239) .

ص: 30

2-

إرادة كونية: وتكون فيما يحبه الله – جل وعلا – وفيما لا يحبه، وهي مرادفة للمشيئة العامة وتستلزم المحبة أو السخط، ولا يتخلف مقتضاها بحال، قال الله – عز وجل –:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} البقرة253.

وقال – تبارك وتعالى –: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الأنعام125.

والعلاقة بين الإرادة الشرعية، والإرادة الكونية القدرية، منحصرة في أربع صور، هاك بيانها:

1.

وجود الإرادتين واجتماعهما: كما هو الحال في إيمان المؤمنين، فالله – جل وعلا – قد أمرهم بالإيمان، وشاءه لهم.

2.

انتفاء الإرادتين وعدم حصولهما، وذلك في كفر المؤمنين، فالله – تبارك وتعالى – لم يأمرهم به، بل نهاهم عنه، وما شاءه لهم.

3.

ثبوت الإرادة الكونية، وانتفاء الإرادة الشرعية، مثل كفر الكافر، فالله – عز وجل – لم يأمره به، وهو واقع بمشيئته.

ص: 31

4.

وجود الإرادة الشرعية، وانتفاء الإرادة الكونية، عكس الصورة الثالثة، كحال إيمان الكافر فالله – جل وعلا – أراد منه الإيمان حيث أمره به لكنه لم يشأه له (1) .

(1) - انظر تفصيل هذا وإيضاحه في مجموع الفتاوى: (8/186-190)، وشفاء العليل:(280-282)، وشرح الطحاوية:(59-60)، وروح المعاني:(23/244)، والإتحافات السنية:(66-69)، وشرح الواسطية للشيخ الهراس:(45)، وانظر أحكام القرآن لابن العربي:(3/1234)، وفيه: وهذه الجملة: "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن" من نفيس اعتقاد أهل السنة 0 وانظر الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: (80)، والسنن الكبرى للبيهقي:(10/206)، والاعتقاد له أيضاً:(72)، والأسماء والصفات له أيضاً:(172)، ومناقب الشافعي له أيضاً:(1/412)، والبداية والنهاية:(10/254)، وطبقات الشافعية الكبرى:(1/295)، ففي كل ما تقدم شعر محكم عظيم للإمام الشافعي – عليه رحمة رب العالمين – قال ابن عبد البر في الانتقاء: وهو من شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه، وهو من أثبت شيء في الإيمان بالقدر، وهذه هي الأبيات:

فما شِئْتَ كان وإنْ لم أشَأ

وما شِئْتُ إن لم تشأ لم يكنْ

خَلقْتَ العباد على ما علِمْتَ

في العلم يجري الفتى والمسن

ج

على ذا مَنَنْتَ وهذا خَذلْتَ

وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِن

فمنهم شقي ومنهم سعيد

ومنهم قبيح ومنهم حسن

ص: 32

2-

التوحيد: وتوحيدهم تلحيد، فهو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات عن رب البريات – جل وعلا – والقول بخلق القرآن، وعدم رؤية المؤمنين للرحمن في دار السلام (1) .

قال عبد الرحيم: ومن عجيب أمر الزائغين أنهم يسترون مذاهبهم المرذولة بألفاظ معسولة فهذا محمد بن تُوْمَرْت البربري نفى صفات رب العالمين، كحال إخوانه من المعتزلة الضالين، وخلع على أصحابه لقب "الموحدين (2) ".

3-

المنزلة بين المنزلتين:

(1) - انظر مجموع الفتاوى: (13/357-386)، وشرح العقيدة الطحاوية:(474)، ومن أجل ذلك قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الجهمية، ومن قال عنهم: إنهم مخانيث الفلاسفة، لأنه لم يعلم أن جهماً سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، وانظر مجموع الفتاوى:(8/227، 6/359) ولأجل هذا الأصل والذي قبله من أصولهم الباطلة حكم الشيخ ابن تيمية على المعتزلة الردية بأنهم مشبهة في الأفعال، معطلة في الصفات، كما في مجموع الفتاوى:(8/125) .

(2)

- توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان يدعي أنه معصوم، وهو بالإجماع مخصوم، ودخل في أمور منكرة كثيرة كما في منهاج السنة:(2/167)، ومجموع الفتاوى:(13/386)، وشذرات الذهب:(4/70-72) وفي مجموع الفتاوى: (8/493) يقول شيخ الإسلام: ومن العجب أن المعتزلة – يفتخرون بأنهم أهل "التوحيد" وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل والإشراك.

ص: 33

.. وبسبب قولهم بهذه الضلالة المخزية، سموا معتزلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: اختلف الناس في قديم الزمان في الفاسق الملي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر وقالت الجماعة – أهل السنة الكرام –: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول هو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه – عليهم رحمة الله تعالى – فسموا معتزلة 10هـ فالفاسق لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافراً، فنزلوه في منزلة بين منزلتين فمرتكب الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فحكموا عليه بالخلود في النار، وقالوا: ما الناس إلا رجلان: سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق (1) .

قال عبد الرحيم: ما ابتدعه المعتزلة من القول بالمنزلة بين المنزلتين، لم يوافقهم عليه أحد من سائر طوائف المسلمين، وذلك القول منكر في الدين، وترده من جهات كثيرة أدلة الشرع الحكيم، وأبرز تلك الأدلة ثلاثة:

(1) - انظر مجموع الفتاوى: (3/182-183، 7/484، 8/242، 257، 670، 13/386)، وشرح الطحاوية:(474) والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: (36-37) .

ص: 34

أ- المكلفون في شرع الرحمن صنفان: كافر من أهل النيران، ومسلم من أهل الجنان، ولا واسطة بينهما في المكلفين من إنس وجان، فحكم المعتزلة على فاعل الكبيرة بعدم الكفر والإيمان قول مخترع من وساس الشيطان، والقول الحق في ذلك ما قرره أهل السنة الكرام، من أن فاعل الكبيرة لم يخرج عن الإسلام، وهو مؤمن بإيمانه، فاسق بعصيانه، ويصح نفي الإيمان عنه نظراً لانتفاء كماله الواجب، ويصح إطلاق الإيمان عليه نظراً إلى إقراره، كما يصح نفي الكفر عنه لانتفاء حقيقته، ويصح إطلاقه عليه نظراً لفعله فعل الكافرين، وبهذا القول تجتمع أدلة الشرع المبين، ويزول ما بينها من تعارض متوهم في أذهان الزائغين (1) .

(1) - انظر تقرير هذا وتوضيحه في مجموع الفتاوى: (8/14-15، 241، 524)، وفتح الباري:(1/46) وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (1/146-147، 217-220) .

ص: 35

ب- حكم المعتزلة على فاعل الكبيرة بالخلود في النار، مناقض للأدلة القطعية في شرع الله الواحد القهار، وأصرحها ما ثبت عن نبينا – صلى الله عليه وسلم –:"ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قال أبو ذر – رضي الله تعالى عنه – قلت: وإن زنى، وإن سرق، قال:"وإن زنى وإن سرق"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال "وإن زنى وإن سرق "ثلاثاً"، ثم قال في الرابعة: "رغم أنف أبي ذر" فخرج أبو ذر وهو يقول: وأن رغم أنف أبي ذر (1) .

(1) - هذا لفظ رواية الإمام مسلم في كتاب الإيمان – باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار –:(1/95)، ورواه بمثله الإمام أحمد في مسنده:(5/166)، وانظره في صحيح البخاري أول كتاب الجنائز:(3/110)، وفي كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة –:(6/306)، وفي كتاب الاستئذان – باب من أجاب بلبيك وسعديك:(11/61)، وفي كتاب الرقاق – باب 14:(11/264) وفي كتاب التوحيد – باب 33 –: (13/461)، وبنحوه أيضاً في كتاب الاستقراض – باب أداء الديون:(5/55) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وهو في المسند أيضاً:(5/152، 161)، وسنن الترمذي آخر كتاب الإيمان –:(7/299) واستظهر ابن حجر – رحمه الله تعالى – في الفتح: (3/111، 6/311) أن القائل في جميع ما تقدم أبو ذر – رضي الله تعالى عنه – والمقول له هو النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد ورد التصريح بذلك في رواية البخاري في كتاب الاستئذان المتقدمة، وكذلك في روايته في كتاب اللباس – باب الثياب البيض –:(10/283) بشرح ابن حجر، ووقع التصريح بكون القائل هو النبي – صلى الله عليه وسلم – والمقول له جبريل – عليه السلام – في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب المكثرون هم المقلون:(11/261) بشرح ابن حجر، وفي صحيح مسلم أيضاً في كتاب الزكاة – باب الترغيب في الصدقة:(2/688) وفيه زيادة: "وإن شرب الخمر"، وللجمع بينهما يقال كما في الفتح:(3/111) يمكن أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قال مستوضحاً، وأبو ذر – رضي الله تعالى عنه – قاله مستبعداً 1هـ.

ص: 36

قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: اعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف: أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير، والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلاً، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده – سبحانه وتعالى – ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأئمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، ثم قال عقب الحديث المتقدم: وأما قوله – صلى الله عليه وسلم –: "وإن زنى وإن سرق" فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها، وختم لهم بالخلود في الجنة 10هـ.

ونحوه في فتح الباري، وعبارة الحافظ: وفي الحديث: أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان (1) .

(1) - انظر شرح النووي على صحيح مسلم: (1/217، 2/97)، وفتح الباري:: (3/111) ، وفيه والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله، وحق العباد.

ص: 37

ج- لا يستقيم في كرم الرحيم الرحمن ضياع أجر أصل الإيمان، وجميع طاعات الرحمن، بمعصية يقع فيها الإنسان، قال شيخ الإسلام – عليه رحمة ذي الجلال والإكرام –: إن الله – جل وعلا –لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان (ويرد هذا القول صريح القرآن) قال الله – تبارك وتعالى –:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة217، فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا – فاعل الكبيرة – ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه (1) .

4-

إنفاذ الوعيد: ويقصد المعتزلة بذلك وجوب عقاب الله للعاصين، وتخليدهم في نار الجحيم، فلا تقبل فيهم شفاعة الشافعين، ولا يصح لله أن يغفر لهم في حين من الأحايين (2) .

(1) - انظر مجموع الفتاوى: (8/492)، ونحوه في الإحياء:(1/125)، وانظر لزاماً حبوط بعض الأعمال لما يقع فيها من شوائب من قبل العمال في الوابل الصيب:(11-14) .

(2)

- انظر إيضاح هذا في مجموع الفتاوى: (13/358، 387)، وشرح الطحاوية:(474)، والملل والنحل:(1/52)، والفرق بين الفرق:(118-119)، وفيه: إن واصلاً وعمراً وافقا الخوارج في تأبيد عقاب صاحب الكبيرة في النار، مع قولهما بأنه موحد، وليس بمشرك ولا كافر، ولهذا قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الخوارج، لأن الخوارج لما رأوا لأهل الذنوب الخلود في النار سموهم كفرة وحاربوهم، والمعتزلة رأت لهم الخلود في النار، ولم تجسر على تسميتهم كفرة، ولا جسرت على قتال أهل فرقة منهم، فضلاً عن قتال جمهور مخالفيهم 10هـ.

ص: 38

.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – يدور هذا الأصل من أصول المعتزلة السفهاء على أمرين دل على بطلانهما شريعة رب الأرض والسماء، وهما:

أ) تخليد عصاة المؤمنين في نار الجحيم، وقد تقدم بطلان هذا بآي الذكر الحكيم، وأحاديث سيد ولد آدم أجمعين – عليه صلوات الله وسلامه –.

ب) وجوب عقوبة العصاة، وعدم جواز المغفرة لأصحاب السيئات، من المؤمنين والمؤمنات، ولو شفع لهم خير البريات – عليه أزكى السلام وأفضل الصلوات – أو أراد رحمتهم رب الأرض والسموات، وزعموا أنه لو لم تقع عقوبة المجرمين لحصل الخلف في وعيد رب العالمين، والله لا يخلف الميعاد، كما أخبر بذلك رب العباد: آل عمران: (9) .

قال مقيد هذه الأسطر – ستره الله تعالى –: وهذا الأمر الثاني باطل أيضاً، لدلالة الأدلة الشرعية القطعية على أن جميع الوعيدات مشروطة بشرطين، وإذا انحزم أحدهما فلا تحصل تلك الوعيدات، وذانك الشرطان هما:

ص: 39

1-

عدم توبة المذنب وإنابته إلى ربه، فلو تاب لن يلتحق به العقاب كما قال الرحيم التواب:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} النساء17، وروى ابن جرير وغيره عن قتادة – رحمهم الله جميعاً – قال: اجتمع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرأوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة عمداً كان أو غيره وروى هو وغيره أيضاً عن الضحاك – رحمهم الله جميعاً قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب (1) .

وقد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن توبة العبد صحيحة مقبولة ما لم يعاين أحوال الآخرة، وذلك في حالتين:

(1) - انظر الأثرين في تفسير ابن جرير: (4/204) ، والأثر الأول رواه عبد الرزاق أيضاً وروى الثاني سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبهيقي في الشعب كما في الدر المنثور:(2/130) وقد ورد ذلك المعنى عن جم غفير من السلف بعبارات مختلفة فانظرها، وفي تفسير ابن كثير:(1/463)، قال الألوسي في روح المعاني:(4/238) : المراد من الجهالة: الجهل والسفه وبارتكاب ما لا يليق بالعاقل، ولا عدم العلم، والجهل بهذا المعنى واردة في كلام العرب كقوله:

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا

فنَجْهَلَ فوق جَهْل الجاهلينا

وانظر كتاب الحسنة والسيئة للإمام ابن تيمية: (204-207) ضمن شذرات البلاتين.

ص: 40

أ) بلوغ الروح الحلقوم، ومكابدة غم الغرغرة، كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وفي لفظ اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم" فقال الثاني: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم" فقال ثالث: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة" فقال الرابع: آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه (1)

(1) - الرواية الأولى في سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب 103: (9/192)، وقال: هذا حديث حسن غريب، ونقل المنذري في الترغيب والترهيب:(4/93)، والذهبي في الميزان:(2/552)، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء:(4/447) تحسين الترمذي ولم يعترضوا عليه وقد صححه الحافظ في الفتح: (11/353) ورواه الحاكم في المستدرك – كتاب التوبة والإنابة: (4/257)،وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ورواه ابن حبان كما في موارد الظمآن – كتاب التوبة – باب إلى متى تقبل التوبة:(607) ورواه ابن ماجه في كتاب الزهد – باب ذكر التوبة –: (2/1420)، ورواه أحمد في المسند:(2/132-153) وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (9/19) 6460 ورواه البغوي في شرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة: (5/91) ورواه أبو نعيم في الحلية: (5/190)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما في الدر:(2/131) كلهم من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – وما جاء في سنن ابن ماجه تسميته ابن عمرو فهو وهم كما في تفسير ابن كثير: (1/463)، وتعليق الشيخ شاكر:(9/20)، والرواية الثانية رواها الإمام أحمد في المسند:(3/425، 5/362) ورجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن البَيْلماني وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (10/197)، ورواه الحاكم في كتاب التوبة والإنابة:(4/257) ، وسكت عليه هو والذهبي، وروى نحوه البيهقي في الشعب كما في الدر:(2/131) كلهم عن رجل من الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والحديث رواه الحاكم أيضاً في المكان المتقدم، وسكت عليه هو والذهبي، وأحمد في المسند:(2/206) وفيه راوٍ لم يسم وبقية رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد: (10/197)، والطيالسي كما في منحة المعبود:(2/78) ، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى ابن جرير، والخطيب في المتفق والمفترق، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من رواية عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما –، وألفاظ الروايات متقاربة، وهذا لفظ الحاكم:"من تاب قبل موته بعام تيب عليه، حتى قال: بشهر، حتى قال: بجمعة، حتى قال: بيوم، حتى قال: بساعة، حتى قال: بفواق" وهو الزمن اليسير، وأصل اللفظ في لغة العرب يطلق على ما بين الحلبتين، فإذا حلبت الناقة تترك وقتاً يسيراً حتى ينزل شيء من اللبن ثم تحلب فما بين الحلبتين يقال له فواق كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة:(378)، وزاد المسير:(7/107)، والبحر المحيط:(7/387) والفواق بضم الفاء، وفتحها بمعنىً واحد وفي سورة ص:{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} 15 قرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الفاء والباقون بفتحها في تقريب النشر: (167)، وانظر حجة القراءات:(613)، والحديث رواه الخطيب في تاريخ بغداد:(8/317) عن عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – ورواه عنه أيضاً الطبري في تفسيره: (4/205)، وفي سنده انقطاع كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(2/513) ، والحديث رواه الحاكم في المكان المتقدم، وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي ورواه ابن حبان – في المكان المتقدم أيضاً – وأحمد في المسند:(5/174)، والبزار كما في مجمع الزوائد:(10/198)، والبخاري في التاريخ الكبير:(2/161)، ونسبه السيوطي في الجامع الكبير:(1/186) إلى أبي يعلى، والضياء المقدسي، والبغوي في الجعديات كلهم عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – ولفظ المسند:"إن الله يقبل توبة عبده، أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة"، والحديث بالرواية الأولى رواه ابن مَرْدُوْيَهْ عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – كما في تفسير ابن كثير:(1/464)، والبزار أيضاًكما في مجمع الزوائد:(10/98) وعنه رواه الديلمي أيضاً كما في الجامع الكبير: (1/176) لكن بمعناه دون لفظه، وبالرواية الأولى رواه الطبري في تفسيره:(4/205) مرسلاً عن الحسن البصري: وبشير بن كعب – رحمهم الله جميعاً – قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (1/464) وهذا مرسل حَسَنٌ عن الحسن.

ص: 41

".

ب- طلوع الشمس من مغربها، وذلك من أشرطة الساعة الكبرى، ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من معربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً".

وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه"، وفي صحيح مسلم وغيره أيضاً عن أبي موسى – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:"إن الله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".

ص: 42

.. وثبت في سنن أبي داود وغيره عن معاوية – رضي الله تعالى عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وفي لفظ للإمام أحمد: "فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل (1)

(1) - انظر الحديث الأول في صحيح البخاري – كتاب التفسير – سورة الأنعام – باب 9، 10:(8/297) وكتاب الرقاق – باب 40: (11/352)، وفي كتاب الفتن – باب 25:(13/82) ، بشرح ابن حجر في الجميع، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه إيمان:(1/137)، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب أمارات الساعة:(4/492)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب طلوع الشمس من مغربها –:(2/1352)، ومسند الإمام أحمد:(2/231، 313، 350، 372، 398، 530)، وتفسير ابن جرير:(8/71، 72، 73، 74، 75)، ومعالم التنزيل:(2/204)، وانظر الدر المنثور:(3/57) وتفسير ابن كثير: (2/193) لترى من خرجه غير ما تقدم، وانظر الحديث الثاني في صحيح مسلم – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب استحباب الاستغفار والإكثار منه:(4/2076)، وفي المسند:(2/257، 395، 427، 495، 506-507)،وفي تفسير ابن جرير:(8/73)، ومعالم التنزيل:(2/204) وشرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة –: (5/83) ، ورواه ابن حبان، وابن زَنْجُوْيَهْ كما في الجامع الكبير:(1/761)، وعبد الرزاق في تفسيره كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند:(14/19)، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد:(10/198) ، هذا وقد وقفت على كلام للإمامين المباركين ابن كثير والهيثمي فيه غرابة، وأردت التعليق عليه، فرأيت الشيخ شاكر سبقني إلى ذلك، وما سبقني إليه هو ما أردت تقييده، لذلك آثرت ذكر كلامه بعد وقوفي عليه، والحمد لله رب العالمين، قال في تعليقه على حديث 7697 وهو في المسند:(2/275) : إسناده صحيح، ورواه الطبري في التفسير، ونقله عنه ابن كثير:(2/193) ثم قال عقب روايته: "لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة"، وعليه في هذا استدراك، فإنه في صحيح مسلم بنحوه، فلا ينبغي في هذا أن يوصف بأنه لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وأغرب مما صنع ابن كثير صنيع الحافظ الهيثمي، فإنه ذكر في مجمع الزوائد باللفظ الذي في صحيح مسلم، ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط 10هـ مختصراً وانظر الحديث الثالث في صحيح مسلم – كتاب التوبة – باب قبول التوبة من الذنوب –: (4/2112)، وفي مسند الإمام أحمد:(4/395، 404) ومعالم التنزيل: (2/204)، وشرح السنة – كتاب الدعوات – باب التوبة:(5/82)، ورواه الدارقطني في الصفات كما في الجامع الكبير:(1/182) . وانظر الحديث الرابع في سنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الهجرة هل انقطعت؟ (3/7-8)، والمسند:(1/192، 4/99)، والدارمي في كتاب السير – باب أن الهجرة لا تنقطع –:(2/240)، والحديث رواه الطبراني وابن عساكر والبيهقي كما في الجامع الكبير:(1/908)، والنسائي في السنن الكبرى كما في الفتح:(11/354) وسنده جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:(5/251) : ورواه الطبراني في الأوسط والصغير، والبزار، ورجال أحمد ثقات 1هـ، وقد حكم الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(1671) على إسناد الإمام أحمد بالصحة، وانظر الكلام على انحصار المقصود من الهجرة، في الهرب والطلب، وأقسام كل وحكمه في بحث سديد رشيد في أحكام القرآن لابن العربي:(484-487)، ونقل خلاصة ذلك القرطبي في تفسيره:(5/349-351)، وانظر فتح الباري:(6/37-39) .

ص: 43

".

والحكمة في عدم قبول التوبة في ذلك الوقت أن طلوع الشمس من مغربها أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي، فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة، وارتفع الإيمان بالغيب، فهو كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله، والآثار المتقدمة متفقة ودلالتها صريحة في إغلاق باب التوبة عند طلوع الشمس من المغرب، وعدم انفتاحه بعد ذلك؛لأن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بقيام الساعة (1) .

(1) - انظر إيضاح هذا وتقريره في فتح الباري: (11/354-355)، وتفسير ابن جرير:(8/76) والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: (826-827)، والإشاعة لأشراط الساعة:(169) والإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة: (169) .

ص: 44

2-

عدم مغفرة الله الجليل لعبده المخطيء الذليل: كما دلت على ذلك آي التنزيل، وقررته أحاديث البشير النذير – صلى الله عليه وسلم – قال الله – جل وعلا –:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} النساء116 (1) ،

(1) - من سورة النساء: (116)، وفي سورة النساء أيضاً:(48){إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وثبت في مسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(7/5)، والبيهقي في الاعتقاد:(87-88) وابن أبي عاصم في السنة: (2/398، 471) ، ورواه أيضاً ابن الضريس، وابن المنذر، وابن عدي بسند صحيح كما في الدر:(2/169)، والبزار بسند جيد كما في مجمع الزوائد أيضاً:(10/210) عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"، وقال:"إنني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا" والأثر مروي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أيضاً في معجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد:(10/378) ، ولذلك كانت تلك الآية أرجى آية في القرآن المجيد، لأهل التوحيد روى ذلك الواحدي عن علي بن الحسين – رحمهم الله جميعاً – كما في الإتقان:(4/150)، وفي سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة النساء –:(8/209) عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: ما في القرآن من آية أحب إليّ من هذه الآية: "إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، والأثر رواه الفِرْيابي أيضاًكما في الدر:(2/169)،ونقل القرطبي في تفسيره:(5/246)، والسيوطي في الدر والإتقان:(4/150) تحسين الترمذي للأثر وسكناً عليه، قال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول:(2/92) : حسنه الترمذي مع أن فيه ثُوَيْراً، وهو ابن أبي فاخِتة وهو ضعيف كماقال الحافظ في التقريب 1هـ انظر التقريب:(1/121) وزاد: ورُمِىَ بالرفض 1هـ وانظر حاله في الميزان أيضاً: (1/375-376)، والضعفاء والمتروكين للنسائي:(27)، والتاريخ الكبير:(2/183-184)، قال عبد الرحيم: ووجه كون تلك الآية أرجى آية في القرآن: أن الرحيم الرحمن أخبرنا أن ما عدا الشرك مردود أمره إلى المشيئة، فالعقاب عدل، والرحمة فضل، والفضل أليق بأفعال الرحمن، يضاف إلى هذا أن الآية فتحت باب الأمل على أهل الزلل، والكريم إذا أطمع حقق والله أعلم، وطلباً للفائدة في معرفة أرجى آية في القرآن الكريم، قف على ذلك المبحث العظيم في الإتقان:(4/148-153)، والبرهان:(1/446-448)، والجامع لأحكام القرآن:(12/208-209) وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (6/114)، وتفسير ابن كثير:(1/511) .

ص: 45

وثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال – وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" فبايعناه على ذلك (1) .

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب 11: (1/64)، وفي كتاب مناقب الأنصار – باب 43:(7/219)، وفي كتاب التفسير – سورة الممتحنة – باب 3:(8/638)، وفي كتاب الحدود – باب الحدود كفارة –:(12/84)، وفي باب توبة السارق:(12/108)، وفي كتاب الديات – باب 2:(12/192) وفي كتاب الأحكام – باب بيعة النساء –: (13/303)، وفي كتاب التوحيد – باب في المشيئة والإرادة –:(13/446) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الحدود – باب الحدود كفارات لأهلها –:(3/1333)، وفي سنن النسائي – كتاب البيعة – باب البيعة على الجهاد –:(7/128) وباب البيعة على فراق المشرك: (7/133)، وباب ثواب من وفى بما بايع عليه –:(7/144)، وفي كتاب الإيمان – باب البيعة على الإسلام –:(8/95-96)، وفي سنن الترمذي – كتاب حدود – باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها –:(5/134-135)، وسنن ابن ماجه – كتاب الحدود – باب الحد كفارة:(2/868)، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب في بيعة النبي – صلى الله عليه وسلم –:(2/220)، والسنن الكبرى للبيهقي – كتاب الأشربة – باب الحدود كفارات –:(8/328)، وفي الاعتقاد:(86) والمسند: (5/314، 320)، وثبت معنى حديث عبادة عن علي أيضاً – رضي الله تعالى عنهما – أخرج الترمذي في كتاب الإيمان – باب 11:/ (7/286)، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه في المكان المتقدم، والحاكم في كتاب الحدود:(4/388)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وفي كتاب التفسير – سورة حم عسق:(2/245) ، وقال أيضاً صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي والبيهقي في المكان المتقدم، وأحمد في المسند:(1/85، 99، 159)، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر:(1/188) 775، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه كما في الدر:(6/9)، وقد استشهد به الحافظ في الفتح:(1/67) . وهذا لفظ الترمذي: عن علي – رضي الله تعالى عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا أعدل من أن يُثَنِّى على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه، وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه".

ص: 46

قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هذا الحديث عام مخصوص، موضع التخصص منه قوله – صلى الله عليه وسلم –:"ومن أصاب من ذلك شيئاً" إلى آخره، والمراد به ما سوى به الشرك، وإلا فالشرك لا يغفر به، ولا تكون عقوبته كفارة له، وفي هذا الحديث فوائد، منها: الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع صاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها، وبل هو بمشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، خلافاً للخوارج والمعتزلة (1) .

(1) - انظر شرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (1/223-224)، ونحوه في فتح الباري:(1/68)، وقال السيوطي في زهر الربى على المجتبى:(8/96) إلى أن المخاطب بقوله: "ومن أصاب من ذلك شيئاً" إلخ، المسلمون، فلا يدخل فيه المشرك حتى يحتاج إلى إخراج، وفي الدر المنثور:(2/169) أخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه قال: إن الله حرك المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة.

ص: 47

.. وقال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: من أعظم رحمات رب العالمين، على عباده الموحدين حصول الشفاعة لهم من نبينا الهادي الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم –، وإن كانوا للعظائم مرتكبين، وللموبقات فاعلين، وتلك الشفاعة لا تحصل إلا بعد إذن للشافع من رب العالمين، ورضاء من المشفوع له من المكلفين، فعاد الأمر إلى مشيئة رب العالمين، ورحمة أرحم الراحمين، فالفضل منه وإليه – سبحانه وتعالى – ثبت في المسند والسنن عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (1)

(1) - انظر المسند: (3/213)، وسنن الترمذي – كتاب صفة القيامة – باب 12:(7/151)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن أبي داود – كتاب السنة – باب في الشفاعة:(5/106)، والبزار والطبراني في الصغير والأوسط كما في مجمع الزوائد:(10/378)، وانظر في المعجم الصغير:(1/160، 2/119) وكتاب التوحيد لابن خزيمة: (270-271) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – (645) رقم 2596، والشريعة للآجري:(338-339)، والاعتقاد للبيهقي:(96)، والمستدرك – كتاب الإيمان –:(1/69) وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (2/399)، وحلية الأولياء:(7/261) ، ورواه أيضاً الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة كما في الجامع الكبير:(1/556) كلهم عن أنس – رضي الله تعالى عنه – ورُوِيَ الحديث عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما –..

ص: 48

"، وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم –: "خُيِّرْتُ بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة، لأنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين، الخطائين، المتلوثين (1) ".

وخلاصة الكلام: إن وعيد الله ذي الجلال والإكرام، لأهل المعاصي والآثام مقيد بشرطين عند أهل السنة الكرام: عدم توبة المذنبين، وعدم عفو أرحم الراحمين، وقد وافق المعتزلة على الأمر الأول، وقيدوا به أخبار الوعيد المطلقة في العصاة والفسقة، لثبوته بأدلة منفصلة محققة، والأمر الثاني كالأول تماماً فهو ثابت بأدلة منفصلة، وقوة تلك الأدلة تساوي قوة أدلة الأمر الأول، فالأخذ بأحدهما ونبذ الآخر تفريق بين متماثلين، وذلك شطط في القول، وسفاهة في العقل، وهو مسلك الزائغين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولذلك حكم الإمام أبو عمرو بن العلاء على إمام المعتزلة السفهاء بأنه أعجم القلب، لا يعي كلام الرب، وإليك تلك المناظرة التي دارت بينهما.

قال عمر بن عبيد إمام المعتزلة: قولي في أصحاب الكبائر: إن الله وعد وعداً، وأوعد إيعاداً، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إمام أهل السنة الأتقياء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً، وعن الإيعاد كرماً، وأنشد:

ولا يرهبُ ابنُ العم – ما عشتُ – سطوَتي

ولا يَخْتَشي من سَطوَةِ المُتَهَدّدِ

(1) - انظر سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب في الشفاعة –: (2/1441)، ورواه الإمام أحمد في المسند:(1/75)، والبيهقي في الاعتقاد:(96)، والطبراني ثلاثتهم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ورجال الطبراني رجال الصحيح غير النعمان بن قراد وهو ثقة كما في مجمع الزوائد:(10/378) .

ص: 49

وإني وإنْ أوْعَدْتُهُ

لمُخْلِفُ إيعادِي ومنجزُ موعِدِي (1)

ومما ينبغي التنبيه له أن عدم إنفاذ الوعيد فيمن أوعده رب العالمين، لا يعتبر ذلك خلفاً لميعاده ولا كذباً في أحكامه، لأنه تقدم بالبرهان القطعي أن جميع عمومات الوعيد مقيدة بمشيئة الرب المجيد، فإن شاء عذب، وإن شاء غفر ورحم، وهو الفعال لما يريد – سبحانه وتعالى – وقد ورد التنصيص على هذا المعنى من نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال:"من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار (2) ".

5-

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:

(1) - انظر تلك المناظرة في مفاتيح الغيب: (7/183-184)، وفيه النقل أيضاً عن الواحدي أنه قال: خلف الوعيد كرم عند العرب، والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر:

وإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فالعَفْوُ مانِعُه

0@إذا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنجزَ وَعْدَهُ

(2)

- أخرجه أبو يعلى والبزار كما في المطالب العالية – كتاب الإيمان والتوحيد – باب العفو عما دون الشرك: (3/99)، وابن أبي عاصم في كتاب السنة:(2/466) وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في البعث، وابن عساكر في تاريخه كما في جمع الجوامع:(1/841) كلهم عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – والحديث في تفسير ابن كثير: (2/510)، والدر:(2/170)، وفيه سهيل بن أبي حزم القُطَعِي – بضم القاف وفتح الطاء نسبة إلى قُطَيْعَة بطن من زبيد كما في اللباب:(3/46) من رجال السنن الأربعة حكم عليه ابن حجر في التقريب: (1/338) بأنه ضعيف، وفي الميزان:(2/244) ما يدل على ذلك الحكم 0لكن الحديث له شواهد ثابتة يرتقي بها إلى درجة الحسن وقد تقدم قريباً في صفحة (34) حديث عبادة بن الصامت – رضي الله تعالى عنه – وهو بمعنى هذا الحديث، وانظر تفصيل الكلام عليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة:(2463) .

ص: 50

.. وحاصل قولهم في هذا الأصل: أنه يتحتم علينا أن نأمر غيرنا بما أُمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا، ورتبوا على ذلك جواز الخروج بالسيف على أئمة الجور (1) .

واعلم علمني الله وإياك – أن الأئمة الحكام ثلاثة أقسام:

(1) - انظر إيضاح هذا في مجموع الفتاوى: (13/386)، ودقائق التفسير:(1/35)، وشرح الطحاوية:(475) فالمعتزلة جمعوا بتلك الأصول بين عدة ضلالات فهم جهمية في الصفات، وعيدية في الأسماء والأحكام، قدرية في القدر، وزادوا على ذلك الخروج على الأئمة، كما في مجموع الفتاوى:(6/55) .

ص: 51

1-

إمام شرعي، صالح تقي، وهو من كان مسلماً ذكراً، بالغاً، عاقلا ً، حراً عدلاً، بايعته الأئمة عن رضاً واختيار (1) .

(1) - وهذه الشروط السبعة شروط صحة لانعقاد خلافته، واختلف في اشتراط القرشية: أي كون الخليفة من قريش هل هو شرط كمال أو صحة والجمهور على أنه شرط صحة لا يعدل عنه عند وجوده وما زاد على ذلك فهو من شروط الكمال والأفضلية مثل كونه ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، ودرع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم وكونه لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع في ضرب الرقاب، وقطع الأعضاء، وكونه من أهل الجهاد، ويمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث، انظر تفصيل تلك الأمور في فتح الباري:(13/114-119)، والجامع لأحكام القرآن:(1/264-271)، ونقله عنه شيخنا في الأضواء:(1/50-57) وانظر تحفة المريد: (2/100)، والأحكام السلطانية للماوردي:(6) .

ص: 52

فهذا من الأبرار، وتجب طاعته في السر والجهار، ولا يخرج عليه إلا الفجار الأشرار، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة (1)

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب خيار الأئمة وشرارهم –: (3/1482)، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب في الطاعة ولزوم الجماعة –:(2/324)، وهو في المسند:(6/24، 28) ورواه الترمذي في كتاب الفتن – باب 77: (7/41) عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد / ومحمد يُضعَّف من قبل حفظه 1هـ وفي بعض نسخ الترمذي الحكم عليه بالغرابة فقط كما في تحفة الأحوذي: (3/246)، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(4/67) والحكم عليه بالحُسن وارد في طبعة حمص، وهي السابقة وفي طبعة مصر:(4/529)، وفي طبعة الترمذي مع شرحه العارضة:(9/120)، ومحمد بن أبي حميد ضعيف كما في التقريب:(2/156) ، لكن رواية مسلم تشهد له فترفعه إلى درجة الحسن، والحديث رواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث عقبة بن عامر – رضي الله تعالى عنه – وفيه بكر بن يونس وثقه أحمد والعِجْلي، وضعفه البخاري وأبو زرعة، وبقية رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد:(5/224) والمراد من قوله: "ما أقاموا الصلاة" إقامة أمور الدين، وهذا من باب التعبير عن العام بأهم أفراده وأظهرها كما ثبت في صحيح البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب قريش:(6/533)، وكتاب الأحكام – باب الأمراء من قريش –:(13/113) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن الدارمي – كتاب السير – باب في فضل قريش –:(2/242) والمسند: (4/94)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم –:(2/528) عن معاوية – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كَبَّهُ الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين".

ص: 53

".

وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال: فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (1) ".

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد:(2/143)، وفي كتاب الزكاة – باب الصدقة باليمين –:(3/293)، وفي كتاب الرقاق – باب البكاء من خشية الله – مختصراً –:(11/312)، وفي كتاب الحدود – باب فضل من ترك الفواحش –:(12/112) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، وصحيح مسلم – كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة –:(2/715)، وسنن الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في الحب في الله تعالى –:(4 /598)، وسنن النسائي – كتاب آداب القضاة – باب الإمام العادل –:(8/196)، والموطأ – كتاب الشعر – باب ما جاء في المتحابين في الله:(2/952)، والمسند:(2/439)، وانظر فتح الباري:(2/144) فقد جمع الحافظ عدد مَنْ ورد أنهم يظللون من تحت ظل العرش فبلغوا أربع سبعات (28) وأفردهم في جزء سماه: "معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال".

ص: 54

.. وقد أشاد نبينا – صلى الله عليه وسلم – برفعة قدر الإمام العادل عند الحكم العدل – جل جلاله – وأخبرنا أن دعوته مجابة لا ترد، ففي المسند وغيره عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، وفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب – عز وجل – بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين (1) ".

(1) - انظر المسند: (2/445، 305)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن –:(597)، وصحيح ابن خزيمة:(3/199)، ومسند الطيالسي – منحة المعبود –:(1/255)، وسنن الترمذي – كتاب الدعوات –:(9/225) 3592، وقال: هذا حديث حسن، ورواه في كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها:(7/211)، وانظره في سنن ابن ماجه – كتاب الصيام – باب في الصائم لا ترد دعوته –:(1/557)، وسنن البيهقي وعزاه الإمام ابن كثير في تفسيره:(1/319) إلى سنن النسائي الكبرى، وسند الحديث صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند:(15/187)8030.

ص: 55

2-

إمام غوي مريد، جبار شقي عنيد، وهو من فرط في شرع الرب المجيد، ولم ينفذه على رعيته من العبيد، فيجب قتاله في كل آن وحين، وسواء كانت بيعته ثابتة من قبل المسلمين، ثم طرأ عليه ذلك الوصف اللعين، أو تسلط عليهم ابتداءً كحال العتاة الجبارين، وقد ثبت عن نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنه قال "يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس (1) " وأرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قتالهم، ومنابذتهم بما في وسعنا، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) ".

(1) - رواه الطبراني في الصغير: (20/90)، والأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد:(5/235) كتاب الخلافة – باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلال – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ورجاله رجال الصحيح خلا مؤمل بن إهاب وهو ثقة، وفي الحلية:(1/280) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: "ليكونن عليكم أمراء لا يزن أحدهم عند الله يوم القيامة قشرة شعيرة".

(2)

- انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (10/70) 80 وهو في مسند الإمام أحمد: (1/458، 461)، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر:(6/175، 187) ، (4379، 4402)، ورواه البيهقي في الاعتقاد:(122) .

ص: 56

.. وقد وردت الأحاديث كثيرة عن خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – بقتال الأئمة الضالين إذا لم يحكموا بشرع رب العالمين، وظهرت المجاهرة بالمنكر المبين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت – وهو مريض – رضي الله تعالى عنه – فقلنا: حدثنا أصحك بحديث ينفع الله به، سمعْتَهُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: دعانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (1)، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هكذا هو لمعظم الرواة، وفي معظم النسخ "بواحاً" بالواو، وفي بعضها "براحاً" والباء مفتوحة فيهما، ومعناها: كفراً ظاهراً 10هـ، وقال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن الإمام الخطابي – عليهما رحمة الله تعالى – مَنْ رواه بالراء فهو قريب مِنْ هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل:"البراح": البيان، قال الحافظ: ووقع في رواية الطبراني: "إلا أن يكون معصية الله بواحاً"، وعند أحمد:"ما لم يأمروك بإثم بواحاً (2) ".

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية:(4/1470)، وصحيح البخاري – كتاب الفتن – باب 2:(13/5) بشرح ابن حجر، والمسند:(5/314)، وفي:(5/321) بلفظ "ما لم يأمروك بإثم بواحاً".

(2)

- انظر شرح الإمام النووي: (12/228)، وفتح الباري:(13/8)، وتقدمت رواية الإمام أحمد في المسند وقوله:"عندكم من الله فيه برهان" أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل كما في فتح الباري:(13/8) .

ص: 57

.. قال مقيد هذه الصفحات – فرج الله عنه وعن المسلمين الكربات –: تقدمت قريباً رواية الصحيح أيضاً: "أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وكل من الحديثين صريح في أن الإمام إذا أمر بالآثام، وضاد شرع الرحمن، ينبغي أن يزال بالحسام، وقد قرر الحافظ الهمام، الإمام ابن حجر شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – أن الإمام ينعزل بالكفر بإجماع العلماء الكرام فيجب على كل مسلم عند ذلك القيام، فمن قوي على ذلك فله المثوبات العظام، ومن داهن فعليه الوزر والآثام، ومن عجز وجبت عليه الهجرة ومفارقة تلك الأوطان (1) .

(1) - انظر فتح الباري: (13/8، 123)، ومثله في شرح الإمام النووي:(12/229) حيث نقل عن القاضي عياض – عليهما رحمة الله تعالى – أن الإمامة لا تنعقد لكافر إجماعاً، ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها، فيخرج عن حكم الولاية، وتسقط طاعته، ويجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونَصْبُ إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر 10هـ، وقد تقدم حديث يصرح باستمرار الهجرة وداوامها، وأشرت هنا إلى عدة كتب بحثت تلك المسالة بحثاً سديداً، وبيَّنَتْ أنواع الهجرة بياناً رشيداً، فانظر صفحة (36) من هذا البحث المبارك، قال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن:(1/484) الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة.

ص: 58

.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له سائر الآثام –: ما قاله الأئمة الكرام، من وجوب مهاجرة دار الكفر إلى دار الإسلام، كان متحققا ميسوراً فيما مضى من الأزمان، عند وجود دارَيِ الكفر والإسلام، وأما إذا عم الظلام بلاد الأنام، ولم يكن هناك خليفة ولا إمام، فما على المكلف إلا مقارعة الكفر أينما كان، والعض بالنواخذ على هي النبي – صلى الله عليه وسلم – والحذر من مشاركة الطغام فيما يتهافتون فيه من الإجرام، مع السعي الحثيث لإعادة دولة الإسلام، فمن قام بذلك فهو من الناجين بسلام، المتقين الله حسب ما في الوسع والإمكان، وهذا كما ثبت عن حذيفة بن اليمان – عليه رضوان الرحيم الرحمن – أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يَسْتَنُّون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) .

3-

إمام جائز، وله حالتان:

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب المناقب – علامات النبوة في الإسلام –: (6/515)، وكتاب الفتن – باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟:(13/35) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال:(4/1475)، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العزلة –:(2/1317) .

ص: 59

الحالة الأولى: أن يكون متصفاً بالشروط المرضية، وتمَّت له البيعة، ثم طرأ عليه بعد ذلك مُفَسِّقٌ كأن جار، أو تلبس ببعض المعاصي الكبار، كشرب الخمر أو تعاطي عهر.

الحالة الثانية: أن يتغلب على الناس على كره منهم، ويقودهم بغير رضاهم، فهو مغتصب لسلطان الأمة معتدٍ على الذمة.

ولهاتين الحالتين حالتان:

أ) يجب خلعه إن أمكن بلا ظلم ولا فتنة، لأن ذلك من النصح له وللأمة، وهو ممكن دون ارتكاب محظور، فلا يترك (1) .

ب) إذا لك يمكن عزله إلا بالوقوع في فتنة عمياء، وجر الأمة إلى بلاء، فالواجب الصبر على طاعته، وعدم الخروج عن كلمته، وخالف المعتزلة في هذا، فالتزموا الخروج عليه بالسيف، ولو أدى ذلك إلى فتنة وحيف، ومعلوم ما في هذا القول من الفساد والإفساد، والشقاق والعناد، ولذلك حذرنا منه خير هاد – صلى الله عليه وسلم أبد الآباد – وقد تقدم حديث عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، ومعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيها التنصيص على أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا، وعصوا ما أقاموا الدين، ولم يظهروا الكفر المبين.

(1) - وهذه تكاد تكون فرضية، وتتصور في إمام عاقل أُخبر بأن الأمة لا تريده لما جرى منه من فسق وجور فلم يعارض ذلك، واستجاب له.

ص: 60

.. وهذا إذا لم يقدروا على خلعه بلا فتنة وظلم وحرب كما قرر ذلك أئمة الدين ففي فتح الباري نقلا ً عن الداودي بواسطة ابن التين – عليهما رحمة رب العالمين – قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه فلا فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر 1هـ ونحوه في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار، وحاصل ذلك أن الإمام إذا جار لا ينعزل إذا كان يترتب على عزله فتنة ومفسدة احتمالاً لأخف المضرتين وأدناهما أو كان له قهر وغلبة لعوده بالقهر والغلبة، فلا يفيد عزله، وإن لم يكن له قهر ومنعة، ولا يترتب على عزله مفسدة ومضرة ينعزل بجوره (1) .

واعلم- علمني الله وإياك - أنه بهذا التفصيل يظهر أنه لا تعارض بين قول بعض أهل السنة الكرام: تنفسخ إقامة الخليفة بفسقه الظاهر المعلوم، ويخلع، وبين قول من قال من أهل السنة الأبرار: لا يجوز القيام عليه، ولا خلعه إذا ارتكب فسقاً، فالقول الأول ينزل على الحالة الأولى والثانية على الثانية، ولا تعارض بينهما، والله تعالى أعلم.

تنبيهان:

الأول: في حالة طاعة الإمام الذي طرأ عليه الفسق ينبغي ضرورة الالتزام بأمرين، فالتفريط بأحدهما هلاك:

(1) - انظر فتح الباري: (13/8)، ورد المحتار:(4/264)، وانظر البحث في هذه المسألة في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم:(12/229)، والجامع لأحكام القرآن:(1/271)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن –:(1/271)، والأحكام السلطانية للماوردي:(17) .

ص: 61

أ) إذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة (1)

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب السمع والطاعة للإمام –: (6/115)، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –:(13/121) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية –:(4/1469)، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –:(3/93)، وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق –:(6/30)، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –:(7/142)، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –:(2/956) والمسند: (2/17، 142)، وشرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب الطاعة في المعروف:(10/43) ..

ص: 62

"، وفي الصحيحين وغيرهما أيضاً عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" وفي رواية "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (1) ".

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب 59: (8/58)، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –:(13/122)، وأول كتاب أخبار الآحاد –:(13/233) بشرح ابن حجر في الجميع – وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية:(4/1469)، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –:(3/92)، وأشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد – باب لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – ق:(6/30)، وهو في سنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –:(7/142)، والمسند:(1/82، 94، 124) وانظره من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/955)، والمسند:(3/67)، وانظر روايات متعددة عن عدة من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فيها البيان التام بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرحمن في مجمع الزوائد:(/225-229) كتاب الخلافة – باب لا طاعة في معصية الله – عز وجل.

ص: 63

ب) ينبغي على الرعية نصح الإمام إذا جرى منه ما يوقعه في الفسق والعصيان، فذلك من الواجبات العظام، وعليه يقوم أمر الإسلام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:"الدين النصيحة، قلنا لمن: قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) ".

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان أن الدين النصيحة –: (1/74)، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب النصيحة للإمام:(7/140)، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في النصيحة:(5/233)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(2/519)، والمسند:(4/102) ، وكلهم من رواية تميم الداري، ورواه النسائي في المكان المتقدم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعنه أيضاً الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النصيحة –:(6/173)، وابن أبي عاصم في السنة:(2/90)، وأحمد في المسند:(2/297)، ورواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الدارمي – في كتاب الرقاق – باب الدين النصيحة:(2/311)، وعنه رواه البزار مختصراً كما في مجمع الزوائد:(1/87) ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الإمام أحمد في المسند:(1/351) ، وعنه أيضاً رواه البزار، والطبراني في الكبير وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد:(1/87) ورواه عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه – ابن أبي عاصم في السنة: (2/521)، والطبراني في الأوسط وفيه أيوب بن سويد وهو ضعيف لا يحتج به كما في مجمع الزوائد:(1/87)، والحديث علقه البخاري بصيغة الجزم – في كتاب الإيمان – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم": (1/137) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة.

ص: 64

وقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن كلمة الحق عند الإمام الجائر، من أعظم ما يقرب إلى الرب القاهر، ففي السنن بإسناد صحيح حسن عن أبي عبد الله طارق ابن شهاب البجلي الأحمس أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم –: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر (1) ".

(1) - انظر سنن النسائي – كتاب البيعة – باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر –: (7/144)، وسنده صحيح كما في الترغيب والترهيب:(3/225)، وهو في المسند:(4/314، 315)، ورواه عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ابن ماجه في كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/1330) وإسناده صحيح أيضاً كما في الترغيب والترهيب: (3/225)، وهو في المسند:(251، 256)، ورواه ابن ماجه أيضاً في نفس المكان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – وهو في المسند:(3/19، 61)، وكتاب العزلة للخطابي:(86)، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر –:(6/338)، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي:(4/514) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى رواية أبي أمامة فقال: وفي الباب عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – 1هـ وفي سند حديث أبي سعيد – رضي الله تعالى عنه – عطية العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وهو مدلس أيضاً كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن في السند، وحديث أبي أمامة، وطارق بن شهاب – رضي الله تعالى عنهم – يشهد له، ولأجل ذلك حسنه الترمذي، وانظر الترغيب والترهيب:(3/225)، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(1/333) .

ص: 65

فليحذر المسلم المهتدي من التفريط في هذين الأمرين، ليفوز في الدارين، ثبت في المستدرك والسنن بإسناد صحيح حسن عن كعب بن عجرة – رضي الله تعالى عنه – قال: خرج إلينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن تسعة، وخمسة وأربعة، أحد العددين من العرب، والآخر من العجم فقال: "اسمعوا، هل سمعتم؟ إنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم، فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليّ، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وراد على الحوض (1)

(1) - انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب تحريم إعانة الحاكم الظالم –: (7/38)، وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلى من حديث مسعر من هذا الوجه، وفي الباب عن حذيفة وابن عمر – رضي الله تعالى عنهم –، ورواه أيضاً في كتاب الصلاة – باب ما ذكر في فضل الصلاة –:(2/373)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب الوعيد لمن أعان أميراً على الظلم –، ورواه في الباب الذي بعده – باب من لم يعن أميراً على الظلم –:(7/143)، والمستدرك – كتاب الفتن والملاحم:(4/422)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمسند:(5/243)، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الإمارة – باب فيمن يدخل على الأمراء –:(378)، وحلية الأولياء:(7/249، 8/248)، وكتاب العزلة للخطابي:(86)، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند:(3/321، 399) عن جابر بن عبد الله، ورواه في:(4/267) عن النعمان بن بشير، وفي:(5/384) عن حذيفة، وفي:(2/95) عن ابن عمر، وهو في مسند ابن عمر للطرسوسي:(40) رقم 70، ورواه الإمام أحمد في:(3/24) عن أبي سعيد الخدري، وفي:(5/111) عن خباب بن الأرت، ورواه عن الأخيرين ابن حبان في المكان المتقدم، وانظر مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب في أبوب السلطان والتقرب منها، وباب الكلام عند الأئمة، وباب فيمن يصدق الأمراء بكذبهم ويعينهم على ظلمهم –:(7/246-248) فقد أورد الإمام الهيثمي أحاديث كثيرة في ذلك المعنى – رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين – وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 66

".

وهذا الأمر – أي نصح الأئمة، والجهر بالحق عندهم – إذا لم تقم به الأمة، فقد تُوُدِّعَ منها ولا خير فيها، وسيحل البلاء بها، وينزل سخط الله عليها، كما ثبت هذا عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي المسند والمستدرك بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم إن تقول له: إنك ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم (1) ".

(1) - انظر المسند: (2/63، 190)، والمستدرك – كتاب الأحكام –:(4/96)، والحديث رواه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد:(7/262، 270)، وقد صححه الحاكم فقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والمنذري أيضاً في الترغيب والترهيب:(3/232)،وقال الشيخ شاكرفي تعليقه على المسند:(10/39) 6521 إسناده صحيح، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الكبير:(1/59) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى ابن عدي، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث رواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما كما في مجمع الزوائد:(7/270)، قال الهيثمي فيه: سنان بن هارون، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات، ونسب السيوطي في الجامع الكبير:(1/59) تخريجه أيضاً إلى الحاكم عن سليمان بن كثير بن أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن أبيه عن جده.

ص: 67

وإذا قام المسلم بذلك فقد أدى ما عليه، وخرج من العهدة، وبرئت ذمته من جور الأئمة، ويا ويل الأئمة ثم يا وليهم، إذا لم يلتزموا بما نُصحوا، وانحرفوا عن شرع الله وقسطوا، قال الله – جل وعلا –:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (1) } وفي الصحيحين أن عبيد الله بن زياد أمير البصرة في زمن معاوية وولده يزيد عاد الصحابي الجليل معقل بن يسار – رضي الله تعالى عنهم – في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك حديثاً سمعته عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" وفي رواية في الصحيحين أيضاً: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة (2) ".

(1) - من سورة الجن: (15) ، والقاسطون هم الجائرون، من قسط إذا جار، أما أقسط فبمعنى عدل كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة:(490)، ومدارك التنزيل:(5/273)، والجامع لأحكام القرآن:(19/16) وفتح القدير: (5/299)، والبحر المحيط:(8/350) .

(2)

- انظر روايتي الحديث الشريف في صحيح البخاري – كتاب الأحكام – باب من استرعى رعية فلم ينصح: (13/127) بشرح ابن حجر، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار:(1/125-126) ، وكتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر –:(3/1460)، والمسند:(5/25)، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب العدل بين الرعية:(2/324) .

ص: 68

وفي المسند وسنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:"إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر (1) ".

التنبيه الثاني:

(1) - انظر المسند: (3/22، 55)، وسنن الترمذي – كتاب الأحكام – باب ما جاء في الإمام العادل:(5/9)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله تعالى عنه – رواه الطبراني في الأوسط مختصراً كما في الترغيب والترهيب:(3/167) بلفظ: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر" والحديث في سنده عطيه العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وكان يدلس كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن، ولكن للحديث شواهد كثيرة، ولذلك حسنه الترمذي ونقل المنذري في الترغيب والترغيب تحسين الترمذي ولم يعقبه، وانظر تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول:(4/55) .

ص: 69

لا يجوز أن يكون للمسلمين في الدنيا إلا خليفة واحد، كما قرر ذلك الشرع المطهر، لئلا يتفرق شمل المسلمين، ويتشتت شملهم، وتضع منزلتهم، وتتلاشى مكانتهم، وتضمحل هيبتهم، وتذهب ريحهم وقوتهم، ويصيح بأسهم بينهم، ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (1)

(1) - انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب إذا بويع لخليفتين: (2/242) بشرح النووي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى – كتاب قتال أهل البغي – باب لا يصلح إمامان في عصر واحد –:(8/144) والبغوي في شرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب من يخرج على الإمام والوفاء ببيعة الأول: (10/56)، وفي المستدرك:(2/156) ، وقد أخرج مسلم، ثم ذكر ما تقدم، والحديث رواه الطبراني في الأوسط، والبزار عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – وفيه أبو هلال وهو ثقة كما في مجمع الزوائد – كتاب الخلافة – باب النهي عن مبايعة خليفتين:(5/198)، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بسند رجاله ثقات عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا كان في الأرض خليفتان، فاقتلوا أخرهما" انظر مجمع الزوائد: (5/198)، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد:(1/239) عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وورد في سنن البيهقي: (8/144) قال البيهقي: وروينا في حديث السقيفة أن الأنصار حين قالوا: منا رجل ومنكم رجل، قال عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يومئذ: سيفان في غمد لا يصطلحان، وقال أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – في خطبته يومئذ: وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح..

ص: 70

" قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام، أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" قال أصحابنا لا يجوز عقد لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين، وتخلت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع، وحكى المازري: هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، لظواهر إطلاق الأحاديث، والله أعلم 10هـ (1) .

(1) - انظر شرح صحيح مسلم: (12/32) ، ونقل الأُبُّي في إكمال المعلم، والسنوسي في مكمل إكمال المعلم مطبوعان معاً الثاني منهما في الحاشية:(5/204) عن القاضي عياض رد قول إمام الحرمين والحكم عليه بأنه غير سديد، وهو مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظاهر إطلاق الأحاديث 10هـ ومن العجيب أن يرد القرطبي في تفسيره:(1/274) قول الكرامية المجوزين نصب خليفتين في عصر واحد لجواز بعث نبيين في عصر واحد، كحال علي ومعاوية – رضي الله تعالى عنهما – بقوله: والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله:"فاقتلوا الآخر منهما"، ولأن الأمة مجمعة عليه، وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية مَنْ َقْبَلُه من الأئمة، ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، وما قال أحدهما: إني أمام، ومخالفي إمام، فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك، وليس في السمع ما يمنع منه، قلنا: أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع 1هـ من العجيب حقاً أن يرد القرطبي قول الكرامية، ويعلل المنع أيضاً بأن وجود إمامين يؤدي إلى النفاق والشقاق، وحدوث الفتن والافتراق، وزوال النعم، ثم يقول: لكن إن تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك 1هـ كيف يجوز ذلك، والإجماع قام على منع التعدد مطلقاً كما قرر هو وما توهمه من مسوغ التعدد لتباعد الأقطار مجرد وهم، لأن الأمير من قبل الخليفة يدير أمر تلك البلدة مع ارتباطه بالخلافة، لتكون كلمة المسلمين واحدة، مرتبطة بقيادة واحدة، وبذلك تتم وحدتها، ويجتمع شملها.

ص: 71

وما ذكره الإمام النووي لا ينبغي التوقف في صوابه، كما لا ينبغي التوقف في بطلان قول إمام الحرمين، فالنص بخلافه، وإذا صادم القياس نصاً فهو فاسد الاعتبار، ومطروح لا يلتفت إليه ومع هذا فهو فاسد أيضاً من حيث النظر، فالمفاسد التي تنتج من تعدد الخلفاء جسيمة وخيمة أفظعها تفريق أوصال الأمة، وتشتيت شملها، هذا إذا لم يجر الأمر إلى التناحر والمنازعات بين الخلفاء، مع أن واقع تعدد الأمراء سينتج عنه الشقاق بلا نزاع، والواقع أكبر دليل على ذلك وصدق الله إذ يقول:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء22 فعند تعدد الخلفاء يصبح بأس الأمة فيما بينها، وتترك الأمة تبليغ دعوة ربها، وتهمل نشرها، مع أن ذلك هو عملها ووظيفتها.

والملاحظ أن تعدد الخلفاء مع دلالته على التفرق والتمزق، والتنافر والتناحر فيما بين أولئك فهو يدل دلالة واضحة على تشتيت أمر كل خليفة من أولئك الخلفاء في خلافته، وما تعدد الحكام إلا لتضعضع أمر الخلافة الأولى، وتشتت شملها، حيث أدى ذلك لانقسامات الداخلية، ولاستبداد الأمراء بحكم ولاياتهم، بحيث كان الخليفة صورة لا حقيقية، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، مما أدى ذلك في النهاية إلى انفصال أجزاء عن بناء الدولة المسلمة، وانسلاخ بلدان عن جسمها، فالتشتت الداخلي أدى للانسلاخ الخارجي، وبذلك تعلم أن تعدد الخلفاء نذير بكل سوء، لدلالته على تفرق الكلمة، وتشتت الشمل داخلاً وخارجاً، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أسباب انتشار مذهب الاعتزال أهل الزيع والضلال:

ص: 72

بعد تلك الجولة المباركة، في بيان أسس مذهب الاعتزال الباطلة، وتقرير صحة أقوال أهل السنة الثابتة، سأكمل البيان في بيان سبب انتشار مذهب المعتزلة أهل الزيع والهذيان (1) ، وأستمد التوفيق من ربي الرحمن، فهو الجواد ذو الجلال والإكرام.

إن المتفحص في مذاهب المبطلين، يرى أن مذهب المعتزلة أكثرها انتشاراً في بلدان المسلمين ولذلك أسباب كثيرة، أبرزها:

1-

اتصالهم بالخلفاء والأمراء: واستطاعوا بدهائهم جلبهم إليهم، فتبنى عدد منهم أقوالهم وركنوا إليهم، وأسندوا إليهم مهام دولتهم، فعمرو بن عبيد المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال كان جليس الخليفة أبي جعفر المنصور، وصفيه، وأحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثة من الخلفاء، المعتصم، ثم الواثق، ثم المتوكل، وفي عهده طرد من القضاء وحل به البلاء، وأبو الهذيل العلاف كان أستاذَ الخليفة المأمون (2) .

(1) - وبذلك وصفهم هارون الرشيد كما في شرف أصحاب الحديث: (55) فقال: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث، وقال كما في صفحة:(78) المروءة في أصحاب الحديث، والكلام في المعتزلة، والكذب في الروافض.

(2)

- سيأتيك عما قريب ترجمة عمرو بن عبيد، وقد تقدمت ترجمة ابن أبي دؤاد في كتاب التوحيد، وكذلك أبو الهذيل العلاف، وهو إمام القدرية في زمانه، كما في درء تعارض العقل والنقل:(1/305) .

ص: 73

.. ذلك هو حال المعتزلة مع جهاز الحكم، وأهل السنة كانوا على نقيض ذلك تماماً، وسبب ذلك ما قدمته من وجود شيء من الخلل في جهاز الحكم، وتلبس الحكام بشيء من الظلم فآثر أهل السنة الابتعاد عنهم، ومن اضطر لمخالطتهم نصحهم ولم يركن إليهم، وما أرادوا بالأمرين إلا الاحتراز من الشين، وإرضاء رب الكونين، وفي سنن الدارمي عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان ولا يخاصمن أهل الأهواء (1) . وقد بلغ الأمر بأهل السنة الكرام أن يحترزوا ممن يخالط السلطان، قال سعيد بن المسيب – عليه رحمة الرحمن الرحيم –: إذا رأيتن العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه، فإنه لص، وقيل للأعمش – رحمه الله تعالى –: لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذ عنك، فقال: لا تعجبوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهو شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل (2) .

(1) - انظر سنن الدارمي – المقدمة – باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله: (1/77) .

(2)

- انظر قول سعيد في الإحياء: (1/66، 74)، وقول الأعمش فيه أيضاً:(1/74)، وفي جامع بيان العلم وفضله:(1/185)، وفيه أيضاً قال الأعمش: شر الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء، وانظره في بهجة المجالس:(1/322)، وقد ورد معنى هذا في حديث رواه ابن ماجه في – المقدمة – باب الانتفاع بالعلم والعمل به:(1/94) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء" قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/74) : سنده ضعيف.

ص: 74

ب- وجود عدد منهم من أهل اللسن والفصاحة في كل طبقة من طبقاتهم، فاستطاعوا بذلك استمالة الناس إليهم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:"إن من البيان لسحراً (1) " فمؤسس المذهب واصل بن عطاء الغزَّال مِنْطيق فصيح ذكي بليغ، وأبو الهذيل العلاف مناظر مفوه، وخطيب مِصْقَعٌ، كان يستشهد بثلاثمائة بيت من الشعر في مناظرته، وقد تقدم في كتاب التوحيد بيان قوة عارضته، وشدة ذكائه، وألمعيته.

(1) - انظر صحيح البخاري – كتاب النكاح – باب في الخطبة –: (9/201)، وكتاب الطب – باب إن من البيان لسحراً:(10/237) بشرح ابن حجر فيهما، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب ما جاء في المتشدق في الكلام:(5/275)، وسنن الترمذي – كتاب البر والصلة –: باب ما جاء في أن من البيان سحراً –: (6/30)، والموطأ – كتاب الكلام – باب ما يكره من الكلام بغير ذلك الله –:(2/986)، والمسند:(2/16، 59، 62، 94)، ورواه أحمد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – في:(1/269، 273، 303، 309، 327، 332)، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر:(4/138) رقم 2424 وعن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في: (1/397، 454) وإسناده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (5/293) 3778، ورواه عن معد بن يزيد السلمي – رضي الله تعالى عنه – في:(3/470)، وعن عمار بن ياسر – رضي الله تعالى عنهما – في:(4/263)، وعنه رواه مسلم في كتاب الجمعة:(6/158) بشرح النووي، وهو في سنن الدارمي – كتاب الصلاة – باب في قصر الخطبة –:(1/365)، والحديث رواه الطبراني عن أنس – رضي الله تعالى عنه – وفيه العباس بن الفضل وهو متروك كما في مجمع الزوائد:(8/123) .

ص: 75

.. ويضاف إلى ذلك الأمر، عنايتهم بالثرثرة، وعدم الاقتصار في الكلام على الضرورة، فمجالسهم قيل وقال، وشغب وجدال، وذلك مما يخدع به السذج الجهال، وقد شهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، باتصافهم بذلك الحال، كما تقدم قريباً فكن منه على بال.

3-

تعاونهم فيما بينهم على نشر ما يدعون إليه وتساندهم في بث ما اتفقوا عليه، حتى استطاعوا في نهاية الأمر، إقناع المأمون بما يدعون إليه من وزر، فصبا إليهم ومال، وتقلد مذهب الخزي والعار، واضطهدوا أئمة السنة الأبرار، وتغيرت الأمور، وتكدرت الأحوال، وكثر البلاء واستطار، إذ تبع ذلك المذهب غفير من الأغمار، واستمر الحال على ذلك العار حتى أزاله العزيز القهار على يد المتوكل إمام الأبرار.

وقد ضرب المتقدمون الأمثال، بتعاون المعتزلة الضلال، فقالوا معبرين عن مدى الاحتفاء والإجلال: اعتد به، كاعتداد الشيعي بالشيعي، والمعتزلي بالمعتزلي (1) – جمعنا الله على الهدى، وحفظنا من الزيغ والردى.

نشأة تلك الفرقة المنكرة، وحكمها في شريعة الله المطهرة:

(1) - انظر تفصيل الكلام على أسباب انتشار مذهب المعتزلة اللئام، في تقديم الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد لكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين:(21-22)، وفي كتاب التنبيه والرد:(40) يقول الإمام أبو الحسن الملطي – رحمه الله تعالى –: واعلم أن للمعتزلة سوى من ذكرناهم جماعة كثيرة قد وضعوا من الكتب والهوس ما لا يحصى، ولا يبلغ جمعه، وهي في كل بلدة وقرية، ولا تخلو منهم الأرض.

ص: 76

.. ظهر مذهب المعتزلة في أوائل المائة الثانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق المِلِّي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة أهل السنة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: نقول هو فاسق، لا مؤمن، ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه – رحمهم اله جميعاً – فسموا معتزلة (1) .

(1) - انظر مجموع الفتاوى الكبرى: (3/182-183)، وأفاد في:(10/358) أن انتشارا أمر المعتزلة تم بعد موت الحسن البصري وابن سيرين – عليهما رحمة الله تعالى – وذكر في: (8/228) أن قتادة وغيره قالوا: أولئك المعتزلة.

ص: 77

.. وأول من قال إن مرتكب الكبيرة: لا مؤمن ولا كافر، إنما هو منزلة بين الإيمان والكفر في الدنيا ومخلد في النار في الآخرة هو: واصل بن عطاء الغزَّال، المتكلم البليغ المتشدق، وكان من تلاميذ الحسن البصري – رحمه الله تعالى – فلما قال ما قال، طرده من مجلسه، فاعتزل عنه، وجلس في ناحية من مسجد البصرة، وانضم إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهما ولأتباعهما: المعتزلون، أو المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، ولاعتزالهم قول الأمة في دعواهم: إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. قال الذهبي – عليه رحمة الله – في الميزان: كان واصل من أجلاد المعتزلة، قال أبو الفتح الأزدي: هو رجل سوء كافر، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة (1) .

(1) - انظر إيضاح ذلك وترجمة واصل في وفيات الأعيان: (3/130، 248، 5/61)، وميزان الاعتدال:(4/329) ولسان الميزان: (6/214-215)، وشذرات الذهب:(1/182-183)، والفرق بين الفرق:(20-21، 117-119)، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: 38، والملل والنحل: 1/53-57 واحذر ما جاء في طبقات المعتزلة للمعتزلي عبد الجبار: (234-241 من إسفاف ومجازفة في الثناء على واصل الضال، وما ذكره في صفحة: (234) من الحديث في فضل واصل: "سيكون في أمتي رجل يقال له واصل، يفصل بين الحق والباطل" فهو من لهو الحدث، ومن أشنع الكلام الخبيث، ولا يصدر إلا من رقيع خسيس.

ص: 78

.. وقد تبع عمرو بن عبيد واصل بن عطاء على تلك المقالة النكراء، وبلغ من شدة تعلقه به أن زوجه أخته، والطيور على أشكالها تقع، وقال له: زوجتك أختي إذ لم يكن لي بنت، وما بي إلا أن يكون لك عقب، وأنا خاله، فما حقق الله أمنيته، وقطع نسلهما، وماتا جميعاً، ولم يعقبا، وفي الميزان، وتهذيب التهذيب نقلا ً عن ابن حبان – عليه رحمة الرحيم الرحمن – كان عمرو بن عبيد من أهل الورع والعبادة، إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – هو وجماعة معه، فمسوا بالمعتزلة – وكان يشتم الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – ويكذب في الحديث وَهْماً لا تعمُّداً، قال ابن حجر معلقاً على كلام ابن حبان وغيره: والكلام فيه، والطعن عليه كثيراً جداً وبذلك ختم ترجمته. وفي البداية والنهاية نقلا ً عن الحسن البصري – عليه رحمة الله تعالى – قال: عمرو بن عبيد سيد شباب القراء ما لم يحدث، قالوا: فأحدث والله أشد الحدث، وقد قال عبد الله ابن المبارك – عليه رحمة الله تعالى –:

أيها الطالب علماً

ايتِ حماد بن زيدِ

فخذِ العلم بحلم

ثم قيده بقيدِ

وذر البدعة من

آثار عمرو بن عبيدِ

قال الإمام ابن كثير – عليه رحمة الرب الجليل –: وقد كان عمرو بن عبيد محظياً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد على المنصور مع القراء، فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه، فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا ً، وكان يعجبه ذلك منه وينشد:

كلكم يمشي رويد

كلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد

ص: 79

.. ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمر بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مال لا يطيقه عمرو، ولا كثير من المسلمين في زمانه، مات عمر سنة ثلاث وأربعين ومائة (1) .

حكم تلك الفرقة:

(1) - انظر ما تقدم وغيره في ميزان الاعتدال: (3/273-280)، وتهذيب التهذيب:(/70-75) والبداية والنهاية: (10/78-80)، والفرق بين الفرق:(20، 120-121)، والملل والنحل:(1/56) وتاريخ بغداد: (12/166-188)، وفيه في:(183) عن سلام بن أبي مطيع قال: لأنا أرجي للحجاج مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث فتنة، فقتل الناس بعضهم بعضاً، وانظر وفيات الأعيان:(3/130-133)، والمعارف:(212)، ومروج الذهب:(3/313-314) وشذرات الذهب: (1/211) .

ص: 80

.. الذي حط عليه كلام المحققين، الحكم عليهم بالضلال، وتفويض شأنهم إلى الكبير المتعال – جل جلاله – قال الإمام الذهبي في الميزان، وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – يقول: كان عمرو بن عبيد من الدهرية، قلت: وما الدهرية؟ قال: الذين يقولون لا شيء، إنما الناس مثل الزرع، وكان يرى السيف، قال المؤلف – الإمام الذهبي – لعن الله الدهرية، فإنهم كفار، وما كان عمرو هكذا 10هـ.

ص: 81

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة رب البرية –: نصوص الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم 10هـ ونقل عن السلف تكفير من نفى الكتاب والعلم من القدرية، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال، قال: وأقدم من بلغنا أنه تكلم في تعيين الفرق الهالكة وتضليلهم يوسف بن أسياط، ثم عبد الله بن المبارك – وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين عليهما رحمة رب العالمين – قالا: أصول البدعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن مبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، وقالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة، وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، ثم قال شيخ الإسلام: من أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله – صلى الله عليه وسلم –:"هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال – جل جلاله –:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء10.

ومن أدخل الجهمية فيهم – أي: في الفرق الضالة البالغ عدد ثنتين وسبعين فرقة – منهم على قولين:

ص: 82

.. منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة، أو المتكلمين وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير "المرجئة" و"الشيعة المفضلة" ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص الإمام أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميعه أهل البدع – من هؤلاء وغيرهم – خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة.

ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب، فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة، والمأثور عن السلف والأئمة: إطلاق أقوال بتكفير "الجهمية" المحضة (1) .

(1) - انظر ما تقدم في ميزان الاعتدال: (3/280)، ومجموع الفتاوى:(23/348، 3/350-352) وكرر نحو ذلك في أماكن من مجموع الفتاوى: (28/50، 3/229، 282) .

ص: 83

.. وصفوة كلامه – رحمه الله تعالى – أن من عدا الجهمية لا يكفرون، وفي تكفير الجهمية نزاع، والمنقول عن السلف القول بكفرهم، وبناء على هذا فالمعتزلة ضلال وليسوا بكفار، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن قدامة في رسالته إلى الشيخ محمد بن الخضر بن تيمية – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – ومما قاله في ذلك: ثم إن الإمام أحمد – الذي هو أشد الناس على أهل البدع – قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن، وصلاة الجمع والأعياد خلفهم ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول – تكفير أهل البدع، وتخليدهم في النار – الذي لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد قبله – أي: قبل الإمام أحمد – لأنكره أشد الإنكار، فقد كان ينكر أقل من هذا (1) .

(1) - انظر الذيل على طبقات الحنابلة: 2/156، والرسالة طويلة لخص منها ابن رجب قرابة أربع صفحات، وأشار إلى تأليف ابن قدامة إلى هذه الرسالة في ترجمة ابن قدامة:(2/139) فقال في عد تصانيفه، منها: رسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في تخليد أهل البدع في النار. وانظر نحوه ما ذكره ابن قدامة عن الإمام أحمد في مجموع الفتاوى: (23/349) وفي: (8/430، 460) قرر عدم تكفير الأئمة للمعتزلة ولا لمقابلهم من الجبرية، إنما كفروا من نفى علم الله بالأشياء قبل وقوعها.

ص: 84

.. قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – إطلاق الكفر على الزائغين المبتدعين، من قبل بعض السلف الصادقين، محمول على واحد من أمور أربعة عن المهتدين، فاعلم ذلك ولا تكن من الغافلين، قال الإمام البغوي – عليه رحمة رب العالمين – بعد أن قرر وجوب هجر الزائغين المفسدين، وسير السلف على ذلك الهدي القويم –: ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعلهم كلهم من أمته – أي في الحديث المتقدم في افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة –. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن الأئمة الكرام مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم – رحمهم الله جميعاً –. وناظر الشافعي – رحمه الله تعالى – حفصاً الفَرْدَ، فقال: حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم (1) .

والأمور الأربعة التي يحمل عليها إطلاق الكفر على المبتدعين هي:

(1) - انظر شرح السنة: (1/228)، وانظر مناقشة الشافعي لحفص الفرد المعتزلي وحكمه بالكفر على من قال بخلق القرآن في الأسماء والصفات:(252)، والسنن الكبرى:(10/206)، ومناقب الشافعي:(10/460) والانتقاء: (82)، وتبيين كذب المفترى:(339)، والمقاصد الحسنة:(304)، وفيه: تكفير الشافعي لحفص الفرد ثابت، وانظر كشف الخفاء:(2/94)، وتدريب الراوي:(216)، ومنهج ذوي النظر:(106)، والبداية والنهاية:(10/254)، ومجموع الفتاوى:(23/349)، وآداب الشافعي ومناقبه:(194)، وذلك الحكم قاله الإمام أحمد أيضاً ففي مسائل الإمام أحمد:(262) قال أبو داود: قلت لأحمد: من قال القرآن مخلوق أكافر هو؟ قال: أقول هو كافر.

ص: 85

1-

كفر لا يخرج عن الملة: فهو كفر دون كفر، قال الإمام البغوي وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهة على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق عليه بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفراً دون كفر (1) .

2-

فعل المبتدعين، يشابه فعل الكافرين، ولوجود ذلك الاتفاق بينهما، صح إطلاق لفظ الكفر على المبتدعة منهما، ولم تطبق على المبتدعين أحكام الكفر، لقيام شبهة عندهم لهم فيها شائبة عذر، قال الإمام ابن تيمية: وكذلك الإمام الشافعي لما قال لحفص الفَرْد حين قال: القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لا يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بشهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم (2) .

(1) - انظر شرح السنة: (1/228)، وانظر نحو ذلك التعليل في الذيل على طبقات الحنابلة:(2/156) .

(2)

- انظر مجموع الفتاوى: (23/349)، وقال قبل ذلك:(23/346) : وحقيقة الأمر في ذلك – أي في تكفير أهل البدع – أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، ولم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله فيها، ونحو ذلك في:(7/619) .

ص: 86

3-

إن ذلك الزيغ سيؤدي إلى الكفر في نهاية المطاف، لما يتلبس به المبتدع من شنيع الأوصاف وإذا كانت المعاصي بريد الكفر، فإن البدع بريدها السريع، مع الضمان الوثيق، لذلك الوصف الشنيع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله تعالى –: كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر، وآيلة إليه (1) .

4-

إطلاق الكفر على المبتدعين، من باب التغليظ والردع للزائغين، زجراً لهم عن إفكهم المبين وتنفيراً لغيرهم من ذلك المسلك الوخيم (2) .

(1) - انظر قول العلماء الكرام: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، وهي تجر إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر في الفتح المبين لشرح الأربعين:(118)، وكشف الخفاء:(2/213)، ونحو ذلك في الإحياء:(4/32)، وانظر مجموع الفتاوى:(6/359)، كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر ، وآيلة إليه..

(2)

- انظر توجيه إطلاق لفظ الكفران، ونفي الإيمان، عن أهل الفسوق والعصيان في فتح الباري:(1/112)، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم –:(2/57)، ومجموع الفتاوى:(7/524-525)، ومدارج السالكين:(1/395-397)، وأجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المشكاة:(3/1778-1779) .

ص: 87

وبهذه التحقيقات العلية، يتبين الوجه في إطلاق لفظ "المجوس" على القدرية، في قول خير البرية – عليه صلوات الله وسلامه بكرة وعشية –: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم (1)

(1) - رواه أبو داود في سننه – كتاب السنة – باب في القدر –: (5/66)، والحاكم في المستدرك – كتاب الإيمان –:(1/85) وأحمد في المسند: (2/86، 125)، وابن أبي عاصم في كتاب السنة:(1/149-150)، والآجري في الشريعة:(190)، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد:(7/205)، كلهم عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواية الحاكم وأبي داود وإحدى روايات ابن أبي عاصم من طريق أبي حازم سلمة بن دينار عن ابن عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر، وأقره الذهبي، قال الهيثمي في تهذيب السنن:(7/58) : هذا منقطع، أبو حازم لم يسمع من ابن عمر، ووصله الآجري وفيه زكريا بن منظور، ومن طريقه أخرجه الطبراني: قال الهيثمي: زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره، وضعفه جماعة 10هـ والذي حط عليه كلام ابن حجر في التقريب:(1/261) أنه ضعيف، ورواية أحمد الأولى، وإحدى روايات ابن أبي عاصم عن طريق عمر بن عبد الله، وعمر مولى غفرة لم يسمع أحداً من الصحابة كما في تهذيب التهذيب:(7/472) نقلا ً عن ابن معين، فالسند منقطع. ومع هذا فقد حكم ابن حجر عليه في التقريب:(2/59) بالضعف..ورواه أحمد في المكان الثاني متصلا ً عن مولى غفرة عن نافع عن ابن عمر، وقد علمت حال مولى غفرة، ومع ذلك فقد مال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند:(8/279) 6077 إلى ترجيح الحكم عليه بالصحة، وأن علة الانقطاع في الرواية الأولى قد زالت، وقد ورد في بعض روايات ابن أبي عاصم، والآجري والطبراني في الصغير:(2/14) من طريق الحكم بن سعيد عن الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع به، وساقه البخاري في التاريخ الكبير:(2/341) في ترجمة الحكم بن سعيد، وحكم عليه بالنكارة، وكذلك عَدَّ الذهبيُّ في الميزان:(1/570) هذا الحديثَ من مناكير الحكم بن سعيد، وأقر ذلك ابن حجر في اللسان:(2/332) ، ونقله أيضاً عن العقيلي، وابن عدي، والحديث رواه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي حسين عن نافع به، وإسماعيل ضعفه أبو حاتم كما في الميزان:(1/226)، وقال البخاري في التاريخ الكبير:(1/374) : إنه منكر الحديث، وانظر حديث ابن عمر أيضاً في الميزان:(2/79)، والمجروحين لابن حبان:(1/314) .

وقد روي الحديث عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – بنحو الحديث المتقدم في سنن أبي داود في المكان المتقدم، وفي المسند:(5/406-407)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/144) كلهم عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة، وتقدم الكلام في مولى غفرة، والرجل الأنصاري مجهول كما في تهذيب السنن:(7/61) .

وروي الحديث أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – في سنن ابن ماجه – المقدمة – باب في القدر –: (1/35)، ومعجم الطبراني الصغير:(1/221)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم:(1/144) والشريعة للآجري: (190) بزيادة: "وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم" ورجال السند ثقات إلا أن أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدردس المكي مدلس كما في التقريب: (2/207) وقد عنعن.

وري الحديث عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – في كتاب السنة لابن أبي عاصم: (1/146) بنحو ما تقدم، وسنده ضعيف كما قال الشيخ الألباني في تعليقه عليه.

ص: 88

".

قال ابن الأثير – عليه رحمة الملك الكبير – في جامع الأصول: القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة: هم الذين يقولون: الخير من الله، والشر من الإنسان، وإن الله لا يريد أفعال العصاة، وسموا بذلك، لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله – جل وعلا – ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وأنكم أولى بهذا الاسم منا، وهذا الحديث يبطل ما قالوا، فإنه – صلى الله عليه وسلم – قال:"القدرية مجوس هذه الأمة" ومعنى ذلك: أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم، وقولهم بالأصلين، وهما: النور والظلمة، فإن المجوس يزعمون: أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا بذلك ثَنَوِيَّةً، وكذلك القدرية، لما أضافوا الخير إلى الله، والشر إلى العبيد أثبتوا قادِرَيْنِ خالِقَيْنِ للأفعال، كما أثبت المجوس، فأشبهوهم، وليس كذلك غير القدرية، فإن مذهبهم أن الله – عز وجل – خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بخلقه ومشيئته، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وإيجاداً، وإلى العباد مباشرة واكتساباً (1) .

(1) - انظر جامع الأصول: (10/128) نحوه في مجموع الفتاوى: (8/452)، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم:(1/154) وقد استدل الإمام الآجري في الشريعة: (168) على شقاء القدرية بالحديث الوارد عن خير البرية – صلى الله عليه وسلم – في تشبيههم بشرذمة المجوس الردية، فقال: فإن قال قائل: هم عندك أشقياء؟ قلت: نعم، فإن قال قائل: بماذا؟ قلت: كذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم –، وسماهم "مجوس هذه الأمة" 10هـ وتلك التسمية لا تستلزم كفرهم كما تقدم، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المشكاة:(3/1779) : المراد أنهم كالمجوس في إثبات فاعِلَيْنِ، لا في جميع معتقد المجوس، ومن ثم ساغت إضافتهم إلى هذه الأمة 1هـ.

ص: 89

فائدة علية هي خاتمة الكلام على تلك الفرقة الردية الغوية:

أفاد شيخ الإسلام – عليه رحمة الرحيم الرحمن – أن القدرية ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قدرية مشركة:

وهو الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي قال الله – عز وجل –:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ} الأنعام148، مثلها في سورة النحل35:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .

وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وقد ابتلي بهذا الجهميةُ وطوائفُ من الفقراء والصوفية، ولن يستتب لهم ذلك، وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم كفعل المشركين من العرب، وإذا خولف هوى أحد منهم قام في دفعه متعدياً للحدود غير واقف عند حد كما كانت تفعل المشركين أيضاً قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر فهذا يريد أمراً، والآخر يريد ضده، وكل من الإرادتين مقدرة، فلابد من ترجيح إحداهما، أو غيرهما.

القسم الثاني قدرية مجوسية:

ص: 90

.. وهم الذين يجعلون لله – جل وعلا – شركاء في خلقه، كما جعل الأولون لله – جل وعلا – شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست بمشيئة الله – عز وجل – وربما قالوا: ولا يعلمها أيضاً فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله، وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ويزعمون أن هذا هو العدل، ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمونه: التوحيد، كما يسمي الأولون التلحيد: التوحيد، فيلحد كل منهما في أسماء الله وصفاته، وقد وقع بذلك المعتزلة، والمتأخرون من الشيعة.

القسم الثالث قدرية إبليسية:

وهم الذين صدقوا الله بأن الله – جل وعلا – صدر عنه الأمران، لكن عندهم هذا تناقض، وهذا حال الزنادقة الملاعين، كالمعري وشيعته المجرمين (1) .

هذه هي أصناف الزائغين في قدر رب العالمين، وقد تكرم الله الكريم، بهداية عباده المخلصين إلى صراطه المستقيم، فأثبتوا أمر الله ونهيه، كما أثبتوا قدره وحكمته، وعولوا على القدر في المصائب، واستغفروا ربهم ولاذوا به عند المعايب – جعلنا الله العظيم من حزبه المفلحين، وختم لنا بالحسنى آمين.

والحمد لله رب العالمين..

(1) - انظر تفصيل ذلك وإيضاحه في مجموع الفتاوى: (8/256-261، 3/111-128، 8/107)، وأثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – رواه الآجري في الشريعة:(215) وانظره في شرح الطحاوية: (225) .

ص: 91