الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام شرعنا فى مدارسة الأدلة التى تبين منزلة علم الفقه ومكانته وذكرت دليلا واحدا من كتاب الله جل وعلا يقرر هذا الأمر وهو قول الله جل وعلا فى سورة التوبة براءة
تقدم معنا إخوتى الكرام بيان معنى هذه الآية الكريمة وتقدم معنا أن النفر معناه الانزعاج من الشىء وإلى الشىء والخروج عندما يخرج الإنسان يحصل له شىء من الانزعاج والمشقة والتعب والكلفة وقلت إخوتى الكرام إن معنى الآية يتحدد بناء على صلتها بما قبلها
فإن كانت الآية لا زالت مرتبطة بأحكام الجهاد فتحتمل معنيين اثنين:
إما أن التفقه يحصل للفرقة المقيمة والفرقة التى نفرت، نفرت للخروج فى سبيل ربنا المعبود يصبح تقدير الآية فلولا فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة نفروا لأى شىء ليقاتلوا فى سبيل الله وقعدت طائفة لأى شىء ليتفقهوا فى الدين ويتعلموا من نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام فإذا عاد إليهم إخوانهم المجاهدون علموهم ما تعلموه من نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
والمعنى الثانى أنها لا زالت مرتبطة أيضا بأحكام الجهاد فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة نفرت لتجاهد ولتتفقه فيحصل لها صفتان متلازمتان جهاد وتفقه وقلت الفقه الذى سيحصل لهم كما تقدم معنا كلام سيدنا الحسن البصرى رضى الله عنه وعن المسلمين أجمعين أنهم سيرون عظيم آيات الله حيث سينزل السكينة على عباده المجاهدين وسيخذل أعداءه المجرمين وقلت فى ذلك تقوية لإيمان المؤمنين وهذا فقه عظيم فى الدين
تقدم معنا تقرير هذا إخوتى الكرام هذا على أن الآية مرتبطة لا زالت بأحكام الجهاد وقلت إخوتى الكرام يمكن يكون هناك معنى ثالث على أن الآية لا ارتباط لها بأحكام الجهاد ولا تتحث عن أحكام الجهاد إنما جاءت الآية لتتكلم عن عبادة ثالثة بعد أن ذُكر عبادتان عظيمتان لا تحصل واحدة منهما إلا بالسفر عبادة الهجرة وعبادة الجهاد وهنا ذر الله عبادة ثالثة وهى طلب العلم فلا يحصل العلم النافع كما تقدم معنا إلا بشد الرحل من أجل أن يتلقى العلم من أرجاء الأرض من الشيوخ الصالحين وعليه هنا فلاولا نفر من كل فرقة منهم طائفة هذا النفر الانزعاج الخروج من أجل أى شىء من أجل طلب العلم فقط بعد أن ذكر عبادتان كما تقدم معنا هجرة وجهاد تحصلان عن طريق السفر هنا عبادة ثالثة أيضا لا بد لها من سفر فلولا نفر خرج من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
إخوتى الكرام مر معنا بيان الآية إنما عندى أمران أحب أن أنبه عليهما قبل أن أسرد الأحاديث الأربعة التى وعدت بسردها وذكرها فى هذه الموعظة وتدل على منزلة التفقه فى الدين ومكانة علم الفقه بين علوم الدين
هذا الأمران إخوتى الكرام نهاية هذه الآية (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) هم خرجوا ليتفقهوا (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين) الأصل أن يقول وليفقهوا قومهم إذا رجعوا إليهم بعد أن تعلموا يعنى نفروا للتفقه فبعد أن حصلوا الفقه ينبغى أن يفقهوا الجاهلين هذا الأصل فذر الله بدل هذا وليفقهوا قولهم ولينذروا قومهم للإشارة إخوتى الكرام إلى كمال شفقة الفقيه والعالم وطالب العلم وأن مقصوده من تفقيه الناس فى دين الله الحذر عليهم من غضب الله ومن سخط الله لينذروا قومهم إذا هو منذر وتقدم معنا إعلام مقترن بتخويف وزجر ويكون هذا من أمر مخيف فإذا هو مشفق عليهم
كما قال العبد الصالح مالك ابن دينار عليهم رحمة العزيز الغفار (لو كان لى أعوان لأرسلتهم فى الأمصار ينادون النار النار)
وهنا لينذروا قومهم إذا مقصودهم شفقة عليهم فجاؤوا لينذروهم ليخلصوهم من غضب الله جل وعلا ومقصود من يتعلم منهم ما هو ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فمقصود أيضا أولئك ليكون مقصودهم من هذا الإنذار أيضا الحذر من غضب الله وسخطه
وحقيقة العلم إذا لم تكن هذه نتيجته فلا خير فيه نتعلم لنحذر الناس من سخط الله والناس يتعلمون من أجل أن يحذروا سخط الحى القيوم لا لمباهاة فى الدنيا ولا لمناصب ولا غير ذلك من عروضها الزائلة هذا المعنى الأول الذى أحب أن أنبه عليه فى بدء هذه الموعظة
المعنى الثانى إخوتى الكرام ذكرته فى الموعظة الماضية وقلت سأذكره فى أول هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه فيما تعلق بكلمة لولا (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)
كلمة لولا إخوتى الكرام تأتى فى القرآن الكريم لمعنيين اثنين
المعنى الأول تأتى بمعنى حرف شرط غير جازم حرف امتناع لوجود ويكون هذا إذا وليها جملة اسمية إذا ولى لولا هلا لو ما جملة اسمية فهى حرف امتناع لوجود أى امتنع الحواب والجزاء لوجود الشرط لوجود الاسم المتقدم لولا زيد لعاقبتك امتنعت العقوبة لوجود زيد
قال أئمتنا فإذا كان الفعل مثبتا دخلت عليه اللام ومنه قول ذى الجلال والإكرام (فلولا أنه كان من المسبحين *للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون)[الصافات143-144](فلولا أنه كان من المسبحين) نبى الله يونس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فى سورة الصافات {وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون *فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} [الصافات/139-144]
لبث هذا فعل مثبت دخلت عليه اللام للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون
وإذا كان الفعل منفيا لا تدخل عليه اللام ومنه قول الله جل وعلا فى سورة النور {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} [النور/21]
فاللام حذفت ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم يقل لما زكى منكم من أحد أبدا كما قال هناك للبث لما زكى إنما ما زكى منكم من أحد أبدا وعليه تقول لولا زيد لعاقبتك هذا مثبت لولا زيد ما عاقبتك عندما تأتى بالكلام منفيا لا تدخل عليه اللام
هذا لا علاقة لنا به الآن ضمن هذه الآية لأنه نحن معنا فى سورة لولا تحضيضية إنما هذا من باب يعنى الفائدة واستكمال معانى لولا
إذا لولا حرف امتناع لوجود إذا وليها فعل فهى للتحضيض ومعنى التحضيض طلب الشىء بإلحاح وحس ورغبة تحضيض ويقال لها تحضيضية هذا إذا وليها الفعل المضارع تفيد التحضيض الطلب الحث إذا وليها الفعل المضارع ومنه قول الله جل وعلا لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون لولا هلا يحصل منكم هذا يطلب منا سبحانه وتعالى أن نستغفره وأن نتوب إليه
وهكذا قول الله جل وعلا فى آخر سورة المنافقون {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون/10] لولا بمعنى هلا يطلب من الله يعرض عليه يلح فى طلبه أن يؤخره من أجل أن يتدارك ما فاته لولا أخرتنى إلى أجل قريب إذا وليها الفعل المضارع فهى للتحضيض بمعنى كما قلت العرض وطلب الشىء بحث بإلحاح برغبة
وإذا وليها الفعل الماضى فهى للتحضيض لكن تفيد اللوم والتنديم والمعاتبة على أنه كان ينبغى أن يفعل وما فعل هذا إذا وليها الفعل الماضى ومنه قول الله جل وعلا فى سورة الواقعة {فلولا إذا بلغت الحلقوم* وأنتم حينئذ تنظرون *ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين} [الواقعة/83-86] لولا الثانية تأكيد للأولى (فلولا إن كنتم غير مدينين*ترجعونها إن كنتم صادقين) هل بإمكانكم هلا فعلتم هذا وإذا كنتم يعنى غير مقهورين لرب العالمين وأنكم تتصرفون فى أنفسكم كما تريدون أعيدوا هذه الروح إن كنتم تستطيعون (فلولا إن كنتم غير مدينين*ترجعونها إن كنتم صادقين) وواقع الأمر ليس بوسع أحد أن يمد فى حياته لحظة (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
إذا تفيد اللوم والمعاتبة والتوبيخ
قال الإمام الألوسى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وإذا وليها الفعل الماضى تفيد هذا وإذا كان بالإمكان أن يتدارك الإنسان الأمر فى المستقبل فتفيد أيضا اللوم على الماضى وطلب هذا وحصوله وتداركه فى المستقبل أى الأمر به بالمستقبل كما هو الحال لو وليها الفعل المضارع ومنه معنى الآية التى فى سورة التوبة فلولا نفر، نفر فعل؟ نعم فإذا هى كأن الله يعاتب الذين لا ينفرون للجهاد فى سبيل الحى القيوم ولطلب العلم لكن بما أنه عندك فسحة وسعة من الأجل بإمكانك أن تتدارك ما فات وأن تجاهد وأن تتعلم فإذا وليها الفعل الماضى تفيد اللوم والتوبيخ على عدم حصول المطلوب لكن بما أنه بإمكانك أن تتدارك هذا فإذا يجب عليك أن تتداركه فى المستقبل
لولا إذا وليها فعل فهى للتحضيض إن كان الفعل مضارعا للتحضيض لطلب هذا بحث كما قلت وإلحاح فى المستقبل ،إن كان ماضيا ولا يمكن تداركه لوم وتوبيخ وهلا جرى منكم ذلك فى الزمن الماضى وإذا كان يمكن تداركه تفيد الأمر أيضا به فى المستقبل والعلم عند الله جل وعلا
قال الإمام الرازى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وإنما كان معنى لولا هلا لو ما كان معناها التحضيض لأنها مركبة يقول من أمرين اثنين لولا لو ما بمعنى هلا للتحضيض أصلها هل لا هل فعلت سؤال تستفسر تسأل تستخبر هل فعلت بما أنه لم يفعل ولم يجر هذا منه فتنفى الفعل لا فإذا هلا أصلها هل فعلت لا لم تفعل وكان ينبغى عليك أن تفعل فأفادت التحضيض هل فعلت المطلوب لا للآن ما فعلته وهذا من لطافة العرب وظرافتهم، فلاختصار الكلام قالوا هلا لولا لو ما أصلها هل فعلت لا للآن لم تفعل وهذا مطلوب لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون هل استغفرتم ما جرى منكم هذا للآن فأتى ربنا جل وعلا بلولا بهلا بلو ما كما قلت التى تفيد التحضيض هل لا أصلها هكذا هل لا هل فعلت لم تفعل للآن ما ينبغى أن تفعله فتداركه فى المستقبل والعلم عند الله جل وعلا
هذا إخوتى الكرام فيما يتعلق بالآية التى تدل على منزلة التفقه فى الدين
أما أحاديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه كما قلت سأقتصر على أربعة احاديث بعون الله جل وعلا
أولها حيث سيدنا معاوية رضى الله عنه وأرضاه وقد رُوى عن ستة من الصحابة الكرام وإنما عنونت على هذا الحديث بحديث معاوية رضى الله عنهم أجمعين لأن طريقه أصح الطرق وأقوى الطرق الثابتة فى كتب السنة المشرفة وإن كان روى هذا الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام من هو أفضل من سيدنا معاوية رواه سيدنا عمر ابن الخطاب وابنه عبد الله ابن عمر وعبد الله ابن عباس وعبد الله ابن مسعود وأنس وأبو هريرة رضى الله عنهم أجمعين مع معاوية سبعة من ساداتنا الصحابة الكرام رووا هذا الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام لا أريد أن أخرج إلا حديث سيدنا معاوية رضى الله عنهم أجمعين فكما قلت هو أصح طريق من هذه الطرق السبعة رواه الإمام أحمد فى المسند والإمام مالك فى الموطأ والشيخان فى الصحيحين والحديث فى سنن ابن ماجة فهو فى ثلاثة كتب من الكتب الستة فى الصحيحين وسنن ابن ماجة ورواه ابن حبان فى صحيحه والدارمى فى سننه والإمام أبو داود الطيالسى فى مسنده ورواه الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله والخطيب فى كتابه الفقيه والمتفقه والإمام البيهقى فى المدخل إلى السنن والإمام الآجروى فى أخلاق العلماء ورواه الإمام الطحاوى فى مُشكل الآثار وهو فى غير ذلك من دوايين السنة وهو يعنى فى أعلى درجات الصحة فهو فى الصحيحين كما سمعتم وقلت من رواية سيدنا معاوية رضى الله عنه وعن الصحابة أجمعين عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال
(من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين وإنما أنا قاسم ويعطى الله ولن تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتى أمر الله)
والشطر الثالث من الحديث (ولن تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) هذا الجزء إخوتى الكرام من الحديث متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا بيان ذلك فى مواعظ الجمعة (من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين) وفى بعض روايات الحديث أيضا ويلهمه رشده (من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ويلهمه رشده) إذا من علامة الخيرية فى العبد ان يوفق فى التفقه فى دين الله عز وجل وتقدم معنا يعنى الفارق بين الإنسان وبين الجمادات وبين بهيم الحيوان كما تقدم معنا هو العلم النافع الذى نتعلمه هذا هو الفارق بيننا وبين العجماوات فإذا فُقهت فى الدين حصل فيك معنى الإنسانية وحصلت فيك العبودية لرب البرية سبحانه وتعالى وقمت بالغاية التى من أجلها خُلقت (من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين)
ومفهوم الحديث أن الله إذا خذل العبد وغضب عليه يصرفه عن التفقه فى دين الله فيعيش جاهلا يعبد الله على حسب هواه أو لا يعبد مولاه وهو فى الحالتين على ضلال (من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين) والمفهوم المخالف من لم يُفقه فى الدين ما أراد الله به خيرا وخذله ووكله إلى نفسه
وهذا المفهوم إخوتى الكرام ورد به منطوق بسند صحيح فى مسند أبى يعلى كما فى الفتح فى الجزء الأول صفحة خمس وستين ومائة بسند صحيح عن سيدنا معاوية أيضا رضى الله عنه وأرضاه والحديث كما قلت فى مسند أبى يعلى عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال (ومن لم يبال به لم يفقهه فى الدين)(ومن لم يفقه فى الدين لم يبال به)
إذا من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين المفهوم إذا لم يرد بالعبد خيرا لا يوفق للفقه فى الدين ولا لطلب العلم وفهمه والعمل به هذا المفهوم كما قلت ورد بمنطوق بسند صحيح منطوق دل على المفهوم الذى فُهم من الحديث الثابت فى الصحيحين رواية أبى يعلى أيدت ذلك المفهوم وقلت المفهوم معتبر وهذا المنطوق شهد له والعلم عند الله عز وجل (من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين) والحديث إخوتى الكرام كما ترون نص صحيح صريح فى بيان منزلة التفقه فى دين رب العالمين
الحديث الثانى من رواية سيدنا أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه وأرضاه رواه الإمام أحمد فى المسند والشيخان فى الصحيحين ورواه الإمام الراماهرمزى فى الأمثال وهكذا الإمام أبو الشيخ فى كتاب الأمثال أيضا وهو فى أعلى درجات الصحة فهو أيضا فى الصحيحين من رواية سيدنا أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه وأرضاه عن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه أنه قال (مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُه فى دين الله فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به) على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
نهاية الحديث إخوتى الكرام صنف النبى عليه الصلاة والسلام إلى صنفين اثنين
الصنف الأول دخل تحته نوعان النوع الأول آمن بالله جل وعلا وعَلِمَ وعمل وعَلَََََََََّمَ فهذا الذى فقه فى دين الله ودعا إلى الله وحاله كحال الأرض الطيبة التى تفاعلت مع الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فانتفع الناس بالخيرات والبركات التى أخرجتها هذه الأرض الطيبة
هذا حال من آمن بالله واهتدى بهداه وتعلم وعلم فهذا الذى يُدعى عظيما فى مكوت السماوات وهذا أعلى المخلوقات وهو فى أعلى الدرجات
يليه الأرض الأجادب التى أمسكت الماء فنتفع الناس بها فسقوا ماشيتهم واستقوا منها وانتفعوا بهذا الماء لكن هذه الأرض ما تفاعلت مع الماء هذا حال من آمن بالله جل وعلا لكن انتبه قصر فى ناحية العمل فما عنده جد واجتهاد فى طاعة رب العباد وتعلم لكن هذا العلم ما تفقه فيه وما وصل لدرجة المتبحرين الراسخين الواعين المستنبطين فإذا هو مجرد ناقل يبلغ الناس ما سمعه من غيره دون أن يفقه فيه دون أن يستنبط منه فحاله كحال الأجادب التى أمسكت الماء فانتفع بها الناس هذا على خير وهو يدخل فى القسم الأول فذلك مثل من فقُه فى دين الله فعلم وعلم هذا علم وإن لم يعلم لكن وعلم وإن لم يستنبط ولم يصل إلى درجة الفقه لكن كما قلت هو على خير
وأهل الخير درجات عندنا عالم فقيه وعندنا عالم ناقل هذا على خير وهذا على خير هذا كما قلت فى الصنف الأول فذلك مثل من فقُه فى دين الله فعلم وعلم
ومثل من لم يرفع بذلك رأساولم يقبل هدى الله الذى أرسلت
ظاهر الحديث إخوتى الكرام أن المثل الثانى يشمل صنفا واحدا قال الحافظ ابن حجر بعد أن قرر هذا
وظهر لى أنه فى كل مثل طائفتين المثل الأول أوضحته كيف دخل فيه طائفتان الأرض الطيبة التى أنبتت الكلأ والعشب الكثير والأجادب والمثل الثانى فيه طائفتان الطائفة الأولى وهى الظاهرة التى لم تقبل هدى الله وردته وما آمنت به ومن باب أولى ما تعلمت ولا علمت، هذه شر المخلوقات وشر الدرجات هناك صنف آخر آمن بالله جل وعلا وما معه من الإيمان إلا النطق بالشهادتين فقط يدخل فى هذا المثل أيضا لكنه انحرف عن سماع العلم ولا تعلم وإذا سمع لا يعمل ولا يُعلِّم فهذا ملحق بهذا الصنف الخسيس الخبيث وإن لم يصل إلى دركته تماما لكن معه مقترن فى الذم آمن بالله لكن كما قلت ما سمع العلم وأعرض عنه ولا يريده ولو قدر أنه سمع لا يعلم ولا يُعَّلم يعنى لو سمع وعلم لصار حاله كحال الأجادب لكن ما سمع مع أنه نطق بالشهادتين وكما قلت الذى قبله ما نطق ولا آمن بالله جل وعلا مطلقا أما هذا آمن ولم يسمع العلم أو سمع ولم يَعلم ولم يعمل ولم يُعَّلم فذلك مثل من فقُه فى دين الله فعلِم وعلَّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت
انظروا كلام الحافظ إخوتى الكرام فى الفتح فى الجزء الأول صفحة سبع وسبعين ومائة وكما قلت ظاهر الحديث يدل على أن المثل الثانى يعنى يشمل صنفا واحدا وهو من لم يؤمن بالله ولكن الذى يظهر أن ما استظهره الحافظ ابن حجر فى منتهى الوجاهة أنه يشمل صنفين كما أن المثل الأول يشمل صنفين:
المثل الأول كما قلت من آمن وعلم وعمل وعلم وصار فقيها ويشمل من آمن وعلِم وعلَّم لكن لم يتفقه أى لم يستنبط لم يصل إلى هذه الدرجة إنما هو مجرد ناقل دون أن يعى مدلول الكلام لا يعرف تفسير القرآن يحفظه ويعلم الناس القراءات ولا يعرف تفسير كلام رب الأرض والسموات يعرف الحديث وينقله لكنه لا يفقه فيه ولا يعرف معناه هذا إخوتى الكرام كما قلت يدخل فى الصنف الأول الذى هو صنف فيه خير لكن يتفاوتون فى الخيرية عند رب البرية
والصنف الثانى شر يتفاوتون فى الشرية ما آمن بالله ومن باب أولى لا علم ولا علَّم صنف ثان آمن حصل إيمانا فى الجملة لكن هذا الإيمان ما قاده إلى شىء من الخيرات الحسان ما سمع العلم وإذا سمعه لا يعمل به ولا يعلمه بماذا استفاد إذاً منه إما أنه معرض وإما أنه يسمع كما قلت ولا يعمل ولا يعلم فهذا ملحق كما قلت بزمرة الكافرين وأمره إلى رب العالمين سبحانه وتعالى فذلك مثل من فقُه فى دين الله فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به
نعم إخوتى الكرام الذى ينقل العلم ويتفقه فيه يعرف معناه ما يراد منه ما يدل عليه حقيقة هذا فى درجة عالية فوق الذى ينقل العلم دون أن يعلم ما يدل عليه هذا العلم ينقل النصوص الشرعية ولا يعرف معناها يعنى يقرأ آية من القرآن تسأله عن معناها لا يعلم (تبت يدا أبى لهب وتب) ما معنى تبت يقول ما أعلم (فى جيدها حبا من مسد) يقرؤها وقد يعلمها تقول ما معنى فى جيدها فى عنقها يقول لا أعلم فعلى كل حال كما قلت فى درجة نازلة وإن حصل علما وعلمه لكن إذا فقِه فيه فحقيقة هذا يعنى فى درجة عالية وتقدم معنا إذا فقِه يعنى فهم فهو على خير وإذا فقَه سبق إلى الفهم سبق غيره إلى الفهم فالخير ازداد فيه وإذا فقُه فصار الفقه له سجية وملكة فحصل الخيرات من جميع الجهات
ولذلك حقيقة إخوتى الكرام يمتاز ساداتنا الفقهاء عن ساداتنا المحدثين وفى كل خير ولا يمكن أن يكون الفقيه فقيها حتى يكون محدثا نعم قد لا يصل الفقيه إلى درجة المحدث فى التحديث هذا موضوع آخر لكن هو ما صار فقيها إلا بعد أن صار محدثا وعرف حديث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
فأئمتنا أصحاب المذاهب الأربعة المتبعة كما سيأتينا فى تراجمهم كما وعدت كل واحد منهم محدث وفقيه لكن بعضهم قد تغلب عليه كما قلت إحدى الصفتين فالإمام مثلا أبو حنيفة رضى الله عنه تغلب عليه صفة الفقه والإمام أحمد تغلب عليه صفة الحديث فهو أرسخ منه فى الحديث من الفقه واضح هذا الإمام أحمد والإمام أبو حنيفة أرسخ فى الفقه منه فى الحديث لكن كل منهما فقيه محدث
وأما بالنسبة للإمامين المباركين الإمام الشافعى ومالك فيمكن أن تقول يعنى فى درجة مستوية فى الفقه وفى الحديث، اجتمع فيهما يعنى التمام فى هذا وفى هذا وما غلبت واحدة منهما يعنى الأخرى فى هذا الإمام فهو فى الدرجة العليا فى الفقه وفى الدرجة العليا فى التحديث رضى الله عنهم وأرضاهم يعنى هو فقيه المدينة وهو محدث المدينة الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه وهكذا الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه فقيه محدث فى درجة واحدة والإمام أحمد تغلب عليه الصفة الحديثية والإمام أبو حنيفة تغلب عليه الصفة الفقهية لكن كل واحد منهم فقيه محدث قطعا وجزما
قد هناك محدث من غير فقه كحال كثير من المحدثين منهم العبد الصالح يحيى ابن معين كما سيأتينا واضح هذا درجة الفقيه أعلى من درجة المحدث لأن الفقيه بمنزلة الطبيب والمحدث بمنزلة الصيدلى وأيهما أعلى رتبة؟ الطبيب قطعا والصيدلى ترى عنده الأدوية مكدسة ولو ذهبت يعنى تشتكى عنده ما بإمكانه أن يصف لك دواء بعلتك يقول هذا يحتاج إلى طبيب اذهب إلى الطبيب ليكتب لى الدواء الذى يناسب علتك حتى أصرفه لك الطبيب حقيقة هذا فوق الصيدلى وهذا ما قاله جهابذة المحدثين قال العبد الصالح سليمان ابن مهران الأعمش كما فى جامع بيان العلم وفضله وما ينبغى فى روايته وحمله للإمام ابن عبد البر عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه فى الجزء الثانى صفحة واحدة وثلاثين ومائة لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه عندما كان يجيب عن الأسئلة الشرعية التى توجه إليه يسأله الإمام الأعمش عن مسأله فيجيب أبو حنيفة من غير توقف فيعجب الإمام الأعمش ويتعجب من فقهه يقول من أين لك يا إمام من أين لك هذا فاستمع فيقول أبوحنيفة مما رويتم لنا أنت رويت لنا هذا الحديث وأنا استنبطت منه هذا الحكم فيول الأعمش معلقا على كلام أبى حنيفة أنتم الأطباء ونحن الصيادلة وبلغ من يعنى تقدير الإمام الأعمش وهو إمام الدنيا فى زمانه فى الحديث بلغ من تقديره لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين أنه عندما أراد الحج قال لسيدنا إبى حنيفة رضوان الله عليهم أجمعين اكتب لى المناسك حتى أحج بين لى مناسك الحج كيف سأعمل فى الحج أما أنا أملى لك من صدرى مجلدا فى الأحاديث الواردة فى يعنى حجة النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وعن الآثار عن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار فيما يتعلق بمناسك الحج لكن كيف سيتم ترتيبها وتمييز الركن من السنة وكيف سأفعل هذا فى الحقيقة يحتاج إلى فقيه اكتب لى مناسك الحج أنتم الأطباء ونحن الصيادلة
وهذا الكلام أُثر أيضا عن الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه قال: الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة روى ذلك عنه الإمام البيهقى فى كتاب مناقب الإمام الشافعى ورواه الإمام ابن أبى حاتم فى كتاب آداب الشافعى ومناقبه وانظروا أيضا كلام الإمام الشافعى فى ذلك فى السير فى الجزء العاشر صفحة ثلاث وعشرين فى ترجمته وهذا قاله الإمام المبجل أحمد ابن حنبل أيضا رضى الله عنهم أجمعين الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة كما روى ذلك عنه الإمام ابن عساكر فى تاريخ دمشق
وهذا أيضا قاله إخوتى الكرام الإمام أبو جعفر الطحاوى كما فى تذكرة الحفاظ فى الجزء الثالث صفحة سبع وتسعين وتسعمائة قال للإمام أبى سليمان الدمشقى محمد ابن عبد الله قال له وكان من المحدثين الكبار قال أنتم الصيادلة ونحن الأطباء والإمام أبو جعفر الطحاوى رضى الله عنه وأرضاه يعنى إمام المحدثين فى زمانه لكن فقيه، أنتم الصيادلة، أى من جمعتم الحديث دون فقه صيدلى، وأما نحن أطباء أنتم الصيادلة ونحن الأطباء
ولذلك قال أئمتنا إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلانى كأنه صيدلى هذا يعرف يعنى يجمع الأدوية وهنا يجمع النصوص الشرعية فإذا احتجتها خذها منه واستنبط منها ما تدل عليه وهذا الكلام المحكم إخوتى الكرام تناقله أئمتنا وهو حق انظروه فى الفتاوى الحديثية للحافظ ابن حجر فى صفحة ثلاث وثمانين ومائتين وفى شرح الإحياء للإمام الزبيدى فى الجزء السادس صفحة واحد وستين وثلاثمائة
وأورد الحافظ ابن حجر يعنى حكما شرعيا فى منتهى الطرافة والإحكام وقع بين فقيه وبين إمام المحدثين فى زمانه وهذا الفقيه هو يعنى من طلبة الفقه مع سيد المحدثين فاستمع لهذه المحاورة اللطيفة:
كان بعض طلبة الفقه من تلاميذ سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين مع شعبة وشعبة توفى سنة ستين ومائة وحديثه فى الكتب الستة الإمام شعبة ابن الحجاج وهو إمام الحديث وأمير المؤمنين فى الجرح والتعديل رضى الله عنه وأرضاه شعبة وكان يثنى على سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين فاجتمع مع بعض تلاميذه فأراد شعبة يعنى أن يسأله، أن يختبر حاله قال إن جاءتكم معضلة فإلى من تلجأون إذا جاءتكم معضلة يعنى مسألة مشكلة مسألة عويصة تحتاج إلى بحث وجد واجتهاد إلى من تلجأون؟
فذاك كأنه فهم أنه يعرض به وأن طلبة العلم، طلبة الفقه درجتهم نازلة،
فقال نلجأ إليك وإلى أصحابك من أجل يعنى لو قال له نلجأ إلى أبى حنيفة أو إلى الفقه المقرر عند أبى حنيفة قد ذاك يقول قد مثلا يعنى كيف لا تلجأون إلى المحدثين قال نلجأ إليك وإلى أصحابك،
يقول أنا جالس عنده جاءه مستفتى يستفتيه فقال له أبا بصتار لشعبة ابن الحجاج رضى الله عنه وأرضاه ما تقول فى رجل ضُرب على أم رأسه ضربه ضارب على أم رأسه فزعم أن حاسة الشم فقدت منه وما بقى شمُ فماذا تقول ماذا عليه إنسان ضرب على رأسه فالمضروب قال هذه الضربة أفقدتنى حاسة الشم وإذا فقد حاسة الشم فيه دية كاملة كما لو يعنى فقد البصر كما لو فقد السمع لو فقد بصر عين واحدة نصف دية فلو فقد حاسة الشم كما لو قتله خطأ فيه دية كاملة ما تقول فيمن ضُرب على أم رأسه فزعم أنه فقد حاسة الشم فما الحكم؟ هل يُصدق ويأخذ الدية أو ما الحل فى هذه القضية فبدأ شعبة رضى الله عنه يتشاغل يمينا ويسارا ولعل السائل ينصرف وذاك يلح يقول أبا بصتام ما الجواب ماذا نعمل ما تقول ما الحكم فى هذه القضية إنسان ضرب على أم رأسه وقال فقدت حاسة الشم ما بقيت أشم شيئا لا الروائح الطيبة ولا المنتنة ولا أشم شيئا على الإطلاق كما لو فقد حاسة الذوق نسأل الله العافية كما لو فقد البصر ما عاد يرى شيئا وهنا ما عاد يشم شيئا يعنى لا يشم الدخان ولا الطيب ولا البخور ولا شيئا على الإطلاق
فقال له افته أنت قال يسألك وأفتيه أنا قال إن البلاء موكل بالمنطق ليتنى أنا ما تعرضت لك فى البداية أنا قلت لك إذا جاءت معضلة إلى من تلجأ فأنا لو ما سألت أحسن
هذا كما وقع للإمام الكسائى مع اليزيدى اجتمعا مع هارون الرشيد فتقدم الإمام الكسائى ليصلى فقرأ سورة الكافرون فأخطأ فيها فى صلاة المغرب فالتفت بعد انتهت الصلاة إليه اليزيدى وقال إمام البصرة الكسائى من أئمة البصرة أوليس كذلك كوفة إمام القراء فى الكوفة يخطأ فى سورة الكافرون
فسكت الكسائى وما أجابه ماذا يعمل أخطأ أخطأ، فلما حضرت صلاة العشاء قدم هارون الرشيد قال والله لأتقدم تقدم اليزيدى فتقدم اليزيدى فقرأ فأخطأ فى الفاتحة فلما سلم اليزيدى قال له الكسائى:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
أنت تعيب على أخطأت فى الكافرون طيب أنت أخطأت فى الفاتحة الذى لا يخطأ فيها أحد
وهنا كذلك إلى من تلجأون؟ قال إليك وإلى أصحابك فلما جاءت هذه المسألة يعنى قال افته ماذا عندك أنت من أمور الفقه تعرف فيها فقال سمعت الزهرى والأوزاعى يقولا يدق الخردل دقا شديدا ويقرب منه ليشمه فإن عطس فقد كذب فى قوله وحاسة الشم لا زالت عنده وإذا لم يعطس فقد حاسة الشم فله دية كاملة
قال وقد جئت بها والله كما هى لا يمكن أن يعطس إلا إذا كانت حاسة الشم عنده وإذا ما عطس دل على أنه فقد حاسة الشم قال هذا هو الحكم الشرعى الخردل يدق وإذا شمه الإنسان وعنده حاسة الشم سيعطس شاء أم أبى بدون اختياره فقال ندق الخردل ونقدمه منه نقول استنشق فمتى ما عطس دل على أنه يشم وإذا ما عطس حقيقة فقد حاسة الشم الروائح كلها تستوى عنده فدل على أن هذه الحاسة فقدها وما عاد يميز بين الطعوم كما لو فقد حاسة الذوق حاسة الشم حاسة البصر حاسة السمع دل أنه فقد أما إذا عطس دل على أن الحاسة موجودة
انظروا إخوتى الكرام لهذا الفقه حقيقة وهذا كما يقول أئمتنا أن تبحث فى القضية الواقعة وهذا الذى هدى الله إليه أئمتنا الفقهاء فحاسة الشم إذا فقدت فيها دية كاملة كيف سنعلم أنها فقدت فلا بد لها من اختبار فالفقهاء هم الذين جاؤا وقالوا تختبر حاسة الشم بالخردل وبما يشبهه من الأمور التى إذا دقت واستنشقها الإنسان سيعطس ولابد فإذا عطس دل على ان الحاسة عنده
هذا موجود كما قلت فى الفتاوى الحديثية فهذا منزلة الطبيب وأما ذاك كما قلت شعبة أمير المؤمنين فى الحديث ولا تقدمه أحد ولعله أعلم من سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين فى موضوع الحديث وحفظ طرقه لكن فى الفقه يعنى هو يعرف حاله ولذلك قال افته هذه مسألة لا بد لها الآن من مفتٍ يفتى فيها
وكنت ذكرت لكم إخوتى الكرام قصة جرت مع العبد الصالح يحيى ابن معين أوليس كذلك مع قرينه وصاحبه سيدنا الإمام الشافعى رضوان الله عليهم أجمعين أبو ثور توفى سنة أربعين ومائتين إمام ثقة عبد صالح مبارك حديثه فى سنن أبى داود وسنن ابن ماجة واسمه إبراهيم ابن خالد أبو ثور قرن الشافعى وتلميذه ومن أكبر يعنى أصحابه وخواصه الإمام أبو ثور إبراهيم أبن خالد وأما يحيى ابن معين أبو زكريا إمام الجرح والتعديل فى زمانه توفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وحديثه فى الكتب الستة وهو أعلى من أن يقال عنه ثقة رضى الله عنهم أجمعين
القصة إخوتى الكرام التى سأوردها فى كتاب المحدث الفاصل بين الرواى والواعى للإمام الرامهرمزى الذى توفى سنة ستين وثلاثمائة انظروها فى صفحة خمسين ومائتين خلاصتها أن امرأة جاءت إلى العبد الصالح يحيى ابن معين وهو جالس مع أصحابه المحدثين يتذاكرون أحاديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقالت المرأة ليحيى ابن معين وللإصحابه هل يجوز للمرأة الحائض أن تغسل الميت إذا ماتت امرأة فهل للحائض أن تغسلها وهى حائض امراة ماتت فهل يجوز للمغسلة أن تغسلها إذا كانت حائضا فانظر للإنصاف يحيى ابن معين رضى الله عنه وأرضاه
قال ما لنا علم بهذا فقه لا تسألينى عنه تريدى أحاديث نروى لك أما الفقه ما لنا علم بهذا
انظرى إلى هذا الفتى الذى أقبل هذا الإمام وهو أبو ثور فسأليه ثم عودى إلينا وأخبرنينا بما يجيبك به فاعترضت أبا ثور رضى الله عنهم أجمعين وقالت يا إمام هل يجوز للحائض أن تغسل الميت ميتة ماتت يجوز للحائض أن تغسلها قال يجوز يا أمة الله فاستمع إلى علو الأمة ورفعة قدرها فى ذلك الوقت قالت ما الدليل رحمك الله يعنى أنت تقول يجوز ما الدليل أنت لست بمشرع ستنقل هذا عن النبى الجليل عليه الصلاة والسلام هات دليلك فذكر لها حديثين استنبط منهما هذا الحكم الشرعى لا يوجد حديث أن الحائض تغسل الميت لا يوجد لكن يوجد نظائر لهذه المسألة الفقيه يأتى كما جاز هذا يجوز هذا فاستمع لهذين الحديثين:
الحديث الأول إخوتى الكرام ثابت فى المسند والموطأ وصحيح مسلم والسنن الأربعة من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضى الله عنها وأرضاها أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لها (ناولينى الخمرة) والخمرة إخوتى الكرام يعنى شىء صغير بحجم الكف ينتج من الخوص أو من غيره كان النبى عليه الصلاة والسلام والصحابة يعنى المسلمون فى العصر الأول عندما كانوا يسجدون على الأرض مباشرة ولا يوجد ساتر بينه بين الأرض يضعونها يعنى تحت جبهتهم عندما يسجدوا أيام الحر ليقى جبهته حر الرمضاء وحر الرمال لأن الرمال تستعر نارا فى الصيف فإذا سجد هذه يقال لها خمرة يعنى كما قلت بحجم الكف يضعها محل السجود من أجل أن يضع جبهته عليها فى شدة الحر
(ناولينى الخمرة قالت إنى حائض قال إن حيضتك ليست فى يدك)
أنت ما تحملين هذا فى يدك هذا له مكان معين وأما أنتِ طاهر بعد ذلك لا حرج فقال إذا كان الأمر كذلك فيجوز إذا للحائض أن تغسل الميت وذكر لها الحديث الثانى
الحديث الثانى إخوتى الكرام فى المسند والموطأ والصحيحين والسنن الأربعة ورواه الإمام الدارمى أيضا فى سننه وهو فى السنن الكبرى للإمام البيهقى وغير ذلك من دواويين السنة وهو فى أعلى درجات الصحة عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة أيضا رضى الله عنها وأرضاها قالت (كان النبى عليه الصلاة والسلام يتكأ فى حجرى وأنا حائض فأرجله) عليه صلوات الله وسلامه ترجل تفرق شعره تدهن شعره وهى حائض فقال إذا جاز للحائض أن ترجل الحى فيجوز للحائض أن تغسل الميت
وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أيضا عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضى الله عنها وأرضاها (أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان مرارا يتكأ فى حجرها وهى حائض فيقرأ القرآن)
فإذا استنبط هذا الحكم من هذين الحديثين حيضتك ليست فى يدك الأمر الثانى ترجل رأس الحى فإذا جاز أن ترجل وأن تمشط وأن تسرح وأن تدهن رأس الحى جاز أن تغسل الميت
قالت رحمك الله جزاك الله خيرا ثم ذهبت إلى يحيى ابن معين وأصحابه فقلوا لها ماذا أفتاك فقالت أخبرنى أنه يجوز للحائض بأن تغسل الميت فقالوا لها ذكر لك دليلا قالت نعم ذكر لى حديثين فقال يحيى ابن معين نحفظ كل واحد منهما من كذا وكذا طريقة
اسمعى حتى نورد لك طرق لهذا الحديث الحديث الأول من كذا طرق من ستين من سبعين من مائة العلم عند رب العالمين والثانى من كذا طريق وبدأوا يتفاوضون فى طرق الحديثين والمرأة بدأت تنظر إليهم مشدوهة يعنى حقيقة مستغربة ثم قالت يا عباد الله أين كنتم عندما سألتكم يعنى أنتم تحفظون هذين الحديثين وكل واحد منكم ما شاء الله طرق متعددة من طريق وطريق وطريق يورد هذا الحديث طيب أين كنتم عندما سألتكم هذا
منزلة الفقيه الاستنباط منزلة الفقيه
ولذلك من حفظ ولم يفقه هذا حاله كحال الأجادب فيه خير، لكن من حفظ وفقُه حقيقة هذا كالأرض الطيبة التى قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير شتان بين الأجادب التى أمسكت وبين الأرض الطيبة التى أنبتت نعم كل منهما ليس من القيعان التى هى أرض مستوية منبسطة وملساء لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ نعوذ بالله من تلك الصفة فالفقيه إخوتى الكرام له شأن عظيم عند رب العالمين وسيأتينا إخوتى الكرام ضمن مراحل بحثنا وتراجم أئمتنا من أكبر معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام فقهاء هذه الأمة المباركة المرحومة أكبر معجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام علم الفقه الذى كشف عنه أئمتنا الفقهاء وجحده الجاحدون فى هذه الأيام يأتينا بيان هذا عند تراجمهم بعون الله وتوفيقه
الحديث الثالث إخوتى الكرام ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة تبين أن منزلة التفقه فى الدين أعلى درجات العبادة وفوق التفرغ للعبادة للجد والاجتهاد فى العبادة القاصرة من أذكار وأوراد ونوافل وعبادات يقوم بها الإنسان بينه وبين ربه،
التفقه فى الدين أعظم من ذلك بكثير فاستمعوا لبعض الأحاديث التى تقرر هذا ضمن الدلالة الثالثة كما قلت
روى الإمام الطبرانى فى معاجمه الثلاثة فى الصغير والأوسط والكبير والحديث رواه الإمام الخطيب فى الفقيه والمتفقه انظروا الجزء الأول صفحة واحدة وعشرين فى الفقيه والمتفقه ورواه الإمام القضاعى فى مسند الشهاب قال الإمام الهيثمى فى المجمع فى الجزء الأول صفحة عشرين ومائة وفى إسناد محمد ابن أبى ليلى ضعفوه لسوء حفظه وحديثه إن شاء فى درجة الحسن وقد قال عنه الحافظ فى التقريب صدوق سيىء الحفظ جدا وهو من رجال السنن الأربعة توفى سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة صدوق سىء الحفظ جدا وسأتينا الحديث لا ينزل عن درجة الصحة للاستفاضة إن لم يكن متواترا هذا الطريق حوله كلام الطريق الذى بعده صحيح وبعد ذلك طرق كما سأذكرها عن طريق الإيجاز يعنى اثنا عشر طريقا متصلا وأربعة طرق مرسلة فعندنا ستة عشر طريقا تدل على هذا المعنى وهذا الأمر فى الدلالة كما قلت فالحديث يعنى فى أعلى درجات الصحة وغن كان فى هذا الإسناد الأول فيه ضعف لوجود محمد ابن أبى ليلى
ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله ابن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع)(الفقه أفضل العبادة وأفضل الدين الورع)
أذكر معنى الورع بعد أن أذكر الرواية الثانية لهذا الحديث إخوتى الكرام
الرواية الثانية من طريق سيدنا سعد ابن أبى وقاص رضى الله عنه وأرضاه رواها الحاكم فى المستدرك وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبى ومن طريقه روى الحافظ البيهقى الحديث فى المدخل إلى السنن صفحة ثلاث وثلاثمائة ورواه فى كتاب الزهد أيضا وفى كتاب الآداب ورواه فى كتاب الأربعون الصغرى فى أحوال عباد الله دون إسناد هذا فى الكتاب الأخير فقال رُوى عن النبى عليه الصلاة والسلام والحديث إخوتى الكرام صحيح لكن فى قول الإمام الحاكم وإقرار الذهبى له أنه على شرط الشيخين شىء من التساهل فقط لكن الحديث صحيح فى إسناده حمزة ابن حبيب الزيات رضى الله عنه وأرضاه وهو إمام ثقة مبارك صوق زاهد عابد لكن لم يخرج له البخارى ومن رجال مسلم والسنن الأربعة حمزة ابن حبيب الزيات أحد القراء السبعة توفى سنة ست وخمسين أو ثمان وخمسين بعد المائة فقول الحاكم على شرط الشيخين كما قلت فى ذلك شىء من التساهل والمسامحة يعنى لو قال صحيح صحيح لو على شرط مسلم صحيح على شرط الشيخين الحديث كما قلت ليس على شرط البخارى لأن البخارى لم يخرج لسيدنا حمزة ابن حبيب الزيات وهو إمام ثقة والحديث صحيح بلا شك
ولفظ حديث سيدنا سعد ابن أبى وقاص رضى الله عنه وأرضاه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال (فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة) يعنى الزيادة فى العلم أحب إلى النبى عليه الصلاة والسلام من الزيادة فى العبادة (فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة وخير دينكم الورع) هناك (أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع) وهنا (فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة وخير دينكم الورع)
إخوتى الكرام الورع تعريفه باختصار كما عرفه نبينا عليه الصلاة والسلام إمام الأبرار أن يترك الإنسان ما يشك فيه ليستبرأ لدينه شىء تشك فيه هل هو حلال أو حرام تنزه عنه شىء حاك فى نفسك يعنى حاله ابتعد عنه وتنزه عنه هذا هو تعريف الورع يعنى أن تترك ما لا بأس به أن تترك ما ليس بحرام خشية أن تقع فى الحرام
ثبت فى سنن الترمذى وسنن ابن ماجة والحديث رواه الحاكم فى المستدرك صححه ووافقه عليه الذهبى ورواه الإمام البيهقى وعبد ابن حميد والإمام القضاعى فى مسند الشهاب والإمام ابن عساكر والطبرانى فى معجمه الكبير والحديث إخوتى الكرام حسنه الإمام الترمذى وأقره الحافظ ابن حجر فى الفتح فى الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين وهو حسن بعون رب العالمين ورواه الإمام الدولاب فى الكُنى أيضا انظروه إخوتى الكرام فى جامع الأصول فى الجزء الرابع صفحة اثنتين وثمانين وستمائة وفى الترغيب والرهيب فى الجزء الثانى صفحة تسع وخمسين وخمسمائة وانظروه فى جمع الجوامع فى الجزء الأول فى صفحة تسعة عشرة وتسعمائة
ولفظ الحديث من رواية سيدنا عطية السعدى رضى الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس)
يعنى أن تترك ما تشك فيه تتردد فيه لئلا تقع فى الحرام شىء ليس بحرام لكن قد يفضى إلى الحرام فتركته حقيقة هذا هو الورع
إخوتى الكرام الإنسان ما له مصلحة فى خروجه من بيته من الورع أن يجلس فى البيت يعنى هذا معتكف اعتكف فيه أما تريد أن تتمشى يمينا وشمالا التمشى مباح لكن قد يجر إلى رزايا ومنكرات لا سيما فى هذه الأوقات يعنى عندما يخرج تقع الإنسان عيناه على منكرات وما أكثرها فى جميع الجهات فلو جلست فى بيتك لصنت عينك عن ذلك هذا ورع حقيقة واضح هذا الإنسان يعنى يتورع ولا داعى أن يخرج إلا لمصلحة شرعية ما عدا هذا يعنى الناس تتجول يمينا وشمالا لمَ؟ فلا بد إذا من أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذرا مما به بأس إذا خرج يجره هذا بعد ذلك إلى شوائب
روى الإمام ابن أبى الدنيا فى كتاب التقوى عن سيدنا أبى الدرداء رضى الله عنه موقوفا عليه من قوله قال تمام التقوى أن تتقى الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراما وقد علق البخارى فى صحيحه فى أول كتاب الإيمان فقال وقال ابن عمر رضى الله عنهما
(لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى الصدر) ما ترددت فيه هل يعنى يجر إلى محذور أو هو مسموح به اتركه واسترح
قال الإمام البخارى فى صحيحه وقال ابن عمر (لا بيلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى الصدر)
وهذا المعنى إخوتى الكرام الذى ذكره سيدنا عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما الأثر إخوتى الكرام قال عنه الحافظ لم أجده موصولا بعد البحث والتفتيش يعنى أثر معلق لكن ما وجدت من وصله وما رأيت من خرَّجه هذا الحافظ يقوله رضى الله عنه وأرضاه فماذا يقول من بعده إنما يكفى أنه فى صحيح البخارى كما قلت معلق بصيغة الجزم عن سيدنا عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما مقطوع بصحته لأنه مضاف إليه فهو فى صحيح البخارى فى كتاب إلتزم صاحبه الصحة لكن هذا الأثر قال الحافظ معناه ثبت فى أحاديث صحيحة
منها حديث النواس ابن عباس فى صحيح مسلم عندما قال نبينا عليه الصلاة والسلام
(البر ما اطمئنت إليه النفس) وسكن (البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) هذا حديث النواس ابن سمعان رضى الله عنه
والحديث إخوتى الكرام أيضا ورد معناه من حديث وابصة ابن معبد رضى الله عنه وأرضاه فى المسند وسنن الإمام الدارمى عندما جاء وابصة يسأل نبينا عليه الصلاة والسلام عن البر قال جئت تسأل عن البر (البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وإن أفتاك الناس وأفتوك)
قال الحافظ ابن رجب فى جامع العلوم والحكم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا صفحة سبع وثلاثين ومائتين وقد ورد هذا المعنى أن الإثم ما حاك فى الصدر ما تردد فى الصدر فهو إثم من رواية أبى أُمامة الباهلى فى مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان ومن رواية أبى ثعلبة الخُشَنى فى مسند الإمام أحمد كلاهما بسند جيد ومن رواية واسلة ابن الأصقع فى معجم الطبرانى الكبير لكن إسناد الحديث ضعيف ويشهد له ما تقدم ومن رواية أبى هريرة ومن رواية عبد الرحمن ابن معاوية وهو تابعى فحديثه مرسل كلها فيها أن الإثم ما حاك فى الصدر ما تردد فى الصدر فهو إثم فتركه من باب الورع لتكون من المتقين
نعم إخوتى الكرام ما اشتبه عليك دعه وهذا كما ثبت فى المسند والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا النعمان ابن بشير رضى الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال
(الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتَبِهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يُواقِعه ألا لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله فى أرضه محارمه ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب)
كنت تكلمت إخوتى الكرام فى مواعظ سابقة وقلت هذا الحديث هو أحد أحاديث ثلاثة تدور عليها أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام بل دين الحرام على التمام
حديث سيدنا عمر رضى الله عنه (إنما الأعمال بالنيات) وهو فى الصحيحين
وحديث النعمان ابن بشير رضى الله عنهما (الحلال بين والحرام بين) وحديث أمنا عائشة رضى الله عنها فى الصحيحين أيضا وغير ذلك من دواوين السنة (من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
وقلت وجه دوران الإسلام أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام على هذه الأحاديث الثلاثة أن حديث النعمان ابن بشير بيَّن لنا أن الحلال واضح والحرام واضح وما اشتبه عليك فدعه لتستبرأ لدينك وعرضك وكرامتك هذا الحلال وهذا الحرام الواضحان يبنغى أن نفعل الحلال وأن نترك الحرام مريدين بذلك وجه الرحمن فالأعمال بالنيات فمن فسدت نيته وإن إلتزم بالحلال فعلا فى الظاهر وترك الحرام فى الظاهر لكن لا لله لا يثاب عند الله الأعمال بالنيات
وهذا ينبغى أن يكون على الكيفية الثابتة عن نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام فالحلال الواضح كما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام لا نزيد فى دين الله ولا ننقص منه فمن أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد حلال واضح حرام واضح حسبما بين نبينا عليه الصلاة والسلام تلتزم بذلك مريدا وجه ذى الجلال والإكرام
إذاً الورع كما قلت أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذرا مما به بأس
ثبت فى مسند الإمام أحمد وسنن الترمذى والنسائى والحديث فى صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وإسناد الحديث صحيح من رواية سيدنا الحسن ابن على رضى الله عنهما قال حفظت من رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبك هذا هو الورع فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة وفى رواية ابن حبان فإن الخير طُمأنينة تفعله وأنت مطئمن ما حوله يعنى تردد فى الصدر ولا بحث فى النفس حلال حلال فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة يعنى ترتاب وتشك فيه وهكذا ما يؤدى إليه تشك فيه فما شككت فيه وتردد فى صدرك دعه وانتهى الأمر
إذاً إخوتى الكرام أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع فضل العلم أحب من فضل العبادة وأفضل الدين الورع
هذا الحديث إخوتى الكرام الذى رُوى كما قلت من طريق سيدنا عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما وسيدنا سعد ابن أبى وقاص رضى الله عنهم أجمعين رُوى كما قلت عن صحابة آخرين وعن رواة آخرين رضى الله عنهم أجمعين، سأرد الروايات سردا وأما تخريجها تقدم بيانها فى موعظة الجمعة فى مواعظ لجمعة
رُوى الحديث إخوتى الكرام من رواية السادة الكرام سيدنا حذيفة سيدنا عبد الله ابن عباس سيدنا عبد الله ابن عمرو سيدنا أنس ابن مالك سيدنا ثوبان سيدنا عبادة ابن الثابت وأمنا الصديقة المباركة سيدتنا المباركة عائشة وسيدنا عبد الرحمن ابن عوف وسيدنا أبى هريرة ورُوى فى شعب الإيمان عن بعض الصحابة لم يسم رضى الله عنهم أجمعين هذه عشر روايات مع رواية ابن عمر وسعد اثنتا عشرة رواية أوليس كذلك هذه كلها متصلة فيها هذا المعنى أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع فضل العلم أحب من فضل العبادة وخير الدين الورع كلها فيها هذا المعنى
ورُوى الحديث أيضا من طرق أربعة مرسلة من طريق الحسن البصرى وابن سيرين فى كتاب الزهد لهناد ابن ثرى وغير ذلك ورُوى من طريق مُطَرِّف ابن عبد الله ابن الشخير وعمرو ابن قيس المُلائى فهذه أربعة طرق ثابتة كما قلت مرسلة وهناك اثنتا عشرة طريقة متصلة كلها فيها هذا المعنى أن أفضل العبادة الفقه وأن أفضل الدين الورع
إخوتى الكرام ما دلت عليه هذه الأحاديث الصحيحة من منزلة علم الفقه ومنزلة العلم ومكانته أنها أعلى درجات العبادة هذا الأمر هو الذى وعاه سلفنا الكرام وفى مقدمتهم صحابة النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وكانوا يُنَوِّهون بذلك على الدوام
إليكم بعض الآثار الحسان التى تقرر هذا عنهم أذكر أثرا أو أثرين من الآثار الواردة عنهم وأكمل البقية فى الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه إن شاء الله
روى الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الأول صفحة اثنتين وعشرين عن سيدنا عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه وأرضاه أنه قال الدراسة صلاة الدراسة من يدرس العلم يتعلم الفقه يصلى لله عز وجل
وروى الخطيب فى كتاب الفقيه والمتفقه فى الجزء الأول صفحة سبع عشرة عن يحيى ابن أبى كثير وهو تابعى جليل توفى سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثقة ثبت حديثه فى الكتب الستة قال تعلم الفقه وتعليمه عبادة تعلم الفقه وتعليمه صلاة ودراسة القرآن صلاة بل أن تعلم العلم تعلم الفقه تعليم الفقه هو أعلى من صلاة النافلة أيضا
روى الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الأول صفحة أربع وعشرين عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه قال لئن أجلس ساعة فأفقه فى دينى أى أتفقه فى دينى أتعلم أحكام الشريعة المطهرة لئن أجلس ساعة فأفقه فى دينى أحبُ إلىَّ من أحيى ليلة إلى الصباح
وروى البيهقى فى المدخل إلى السنن صفحة خمس وثلاثمائة عن سيدنا عبد الله ابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين قال لئن أجلس ساعة فى مجلس فقه أحب إلىَّ من صيام يوم وقيام ليلة
وروى البيهقى فى المدخل إلى السنن والإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله والأثر فى سنن الدارمى وشرح السنة للإمام البغوى عن سيدنا عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال تذاكر بعض ليلة أحب إلىَّ من إحيائها أحب إلىَّ من إحياء بقيتها إذا تذاكر بعض الليل جزءا من الليل فى أمر الفقه أحب إليه من أن يحيى الليلة بكاملها فى عبادة قاصرة
وروى الخطيب فى كتاب الفقيه والمتفقه فى الجزء الأول صفحة ست عشرة عن سيدنا أبى الدرداء رضى الله عنهم أجمعين قال مذاكرة ساعة خير من قيام ليلة
والسبب فى ذلك إخوتى الكرام أن الفقه أن العلم شرط لسائر الطاعات فلا تقبل إلى حسب ما يقتضيه العلم وعلى حسب العلم الشرعى ثم من يتعلم يكون على بصيرة فى هذه الحياة فيدفع عنه الشهوات والشبهات وإذا لم يتعلم يتلاعب به الشيطان فى جميع الأوقات
أختم الكلام إخوتى الكرام بهذه القصة كنت ذكرتها سابقا رواها الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الأول صفحة ست وعشرين ورواها الخطيب البغدادى فى الفقيه والمتفقه فى نفس الجزء والصفحة فى الجزء الأول صفحة ست وعشرين والأثر إخوتى الكرام رواه وذكره الإمام ابن القيم فى مفتاح السعادة وهو آكام المرجان ورواه الإمام السيوطى أيضا فى لقط المرجان
ولفظ الأثر قال شياطين الجن للإمامهم سيدهم إبليس عليه وعليهم لعنات ربنا العزيز قالوا له يا سيدنا علامَ تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد والعالم لا تصيب منه والعابد تصيب منه، العابد أنت تفتنه تغويه تضله وهو لا يشعر وإذا مات لا تفرح بموته وأما العالم إذا مات تفرح بموته مع أنك لا تصل إليه يعنى لا تغويه فأنت ينبغى أن تفرح بموت العالم، العالم تفرح بموته ينبغى أن تغتم لموت العالم لأنك يعنى ما تستفيد منه أما ذاك يعنى إذا مات العابد لا تظهر الفرح يعنى لمَ؟ وإذا مات العالم تفرح غاية الفرح مع أنك لا تنال من العالم شيئا ولا تصل إليه علامَ تظهر الفرح
فقال لهم إبليس أريكم ماذا يفعل بنا العلماء وماذا نفعل بالعباد ثم أخذهم وذهبوا إلى عابد فى أول الأمر وقالوا له ويأتى بسورة سائل ويتشكل بصور مختلفة نسأل الله أن يكفينا شره إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين جاء إلى العابد وقال له هل يقدر ربنا أن يوجد هذه الدنيا فى بيضة؟ هل يمكن أن يدخل الله هذه الدنيا على سعتها فى بيضة؟
فالعابد تردد ورد فى بعض الأجوبة عنه قال وكيف ذاك وبعض الأجوبة قال لا يقدر وفى بعض الأجوبة قال لا أدرى وكلها ضلال وردى فقال الشيطان لتلاميذه لأتباعه أترون أنه كفر وهو لا يدرى هذا كفر بالله وهو لا يدرى يا عبد الله الله على كل شىء قدير وأنت بعد ذلك تقول لا أدرى لا يقدر كيف هذا ثم ذهبوا إلى العالم قالوا هل يقدر الله جل وعلا أن يوجد هذه الدنيا وأن يدخلها فى بيضة؟
فقال العالم لهذا السائل الذى هو فى الحقيقة إبليس ومن يمنعه إذا أراد الله هذا الشىء من يمنعه هو على شىء قدير فقال الشيطان للعالم كيف يقدر قال إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون يعنى هل يصعب عليه هذا؟ يصغر الله الدنيا ويوسع البيضة هذا أمره عائد إليه إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون وهذا لا يدخل فى دائرة المستحيلات إنما هو فى الممكنات الجائزات
ولذلك إذا مات العالم حقيقة يفرح الشيطان لأن هذا العالم كان يفسد على الشيطان مخططاته ويحذر الناس من إغوائه وأما العابد فيلعب به الشيطان كما يلعب الصبيان بالكرة
ولذلك قال سيدنا عمر ابن عبد العزيز رضى الله عنه وأرضاه وأثره إخوتى الكرام ثابت فى كتاب الفقيه والمتفقه فى الجزء الأول صفحة تسع عشرة وفى كتاب جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الأول صفحة سبع وعشرين قال من عمل فى غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح يعبد ربه على جهل فهذا لا يقبل عند الله عز وجل وقد أحيانا يجرى منه ما جرى من العابد الأحمق الذى كنت أيضا ذكرت حكايته فى بعض المواعظ السابقة والقصة فى كتاب أخبار الحمقى والمغفلين للإمام ابن الجوزى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يتعبد ربه فلما نزل مطر واخضرت الأرض وامتلأت بالعشب خرج وأعجبه هذا المنظر ثم نادى ربه وناجاه ربى لو كان لك حمار لرعيته لك العشب كثير ربى لو كان لك حمار لرعيته لك هذا الجهل وهذا هو الضلال فلا بد إخوتى الكرام من أن يكون الإنسان على علم ووعى
بعض الإخوة الكرام فى العلم الماضى أخبرونى كانوا معتكفين فى مسجد انظر للجهل كيف يصنع بأهله وقال لى فى رمضان وجاؤا زارونا هنا إخوة كرام وحكوا لى هذا قال أذن علينا الفجر ونحن فى المسجد وكنا نياما لأننا تهجدنا وصلينا وتذاكرنا ونمنا فى آخر الليل فما استيقظنا إلا بعد الآذان انتهى الآذان فأيقظونا بعد انتهاء الآذان فقلنا يشق علينا أن صوم من غير سحور فقالوا نجتهد ونأكل فقال جلسنا وأكلنا فما حكم صيامنا؟
قلت الله يغفر لى ولكم أنتم يعنى تتعبدون ومعتكفون وتدعون إلى الله وما تعرف بعد ذلك حكم الصيام يعنى ماذا ينبغى أن تفعله كيف تأكل بعد طلوع الفجر قال اجتهدنا قلت لا إله إلا الله هو باب الاجتهاد الآن فُتح لكل أحد يعنى حتى للعامة سيجتهد ويفعل قلت يا عبد الله لمَ لا تتعلم ما عليك إن شاء الله الآن يعنى إثم من أفطر متعمدا ما عليك الإثم عليك القضاء لأن هذا جرى عن جهل لكن لا تعفى من الإثم عند الله لأنك قصرت فى معرفة الحكم يعنى لا بد أيضا من مسؤلية ومن توبة إلى رب البرية
فنسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا
اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه
اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته