الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن القرآن الكريم لما كان هو المصدر الأول من مصادر التشريع، وهو دستور هذه الأمة، كانت عناية العلماء به في جميع تخصصاتهم به أشد عناية من غيره، أما في الأحكام فقد كان القرآن والسنة محط رحال العلماء، وموردهم في الاستدلال به، فألفت المؤلفات الخاصة بكل واحد منهما، عند علماء التفسير والحديث، وأخذ الفقهاء زبدتهما، مستنبطين أحكامهما بواسطة القواعد الأصولية، ثم ظهرت المؤلفات الخاصة بربط الفروع بأصولها، وما زالت الجامعات تخرج من رحمها الرسائل العلمية، تارة باسم أثر الأصول، أو الأدلة، أو القواعد المؤثرة، أو القواعد الأصولية وتطبيقاتها، أو إعمال القواعد الأصوليَّة، وكثير منها خرج باسم تخريج الفروع على الأصول، وكل تلك الرسائل والأعمال فيها تطبيقات أصوليَّة لبيان مأخذ من مآخذ الأحكام، وهو المأخذ الأصولي، وهنا (دراسات أصوليَّة تطبيقيَّة على آيات الأحكام)، وهي مجموعة أبحاث محكَّمة عدا الدراستين الأولى والثانية، وقد تصرفت في الجانب التأصيلي بالحذف والاختصار، وقصدت التنوع في الطرح، من حيث الشمول، وطريقة الدراسة، ليشمل ما يعرض لدليل القرآن، من دلالة لفظه ومعناه، وكيفية استثمار نصِّه من منطوقه ومفهومه.
فالدراسة الأولى وهي: التطبيق على سورة البقرة، وقد سلَّطت الضوء على أثر القواعد الأصوليَّة على الأحكام المستنبطة من آيات سورة البقرة، من خلال الأحكام الواردة في كتاب الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي، والأصل أن ترتيبها حسب ترتيب سورة البقرة، إلا أنني آثرت وضع ما استله أحد طلابي من كتابي (فتح الجليل في التعليق على كتاب الإكليل).
والدراسة الثانية وهي: التطبيق على آيات الحج، ومجال البحث فيها متجه لأحكام عبادة من العبادات، وركن من أركان الإسلام، وهو الحج، بجمع الآيات الواردة في القرآن الدالة على أحكامه، وبيان أثر القواعد الأصوليَّة في استنباط أحكامها، ورتبتها حسب ترتيبها في سور القرآن، والدراسة مستلة من كتابي (فتح العلام في شرح بلوغ المرام من آيات الأحكام).
والدراسة الثالثة: التطبيق على آية الوضوء، ببيان الأحكام المستنبطة، وتوزيعها على أبوابها الفقهية، والانطلاق فيه من الحكم والترتيب الفقهي.
والدراسة الرابعة تطبيق صيغة الأمر (ليفعل) على آيات الأحكام، والانطلاق فيها من قاعدة من قواعد الأصول، أو من أسلوب من الأساليب الدالة على الأحكام، هي والدراسة الآتية، وقد رتبتهما حسب ورودها في القرآن.
والدراسة الخامسة تطبيق الخبر بمعنى الأمر على آيات الأحكام.
والدراسة السادسة التطبيق على نوازل أحكام العبادات، والانطلاق فيها من الآيات، ورتبتها على الأبواب الفقهية على ترتيب بلوغ المرام من آيات الأحكام.
والدراسة السابعة: الاستثمار الأصولي للنص بالتطبيق على قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وهي دراسة تهدف إلى بيان كيفية استثمار الأصولي
النص الشرعي، كالآية المذكورة، من حيث إثبات القاعدة بها، أو نقض قاعدة الخصم بها، أو بيان كيفية استنباط الأحكام الشرعية من النص.
والدراسة الثامنة: دراسة تحليلية أصوليَّة لآيات المحرماتِ نكاحهن.
والمقصود بالتطبيق الأصولي هو إعمال القاعدة الأصوليَّة، وذلك بمراعاة مقتضاها في فهم النص واستنباط حكمه، كما سبق.
ومعلوم أن القاعدة الأصوليَّة واسطة بين الحكم الشرعي ودليله، وهي آلة استنباطه، حيث يقوم المجتهد بتسليط القاعدة الأصوليَّة وتنزيلها على الدليل الجزئي ليتمكن من استخراج الحكم الشرعي، وإلا لما أمكن استخراجه، «فإن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده بمجرد الهوى خلاف الإجماع» ، كما قال القرافي في نفائس الأصول، وقال قبله:«وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير؛ فإن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه، وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب»
(1)
.
لذا كان مقصود هذه الدراسات الوقوف على مآخذ الأحكام الأصوليَّة، للوقوف عليها، والتدرب على تطبيقها، وهذا مطلب مهم لطالب العلم، لا يستغني عنه.
يقول الإمام الجويني في غِياث الأمم: «وأهم المطالب في الفقه: التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا يسمى فقيه النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة»
(2)
.
وقال ابن السبكي في طبقاته: «المرء إذا لم يعرف الخلاف والمآخذ لا يكون فقيهاً إلى أن يلج الجمل في سمّ الخياط، وإنما يكون ناقلاً متخبطاً، حامل فقه
(1)
نفائس الأصول (1/ 100).
(2)
غياث الأمم (404).
إلى غيره»
(1)
.
والمراد بآيات الأحكام: آيات القرآن الدالة على أحكام فروعية فقهية، تتعلق بمصالح العباد في دنياهم وأخراهم
(2)
.
فلفظ (الأحكام) وإن كان عاماً، شاملاً للأحكام الاعتقادية والفقهية والأخلاقية وغيرها، إلا أن المراد بها هنا الأحكام الفقهية، وعليه سارت كتب أحكام القرآن المؤلفة.
يقول ابن جزي: «وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية»
(3)
.
* وقد اختلف العلماء في حصر آيات الأحكام بعدد معين على قولين:
القول الأول: إن آيات الأحكام تحصر بعدد معين. وهؤلاء اختلفوا في عددها، فقيل: خمسمائة آية
(4)
. وقيل: مئتا آية أو قريب من ذلك
(5)
. وقيل: مائة وخمسون آية
(6)
. وقيل: غير ذلك
(7)
.
(1)
طبقات الشافعية (1/ 319).
(2)
انظر: التفسير والمفسرون للذهبي (2/ 432)(2/ 319).
(3)
التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 16).
(4)
قال بهذا الغزالي في المستصفى (2/ 383)، والرازي في المحصول (6/ 23)، وابن قدامة في الروضة (3/ 960)، وجمع من الأصوليين، وأشار الزركشي في البحر المحيط (6/ 199) أن سبب حصرهم آيات الأحكام بخمسمائة آية هو متابعتهم لمقاتل بن سليمان، حيث إنه أول من أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية.
(5)
قاله محمد صديق خان في كتابه نيل المرام في تفسير آيات الأحكام (9).
(6)
انظر: الاتقان في علوم القرآن (5/ 1928)، والإكليل للسيوطي (45)، ونسبه صاحب كتاب التشريع الإسلامي وأطواره (45) لابن القيم. نقله عنه الدكتور علي العبيد في كتابه تفاسير آيات الأحكام ومناهجها (1/ 46).
(7)
انظر: الإكليل للسيوطي (45)، محمول صيغة الأمر افعل (124).
القول الثاني: إن آيات الأحكام لا تنحصر بعدد معين
(1)
؛ لأن كل آية في القرآن يمكن أن يستنبط منها حكم معين، وهو يختلف باختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط
(2)
.
(3)
.
* ومن
أبرز المؤلفات في أحكام القرآن
ما يلي
(4)
:
(1)
تفسير الخمسمائة آية، لمقاتل بن سليمان البلخي، المتوفى سنة (150 هـ).
(2)
أحكام القرآن، لأبي بكر الرازي الجصاص، المتوفى سنة (370 هـ).
(3)
أحكام القرآن لأحمد بن علي الباغائي، المتوفى (401 هـ).
(4)
أحكام القرآن، للشافعي، جمع أبي بكر البيهقي، المتوفى (458 هـ).
(5)
أحكام القرآن، لأبي الحسن الكيا الهراسي، المتوفى سنة (504 هـ).
(6)
أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، المتوفى سنة (543 هـ).
(1)
قال به ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس (103)، والعز بن عبد السلام في الإمام في بيان أدلة الأحكام (284)، وابن دقيق العيد كما في البحر (6/ 199)، والقرافي في شرح التنقيح (343)، والطوفي في شرح مختصر الروضة (3/ 577 - 578)، وغيرهم كثير.
(2)
قاله ابن دقيق العيد وغيره، انظر: البحر المحيط للزركشي (6/ 199).
(3)
شرح مختصر الروضة (3/ 578).
(4)
يمكن الوقوف على المؤلفات التي سأذكرها - بدراسة علمية لكل كتاب، من حيث التعريف به، وبطريقة العرض التي سار عليها المؤلف، ومصادره، ومنهجه في الكتاب - إلى الرسالة العلمية التى قام بها الدكتور علي بن سليمان العبيد في رسالته الدكتوراه، طبعة دار التدمرية، وقد اكتفيت هنا بما ذكره نظراً؛ لأنها هي أهم ما ألف في هذا الفن.
(7)
أحكام القرآن، لعبد المنعم بن الفرس، المتوفى سنة (599 هـ).
(8)
الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي، المتوفى سنة (671).
(9)
القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، للسمين الحلبي، المتوفى سنة (756 هـ).
(10)
تيسير البيان لأحكام القرآن، لابن نور الدين الموزعي، المتوفى سنة (820 هـ).
(11)
أحكام الكتاب المبين، لعلي بن عبد الله الشنفكي، المتوفى سنة (907).
(12)
الإكليل في استنباط التنزيل، لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911 هـ).
وليعلم أن غالب آيات الأحكام ترد الأحكام فيها على سبيل الإجمال والعموم، وبيانها وتفصيل أحكامها يكون بالسنة النبوية، وقد قال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]
يقول الشاطبي في موافقاته: " تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كليٌّ لا جزئيٌّ، وما كان كلياً لا يسوغ الاكتفاء به في إدراك الأحكام التفصيلية "
(1)
.
أما المنهج الذي سرت عليه على وجه الإجمال فهو:
ليس من قصد هذه الدراسات تحقيق الأصل أو تحقيق الفرع، فإن شأن ذلك في كتب الفقه وأصوله، وإنما تهدف هذه الدراسات إلى قول معتمد على قاعدة أصوليَّة، فتظهر الدراسة وجه الاعتماد، وكيفية الاستنباط، ليكون وسيلة للتدرب، ولم أقل بقول إلا ولي فيه إمام - إلا ما ندر - ولا أذكر قولاً إلا ولي فيه إمام ممن يعتمد قوله، وإنما استثنيت خشية النسيان، وأسميت هذه الدراسات ب (دراسات أصوليَّة تطبيقية على آيات الأحكام).
أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلني ممن خدم كتابه، واستغفره من جهلي وتقصيري.
(1)
الموافقات (3/ 367)، وانظر البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 130 - 131).
الدراسة الأولى: التطبيق على سورة البقرة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه أحكام ذكرها السيوطي في كتابه الإكليل في استنباط التنزيل، بينت فيها أثر القواعد الأصوليَّة في استنباط تلك الأحكام، في تعليقي عليه في كتابي فتح الجليل في التعليق على كتاب الإكليل، استلها ورتبها الشيخ حمي درامي، الطالب في قسم أصول الفقه في مرحلة الدكتوراه بالجامعة الإسلاميَّة، ورتبها بالشكل المذكور، حذفت منها ما كان الأثر الأصولي مأخوذاً من مقدمة الإكليل لا من سورة البقرة، وتركت ما فاته، مما لا غنى فيه للرجوع إلى الأصل، إذ القصد في هذه الدراسة وما تليها هو إظهار التنوع في تناول التطبيق الأصولي للنصوص الشرعيَّة.
الدراسة التطبيقية
•
قاعدة: ما لايتم الواجب إلاّ به فهو واجب.
معنى القاعدة: أنّ ما يتوقف عليه إيقاع الواجب المطلق من الأسباب والشروط التي في مقدور المكلف فهو واجب.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم الولاية على مال السفيه
(1)
:
السفيه يحجر عليه وتلغى أقواله وتصرّفاته وإقراره، ولا بدّ له من ولي يلي أمره، لقوله تعالى:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه اندرجها أنّ حفظ مال السّفيه واجب، ولا يتم حفظ ماله إلا بولي، والقاعدة أن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، وعليه فإنّ الولي واجب.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 450).
قاعدة: من صيغ الوجوب لفظ كتب.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* مشروعية القصاص
(1)
:
والدليل على مشروعيته ووجوبه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}
وجه اندرج المسألة تحت القاعدة:
وجه ذلك ظاهر من لفظ "كُتِبَ"، وهو من الألفاظ الدّالة على الوجوب كما هو مقرر في القاعدة.
* فرضية الصوم
(2)
:
والدليل على فرضيته قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من إخباره سبحانه وتعالى عن الحكم بلفظ "كتب" وهو من الألفاظ الدّالة على الوجوب والفرضية كما هو مقرر في القاعدة.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 339).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 343).
قاعدة: المعلّق على الشرطين لا يثبت إلاّ بوجودهما.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* الرِّدة محبطة للعمل بشرط اتصالها بالموت
(2)
:
وممّا استدلّوا به قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى علّق إحباط عمل المرتدّ على الشرطين (الرّدة والموت عليها)، وعليه فلا يحبط عمل المرتد بمجرّد الرّدة خلافا لقوم؛ لأنّ القاعدة أنّ المعلّق على الشرطين لا يثبت إلا بوجودهما.
•
قاعدة: التعبير عن العبادة بمشروع فيها يدل على وجوب ذلك المشروع وفرضه.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* فرضية الركوع في الصلاة
(3)
:
وممّا استدلّوا به على فرضيته قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من مأخذ الحكم من الآية، وذلك أنّ الله عبّر عنها بجزء فيها، وهو الركوع، والقاعدة أنّ التعبير بالعبادة بمشروع فيها يدل على وجوب ذلك المشروع وفرضه، وذلك أنّ الشيء لا يجعل دلالة على غيره، إلاّ إذا كان مقصودا بنفسه.
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 393).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 301).
•
قاعدة: تفسير الصحابي حجة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* الطواف قبل الصلاة
(1)
:
ومما استدلّوا به قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ الحكم، وهو أثر ابن عباس رضي الله عنه لما سأله رجل هل يصلي قبل أن يطوف، أو يطوف قبل أن يصلي؟ وفيه قوله: «خذ ذاك من كتاب الله فإنّه أجدر أن يحفظ
…
وقال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، فالطواف قبل الصلاة
(2)
، وهذا تفسير صحابي، والقاعدة أن تفسير الصحابي حجة.
•
قاعدة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* وجوب استقبال القبلة في كل صلاة
(3)
: والدّليل قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من وجه الاستدلال من الآية، وذلك أن لفظ "فوَلّوا" صيغة أمر، والقاعدة أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، وعليه فإن استقبال القبلة واجب.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 318 - 319).
(2)
قال السيوطي في الإكليل: " وقال الحاكم: صحيح الإسناد ".
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 325).
وجوب القيام في الصلاة
(1)
:
وممّا استدلّوا به قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من قوله: {وَقُومُوا} ، وهو أمر، والقاعدة أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، وهو أمر بالقيام على صفة القنوت والخشوع، فيستفاد منه وجوب القيام عند الحنابلة وغيرهم.
* عدم جواز الأكل لمن شك في الغروب
(2)
:
اتفق العلماء على أنه لا يجوز الأكل لمن شكّ في غروب الشمس، لقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ الحكم وذلك أن قوله: {أَتِمُّوا} ، أمر، والقاعدة أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، وإتمامه يكون إلى الليل، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس.
* وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما فرضا كان أو نفلاً
(3)
:
لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ الحكم وذلك أن لفظ {وَأَتِمُّوا} أمر بالإتمام، والقاعدة أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، فدلّ ذلك على وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما فرضا كان أو نفلا.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 434).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 372).
•
قاعدة: الأمر بعد الحظر للإباحة.
معنى القاعدة: أن من صوارف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة وروده بعد الحظر.
والمراد بالحظر: التحريم، أو ما كان من حقه التحريم
(1)
.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* جواز الجماع في ليالي رمضان
(2)
: لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ الحكم فقوله: {بَاشِرُوهُنَّ} ، صيغة أمر وردت بعد حظر سابق، والقاعدة أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، فدل ذلك على إباحة الجماع في ليالي رمضان.
•
قاعدة: من صوارف الأمر عن الوجوب فعله صلى الله عليه وسلم
-.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم كتابة الدين
(3)
: ذهب قوم إلى أن كتابة الدين مندوب وليس بواجب.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه الاندراج من مأخذ قولهم حيث حملوا الأمر الوارد في قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، على الندب، وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم حيث ابتاع بلا كتابة ولا إشهاد، والقاعدة أن من صوارف الأمر من الوجوب إلى الندب فعله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
ذكره الزركشي في البحر المحيط (3/ 308) وقال: " فإن الشافعي رضي الله عنه مثَّلها بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، وجواز الكتابة على خلاف القياس "، أي حق الكتابة والقياس: التحريم؛ لأنه بيع مال الإنسان بماله، لكنه جاز لإباحة الآية له.
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 449).
(4)
وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بيوعاتٌ كثيرة، ولَم يُنقل عنه في بعضها أنه أشهد فيها، ومن ذلك: شراء النبي صلى الله عليه وسلم الفرس من الأعرابي، وإنكار الأعرابي ذلك بقوله: لا والله ما بعتُك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بلى قد ابتَعْتُه» ، فَطَفِقَ الأعرابِيُّ يقول: هَلُمَّ شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: أَنا أشهدُ أنَّكَ قَدْ بايعتَهُ، فَأقبلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على خُزَيْمةَ فقالَ:«بِمَ تشهَدُ» ؟، فقالَ: بتَصديقِكَ يا رَسولَ اللَّهِ؛ فجَعلَ شَهادةَ خُزَيْمةَ بشَهادةِ رَجُلَيْنِ.
والقصة أخرجها أبو داود في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، برقم (3607)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 399)، وإرواء الغليل برقم (1286).
•
قاعدة: الأمر بالشيء نهي عن ضده.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* تحريم مطالبة المعسر بالدين وتحريم حبسه
(3)
: لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من مأخذ الحكم، وذلك أن الله أوجب إنظاره، لقوله:{فَنَظِرَةٌ} ، أي: فعليكم إنظاره، وإذا وجب إنظاره حرم مطالبته، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، وإذا حرم مطالبته فحبسه من باب أولى.
•
قاعدة: النهي عن الشيء أمر بضده.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* وجوب الإجابة على من طلب منه الكتابة
(4)
:
ذهب قوم إلى وجوب الإجابة على من طُلب منه كتابة الدين؛
لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من مأخذ الحكم، حيث إن الوجوب مستفاد من النهي عن الامتناع، فإذا حرم الامتناع عن الكتابة وجب
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 447).
(4)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 450).
الاستجابة؛ لأنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه كما هو مقرر في القاعدة، ولأن الإجابة للكتابة وسيلة للكتابة، ووسيلة الشيء تأخذ حكمه، وهذا بناء على القول بوجوب الكتابة للأمر بها في قوله:{فَاكْتُبُوهُ} {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ..
* حكم تحمل الشهادة وأدائها
(1)
: ذهب قوم إلى وجوب تحمّل الشهادة وأدائها؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه الاندراج أنّ الله نهى عن الامتناع من تحمل الشهادة وأداءها ممن دعي إليها، وإذا حرم ذلك وجب التحمّل والأداء، لأنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه كما هو مقرّر في القاعدة.
•
قاعدة: النهي يقتضي التحريم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* تحريم وطء الحائض
(2)
: الدليل على تحريم وطء الحائض قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من مأخذ الحكم، وذلك أن قوله:{فَاعْتَزِلُوا} . أمر بمعنى النّهي، والقاعدة أن النهي يقتضي التحريم ..
* تحريم العضل على الأولياء
(3)
: لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 454).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 398).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 425).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من لفظ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} وهو صيغة نهي، والقاعدة أن النهي يقتضي التحريم.
•
قاعدة: النهي يقتضي الفساد.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* هل إسلام أهل الذمة بالإكراه يصح
(1)
: ذهب الشافعي إلى أن إسلام أهل الذمة بالإكراه لا يصح، لقوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فهي خبر بمعنى النّهي.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أنه ورد نهي عن الإكراه على الإسلام، والقاعدة أن النهي يقتضي الفساد، وعليه فإسلامهم بالإكراه لا يصح للقاعدة، وإذا لم يصح فكأنهم لم يسلموا فلهم الرجوع إلى ما كانوا عليه ..
•
قاعدة: من الشرطية تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* إذا اجتهد الأسير وصام فوافق رمضان هل يجزئه؟
(2)
: ذهب الجمهور إلى أنّه يجزئه؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ الحكم، وذلك أن قوله:{فَمَنْ} شرطية، وهي تفيد العموم، فيدخل في عمومها الأسير المجتهد إن صادف رمضان؛ لأنه مدرك له سواء بالحجة القاطعة أو الاجتهاد
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 440).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 355).
(3)
الأسير إن اجتهد وصام، إمّا يوافق اجتهاده الواقع، وإمّا أن يصادف ما قبله، أو يصادف ما بعده، فالاحتمالات ثلاث، وعلى القول بأن {شَهِدَ} بمعنى: أدرك، فإن صام بعده فإنّه يجزئه قولًا واحدًا، أداءً أو قضاءً، وإن صام قبله فإنّه لم يشهده -لم يدركه- فلا يجزئه كما قال المصنف؛ ويكون نافلة، ويلزمه الأداء أو القضاء بعد شهوده.
وأمّا إن صادف فإنّه يجزئه كما قال المصنف؛ لدخوله في عموم الآية؛ لأنّه مدرك له سواء بالحجة القاطعة، أو الاجتهاد.
* حكم الصوم على من رأى الهلال وحده
(1)
: استدل القائلون بوجوب الصوم على من رأى الهلال وحده، -خلافا لمن قال بعدم وجوبه عليه إلا بحكم الإمام- بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ مَنْ في قوله: {فَمَنْ} شرطية، والقاعدة أن من الشرطية تفيد العموم، فمن رأى الهلال وحده فهو داخل في عموم الآية، وعليه فيجب عليه الصوم.
•
قاعدة: ما الموصولة تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم الخلع بأكثر مما أصدقها
(2)
: استدلّ القائلون بجواز الخلع بأكثر ممّا أصدقها بعموم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك أنّ لفظ "ما" في قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، موصولة، والقاعدة أن "ما الموصولة تفيد العموم"، فيدخل فيه الخلع بقدر ما أصدقها، أو ما زاد عليه للعموم الوارد في الآية.
* نصاب زكاة الخارج من الأرض
(3)
: ذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في الخارج من الأرض قلّ أو كثر؛ لعموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك أن لفظ "ما" في قوله: {وَمِمَّا} موصولة، والقاعدة أن "ما الموصولة تفيد العموم"، فيدخل في عمومها
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 355).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 421).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 443).
قليل ما تخرجه الأرض وكثيره.
•
قاعدة: الجمع المعرف يفيد العموم.
من الصيغ التي يستفاد منها العموم الجمع المعرف نحو: "المؤمنون".
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* وجوب العدة على كل مطلقة مدخولة بها، بائنا كانت أو رجعية
(1)
: لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، وهو خبر بمعنى الأمر، أي عليهن أن يتربّصن.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من مأخذ الحكم، وذلك أنّ قوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ} ، جمع معرّف ب "أل" والقاعدة أن "الجمع المعرف يفيد العموم"، فيدخل في عمومه كل مطلّقة، بائنا كان أو رجعية إلا ما خصه الدليل.
•
قاعدة: النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم طواف الراكب والمحدث
(2)
: قال ابن الفرس واستُدلّ بعموم الآية:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} على صحة طواف الراكب والمحدث.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أنّ قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} جملة فعلية تنحل لمصدر، وكأنه سبحانه قال:"لا جناح عليه تَطَوّفًا بهما"، و"تطَوّفا" نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، وعليه فيصدق على من طاف راكبا، وكذلك المحدث للعموم الوارد فيها.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 415).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 330).
•
قاعدة: النكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* سقوط القصاص بالعفو عن بعضه
(1)
: استدل بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} على سقوط القصاص بالعفو عن بعضه.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجهه أن لفظ {شَيْءٌ} نكرة في سياق الشرط، والقاعدة أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فيعم العفو عن الشيء القليل والكثير، كما أن القصاص لا يتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله.
* إباحة الفطر بمجرد المرض وبمجرد السفر
(2)
: استدلّ بقوله تعالى:: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} من قال بإباحة الفطر بمجرد المرض وإن كان يسيرا، وبمجرد السفر وإن كان قصيرا.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ: {مَرِيضًا} و: {سَفَرٍ} نكرتان في سياق الشرط، والقاعدة أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فيدخل في عمومها المرض اليسير والسفر القصير.
* حكم الفطر للمسافر سفر معصية
(3)
: استدل بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} من قال بإباحة الفطر للمسافر سفر معصية، أو غير مباح.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ {سَفَرٍ} في الآية نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سفر، فيدخل فيها سفر الطاعة وغيرها.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 340).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 343 - 344).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 343 - 344).
* حكم التطوع بصيام يوم الشك
(1)
: قال ابن الفرس: يحتج بها -أي بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} على جواز التطوع بصوم يوم الشك لعموم قوله {خَيْرًا} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: ظاهر من مأخذ العموم، وذلك أن لفظ {خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير، والصوم خير فيدخل في العموم.
* إباحة ارتكاب المحظور للمحرم في كل مرض أو أذى يُحْوجه إلى ذلك
(2)
: لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ {مَرِيضًا} و {أَذًى} نكرتان في سياق الشرط، والقاعدة أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فتعم كل مرض أو أذى مما يُحْوِج المحرم لارتكاب المحظور.
* صلاة الخوف يشمل خوف العدو والسبع وغير ذلك
(3)
: لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ} فعل في سياق الشرط فيفيد العموم؛ لأن الأفعال نكرات، والقاعدة أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 351).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 377).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 435).
قاعدة: أل للجنس تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم ميتة السمك الطافي
(1)
: استدلّ بقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} من قال بتحريم ميتة السمك الطافي.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: ظاهر من مأخذ قولهم، وذلك أن قوله {الْمَيْتَةَ} دخلت عليه "أل" التي للجنس، والقاعدة أن "أل" التي للجنس تفيد العموم، فتعم كل ميتة، فتدخل فيها ميتة السمك الطافي من باب عموم اللفظ.
* حكم خنزير البحر
(2)
: استدلّ من قال بحرمة خنزير البحر بعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك أن "أل" في لفظ {الْخِنْزِيرِ} "أل" جنسية، والقاعدة أن "أل" التي للجنس تفيد العموم، فيعم كل خنزير بريّا كان أو بحريا.
* عدم اختصاص الاعتكاف بالجامع والمساجد الثلاثة
(3)
: من أدلة من قال بعدم اختصاص الاعتكاف بالجامع والمساجد الثلاثة قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ {الْمَسَاجِدِ} . دخلت عليه "أل" الجنسية، والقاعدة أن "أل" التي للجنس تفيد العموم، وعليه فإن الاعتكاف يصح في كل مسجد لعموم الآية.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 334).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 335).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 364).
* وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فرضا أو نفلا
(1)
: استُدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن "أل" الداخلة على الحج والعمرة تفيد العموم، فيعم كل حج فرضا كان أو نفلا، وكذا العمرة.
* إباحة البيوع بأنواعه إلا ما خصه الدليل
(2)
: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ {الْبَيْعَ} في الآية دخلت عليه "أل" الجنسية، والقاعدة أن "ال" التي للجنس تفيد العموم" فيعمّ كل بيع إلا ما دلّ الدليل على تحريمه.
* تحريم الربا بأنواعه إلا ما خصه الدليل
(3)
: لعموم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن لفظ {الرِّبَا} في الآية دخلت عليه "أل" الجنسية، فيحرم الرّبا بأنواعه.
•
قاعدة: أنّى تفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم العزل
(4)
: استُدل بقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} على إباحة العزل، قال ابن عباس: فإن شئتم فاعتزلوا وإن شئتم فلا تفعلوا.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 372).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 446).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 446).
(4)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 405).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن {أَنَّى} في الآية أداة شرط تأتي للزمان وللمكان وهي تفيد العموم، فتشمل الآية وضعه ما بين الفخذين دون الفرج كذلك، لعموم اللفظ.
•
قاعدة: هل يدخل النساء في الخطاب الخاص بالرجال.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم اعتكاف المرأة في غير المسجد
(1)
: واستدل أبو حنيفة على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد دون الرجل بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ؛ بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من مأخذ قوله، {عَاكِفُونَ} وذلك أن الخطاب الوارد في مشروعية الاعتكاف في المساجد موجه للذكور، والنساء لا يدخلن في الخطاب الخاص بالذكور، وعليه فيصح اعتكافها في غير المسجد.
•
قاعدة: حذف المعمول يفيد العموم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي
(2)
: استدلّ القائلون بجواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي بعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 365).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 338).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: ظاهر من خلال حذف المعمول، والقاعدة أن حذف المعمول يفيد العموم، وبيانه: أنه يقدر "فمن اضطر إلى أكل ما يحتاجه، فلا إثم عليه، وعليه فتدخل المذكورات للعموم.
•
قاعدة: أقل الجمع ثلاثة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* تحديد أشهر الحج
(1)
: استدلّ القائلون بأن أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ قولهم، حيث إن قوله {أَشْهُرٌ} جمع، والقاعدة أن أقل الجمع ثلاثة.
•
قاعدة: المطلق يجري على إطلاقه مالم يدل دليل على تقييده.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* جواز القضاء متتابعا ومتفرقا
(2)
: استدلّ بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من مأخذ الحكم: حيث أطلق الأيام، فيصدق على المتتابعة والمتفرقة، والقاعدة أن المطلق يجري على إطلاقه مالم يدل دليل على تقييده.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 381).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 344).
* إجزاء صوم يوم قصير عن يوم طويل
(1)
: استدلّ بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على أنّه يجزئ صوم يوم قصير مكان يوم طويل.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من تنكير {أَيَّامٍ} في الآية، فهو مطلق، والقاعدة أن المطلق يجري على إطلاقه مالم يدلّ دليل على تقييده، ولا دليل هنا يقيّد إطلاقها، فيدخل فيه اليوم الطويل والقصير، فيجرى على إطلاقه دون مراعاة زمنه.
•
قاعدة: يحمل المطلق على المقيد.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* مكان ذبح دم الإحصار
(2)
: استدل الحنفية على وجوب ذبح دم الإحصار في الحرم لا حيث أحصر بقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مع قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وقوله:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
يظهر وجه ذلك من مأخذ قولهم حيث ورد الحكم مطلقا عن أي قيد في الآية الأولى، وورد في الآيتين الأخيرتين مقيدا بالحرم، والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فيحمل المطلق على المقيد.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: حمل مطلق قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} على المقيدين المذكورين.
وأجيب: أن المقيّد محمول في حق غير المحصر، أمّا المحصر فقد دلّ قوله تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم محله، فذبح في الحلِّ، مما
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 346).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 375).
يدل على أنّه لا يشترط كونه في الحرم.
* هل مجرد الردة توجب إحباط العمل بالكلية
(1)
: ذهب مالك وغيره إلى أن مجرّد الرّدة محبطة للعمل، فلو كان حجّ ثم ارتدّ وعاد إلى الإسلام، وجب عليه إعادة الحج، ومما استدلوا به: قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من خلال ما أجيب به عن استدلالهم بالآيتين، أنهما مطلقان، وقد ورد ما يقيدهما في سورة البقرة وهو قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، وعليه فلا يبطل عمل المرتد بمجرد الردة، بل لابدّ من شرط آخر، وهو اتصالها بالموت.
•
قاعدة: يجوز تخصيص العموم بالمفهوم.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* هل يقتل حر بعبد
(2)
: استدلّ القائلون بأن الحر لا يقتل بعبد بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر حيث يدل مفهومها على أن الحر لا يقتل بعبد، وهو خاص في مقابل العموم الوارد في قوله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} . فيخصص عموم منطوق هذه الآية بمفهوم الآية الأولى عند القائلين بأن الحر لا يقتل بعبد.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 393).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 339).
قاعدة: دلالة الإشارة حجة:
* صحة صوم الجنب
(1)
: قال السيوطي: استدل بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ} على صحة صوم الجنب؛ لأنه يلزم من إباحة الجماع إلى تبين الفجر إباحته في آخر أجزاء الليل، ويلزم من ذلك بطريق الإشارة طلوع الفجر وهو جنب.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من وجه استدلالهم بالآية، وهو استنباط عن طريق دلالة الإشارة؛ إذ الآية لم تكن مسوقة لبيان حكم صوم الجنب، والقاعدة أن دلالة الإشارة حجة.
* إجزاء النّية مع طلوع الفجر
(2)
: استدلّ اللخمي بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ} على إجزاء النية مع طلوع الفجر؛ لأنه إذا كان الأكل مباحا إلى الفجر لم تجب النّية إلا في الموضع الذي يجب فيه الإمساك.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من وجه استدلاله بالآية، وهو استنباط عن طريق دلالة الإشارة؛ إذ الخطاب ليس مسوقا لبيان حكم النية، بل مسوقاً لبيان وقت الإفطار.
•
قاعدة: دلالة الإيماء حجة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* مأخذ من قال بوجوب الصوم على المسافر والمريض والحائض
(3)
:
استدلّ من قال بوجوب الصوم على المسافر والمريض والحائض بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (360).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (353).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن الله علّق الصوم على شهود الشهر، فالشهود علة الوجوب؛ لاقتران الحكم بالوصف {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وهؤلاء قد شهدوه، فيجب عليهم الصوم.
•
قاعدة: مفهوم المخالفة حجة.
المراد بمفهوم المخالفة: «دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه» ، وهو أنواع.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* الرجعة بعد انقضاء العدة تحتاج إلى رضا الزوجة وولي
(1)
:
دليله قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي في مدة التربص (العدة).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه الاندراج من مأخذ الحكم، وذلك أن منطوق الآية دلّ على أن الزوج يستقل بالرجعة في العدة من غير ولي ولا رضا الزوجة، وبمفهوم قوله:{فِي ذَلِكَ} على أن ما بعد العدة بخلاف ذلك، بل لا بد من رضاها وولي، وعقد جديد، والقاعدة أن مفهوم المخالفة حجة.
•
قاعدة: مفهوم الصفة حجة.
المراد بمفهوم الصفة: أن يكون للذات صفتان، فيعلّق الحكم بإحدى الصفتين، ممّا يدلّ على نفي الحكم عنه عند انتفاء تلك الصفة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* حكم ولاية الفاسق والذمي
(2)
: استدلّ بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .، على أنه لا يجوز أن
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 418).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 451).
يكون الولي ذمّيا ولا فاسقا.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من مفهوم قوله: {وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .، وهو مفهوم صفة، والقاعدة أن مفهوم الصفة حجة، فدلّ ذلك على أن ولاية الفاسق لا يجوز.
* حكم شهادة الصبي والكافر
(1)
: استدلّ بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، على أنه لا يقبل في الشهادة صبي ولا كافر.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} .، حيث خرج بمفهومه الصبي والكافر والقاعدة أن مفهوم الصفة حجّة.
•
قاعدة: مفهوم الشرط حجة.
المراد بمفهوم الشرط: تعليق الحكم على الشرط، ممّا يدل على انتفاء الحكم عند انتفاءه.
والمراد بالشرط: الشرط اللغوي، وهو ما دخل عليه إحدى أدوات الشرط المعروفة عند النحاة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* تحريم الزينة والتطيب للمحادّة
(2)
: استدلّ بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، على تحريم الزينة والتطيب للمرأة التي في العدة أي الإحداد.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 451).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 430).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذ التحريم، حيث علّق سبحانه إباحة الزينة والتطيب على بلوغ الأجل، فدلّ ذلك بمفهوم الشرط على تحريم ذلك قبل بلوغ أجلهن.
* هل يجوز الرهن في غير السفر
(1)
: ذهب مجاهد على أن الرهن لا يجوز إلا في السفر: لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من مأخذه، وذلك أن الله سبحانه علّق الحكم على السفر، والقاعدة أن مفهوم الشرط حجّة.
* هل من شرط الرهن فقد الكاتب
(2)
: ذهب الضحاك على عدم جواز الرهن في السفر إلا عند فقد الكاتب: لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ذلك ظاهر من وجه الاستدلال، حيث عُلّق عليه الحكم، والقاعدة أن مفهوم الشرط حجة.
•
قاعدة: مفهوم الغاية حجة.
المراد بمفهوم الغاية: دلالة اللفظ المستفادة من مَدّ الحكم الثابت للمنطوق إلى غاية بأداة من أدوات الغاية ك "حتى" على انتفاء الحكم عمّا بعد الغاية.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* تحريم الجماع والأكل في نهار رمضان
(3)
: لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 456).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 456).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من مفهوم قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} ، حيث دلّ بمفهوم الغاية على انتفاء ذلك الحكم عما بعد الغاية، والقاعدة أن مفهوم الغاية حجة، وعليه فيحرم المباشرة والأكل وما في حكمهما في نهار رمضان.
* تحريم الوصال
(1)
: استدلّ بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، على تحريم الوصال.
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: أن الصيام والإمساك مغيا إلى الليل، حيث دلّ مفهوم قوله {إِلَى اللَّيْلِ} على أنّ ما بعد الغاية ليس محلاً للصيام فيحرم صومه، والقاعدة أن مفهوم الغاية حجة.
* المطلقة ثلاثا لا تحل إلا بعد نكاح زوج آخر
(2)
: لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: وجه ظاهر من مأخذ الحكم، حيث دل مفهوم الغاية في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، على أن حكم ما بعد الغاية يختلف عن حكم ما قبلها، والقاعدة أن مفهوم الغاية حجة.
•
قاعدة: مفهوم الحصر حجة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* الحكم بالشاهد واليمين
(3)
: استدل أبو حنيفة على منع قبول الشاهد واليمين، لعدم ذكره في الآية مع ذكره فيها أنواع التوثيق.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 363).
(2)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 422).
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 453).
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر ذلك من استدلاله بقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، حيث إن الله ذكر في الآية أنواع التوثيق، ولم يذكر الشاهد واليمين، فدل مفهوم الحصر في الآية على حصر الحجة في المذكورات، وعدم دخول الشاهد واليمين، والقاعدة أن مفهوم الحصر حجة.
•
قاعدة: مفهوم العدد حجة.
من الفروع المندرجة تحت القاعدة:
* هل للرّضاع الحاصل بعد الحولين أثر؟
(1)
: ذهب جمع من العلماء إلى أن الرضاع الحاصل بعد الحولين لا أثر له، فلا يثبت به التحريم، لقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}
وجه اندراج المسألة تحت القاعدة: يظهر وجه ذلك من مأخذ قولهم، وذلك أن مفهوم {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهو مفهوم عدد، يدلّ على أن مازاد على الحولين ليس حكمه حكم لبن الرضاع الحاصل في الحولين، وعليه فلا يثبت به التحريم.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 426).
الدراسة الثانية التطبيق على آيات الحج
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه وقفات مع أحكام فقهية تتعلق بفريضة الحج، مستنبطة من آيات الأحكام، وقد اقتطعتها من شرحي على بلوغ المرام من آيات الأحكام، إلا أنني هنا رتبت الآيات حسب ورودها في القرآن، على منهج كتب أحكام القرآن، بخلاف ترتيب البلوغ فإنه حسب ترتيب كتب الفقه وفقه السنة، واكتفيت ببيان مآخذ الأحكام دون التعرض لأصل الخلاف في المسائل المستنبطة، ومن أراد ذلك ففي كتب أحكام القرآن والخلاف بغيته، فأقول مستعيناً بالله:
الدراسة التطبيقية
قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
ومعها وقفتان:
* الوقفة الأولى: مع حكم وجوب العمرة على الآفاقي.
استُدل بالآية على وجوبها على الآفاقي.
والآفاقي أو الأفقي: من لم يكن مقيماً في مكة، وقيل: هو من كان خارج المواقيت المكانية للإحرام حتى لو كان مكياً.
ومأخذ الحكم: ورود الأمر بأسلوب الخبر، حيث أخبر المولى سبحانه وتعالى أنّه جعل البيت مثابة للناس، أي: معادًا يرجعون ويعودون إليه، وهذا يستلزم عدم خلو البيت منهم سواء كان في الحج أو العمرة في جميع أيام السنة، ولا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى إلا بحملها على الوجوب، فيكون الأسلوب في الآية أسلوب خبر، بمعنى الأمر؛ لأنّ كونه مثابة للنّاس صفة تتعلق باختيار الناس، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء، فوجب حمل الآية على الوجوب؛ لأنّ الحمل على الوجوب، يفضي إلى صيرورته مثابًا أكثر من حمله النّدب
(1)
.
(1)
انظر: التفسير الكبير (4/ 46).
الوقفة الثانية: مشروعية الصلاة خلف مقام إبراهيم، المستنبط من قوله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .
وقد اختلف المفسرون في المراد بمقام إبراهيم، والأكثر أنّه: الموضع المخصوص للصلاة، والمعهود، ويؤيده سبب نزول الآية، حين طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية
(1)
، وبيّن المراد منها: النبي صلى الله عليه وسلم بفعله حين قرأ بالآية ثم صلى خلف المقام المعهود ركعتي الطواف
(2)
.
ومأخذ الحكم: ورود الطلب بصيغة الأمر الدّالة على الوجوب، في قوله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} والقول بالوجوب هو مذهب طائفة من أهل العلم، كما أن القراءة الأخرى وهي قوله:{وَاتَّخِذُوا} - بفتح الخاء - هي خبرٌ بمعنى الأمر، وتأخذ حكمه.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الصّلاة خلف مقام إبراهيم سنة، وصرفوا الأمر من الوجوب إلى الندب بصارف خارجي، وهو السنة الدّالة على أن الواجب على العبد من الصلوات هو الصلوات الخمس لا غير، وما عداها فهو سنة.
ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة»
(3)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إلّا أن تتطوع»
(4)
إجابة لمن سأله هل
(1)
انظر: تفسير الطبري (2/ 30)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 226)، وتفسير ابن كثير (1/ 414).
(2)
أخرجه البخاري كتاب التفسير، باب قوله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} برقم (4213).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم (1496). ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (29).
(4)
متفق عليه وسبق تخريجه.
عليّ غيرها؟ أي: من الصّلوات الخمس. وغير ذلك من الأحاديث.
* * *
قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]
استدل بالآية على عدد من الأحكام: أقف معها أربع وقفات:
* الوقفة الأولى: مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وهو أمر مجمع عليه، وإنّما الخلاف في كونه حكمًا واجبًا أو سنة.
ومأخذ القائلين بالوجوب: كونه واردًا بصيغة الخبر، والمراد به الأمر. وذلك في قوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ففيه الأمر بإقامة شعائر الله؛ لأنّ شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فدلّ ذلك على وجوب إقامة شعائر الله، ومنها السعي بين الصفا والمروة.
قال السيوطي: «وقال قوم: قوله {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} دليل على الوجوب؛ لأنّه خبر بمعنى الأمر، ولا دليل على سقوطه»
(1)
.
* الوقفة الثانية: اختلف القائلون بحتمية السعي هل هو ركن في الحج، أو واجب فيه؟ على قولين، ومرجع ذلك إلى كتب الفقه.
ومأخذ القائلين بكونه سنة، قوله سبحانه وتعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ونفي الجناح عن الفاعل يدل على عدم وجوبه، بل هو في رتبة المباح؛ إلّا أن
(1)
الإكليل (1/ 328).
جَعْل السعي من شعائر الله قرينة تدل على أنه لا يراد بذلك الإباحة، وإنّما يراد به النّدب والسنية.
قال شيخ الإسلام: «ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما -كما سيأتي إن شاء الله- فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما، وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك
(1)
.
* الوقفة الثالثة: إنّ بداية السعي تكون بالصفا، والبدء بالصفا واجب.
ومأخذ الحكم: كون الله بدأ به فيقدم، وقوله عليه الصلاة والسلام:«نبدأ بما بدأ الله به»
(2)
، مع ضميمة قوله:«خذوا عني مناسككم»
(3)
.
قال ابن الفرس: «ليس فيها ما يستدل به على أن البداءة من الصفا والمروة، ولا عكسه، سوى التقديم اللفظي، ولم يعتبره أكثر الفقهاء في مسألة الوصية، ولم يروا للتقديم اللفظي حكمًا، ولكنهم قد راعوه في هذه الآية فرأوا البداية بالصفا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين خرج من المسجد، وهو يريد الطواف «نبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا فهذا يدل على اعتبار التقديم اللفظي ما لم يعارضه معنى آخر يقتضي التقديم، وهذا كله على المشهور من أن الواو لا تقتضي ترتيبًا»
(4)
.
(1)
شرح العمدة (3/ 625).
(2)
أخرجه أبوداود في كتاب الحج، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في كتاب الحج، باب القول بعد ركعتي الطواف (2961)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء أنه بدأ في الصفا قبل المروة، برقم (862) وقال:" هذا حديث حسن صحيح، وعليه العمل عند أهل العلم ". قلت: وفي مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1218) بلفظ «أبدأ بما بدأ الله» .
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم (1297).
(4)
أحكام القرآن (1/ 125).
* الوقفة الرابعة: جواز السعي راكبًا.
مأخذه: عموم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولم يخص راكبًا من غيره، والمسالة محل خلاف على أقوال يرجع فيها إلى كتب الفقه.
ووجه العموم: أن الفعل المنصوب ينحل مصدرًا، والتقدير: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ الطواف بهما}
* الوقفة الخامسة: يجزئ السعي دون طهارة، وإليه ذهب الجمهور.
ومأخذ الحكم: أنّ الطّواف اسم للدوران بالبيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر.
* * *
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]
ونقف معها وقفة واحدة، وهي استدلال بعض الحنفية بالآية على أن شهور السنة كلها مواقيت للحج، كما كانت بأسرها مواقيت للنّاس، ويلزمهم أن يكون الحج المطلق على هذا القول يراد به الإحرام فقط دون سائر أفعال الحج، مع أن الإحرام عندهم ليس من الحج، بل هو شرط الحج. ومعلوم أن الشرط خارج عن ماهية الشيء، فالوضوء شرط الصلاة، وليس الوضوء داخلاً في الصلاة.
ومأخذ الحكم: أن الظّاهر من الآية جعل المراد بالأهلة جميع الشّهور، وهي عامّة؛ لأنّه جمع معرّف، وعمومها في المعطوف والمعطوف عليه - أي في الناس والحج -.
وأجيب: بأنّ الصّحيح من التأويل أن المراد بالآية: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والحج في أشهر الحج، أي: إنّ أفعال الحج من السّعي والطّواف وغيره تكون في أشهره.
ومأخذ الجواب: جمعًا بين هذه الآية وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لأنه إن لم يكن كذلك لزم أن يكون لفظ {الْأَهِلَّةِ} لفظًا واحدًا عامًّا خاصًا في حالة واحدة، وهذا لا يصح.
قال ابن العربي عن الآية إنّها: «مشكلة عُضلة من العُضل»
(1)
، ويمكن تقسيم أحكام الآية إلى أربعة أقسام:
•
القسم الأول: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
[البقرة: 196] ومعها أربع وقفات:
* الوقفة الأولى: مشروعية الحجّ والعمرة ووجوب إتمامهما لمن بدأ بهما، وسواء كانت فرضًا أو تطوعًا، وهذا الحكم متفق عليه.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {وَأَتِمُّوا} فيدل على المشروعية ويقتضي وجوب إتمام الحجّ والعمرة لمن بدأ بهما، وكونه شاملًا للفرض والتطوع مأخذه العموم الوارد بدخول الألف واللام على الحجّ والعمرة، فيشمل الفرض والنفل.
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 170).
* الوقفة الثانية: وجوب الحجّ والخلاف في وجوب العمرة.
أمّا الحجّ فوجوبه أمر متفق عليه ومعلوم من الدّين بالضرورة، وأما العمرة ففي وجوبها خلاف.
ومأخذ وجوبهما من الآية ما يلي:
أولًا: إن من معاني الإتمام المأمور به: الأداء والإتيان.
(1)
.
ثانيًا: بقراءة {وأقيموا الحجّ والعمرة لله}
(2)
على أن القراءة الشّاذة حجة.
ثالثًا: إذا كان الإتمام واجبًا؛ فإنّ الأداء واجب.
وهذا المأخذ فيه نظر، قال ابن القصار: «فيقال لهم هذا غلط؛ لأنّه من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامّة، كمن أراد أن يصلي تطوعًا، فيجب أن يكون على طهارة
…
»
(3)
.
قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على وجوب العمرة؛ لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج
…
»
(4)
. ثم ساق آثارًا تدل على وجوب العمرة، ثم قال: «وأمّا الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأنّ الله سبحانه إنما قرنها في وجوب
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 365).
(2)
انظر: تفسير البغوي (1/ 241)، حدائق الروح والريحان للهرري (3/ 200).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 234).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 368).
الإتمام لا في الابتداء
…
»
(1)
.
واستدل من قال بوجوب العمرة إضافة إلى ما سبق:
أولاً: قراءة {والعمرةُ لله} بالضّم، وقد كان يقرأ بها من الصحابة ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وهي بذلك تكون خبرًا بمعنى الأمر.
ثانيًا: بدليل الاقتران، وقد استأنس الشافعي على وجوب العمرة به؛ ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: والذّي نفسي بيده إنّها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(2)
أمّا القائل بأنّ الآية لا تدل على الوجوب ابتداء، وإنّما تدل على وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما فقط. فمأخذه نص الآية، فإنّ الأمر بالإتمام، فلا يتعدى لغيره كما سبق في قول القرطبي.
ويشهد أنها للإتمام لا للابتداء ورودها بعد حكم المحصر، الذي لم يتمّ الحجّ والعمرة، كما أنّهم أيدوا عدم وجوبها بأدلة أخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام:«بني الإسلام على خمس»
(3)
وذكر منها حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلًا، ولم يذكر العمرة.
تنبيه: للخلاف في معنى الإتمام أثر كبير على كثير من مسائل الحج والعمرة، إذ إن من معاني الإتمام غير ما تقدم: الإتيان بها خالصة لله، ويقوي هذا المعنى قوله سبحانه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وبُني عليه الخلاف في التجارة في الحج وسيأتي
(1)
المصدر السابق (2/ 369).
(2)
انظر: تفسير الشافعي (1/ 484)، التفسير الكبير للرازي (5/ 297)، الدر المنثور (1/ 504).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم (16).
حكمهما عند قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
ومن معاني الإتمام: الإتيان بها كاملة؛ ولذا اختلف الصحابة في كيفية ذلك، فعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران
(1)
…
وفسَّر علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة الإتمام بأن تحرم بهما من دويرة أهلك
(2)
. وهذا يقتضي جواز الإحرام بهما قبل الميقات.
والإحرام قبل الميقات أجازه العلماء، بل نقل بعضهم كابن المنذر وابن قدامة الإجماع على جوازه.
قال ابن قدامة: «لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرمًا، وتثبت في حقه أحكام الإحرام»
(3)
.
وإنّما الخلاف في أيهما أفضل الإحرام من قبل الميقات أو من الميقات، والجمهور على أنّه من الميقات.
* الوقفة الثالثة: من المسائل التي تبنى على معنى " الإتمام " القول بوجوب النّية.
قال القرطبي: «لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة- والقلم جار له وعليه- أن شهودهما بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضًا؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا} ومن تمام العبادة حضور
(1)
نسب تخريجه السيوطي في الإكليل (1/ 373) إلى عبد الرزاق في تفسيره، ولم أجده فيه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 437)، والقرطبي في جامعه للأحكام (3/ 366)، وفيه انقطاع بين الزهري وعمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، (2/ 276). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: إسناده قويّ. انظر: التلخيص الحبير (4/ 1527).
(3)
المغني (3/ 250).
النّية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام»
(1)
.
ومن المسائل التي تبنى على معنى " الإتمام ": القول بأن من أفسد حجه أو عمرته؛ فإنّه يمضي عليهما ثم يقضي.
ومأخذه: أن الله أمر بالإتمام، والأمر يقتضي الوجوب، ولم يفرق بين الصّحة والفساد.
ومنها: من قال إنّ القارن إذا خاف فوات الوقوف بعرفة ليس له رفض العمرة؛ لأنّ الأمر بالآية يقتضي وجوب إتمامها.
ومنها: من قال بأن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج، فإنّ الواجب عليها، أن تردف الحج ولا ترفض العمرة، وتصير قارنة، وبذلك يتحقق لها معنى إتمام العمرة الوارد في الآية.
ومنها: من قال بمشروعية التحلل من الحج الفاسد إلى عمرة؛ لأنّ الله تعالى أمر بإتمام الحج، ولم يمكن إتمامه، فانقلب عمرة، وهي العبادة التي يمكن إتمامها.
وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى: إنّما أمر بإتمام ما دخل فيه، ولم يأمره أن يتم غيره، وعليه فلا يصح الاستدلال بالآية.
ومنها: من قال بأن من بلغ قبل الوقوف بعرفة يجب عليه إتمام حجه وعمرته، وتكونان نافلة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز رفضها وعدم إتمامها، وتجديد الإحرام بعد البلوغ ويكون الحج فريضة.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
* الوقفة الرابعة: إن الأصل أن الحجّ والعمرة مشروعان في كل وقت بدلالة الإطلاق في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، إلا أن الحج مخصوص بقوله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فتبقى العمرة على الأصل، فتكون مشروعة في جميع السنة، وتكرارًا لمن أراد؛ لأنّ الآية عامّة في جميع الأوقات.
•
القسم الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
[البقرة: 196]، ونقف مع الآية - بإذن الله - ثماني وقفات:
* الوقفة الأولى: إنّ الإحصار يكون بالعدو وبالمرض.
ومأخذ الحكم في كونه راجعًا إلى الإحصار بالعدو يرجع إلى سبب نزول الآية حيث إنّها نزلت بالحديبية حين أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وحلق ورجع ولم يصل إلى البيت، ويؤيده من الآية قوله بعد ذلك {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ثم ذكر المرض بعد ذلك بحكم مستقل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الآية.
أمّا كون الحصر يكون بالمرض، مأخذه: اللغة حيث إنّ الفعل الرباعي (أحصر) يقال في المرض، فيقال:" أحصره المرض " أمّا الثّلاثي (حصر) فإنّه للعدو، فيقال: حصره العدو، وهو قول الأخفش وابن السِّكيت من علماء اللغة
(1)
.
وقال بعض أهل اللغة كالأزهري
(2)
والزجاج
(3)
إن الرباعي" أحصر " يقال لمن منعه خوف أو مرض من التصرف فهو محصر، ويقال: لمن حُبس: حُصر،
(1)
انظر: اصلاح المنطق لابن السكيت (230)، والمصادر القادمة.
(2)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/ 232).
(3)
انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 267).
فهو محصور.
وقال ثعلب والفراء: أُحصر وحُصر لغتان
(1)
.
إذا تبين ما سبق فقد حمل بعض العلماء الإحصار في الآية على العدو، مؤيدين قولهم من خارج الآية - أيضًا -: وهو ما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله (لا حصر إلّا حصر العدو)
(2)
.
ومن العلماء من حمل الإحصار على الجميع - أي العدو والمرض - لما سبق، ويؤيده من خارج الآية حديث ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب عند ما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال:«أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث حبستني»
(3)
.
* الوقفة الثانية: إن الإحصار يكون في الحج والعمرة.
(4)
.
وقوله: «وفي ذلك نزلت الآية» بيان لسبب النزول، وسبب النزول - وهو العمرة - قطعي الدّخول، وقاس العلماء الحجّ عليه؛ لأنّه بمعناه.
(1)
انظر: معاني اللغة للفراء (1/ 117)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 395).
(2)
أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 381) برقم (984)، قال ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 548):"بإسناد صحيح "، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 358) برقم (10091).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب الأكفاء في الدين، برقم (4801)، ومسلم في كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، برقم (1207).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 377).
* الوقفة الثالثة: وجوب الهدي على من أراد التحلل بسبب الإحصار.
مأخذ الحكم: قال القرطبي: «" ما " في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر من الهدي. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا»
(1)
.
وبه يتضح دلالة وجوب الهدي على من أراد التحلل من الإحصار.
* الوقفة الرابعة: الواجب على المحصر ما تيسر من الهدي.
مأخذه: ما سبق من إعراب ل (ما) وما تبعه من تقديرات.
والمستيسر من الهدي، إمّا بدنة، أو سُبُعها، أو بقرة أو سُبُعها، أو شاة فما سهل على المخرج وتيسر عليه، وهو لفظ يستعمل في التخفيف والتّيسير.
* الوقفة الخامسة: أن المحصر ممنوع من حلق شعره حتى يبلغ الهدي محله، ومفهومه أنه: إذا بلغ الهدي محله فللمحرم أن يحلق رأسه.
مأخذه: مفهوم الغاية الوارد في الآية بحرف (حتى).
قال أبو حيان رحمه الله: «هذا نهي عن حلق الرأس مغيا ببلوغ الهدي محله، ومفهومه: إذا بلغ الهدي فاحلقوا رؤوسكم»
(2)
.
* الوقفة السادسة: الخلاف في المحصر المكي هل يجب عليه الهدي كالآفاقي.
قيل: إنّه كغيره، فيجب عليه الهدي.
ومأخذ الحكم: عموم الضمير في قوله {أُحْصِرْتُمْ} يشمل المكي وغيره.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 378).
(2)
البحر المحيط (2/ 258).
وقيل: ليس عليه هدي، استدلالًا في الظاهر بقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
قلت: وهذا الاستثناء هل يرجع اسم الإشارة فيه إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفارة - وهو سوق الهدي أو الصيام لمن لم يجد الهدي - أو يرجع اسم الإشارة {ذَلِكَ} إلى سقوط الدّم عن المتمتع كما سيأتي.
* الوقفة السابعة: أن المحصر إذا تحلل بالهدي؛ فإنّه لا يجب عليه قضاء حجه أو عمرته.
ومأخذ الحكم: أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر قضاء، والقضاء لا يجب إلّا بأمر ثانٍ عند الأكثر من أهل العلم والنظر وشرائط الاستدلال قاله الموزعي
(1)
.
* الوقفة الثامنة: أن لذبح الهدي مكانًا وزمانًا إلّا أنهم اختلفوا فيهما؛ نظرًا للخلاف في المراد بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
مأخذه: أنّ لفظ (المحل) يقع على الوقت والمكان جميعًا.
أمّا الوقت بالنسبة للعمرة فهي في أي وقت شاء، وكذا الحج عند الجمهور، وذهب بعض العلماء أنّه لا يحل قبل يوم النحر.
أمّا المكان فاختلفوا هل يذبح في مكانه أو بمكة؟ فذهب الجمهور إلى أنّه ينحره أو يذبح حيث حبس من حلٍ أو حرمٍ.
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا ينحره إلا بالحرم استدلالًا بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ووافقه مالك فيما إذا كان الإحصار بسبب المرض.
(1)
انظر: تيسير البيان (1/ 316).
فالقائلون بأن الذّبح أو النحر يكون في الحرم، قالوا: إنّ مطلق المحل في قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يحمل على المقيّد في قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وأجيب: بأن المقيد محمولٌ في حق غير المحصر، أمّا المحصر فقد دلّ قوله تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم محله فذبح في الحل مما يدل على أنّه لا يشترط أن يبلغ الحرم
(1)
.
•
القسم الثالث: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196] ونقف مع الآيات سبع وقفات:
* الوقفة الأولى: أن حلق الرأس من محظورات الإحرام، وهذا حكم متفق عليه.
ومأخذه: النّهي الوارد في الآية، وهو يقتضي التحريم، ثم إيجاب الفدية عليه؛ إذ التقدير (فحلق فعليه فدية)، والفدية لا تجب إلّا على من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام، ولو كان جائزًا لما وجبت الفدية إذ " الجواز الشرعي ينافي الضّمان ".
* الوقفة الثانية: وجوب الفدية على من ارتكب محظورًا سواء في الحج أو بالعمرة، وبأذًى أو بغير أذًى.
* الوقفة الثالثة: أنه يُلحق بحلق شعر الرأس في كونه محظورًا غيره من شعور البدن، كشعور اليدين والرجلين
…
الخ.
(1)
رواه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 356)، نقلاً عن الشافعي، وكذا في معرفة السنن والآثار (7/ 487). وانظر: تفسير الشافعي (3/ 1265)، وحدائق الروح والريحان للهرري (27/ 297).
مأخذه: أن تخصيص الشعر عن غيره يصح لو لم يكن مفهوم لقب، ومفهوم اللقب لا حجة فيه. وعليه فالآية ساكتة عن غيره.
فائدة: نقل الموزعي: خلاف العلماء في التخصيص بالرأس هل هو تخصيص للتقييد أو للتعريف وعلى الثاني يدخل سائر الشعور
(1)
.
* الوقفة الرابعة: وجوب الفدية على من حلق شعر رأسه وهو محرم لأجل مرض أو أذًى في رأسه.
ومأخذ الحكم: تقدير لفظ (على) الدال على الوجوب في الآية، قال القرطبي:«فإنّ معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} فحلق {فَفِدْيَةٌ} أي فعليه فدية»
(2)
..
وهذه الفدية أطلقها المولى سبحانه وتعالى في كتابه، وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عليه السلام:«فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع»
(3)
.
أمّا النسك فأقله شاة عند أهل العلم، وهو مجمع عليه.
* الوقفة الخامسة: أن كفارة الفدية على التّخيير.
ومأخذ الحكم: ورود الحكم بحرف (أو) الدال على التخيير في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
* الوقفة السادسة: أن الفدية يدفعها المفتدي حيث شاء من البلاد.
مأخذ الحكم: أن الآية أطلقت الحكم ولم تخصص موضع عن موضع
(1)
انظر: تيسير البيان (1/ 328 - 329).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 382).
(3)
أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب الإطعام في الفدية نصف صاع، برقم (1721).
فتحمل الآية على عمومها في المواضيع حتى يأتي ما يخصصها.
* الوقفة السابعة: جواز تقديم الفدية على الحلق، قاله الأوزاعي.
ومأخذه: تقدير " إن أراد أن يحلق " بعد ذكر الفدية، أي فالتقدير:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} إن أراد أن يحلق، على قاعدة أن المقدّر كالملفوظ.
•
القسم الرابع: قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]
وأقف مع الآية ثنتي عشرة وقفة:
* الوقفة الأولى: مشروعية نسك التمتع ووجوب الهدي عليه، وقد اتفق العلماء على أن التمتع الذي هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامه أنّه مراد في الآية.
مأخذ الحكم: دلّ إيجاب الهدي - وهو دم شكران لا جبران على مشروعية التمتع، ووجوب الهدي مأخذه التقدير الوارد في الآية، وتقديره: فالواجب عليكم ما تيسر، أو فعليكم ما تيسر من الهدي، وتكون صيغة الأمر فيه واردة بأسلوب اسم الفعل، وهو (عليكم) أو (فعليكم) و إن شئت قلت حرف (على) الدَّالة على الوجوب.
تنبيه: اختلف العلماء في جواز الاشتراك في الهدي الواجب، فأجازه الشافعي وأحمد، وكذا أبوحنيفة، إذا أراد جميعهم الفدية وممنوع إذا أراد
بعضهم اللحم، ومنع الاشتراك الإمام مالك، واحتج بأن ظاهر الآية يقتضي هدياً كاملاً، والجماعة إذا اشتركوا في هدي لم يتقرب كل واحدٍ منهم إلّا ببعض هدي.
* الوقفة الثانية: أن العمرة في أشهر الحج متعة عند الحسن البصري، وإن لم يحج.
مأخذه: أن (إلى) في قوله: {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} بمعنى (في).
قال الموزعي: «وهو جائز في اللسان»
(1)
ثم أورد شواهد من شعر العرب تدل على ذلك.
* الوقفة الثالثة: أن من اعتمر ثم رجع إلى أهله ثم حجّ من عامه فهو متمتع.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية وإطلاق الحكم فيها، فلم يفرق بين أن يكون نسك العمرة والحج في سفرٍ واحدٍ، أو في أكثر من سفر.
(2)
.
* الوقفة الرابعة: كفارة من لم يجد الهدي على الترتيب بلا خلاف.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ومفهومه أن من كان واجدًا للهدي فليس له أن ينتقل للصيام.
(1)
تيسير البيان (1/ 341).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 396).
* الوقفة الخامسة: أن من لم يجد الهدي، فيجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج.
ومأخذ الحكم:
أولًا: وجوب الصيام في التقدير الوارد في الآية، أي: فعيله صيام ثلاثة أيام و (على) من ألفاظ الوجوب.
وثانيًا: كونها في الحج، دلّ عليه مفهوم ظرف الزمان، ومفهومه أنها لا تصح ولا تجزئ قبل أن يحرم بالحج.
قال القرطبي: «فإن قوله: (أيام الحج) يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج؛ فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح
(1)
؛ (يقصد قول الشافعية أن الصيام ما بين أن يُهِلّ بالحج إلى يوم عرفة يعتبر أداء، وأيام منى قضاء) لأنّ آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي؛ لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصًا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدًا»
(2)
.
* الوقفة السادسة: اختلف العلماء في اشتراط التتابع في صيام الأيام الثلاث.
ومأخذ الحكم: أما من لم يشترط التتابع؛ فلأن ظاهر إطلاق الآية يدل على عدم اشتراطه.
وأمّا من اشترطه التتابع فمأخذه حجية القراءة الشاذة الواردة فيه، وقد ورد في قراءة شاذة (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
(3)
.
(1)
يقصد قول الشافعية أن الصيام ما بين أن يُهِلّ بالحج إلى يوم عرفة يعتبر أداء، وأيام منى قضاء.
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 400).
(3)
انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 24)، والطبري (10/ 559)، والدر المنثور (1/ 519).
* الوقفة السابعة: وجوب صيام سبعة إذا رجع إلى أهله.
ومأخذ وجوب الصوم ما سبق، في تقدير (فعليكم صيام)، كما أن في قراءة {وَسَبْعَةٍ} بالنصب، دلالة على الوجوب؛ إذ التقدير: وصوموا سبعةً.
أمّا كونه إذا رجع إلى أهله، فمفهوم الشرط في قوله:{إِذَا رَجَعْتُمْ} ومفهومه أنّها لا تصام في الحج، أي: إذا رجعتم فصوموا.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «إن صيام السبعة لا يجوز في أيام الحج؛ لقوله تعالى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
(1)
.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، والخلاف في مفهوم الرجوع هل هو إلى بلادكم، أو يجوز في الطريق، أو الرجوع إلى الإحلال بعد الإحرام، أو الرجوع من منى
…
ونقل ابن العربي عن القاضي قوله: «وتحقيق المسألة أن قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} إن كان تخفيفًا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا، وإن كان ذلك توقيتًا فليس فيه نص ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحج»
(2)
انتهى
(3)
، ويكون مقصوده الرجوع من منى لا إلى بلاده، والله أعلم.
* الوقفة الثامنة: أن الأيام عشرة لا تنقص ولا يزاد عليها.
ومأخذ الحكم: مفهوم العدد في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
(1)
تفسير القرآن الكريم، سورة البقرة (2/ 409).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 185).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 185).
قال الشوكاني: «وقوله: {كَامِلَةٌ} توكيد أخر بعد الْفَذْلَكَةِ لزيادة التوصية بصيامها، وأنه لا ينقص من عددها»
(1)
.
وقال بعض أهل العلم إن لفظ قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} خبر بمعنى الأمر، أي: أكملوها ولا تنقصوها ذلك، وهذا الحكم متفق عليه، وإنّما الخلاف فيما إذا فات المتمتع صيام الأيام الثلاثة في الحج، فهل يجب عليه صيام السبعة الباقية أم تسقط عنه ويتعين عليه الدّم؟ وبسط هذا في كتب الفقه.
* الوقفة التاسعة: أن الحلق أفضل من التقصير، وهو محل اتفاق.
ومأخذه: وروده في كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الآية ولم يقل تقصروا.
* الوقفة العاشرة: عدم جواز تقديم الحلق على الهدي.
(2)
.
ومأخذ الحكم: النّهي ومفهوم الغاية فيه أنّه إذا بلغ الهدي محله، فللمحرم أن يحلق رأسه.
وقد ورد في السّنة من حديث عبد الله بن عمرو جواز تقديم الحلق على الهدي، وعدم وجوب الدم للناسي والجاهل، ففي الحديث: (
…
فما سمعته
(1)
فتح القدير (1/ 227).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 382).
سئل يومئذ عن أمر شيء، مما ينسى المرء ويجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«افعلوا ذلك، ولا حرج» ) رواه مسلم
(1)
.
قال الموزعي: «وأمّا حديث عبد الله بن عمرو فإنّه وإن ورد في الناسي والجاهل، فلا يدل على منعه في العامد، والله أعلم»
(2)
.
قلت: وذلك أن ما خرج مخرج الجواب عن سؤال لا مفهوم له كما هو مقرر في علم أصول الفقه، كما أن الحديث يكون صارفًا للنّهي الوارد في الآية عن التّحريم وربما كان للكراهة هنا.
قال الشاطبي: «
…
فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع: "لا حرج فيه"؛ فلا يؤخذ منه حكم الإباحة، إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروها، فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه؛ فليتفقد هذا في الأدلة»
(3)
.
أمّا الدّم - على من قدَّم الحلق على الهدي - فلو كان واجبًا لبيّنه النّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه وقت الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
* الوقفة الحادية عشرة: أن المكي هل له متعة؟.
فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا متعة له، وذهب الجمهور إلى أن له متعة.
ومأخذ الحكم: الخلاف في رجوع اسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فقال أبو حنيفة: إنّ الإشارة تعود إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفارة، فلا يصح لحاضري المسجد الحرام تمتع ولا قران.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي، برقم (1306).
(2)
تيسير البيان (1/ 328).
(3)
الموافقات (1/ 231).
ومأخذ الجمهور ظاهر عموم الآية، في قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ} و (مَنْ) من ألفاظ العموم، وأما اسم الإشارة فإنه يعود للدم وليس للتمتع - كما سيأتي - في الوقفة التالية فلم تفرق الآية بين المكي وغيره.
* الوقفة الثانية عشرة: أن المكي المتمتع لا هدي عليه عند الجمهور.
ومأخذ الحكم: رجوع اسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يرجع إلى الهدي، وجعلوا اللام في قوله:{لِمَنْ} بمعنى (على)، أي: وجوب الدّم على من لم يكن من أهل مكة، كما أن الجمهور يرى أن دم المتمتع دم جبران؛ لترك الإحرام بالحجّ من الميقات.
تنبيه: الحنفية كما سبق يرون أن المكي لا متعة له، ولا قران، فإنّ تمتع وجب عليه الدّم، وهو دم جناية لا يأكل منها.
* * *
استدل بالآية على أحكام، أقف معها ثمان وقفات:
* الوقفة الأولى: أن الحج في زمن مخصوص، وهذا حكم متفق عليه.
ومأخذ الحكم: أن العلماء قدروا محذوفًا ومضمرًا في الآية، فقالوا:(وقت الحج في أشهر معلومات) أي: إنّ الحج في أشهر معلومات.
ثم اختلفوا في تحديد أشهره، والجمهور على أنّه: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحج، ثم اختلفوا في يوم النحر هل هو منها؟ يرجع في ذلك إلى
كتب الخلاف.
ومن العلماء من جعل لفظ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} خبر بمعنى الأمر، أي: أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فمن أراد الحج فليبدأ بالإحرام من شوال إلى عشرة ذي الحجة.
* الوقفة الثانية: لا يجوز الاحرام بالحج إلّا في أشهره عند الشافعي، فلا يجوز فرضه قبل أشهره.
ومأخذه: أن الإحرام من جملة الحج، ووقت الحج أشهر معلومات.
* الوقفة الثالثة: جواز الاعتمار في جميع السنة، وهذا حكم متفق عليه.
ومأخذه من الآية هو: إن تخصيص الله سبحانه وتعالى الحج بالتوقيت يفهم أن العمرة ليست مثله بدلالة مفهوم الظرف الزّماني في الآية، فليس للعمرة وقت مخصوص، أمّا الحج فهو في أشهر معلومات.
* الوقفة الرابعة: أن فرض الحج والعمرة ينعقدان بالنّية دون النطق.
ومأخذه: أن معنى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} ألزم نفسه، وبالنية يتحقق ذلك
(1)
، وعليه لا يشترط معها نطق أو سوق هدي.
* الوقفة الخامسة: وجوب أخذ الزاد للحج، حتى لا يتكل على سؤال الناس.
مأخذ الحكم: سبب النزول وهو قطعي الدخول، وقد نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: نحن المتوكلون،
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 406).
ويقول بعضهم: كيف يحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فكانوا يبقون عالة على الناس فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود.
* الوقفة السادسة: تحريم الجماع وهو المعبر عنه بالرّفث.
ومأخذ الحكم هو ورود النهي بصيغة الخبر، فهو خبر بمعنى النّهي، وهي أبلغ من صيغة النهي كما يذكره أهل الأصول والبلاغة وقد سبق الإشارة إلى ذلك.
ويترتب على الرّفث أحكام منها: إفساد الحج، وهذا هو مقتضى النهي وهو الفساد، ووجوب الكفارة فيه، والمضي في فاسده، وتفصيل ذلك في كتب الفقه والخلاف.
منها: إذا فرض الحج في غير أشهره فله أن يرفث، وذلك يستلزم صحة فرضه.
ومأخذه: مفهوم ظرف الزّمان في قوله {فِيهِنَّ} أي: في أشهر الحج المعلومات.
ومنها: أن من وطئ ناسيًا بطل حجه.
مأخذه: أنّ الشّارع أطلق النّهي في كل من رفث، ولم يفرق بين عمده وخطئه، والنهي يقتضي الفساد.
* الوقفة السابعة: النّهي عن الفسوق فسّرها ابن عباس بأنها: المعاصي كلها لا يختص بشيء دون شيء. وفسّرها ابن عمر بالمثال، فقال: كقتل الصيد وغيره وقيل: غير ذلك.
مأخذ الحكم: ما سبق أنه خبر بمعنى النهي، والأصل فيه التحريم والفساد، وقد فُسِّر بقول الصحابي، وتفسير الصحابي حجة.
* الوقفة الثامنة: النّهي عن الجدال، وفسر بالسّباب، أو مماراة المسلم حتى يغضب وفُسِّر بغير ذلك.
ومأخذه: كونه محظورًا من محظورات الحج لورود النهي عنه بصيغة الخبر كما سبق.
تنبيه: النهي عن الفسوق والجدال لا يختص بحالٍ، وإنّما خصّه الله سبحانه بمن فرض الحج تعظيمًا وتفخيمًا لشأن الحج.
* * *
يستنبط من الآيات أحكام أقف معها أربع وقفات:
* الوقفة الأولى: جواز التجارة في الحج، وقد قرأ ابن الزبير رضي الله عنهما:(في مواسم الحجّ).
مأخذ الحكم: يدل عليه نفي الحرج في الفعل - وقد سبق في حكم الطواف بين الصفا والمروة - ويؤكد جواز التجارة: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية حيث قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء
الإسلام، كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج} أخرجه البخاري
(1)
.
* الوقفة الثانية: وجوب الوقوف بعرفة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق.
دلّ عليه قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ثم قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . وفيها دليل أن المولى سبحانه وتعالى قد أمرهم بالوقوف بعرفة قبل إفاضتهم منها.
وقال الموزعي: عن قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} «وهذه الآية أصرح وأبين في الدّلالة على الوجوب من التي قبلها؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالإفاضة من حيث أفاض الناس، فأوجب الحصول في مكان ابتداء الإفاضة الذي يفيض منه النّاس، وهو عرفات»
(2)
.
مأخذ الحكم: هو الأمر الوارد بقوله: {أَفِيضُوا} وهو يقتضي الوجوب، والمراد بالإفاضة هنا: الإفاضة من عرفات، وهو قول جماهير المفسرين، بل حكى فيه الطبري الإجماع، ولم يخالف فيه إلّا الضّحاك، وهو محجوج بالإجماع، وكان الناس، وهم العرب ما خلا قريشًا تتجاوز المزدلفة، وتقف بعرفات، وتفيض منها.
تنبيه: لم يذكر المولى سبحانه وتعالى في كتابه وقت الوقوف، ولا وقت الإفاضة، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بفعله، فوقف بها إلى أن غربت الشمس، ثم دفع فجمع بين الليل والنهار.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ، برقم (4519).
(2)
تيسير البيان (1/ 363).
تنبيه آخر: قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} بعد قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} يدل عند البعض أن (ثمّ) في الآية ليست لترتيب الحكم، بل هي للتّرتيب الذّكري، وعليه فلم تخرج (ثم) هنا عن موضوعها.
وقيل: ليست (ثمّ) في هذه الآية للترتيب، وإنّما هي لعطف جملة كلام على جملة كلام، هي منقطعة منها. قال الطبري: في الكلام تقدير وتأخير وبيّن ذلك، وذكر ابن العربي أجوبة منها:«أن معناه: ثم ذكرنا لكم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيرجع التعقيب ب (ثم) إلى ذكر وجود الشيء لا إلى نفس الوجود»
(1)
. ويرجع إلى تفاصيل ذلك في كتب التفسير.
* الوقفة الثالثة: مشروعية النزول بالمزدلفة باتفاق إلّا أن الخلاف في كونه المبيت بها ركنًا أو واجبًا أو سنة، بل حكى عن بعض السّلف أنّه ليس بنسك، وإنّما هو منزلٌ إن شاء نزله، وإن شاء تركه، والأخير ضعيف جدًا، بل غلط ظاهر؛ لمخالفة الكتاب والسنة.
قال الموزعي ورجّح كونه واجبًا قال: «لموافقته القرآن، ولحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه»
(2)
. وحديث عروة وفيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجمع -أي مزدلفة - وقال للنبي صلى الله عليه وسلم هل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى هذه الصلاة معنا، ووقف هذا الموقفَ حتى يُفيضَ، وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهاراً، فقد تمَّ حجُّهُ، وقضى تَفَثَهُ»
(3)
وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
(1)
أحكام القرآن (1/ 196).
(2)
تيسير البيان (1/ 360).
(3)
أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، برقم (3042)، وصححه الألباني.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، وهو على أصله، أي الوجوب.
* الوقفة الرابعة: مشروعية الذّكر في المشعر الحرام، وهو أمر مجمع عليه.
(1)
.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ودار الأمر هنا بحسب تفسير الذكر إلى واجب وهو الأصل، وإلى ندب، والواجب كالصلاة، والمبيت عند أكثر أهل العلم.
والمندوب من الذكر كالتلبية والدعاء صبيحة يوم العيد بالمزدلفة وغير ذلك.
تنبيه: ورد الأمر بذكر الله أيضًا عند انقضاء المناسك بقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ونقل ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزولها أن العرب كانت إذا قضت مناسكها، أقاموا بمنى يقوم الرجل فيقول:(اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القُبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت لأبي فنزلت الآية، وأمروا بذكر الله عوضًا من ذلك)
(2)
.
وورد الذكر مقيدًا في أيام معدودات وسيأتي في الآية التالية.
(1)
تيسير البيان (1/ 356).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 266).
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]
وفيها من الأحكام المستنبطة ما يلي:
* الوقفة الأولى: مشروعية ذكر الله في الأيام المعدودات، وهي: ثلاثة أيام بعد يوم النحر على خلاف بين أهل العلم، وتسمى أيام التّشريق، وأيام منى. وأمر الله جل جلاله بذكره فيها لشرفها.
مأخذ الحكم: صيغة الطلب {وَاذْكُرُوا} وهي هنا دائرة بين الوجوب والنّدب.
فإذا فسر الذكر في هذه الأيام بالرّمي فهي للإيجاب، وإن كان مطلق الذكر كالتّكبير فهو للنّدب وقد سبق.
* الوقفة الثانية: مشروعية التعجل في يومين للمكي وغيره.
ومأخذ الحكم: قوله: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ونفي الإثم يدل على المشروعية، والجواز والإباحة.
وكونه للمكي وغيره: أخذًا من عموم (مَنْ) في قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} وهي من ألفاظ العموم.
فائدة قال ابن الجوزي: " وفي معنى {لِمَنِ اتَّقَى} ثلاثة أقوال: أحدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس. والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه. والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم " انتهى
(1)
.
(1)
زاد المسير (1/ 169).
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
* الوقفة الأولى: استدل بالآية على وجوب الحج، وهو أمر متفق عليه، ومعلوم من الدّين ضرورة.
ومأخذ الحكم: ورد في الآية لام الايجاب، ولفظ:" على " الدّالة على الوجوب أيضًا.
(1)
.
* الوقفة الثانية: أن من جحد وجوبه فهو كافر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من كفر بفرض الحج، ولم يره واجبًا)
(2)
ووسّع العلماء الحكم ليشمل كل من جحد حكمًا معلومًا من الدّين ضرورة فهو كافر.
ومأخذ الحكم: التفسير السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما مع ضميمة ذكر غنى الله عنه في الآية.
قال الرازي معدداً مؤكدات وجوب الحج في الآية: " وسادسها: ذكر الاستغناء، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان "
(3)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 142).
(2)
انظر: تفسير الماودري المسمى بالنكت والعيون (1/ 411).
(3)
التفسير الكبير (8/ 306).
* الوقفة الثالثة: أن وجوب الحج على المستطيعين، ثم اختلف العلماء في ضبط الاستطاعة، ومرجع ذلك إلى كتب الفقه.
ومأخذ الحكم: أن قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل من النّاس، وهو بدل بعض من كل، وكأن المولى سبحانه وتعالى قال:(ولله على المستطيعين حجّ البيت).
والبدل نوع من المخصصات المتصلة، وهو مخصص لعموم (النّاس) المتقدم.
* الوقفة الرابعة: وجوب الحج على الكافر والعبد والمرأة الحرّة المستطيع منهم.
مأخذ الحكم: عموم لفظ (النّاس) حيث إنّه اسم جنس معرف، يفيد العموم.
* الوقفة الخامسة: الخلاف في وجوب الحجّ كل سنة أو في العمر مرّة واحدة؟
ومأخذ الحكم: الخلاف هو في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار؟ وعلى القول بأنّه يقتضي التكرار، أي: هل يجب الحجّ كل عام؟ أما في الحج فإنّه لا يجب كل عام؛ لكونه غير مطلق في الشرع بل مقيد في العُمر، فلا يجب في العمر إلا مرّة واحدة.
وبيان ذلك من السنة النبوية، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أحجُنا لعامنا هذا، أم للأبد؟ - يعني: هل يجزئنا حجنا عن عامنا هذا فقط، فنحتاج إلى تكرير حجّ في كل سنة، أو يجزئنا للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«للأبد»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب عمرة التنعيم، برقم (1785).
* الوقفة السادسة: أن كل من استطاع على الحج فإنّه يجب عليه المبادرة، ولا يجوز تأخيره عند بعض العلماء.
مأخذ الحكم: كون الأمر المطلق يقتضي الفور، وعليه فإن من أخرها وهو متمكن من أدائها كان عاصياً. أما القائل بأن الأمر لا يقتضي الفور فإنه أجاز له تأخيرها ولو كان متمكناً من أدائها ..
* * *
قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وفيه وقفة واحدة حيث:
دلت الآية على مشروعية وإباحة الاصطياد بعد التحلل، مما يدل على كونه محظورًا حال الإحرام.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط إذ يدل على أننا إذا لم نتحلل، أي: كنا حُرُمًا؛ فإنّه يحرم علينا الصّيد.
* * *
ومعها وقفة واحدة وهي: حرمة الاصطياد حال الإحرام، وكونه محظوراً من محظورات الإحرام.
* ومأخذ الحكم يتضح بالوجوه التالية:
أولًا: صيغة النّهي الصريحة {لَا تَقْتُلُوا} والنهي يقتضي التحريم.
ثانيًا: وجوب الكفارة على من فعل ذلك.
ثالثًا: عفو الله ومغفرته لمن فعل ذلك، بقوله:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} ولا يكون العفو إلّا من ذنب.
رابعًا: التهديد بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}
خامسًا: ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
سادسًا: قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بلفظ التّحريم وهو صريح ونصَّ في التّحريم.
قال ابن القيم: في الفصل المعقود للألفاظ الدّالة على التحريم قال: «
…
وكل فعل طلب الشرع تركه
…
، أو جعل سببًا لنفي الفلاح أو العذاب عاجل أو آجل،
…
أو حلول نقمة
…
فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل، ودلالته على التّحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة»
(1)
.
ومما يستنبط من الآية: وجوب الفدية على من قتل الصيد، وهو محرم متعمداً.
ومأخذ الحكم: التقدير الوارد على الآية، قال القرطبي:«التقدير فعليه جزاء مماثل أو لازم من النعم»
(2)
، ومعلوم أن لفظ "على" في الشارع تدلُّ على الوجوب، والمقدَّر كالملفوظ.
(1)
بدائع الفوائد (4/ 4 - 6).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]
ومعه وقفة واحدة مع ما تضمنته الآية من منع المشركين - ككفار مكة وغيرهم - من الحجّ بعد هذا العام الذي بعث فيه النّبي صلى الله عليه وسلم أبابكر ثم أردف صلى الله عليه وسلم بعليٍّ فأمره أن يؤذن بسورة براءة؛ لإعلام النّاس بألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي الوارد بقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ووصفهم بالنّجس مما يدل على وجوب اجتنابهم للمسجد الحرام.
* * *
ونقف معها أربع عشرة وقفة:
* الوقفة الأولى: وجوب الحج.
مأخذ الحكم: ورد الأمر من المولى سبحانه وتعالى بالأذان بالحج، والمعنى: أعلمهم أن عليهم الحج، وسواء قلنا إنّ المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والواو في قوله:{وَأَذِّنْ}
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، برقم (1543)، ومسلم كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان يوم الحج الأكبر، برقم (1347).
للاستئناف، أي إن الخطاب كان لإبراهيم عليه السلام في قوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26]، ثمَّ خاطب المولى سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، أو أن المخاطب بذلك إبراهيم عليه السلام، وشرعه شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وليس في شرعنا ما يخالفه.
قال القرطبي: «لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له:{أذن في الناس بالحج}
…
وقيل: إنّ الخطاب لإبراهيم عليه السلام تمّ عند قوله {السُّجُودِ} ثم خاطب الله عز وجل محمّدًا عليه الصلاة والسلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ؛ أي: أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إنّ الخطاب من قوله: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأنّ القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك، وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو:{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب»
(1)
.
* الوقفة الثانية: استدل بعض العلماء بالآية على سقوط فرض الحج بالبحر.
ومأخذ الحكم: عدم ذكره في الآية.
(2)
- يعني إلى مكّة -.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 38).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 40).
* الوقفة الثالثة: تفضيل المشي على الركوب في الحجّ، وهو قول كثير من أهل العلم.
مأخذ الحكم: لتقديم الله سبحانه له في الذكر، واستدلوا على ذلك ببعض الأثار لقوله عليه السلام:(إنّ للحاجِّ الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبيعين حسنة، والماشي بكل خطوة سبع مئة حسنة)
(1)
والحديث ضعيف
(2)
.
تنبيه: من ذهب إلى أن الركوب أفضل؛ فلأجل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لتأخذوا عني مناسككم»
(3)
، ولأجل كثرة النفقة. وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة:«ولكنها على قدر نصبك، أو قال: نفقتك»
(4)
يحتمل الأمرين.
وذهب بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنّما حجّ راكبًا حتى يظهر ليقتدى به ويستفتى.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الرّكوب والمشي، وإنّما الخلاف في الأفضل منهما.
* الوقفة الرابعة: جواز التجارة في الحجّ، من قوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} .
واللام للتعليل، وفسِّرت المنافع بالتجارة، وأكثر المفسرين على أنّها تشتمل منافع الدّين والدّنيا، وتدخل التّجارة تبعًا.
قال الجصاص: «فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم، ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة; لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 75)، برقم (12522).
(2)
انظر: السلسلة الضعيفة للألباني برقم (496، 497).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم (1297).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام
…
برقم (1211).
الحج واقعًا لمنافع الدنيا، وإنما الحج: الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدي وسائر مناسك الحج، ويدخل فيها منافع الدّنيا على وجه التبع والرخصة فيها، دون أن تكون هي المقصودة بالحج، وقد قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج»
(1)
.
قلت: ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} التجارة، وقد سبق.
ومأخذ الحكم: يتعلق بالأمر والأذان السابق، أي: فأذن بالحج ليشهدوا منافع لهم، والأمر يقتضي هنا الإباحة، كما دلت عليه آية البقرة.
* الوقفة الخامسة: مشروعية ذكر الله في الأيام المعلومات؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وهي معطوفة على قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وسبق القول أنّ اللام هنا للتعليل.
والمعنى: فأذن بالنّاس لأجل أن يشهدوا منافع لهم؛ ولأجل أن يذكروا اسم الله في هذه الأيام على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
ومأخذ المشروعية: ما سبق أن الأمر بالإذن للناس يدل على المشروعية، والتي من ثمرتها ومنافعها ذكر الله.
واختلف العلماء في المراد بذكر الله هنا، قال ابن الفرس: «واختلف في ذكر اسم الله ما هو؟ فقيل: هو بمعنى حمده وشكره على نعمته في الرزق، ويؤيده
(1)
أحكام القرآن (5/ 66).
قوله عليه الصلاة والسلام «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى»
(1)
وقيل: المراد ذكر الله على النحر والذبح»
(2)
.
كما أنهم اختلفوا في المراد بالأيام المعلومات، فقيل: أيام العشر، وقيل: أيام الحج، وهو يوم عرفة والنّحر وأيام التّشريق، وقيل: يوم التّروية وعرفة، ويوم النحر، وقيل: يوم النحر ويومان بعده، وكل يستدل لقوله ببعض الآثار.
* الوقفة السادسة: الذّبح والنحر لا يكون إلّا في هذه الأيام، وأجمعوا على أنّه لا يجوز الذبح في هذه الأيام حتى يكون يوم النحر.
ومأخذ الحكم: مفهوم الظرف حيث دلّ اختصاص هذه الأيام المعلومات بالذكر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام بمفهومه على أنّه لا يكون في غيرها.
* الوقفة السابعة: ذهب بعض العلماء إلى أن الليالي لا تدخل، فلا يجوز الذّبح بالليل؛ لقوله تعالى:{فِي أَيَّامٍ}
ومأخذ الحكم: مفهوم اليوم، يدل على عدم دخول الليل، إذا قيل إنّ اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا يعتبر مفهوم ظرف زمان.
ومن قال: بأن الليل يدخل في اليوم أجاز الذبح فيها.
* الوقفة الثامنة: مشروعية الأكل من الهدي والأضاحي والإطعام.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} وهو أمر ندبٍ عند الجمهور.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، برقم (1141)، وأخرجه أبو داود - واللفظ له - في أول كتاب الضحايا، باب في حبس لحوم الأضاحي، برقم (2813) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 300).
قال القرطبي: «أمر معناه الندب عند الجمهور
…
وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية»
(1)
.
وقال ابن الفرس: «قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة بالأكل من الهدايا» . ثم ذكر خلاف العلماء فيما يؤكل من الهدي الواجب مما لا يؤكل، ثم نقل عن مالك قوله: أنه يؤكل منها كلها، إذا بلغت محلها إلّا من ثلاثة أنواع: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين، ثم قال: «واحتج ابن القصار لمالك بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ولم يخص واجبًا من واجب ولا تطوع فهو عامّ في جواز الأكل إلّا ما قام الدّليل عليه من الثلاثة الأشياء المذكورة؛ لأنّها وجبت للمساكين، فلا يجوز له الرجوع ولا الأكل منها كالكفارات
(2)
.
* الوقفة التاسعة: أن الهدي والأضاحي لا يكون إلّا من بهيمة الأنعام، وقد أجمع العلماء على ذلك.
ومأخذه: مفهوم قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} أن غير بهيمة الأنعام لا تجزئ، وهو مفهوم صفة، - وسيأتي مزيد أحكام في باب الأضاحي بإذن الله - كالتسمية عند الذّبح، وقد قيل: إنّ المراد بذكر الله في الآية هو: التّسمية عند الذبح، وكذا هل يجزئ من بعد الفجر، أي: وقبل طلوع الشمس؛ لإضافة التّحريم إلى اليوم، ومقدار ما يطعم ويأكل ويتصدق إلى غير ذلك من أحكام.
* الوقفة العاشرة: مشروعية قضاء التفث، كالحلق ورمي الجمار وإزالة الشعث ونحوه، وغير ذلك على خلاف في التّعميم والتّخصيص ببعضها.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 44).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 300).
ومأخذ الحكم: الطلب الوارد بصيغة الأمر {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} والطلب دليل المشروعية.
* الوقفة الحادية عشرة: أن الحلق نسك على التفسير بأنّه التفث بالآية.
* الوقفة الثانية عشرة: مشروعية الحلق بعد الذبح، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم: من يرى وجوب ذلك. ومنهم: من يرى استحبابه.
ومأخذ الحكم: ترتيب قضاء التّفث في الآية على الذّبح.
* الوقفة الثالثة عشرة: كون طواف الإفاضة ركن من أركان الحجّ، وهذا الحكم مجمع عليه.
ومأخذ الحكم من الآية: الأمر الوارد بصيغة (ليفعل) وهو الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
تنبيه: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المراد بالطواف في هذه الآية، طواف الإفاضة، ويسمى بطواف الزّيارة، بل ونقل بعض العلماء الإجماع على كونه هو المراد، وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالطواف هنا: طواف الوداع، ويرده ما قاله الجصاص في أحكامه حيث قال:«ظاهره يقتضي الوجوب; لأنه أمر والأوامر على الوجوب. ويدل عليه أنه أَمَرَ به معطوفا على الأمر بقضاء التفث، ولا طواف مفعول في ذلك الوقت - وهو يوم النحر بعد الذبح - إلا طواف الزيارة، فدل على أنه أراد طواف الزيارة»
(1)
.
ثم إنّه على القول بأنّه طواف الإفاضة، أو الوداع فكلاهما واجب، فالأوّل: باتفاق، والثاني: عند من قال بأنّه المراد بالآية؛ إذ إنّ الأمر غير مصروف.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 74).
* الوقفة الرابعة عشرة: لا يصح الطواف بغير طهارة عند الجمهور، وهي شرط في صحة الطواف. وذهب الحنفية: إلى كونها واجبة وليست شرطًا في صحة الطواف، والواجب يمكن جبره بالدّم في الحجّ؛ ولذا قالوا: بصحة الطواف بدون طهارة.
وقالوا: إنّ الطّواف اسم للدوران بالبيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر.
مأخذ الحكم: يتكلم أهل الأصول عن هذا الفرع تحت قاعدة: مطلق الأمر هل يتناول المكروه أم لا؟
فعند الجمهور: لا يتناول المكروه خلافًا للحنفية.
(1)
.
(1)
انظر: قواطع الأدلة (1/ 238 - 239).
الدراسة الثالثة التطبيق على آية الوضوء
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا دراسة أهدف فيها إلى بيان، المآخذ الأصولية المؤثرة في استنباط أحكام آية الوضوء، ومرادي بالمآخذ هنا: القواعد الكلية المؤثرة في استنباط الأحكام الفقهية من الآيات القرآنية، وغالبها وجُلُها قواعد أصولية، حتى ما توقف منها على معاني لغوية فكان الاعتماد فيها على تفسيرات الصحابة، وتفسير الصحابي حجة، وهي من القواعد الأصولية التفسيرية المعتبرة، كيف لا وهم أهل اللغة، ومعاشرو التنزيل رضي الله عنهم، وحشرنا في زمرتهم، اللهم آمين.
وقد وقع الاختيار في التطبيق على آية الوضوء لكثرة الأحكام الواردة فيها، والتي لا تظهر دون بيان مآخذها الأصولية:
يقول ابن العربي في أحكام القرآن: «ذكر العلماء أن هذه الآية من أعظم آيات القرآن مسائل، وأكثرها أحكاماً في العبادات، وبحق ذلك، .... ولقد قال بعض العلماء: إن فيها ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها فبلغوها ثمانمائة مسألة، ولم يقدروا أن يبلغوها الألف، وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد تعريف طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا، والذي يليق الآن
في هذه العجالة مما نحن فيه الانتداب إلى انتزاع الجلِّي، وأن نتعرض لما يسنح خاصة مسائلها
…
»
(1)
.
كما أن آية الوضوء تعتبر أصلاً في الطهارات كلِّها. قال السيوطي: «هذه الآية أصل في الطهارات كلها، ففيها الوضوء، والغسل، والتيمم، وفيها أسباب الحد»
(2)
.
* لذا رتبت الدراسة على أبواب الطهارة على ما يأتي:
الفصل الأول: في المياه وإزالة النجاسة.
الفصل الثاني: في الوضوء. وفيه سبعة عشر
الفصل الثالث: في نواقض الوضوء.
الفصل الرابع: في المسح على الخفين والغسل وحكم الجنب.
الفصل الخامس: في التيمم.
(1)
أحكام القرآن (2/ 557 - 558).
(2)
الإكليل (2/ 617).
الدراسة التطبيقية
الفصل الأول في المياه وإزالة النجاسة
وفيه خمسة مباحث:
يفتتح العلماء كتاب الطهارة بباب المياه؛ لأن الماء هو الأصل فيما يتطهر به من الحدث، وهو أهمما يطهر به بدن المصلي وثوبه وبقعته التي يصلي عليها، وبه يزيل النجاسة العينية، فلذلك ناسب أن يبدأ به كتاب الطهارة، وبيان أقسامها.
والنجاسة عين مستقذرة شرعاً، يجب على المسلم مجانبتها، والبعد عنها، ولها تقسيمات عدّة عند العلماء، يرجع لها في كتب الفقه
(1)
.
*
المبحث الأول: أقسام الماء.
ذهب جمهور أهل العلم إلى تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس
(2)
.
ومن العلماء من جعل القسمة ثنائية: طهور، ونجس، استدلالًا بالآية، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(3)
وعلى هذا التقسيم سارت الفتيا عند
(1)
انظر: تسهيل الفقه للجبرين (1/ 35 - 36).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 495 - 497)، بدائع الصنائع (1/ 15 - 16)، البحر الرائق (1/ 70)، البناية (1/ 300)، المدونة (1/ 33)، الذخيرة (1/ 168 - 175)، المجموع (1/ 124 - 152)، الإنصاف (1/ 21 - 22)، كشاف القناع (1/ 24).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 35)، (19/ 236)، الإنصاف (1/ 44).
كثير من علماء هذا البلد، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ العثيمين -رحمهما الله-
(1)
.
ووجه التقسيم ومأخذ الحكم من الآية: كون لفظ الماء جاء نكرة في سياق نفي فعمَّ كل ما يطلق عليه ماء، ويحمل اللفظ على إطلاقه، ولا يقيد إلا بالشرع، فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا.
يقول شيخ الإسلام: «إنّ الشّارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهرا وطهورا»
(2)
.
(3)
.
فمأخذه رحمه الله وقاعدته هي: أن الاسم الذي أطلقه الشرع لا يقيَّد إلا بالشرع.
وقد نصَّ على ذلك فقال: «والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويقيد ما قيده»
(4)
.
تنبيه: إلى أن تقسيم الماء إلى قسمين أو إلى أكثر هو بالنظر لمطلق الماء، أما الماء المطلق فلا يصدق إلا على الماء الطهور فقط.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (10/ 14)، الشرح الممتع (1/ 54).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 35).
(3)
مجموع الفتاوى (19/ 236).
(4)
مجموع الفتاوى (24/ 13).
فمطلق الشيء يراد به حقيقة الماهية فلا يقيد، أما الشيء المطلق فهو لبيان الماهية بقيد الإطلاق، وهو يفيد التجرد عن جميع القيود، وعليه فالعلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص مطلق، فمطلق الشيء أعم، فمطلق الماء أعم، والماء المطلق أخص مطلقا فهو فرد من أفراد
(1)
.
*
المبحث الثاني: الماء المتغير بما لا ينفك عنه غالباً.
اتفق العلماء على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالباً، أنه لا يسلب الماء صفة الطهارة والطهورية، ولا يخرجه عن كونه ماءً
(2)
.
ومما يدخل في مسألتنا: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو المتغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه، ولا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه. وأن هذا التَّغيُر لا يسلبه اسم الماء
(3)
.
ومثله اليوم المتغير بصدأ الأنابيب والخزانات، ونحو ذلك، فإنه طهور لا يؤثر على الماء، لعدم القدرة على الاحتراز منه
(4)
.
مأخذ الحكم: هو - ما سبق من - أن الأسماء التي أطلقها الشّارع تبقى على إطلاقها.
وكذا كون لفظة {مَاءً} نكرة وردت في سياق نفي {فَلَمْ تَجِدُوا} فهي تعم كل ما أطلق عليه ماء.
(1)
انظر: المنثور في القواعد للزركشي (3/ 181)، التحبير للمرداوي (2/ 605).
(2)
انظر: البحر الرائق (2/ 117 - 118)، البناية للعيني (1/ 294 - 295)، المجموع للنووي (1/ 150).
(3)
انظر: المغني (1/ 22)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 386).
(4)
انظر: فقه النوازل للمشيقح (20 - 21).
وقد كان لهذين المأخذين أثرٌ في اختلاف العلماء في مسائل كثيرة متعلقة بالمياه
(1)
، وذلك بسبب خفاء تناول اسم الماء المطلق لبعض المياه، بمعنى هل كان اسم الماء المطلق يتناوله فيصح الطهارة به أو لا؟، والمسائل القادمة أثر فيها المأخذ نفسه، وفي ذكرها غُني عما لم يذكر.
*
المبحث الثالث: طهارة ماء البحر.
ماء البحر طهور، بنص الحديث (هو الطهور ماؤه)
(2)
.
قال ابن عبد البر: «وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا من الفقهاء: أن البحر طهور، وأنّ الوضوء جائز به»
(3)
.
(4)
.
مأخذ الحكم: هو - ما سبق من - أن الأسماء التي أطلقها الشّارع تبقى على إطلاقها.
(1)
انظر: بداية المجتهد (1/ 458)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 446)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 385 - 388).
(2)
أخرجه الأربعة في كتاب الطهارة، أبو داوود في باب الوضوء بماء البحر، برقم (83)، وابن ماجة، في باب الوضوء بماء البحر، برقم (386)، والنسائي في باب ماء البحر، برقم (59)، والترمذي في باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، برقم (69).
(3)
التمهيد (16/ 221)، وانظر الاستذكار (1/ 159)، وقد حكي عن ابن عمر كراهية الوضوء به، وأكثر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه، قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 447):" قال ابن عمر رضي الله عنه: إنه". لا يجوز الوضوء به؛ لأنه ماء النار، أو لأنه طين جهنم، وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب، فلا يكون ماء قربة ".
(4)
المغني (1/ 22).
*
المبحث الرابع: الماء المستعمل في الطهارة.
الماء المستعمل طاهر، إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة، وهل يكون مطهراً؟
من العلماء من يرى أنه مطهرٌ
(1)
، وكذا من يرى تقسيم الماء إلى قسمين فهو يرى أنه مطهر؛ لأنه ليس بنجس فيكون طاهراً مطهراً.
ومأخذ الحكم: أن الأسماء التي أطلقها الشّارع تبقى على إطلاقها، فهو ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء، فهو ماء مطلق، وعليه فيجوز التطهر به، ولا يجوز الانتقال للتيمم مع وجوده.
ذكر القرطبي هذا المأخذ
(2)
(3)
.
وذكر القرافي في فروقه مدركاً وصفه بأنّه وجه قوي حسن، ومدرك جميل، لمن قال بأنّ الماء المستعمل لا يندرج في اسم الماء المطلق «وأن قوله تعالى:
(1)
انظر: المغني (1/ 31).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (13/ 49).
(3)
المصدر السابق، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 438).
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} مطلق في التطهير لا عامّ فيه، بل عامّ في المكلفين، إذا تطهّرنا بالماء مرّة حصل موجب اللفظ، فبقيت المرّة الثانية منه غير منطوق بها، فتبقى على الأصل غير معتبرة، فإنّ الأصل في الأشياء عدم الاعتبار في التّطهير؛ إذ الأصل أن لا يعتبر في التطهير وغيره إلّا ما وردت الشّريعة به»
(1)
.
*
المبحث الخامس: حكم إزالة النجاسة.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة
(2)
.
مأخذ الحكم: لأنّه سبحانه وتعالى لم يذكر النجاسة في الآية وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أوّل مبدوء به
(3)
.
(4)
.
والصّحيح: وجوب إزالة النجاسة استدلالًا بقصة صاحبي القبرين حيث قال عليه السلام: «إنّهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أمّا أحدهما فكان لا يستتر من البول
(1)
الفروق (2/ 118).
(2)
انظر: المغني (1/ 206)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 580).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 580)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 100).
(4)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 388 - 389)، وبمثله قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 581).
وأما الآخر فكان يمشي بالنّميمة»
(1)
.
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب الجريدة على القبر، برقم (1361)، ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 100).
الفصل الثاني في الوضوء
وفيه سبعة عشر مبحثاً:
المقصود الأول من ذكر كتاب الطهارة في كتب الفقه هو ذكر أحكام الوضوء والغسل؛ لأنهما اللذان يرفعان ويزيلان الحدث الذي إزالته شرط من شروط الصلاة.
الوضوء في الاصطلاح: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة - الوجه واليدين والرأس والرجلان - على صفة مخصوصة
(1)
.
*
المبحث الأول: فرضية الوضوء ووجوبه.
وجوب الوضوء للصلاة، وكونه شرط صحة لها أمر متفق عليه
(2)
.
ومأخذ الحكم: الأمر المطلق في قوله: {فَاغْسِلُوا} ، وقوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وهما يقتضيان الوجوب.
تنبيه: كان الوضوء ثابتاً قبل نزول هذه الآية بالسّنة، وروي أنّه عليه الصلاة والسلام صلى في أوّل ما أوحي إليه وأتاه جبريل عليه السلام فعلّمه الوضوء
(3)
.
(1)
كشاف القناع (1/ 187).
(2)
انظر: الإجماع لابن المنذر (29)، ومجموع الفتاوى (21/ 268)، تيسير البيان للموزعي (3/ 99).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 354).
*
المبحث الثاني: تكرار الوضوء لكل صلاة.
لا خلاف بين العلماء في وجوب الوضوء على من عليه حدث؛ لأنّ الوضوء من شروط الصّلاة
(1)
، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»
(2)
.
ومأخذ الحكم من الآية هو أن العلماء قدّروا في الآية مضمرًا تقديره: إذا قمتم إلى الصّلاة محدثين فاغسلوا وجوهكم
(3)
.
أمّا غير المحدث: فقد اختلف العلماء في الأمر بالوضوء عند كل صلاة في حقه، هل هو مُحكم أو منسوخ، وإذا كان محكمًا هل هو أمر ايجاب أو ندب؟
فذهب طائفة من العلماء إلى أن الآية محكمة، وهؤلاء اختلفوا في الأمر بالوضوء لكل صلاة، هل هو على الوجوب أو الندب
(4)
؟.
ومأخذ الوجوب: هو ظاهر الأمر، وكونه يقتضي الوجوب، وهو كذلك يقتضي التكرار، ولاسيما وقد عُلق على شرط {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} فيتكرر الغسل عند تكرار القيام للصلاة وجوباً
(5)
، كما أن الفعل في قوله:{إِذَا قُمْتُمْ} ، فعل في سياق شرط يعم؛ لأن الأفعال نكرات، والنكرة في سياق الشرط تعم.
(1)
كما سبق في المبحث السابق.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم (135)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (225).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 560)،.
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 375 - 376)، المجموع للنووي (1/ 532)، المغني (1/ 197)، مجموع الفتاوى (21/ 370).
(5)
انظر: المغني لابن قدامة (1/ 197)، التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (1/ 368).
وذهب جمهور أهل العلم إلى الندب، ولهم طريقان في ذلك:
الطريق الأول: ادعى بعضهم النسخ، ومن القواعد المقررة في الأصول أن الوجوب إذا نُسخ بقي الجواز والندب. وقالوا: الناسخ فعله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة، حيث صلى خمس صلوات بوضوء واحد
(1)
، وهذا عند من يقول بأنّ السّنة تنسخ القرآن.
الطريق الثاني: قالوا بأن الأمر للوجوب إلا أنه مصروف إلى الندب بما سبق من فعله عليه السلام، وفعله عليه السلام من صوارف الأمر عن الوجوب
(2)
.
*
المبحث الثالث: فرائض الوضوء المتفق عليها.
فرائض الوضوء المتفق عليها هي المذكورة في الآية وهي: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل القدم أو مسحه.
قال ابن عبد البر: «أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرِجلين إلى الكعبين، ومسح الراس فرض ذلك كله
…
لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلّا في مسح الرجلين وغسلهما»
(3)
.
ومأخذ الحكم هو: الأمر الوارد في الآية {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وهو يقتضي الوجوب.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، برقم (277)، وانظر: الإكليل (2/ 621).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 79).
(3)
التمهيد (4/ 31) وانظر: تيسير البيان (3/ 100)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 382)، الإكليل (2/ 620).
*
المبحث الرابع: سنن الوضوء وآدابه.
ذهب بعض العلماء إلى اعتبار ما لم يذكر في الآية من السنن والآداب
(1)
.
قال السيوطي: «وردٌ على ما أوجب التسمية والمضمضة والاستنشاق لحديث: (توضأ كما أمر الله)
(2)
وليس في الآية سوى الأعضاء الأربعة، وعلى ما أوجب غسل باطن العينين؛ لأنه ليس من الوجه، إذ لا يقع به المواجهة»
(3)
.
ومأخذ الحكم هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحال السائل إلى كتاب الله فقال: «توضأ كما أمر الله» ، فدَّل على أن غيره ليس بواجب
(4)
.
تنبيه: ذهب آخرون إلى اعتبار بعضها من السنن، والبعض من الفروض، والبعض من الشروط، استدلالاً بأدلة أخرى خارجة عن الآية
(5)
.
(6)
.
(1)
انظر: المبسوط (1/ 55)، المجموع (1/ 385 - 386، المغني (1/ 73 - 74)، الإنصاف (1/ 128 - 129)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 83)، الإكليل (2/ 620).
(2)
أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة، برقم (302)، وحسنه.
(3)
الإكليل (2/ 624 - 625).
(4)
انظر: الإكليل (2/ 625).
(5)
أحكام القرآن (2/ 390).
(6)
انظر: المغني (1/ 33 - 154)، والمجموع (1/ 362، 385).
*
المبحث الخامس: اشتراط النية في الوضوء.
اشترط بعض أهل العلم النية في الوضوء
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أي: أردتم القيام مما يدل على أن الوضوء يراد للصّلاة، وأنّه شرط في صحتها، والإرادة هي النّية
(2)
.
قال القرطبي: «احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل؛ لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به، فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردًا أو لغرض، ما قصد أداء الواجب، وصحّ في الحديث أن الوضوء يكفر، فلو صحَّ بغير نية لما كفَّر. وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
(3)
قال ابن العربي في قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} في آية [النساء: 43]: «ولفظ اغتسل يقتضي اكتساب الفعل، ولا يكون مكتسباً له إلا بالقصد إليه حقيقة، فمن أخرجه إلى المجاز فعليه البينة»
(4)
.
تنبيه: سبق القول بأن مالم يذكر في الآية، جعله البعض من المسنونات، وذهبت الحنفية إلى أن في اشتراط النية زيادة على النص بخبر الواحد وهو غير مقبول عندهم؛ لأنه نسخ عنده، والنسخ لا يكون بخبر الواحد
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 361 - 362).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 559).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 84)، وانظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 361 - 362).
(4)
أحكام القرآن (1/ 440).
(5)
انظر: المبسوط (1/ 72)، فواتح الرحموت (2/ 165)، تيسير التحرير (3/ 219).
كما أن واو النسق في الآية لا تعطي رتبة، وإنما هي للجمع دون الاشتراك والترتيب، واسم الغسل ينتظم لمن رتب ولمن لم يرتب، قاله ابن الفرس
(1)
.
*
المبحث السادس: حكم الموالاة في الوضوء.
الموالاة هي: اتباع المتوضئ الفِعْل الفِعل إلى آخره من غير تراخٍ بين أبعاضه، وفصل بفعل ليس منه
(2)
.
وقال ابن قدامة: «أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف منه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل»
(3)
.
وقد اختلف العلماء في حكم الموالاة في الوضوء:
فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الموالاة من فرائض الوضوء
(4)
واستدلوا بالآية.
ومأخذ الحكم هو: أن الأمر بغسل الأعضاء الوارد في الآية مطلق، وهو هنا يقتضي الفور؛ «لأنّ الخطاب بصيغة الشرط والجزاء، ومن حق الجزاء أن لا يتأخر عن جملة الشرط. وتطهير جملة الأعضاء جزاء الشرط الذّي هو القيام للصّلاة، فوجب أن لا يتأخر شيء منه عنها»
(5)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اشتراط الموالاة
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن (2/ 383).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 383)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 97).
(3)
المغني (1/ 192)، وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 581):" إنها عبادة ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة ".
(4)
انظر: المغني (1/ 192)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 383)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
(6)
انظر: الحاوي الكبير (1/ 137)، التفسير الكبير (11/ 123)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 98)، بداية المجتهد (1/ 17)، فتح الباري (1/ 289).
وقال القرطبي مبينًا مأخذاً آخر: «إن الله سبحانه وتعالى أمر أمرًا مطلقا، فوالِ أو فرِّق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة»
(1)
. ولكل قائل - بالموالاة وعدمها - استدلالات أخرى يرجع لها في كتب الفقه
(2)
.
*
المبحث السابع: حكم الترتيب في الوضوء.
استدل بعض العلماء بالآية على كون الترتيب من فرائض الوضوء
(3)
، ومنهم استدل بها على عدم الترتيب
(4)
.
أما القائلون بالترتيب فمأخذ الحكم عندهم هو: مراعاة ترتيب الآية حيث أدرج سبحانه الممسوح بين المغسولات، وهذا لا يكون إلّا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور
(5)
.
(6)
.
وهناك مأخذ آخر قاله بعض العلماء وهو: أن (الفاء) في قوله {فَاغْسِلُوا} تقتضي التعقيب، فإنها لما كانت جوابًا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع
(7)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 97).
(2)
انظر: الحاوي الكبير (1/ 137).
(3)
انظر: المغني (1/ 189)، والمجموع (1/ 470 - 472).
(4)
انظر: المبسوط (1/ 55)، بدائع الصنائع (1/ 18)، المدونة (1/ 14)، المنتقى للباجي (1/ 47)
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578)، تيسير البيان للموزعي (3/ 111، 112)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 384).
(6)
تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(7)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578)، تيسير البيان للموزعي (3/ 112)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
وأجيب عنه: بأنّه اقتضت البداءة في الوجه؛ إذ هو جزاء الشّرط وجوابه، وإنما كانت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشّرط معنى واحدًا، فإذا كانت جملًا كلها جوابًا لم تبال بأيها بدأت، إذ المطلوب تحصيلها
(1)
. قاله القرطبي ثم قال: «والصّحيح أن يقال: إن التّرتيب متلقى من وجوه أربعة: الأول: أن يبدأ بما بدأ الله به كما قال عليه الصلاة والسلام حين حجَّ: «نبدأ بما بدأ الله به»
(2)
»
(3)
. فجعل بداية الله سبحانه سببًا للتقدم، وأخذ بعض العلماء من هذا الحديث عموم لفظه دون خصوص السبب
(4)
.
ثمّ ذكر الأوجه الأخرى وهي خارجة عن الآية فقال: «الثّاني: من إجماع السّلف فإنّهم كانوا يرتبون. الثّالث: من تشبيه الوضوء بالصّلاة. الرّابع: من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك»
(5)
.
ومن قال بعدم اشتراط الترتيب فمأخذ الحكم عندهم: أن العطف بين الأعضاء بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، إنّما تفيد مطلق الجمع
(6)
.
وأجاب عنه: البعض بأنّ نحاة الكوفة قائلون باقتضائها التّرتيب
(7)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578) وقال عنه: "وهذا قول له رونق وليس بمحقق".
(2)
أخرجه أبوداود في كتاب الحج، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في كتاب الحج، باب القول بعد ركعتي الطواف (2961)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء أنه بدأ في الصفا قبل المروة، برقم (862) وقال:"هذا حديث حسن صحيح، وعليه العمل عند أهل العلم". قلت: وفي مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1218) بلفظ (أبدأ بما بدأ الله).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 98)، وانظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(4)
انظر: المغني (1/ 174) تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (1/ 346)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578).
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 451 - 455)، أحكام القرآن للكيا الهراسي (3/ 51)، الإشارات الإلهية للطوفي (2/ 96)، تيسير البيان للموزعي (3/ 112)، الإكليل (2/ 620).
(7)
انظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
قال الموزعي بعد أن ذكر المأخذ السابق: «وأحسن عندي من ذلك كلِّه في الاستدلال ما استدلَّ به الشافعي في الكتاب القديم من قوله صلى الله عليه وسلم في الصفا: «نبدأ بما بدأ الله به»
(1)
، فجعل بداية الله سبحانه سبباً للتقديم»
(2)
.
*
المبحث الثامن: كيفية غسل الأعضاء.
ذهب بعض العلماء إلى أن إجراء الماء على أعضاء الوضوء كاف في تحقق معنى الغسل المأمور به، وليس عليه دلكها بيده
(3)
، واشترط بعضهم إمرار شيء مع الماء في الغسل كاليد ونحوها
(4)
.
ومأخذ الحكم عند الفريقين: راجع إلى لفظ الغسل، وبم يتحقق، وهل يشترط فيه الدلك أو يكفي إمرار اليد على المغسول
(5)
؟.
قال ابن الفرس: «الغسل عند أهل اللغة أن يمر الإنسان الماء على الشيء المغسول مع إمرار شيء منه معه كاليد ونحوها»
(6)
.
قال السيوطي: «قال ابن الفرس: وفي لفظ الغسل دليل على وجوب الدلك وإمرار اليد
…
»
(7)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(3)
انظر: المجموع (1/ 417)، المغني (1/ 290)، الإنصاف (1/ 135)، تيسير البيان للموزعي (3/ 115)، المجموع (1/ 417)، المغني (1/ 290)، الإنصاف (1/ 135).
(4)
انظر: المجموع (1/ 417)، المغني (1/ 290)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 438) و (2/ 562)، تيسير البيان للموزعي (3/ 115).
(5)
انظر: المحلى (1/ 94)، الإكليل (2/ 626).
(6)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 363) وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 439).
(7)
الإكليل (2/ 626).
وقال ابن حزم: «ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة، أو
…
أجزأه، برهان ذلك أن اسم (غسل) يقع على ذلك كله في اللغة التي نزل بها القرآن، ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدليك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به»
(1)
.
تنبيه: هذا المأخذ ليس أصولياً، بل راجع للمعنى اللغوي.
استدل من قال بالدلك - المالكية- كذلك بالقياس على التيمم، فالتيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا
(2)
.
وهذا مأخذ من غير الآية - وهو القياس - والجمهور لهم مأخذ آخر على عدم الدلك، وهو ما ورد من حديث (فأفرغه عليك)
(3)
والسنة تبين القرآن.
*
المبحث التاسع: حدود الوجه.
استنبط بعض العلماء من الآية من أحكام وجوب غسل الوجه، وهو أمرٌ متفق عليه
(4)
- كما سبق -إلّا أن الخلاف واقع فيما يدخل في الوجه
(5)
.
ومأخذ الحكم: يرجع إلى ما تكون به المواجهة التي تدخل في مفهوم الوجه، فالوجه مأخوذ من المواجهة، وهو اسم لبشرة الوجه التي تحصل بها المواجهة، والشعر ليس ببشرة
(6)
.
(1)
المحلى (1/ 94).
(2)
انظر: البحر المحيط لأبي حيان (4/ 188)، التحرير والتنوير لابن عاشور (5/ 65).
(3)
أخرجه البخاري في باب باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء، برقم (344).
(4)
انظر: المغني (1/ 161).
(5)
انظر: المغني (1/ 161).
(6)
انظر: المغني (1/ 165)، تيسير البيان (3/ 116)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 363 - 364).
وحده من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن طولًا ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، وقيل: من العارض إلى العارض
(1)
.
وبناءً على مفهوم المواجهة وأن الأمر هل يكون للباطن كما يكون للظاهر؟ اختلفوا في دخول بعض الأفعال في غسل الوجه.
ومن ذلك: المضمضة والاستنشاق، وقد قال الشافعي عنهما:«ولم أعلم اختلافًا في أن المتوضئ لو تركها عامدًا أو ناسيًا، وصلى لم يعد»
(2)
. وهو مذهب مالك وخالفهما الإمام أحمد وغيره، فالإجماع غير متحقق
(3)
.
واختلف في اللحية هل هي من الوجه ويجب غسلها، ومن قال إنّها ليست منه؛ لأنّ من طالت لحيته لا يقال طال وجهه
(4)
.
وقيل: إنّها منه، حيث إنّها نبتت فيه فتأخذ حكمه، وفيها معنى المواجة
(5)
.
(6)
.
تنبيه: هذا المأخذ ليس أصولياً، بل راجع للمعنى اللغوي.
(1)
المغني (1/ 161)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 364)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 81).
(2)
الأم (1/ 39).
(3)
انظر: المغني (1/ 166)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 365).
(4)
انظر: المغني (1/ 164 - 165)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 364).
(5)
انظر: التفسير الكبير (11/ 303)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 364)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 83).
(6)
التمهيد (30/ 121)، الاستذكار (20/ 121).
*
المبحث العاشر: دخول المرفق في غسل اليدين.
اتفق العلماء على وجوب غسل اليدين - كما سبق - واختلفوا في المرفقين هل تدخلان في الغسل أو لا؟
فذهب جمهور أهل العلم إلى دخولهما في الغسل
(1)
.
ومأخذ الحكم: أن المغيا وهو ما دخل عليه حرف الغاية وهما - المرفقان هنا في الغسل - داخلان في الغاية عند الجمهور، ولاسيما أن الحد من جنس المحدود، فالمرفق من جنس اليد
(2)
.
وبعضهم جعله من التخصيص بالغاية؛ إذ إن اليد عامّة تشمل الكف والذراع والمرفق والمنكب، فخصص بالغاية إلى المرفق، وخرج ما بعده
(3)
.
(4)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 172)، تيسير البيان (3/ 102)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 366).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567)، تيسير البيان (3/ 103)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 366).
(3)
انظر: تيسير البيان (3/ 103)، الإكليل (2/ 625)، المغني (1/ 172)، التحبير للمرداوي (6/ 2630 - 2632).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567)، وقال الموزعي في تيسير البيان (3/ 103): "وحاول بعضهم دلالتها مع بقائها على أصل وضعها، فقال (إلى) هاهنا للإخراج لا للإدخال
…
" ثمَّ ذكر نحواً مما قاله ابن العربي.
ومأخذ آخر: وهو أن (إلى) بمعنى (مع)
(1)
.
قال السيوطي: «ومن أدخلهما قال: إلى بمعنى مع»
(2)
.
(3)
.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى عدم دخول المرفقين في الغسل.
ومأخذ الحكم: أن (إلى) إنما هو لانتهاء الغاية، فما بعدها غير داخل فيما قبلها، فتخرج الغاية ب (إلى)
(4)
.
*
المبحث الحادي عشر: مقدار ما يمسح من الرأس.
اتفق العلماء - كما سبق - على وجوب مسح الرأس
(5)
، واختلفوا هل الواجب مسح جميع الرأس أو بعضه؟
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567)، تيسير البيان (3/ 102)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 366).
(2)
الإكليل (2/ 625)، تيسير البيان (3/ 102).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567).
(4)
انظر: الإكليل (2/ 625).
(5)
انظر: المغني (1/ 175)، تيسير البيان للموزعي (3/ 104).
(6)
ذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب مسحه كله. انظر: المدونة (1/ 16)، مواهب الجليل (1/ 202) المغني (1/ 175)، الفروع (1/ 147)، الإنصاف (1/ 161)
وذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، قدر الناصية. انظر: المبسوط (1/ 6)، البداية (1/ 12)، حاشية ابن عابدين (1/ 99)، مختصر الطحاوي (18).
وذهب الشافعية إلى وجوب مسح ما يطلق عليه أنه مسح. انظر: الأم (1/ 22)، المهذب (1/ 24)، روضة الطالبين (1/ 53). وانظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 104)، الإكليل (2/ 620).
ومأخذ الخلاف راجع إلى معنى (الباء) في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} .
فالذين قالوا: بمسح جميع الرأس ذهبوا إلى أن (الباء) زائدة مؤكدة، فالمعنى: امسحوا رؤوسكم أنفسها، وعليه فيجب مسح جميع الراس على نص الآية
(1)
.
وقال بعضهم: إنّ (الباء) على بابها للإلصاق، ليست بزائدة. والمعنى على ثبوت (الباء) أو سقوطها سواء، وذلك يوجب عموم المسح
(2)
.
قال ابن الفرس: «وهذا الوجه أحسن؛ لأنّ زيادة (الباء) في هذا الموضع غير معروف في كلام العرب»
(3)
.
أمّا الذين ذهبوا إلى جواز مسح البعض فقالوا: إنّ (الباء) للتبعيض، فيقتضي مسح بعض الرأس، وكونها للتّبعيض بيانه - عند من قال به - قالوا: إنّ الباء إذا دخلت على فعل يتعدى من غير (باء) اقتضت التبعيض فيه؛ وذلك لأنّ أهل اللسان فرقوا بين قولهم: (أخذت قميص فلان)، وبين قولهم:(أخذت بقميص فلان) فيحملون الأوّل على أخذ جميعه، والثّاني: على التعلق ببعضه، وكذا في الآية، فإذا قال:(مسحت يدي بالمنديل) و (مسحت يدي بالحائط) عقل من ذلك كله التبعيض، فدّل على أن ذلك مقتضاه
(4)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 176)، تيسير البيان للموزعي (3/ 106، 121) أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369)، الإكليل (2/ 620).
(2)
انظر: المغني (1/ 176)، تيسير البيان للموزعي (3/ 106، 121)، الإكليل (2/ 620).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369).
(4)
انظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 107)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 571)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369).
وقد أنكر بعض أهل اللّغة - كابن جني، وابن برهان - هذا التّفريق، وقال ابن جني:«من قال: إن الباء للتبعيض فقد أتى أهل اللغة بما لا يعرفونه» ، ولذا أولوا ما استدل به على التضمين، أو أن التبعيض إنما استفيد من القرائن
(1)
.
نوقش: بأنها شهادة نفي لا تقبل
(2)
.
وأجيب: بأنها ليست بشهادة نفي، وإنما هو إخبار عن ظن غالب يستند إلى الاستقراء ممن هو أهل لذلك مطلع على لسان العرب
(3)
.
وحمل البعض استعمال (الباء) للتبعيض على المجاز لقرائن ظاهرة في الأمثلة التي ذكروها، والأصل حمل اللفظ على حقيقته، حتى يقوم دليل المجاز
(4)
.
وألزم القائلون بعدم التبعيض في (الباء) القائلين بالتبعيض بآية التّيمم في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} حيث إنّ المسح يكون لجميع الوجه لا بعضه باتفاق
(5)
.
وأجيب عنه: بأن المسح في الرأس أصلٌ، أمّا المسح في التيمم فهو بدل، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، ولما كان المبدل منه غسلاً للوجه كاملًا كذلك
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 571)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369)، وانظر: سر صناعة الإعراب (1/ 123)، وشرح اللمع لابن برهان (1/ 174)، التحبير للمرداوي (2/ 670)، المغني (1/ 176).
(2)
انظر: التحبير للمرداوي (2/ 671).
(3)
انظر: المصدر السابق.
(4)
انظر: البحر المحيط لأبي حيان (4/ 190).
(5)
انظر: المغني (1/ 176)، تيسير البيان للموزعي (3/ 107)، أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 121).
يكون البدل مسحاً للوجه كاملًا
(1)
.
وهناك مأخذ آخر وهو لمن قال بمسح بعض الرأس وهو: أن الحكم إذا علق على اسم، فإنه يكتفي بأول ذلك الاسم، وأقل ما ينطلق عليه. وقد علق المسح هنا بالرأس فلا يشترط الاستيعاب بل يكتفى بالبعض
(2)
.
*
المبحث الثاني عشر: عدد مسح الرأس.
اتفق الجميع على مشروعية مسح الرأس
(3)
، وإنما الخلاف في مشروعية تكرار المسح.
فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يسن تكرار المسح، بل الواجب مسح الراس مرة واحدة
(4)
.
ومأخذه: هو المأخذ السابق فيما إذا عُلِّق الحكم على اسم، فإنه ينطلق على أقل ما يتعلق به، وعلى هذا فإن المسحة الواحدة يقع بها المسح المأمور به، ويسقط الفرض، فالمرة يخرج عن العهدة
(5)
.
وذكر ابن الفرس مأخذاً آخر فقال: «لا سيما وقد رجح حذاق الأصوليين أن الأمر لا يقتضي التكرار»
(6)
.
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 191)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 88).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 105)، الإشارات الإلهية (2/ 95).
(3)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة (1/ 83)، والإشراف في مسائل الخلاف لابن نصر البغدادي (1/ 8).
(4)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 14)، البداية (1/ 13)، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/ 14)، الإنصاف (1/ 163) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 574).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 370 - 371)، الإكليل (2/ 626).
(6)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 371).
*
المبحث الثالث عشر: حكم مسح الأذنين.
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب مسح الأذنين
(1)
.
ومأخذه ظاهر: إذا ضمّ إليه قوله عليه السلام (الأذنان من الرّأس)
(2)
، والرأس يجب مسحه لقوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فهذا أمر يقتضي الوجوب فيجب مسحهما
(3)
.
مأخذ آخر: أن الأذنين إما أن يكونا من الرأس أو الوجه، وليست من الوجه لعدم المواجهة بها، فبقيت من الرأس، والرأس يمسح كما في الأمر بالآية
(4)
.
أما القائل إنهما لا يمسحان؛ فلأن المولى سبحانه قال: {بِرُءُوسِكُمْ} ولم يذكر الأذنين، ولولا أنهما داخلتان في حكم الرأس ما أهملهما، وما كان ربك نسيا، قاله ابن العربي
(5)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 183)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 372).
(2)
أخرجه أبو داوود في الطهارة، برقم (134)، والترمذي في الطهارة، برقم (37)، وابن ماجة في الطهارة، برقم (443، 444، 445)، وصححه الألباني في تخريجه أحاديث ابن ماجة، وقال:" صحيح على كل رواية من الروايات الثلاث: عبد الله بن زيد، وأبي أمامة، وأبي هريرة "
انظر: صحيح سنن ابن ماجة برقم (357، 358، 359)، إرواء الغليل حديث رقم (84)، السلسلة الصحيحة (36).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 371).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 371 - 372).
(5)
انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/ 575).
المبحث الرابع عشر: حكم المسح على العمامة.
ذهب طائفة من العلماء إلى عدم جواز المسح على العمامة
(1)
.
مأخذه: أن الآية أمرت بالمسح على الرأس، ومن مسح على حائل لم يمسح على رأسه، بل مسح على ذلك الحائل
(2)
.
وهو محجوج بآثار وردت في جواز ذلك
(3)
.
*
المبحث الخامس عشر: عدد غسل الأعضاء.
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المجزئ في عدد غسل الأعضاء واحدة
(4)
.
مأخذ الحكم هو: أن أقل ما يقع عليه اسم الغسل مرة واحدة، واحتمل أكثر، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرّة، فوافق ظاهر القرآن، وذلك أقل ما يقع عليه اسم الغسل، واحتمل أكثر، وسنه صلى الله عليه وسلم مرتين وثلاثًا
(5)
.
(1)
انظر: البداية (1/ 30)، الهداية مع شرح فتح القدير (1/ 140)، الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/ 180)، الأم (1/ 22)، المجموع (1/ 406)(1/ 191)، روضة الطالبين (1/ 61)، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 372)، الإكليل (2/ 625).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 372)، الإكليل (2/ 625 - 626).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، برقم (247).
(4)
انظر: المغني (1/ 192)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 390)، الإكليل (2/ 626).
(5)
قال البخاري في صحيحه (1/ 39): باب ما جاء في الوضوء وقول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال أبو عبد الله: «وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضا مرتين وثلاثا، ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم» .
المبحث السادس عشر: غسل الرجل ومسحها.
ذهب جمهور أهل العلماء إلى وجوب غسل الرجل إذا كانت مكشوفة
(1)
، ومسحها إذا كانت بحائل، كالخف والجورب، والأخير يأتي عند الحديث عن المسح على الجورب.
وذهب البعض _ وقد روي عن بعض الصحابة _ القول بالمسح على القدم، ونقل عن ابن جرير القول بالتخيير بين الغسل والمسح
(2)
.
وسبب الخلاف: تعدد القراءات، وتعددها بمنزلة تعدد الآيات
(3)
.
وبيان ذلك: ورد في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} : النصب والجر.
فمن قال بوجوب غسلها - وهم الجمهور - فقد أخذوا بقراءة النّصب، وهي معطوفة على قوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الأمر بغسل القدم مطلق يقتضي الوجوب، وللعلماء في وجه الإعراب وتوجيه القراءة خلاف، والمقطوع به من السنة غسل القدمين، فهي بيان بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
قال الموزعي: «ويدل على أن المراد به الغسل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في جميع
(1)
انظر: المغني (1/ 184)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 90)، أحكام القرآن للكيا الهراسي (3/ 48)، الإشارات الإلهية (2/ 98)، تيسير البيان للموزعي (3/ 108)، الإكليل (2/ 620).
(2)
انظر: جامع البيان للطبري (10/ 63 - 64)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 92).
(3)
انظر: تيسير البيان (3/ 108)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 373)، الإكليل (2/ 620).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 373 - 377)، وورد بالنقل المستفيض من فعله صلى الله عليه وسلم، وأما القول فمنه قوله صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً» ، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح القدمين، برقم (163)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، برقم (241)، وهذا يوجب استيعابهما بالغسل؛ لأن الوضوء اسم للغسل، يقتضي إجراء الماء على الوضوء، والمسح لا يقتضي ذلك.
الحالات والمواطن، ولم ينقل إلينا قط أنه مسح القدمين، ولو كان واجباً أو جائزاً لبيَّنه عن الله سبحانه كما أوجب ذلك عليه»
(1)
.
وحملوا قراءة الجر - على القول بكونها معطوفة على قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} ، على مسح القدم إذا كانت بحائل، كالخف والجورب
(2)
.
ومن قال بأن الواجب أو الجائز في حق الرجلين المسح: فإنهم أخذوا بقراءة الجر وهي معطوفة على الرأس، وفرض الرأس المسح فكذا الرجلين
(3)
.
*
المبحث السابع عشر: حدود القدم المأمور غسلها.
ورد الأمر في الآية بغسل القدم إلى الكعبين، وهما العظمان النائيان في أسفل الساق من جانبي القدم
(4)
، والأمر مغيا بغاية، فذهب الجمهور إلى دخول الكعبين مع القدمين في الغسل
(5)
.
ومأخذ الحكم: هو أن المغيا يدخل في الغاية، كما سبق في اليد مع المرفق
(6)
.
ومن العلماء من جعل معنى (إلى) في الآية بمعنى (مع)
(7)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 109).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 579)، تيسير البيان (3/ 113)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 367).
(3)
انظر: تيسير البيان (3/ 108)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 373)، الإكليل (2/ 620).
(4)
انظر: المغني (1/ 189)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 579).
(5)
انظر: التفسير الكبير (11/ 306).
(6)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 582)، الإكليل (2/ 625).
(7)
انظر: المصدر السابق.
الفصل الثالث في نواقض الوضوء
وفيه أربعة مباحث:
النواقض: جمع ناقض، ونواقض الوضوء: مفسداته، أي: التي إذا طرأت عليه أفسدته. وأتى بلفظ: نواقض، بالجمع للإشارة إلى تعددها واختلافها.
ومناسبة وروده بعد الوضوء ظاهرة؛ إذ إن النقض لا يكون إلا بعد وقوعها.
وقال: نواقض الوضوء، ولم يقل نواقض الطهارة، لأجل الاقتصار على ما ينقض الطهارة الصغرى، دون الكبرى.
*
المبحث الأول: من نواقض الوضوء: إتيان الغائط
(1)
.
دلَّت الآية على أن الخارج من السبيلين من نواقض الوضوء، وعبَّر المولى سبحانه وتعالى عنه بلفظ {الْغَائِطِ} ، وهو كناية عن الحدث من النواقض الصغرى
(2)
.
(1)
الغائط: الغوط: عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمطمئن من الأرض، ولموضع قضاء الحاجة غائط؛ لأن العادة أن يقضي في المنخفض من الأرض حيث هو أستر
…
والغائط: اسم العذرة نفسها؛ لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان. وقيل: لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط وقضو الحاجة، فقيل لكل من قضى حاجته: قد أتى الغائط يكنى به عن العذرة. انظر: لسان العرب (7/ 365).
(2)
كالبول والغائط بالإجماع، فالغائط اسم العذرة نفسها؛ لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان. وقيل: للمنخفض من الأرض؛ لأن العادة أن يقضي فيها لأنه أستر له، فكانوا إذا أرادوا ذلك أتو الغائط وقضوا الحاجة، فقيل لكل من قضى حاجته: قد أتى الغائط، ويكنى بها عن العذرة.
انظر: المغني (1/ 230)، لسان العرب (7/ 365).
ومأخذ الحكم: الأول: الأمر الوارد بقوله {فَتَيَمَّمُوا} : أي إن جئتم من الغائط، مما يدلُّ على كونه ناقضاً. لأن الوضوء والتيمم رافعان لهذه الأحداث فأمر بهما.
ثانياً: مفهوم الشرط فيه وهو: إن لم يأت الغائط فهو غير مأمور بالتيمم أو الوضوء.
تنبيه: ذكر العلماء إن لفظ {الْغَائِطِ} في الآية يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى
(1)
.
ويؤيد هذا ما قدَّره العلماء في صدر الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} حيث قدَّروا: (إذا قمتم محدثين) فيدخل فيه كل حدث. والأحداث منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه.
(2)
.
(3)
. وسيأتي ذكر بعضها، وهناك نواقض أخرى يرجع إليها في كتب الفقه.
(1)
انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (2/ 58)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 220).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 213).
(3)
فتح الباري (1/ 289).
المبحث الثاني: من نواقض الوضوء ملامسة النساء.
أما ملامسة النساء. فقد اختلف العلماء في المراد منها في الآية
(1)
.
فقيل: الجماع. وقيل: مجرد اللمس باليد. ورجَّح كل فريق ما ذهب إليه بأدلة وقرائن، وكل قول قال به نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فقال بكونه الجماع علي وابن عباس رضي الله عنهما، وقال بكونه اللمس باليد عمر وابنه وابن مسعود رضي الله عنهم
(2)
.
وأرجع بعضهم الخلاف فيها للخلاف في القراءتين الواردتين فيهما
(3)
، وهما:{أَوْ لَامَسْتُمُ} أو {لمستم} .
فقيل: معناهما واحدٌ.
وقيل: إن قراءة {لمستم} بدون ألف: الجماع، ويحتمل أن يكون المراد مجرد اللمس باليد. أمّا قراءة {أَوْ لَامَسْتُمُ} بالألف فهي بمعنى الجماع
(4)
.
ومأخذ الحكم: الأول: الأمر الوارد بقوله {فَتَيَمَّمُوا} : أي إن لمستم النساء، مما يدلُّ على كونه ناقضاً. لأن الوضوء والتيمم رافعان لهذه الأحداث فأمر بهما.
ثانياً: مفهوم الشرط فيه وهو: إن لم يلمس النساء فهو غير مأمور بالتيمم أو الوضوء.
(1)
انظر: المغني (1/ 256)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 443 - 444)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 198).
(2)
انظر: التفسير الكبير (10/ 89)، المحرر الوجيز (2/ 58 - 59)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 444)، تيسير البيان (2/ 411)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 198 - 199)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 224)، الإكليل (2/ 619).
(3)
انظر: المصادر السابقة.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 224)، الإكليل (2/ 619).
تنبيه: على القول بأن قراءة {أَوْ لَامَسْتُمُ} بالألف بمعنى الجماع فإنّ الآية بالمعنى تكون شاملة للحدثين الأصغر والأكبر.
فالأصغر في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والأكبر في قوله تعالى: أو {لمستم} ، {أَوْ لَامَسْتُمُ} وهو الجماع.
وقيل: إنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة، وهو الملامسة، فبيّن حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد حكمهما عند وجود الماء، فلا يمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس.
(1)
.
وأجيب بأنه: إن أريد منه اللمس باليد، فإنّه يكون قليل الفائدة؛ إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من واد واحد، ولا تكون الآية حينئذ شاملة لحكم وجوب التّيمم للجنب إذا لم يجد الماء.
وحمل اللمس على الجماع قواه ابن تيمية معتمدًا على قاعدة: «إنّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا عُلم أن هذا ليس من دينه
…
وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلمٌ أنه أمر الناس
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 444)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 224).
بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه»
(1)
.
واستدل أصحاب هذا القول بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصّلاة ولم يتوضأ
(2)
.
تنبيه ثان: دلَّت الآية على أن الجنب يجب أن يغتسل، والعلماء يقولون: إن ما أوجب الغسل فإنه يوجب الوضوء، بمعنى يكون ناقضاً من نواقض الطهارة.
ومأخذ الحكم من الآية هو: أولاً: الأمر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
ثانياً: اقتران الحكم وهو الطهارة، بالوصف وهي الجنابة، دلالة على كون الجنابة علّة وسبب للطهارة بدلالة الإيماء والتنبيه.
وإذا قلنا بأن ما أوجب الجنابة فإنه يوجب الوضوء فيدخل في النواقض ما توجبه الجنابة، كالجماع، ونزول المني، والحيض، والردة.
تنبيه ثالث: يتفرع على القول بأن المقصود باللمس اللمس باليد أنه لا فرق بين اللمس بشهوة وبدون شهوة، ويشهد لذلك ظاهر القرآن
(3)
.
ومأخذ الحكم: هو أن المطلق يجري على إطلاقه، فلا يقيد بشهوة إلا بدليل.
(1)
مجموع الفتاوى (25/ 236 - 238).
(2)
اخرجه أبو داوود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة، برقم (86)، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من القبلة (1/ 104)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4/ 273).
(3)
انظر: تفسير الإمام الشافعي (2/ 709).
*
المبحث الثالث: عدم النقض من مس الصغيرة.
استدل بعض العلماء بالآية على أن لمس الصّغيرة ليس بناقض.
ومأخذ الحكم: مفهوم قوله {لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فإن الذي يفهم من تعليق الحكم على صفة من صفتي الذات الدلالة على نفيه عن الآخر. باعتبار أن الحكم علق على الأنثى، فتدخل النساء، وتدخل الصبية. أو الكبيرة والصغيرة، والنساء وصف للكبيرة، فتخرج الصغيرة
(1)
والله أعلم.
*
المبحث الرابع: من نواقض الوضوء النوم.
ومن النواقض: النوم، على خلاف بين العلماء هل هو ناقض وحدث بذاته، أو أنه سبب للحدث
(2)
.
وإن قلنا إنه حدث بذاته فإنّه ينقض الوضوء قليله وكثيره، ولم يخص نومًا من نومٍ.
وإن قيل: بأنّه ليس بحدث فالأصل أنه ليس بناقض إلّا بيقين خروج الحدث. إلا أن من العلماء الذين قالوا بأنه سبب للحدث وليس بحدث قالوا بنقض الوضوء من النوم الكثير أو المستغرق؛ لأنه مظنة للحدث، والمظنة تنزل منزلة المئنة
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 445)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 228).
(2)
انظر: المغني (1/ 234)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 559)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 355 - 356).
(3)
قالوا: إن حالة النوم المستغرق وما يماثله تجعل الأعضاء فيها مسترخية، وقد لا يقدر على دفع ما ينتقض به الوضوء؛ لذا قالوا: بأن المظنة تنزل منزلة المئنة، واعتبروا ذلك من النواقض الحكمية، وليس من النواقض الحقيقية، التي هي أحداث بذاتها.
ومأخذ كون النوم ناقضاً: ما قدَّره العلماء في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} حيث إنه قدَّروا: (إذا قمتم إلى الصلاة وقد نمتم)
(1)
باعتبار أن المقدَّر عندهم كالمذكور.
قال ابن الفرس مؤيداً هذا التقدير، ومقدِّمه على تقدير (إذا قمتم محدثين) فقال:«لأنّ الأحداث مذكورة بعد هذا فأغنى ذلك عن ذكره، وأمّا النّوم فلم يقع له ذكر، وليس بحدث، وإنّما هو سبب للحدث على الأصح في ذلك، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار بغير فائدة، فبهذا رجح جماعة من أهل العلم هذا القول»
(2)
.
وأشار بعض العلماء إلى سبب تقدير النوم، وهو بالنظر إلى سبب نزول الآية، حيث:«إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}»
(3)
.
قلت: وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المراد بالقيام هنا، القيام للصلاة، وليس من النوم، فهي عامة لمن قام من نوم أو غيره
(4)
.
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 559)، تيسير البيان (3/ 100)، الإكليل (2/ 618).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 355)، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 48)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 82).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، برقم (4608).
(4)
انظر: معالم التنزيل (3/ 2)، المحرر الوجيز (2/ 161)، القرآن العظيم (3/ 44)، التحرير والتنوير (6/ 161).
(5)
المحرر الوجيز (2/ 161)
تنبيه: إن قلنا بأن الآية دلَّت على حكم النوم، فيدرج معه ما يكون في معناه مما يؤدي إلى زوال العقل، كالإغماء، والسكر، كما سبق. وكون زوال العقل من نواقض الوضوء حكماً نُقل الإجماع عليه
(1)
.
(2)
.
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 560).
(2)
المغني (1/ 234).
(3)
المغني (1/ 234).
الفصل الرابع في المسح على الخفين والغسل وحكم الجنب
وفيه مبحثان:
الخفان: واحدهما خف، وهو: ما يلبسه الانسان، ويجمع على خفاف
(1)
.
ويدخل في حكم الباب الجورب، وهو لفافة الرِّجل، ولعله المصنوع من الصّوف أو القطن أو الحرير، أو مشترك بين اثنين فأكثر
(2)
.
وفي وقتنا الحاضر تعددت المنسوجات فتصنع الجوارب من الأنواع السّابقة ومن النايلونات، وتسمى في وقتنا الحاضر بالشّراب
(3)
.
ويدخل فيه الجرموق وهو: خفٌ يلبس فوق الخف، والموق وهو بالمعنى السّابق. وقيل غير ذلك
(4)
.
والجنابة في الاصطلاح: حدث أكبر يقوم بالبدن سببه التقاء الختانين، أو خروج المني دفقاً بلذة
(5)
.
(1)
انظر: تهذيب اللغة (7/ 8).
(2)
انظر: فقه الممسوحات للدكتور علي الغامدي (212).
(3)
انظر: المصدر السابق (213).
(4)
انظر: تهذيب اللغة (9/ 384)، لسان العرب (10/ 350)، القاموس المحيط (1194).
(5)
تسهيل الفقه للجبرين (1/ 482).
*
المبحث الأول: مشروعية المسح على الخفين
(1)
قال ابن قدامة: «والمسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم»
(2)
.
استدل العلماء بقوله: {وَأَرْجُلِكم} بكسر اللام على مشروعية المسح على الرجلين إذا كان عليهما خف، فعطفوا الأرجل على المسح على الرأس، في قوله:{وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين} .
ولما كانت القراءتان محتملتين وجائزتين لغة، فقد حمل العلماء قراءة النّصب في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} على العطف على المنصوب في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فعطف بالنّصب مغسولًا على مغسولٍ، وجعلوا فرض الرِجلين الغسل، وذلك إذا لم يكن على القدمين خف أو نحوه. وإن كان على القدمين خُفٌّ فجعلوا فرض الوضوء مسح القدمين، استدلالًا بالقراءة الثانية، وهومن عطف الممسوح على الممسوح
(3)
.
مأخذ الحكم: أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة؛ فإنّ لهما حكم الآيتين؛ ولذا حملوا فرض غسل القدم على قراءة النّصب، وفرض مسح القدم [الخف] على قراءة الخفض كما سبق
(4)
.
قال السيوطي: «قُرئ النصب والجر، فالأولى للغسل، والثانية لمسح الخف؛ لأن تعدد القراءات بمنزلة تعدد الآيات»
(5)
.
(1)
انظر: الهداية (1/ 28) شرح فتح العزيز (1/ 144)، تبين الحقائق (1/ 46)، نهاية المحتاج (1/ 199)، المجموع (1/ 462)، الإنصاف (1/ 169).
(2)
المغني (1/ 359).
(3)
انظر: تيسير البيان (3/ 113)، الإكليل (2/ 620).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 435)، مجموع الفتاوى (21/ 128 - 134)، الإكليل (2/ 620).
(5)
الإكليل (2/ 620).
*
المبحث الثاني: وجوب الغسل من الجنابة.
يجب الغسل من الجنابة باتفاق أهل العلم
(1)
.
قال ابن العربي: «هذه الآية أصل في وجوب الطهارةمن الجنابة»
(2)
.
مأخذ الحكم: الأول: الأمر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
الثاني: اقتران الحكم وهو الطهارة، بالوصف وهي الجنابة، دلالة على كون الجنابة علّة وسبب للطهارة. بدلالة الإيماء والتنبيه.
أو يقال: علق الأمر بشرط، والشرط هنا علة ثابتة وهي الجنابة، فيتكرر الأمر بتكرارها اتفاقاً، فتكون الجنابة علة للتطهير
(3)
.
*
المبحث الثالث: حكم اللبث والمرور للجنب في المسجد.
هذه المسألة ليس لها علاقة بآية الوضوء في سورة المائدة بل هي متعلقة بآية النساء، لذا لم تدرس.
(1)
انظر: المغني (1/ 265)، الإكليل (2/ 622).
(2)
أحكام القرآن (2/ 369).
(3)
انظر: التحبير (5/ 2220).
الفصل الخامس في التيمم
وفيه ثلاثة عشر مبحثاً:
التيمم لغة: القصد
(1)
.
واصطلاحاً: استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهر بشرائط مخصوصة، وعلى صفة مخصوصة
(2)
.
ومما روي في سبب شرعيتها، ما رواه البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقدٌ لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبوبكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبوبكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر: قالت:
(1)
انظر: مقاييس اللغة (6/ 152).
(2)
وهو للحنفية دون زيادة على صفة مخصوصة، انظر: بدائع الصنائع (1/ 309)، والبناية شرح الهداية (1/ 510).
فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته)
(1)
.
(2)
.
والتيمم من الخصائص التي خصَّ الله بها أمة الإسلام، وقد ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .. » الحديث متفق عليه
(3)
. وعند مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)
(4)
.
وقد نصَّ المولى سبحانه على بعض الحِكم من شرعة التيمم بقوله سبحانه في آية المائدة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فذكر سبحانه من الحِكم: رفع الحرج، وإرادة التطهير، وإتمام نعمته سبحانه بإباحته لنا التيمم، مع سائر نعمه السابقة واللاحقة، جعلنا الله من الشاكرين.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التيمم أول حديث من دون ترجمته، برقم (334)، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم برقم (367).
(2)
التمهيد (19/ 279).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التيمم، وقول الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، برقم (335)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
وهذه الحِكم يلتفت إليها العلماء عند استنباط الأحكام.
*
المبحث الأول: مشروعية التيمم بالصعيد.
يستنبط من الآية مشروعية التيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء، وهو طهور لكل مسلم، مريض، أو مسافر، سواء كان جنبًا، أو على حدث، وهذا الحكم مجمع عليه
(1)
.
ومأخذ الحكم بمشروعية التيمم: الأمر في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا} وهو هنا على أصله للوجوب، وهو بدل عن الماء ويأخذ حكمه.
تنبيه: اختلف العلماء في اشتراط الغبار في الصعيد:
فذهب طائفة من أهل العلم إلى عدم اشتراط الغبار
(2)
.
وقالوا: والصعيد هو: وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن عليه تراب، فكل ما صعد على وجه الأرض فهو صعيد يجوز التيمم به
(3)
.
ومأخذهم: أن قوله سبحانه: {صَعِيدًا} مطلق - لكونه نكرة في سياق إثبات، والمطلق يجري على إطلاقه
(4)
.
قال الجصاص: «لما قال الله {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وكان الصعيد اسماً
(1)
انظر: الإجماع لابن المنذر (36)، الإفصاح لابن هبيرة (1/ 156)، المغني (1/ 310)، شرح صحيح الإمام مسلم للنووي (4/ 279).
(2)
انظر: التفسير الكبير (11/ 314)، البحر المحيط (4/ 194).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 448)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 227)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 208) الهداية للمرغيناني (1/ 25)، الشرح الكبير للرافعي (1/ 255)، مغني المحتاج (1/ 96)، المغني (1/ 324)، كشاف القناع (1/ 172).
(4)
انظر: وأحكام القرآن للجصاص (2/ 487)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 67)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 229)، تفسير السعدي (223).
للأرض اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض»
(1)
.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى اشتراط الغبار في الصعيد
(2)
.
ومأخذهم: أن المراد بالصعيد التراب ذو الغبار.
أما اختصاصه بالتراب فلقوله عليه السلام: «وجعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً»
(3)
.
ونقل عن الشافعي قوله: لا يقع الصعيد إلّا على تراب ذي غبار
(4)
.
قال إلكيا الهراسي: «ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصاً فيما قاله الشافعي»
(5)
..
وأما اشتراط كونه ذا غبار، فهو استدلال بالآية، وذلك بقوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فقالوا: {مِنْهُ} أي: من بعضه، وهذا يلزم منه علوق شيء من الصعيد، ولا يكون إلا بتراب ذي غبار
(6)
.
ف (من) في قوله: {مِنْهُ} تبعيضية، وهذا يلزم منه اشتراط علوق شيء من التراب بيد المتيمم، ينقل إلى أعضاء المتيمم كما ينقل الماء إلى أعضاء المتوضئ
(7)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 487).
(2)
انظر: التفسير الكبير (11/ 314)، البحر المحيط (4/ 194)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 209)، الإكليل (2/ 623).
(3)
أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد مواضع الصلاة، برقم (521).
(4)
انظر: الشرح الكبير للرافعي (1/ 255)، مغني المحتاج (1/ 96)، الإكليل للسيوطي (2/ 623).
(5)
أحكام القرآن (3/ 57).
(6)
انظر: التفسير الكبير (11/ 136)، الإكليل (2/ 623).
(7)
انظر: الإكليل (2/ 623).
نوقش: أن (من) في الآية لابتداء الغاية
(1)
.
*
المبحث الثاني: اشتراط كون الصعيد طاهراً.
اتفق العلماء على اشتراط كون الصعيد طاهراً، لقوله:{طَيِّبًا} أي: طاهراً بالإجماع
(2)
.
ومأخذ الحكم: مفهوم الصفة الواردة في الآية، ومفهومه أن الأرض الخبيثة والنجسة، لا يشرع التيمم بها، وهذا بالإجماع أيضًا
(3)
.
قال ابن تيمية: «فإنّه لا خلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور»
(4)
وهو يريد النجسة.
وقال ابن جرير الطبري: «وأمّا قوله: {طَيِّبًا} فإنّه يعني به طاهرًا من الأقذار والنجاسات»
(5)
.
تنبيه: قال ابن الفرس: «واختلف فيمن تيمم على أرض نجسة، فقال ابن القاسم إذا ذهب الوقت أجزأه، وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا يجزؤه تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} والمراد بالطيب هنا هو الطاهر»
(6)
.
(1)
انظر: التفسير الكبير (10/ 90)، البحر المحيط (3/ 657)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 584)، أضواء البيان (1/ 353).
(2)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 334)، بداية المجتهد (1/ 139)، المجموع (2/ 173)، المغني (1/ 334)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 448).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (4/ 30)، المغني (1/ 334).
(4)
الفتاوى الكبرى (4/ 296)، مجموع الفتاوى (31/ 107).
(5)
جامع البيان (7/ 82).
(6)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 210).
*
المبحث الثالث: من شروط التيمم عدم وجود الماء.
من شروط التيمم عدم وجود الماء باتفاق أهل العلم
(1)
.
ومأخذ الحكم: تعليق الأمر بالتيمم على شرط عدم وجود الماء، والمعلق على شرط يثبت بثبوته.
*
المبحث الرابع: التيمم عن الحدثين.
استدل العلماء بالآية على جواز التّيمم عن الحدث الأكبر والحدث الأصغر
(2)
مأخذ الحكم: تعليق الشارع الحكم وهو الأمر بالتيمم على شروط هنا، وذكر من الشروط {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} لبيان الحدث الأصغر، وقوله {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهو الجماع لبيان الحدث الأكبر. والمعلق على شرط يثبت بثبوته، فظاهر القرآن عود قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إلى الحدث والجنب جميعاً
(3)
.
ويلزم من وجود الشرط، وهو الحدث، وجود المشروط، وهو: التيمم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.
(1)
انظر: المغني (1/ 314).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 493)، أحكام القرآن للهراسي (2/ 233)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 464)، تيسير البيان (3/ 122)، الإكليل للسيوطي (2/ 623).
(3)
انظر: أضواء البيان (2/ 42).
المبحث الخامس: مشروعية التيمم للمريض مطلقاً.
مشروعية التيمم للمريض مطلقا سواء وجد الماء او لم يجده
(1)
.
أما عند عدم وجود الماء فباتفاق أهل العلم - كما سبق - في حكم العادم مطلقاً، سواء كان مريضاً، أو صحيحاً.
قال ابن رشد: «فأجمع العلماء أنها [أي طهارة التيمم] تجوز لاثنين للمريض وللمسافر إذا عدما الماء»
(2)
.
وقال ابن العربي: «ومطلق اللفظ يبيح التيمم لكل مريض إذا خاف من استعماله وتأذيه بالماء»
(3)
.
وأما عند وجود الماء، فاستدل بعضهم بالآية على عدم جواز تيممه
(4)
.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط الوارد في الآية، حيث دلَّت الآية بمنطوقها على جواز التيمم عند عدم الماء، وبمفهوم شرطها على عدم جواز التيمم مع وجود الماء، ولم تفرق بين مريض وصحيح
(5)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اعتبار المفهوم هنا، وعليه فيجوز للمريض إذا عجز عن الماء أن يستعمل التراب ويتيمم
(6)
.
(1)
انظر: المبسوط (1/ 108)، مواهب الجليل (1/ 504)، المجموع (2/ 210)، الإفصاح لابن هبيرة (1/ 66)، المغني (1/ 316، 335)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 360).
(2)
بداية المجتهد (1/ 130) وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم (43).
(3)
أحكام القرآن (1/ 440).
(4)
انظر: المغني (1/ 335).
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 219).
(6)
انظر: تيسير البيان (2/ 399)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 219).
ومأخذهم في عدم الأخذ بالمفهوم: كونه معارضاً بالمنطوق الوارد بالسنة
(1)
، وهو ما روي عن بعض الصحابة أنّه أصابته جنابة، وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:«قتلوه قتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم»
(2)
.
لذا يرى الرازي أنه ليس في الآية دلالة على منع المريض من التيمم عند وجود الماء، وإنما دلت السنة على جوازه
(3)
.
ومن العلماء من يستدل بدلالة معنى المرض في الآية على منع المريض من التيمم عند وجود الماء
(4)
، وهذا يشبه قول الأصوليين: يستنبط من النص معنى يخصصه، والله أعلم.
قال ابن عاشور: «وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطف على فعل الشرط، وهو قيد في المسافر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء، أمّا المريض فلا يتقيد تيممه بعدم وجدان الماء؛ لأنه يتيمم مطلقا، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض،
(1)
انظر: بداية المجتهد (1/ 131)، المجموع (24/ 228).
(2)
أخرجه أبو داوود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم برقم (336).
قال أن ابن حجر: "رواه أبو داوود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على روايته"، وضعفه الألباني. انظر: بلوغ المرام (45)، وإرواء الغليل (1/ 142 - 143).
(3)
انظر: التفسير الكبير (10/ 88 - 89).
(4)
قال الرازي في تفسيره (11/ 309): " المرض على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخاف الضرر والتلف، فههنا يجوز التيمم بالاتفاق. الثاني: أن لا يخاف الضرر ولا التلف، فههنا قال الشافعي: لا يجوز التيمم، وقال مالك وداود يجوز، وحجتهما أن قوله وإن كنتم مرضى يتناول جميع أنواع المرض. الثالث: أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض، فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله. وبه قال مالك وأبو حنيفة -رحمهما الله-، والدليل عليه عموم قوله وإن كنتم مرضى الرابع: أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه، قال في «الجديد»: لا يتيمم. وقال في «القديم» يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية. "، وانظر كذلك تفسيره (10/ 88).
فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطل بدلالة المعنى»
(1)
.
والخلاصة: إن إباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء، بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء، ولذا قالوا: إن كان المرض يسيراً لم يبح له التيمم.
وهناك مأخذ آخر ذكره بعض العلماء: وهو أن في الآية مقدراً، تقديره:(وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء فتيمموا). وقالوا: إن مرجع الضمير في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} إنما يعود إلى المسافر فقط
(2)
.
وذكر ابن الفرس مأخذاً في الخلاف في دخول المريض الواجد للماء، وكذا الحاضر العادم للماء هل هما من أهل التيمم أم لا؟ أنه راجع إلى معنى (أو) في قوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فقال: «في (أو) هنا تأويلان: أنها على بابها من أن تكون لأحد شيئين. الثاني: أنها بمعنى الواو، وعلى هذين التأويلين ينبني اختلاف العلماء في المريض الواجد للماء والحاضر العادم للماء، هل هما من أهل التيمم أم لا؟ فمن أبقى (أو) على بابها رأهما من أهل التيمم
…
ومن رأى (أو) في الآية بمعنى الواو لم يرهما من أهل التيمم؛ لأنه بعيد
…
»
(3)
.
*
المبحث السادس: مشروعية التيمم للمسافر العادم للماء.
مشروعية التيمم للمسافر العادم للماء
(4)
.
ومأخذه: المأخذ السابق، وهو تعليق الحكم وهو الأمر بالتيمم على شرط عدم وجود الماء، والمعلق على شرط يثبت بثبوته.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (5/ 67).
(2)
انظر: بداية المجتهد (1/ 131)، المجموع (2/ 228).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 196، 361).
(4)
انظر: الهداية (1/ 27)، المقدمات (1/ 111)، المجموع (2/ 242)، المغني (1/ 310).
مأخذه: أن المطلق يجري على إطلاقه
(1)
.
تنبيه: هل لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} مفهوم صفة مخالف، بحيث إنّ غير المسافر لا يجوز له التيمم ولو أكثر المفسرين عدم الماء؟
على أن السفر ذكر في الآية لأنّه في الغالب يفقد معه الماء، وإذا كان كذلك فلا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب، ويبنى عليه مشروعية التيمم في الحضر لمن عدم الماء، سواء عدم الماء حقيقة أو حكمًا
(2)
.
قال ابن قدامة: «ومن حال بينه وبين الماء سبعٌ، أو عدو، أو حريق، أو لص، فهو كالعادم. ولو كان الماء بمجمع الفساق، تخاف المرأة على نفسها منهم، فهي عادمة»
(3)
.
ومن العلماء من أرجع سبب الخلاف في كون الحاضر العادم للماء يجوز له التيمم أولا، إلى الاختلاف في عود الضمير في قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، هل يعود على الحاضرين والمسافرين، أو على المسافرين فقط، فمن رآه عائداً على المسافرين فقط أو على المرضى والمسافرين لم يُجز التيمم للحاضر العادم للماء
(4)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 311).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 443)، فتح القدير للشوكاني (1/ 541)، فتح البيان لمحمد صديق خان (3/ 125).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 310)، المغني (1/ 315).
(4)
انظر: البيان والتحصيل (1/ 70)، والمقدمات الممهدات (1/ 73).
*
المبحث السابع: أعضاء التيمم.
التيمم يكون بالوجه واليدين إجماعًا
(1)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب مسح جميع الوجه
(2)
، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، كما سيأتي.
ومن العلماء من قال بعدم وجوب الاستيعاب
(3)
.
أما مأخذ القائلين بوجوب مسح جميع الوجه:
أولاً: هو أن: (الباء) في الآية للإلصاق، أو أنها زائدة
(4)
، والمعنى:(فامسحوا وجوهكم)، فيجب تعميمه
(5)
.
الثاني: القياس، فكما يجب تعميمه بالغسل، فكذا بالمسح في التيمم، وذلك لأنّ التيمم بدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل من تمام الرّكن، فكذا البدل وهو التيمم، فوجب استيعاب الوجه كله
(6)
.
الثالث: الإجماع، كما سبق. قال القرطبي:«ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب، وتتبع مواضعه»
(7)
.
أما مأخذ من بعدم وجوب الاستيعاب: فهو القياس على مسح الرأس
(1)
انظر: المغني (1/ 331)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 210)، الإكليل (2/ 623).
(2)
انظر: المبسوط (1/ 107)، بدائع الصنائع (1/ 314 - 315)، المنتقى (1/ 114)، مواهب الجليل (1/ 510 - 511)، الأم (2/ 103)، المجموع (2/ 168)، المغني (1/ 331)، كشاف القناع (1/ 411).
(3)
رواية عن أبي حنيفة. انظر: المبسوط (1/ 107)، البناية (1/ 528)، البحر الرائق (1/ 252).
(4)
انظر: المغني (1/ 331)، تيسير البيان (3/ 121).
(5)
انظر: المغني (1/ 332).
(6)
انظر: شرح العناية (1/ 126)، المعونة (1/ 145)، البيان (1/ 284).
(7)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 230).
والخف، بجامع كون الجميع مسحاً
(1)
.
ونوقش: بأن حكم الأصل مختلف فيه، فلا يصح القياس.
قال ابن حزم: «والصحيح أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع ولا مزيد: مسح الرأس، ومسح الوجه واليدين في التيمم، ومسحٌ على الخفين والعمامة والخمار، ومسح الحجر الأسود في الطواف، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار، ثم نقضوا ذلك في التيمم، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكماً بلا برهان
…
فمن أين وقع لهم تخصيص المسح بالاستيعاب بلا حجة، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من لغة، ولا من إجماع، ولا قول صاحب، ولا قياس»
(2)
.
*
المبحث الثامن: حد اليدين في التيمم.
اختلف العلماء في حد اليدين في التيمم:
فذهب بعض العلماء إلى القول بأن المسح يكون إلى الآباط
(3)
، ومنهم من قال: إلى المرفقين
(4)
، ومنهم من قال: إلى الكوعين
(5)
، أو للكفين
(6)
.
(1)
انظر: المبسوط (1/ 107).
(2)
المحلى لابن حزم (1/ 376 - 377).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 212)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 240).
(4)
انظر: المبسوط (1/ 107)، المدونة (1/ 42)، الأم (2/ 102)، الحاوي (2/ 950)، المجموع (2/ 168)، الفروع (1/ 298).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 211)، قال ابن قدامة في المغني (1/ 347):" وظاهر كفيه إلى الكوعين ".
(6)
انظر: الحاوي للماوردي (2/ 950)، المهذب (1/ 125)، الفروع (1/ 298)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 212).
ومأخذ من قال للآباط: الإطلاق الواردة في الآية، فكل ما كان من أطراف الأصابع إلى الآباط فإنه يطلق عليه اسم اليد
(1)
.
قال البيضاوي: «واليد اسم للعضو إلى المنكب»
(2)
.
وقال ابن الفرس: «ومن قال: الإبط بناه على تعلق الحكم بآخر الاسم؛ إذ ذاك أكثر ما ينطلق عليه اسم اليد»
(3)
.
نوقش: نسلم بأن اليد تطلق على ذلك، لكن دلَّت السنة وبينت المراد، وهو إلى الكوعين، أو الكفين كما في حديث عمار رضي الله عنه.
ومأخذ من قال إلى المرفقين: إمّا قياس التيمم على الوضوء
(4)
، أو حمل المطلق الوارد في آية التيمم على المقيد بأية الوضوء، وقد اتحدا سببًا واختلفا حكمًا
(5)
.
فسببهما الطهارة ورفع الحدث. والحكم في الوضوء الغسل، وفي التيمم المسح.
نوقش: بأنه القياس فاسد؛ لأنه في مقابل النص، وحمل المطلق على المقيد يصح عند من يقول بالحمل مع اختلاف الحكم.
ومأخذ من قيّده إلى الكوع: حمل الأيدي المطلقة هنا على التقييد الوارد في
(1)
انظر: جامع البيان للطبري (8/ 417)، التفسير الكبير (11/ 313)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 212)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 240).
(2)
أنوار التنزيل للبضاوي (2/ 76).
(3)
أحكام القرآن (2/ 212).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 494)، روح المعاني (3/ 43)، وهو المشهور عند الشافعية. انظر: المجموع (2/ 168).
(5)
انظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (4/ 591)، تيسير البيان (3/ 116).
آية القطع في السرقة، وهي مقيدة بفعله عليه الصلاة والسلام
(1)
.
نوقش: بأنهما اختلافا حكمًا، ففي السرقة قطع، وفي التيمم مسح، واختلفا سببًا ففي السرقة: السرقة، وفي التيمم: رفع الحدث، فلا يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة بالاتفاق
(2)
.
ومأخذ من جعل المسح إلى الكوعين:
أولاً: أن اليدين عند الإطلاق يراد بها الكوعين فقط؛ لأنه لو أراد إلي الإبطين، أو إلى المرفقين، أو الذراعين لقيدها به، كما قيَّدها في الوضوء إلى المرفقين.
(3)
.
ثانياً: القياس على القطع؛ إذ هو حكم شرعي وتطهير، كما أن التيمم تطهير
(4)
.
ونوقش: بأنه في القطع عقوبة، لا يؤخذ فيها إلا باليقين، والتيمم عبادة، والعبادات يؤخذ فيها بالاحتياط
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 212)، والوار في فعله ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم:«قطع سارقاً من المفصل» ، والمراد بالمفصل كما يقول البيهقي هنا: مفصل الكف. والحديث فيه مقال، وله شواهد ذكرها الألباني.
انظر: السنن الكبرى (8/ 270 - 271)، ونصب الراية للزيلعي (3/ 280)، إراوء الغليل للألباني (8/ 81 - 82).
(2)
انظر: المنخول (177)، الإحكام للآمدي (3/ 4)، المطلق والمقيد د. حمد الصاعدي (236).
(3)
انظر: تفسير السعدي 233.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 240).
(5)
انظر: المبسوط (1/ 107).
مأخذاً آخر: ذكره ابن الفرس فقال: «فمن قال إلى الكوعين كان ذلك منه بناء على تعليق الحكم بأول الأسماء؛ لأن اليد هي من أطراف الأصابع إلى الإبط، وأقل ما ينطلق عليه اسم اليد إلى الكوعين»
(1)
.
ومأخذ من قال إلى الكفين: فهو حديث عمّار كما عند البخاري أنّه أجنب فلم يجد الماء فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدَّابة، وفيه أنه قال: ثمّ أتيت الرسول فذكرت ذلك له، فقال:«إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بالأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه»
(2)
.
*
المبحث التاسع: حكم تكرار المسح.
اختلف العلماء في مشروعية تكرار المسح من عدمه.
وذهب الجمهور إلى عدم التكرار
(3)
.
ومأخذ الحكم: إطلاق المسح في الآية، وهو يتحقق بالمرة الواحدة
(4)
.
*
المبحث العاشر: حكم طلب الماء والتيمم لكل صلاة.
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب طلب الماء
(5)
.
مأخذ الحكم: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} أمر يوجب التّكرار،
(1)
أحكام القرآن (2/ 112).
(2)
أخرجه البخاري كتاب الطهارة، باب التيمم للوجه والكفين برقم (339).
(3)
انظر: المبسوط (1/ 107)، المنقى (1/ 39)، الذخيرة (1/ 352)، الحاوي (2/ 1006)، روضة الطالبين (1/ 227)، المغني (1/ 320).
(4)
انظر: المصادر السابقة.
(5)
انظر: المعونة على مذهب أهل المدينة للقاضي عبد الوهاب (1/ 149)، مواهب الجليل (1/ 504)، المجموع (2/ 201)، مغني المحتاج (1/ 247)، المغني (1/ 213)، الإنصاف (1/ 263)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 201) الإكليل (2/ 624).
ولا سيما قد علق بشرط، فهو يوجب تكرار التيمم لكل صلاة، ويلزم منه طلب الماء لكل صلاة. ولم يجب في الوضوء لفعله عليه الصلاة والسلام، فيبقى التيمم
(1)
.
قال الموزعي: «وكنت قدَّمت أولاً أن مفهوم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لا يوجب تكرار الوضوء لكل صلاة، خلافاً لابن سيرين؛ لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقتضي بمفهومه أنه يجب طلب الماء والتيمم لكلِّ صلاة عند القيام، أو لا يجب كالوضوء؟
فباقتضاء المفهوم قال الشافعي ومالك، فأوجبا الطلب والتيمم لكل فريضة، وبترك المفهوم قال أبو حنيفة، فلم يوجب ذلك»
(2)
.
*
المبحث الحادي عشر: هل يلزم العادم شراء الماء؟.
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمكلف العادم للماء أن يعدل إلى التيمم مع قدرته على شراء الماء بثمن مثله، وكان هذا الثمن فاضلاً عن حاجته ودينه
(3)
.
واختلفوا فيما إذا كانت الزيادة على ثمن المثل يسيرة، فهل يلزمه شراء الماء أو لا؟
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يلزمه شراء الماء
(4)
.
(1)
حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس كلها يوم الفتح بوضوء واحد، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد برقم (227).
(2)
تيسير البيان (3/ 122 - 123).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 323)، شرح الزرقاني (1/ 211)، المجموع (2/ 202)، المغني (1/ 317).
(4)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 323)، البحر الرائق (1/ 284)، المجموع (2/ 203)، المغني (1/ 317)، الإنصاف (1/ 257).
مأخذ الحكم: إن القادر على الشراء يعتبر واجداً للماء، فلا يجوز له العدول إلى التيمم
(1)
.
فقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} فعل في سياق نكرة، والأفعال نكرات، فيعم كل واجد، سواء كان بثمن المثل أو بزيادة.
*
المبحث الثاني عشر: إذا وجد الماء لكنه لا يكفي لطهارته، هل يلزمه التطهر به ثم التيمم.
من وجد ماءً لكنه لا يكفي لطهارته اختلف العلماء في وجوب تطهره به، ثم يتيمم للباقي.
فأوجب ذلك بعض العلماء
(2)
.
ومأخذ الحكم: أولاً: أن كلمة (ماء) في الآية نكرة في سياق نفي تعم الماء القليل والكثير
(3)
.
ثانياً: أنه يصدق عليه أنه واجد للماء
(4)
.
وقيل: لا يجب عليه استعمال هذا الماء
(5)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 317).
(2)
انظر: المغني (1/ 314، 315)، المهذب (1/ 34)، البيان للعمراني (1/ 297) المجموع (2/ 214)، نهاية المحتاج (1/ 272)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 446 - 447)، الإكليل (2/ 624).
(3)
انظر: المغني (1/ 315)، نهاية المحتاج (1/ 272).
(4)
انظر: الإكليل (2/ 624).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 526)، المبسوط (1/ 113)، بدائع الصنائع (1/ 50)(1/ 327)، المدونة (1/ 47)، مختصر خليل (19)، مواهب الجليل (1/ 331 - 332)، الذخيرة (1/ 339).
ومأخذ الحكم: العرف الشرعي؛ لأن مطلق الماء ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف من الماء في باب الوضوء والغسل هو الماء الذي يكفي للوضوء والغسل، فينصرف المطلق إليه، ومن لم يجد ماءً كافياً لطهارته، كان كمن لم يجد الماء أصلاً، فيكون حكمه الشرعي الانتقال إلى التيمم
(1)
.
وعليه فيقال: إن الله سبحانه وتعالى أراد بالماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، الماء الكافي للأعضاء الذي أمر بغسلها في أول الآية.
(2)
.
*
المبحث الثالث عشر: حكم التيمم قبل دخول الوقت.
اختلف العلماء القائلون بوجوب طلب الماء والتيمم لكل صلاة في جواز فعل التيمم قبل دخول الوقت.
فقال بعض أهل العلم
(3)
: يجوز التيمم قبل دخول الوقت.
مأخذ الحكم: لأنّ المعلق بالشرط إنّما هو الوجوب - وهو دخول الوقت - والوجوب في وقت لا يمنع الجواز في غيره
(4)
.
(1)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 51)، البناية شرح الهداية (1/ 500).
(2)
أحكام القرآن (1/ 447).
(3)
انظر: المبسوط (1/ 109)، بدائع الصنائع (1/ 342)، المنتقى (1/ 111)، المقدمات (1/ 120)، المجموع (2/ 192)، الإنصاف (1/ 253)، مجموع الفتاوى (1/ 253).
(4)
انظر: تيسير البيان (3/ 123).
مأخذ آخر: وهو القول بأن المولى أقام التيمم مقام الماء عند فقده، ولم يفرق بين ما إذا كان قبل الوقت أو بعده
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم الجواز
(2)
.
مأخذ الحكم: القياس، وبيانه كما قال الموزعي:«ويجوز أن يقال: فيه دلالة على التقييد بالوقت وجوبًا وجوازًا، فإنّه عبادة وقد ورد توقيت وجوبها بوقت الصلاة، فلا يجوز في غيره، كسائر العبادات، وإنّما خرج الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات بوضوء واحد، أو لأنّه طهارة لا عبادة كما ذهب إليه أبو حنيفة والثوري؛ ولهذا لم يوجبا النّية في الوضوء، وأوجباها في التّيمم؛ لأنّه عبادة»
(3)
.
ثم بيَّن مأخذاً آخر بقوله: «أو لأنّه طهارة لا عبادة كما ذهب إليه أبو حنيفة والثوري؛ ولهذا لم يوجبا النّية في الوضوء، وأوجباها في التّيمم؛ لأنّه عبادة»
(4)
.
(5)
.
(1)
انظر: رؤوس المسائل للزمخشري (113).
(2)
انظر: الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/ 29 - 30)، مواهب الجليل (1/ 525)، الأم (2/ 97)، المجموع (2/ 199)، روضة الطالبين (1/ 232 - 233)، المغني (1/ 314)، الإنصاف (1/ 252 - 253).
(3)
تيسير البيان للموزعي (3/ 124)، وانظر: الإكليل للسيوطي (2/ 624).
(4)
تيسير البيان للموزعي (3/ 124).
(5)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 134 - 135).
الدراسة الرابعة تطبيق صيغة الأمر (ليفعل) على آيات الأحكام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تنوعت الأساليب الدالة على الأمر في القرآن الكريم، وهي ترجع إلى ما ذكره بعض الأصوليين إلى أساليب وصيغ صريحة وغير صريحة، وحصر الأصوليون الصريحة في صيغة (افعل)، والفعل المضارع المقترن بلام الأمر، واسم فعل الأمر، والمصدر النائب عن فعل الأمر، أما غير الصريحة فهي متنوعة.
وأم الباب صيغة (افعل)، وفي قوتها ومنزلتها عند كثير من الأصوليين صيغة (ليفعل)، وهي صيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، ثم إن الصيغة الأولى (افعل) قد استقرأت في القرآن الكريم في بحث أكاديمي من قبل الدكتور عبد اللطيف بن سعود الصرامي، بعنوان (محمول صيغة الأمر افعل دراسة نظرية وتطبيقية على آيات الأحكام)، ولمسيس الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث الاستقرائية، رغبت في العمل على إكمال هذا المشروع، في هذه الدراسة، وذلك باستقراء دلالة صيغة الأمر «ليفعل» في آيات الأحكام، وأسميته (دلالته صيغة الأمر [ليفعل] دراسة تطبيقية على آيات الأحكام)
ولا يخفى أن من أهم مباحث أصول الفقه، مبحث الأمر، الذي هو أبلغ منازل
الخطاب كما يقول أبو يعلى
(1)
، وأحد ركني التكليف إذ التكليف أمر ونهي.
وبخصوص هذه الصيغة، أعني (ليفعل) فقد استعملت في نصوص القرآن كثيراً، حيث وردت في ثمانين موضعاً متعيناً، غير محتمل لغير الأمر، ووردت الصيغة محتملة بكونها لام أمر، أو لام تعليل في عشر آيات في قراءات متواترة، وثمان آيات في قراءات أخرى.
اقتصرت الدراسة على دراسة الأوامر الواردة في الدلالة على حكم فرعي عملي، فخرج من الدراسة: دراسة الأمر بالإيمان
(2)
، والتقوى
(3)
، والتوكل
(4)
، والخشية لله
(5)
، كما خرج من الدراسة ما خرج عن معنى الأمر إلى معنى من المعاني التي يرد عليها ويصرف لها
(6)
، كالدعاء
(7)
، والتعجيز
(8)
، والتهديد والوعيد
(9)
، والإخبار
(10)
، والاعتبار
(11)
، أو التفكر
(12)
…
الخ، إلا إذا حُمِل الأمر فيها على قول من الأقوال على حكم شرعي فرعي، فإنه داخلٌ قطعاً في دراستي.
(1)
العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (1/ 213).
(2)
كالواردة في: [البقرة: 186].
(3)
كالواردة في: [البقرة: 282]، [النساء: 9].
(4)
كالواردة في: [النساء: 9].
(5)
كالواردة في: [آل عمران: 122، 160]، [المائدة: 11]، [التوبة: 51]، [يوسف: 67]، [المجادلة: 10]، [التغابن: 13].
(6)
ذكر العلماء أن صيغة الأمر ترد إلى أكثر من ثلاثين معنىً.
انظر: التحبير للمرداوي (5/ 2184 - 2201)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (3/ 17 - 38).
(7)
كالواردة في: [يونس: 88]، [الزخرف: 77].
(8)
كالواردة في: [الحج: 15]، [الأنبياء]، [الطور: 34].
(9)
كالواردة في: [الكهف: 29]، [العنكبوت: 66]، [الروم: 34].
(10)
كالواردة في: [التوبة: 82]، [مريم: 75]، [العنكبوت: 12].
(11)
كالواردة في: [عبس: 24]، [الطارق: 5].
(12)
كالواردة في: [الطور: 38].
فاشتملت الدراسة التطبيقية على دراسة عشرين آية، ضمت ثلاثين حكماً، وردت الأوامر فيها بصيغة (ليفعل). ورد الأمر متعيناً للوجوب في أربعة عشر حكماً، ومحتملاً للوجوب وغيره في خمسة عشر حكماً، ومصروفاً عن الوجوب باتفاق في حكم واحد، ذكرها عبد الخالق عظيمة في كتابه دراسات في أساليب القرآن الكريم
(1)
، وتلك الآيات:
(1)
قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
(2)
(3)
(4)
قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
(5)
(1)
ينظر: دراسات في أساليب القرآن الكريم (2/ 390 - 421).
(6)
قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]
(7)
قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]
(8)
(9)
قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]
(10)
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]
(11)
قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]
(12)
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
(13)
(14)
(15)
قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]
(16)
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]
(17)
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]
(18)
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]
(19)
(20)
قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]
وقبل الشروع في الدراسة التطبيقية يحسن التقدمة بين يديها بدراسة تأصيلية مختصرة، فأقول:
عرَّف ابن قدامة الأمر بأنه: استدعاء الفعل بالقول أو ما قام مقامه
(1)
. وزاد الطوفي: على جهة الاستعلاء
(2)
.
وقسَّم العلماء صيغ الأمر قسمين: صيغ صريحة في دلالتها على الأمر، وصيغ غير صريحة.
أما الصيغ الصريحة فهي عند أكثر العلماء أربع صيغ وهي:
الأولى: صيغة الأمر (افْعَلْ)، وهي خطاب للحاضر.
الثانية: صيغة (لِيَفْعَل) وسيأتي الحديث عنها.
الثالثة: اسم فعل الأمر، وهو لفظ يقوم مقام الفعل في الدلالة على معناه، وفي عمله
(3)
. وهو قسمان:
أحدهما: ما وضع أول الأمر لذلك، نحو: نزال بمعنى: انزل، وصه بمعنى: اسكت، وهلم بمعنى: احضر، كقوله تعالى:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150].
ثانيهما: ما نقل عن غيره من ظرف أو من جار ومجرور، كقوله تعالى:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقوله:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، أو نقل عن
(1)
انظر: المختصر في أصول الفقه لابن اللحام (97)، والتحبير (5/ 2166)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 349).
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 349).
(3)
انظر: شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل (2/ 237)، محمول صيغة افعل (45).
المصدر نحو: رويداً زيداً، أي: أمهله إمهالاً
(1)
.
الصيغة الرابعة: المصدر النائب عن فعل الأمر: إذا جعل جزاء للشرط بحرف الفاء، والعامل فيه فعله المحذوف وجوباً، كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، أي: فحرروا، وقوله:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، أي: فاضربوا الرقاب، وقوله:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، أي: فافدوا
(2)
.
القسم الثاني: الصيغ غير الصريحة، وهي الواردة بلفظ الخبر، ويعبَّر عنها الأصوليون بالخبر بمعنى الأمر، أي المتضمن له. وسيأتي مزيد تفصيل، وبيان لأقسامه في الدراسة السادسة، المتعلقة بأسلوب الخبر بمعنى الأمر وتطبيقاته.
وعوداً إلى صيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، وهي من صيغ الأمر الصريحة - كما سبق - ويُعبَّر عنها بصيغة (ليفعل)، وهو خطاب أمر للغائب، وقد ورد الخطاب بها في القرآن متعين غير محتمل لغير الأمر في ثمانين موضعاً، ومحتملاً بين كون اللام للأمر أو لام كي في آيات عشر، ومحتملاً بينهما أيضاً في قراءات ثماني آيات، كما أفاد به الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة في كتابه دراسات لأسلوب القرآن الكريم، وقال:«2 - دخلت لام الأمر على المضارع المتكلم في آية واحدة: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وفي قراءة شاذة في آية أخرى. 3 - دخلت لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب في قراءة عشرية في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]»
(3)
.
(1)
انظر: أوضح المسالك (3/ 118 - 119)، محمول صيغة افعل (45 - 46).
(2)
انظر: الأمر والنهي عند علماء العربية والأصوليين للدكتور ياسين المحيميد (58)، محمول صيغة افعل (46).
(3)
(2/ 421) وانظر (2/ 397 - 399، 400 - 401، 421).
فالأصل فيها إذاً مجيئها بالياء (ليفعل) للغائب.
قال ابن قدامة: «وللأمر صيغة مبنيَّة تدل بمجردها على كونها أمراً إذا تعرَّت عن القرائن، وهي:(افعل) للحاضر، و (ليفعل) للغائب
…
»
(1)
.
وقد نصَّ الأصوليون على كون هذه الصيغة من صيغ الأمر الصريحة، وأنها وبقية صيغ الأمر الصريحة سواء في دلالتها على الحكم.
(2)
.
ولمَّا كان الأصوليون لا يعبرون إلا بصيغة (افعل) نبَّه بعضهم إلى عدم تميزها عن غيرها في دلالتها على الحكم.
قال الزركشي: «المراد بصيغة (افعل) لفظها، وما قام مقامها من (اسم الفعل) كصه، و (المضارع المقرون باللام) مثل ليقم
…
وإنما خصَّ الأصوليون (افعل) بالذكر لكثرة دورانه في الكلام»
(3)
.
تنبيه: اختلف النحاة أيهما الأصل في صيغة الأمر (افعل)، أو (ليفعل)، فذهب بعض النحاة إلى أن الأصل هو صيغة (ليفعل)؛ وذلك لأن الأمر معنى، والأصل في المعاني أن تستفاد بالحروف كالنهي؛ فكما يستفاد النهي من لا الناهية، كذا الأمر من لام الأمر
(4)
.
(1)
روضة الناظر (2/ 595).
(2)
التمهيد (266).
(3)
البحر المحيط (2/ 356 - 357).
(4)
انظر: البحر المحيط (2/ 352).
وذهب بعض النحاة إلى أن الأصل هو صيغة (افعل)؛ لأنه يفيد المعنى بنفسه بلا واسطة، بخلاف (ليفعل) فإنه يستفاد من اللام
(1)
.
ثم إنني من خلال العمل في البحث رأيت أن يكون الضابط في ذلك هو ورودها في كتب أحكام القرآن.
(1)
انظر: البحر المحيط (2/ 352) نقلاً عن العكبري في شرح الإيضاح.
الدراسة التطبيقية
وفيما يلي الدراسة التطبيقية:
(1) قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
[البقرة: 185].
قوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وهو يقتضي وجوب الصوم عند شهود شهر رمضان المبارك.
والأمر في الآية على بابه من الوجوب غير مصروف باتفاق أهل العلم
(1)
، وإنما وقع خلاف بين العلماء فيمن يتوجه الخطاب والأمر، هل يقتضي وجوبه على المقيم والمسافر، أو على المقيم فقط؟
وسبب الخلاف راجع إلى القول بتعارض الإضمار
(2)
والتخصيص
(3)
، فأما الإضمار فهو في مفعول {شَهِدَ} ، وتقديره: فمن شهد البلد في الشهر. وهذا يقتضي أن وجوب صوم رمضان إنما يجب على المقيم فقط. وهؤلاء جعلوا {الشَّهْرَ} في الآية منصوباً على الظرفية
(4)
.
(1)
قال ابن قدامة في المغني (4/ 323): " الأصل في وجوبه الكتاب، والسنة، والإجماع ".
(2)
الإضمار: إسرار كلمة فأكثر، أو جملة فأكثر حسب ما يقتضيه حال ذلك الكلام.
انظر: نفائس الأصول للقرافي (1/ 245).
(3)
التخصيص: قصر العام على بعض أفراده.
انظر: جمع الجوامع للسبكي (2/ 2).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 82 - 83)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 295)، أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 198).
أما جمهور أهل العلم فإنهم يرون قوله {الشَّهْرَ} هو مفعول {شَهِدَ} وأما المقيم فهو مخصوص بقوله في آخر الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقدموا التخصيص على الإضمار
(1)
.
تنبيه: في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة: 185] خلاف في اللام الواردة فيه، هل هي لام للتعليل أو لام الأمر؟
يقول ابن الفرس: «ويجوز أن تكون لام الأمر، ويكون المعنى: أو في مرضه، فليكمل عدة الأيام التي أفطر فيها
…
»
(2)
.
قلت: ووجوب إكمال العدة ثابتٌ بقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، فهو مصدر نائب عن فعل الأمر - وهو أحد الأساليب الصريحة بالأمر.
قال الزركشي: «المراد بصيغة (افعل) لفظها وما قام مقامها من اسم الفعل ك (صه)، والمضارع المقرون باللام
…
وكذلك المصدر المجعول جزاء الشرط بحرف الفاء كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] أي فحرروا
…
وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي صوموا
…
»
(3)
.
وقال القرطبي: «{فَعِدَّةٌ} ارتفع عدة على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو الواجب عدة» . ثم قال بعدها: «ويصح فَعليهِ عدة» ، وقبلها قال:«إن في الكلام حذف؛ أي من يكن منكم مريضاً أو مسافراً فأفطر فليقض»
(4)
.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 295)، أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 199).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 201) ..
(3)
البحر المحيط (2/ 256 - 257).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 276، 277).
وجميع ما ذكر دل على وجوب إكمال العدة، بأصرح من كون اللام في قوله:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} للأمر.
(1)
.
(2) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].
اشتملت هذه الآية على عدد من الأحكام الثابتة بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل). وقبل البدء في بيان تلك الأحكام تجدر الإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أن العلماء مختلفون في كون الأمر بالكتابة الوارد في صدر الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، هل هو محكم أو منسوخ؟
(2)
.
(1)
دراسات لأسلوب القرآن الكريم (2/ 399)، وانظر: البحر المحيط لابن حيان (2/ 42).
(2)
من قال بالنسخ جعل الناسخ قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فَرِهَانٌ} [البقرة: 283] وقالوا بأن الإشهاد لو كان واجباً لما جاز إسقاطه.
وقال الطبري: "وهذا لا معنى له؛ لأن هذا حكم غير الأول، وإنما هذا حكم من لم يجد كاتباً
…
"
انظر: تفسير الطبري (6/ 47 - 50)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 248)، أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 417)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 383)، النسخ في القرآن لمصطفى زيد (2/ 202 - 203).
والقائلون بأنه محكم اختلفوا في دلالة الأمر فيه هل هي على أصلها للوجوب أو أنها مصروفة إلى الندب؟
(1)
.
وهذا الخلاف يترتب عليه حمل دلالة صيغة (ليفعل) الآتي ذكرها؛ وذلك لأن كل ما لا يتم الواجب أو المندوب إلا به فهو واجب أو مندوب، فوسيلة الشيء تأخذ حكمه، وعليه فإجابة الكاتب للكتابة، وإملال الذي عليه حق، أو وليه يُبنى عليها، كما سيأتي.
الأمر الثاني: إن مقصود الشارع من شرعه كتابة الدَّين حفظ الحقوق.
قال ابن العربي: «يريد أن يكون صكاً يستذكر به عند أجله؛ لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، والنسيان موكل بالإنسان، والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ، فشرع الكتاب والإشهاد
…
»
(2)
.
(1)
ذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب، إذ الأمر للإرشاد، بدليل إمكان إسقاط الكتابة عند الأمن من ضياع الحق، كما قال في قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [البقرة: 283]، كما أن جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة، وفي إيجابها حرج شديد ومشقة.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى كون الكتابة واجبة، وروي عن ابن عمر، ومجاهد، وابن سرين، وعطاء، والضحاك وغيرهم.
قال الطبري: " وأما الذين زعموا أن قوله: {فَاكْتُبُوهُ} قوله: {وَلَا يَأْبَ} على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون كسائر أمر الله عز وجل، الذي أمر في الكتابة، ويسألون الفرق بين ما ادعوه في ذلك وانكروه في غيره، فلم يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله ".
انظر: تفسير الطبري (6/ 55)، تيسير البيان للموزعي (2/ 165)، النسخ في القرآن لمصطفى زيد (2/ 203).
(2)
أحكام القرآن (1/ 247).
إذا تبين هذا، ففي الآية الكريمة خمسة أحكام مستنبطة بواسطة دلالة صيغة (ليفعل)، سأوردها تحت هذه المسائل:
*
المسألة الأولى: هل يشترط أن يكون كاتب الدين من غير المتداينين؟
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من وجد ثالث يكتب الدين بين الدائن والمدين، لدلالة قوله تعالى:{بَيْنَكُمْ} أي: بين صاحب الدين والمستدين، فلا ينفرد أحد المتداينين بالكتابة حتى لا يتهم.
(1)
.
وذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط كون الكاتب من غير المتداينين، فيجوز أن ينفرد أحد المتداينين بالكتابة، وإنما جاز الأمر بتوسط كاتب بينهم لأن غالب حال العرب حين نزول الخطاب الجهل بالكتابة، فجهل أحدهما بما كتب الآخر ينفي ثقته بكتابته، أما إذا كانا يحسنان الكتابة فينتفي المحظور.
(2)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 365).
(2)
التحرير والتنوير (3/ 101).
وسواء قلنا باشتراط كون الكاتب ليس واحداً منهما، أو عدم اشتراط ذلك، فإن دلالة الأمر {وَلْيَكْتُبْ} تحمل على الخلاف السابق، الدائر بين الوجوب والندب في حكم كتابة الدَّين.
*
المسألة الثانية: العدالة في كتابة الدين
تشمل العدالة هنا المكتوب والكاتب، أما المكتوب «فلا يميل أحدهما لقرابة ولا غيرها، ولا على أحدهما لعداوة ونحوها»
(1)
.
أما الكاتب فاشتراط كونه عدلاً، لأن الحكمة من الكتابة - كما سبق - هي حفظ الأموال، وغير العدل لا يؤمن منه الميل لأحد المتداينين لقرابة أو لعداوة - كما سبق - أو لمصلحة نفسه.
قال الإمام مالك: «لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه، مأمون؛ لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}»
(2)
.
قال ابن الفرس: «استدل به بعضهم على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون»
(3)
.
وقال أيضاً: «يؤخذ من قوله: {بِالْعَدْلِ} عدم صحة وصاية الذمي والفاسق؛ لأنه لا يؤمر أن يمُل بالعدل إلا العدل»
(4)
.
إذا تقرر ما سبق فإنه لا ينبغي أن يختلف اثنان في حمل صيغة (ليفعل) هنا على الوجوب؛ لما سبق من أن المقصود حفظ الحقوق، وحفظها واجب،
(1)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 165).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 365)، المجموع للنووي (13/ 99).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 418)، وانظر: المحرر والوجيز لابن عطية (2/ 287).
(4)
أحكام القرآن (1/ 420).
ولا يتم الواجب إلا بالعدل، فاشتراط العدالة واجب.
*
المسألة الثالثة: حكم إجابة الكاتب للكتابة
اختلف العلماء في محمول الأمر في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} ، فذهبت طائفة من العلماء إلى كونه فرضاً، ثم اختلفوا، فقيل: إنه فرض كفاية، وقيل: فرض عين، وقيل: فرض حال فراغه
(1)
.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه ندب
(2)
.
قلت: يؤيد القائل بأنه فرض، النهي المتقدم عليه، وهو قوله:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} ، فنهى المولى سبحانه وتعالى عن أن يمتنع أحد عن الكتابة في هذه الآية، والنهي عن الشيء أمر بضده، ومأخذهم بهذا ظاهر، ولاسيما إن قلنا: إن كتابة الدَّين واجبة.
لكن يضعف القول بالوجوب أن الكتابة لو كانت واجبة لما صحَّ الاستئجار بها؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة
(3)
.
أما القائل بالندب والاستحباب فمأخذهم -والعلم عند الله- كونه كان واجباً ثم نسخ، والوجوب إذا نسخ فإنه يحمل على الندب عند كثير من أهل الأصول
(4)
.
قال ابن العربي: «والصحيح أنه أمر إرشاد، فلا يثبت حتى يأخذ حقَّه،
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 484)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 248)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 365 - 366)، تيسير البيان للموزعي (2/ 167 - 168)، أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 416).
(2)
انظر: المصادر السابقة.
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 366).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 248)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 365 - 366)
وما ذكره من المعنيين يتفقان مع هذا الاختيار»
(1)
.
والذي يظهر لي أن الخلاف هنا مفرع عن الخلاف في حكم كتابة الدين - كما سبقت الإشارة إليه - وتعتبر إجابة الكتابة وسيلة للكتابة، ووسيلة الشيء تأخذ حكمه.
يقول الجصاص: «قال أبوبكر: قد بيَّنا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين، فكيف يكون واجباً على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب فيه؟ وعسى أن يكون من رآه واجباً ذهب إلى أن الأصل واجب
…
»
(2)
.
*
المسألة الرابعة: إملال الذي عليه الحق
قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].
الإملال مأخوذ من مصدر الفعل الرباعي «أملّ» . وأمل الشيء: قاله فكتب، وأمليت الكتاب على الكاتب إملالاً: ألقيته عليه
(3)
.
والمقصود ما يلقيه الذي عليه الحق (المدين) على الكاتب مما صار في ذمته من الحق دون زيادة أو نقصان؛ ليكون إقراره على نفسه بالحق.
قلت: إن الإملال فرع عن الكتابة، فإن كانت الكتابة واجبة، فيأتي الخلاف هنا، هل يجب أن يمل الذي عليه الحق؟ أو يكون غير واجب، وصرفه عن الوجوب لأنه من باب الإرشاد، وقد ذكر العلماء الإرشاد من صوارف الأمر عن الوجوب، وجعلوا ضابطه:«أنه يرجع إلى مصالح الدنيا، بخلاف الندب؛ فإنه يرجع إلى مصالح الآخرة، وأيضا: الإرشاد لا ثواب فيه، والندب فيه الثواب»
(4)
.
(1)
انظر: المصادر السابقة.
(2)
أحكام القرآن للجصاص (1/ 587).
(3)
انظر: لسان العرب (11/ 63)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 366).
(4)
شرح الكوكب المنير (3/ 20).
*
المسألة الخامسة: الوكالة في الإملال
قد يعجز المدين عن القيام بالإملال على الكاتب الحق الذي عليه، فبيَّن المولى سبحانه هنا أنه يشرع قيام وليِّه بذلك نيابة عنه، فهل يكون إملال الولي واجباً عليه، أو أنه داخل في باب الإرشاد؟
(1)
.
قلت: وهذه المسألة تأخذ حكم المسألة السابقة، لأن الولي بدلٌ عن المولَّى عليه، والبدل يأخذ حكم المبدل عنه. والله أعلم.
فائدة: يؤخذ من قوله: {بِالْعَدْلِ} عدم صحة وصاية الذمي والفاسق؛ لأنه لا يؤمر أن يمُل بالعدل إلا بالعدل
(2)
.
(3) قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]
ترد الأمانة لمعان عدَّة منها: ما افتراضه الله على عباده من صلاة وزكاة وصوم .. الخ، ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا
(1)
تيسير البيان (2/ 168).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس.
أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وترد ويراد بها أداء الودائع والديون، ومنها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذا هو المراد، وإن كان داخلاً في عموم الأول
(1)
.
قوله: {فَلْيُؤَدِّ} لام أمر، ومعنى الآية كما يقول ابن العربي:«إن سقط الكتاب والإشهاد والرَّهن، وعوِّل على أمانة المعامل، فليؤد الذي ائتمن الأمانة، وليتق الله ربه»
(2)
.
وأداء الأمانات واجب غير مصروف، وقد تضافر على تأكيد وجوبه الكتاب والسنة والإجماع.
يقول القرطبي: «
…
وهذا أمر معناه الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون
…
»
(3)
.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية، قال:«يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن
(4)
، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله عز وجل على عباده، من الصلوات والزكوات، والصيام والكفارات والنذور، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه
(1)
انظر: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي (104 - 105).
(2)
أحكام القرآن (1/ 262).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 394).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 414)، وأبو داوود في كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقَّه من تحت يده، برقم (3534)، والترمذي في كتاب البيوع، باب إذا أفلس للرجل غريم فيجد متاعه، برقم (1264)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود برقم (3018).
لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بيِّنة على ذلك. فأمر الله عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة»
(1)
.
فائدة: استُدل بالآية في مسألة اختلاف المتبايعين للسلعة إذا اختلفا، فإن القول قوله سواء أقرَّ البائع بأجل أم لا
(2)
.
[آل عمران: 104].
اللام في قوله {وَلْتَكُنْ} لام أمر، وفيه الأمر بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والدعوة إلى الله عموما - وهي دعوة إلى خير لا ريب فيه - عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: الدعوة إلى الله هي: «الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، وتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرِّه، والدعوة إلى أن يعبد ربه كأنه يراه»
(3)
.
فالخير هو دعوة إلى الإيمان والإسلام والإحسان، وهو تعريف للدعوة بحسب ما تدعو إليه، وهو الدين.
(1)
تفسير القرآن العظيم (3/ 143).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 442).
(3)
مجموع الفتاوى (15/ 157 - 158).
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخير الذي أمرنا بالدعوة إليه.
وعُرِّف المعروف الذي دُعينا الأمر به بأنه: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح
(1)
. والمنكر نقيضه.
يقول الطبري: «
…
الأمر بالمعروف هو كل ما أمر الله به عباده، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المنكر هو كل ما نهى الله عنه عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم
…
»
(2)
.
إذا تبين حقيقة الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الأمر بهما على بابه من الوجوب، لا خلاف بين العلماء في ذلك.
(3)
.
وقال النووي: «وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة»
(4)
.
والخلاف إنما في كون وجوبه كفائياً أو عينياً.
وسبب الخلاف عائد إلى قوله {مِنْكُمْ} في الآية هل هي بيانية، فيكون واجباً عينياً، أو أنها تبعيضية فيكون واجباً كفائياً.
(1)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 106)، المفردات للراغب الأصبهاني (561)، تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 406).
(2)
تفسير الطبري (14/ 507).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 608).
(4)
شرح صحيح مسلم (2/ 382).
وقد جمع بينها بعض العلماء، يقول ابن كثير:«والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة منتصبة لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»
(1)
. وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»
(2)
»
(3)
.
(5) قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]
ثبت في هذه الآية بصيغة الأمر (ليفعل) حكمين خاصين بمسألة الأكل من مال اليتيم.
وقبل البدء في بيان الحكمين، لابد من الإشارة إلى أن العلماء أجمعوا على تحريم أكل مال اليتيم وأنه من الكبائر
(4)
.
قال ابن الفرس: «اتفق أهل العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلماً وإسرافاً، وعلى أن ذلك من الكبائر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا مِمَّا [النساء: 10]، وقوله:
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم (49).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (38/ 332) برقم (23301)، وقال محققوه: حسن لغيره، وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم (2169)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، برقم (1762).
(3)
تفسير القرآن العظيم (2/ 393).
(4)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (8/ 389).
{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} »
(1)
.
ثم قال بعد ذلك: «وإن لم يكن إسرافاً وبداراً فإن ذلك يختلف بحسب حال الولي»
(2)
اه.
ووالي اليتيم إما أن يكون غنياً يمكنه الاستغناء عن مال اليتيم، أو فقيراً قد يحتاج إلى شيء من مال اليتيم، ولكل حال حكم، وبيانها فيما يلي:
الحكم الأول: أمر الولي الغني بالاستعفاف عن مال اليتيم قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} .
وَرَدَ الأمر بالاستعفاف بلام الأمر، والإعفاف هو الإمساك، والاستعفاف عن الشيء تركه
(3)
، وقد اختلف العلماء في محمول هذا الأمر.
(4)
.
قلت: والأصل هو الوجوب. ولعل القائل بالندب نظر إلى أن له الحق بالمطالبة بأجرة المثل. والقائل بالإباحة نظر إلى أنه أمر بعد حظر وهو قوله: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا}
(5)
. والله أعلم.
(1)
أحكام القرآن (2/ 64).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 41).
(4)
أحكام القرآن (2/ 64).
(5)
باعتبار أن " استعفف " تأخذ حكم الأمر لا النهي، وستأتي الإشارة إليها.
الحكم الثاني: أمر الولي الفقير بالأكل من مال اليتيم لقوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ،
ولم أر خلافاً بين أهل العلم في حمل الأمر هنا على الإباحة.
قال القرطبي: «
…
فأمر الغني بالإمساك، وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف»
(1)
.
وقد بيَّن الشيخ العثيمين الصارف له عن الوجوب بأن الأمر جاء عقب النهي، في قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} ، والأمر بعد النهي إما للإباحة على قول بعض العلماء أو لرفع الحظر، وهنا جاء لرفع الحظر فهو مباح
(2)
.
ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في تأويل الآية، وفي كونها منسوخة أو ثابتة، وفي المراد بالمعروف
(3)
.
تنبيه: الأمر باستعفاف الغني من الأكل من مال اليتيم وارد بعد حظر أيضاً فلمَ لَمْ يصرف الأمر فيه عن الوجوب لرفع الحظر؟.
والجواب - والعلم عند الله - إن الاستعفاف في قوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وإن كانت صيغته أمر إلا إنه من حيث المعنى نهيٌ، وهي: كذر، واترك، واكفف، والأمر بمعنى النهي يأخذ حكم النهي لا حكم الأمر.
قال ابن النجار: «وكنهي في المعنى: دع واترك وكف وامسك نفسك عن كذا ونحوه. لما كان أبعاض (افعل) ما يدل على الكف عن العمل احتيج إلى التنبيه على إخراجها، ولهذا قال في جمع الجوامع من حد الأمر إنه: اقتضاء فعل غير
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 41).
(2)
تفسير القرآن الكريم " سورة النساء " لابن عثيمين (1/ 44).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 65)، نكت القرآن للقصاب (1/ 240).
كف مدلول عليه بغير كف
…
الخ»
(1)
ثم شرح التعريف.
وعليه فالأمر بالاستعفاف عن أكل مال اليتيم هو الإمساك عن الأكل، وهو ذاته عدم الأكل.
(6) قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
[النساء: 9]
أمر الله سبحانه وتعالى حاضرَ المُوصي أن يعدل في تلقينه بالوصية، كما يعدل هو في وصيته لو كان هو الموصي يورث ولده، وليتق الله سبحانه، فلا يجاوز الثلث، وليقل قولاً سديداً، أي: صواباً، وهو التلقين بما دون الثلث.
وقيل الخطاب لأولياء اليتامى، فأمرهم المولى سبحانه وتعالى أن يحسنوا فيمن ولوا من اليتامى، كما يحبون أن يحسن ولاة أولادهم بهم من بعدهم.
وقيل الخطاب للأوصياء، فأمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي، مثلما ترعى الذرية الضعاف من غير تبديل
(2)
.
قلت: وَرَدَ في الآية ثلاثة أوامر بصيغة (ليفعل)، وهي:{وَلْيَخْشَ} {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وهي محمولة هنا على الوجوب، والأخير هو الذي يدخل في بحثنا - بحسب حدود البحث - ووجه كونه للوجوب هو أن عدم القول السديد، وهو الإيصاء بأكثر من الثلث محرم، - وغير نافذ إلا بإقرار الورثة - وإذا كان محرماً فالتعاون عليه إثم وحرام، وعليه فتركه واجب.
(1)
شرح الكوكب المنير (3/ 38).
(2)
انظر هذه الأقوال وغيرها في: تيسير البيان للموزعي (2/ 252)، زاد المسير لابن الجوزي (2/ 89).
على أنه ورد في غير هذه الآية الأمر بالتقوى والقول السديد، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] والقول السديد هنا هو الحق الموافق للصواب، وهو الذي يخالف قول أهل الأذى
(1)
، كما يدل عليه سياق الآية، وقد جاءت الآية بعد قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]
ويدخل في القول السديد في الآية الأقوال الواجبة قطعاً، وكذا الأقوال المندوبة.
قال السعدي: فالأمر به عام يشمل الأقوال الواجبة، والأقوال الصالحة النافعة وهي غير واجبة، من قراءة وذكر ودعاء، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتعلم علم وتعليمه، ولين الكلام، واللطف في المخاطبة، والقول المتضمن للنصح والإشادة بما هو الأصلح
(2)
.
(7) قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]
(3)
.
(1)
انظر: روح المعاني للألوسي (22/ 138).
(2)
انظر: تفسير السعدي (6/ 253)، التحرير والتنوير (22/ 122).
(3)
تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (6/ 204).
والأمر بالجهاد متقرر وثابت ومحكم في القرآن الكريم، وهو فرض كفائي على المسلمين، وقد يتعين في حالات
(1)
. وهذا قول جمهور أهل العلم، قيل: نقل بعضهم الإجماع عليه.
(2)
.
يقول الجصاص متأولا القول المنسوب إلى بعض الصحابة في كونه بعد فتح مكة ليس بفرض إلا أن يستنفر الإمام أحداً منهم: «وجائز أن يكون قول ابن عمر، وعطاء، وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض؛ يعنون به: أنه ليس فرضه متعيناً على كل أحد؛ كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية»
(3)
.
(8) قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102]
(1)
منها إذا وطأ العدو ديار المسلمين، أو كان المسلم حاضراً الصف، يقول المرداوي في الإنصاف (10/ 14):" ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد، أو حضر العدو بلده تعيَّن عليه بلا نزاع، وكذا لو استنفره بلا نزاع ".
(2)
المحرر والوجيز (1/ 289).
(3)
أحكام القرآن (3/ 147)، وانظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 371)، معالم التنزيل للبغوي (1/ 273).
تضمن هذه الآية عدداً من الأحكام الثابتة بصيغة الأمر (ليفعل) نتناولها في المسائل التالية:
*
المسألة الأولى: حكم إقامة الصلاة في حال الخوف
قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَلْيَأْخُذُوا وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، وهو أمر بصيغة (ليفعل) من المولى سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأداء فريضة الصلاة في حال الشدَّة والبأس، وتشريع منه - سبحانه - لصلاة الخوف. وهو أمر مجمع عليه
(1)
.
يقول الموزعي: «وأجمع المسلمون على وجوب الصلاة في حال الخوف، وجوازها كما شرع الله سبحانه في كتابه وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما يحكي عن طائفة من فقهاء الشام من المالكية
(2)
أنه يجوز تأخرها عن وقت الخوف إلى وقت الأمن»
(3)
.
وكما قال الموزعي: المرجع في بيان كيفيتها هو فعله صلى الله عليه وسلم، وستأتي في مسألة قادمة.
وينبغي الإشارة إلى أن الحكم السابق وهو وجوب إقامة الصلاة في حال الخوف هل هو حكم باق بإقامتها مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ استدلالاً بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية.
يقول الأمين الشنقيطي: «لا تختص صلاة الخوف بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل مشروعيتها
(1)
قال ابن قدامة في المغني (3/ 297): "
…
وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا على صلاة الخوف".
(2)
انظر: الاستذكار (2/ 408)، بداية المجتهد (1/ 127).
(3)
تيسير البيان للموزعي (3/ 16).
باقية إلى يوم القيامة، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية، استدلال ساقط. وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون على رد مثله في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم، لا لوجوده، والتقدير: بيِّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره
(1)
، وشذ عن الجمهور أبو يوسف
(2)
، والمزني
(3)
، وقال بقولهما الحسن بن زياد اللؤلؤي، وإبراهيم بن عُلَيَّة فقالوا: إن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية. وردّ عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم
(4)
، وبقوله صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي»
(5)
وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم»
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 493).
(2)
وقيل إن أبا يوسف يرى أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإمامين، يصلي كل واحد منهما بطائفة ركعتين. انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 330)، تيسير البيان للموزعي (3/ 27).
(3)
المنقول عن المزني في كتب أهل العلم القول بأن آية الخوف منسوخة في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الخوف في الخندق، ولو كانت جائزة لما تركها وفوَّت الصلاة على نفسه ومن معه.
ورد الجمهور عليه بأن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق، وأن الصحابة صلوها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير.
يقول القاري في مرقاة المفاتيح: "وأجمعوا على أن صلاة الخوف ثابتة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ".
انظر: المجموع للنووي (4/ 349)، مرقاة المفاتيح (3/ 464)، الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (2/ 1364).
(4)
انظر: المغني لابن قدامة (3/ 297).
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة، برقم (605)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإقامة، برقم (674).
(6)
أضواء البيان للشنقيطي (1/ 420 - 421).
*
المسألة الثانية: حكم إقامة صلاة الخوف جماعة
سبق في المسألة السابقة نقل الإجماع على وجوب الصلاة في حال الخوف، مستدلين بقوله:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} ، وهذا الأمر في ذاته مختلف في حمله على الوجوب أو الاستحباب في صلاة الجماعة.
فالقائلون بأن صلاة الجماعة ليست واجبة في الأمن فمن باب أولى عدم وجوبها حال الخوف. والصارف عندهم لأوامر الشارع بإقامة الصلاة، ومنها هذه الآية أدلة استدلوا بها على عدم الوجوب، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)
(1)
.
ويرى كثير من المحققين وجوب صلاة الجماعة في الخوف والحضر، مستدلين بهذه الآية
(2)
.
يقول الأمين الشنقيطي: «آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم، إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه عذر ظاهر»
(3)
.
*
المسألة الثالثة: كيفية صلاة الخوف
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه ومن معه أن يصلوا صلاة الخوف بكيفية معينة. فقال سبحانه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} الآية،
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإقامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (650) واللفظ له.
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 29 - 30).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (1/ 420).
وهذه الأوامر وردت بصيغة (ليفعل) الفعل المضارع المجزوم، وهي: أي الكيفية وردت مجملة في الكتاب العزيز، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، وهي محمولة على الوجوب، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي)
(1)
.
قال ابن العربي: «ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف مراراً عدة بهيئات مختلفة، فقيل في مجموعها أنها أربع وعشرون صفة، ثبت فيها ست عشر صفة»
(2)
.
(3)
.
*
المسألة الرابعة: حكم حمل السلاح في صلاة الخوف
قال الله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}
اتفق العلماء على وجوب حمل السلاح
(4)
للأمر والوارد في الآية بصيغة المضارع المجزوم {وَلْيَأْخُذُوا} ، ولم يرخص إلا في حالتي المطر والمرض خاصة. ثم إن العلماء اختلفوا في وجوبه على منْ، هل على الطائفة التي تحرس، أو على المصلية أو عليهما جميعا؟
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 49)، وانظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 27).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (1/ 406).
(4)
تيسير البيان للموزعي (1/ 27 - 28).
قال ابن الفرس: «وقال بعض العلماء يجوز أن يكون الأمر للجميع؛ لأنه أهيب للعدو»
(1)
.
قلت: يلزم القائل بوجوبها على الطائفة المصلية وجوبها على الطائفة الأخرى، ويظهر ذلك من خلال تعليلاتهم في جواز حملها في الصلاة أو عدم جوازها.
يقول الطحاوي: «ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة - وذلك عمل فيها - دلَّ على أن العمل اليسير معفو عنه فيها»
(2)
.
وقال ابن العربي: «المسألة السادسة: قول لشافعي: إذا تابع الطعن والضرب فسدت الصلاة؛ لأنها لا تكون حينئذ صلاة وإنما تكون محاربة. قلنا: يا حبذا الفرضان إذا اجتمعا»
(3)
.
وتبقى الإشارة والتنبيه إلى أمرين:
الأول: سبب الخلاف في وجوبها على الطائفة المصلية أو الأخرى هو الخلاف في عود الضمير، فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى أن الضمير يعود إلى الطائفة التي لم تصل، وعليه لا يجب على المصلي حمل السلاح.
(4)
.
(1)
أحكام القرآن (1/ 277).
(2)
أحكام القرآن (2/ 331).
(3)
أحكام القرآن (1/ 496).
(4)
أحكام القرآن (2/ 330).
وذهب مالك والشافعي في قوله الآخر أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور وهم الطائفة المصلية
(1)
، وعليه يكون حمل السلاح واجباً عليها.
الثاني: يقول الموزعي: «وليس المراد بأخذ السلاح ملازمة حمله وتناوله، بل المراد إما حمله أو وضعه قريباً بحيث يمكن المجاهد تناوله على قرب وسهولة، ويكون حذراً، كما قال الله تعالى عند وضع السلاح للعذر: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}»
(2)
.
(9) قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[المائدة: 47]
ورد الأمر بصيغة المضارع المقرون بلام الأمر (ليفعل): {وَلْيَحْكُمْ} ، وقد اختلف المفسرون في المراد بها على قولين
(3)
:
الأول: أن المعنى: وقلنا ليحكم أهل الأنجيل، فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول؛ لأن ما قبله من قوله {وَكَتَبْنَا} [المائدة: 45] {وَقَفَّيْنَا} [المائدة: 46]، يدل عليه، وحذف القول كثير.
قلت: وعلى هذا فصيغة (ليفعل) هنا ليست على بابها من الوجوب، بل هي لمجرد الإخبار.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 330 - 331)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 494).
(2)
تيسير البيان (3/ 28).
(3)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (7/ 313).
المعنى الثاني: أن يكون قوله: {وَلْيَحْكُمْ} ابتداءً واستئنافاً، وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم، وهو الإنجيل.
وهنا يرد الإشكال كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟!!
وقد اختلفت جوابات أهل العلم عنه، ومن تلك ما أجاب به الجصاص، حيث قال: "
…
فلا يخلو قوله ذلك من أحد معنيين: إما أن يكون قد استحقوا الذم - لأنهم لم يحكموا بما في الإنجيل بعد بعثة النبي عليه السلام، ودعائه إياهم إلى دينه، على أنه من حكم الإنجيل شريعة لعيسى على نبينا عليه الصلاة والسلام ودون أن تكون شريعة لنبينا عليه السلام، أو على أنه من شريعة النبي عليه السلام دون كونه من شريعة عيسى عليه السلام. وغير جائز أن يقال: إنهم استحقوا الذم وسمة الفسق، لأنهم أمروا في هذه الحال بالحكم بما في الإنجيل على أنه شريعة لعيسى عليه السلام، لأن هذا يوجب أن لا يكونوا مأمورين باتباع النبي عليه السلام في شرائعه، بل يقتضي: أن يكونوا مأمورين بالبقاء على شريعة عيسى عليه السلام، وبلوغهم دعوته بالحكم بما في الإنجيل على أنه شريعة لنبينا عليه السلام، ما لم يأمرهم بخلافها ونسخها، ومن أجل ذلك وصفهم بالفسق، لأنهم زالوا عن حد ما يجب عليهم المصير إليه، من اتباعه، والحكم بما في الإنجيل، على أنه من شريعته صلى الله عليه وسلم وفي ذلك أوضح دليل على صحة ما قلنا، والله الموفق للصواب"
(1)
.
[التوبة: 123]
سبق الحديث عن حكم الجهاد، وأنه فرض على الكفاية كما هو مذهب
(1)
الفصول في الأصول (3/ 28).
جماهير أهل العلم، ودلت هذه الآية على أن الفرض على كل ناحية من بلاد المسلمين قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد، وقد نقل الإجماع على ذلك بعض العلماء
(1)
.
ثم إن الآية دلت بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل) على صفة من صفات القتال هي الشدة والغلظة على الكفار، لقوله تعالى:{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} .
(2)
.
وقال الهروي: «والغلظة في زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبح»
(3)
.
قلت: فيحمل الأمر في زمن الحرب على الوجوب كما في الآية، أما في غير الحرب فإن الحكم يدور مع المصلحة الراجحة، فإن كانت المصلحة في الغلظة كان هو الواجب، وإن كانت في اللين كان هو الواجب.
(1)
قال الوزير ابن هبيرة في كتابه الإفصاح (2/ 300): " واتفقوا على أنه يجب على أهل كل ثغر أن يقاتلوا من يليهم من الكفار، فإن عجزوا ساعدهم من يليهم، ويكون ذلك على الأقرب فالأقرب ممن يلي ذلك الثغر ".
(2)
أحكام القرآن (3/ 207 - 208).
(3)
تفسير حدائق الروح والريحان (12/ 105).
(1)
.
(11) قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}
[الحج: 28]
معنى الآية: أي وقلنا له: ناد الناس داعياً لهم إلى الحج، وزيارة هذا البيت، الذي أمرت ببنائه، يأتوك مشاة على أرجلهم، وركباناً على ضوامر من الإبل
(2)
، من كل طريق بعيد، ثم بيّن السبب من هذه الزيارة فقال:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} من المنافع الدينية والدنيوية
(3)
.
قال الجصاص: «قال أبو بكر ظاهره يوجب أن يكون قد أريد به منافع الدين، وإن كانت التجارة جائزة أن تراد، وذلك لأنه قال {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27 - 28] فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم، ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة؛ لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى
(1)
المصدر السابق.
(2)
الإبل الضوامر:
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن (512): " الضامر من الفرس: الخفيف اللحم من الأعمال لا من الهزال " ثم ذكر الآية.
(3)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (18/ 308 - 309).
الحج واقعاً لمنافع الدنيا، وإنما الحج الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدي وسائر مناسك الحج، ويدخل فيها منافع الدنيا على وجه التبع والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة بالحج، وقد قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج»
(1)
.
وقوله «وأمروا بالحج ليشهدوا» يدل على أن اللام هنا هي لام التعليل، وذهب إلى هذا أكثر العلماء.
(2)
.
وذهب ابن العربي إلى أن اللام هنا هي لام المقصود. وقال: «وقد حققنا موردها في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين»
(3)
.
(12) قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
[الحج: 29]
ورد في هذه الآيات ثلاثة أوامر بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل)، وهي متعلقة بالحج وسأدرسها من خلال المسائل الآتية
(1)
أحكام القرآن (3/ 304).
(2)
أضواء البيان (5/ 531 - 532).
(3)
أحكام القرآن (3/ 1281).
*
المسألة الأولى: قضاء التفث {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} .
والمراد بالتفث: الوسخ، والمعنى: يزيلوا أوساخهم، بحلق الرأس، وقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، والاستحداد عند الإحلال وخروج من الإحرام. وقيل: غير ذلك
(1)
.
وقد اختلف العلماء في محمول هذا الأمر هل هو على حقيقته من الوجوب، أو أنه مصروف على ثلاثة أقوال
(2)
:
القول الأول: إنه محمول على حقيقته من الوجوب.
القول الثاني: إنه محمول على الإباحة، وذلك لتقدم الحظر عليه، فهو إطلاق حظر، فقد كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال، وما كان كذلك -أي إنه إطلاق من حظر- فإنه يحمل على الإباحة؛ كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
القول الثالث: يتردد حمله بين الوجوب والندب، وذلك لترتيب قضاء التفث على الذبح.
ثم إن كتب أحكام القرآن تقتصر على فرد من أفراد التفث وهو الحلق، ويذكرون الخلاف في كونه نسكاً فيكون واجباً، أو هو خروج من نسك وليس بنسك.
يقول الجصاص: « .... وذلك دليل على وجوب الحلق لأن الأمر على الوجوب، فيبطل قول من قال إن الحلق ليس بنسك في الإحرام. ومن الناس من
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (18/ 311).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (4/ 23 - 24).
يزعم أنه إطلاق من حظر، إذ كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال ...... والأول أصح، لأن أمره بقضاء التفث قد انتظم سائر المناسك على ما روي عن ابن عمر ومن ذكرنا قوله من السلف
(1)
. ومعلوم أن فعل سائر المناسك ليس على وجه الإباحة، بل على وجه الإيجاب، فكذلك الحلق؛ لأنه قد ثبت أنه أريد بالأمر بقضاء التفث الإيجاب في غير الحلق، فكذلك الحلق»
(2)
.
*
المسألة الثانية: الإيفاء بالنذر الوارد في قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
أمر المولى سبحانه وتعالى عباده بالإيفاء بالنذر، أي بما أوجبوه على أنفسهم من أعمال البر، في أيام الحج مما لا يقتضي الحج وجوبه من الضحايا وغيرها، إذ النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب
(3)
.
إذا تبين ذلك فإن الآية على حقيقتها من الوجوب بالإجماع.
يقول الموزعي: «أمرهم الله تعالى بإيفاء النذور، والأمر فيه للوجوب، وعلى وجوب الوفاء بالنذر أجمع المسلمون
…
»
(4)
.
وقد ذكر العلماء الخلاف فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين أو لا يلزمه شيء؟.
يقول الجصاص: «قال أبو بكر: وفيه الدلالة على لزوم الوفاء بالنذر، لقوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، والأمر على الوجوب، وهو يدل على بطلان قول
(1)
ذكر الجصاص في أحكام القرآن (3/ 310) أن ابن عمر وسعيد بن جبير تأولوا: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} بمعنى المناسك.
(2)
أحكام القرآن (3/ 310 - 311).
(3)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (18/ 311).
(4)
تيسير البيان (4/ 24).
الشافعي فيمن نذر حجاً أو عمرة أو بدنة أو نحوها أن عليه كفارة يمين؛ لأن الله أمرنا بالوفاء بنفس المنذور»
(1)
.
قلت: وقد بيّن الشنقيطي مأخذ قول الشافعي والجواب عليه ثم قال: «ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر»
(2)
.
(3)
ثم ساق آيات من القرآن تدل على القول بالوجوب.
* المسألة الثالثة: الطواف بالبيت، الوارد في قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
ذهب جمهور أهل العلم أن المراد به طواف الإفاضة، ويسمى بطواف الزيارة، وقد نقل بعضهم الإجماع على كونه هو المراد.
يقول الموزعي: «أمر الله سبحانه بالطواف بالبيت العتيق، وقد أجمع أهل العلم على أن المراد به طواف الإفاضة، وأجمعوا أنه ركن من أركان الحج»
(4)
.
وقيل: إنه طواف الوداع، ويرده ما قاله الجصاص بعد أن بيَّن أن المراد به طواف الزيارة، قال: «قال أبوبكر: ظاهره يقتضي الوجوب؛ لأنه أمرٌ، والأوامر
(1)
أحكام القرآن (3/ 311).
(2)
أضواء البيان (5/ 722).
(3)
أضواء البيان (5/ 718).
(4)
تيسير البيان (4/ 27).
على الوجوب، ويدل عليه أنه أمر به معطوفاً على الأمر بقضاء التفث، ولا طواف مفعول في ذلك الوقت وهو يوم النحر بعد الذبح إلا طواف الزيارة، فدل على أنه أراد طواف الزيارة»
(1)
.
قلت: وعلى القول بأنه طواف الإفاضة أو الوداع فكلاهما واجب، فالأول باتفاق والثاني عند من قال به، والأمر غير مصروف.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «دلَّت الآية الكريمة على لزوم طواف الإفاضة، وأنه لا صحة للحج بدونه»
(2)
.
[النور: 2]
أمر المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية بأن يشهد عذاب الزناة طائفة من المؤمنين، فقال سبحانه:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية وهو أمر بصيغة المضارع المجزوم (ليفعل) وحمله الفقهاء على الاستحباب.
يقول الموزعي: «وهذا الأمر عند أهل العلم للاستحباب، وإنما اختلفوا في أقل الطائفة: فقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان»
(3)
.
وذكر القصاب بأن الآية: «دليل على أنه يقام علانية غير سر، ليتعظ به سائر الناس»
(4)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 311).
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 749).
(3)
تيسير البيان (4/ 45).
(4)
نكت القرآن للقصاب (2/ 383).
وكثير من كتب التفسير وأحكام القرآن لم تتعرض للحكم الشرعي في الآية، ويكتفون بذكر الحكمة من الأمر بالشهود للرجم
(1)
.
(2)
.
قلت: وبالقول الأول ربما يتقوى جانب الإيجاب، إذ هي مصلحة عامة مقصودة للشريعة، ولا تتحقق إلا بالحضور، فتكون واجباً كفائياً، إذ أن هذا هو شأن الواجبات الكفائية. والله أعلم.
يقول الهروي: «{وَلْيَشْهَدْ} ؛ أي: وليحضر وجوباً نظراً لظاهر الأمر، لكن الفقهاء قالوا بالاستحباب
…
»
(3)
.
وعلى القول بالاستحباب، فيكون الصارف - والله أعلم - هو مقصد الشارع من الستر على المؤمن عند القائلين بأن الحكمة التوبيخ، أما القائلين بأنه الدعاء للزاني فهذا إلزام للمكلف بالدعاء لحي قادر أن يدعو لنفسه، أو لمخالفته بعض الأصول، وهي هنا إيجاب وإلزام الإنسان في غير العبادات ما لم يجب عليه أصلاً.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 344)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1327)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 149)، أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 328).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 149).
(3)
تفسير حدائق الروح والريحان (19/ 214 - 215).
(14) قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]
نزلت هذه الآية في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لأنه تكلم في حادثة الإفك، فقال سبحانه وتعالى: ألا يحلف أولو الغنى والسعة على ألا يحسنوا إلى المستحقين، وليعفوا عن ذنبهم الذي أذنبوه في حقهم، وجنايتهم التي اقترفوها، وليصفحوا عن الجاني
(1)
.
وورد في السنة أن أول رجل قطع في الإسلام - أو من المسلمين - رجل أتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله إن هذا سرق، فكأنما أُسِفّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رماداً، فقال بعضهم يا رسول الله! - أي: يقول مالك
(2)
(3)
.
والآية فيها الأمر بالعفو والصفح، وقيل إن الفرق بينهما
(4)
:
أن العفو: ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه.
فالصفح: ترك التأنيب، وهو أبلغ من العفو، فقد يعفو الإنسان ولا يصفح.
(1)
انظر: فتح القدير (4/ 17).
(2)
جاء عند البيهقي في السنن (8/ 331): "كأن هذا شق عليك؟ ".
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (7/ 84) برقم (3977)، والحاكم في المستدرك (4/ 424) برقم (8155)، وقال:" صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي ".
(4)
انظر: المفردات (486)، وتاج العروس (10/ 247).
إذا تبين ما سبق فما حكم عفو الإنسان وصفحه عمن ظلمه؟
الذي يظهر لي أن دلالة الأمر (ليفعل) هنا على الندب، والصارف له عن الوجوب إلى الندب أمور:
(1)
إن العفو والصفح من الآداب التي ترشدنا إليها الشريعة، لتحسين الخلق والأخذ بمكارمه.
(2)
في الآية قرينة لفظية تشعر بعدم الوجوب، وهي تعليل الأمر وتعليقه على المحبة بطريق العْرض {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} .
يقول الدكتور عبد العظيم المطعني عن الاستفهام: «المراد منه هو: الحث والترغيب في الإنفاق في سبيل الله، وإن أساء المنفق مستحقُّ العطاء، وبخاصة إذا كانوا من ذوي القربى، وذوي الأعذار الشديدة»
(1)
.
(2)
.
(3)
قُرن العفو بالصفح، والصفح قد لا يكون في مقدور الإنسان؛ لما سبق من بيان للفارق بينهما.
قلت: وإذا نظر إلى الاستفهام في قوله {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} على أنه
(1)
الاستفهام في القرآن للمطعني (3/ 34).
(2)
المصدر السابق.
استفهام توبيخي، فإنه يتردد بين الوجوب؛ باعتبار الذم اللاحق لترك العفو، وقد يحمل على الكراهة، إذ إن ترك المندوب مكروه؛ أو خلاف الأولى. والله أعلم.
(1)
.
[النور: 31]
فقد ورد الأمر من المولى سبحانه وتعالى بصيغة المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل) في قوله {وَلْيَضْرِبْنَ} ، والخطاب موجه للمؤمنات بأن يسترن مواطن الزينة عن الرجال، وذلك أن المولى سبحانه لما نهى النساء عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها، فقال:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} ، أي: وليلقين ويضعن خمرهن {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن عن الأجانب، حتى لا يرى منها شيء، والمراد بالجيب هنا محله وهو العنق
(2)
.
والآية استُدل بها على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها، ويجب على المرأة سترهما
(3)
، وعليه يحمل الأمر في الآية بلا خلاف.
(1)
تفسير حدائق الروح والريحان (19/ 267).
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (19/ 305).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 409).
*
وهل يجب على المرأة بمقتضى هذه الآية تغطية وجهها؟
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي عن يونس، قال ابن شهاب عن عروة، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن
(1)
فاختمرن بها
(2)
.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: أن عائشة رضي الله عنهما كانت تقول: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي
(3)
، فاختمرن بها. انتهى من صحيح البخاري
(4)
.
وقال ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث: قوله: فاختمرن؛ أي: غطين وجوههن. وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار. انتهى محل الغرض من فتح الباري
(5)
.
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يقتضي ستر وجوههن،
(1)
المُرُطُ: الكساء، والواحد مِرْطٌ، ويكون من صوف، وربما كان من خَزّ، أو غيره.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (8/ 3917).
(2)
أي: غطين وجوههن كما سيأتي، وانظر المصدر السابق (3/ 1271).
(3)
حاشية كل شيء جانبه وطرفه.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (3/ 920).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب، باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} برقم (4759).
(5)
فتح الباري (8/ 490).
وأنهن شققن أزرهن فاختمرن، أي: سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} المقتضي ستر وجوههن. وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسِّرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنهما على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه. ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} إلاَّ من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود، وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله -جل وعلا- يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن.
وقال ابن حجر في فتح الباري: ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن صفية ما يوضح ذلك: ولفظه: ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن فقالت: إن لنساء قريش لفضلاًّ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، ولقد أنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلاَّ قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح متعجرات
(1)
على رؤوسهن الغربان. انتهى محل الغرض من فتح الباري
(2)
.
ومعنى متعجرات مختمرات كما جاء موضحاً في رواية البخاري المذكورة آنفاً. فترى عائشة رضي الله عنهما مع علمها، وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنه ما رأت أشد منهن تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. وهو
(1)
متعجرات: أي ملقين خمرهن على روؤسهن، مع رد طرفهن على وجوههن.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (6/ 2662).
(2)
فتح الباري (8/ 490).
دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى. فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله. ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري. وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى»
(1)
.
(16) قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
[النور: 33]
في الآية الكريمة أمر بصيغة المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل) وهو قول {وَلْيَسْتَعْفِفِ} وهو أمر من المولى سبحانه وتعالى لعباده الذين لا يجدون ولا يقدرون على النكاح بسبب عدم وجود المال الذي يتزوج به، أو ما ينفق به على المرأة المتزوجة، أمرهم أن يجتهدوا في العفة ويحفظوا فرجوهم عن الزنا إلى أن يغنيهم الله من فضله
(2)
.
هذا على القول بأن {حَتَّى} في قوله {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} للغاية، وهو قول الجمهور
(3)
. فيكون مفهوم الغاية أن الله سبحانه إذا أغناه فلا يستعفف بل يطلب النكاح
(4)
.
(1)
أضواء البيان (6/ 653 - 655).
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (19/ 318).
(3)
انظر: تيسير البيان للموزعي (4/ 87)، أضواء البيان للشنقيطي (6/ 244)، تفسير حدائق الروح والريحان (19/ 318).
(4)
انظر: تيسير البيان للموزعي (4/ 87).
والأمر هنا محمول على الوجوب بلا خلاف ولا سيما في صورة التوقان
(1)
.
(2)
وهو تفسير للقرآن بالقرآن مؤكداً لما ذهب إليه الجمهور من حمل الأمر على الوجوب.
أما إذا قيل بأن {حَتَّى} للتعليل وليست للغاية، «والمعنى: وليطلب العفة الذين لا يجدون نكاحاً بالاكتساب؛ لكي يغنيهم الله من فضله، فحينئذ يحصل الوعد من الله بالغنى في طلب النكاح للعفة، ويكون الأمر على الاستحباب»
(3)
.
(17) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}
[النور: 58]
اللام في قوله {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لام الأمر، والاستئذان طلب الإذن، أي: يطلب منكم الإذن في الدخول
(4)
، الأناس الذين ملكت أيديكم من العبيد، والإماء الكبار و الصبيان الذين {لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} أي البلوغ، فليستأذنوا في الدخول عليكم ثلاث أوقات في اليوم والليلة؛ لأنها ساعات غرة وغفلة، فهي أوقات تكشف فيها العورات غالباً، وتقلُّ الحاجة إلى تطوف الصبيان والخدم، وتعدم المشقة التي هي سبب رفع الحرج.
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (19/ 318).
(2)
أضواء البيان (6/ 244).
(3)
تيسير البيان (4/ 87).
(4)
انظر: المفردات (71)، تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (19/ 423).
والأمر بالاستئذان اختلف أهل العلم في محموله.
فقيل هو للوجوب؛ لأنه الأصل، وعزاه القرطبي إلى قول أهل العلم.
وقيل: هو محمول على الندب.
قلت: ولعل الصارف عندهم كونه منسوخاً - كما ستأتي الإشارة إليه -، وقد تقرر في الأصول أن الواجب إذا نسخ بقي الندب.
والأول أولى؛ لأنه أستر للعورة، والشرع حرّم النظر إليها وسدّ كل طريق يؤدي إلى هذا الممنوع وذلك هنا بالاستئذان، وترك الحرام واجب، ووسيلة الواجب واجبة.
وهاهنا تنبيهان: التنبيه الأول: اختلف العلماء في كون هذه الآية محكمة أو منسوخة، والجمهور على كونها محكمة، وبعضهم يرى أن الحكم شُرع لمعنى وقد زال ذلك المعنى، فزال هذا الحكم لزواله.
(1)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 93 - 94)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1396).
التنبيه الثاني: لو قال قائل بأن الخطاب للصبيان خطاب تأديب فكيف يكون واجباً؟
الجواب: أن الأمر في حق الصبيان للندب؛ لأنه خطاب تأديب، أما الستر فهو واجب وهو معلق بالنساء
(1)
.
(18) قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
[النور: 59]
أمر المولى سبحانه وتعالى هؤلاء الذين بلغوا الحلم أن يستأذنوا في جميع الأوقات، في أوقات العورات الثلاث وفي غيرها، كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء
(2)
.
والأمر محمول على الوجوب بلا خلاف؛ إذ إن الأطفال إذا بلغوا صاروا رجالاً.
(3)
.
(1)
المصدر السابق (4/ 81).
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (19/ 429 - 430).
(3)
أحكام القرآن (3/ 1400).
قلت: فالأولى دلّ الحكم عليها بالمفهوم، والثاني مصرحة وناطقة بالحكم، فتضافر في دلالتها المفهوم والمنطوق.
تنبيه: وهذا الحكم عام في جميع البالغين من ابن وأخ وأب، وغيره، لا يجوز لهم أن يدخلوا إلا بإذن
(1)
.
قال ابن المسيب: يستأذن الرجل على أمه؟، قال: إنما أنزلت - أي الآية - في ذلك
(2)
.
(19) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]
ورد الأمر في الآية بصيغة المضارع المجزوم بلام الأمر (ليفعل) موجهاً للكفار، مقابل الأمر الوارد بصيغة (افعل) والموجه إلى المؤمنين، وهو دال على مشروعية سؤال كل واحد من الطرفين ما أنفق من مهر زوجته فقال:{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} .
والمراد بالآية كما يقول ابن العربي: «كل من ذهب من المسلمات مرتدات - من أهل العهد - إلى الكفار، يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالتين»
(3)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 383).
(2)
تفسير الطبري (19/ 215).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1788)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (18/ 61 - 62).
وهذا الحكم حكم الله - كما بينت الآية - مخصوصاً بذلك الزمان، في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة
(1)
.
ومدلول الأمر فيها يرجع - والعلم عند الله - إلى الإرشاد؛ وذلك لأن إسقاط المطالبة بالمهر حق للزوج، فإن شاء طالب به، وإن شاء تركه، وما فوِّض لمشيئة المكلف فليس بواجب.
أما إذا قيل المراد بالآية: إن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك
(2)
، فيقوى جانب الوجوب، ويعضده ما ورد في الآية:{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} .
ومن العلماء من قال بالندب.
ومنهم من قال بكون الحكم منسوخاً بالقتال في آية السيف.
وقيل: إنه مخصوص بزمن معين كما سبق.
تنبيه: استدل بالآية بعض العلماء على أن الكفار مخاطبون بالفروع
(3)
.
[الطلاق: 7]
هذه الآية لها تعلق بالآية السابقة عليها وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]
(1)
المصدر السابق.
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (29/ 225).
(3)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (29/ 225).
والمعنى: أي وإن ضيق بعضكم على بعض، بأن شاحَّ الأب في الأجرة، أو اشتطت الأم في طلب زيادة لا يؤديها أمثاله
…
فليحضر الأب مرضعاً أخرى تقوم بالإرضاع
(1)
…
ثم بيان مقدار النفقة بقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} الآية، وفي الآية حكمان شرعيان:
الحكم الأول: بيان إن نفقة الأبناء على الآباء، والآية على بابها محمولة على الوجوب بالإجماع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «يجب على الرجل أن ينفق على ولده، وبهائمه، وزوجته بإجماع المسلمين»
(2)
.
وإنما وقع الخلاف في الأم هل يجب عليها نفقة الأبناء؟، وهل النفقة تكون واجبة على الأب إلى البلوغ أو إلى الكفاية؟.
وهذه الآية كما صرح عدد من العلماء هي أصل في وجوب النفقة للولد على والده
(3)
.
الحكم الثاني: ذكرت الآية مقدار النفقة، آمرة الوالد بأن تكون نفقته على حسب حاله، فإن كان موسراً فليوسع على أولاده، وإن كا معسراً فبحسب وسعه وطاقته.
والأمر هنا بيان لكيفية النفقة، والمبيِّن يأخذ حكم المبيَّن، فيكون للوجوب، وجوب التوسعة على الأبناء حال اليسر، وبحسب الطاقة حال اليسر، والمرجع في ضبطها عند الاختلاف إلى العرف.
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (29/ 426).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 535).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1843)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 153).
(1)
.
واستدل القصاب على وجوب التوسعة بقوله: «
…
دليل على أن التقتير في الإنفاق - مع السعة - على الأنفس والعيال مذموم»
(2)
.
قلت: والحرام مذموم، وتركه واجب، فيجب التوسيع عليهم حال السعة.
تنبيه: في الآية السابقة لهذه الآية: وجوب النفقة على الأم الحامل لأجل ولدها، وبعد الوضع تكون النفقة لأجل إرضاع الولد، فالنفقة في الحالين هو للولد.
وجعل القصاب وجوب النفقة على المرضعات ثابت بقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، أما في الآية التي معنا ففيها وجوب عدم التقتير
(3)
.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 619).
(2)
نكت القرآن للقصاب (4/ 347).
(3)
انظر: المصدر السابق (4/ 346).
الدراسة الخامسة تطبيق الخبر بمعنى الأمر على آيات الأحكام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تنوعت أساليب القرآن الدالة على الأمر، فكان منها الصريح على الطلب، ومنها غير الصريح، وقد حصر الأصوليون الصريحة في صيغة (افعل)، والفعل المضارع المقترن بلام الأمر، واسم فعل الأمر، والمصدر النائب عن فعل الأمر، أما غير الصريحة فهي متنوعة، ومنها صيغة الخبر بمعنى الأمر، وهو الذي رغبت في إفراده في هذه الدراسة بدراسة نظرية تأصيلية، ثم تطبيقية على آيات الأحكام، وجعلت عنوان البحث (الخبر بمعنى الأمر في القرآن الكريم دراسة نظرية أصولية وتطبيقية على آيات الأحكام)
والمراد بالخبر في معنى الأمر: أي المتضمن له. وهو كل جملة مثبتة وردت في صورة الخبر سواء كانت فعلية أو اسمية، لا يمكن أن يراد منها حقيقة الإخبار بل المقصود منها الإنشاء والطلب.
قال ابن حزم: "الأوامر الواجبة ترد على وجهين، أحدهما: بلفظ افعل، وافعلوا. والثاني: بلفظ الخبر، إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول. وإما بجملة ابتداء وخبر "
(1)
. ثم شرع بضرب أمثلة لجميع تلك الأنواع، ثم
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (3/ 32).
قال: " فلا طريق لورود الأوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط"
(1)
.
ويمكن إجمال أساليب الخبر بمعنى الأمر الواردة في القرآن الكريم إلى ثلاثة أساليب:
وهذه الأساليب مستفادة من قول المرداوي في التحبير: «فائدة: أدلة الأحكام لا تتقيد استفادتها من صريح الأمر والنهي، بل تكون بنص، أو إجماع، أو قياس. والنص إما أن يكون أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبرًا بمعناها، أو إخبارًا بالحكم، نحو:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
(2)
، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، أو بذكر خاصية لأحدهما، كوعيد عن فعل شيء، أو تركه، أو وعد على فعل شيء أو تركه، ونحو ذلك»
(3)
ا. هـ
* ويمكن تفصيل شيء مما ذكر على النحو التالي:
الأسلوب الأول: أسلوب الإخبار عن حكم الشارع، وفيه يخبر المولى سبحانه وتعالى عن الحكم إما بلفظ صريح، أو ظاهر، ومن ذلك:
(1)
إثبات الحكم بلفظ الفرض وما تصرف منه
(4)
: ومن أمثلته:
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (3/ 33).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، برقم (6270).
(3)
التحبير (2/ 180).
(4)
لم يرد في القرآن إثبات الحكم بلفظ (وجب) وما تصرف منه، مطابقًا للمعنى الأصولي المصطلح عليه، وورد في السنة من قوله عليه السلام «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، برقم (858)، ومسلم في كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة برقم (846).
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، أي: ما فرضنا عليهم التزامه من الأحكام المتعلقة بالزوجات، والإماء، مثل عدم الزيادة على أربع نسوة، وعدم الزواج إلا بِوَلِيّ وشهود، أو أن تكون المرأة الموطوءة بملك اليمين مسلمة أو كتابية، وأن تستبرأ قبل الوطء، فهذه جملة من الأحكام التي فرضها الله على المؤمنين، فيجب التزامها.
وقوله تعالى بعد أن بين مصارف الزكاة والصدقات: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، والتقدير:«فرض الله هذه الأشياء فريضة» .
لطيفة: جاء في المعجم الاشتثقاقي المؤصل لألفاظ القرآن في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1]، «مخففة بمعنى الإلزام بما فيها من أحكام، ومضعفة على معنى تكثير الفرائض، أو على معنى التفصيل والبيان -من القطع- أو للتنجيم
…
»
(1)
.
(2)
إثبات الحكم بلفظ الكتب وما تصرف منه، فقد ورد بلفظ "كتب" ومن أمثلته قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وورد بلفظ "كتاب" ومن أمثلته: قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي: الزموا ما كتب الله عليكم، أي: فرضه. ومثله قوله تعالى: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي: واجبًاً مفروضاً مؤقتًا وقّته الله عليهم.
(1)
انظر: المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن (3/ 1696).
(3)
إثبات الحكم بلفظ الأمر وما يتصرف منه، ومن أمثلته:{أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وقوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60].
(4)
إثبات الحكم بلفظ «قضى» ومن أمثلته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
(5)
إثبات الحكم بلفظ «وصى» وما تصرف منه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وقوله في آية المواريث:{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يَكُنْ} [النساء: 12].
(6)
الدلالة على الحكم بلفظ (على) ملفوظًا، أو مقدّرًا، ومن ذلك قوله تعالى في آية الصيام:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وجاء بصيغة الجمع كقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
أما المقدَّر فيه لفظ (على) فهو كثير في كتاب الله، أكتفي بمثال واحد، وهو ما ورد في آية الظهار.
يقول القرطبي: «قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هذا ابتداء، والخبر: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف «عليهم» لدلالة الكلام عليه، أي: فعليهم تحرير رقبة»
(1)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (17/ 280).
(7)
وصف الشارع للفعل بأنه (حق)، ومن ذلك قوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].
الأسلوب الثاني: ذكر خاصية من خواص الواجب، إما بالوعيد على الترك، أو بترتب العقاب على الترك، أو الذم والتوبيخ، ولها صوَر عديدة، كما أن ترتب الثواب أو المدح على طلب الفعل والأمر به، وله صور متعدّدة.
(1)
ا. هـ.
الأسلوب الثالث: أسلوب الخبر المراد به الأمر، فيما عدا الأسلوبين السابقين، وهو الأسلوب الذي ينبه عليه المفسرون بأنه طلب أو أمر خرج مخرج
(1)
الإكليل في استنباط التنزيل (46 - 47).
الخبر، وهو محط أمثلة الأصوليين غالبًا، وهذا الأسلوب يعرف كونه مستعملًا في معنى الأمر من سياق الكلام، وما يستوجه من الإلزام. والمقصود بالإلزام هنا: ما يشير إليه العلماء غالبًا في إثبات كون الصيغة للطلب مثل قولهم: لو لم يكن للطلب للزم الخلف لما هو مشاهد في الواقع، فيقولون -مثلا- عند قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وجدت مطلقات لا يتربصن ثلاثة قروء، ولو كان خبراً محضاً لما تخلف الخبر عن مخبره، لأن أخبار الله تعالى لا تنفك من وجود مخبراتها، فلما وجد الانفكاك علمنا بأنه خرج من الخبرية إلى الإنشائية معنًى دون اللفظ
(1)
.
يقول الزركشي عن الآية نفسها: «إن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك لا أنه خبرٌ، وإلا لزم الخلف في الخبر»
(2)
.
وهذا الأسلوب -الثالث- هو مجال البحث التطبيقي، وقبل ذلك تجدر الإشارة بذكر خلاف العلماء في كونه يأخذ حكم الأمر أو لا؟
فذهب جمهور العلماء
(3)
إلى أن الخبر الذي بمعنى الأمر يأخذ حكمه فيحمل على الوجوب، عند تجرده عن القرائن الصارفة له عن ذلك.
قال ابن حزم: «الأوامر الواجبة ترد على وجهين: أحدهما: بلفظ: افعل، أو افعلوا. والثاني: بلفظ الخبر
…
»
(4)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 517).
(2)
البرهان في علوم القرن (2/ 220). (2/ 320)
(3)
انظر: شرح تنقيح الفصول (115)، والتنقيح وشرحه التوضيح مطبوعان مع شرح التلويح على التوضيح (1/ 281282)، والموافقات (3/ 117)، والبحر المحيط (2/ 371) و (3/ 465)، و (4/ 226227)، وفتح الغفار (35)، وإرشاد الفحول (2/ 20).
(4)
الإحكام (3/ 301).
وذكر الشاطبي أنها من الأوامر غير الصريحة وأنها تدل على تقرير الحكم حيث قال: «وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب:
أحدها: ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]
…
وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر، فهذا ظاهر الحكم، وهو جار مجرى الصريح من الأمر والنهي».
(1)
وقال ابن النجار: «وكأمر خبر بمعناه، يعني: أن الأمر الذي بلفظ الخبر نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] حكمه حكم الأمر الصريح في جميع ما تقدم
(2)
.
ونقل الخلاف في هذه المسألة عن ابن الزملكاني
(3)
، وبعض الشافعية الشافعية.
(4)
، حيث ذهب إلى عدم جريان الخلاف الذي في الأمر والنهي في الخبر الذي في معناهما، فلا يأخذ حكمهما
(5)
.
وحجته: أن ما كان موضوعاً حقيقة لغير الأمر والنهي، ويفيد معناهما
-كالخبر الذي هو بمعناهما- لا يدعي أنه حقيقة في الوجوب أو الحرمة؛ لأنه
(1)
الموافقات (3/ 422 - 423).
(2)
شرح الكوكب المنير (3/ 66).
(3)
هو: محمد بن علي بن عبد الواحد بن الزملكاني، الشافعي، القاضي، الفقيه، الأصولي، النحوي، رأس الشافعية في زمانه، توفي سنة (727 هـ). انظر: طبقات الشافعية (9/ 190)، وشذرات الذهب (6/ 78).
(4)
انظر: البحر المحيط (2/ 371) و (3/ 465)، و (4/ 226227)، وإرشاد الفحول (2/ 20).
(5)
قاله ابن الزملكاني في رد له على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الزيارة، حيث جعل شيخ الإسلام ابن تيمية قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث» في معنى النهي، والنهي للتحريم، كما أن الأمر للوجوب، فنازعه ابن الزملكاني، وألف في ذلك مؤلفاً يرد فيه على ابن تيمية في مسالتي الطلاق والزيارة، كما في كتب ترجمته السابقة، وانظر: البحر المحيط (2/ 105).
يستعمل في غير موضعه إذا أريد به الأمر أو النهي. وادعاء كونه حقيقة في الخبر مكابرة.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن الخبر هنا وإن كان مستخدماً في غير معناه الحقيقي إلا أن منع دلالته على الوجوب غير مسلمة؛ إذ العبرة بالمعنى لا بصورة اللفظ، والمعنى أمر فيكون دلالته كدلالة الأمر، بل إن بعض العلماء قال: إنه أقوى في الدلالة، كما سيأتي في بيان أسباب العدول من صيغة الأمر إلى أسلوب الخبر في المبحث القادم.
قال ابن النجار: «قال أرباب المعاني: وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأن المتكلم لشدة طلبه نزَّل المطلوب بمنزلة الواقع لا محالة
…
»
(1)
واستدل أصحاب القول الأول القائلين بجريان الخلاف الوارد في الأمر والنهي، أنه ربما يكون حقيقة في الأمر أو النهي، ويترتب عليه أحكامهما، بالأدلة التالية:
الدليل الأول: إن الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي، يدخله النسخ، كما يدخل الصيغ الصريحة في ذلك، أما الأخبار المحضة فلا يدخلها النسخ
(2)
.
الدليل الثاني: إن مدلول الخبر هو الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم أو نفيه عنه، فالمحكوم به في خبر الشارع إن كان هو الحكم الشرعي مثل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فلا يخفى أنه يفيد
(1)
شرح الكوكب المنير (3/ 32). وانظر: شرح تنقيح الفصول (115)، والبحر المحيط (2/ 372)، وفتح الغفار (35).
(2)
انظر: البحر المحيط (2/ 371)، وشرح الكوكب المنير (3/ 66).
ثبوت الحكم الشرعي من غير أن يجعل مجازا عن الأمر، وإن لم يكن كذلك فوجه إفادته للحكم الشرعي أن يجعل الإثبات مجازاً عن الأمر، والنفي مجازاً عن النهي، فيفيد الحكم الشرعي بأبلغ وجه؛ لأنه إذا حكم بثبوت الشيء أو نفيه فإن لم يتحقق ذلك لزم كذب الشارع وهو محال، بخلاف الأمر فإنه لا يلزم من عدم الإتيان بالمأمور به كذب الشارع
(1)
.
الدليل الثالث: أن هذا الخبر يوجد خلافه، ولو كان خبراً محضاً لما وجد ذلك؛ لما يلزم عليه من الخُلْف في خبر الشارع، فوجب حمله على الأمر إذاً
(2)
.
الدليل الرابع: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن صيغ العقود كبعت واشتريت، والفسوخ، كفسخت، وطلقت، والالتزامات، كقول القاضي: حكمت، أنها وإن كانت إخبارات في أصل اللغة إلا أن معناها الإنشاء، وتأخذ حكمه.
الدليل الخامس: إن استعمال الأمر أو النهي بلفظ الخبر عرف سائد عند العرب، فيقولوا مثلاً: جمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف به
(3)
.
الدليل السادس: أن من العلماء من يرى أنه داخل تحت دلالة الاقتضاء، إذ قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. معناه: ليرضعن، وكذا قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أي: ليتربصن، فقدروا صيغة الأمر في الخبر
(4)
.
(1)
انظر: شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني (1/ 282)، وقال المرداوي في التحبير (5/ 2196):" واستند بعضهم في ذلك لقول البيانيين وغيرهم إن ذلك أبلغ من صريح الأمر والنهي فينبغي أن يكون للوجوب قطعاً ".
(2)
انظر: البحر المحيط (2/ 371).
(3)
انظر: البحر المحيط (2/ 372).
(4)
انظر: البحر المحيط (3/ 282)(3/ 296)، الإبهاج (2/ 704).
يقول ابن نجيم عند قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} : "
…
وأصل الكلام ليتربصن، ولام الأمر محذوفة، فاستغنى عن ذكره، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد له، وللإشعار بأنه مما يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله .... "
(1)
.
الدليل السابع: إن أهم عنصر ذاتي في مفهوم لفظ الأمر، هو طلب الفعل الجازم، وفي النهي طلب الترك الجازم، وهذا يشمل المستعمل في الطلب حقيقة أو مجازاً، إذ أن المقصد والهدف هو إخراج الصيغ المستعملة في الطلب غير الجازم وهو الندب، أو إخراج الصيغ المستعملة في الترك غير الجازم كالكراهة
(2)
.
الدليل السادس: أن الحكم تابع للمعنى الذي دلّ عليه اللفظ دون صورة اللفظ
(3)
؛ وعليه يمكن أن يستند في إثبات الوجوب بهذا الأسلوب على ما يأتي:
(1)
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
حيث حذر تعالى من مخالفة الأمر بإطلاق فيدخل فيه ما جاء بصيغة الخبر وأُريد به الأمر، والتحذير لا يكون إلا في ترك الواجب.
(2)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
(1)
البحر الرائق (4/ 140).
(2)
انظر: المناهج الأصولية للدكتور الرديني (701).
(3)
شرح الكوكب المنير (3/ 66).
حيث بين تعالى أنه لا خِيَرة لأحد بعد أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن فعل ذلك يؤدي بالشخص إلى الوقوع في المعصية والضلال المبين، وقد أطلق تعالى الأمر فيدخل فيه ما جاء بصيغة الخبر وأُريد به الأمر، وعلى هذا فإنه يفيد الوجوب، إذ مثل هذا التحذير لا يكون إلا في ترك الواجب.
تنبيه: نازع ابن العربي العلماء وقال إنه: لا يصح ورود الخبر ومعناه الأمر بل هو خبر لفظا ومعنى فهو خبر عن حكم الشرع، ثم قال: هذه الدفينة التي فاتت العلماء فقالوا: "إن الخبر يكون بمعنى الأمر" وما وجد ذلك قط ولا يصح أن يوجد فإنهما مختلفان حقيقة ومتباينان وضعا
(1)
.
والظاهر أن كلامه لا يعارض استعمال الخبر في معنى الأمر مجازا إذ استبعد استعمال الخبر في الأمر حقيقة ولا يصح ذلك فعلا، إذ حقيقته الخبر وليس الأمر.
ولا شك أن الخلاف بينه وبين غيره في الطريق والأسلوب وليس في إثبات الحكم فإن كلا منهما يرى ثبوت حكم الوجوب بالخبر إلا أن ابن العربي أثبته بالخبر مباشرة وقال إنه خبر عن الحكم الشرعي، وغيره أثبته بعد أن جعله في معنى الأمر لما سلف آنفا.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 188، 253، 280)، الإتقان (2/ 205)، بدائع الفوائد (1/ 116)، البرهان في علوم القرآن (3/ 349).
تنبيه في بيان أسباب العدول عن أسلوب الأمر وصيغه إلى أسلوب الخبر:
عدل الشارع عن أسلوب صيغ الأمر الصريحة إلى الأسلوب الخبري لأسباب مظانها كتب علم المعاني، وذكرها الأصوليون لما لها تعلق بالأحكام، ومن تلك الأسباب:
أولا: إن الحكم المخبر به يؤذن باستقرار الأمر وثبوته على حدوثه وتجدده فإن الأمر لا يتناول إلا فعلا حادثا فإذا أمر بالشيء بلفظ الخبر آذن ذلك بأن هذا المطلوب في وجوب فعله ولزومه بمنزلة ما قد حصل وتحقق فيكون ذلك أدعى إلى الامتثال. وهو أبلغ من صريح الأمر لأن المتكلم لشدة طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة
(1)
.
يقول الزمخشري: " ورود الخبر والمراد الأمر أو النهي، أبلغ من صريح الأمر أو النهي، كأنه سُورع فيه إلى الامتثال وأخبر عنه "
(2)
.
يقول الزركشي: " فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقاً لثبوته، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعاً ولابدَّ، وهذا هو المشهور "
(3)
.
ثانيا: أن أسلوب الأمر و إن دل على الوجوب فقد يحتمل في اللغة معنى الاستحباب فإذا جيء بأسلوب الخبر علم أنه أمر ثابت مستقر و انتفى احتمال الاستحباب
(4)
.
(1)
انظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2196) البحر المحيط (2/ 372)، الإبهاج (2/ 704).
(2)
الكشاف للزمخشري (1/ 156).
(3)
البرهان في علوم القرآن (3/ 401).
(4)
انظر: البحر المحيط (2/ 372).
ثالثا: أن الأحكام قسمان أحدهما خطاب وضع وأخبار: وهو جعل الشيء سببا وشرطا ومانعا كالطلاق سبب لوجوب العدة، فإذا جيء بأسلوب الخبر كانت فيه دلالة على أنه من قبيل خطاب الوضع والأخبار الممتازة عن سائر خطاب التكليف
(1)
.
رابعاً: على القول إن الخبر لا يأتي بمعنى الأمر، وإنما المقصود من مثل هذا الخبر إخبار محض عن حكم الشرع واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة، فمعنى قول عمر رضي الله عنه: صلى رجل في إزار ورداء" أي هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقق من الشريعة، ومعنى قول العرب: أنجز حر ما وعد" أي ثبت ذلك في المروءة واستقر في الفطرة. فالإشارة إلى هذه المعاني حسنت صرفه إلى صورة الخبر
(2)
.
خامسا: تنويع الأساليب وتعددها مثل تعدد الصيغ، والألفاظ المشتركة، والمترادفة.
(1)
البحر المحيط (2/ 372).
(2)
بدائع الفوائد (1/ 116).
الدراسة التطبيقية
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
تضمنت الآية أحكاماً فقهية بالأسلوب الخبري وتفاصيل ذلك فيما يأتي:
أولا: قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} تضمنت هذه الآية وجوب العمرة، ووجوبها على الآفاقي استدلالاً بهذه الآية، أو بغيرها- كما سيأتي- في قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] هو مذهب الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
وقول عند الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
.
ووجه الاستدلال على هذه الحكم من هذه الآية- على القول بأنها بمعنى الطلب
(5)
- هو: أن المولى سبحانه وتعالى أخبر بأنه جعل البيت مثابة للناس، أي: معاداً
(1)
انظر: المجموع (7/ 11، 7)، مغني المحتاج (1/ 460)، نهاية المحتاج (3/ 228).
(2)
انظر: المغني (5/ 13)، الإنصاف (3/ 387)، كشاف القناع (2/ 376).
(3)
انظر: مجمع الأنهر (1/ 257).
(4)
انظر: المقدمات الممهدات (1/ 304).
(5)
وهو الصحيح - بإذن الله - كما هو ظاهر؛ ولأن العلماء قدروا (القول) في الجملة التي تليها (واتخذوا) أي: وقلنا اتخذوا، حتى لا يكون من باب عطف الإنشاء على الخبر وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالآية الخبر على حقيقته، وحملوا الآية على أحد التأويلات التالية:
1 -
إنهم يثوبون إليه في كل عام.
2 -
إنه لا ينصرف أحد عنه إلا وهو يتمنى العود إليه.
3 -
إنهم يحجون إليه فيثابون عليه.
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للشيخ محمد الأمين الهروي (2/ 257).
يرجعون ويعودون إليه، وهذا يستلزم عدم خلو البيت منهم سواء كان في الحج أو العمرة في جميع أيام السنة، ولا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى إلا بحملها على الوجوب؛ لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء، فوجب حمل الآية على الوجوب؛ لأن الحمل على الوجوب يفضي إلى صيرورته مثاباً، أكثر من حمله على الندب
(1)
.
ثانيا: قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] تضمنت هذه الآية - أيضاً - وهو تأمين البيت. وقد أمر المولى سبحانه وتعالى عباده أن يجعلوا مكة مكاناً مأموناً من الغارات والقتل ونصب الحروب
(2)
.
فكأنه سبحانه وتعالى قال: أمنوا من دخل البيت. ولا يمكن حمل الآية على الخبرية المحضة، إذ الواقع والمشاهد وقوع القتل المحرم والمباح في الحرم، فيلزم الخلف في إخباره سبحانه وتعالى وهذا مستحيل.
ووجوب تأمين الداخل للحرم محل اتفاق بين العلماء، سواء كان الداخل إنساناً أو حيواناً، أو طيراً، وأمن الإنسان يكون في نفسه أو أهله أو ماله.
ووجه العموم في الآية ورود الأمن في الآية بلفظ النكرة {وَأَمْنًا} كما أشار إلى ذلك ابن الفرس
(3)
، ولعل ذلك لورودها في سياق الامتنان.
(1)
انظر: التفسير الكبير (4/ 46).
(2)
انظر: التفسير الكبير (4/ 47).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 110).
يقول ابن العربي: "
…
وهذا إخبار من الله تعالى عن منته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه"
(1)
.
وقد استثنى العلماء من عموم الآية أشياء منها ما ذكره ابن الفرس من الداجن، من الإبل والبقر والغنم والدجاج، فإنه يجوز ذبحه حتى للمحرم.
وذكر - أيضاً- الفواسق الخمس التي يجوز قتلها في الحل والحرم، والاختلاف في العلة المخرَّجة هل هي الضرر كما يقول مالك، أو عدم أكل لحمها كما يقول الشافعي، وبحسب ذلك طرد كل واحد علَّته
(2)
.
ومن المستثنيات: " الدفاع عن النفس
(3)
بقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191].
وبحسب تعميم الأمن الوارد في الآية يدخل ما ذكره أبو حنيفة من عدم إقامة الحدود في الحرم
(4)
، وخالفه العلماء في ذلك
(5)
.
وقد نقل القرطبي الإجماع على أنه لو قتل في الحرم قُتل به، ولو أتى حدَّاً أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه .... فنحن نقتله بالسيف، وهو-أي: أبي حنيفة - يقتله بالجوع و الصدِّ، فأي قتل أشد من هذا "
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 39).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 110).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن عثيمين (1/ 446).
(4)
وذلك لمن جنى خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم، وهو مذهب الحنابلة. انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 625)، الإنصاف (10/ 167).
(5)
انظر: الشرح الكبير للدسوقي (4/ 261)، شرح الزرقاني (8/ 24)، والمجموع (7/ 466)، مغني المحتاج (4/ 43).
(6)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 111).
ثالثا: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. كون الجملة خبرية ثابت بقراءة نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر
(2)
عمن اتخذه من مبتغي إبراهيم عليه السلام، فهو إخبار عن قوم إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى".
واختلف المفسرون في المراد بمقامه
(3)
، والأكثر على الموضع المخصوص للصلاة، والمعهود، ويؤيده سبب نزول الآية حين طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية
(4)
، وبيَّن المراد منها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله حين قرأ بالآية ثم صلى خلف المقام المعهود ركعتي الطواف
(5)
.
* وقد اختلف العلماء في حكم ركعتي الطواف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنها واجبة، وهو مذهب الحنفية
(6)
، والمالكية
(7)
، وقول للشافعية
(8)
، ورواية عن الإمام أحمد
(9)
.
القول الثاني: إنها سنة، وهو مذهب الشافعية
(10)
، والحنابلة
(11)
، وقول للحنفية
(12)
،
(2)
انظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام بازمول (2/ 912)، تفسير الروح والريحان للهرري (2/ 257).
(3)
انظر: جامع البيان للطبري (1/ 536).
(4)
كما عند البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} برقم (4213).
(5)
كما في صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجه صلى الله عليه وسلم برقم (1218).
(6)
انظر: شرح فتح القدير (2/ 456).
(7)
انظر: حاشية العدوي (1/ 469)، بلغة السالك (1/ 274).
(8)
انظر: المجموع (8/ 51)، مغني المحتاج (1/ 492).
(3)
انظر: الفروع (3/ 305)، الإنصاف (4/ 18).
(4)
انظر: المجموع (8/ 51)، مغني المحتاج (1/ 492).
(5)
انظر: الفروع (3/ 503)، الإنصاف (4/ 18).
(6)
انظر: مجمع الأنهر (1/ 265)، حاشية ابن عابدين (2/ 499).
والمالكية
(7)
.
القول الثالث: إنها تابعة للطواف، فتجب بعد الطواف الواجب، وتسن بعد الطواف المسنون، وهو قول للمالكية
(8)
، والشافعية
(9)
.
والذي يهمنا هنا هو استدلال أصحاب القول بالآية باعتبار كونها أمراً ووردها بالأسلوب الخبري، وقد ثبت هذا الأمر بصيغة الأمر الصريحة في قراءة الجمهور
(10)
، والأصل فيه أنه يقتضي الوجوب، وهو عند أصحاب القول الأول على ظاهره وأصله، غير مصروف إلى الندب.
أما أصحاب القول الثاني فقد صرفوه إلى الندب بما ورد في عدد من الأحاديث بأن الواجب على العبد من الصلوات هو الصلوات الخمس لا غير، ومن ذلك حديث معاذ رضي الله عنه، وفيه:" فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الحديث
(11)
.
وحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في الرجل من أهل نجد الذي جاء يسأل عن الإسلام وفيه: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع .. " الحديث
(12)
.
(7)
انظر: حاشية الدسوقي (2/ 42، 41)، جواهر الإكليل (1/ 179).
(8)
انظر: بلغة السالك (1/ 274)، جواهر الإكليل (1/ 179).
(9)
انظر: المجموع (8/ 51)، مغني المحتاج (1/ 492).
(10)
تفسير حدائق الروح والريحان للشيخ محمد الأمين الهروي (2/ 257)، القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد بازمول (2/ 474).
(11)
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم (1496). ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (29).
(12)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46). ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد الأركان، برقم (8).
[البقرة: 158]
أجمع العلماء على مشروعية السعي بين الصفا والمروة، واختلفوا في حكمه، وكل استدل بالآية وهي خبر متضمنة للأمر.
قال السيوطي: " وقال قوم: قوله {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} دليل على الوجوب؛ لأنه خبر بمعنى الأمر، ولا دليل على سقوطه "
(1)
ا. هـ.
* ثم
اختلف العلماء القائلون بحتميته، هل السعي ركن في الحج أو أنه واجب؟
على قولين:
الأول: هو ركن من أركان الحج، فلا يصح الحج بدونه، ولا يجبر بدم ولا غيره، وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: هو واجب من واجبات الحج، يجبر بدم، وهو مذهب الحنفية
(5)
ورواية عن أحمد
(6)
اختارها بعض الحنابلة ورجحها ابن قدامه
(7)
.
وعضد الجميع حتمية السعي بين الصفا والمروة بما ورد في الآية، وبما ذكر في سبب نزولها وذلك على النحو التالي:
1) تصريحه عز وجل بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما
(1)
الإكليل في استنباط التنزيل (77).
(2)
انظر: الاستذكار (3/ 520)، جواهر الإكليل (1/ 165)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 183).
(3)
انظر: المجموع (8/ 81)، مغني المحتاج (1/ 746)، أسنى المطالب (3/ 200).
(4)
انظر: المغني (5/ 238)، المبدع (3/ 263)، منتهى الإرادات (2/ 174).
(5)
انظر: بدائع الصنائع (2/ 214)، فتح القدير (1/ 161)، تبين الحقائق (2/ 21).
(6)
انظر: المغني (5/ 239).
(7)
المصدر السابق.
أمر حتم، ولابُدَّ منه؛ لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]، وقوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فدَّل ذلك على وجوب إقامة شعائر الله، ومنها السعي بين الصفا والمروة
(1)
.
1) سبب نزول الآية، وتفسير أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما للآية وفيه جواب لما ذهب إليه بعض العلماء من القول إن السعي بين الصفا والمروة تطوع وليس بركن ولا واجب.
وبيان ذلك أن عروة قال: " سألت عائشة رضي الله عنهما فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوَّف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يُسلموا يهلّون لمناة
(2)
الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل
(3)
، فكان من أهل يتحرّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلمَّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قالوا: يا رسول الله إنا كنّا نتحرَّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله
(1)
انظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 281).
(2)
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 630): " مناة: بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية صفة لها إسلامية ".
(3)
المشلَّل: بضم الميم وفتح الشين، ولام مشدَّدة مفتوحة، وآخره لام ثانية، موضع على الطريق بين مكة والمدينة. والمشلل: ثنية مشرفة على قديد. ينظر: فتح الباري (3/ 630)، معجم البلدان (5/ 136).
تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالت عائشة رضي الله عنهما: وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. ".
(1)
فهذا حديث صحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سنّ الطواف بين الصفا والمروة، أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيته
(2)
، ويؤيده قولها:" فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. "
(3)
.
[البقرة: 194].
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} جملتان خبريتان تدلان على جواز قتال المشركين في الأشهر الحرم إذا ابتدؤوا بالعدوان.
ومعنى الآية: من استحل دمكم في الشهر الحرام فاستحلوا دمه فيه. وهذا الحكم لا خلاف في جوازه بين أهل العلم.
قال ابن القيم: " ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء"
(4)
. ويؤيد هذا الحكم منطوق الآية ذاتها: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجُعل من شعائر الله، برقم (1643).
(2)
انظر: فتح الباري (3/ 632)، أضواء البيان (3/ 283)، اختيارات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الفقهية في العبادات (2/ 1439).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركنٌ لا يصحّ الحجَّ إلا به، برقم (3070).
(4)
زاد المعاد (3/ 301).
وهنا فائدتان: الأولى: المراد بالأشهر الحرم: ذي العقدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب، وهذا أيضا باتفاق أهل العلم
(1)
، وقد ورد فيها قوله عليه السلام:"إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو العقدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"
(2)
.
الفائدة الثانية: ذهب جمهور أهل العلم
(3)
إلى أن ابتداء القتال في الأشهر الحرم كان منهياً عنه وغير جائز، ثم نسخ ذلك وصار القتال فيها جائزاً.
يقول أبو عبيد: " والناس اليوم بالثغور جميعاً على هذا القول، يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها حلالها وحرامها، لا فرق في ذلك عندهم، ثم لم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز. "
(4)
.
(3) قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
ذكرت الآية الكريمة أحكاما فقهية، ما ثبت منها بلفظ الخبر حكمين فقهيين
(1)
نقل الإجماع النووي في شرحه على صحيح مسلم (1/ 182).
(2)
أخرجه البخاري، في كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4385).
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (33)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 390)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 147)، الجامع لأحكام القرآن القرطبي (3/ 43)، نواسخ القرآن لابن الجوزي (1/ 271).
(4)
الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد (208).
وهما:
الحكم الأول: وجوب العمرة.
وقد سبق القول بأن وجوب العمرة هو مذهب الشافعية والحنابلة، وهو قول عند الحنفية والمالكية عند قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
وقد استدلوا بهذه الآية على قراءة الجمهور بنصب لفظ {وَالْعُمْرَةَ} عطفاً على {الْحَجَّ} على خلاف بينهم في معنى الإتمام
(1)
في قوله: {وَأَتِمُّوا} .
ووردت الآية بقراءة آحادية عن ابن مسعود برفع لفظ (العمرةُ)
(2)
وهي بهذه القراءة خبر بمعنى الأمر، والمعنى أنها مما تتقربون بها إلى الله عز وجل وقد ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) أن الكفار كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم
(3)
. فتكون الآية تأمرهم بأن تكون العمرة كذلك لله سبحانه وتعالى.
يقول الدكتور محمد بازمول: " والقراءة الآحادية برفع (العمرةُ) أفادت الأمر بإتمام الحج، ثم استئناف كلام جديد يخبر الله تعالى بأن العمرة لله، وهو خبر بمعنى الأمر ليفيد مزيد الاهتمام بالعمرة فلا تصرف إلا لله، لأن بعض المشركين
(1)
اختلف العلماء في تأويل الإتمام على خمسة أقوال:
الأول: يعني، وأتموا الحج لمناسكه، وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسننها.
الثاني: أن إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
الثالث: أن إتمام العمرة أن تحرم بها في غير الأشهر الحرم، وإتمام الحج أن تأتي بجميع مناسكه، حتى لا يلزم دمٌ لجبران نقصان.
الرابع: أن تخرج من دويرة أهلك لأجلها لا تريد غيرهما من تجارة ولا مكسب.
الخامس: أن إتمامهما واجب بالدخول فيهما.
انظر: جامع البيان للطبري (2/ 214)، معاني القرآن للزجاج (1/ 266).
(2)
انظر: زاد المسير (1/ 204)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 369)، البحر المحيط (2/ 72).
(3)
انظر: تفسير البحر المحيط (2/ 71).
كان يحج لله ويعتمر للصنم، كما قال الماتريدي في كلامه السابق والله أعلم"
(1)
. اه
الحكم الثاني: وجوب صيام عشرة أيام كاملة لمن لم يجد الهدي للمتمتع، فإن كان عاجزاً عن الدم فإنه ينتقل إلى صيام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، ثم قال سبحانه وتعالى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فقال بعض أهل العلم: إن لفظه خبر ومعناه أمر، أي: أكملوها ولا تنقصوها ذلك، وهذا الحكم متفق عليه بين أهل العلم
(2)
، وإنما الخلاف فيما إذا فات المتمتع صيام الأيام الثلاثة في الحج، فهل يجب عليه صيام السبعة الباقية أم تسقط عنه ويتعين عليه الدم؟. وبسط هذا في كتب الفقه
(3)
.
(4) قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج: ثلاثة أشهر، أولها شوال، واختلفوا في آخرها، هل هو العاشر من ذي الحجة، أم ذي الحجة بأكمله؟
(4)
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} خبر بمعنى الأمر، أي: إن أشهر الحج هي: شوال، وذو العقدة، وذو الحجة، فمن أراد الحج فليبدأ بالإحرام من شوال إلى
(1)
القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد بازمول (2/ 474).
(2)
نقل الإجماع عليه ابن قدامة في المغني (5/ 360)، والنووي في المجموع (7/ 186).
(3)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (3/ 398)، شرح الزركشي على الخرقي (3/ 310 - 311)، الفروع لابن مفلح (3/ 323)، المحلى لابن حزم (7/ 145).
(4)
انظر: المجموع (7/ 136)، فتح الباري (3/ 529)، نيل الأوطار (5/ 29).
عشر ذي الحجة
(1)
.
ومن قال بأن شهر ذي الحجة كاملة من أشهر الحج، كالمالكية، فباعتبار ما يمتد فيه الإحلال
(2)
.
فائدة: قال العلماء بأن المولى سبحانه وتعالى أطلق الأشهر على شهرين، وبعض شهر، تنزيلاً للبعض منزلة الكل
(3)
.
(5) قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
[البقرة: 228].
قال القرطبي رحمه الله: " قوله: "{يَتَرَبَّصْنَ} التربص: الانتظار على ما قدمناه، وهذا خبر والمراد الأمر"
(4)
.
وقد اتفق العلماء
(5)
على وجوب تربص المرأة المطلقة واعتدادها ثلاثة قروء. قال ابن قدامه: " عدة المطلقة إذا كانت حرة، وهي من ذوات القروء، ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم"
(6)
.
(1)
انظر: فتح القدير (3/ 17 - 18)، حاشية ابن عابدين (3/ 474)، المجموع (7/ 135)، مغني المحتاج (1/ 686 - 687)، المغني (5/ 110)، شرح منتهى الإرادات (2/ 11).
(2)
انظر: شرح الخرشي على خليل (3/ 130)، الشرح الكبير (2/ 21).
(3)
انظر: الغرر البهية (4/ 108)، اختيارات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الفقهية من خلال أضواء البيان (2/ 951).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 112).
(5)
نقل الإجماع عليه عدد من العلماء، منهم ابن حزم في مراتب الإجماع (134)، وابن رشد في بداية المجتهد (2/ 151 - 152)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/ 112).
(6)
القرء في اللغة: الحيض والطهر معاً، فهما من الأضداد. وأصله من دنو وقت الشيء، فيكون للحيض والطهر جميعاً. واختلف الفقهاء في المراد منه؛ هل هو الحيض، أو الطهر؟، على قولين: فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه: الحيض. وذهب المالكية والشافعية إلى أنه الطهر.
انظر: لسان العرب (1/ 130 - 131)، المبسوط (6/ 13)، المدونة (2/ 234)، روضة الطالبين (7/ 361)، الإنصاف (9/ 279).
* وهو حكم ثابت غير مصروف إلا أن العلماء استثنوا من عموم لفظ {وَالْمُطَلَّقَاتُ} عدداً من المطلقات وهن:
(1)
المرأة التي لم تحض، والحامل، والمخصص لهن قوله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فأما المرأة التي بلغت سنّ اليأس من المحيض، أو كانت صغيرة لم تحض، فإن العدة في حقهن ثلاثة أشهر باتفاق أهل العلم
(1)
.
وأما الحامل فتنقضي عدتها بوضع حملها بلا خلاف بين العلماء
(2)
.
(2)
المطلقة قبل الدخول بها، والمخصص قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].
(3)
الأمة المطلقة، وعدتها حيضتان، إذا كانت ممن تحيض، والمخصص لها قوله صلى الله عليه وسلم:«طلاق الأمة طلقتان، وعدتها حيضتان»
(3)
.
قال ابن قدامه: " أكثر أهل العلم يقولون: عدة الأمة بالقرء قرءان .... فمنهم: عمر، وعلي، وابن عمر رضي الله عنهم ولم نعرف لهم مخالفاً في الصحابة فكان إجماعاً"
(4)
.
(1)
المغني لابن قدامة (11/ 199).
(2)
نقل الإجماع عليه ابن حزم في مراتب الإجماع (134)، وابن قدامة في المغني (11/ 207).
(3)
نقل الإجماع عليه ابن حزم في مراتب الإجماع (134)، وابن قدامة في المغني (11/ 228).
(4)
أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق الأمة وعدتها برقم (2079)، وضعفه محققه محمد فؤاد عبد الباقي.
وقيَّده رحمه الله بالصحابة؛ لأنه نقل عن داود الظاهري القول بأن عدتها كالحرة ثلاثة قروء، وهو قول ابن حزم كما في المحلى
(1)
.
ونقل عن ابن سيرين والأصم، إلا أن ابن سيرين قال: إلا أن تكون مضت بذلك سنة، فالسنة أحق أن تتبع
(2)
.
(6) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
[البقرة: 229].
أخبرت الآية الكريمة أن مسنون الطلاق التفريق بين الطلقات، والمعنى: طلقوا مرتين متى أردتم الطلاق، ومما يدل على كون الخبر هنا أريد به الأمر هو وجود الخلف في واقع الناس؛ إذ لو كان خبراً لوجد مخبره على ما أخبر به؛ لأن أخبار الله تعالى لا تنفك من وجود مخبراتها
(3)
وطلاق السنة المجمع عليه
(4)
هو: أن يطلق الرجل امرأته، وهي طاهر طهراً لم يمسها فيه بعد أن طهرت من حيضها طلقة واحدة، ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، أو يراجعها مراجعة رغبة. واستحب العلماء له مراجعتها، ولو بعد انقضاء عدتها
(5)
.
أما الطلاق المحظور فهو: الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وقد "أجمع العلماء في جميع الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة"
(6)
.
(1)
انظر: المحلى لابن حزم (10/ 115).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 244)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 168).
(3)
انظر: أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/ 517).
(4)
نقل الإجماع ابن عبد البر في التمهيد (15/ 53)، وابن قدامة في المغني (10/ 325)، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 479).
(5)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (6/ 144).
(6)
انظر: المغني (10/ 324)، مجموع الفتاوى (33/ 75 - 76).
وقد اختلف العلماء في وقوعه وبسط ذلك في كتب الفقه.
(1)
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
قال القرطبي: " قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى الندب لبعضهن "
(1)
.
* وقد ا
ختلف العلماء في مسألة حكم استرضاع الأم لولدها؟.
القول الأول: وجوب استرضاع الأم لولدها مطلقاً، وهو قول الظاهرية
(2)
، حيث إن الإرضاع من جملة منافعها المستحقة للزوج، بدليل أن الآية لم توجب على الزوج إلا النفقة والكسوة التي هي من خصائص الزوجية
(3)
.
وهو مذهب الحنفية إلا أن الوجوب عندهم ديانة لا قضاءً
(4)
.
القول الثاني: يجب استرضاع الأم لولدها إن كانت دنيئة، أما الشريفة فلا يجب ذلك عليها، وهو مشهور مذهب مالك
(5)
؛ نظراً إلى عادة الناس وعرفهم.
القول الثالث: لا يجب على الوالد استرضاع ولدها، بل الواجب على الوالد، إلا إذا تعينت عليها، بأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا الطفل مال فيجب حينئذ على الأم الإرضاع.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 153).
(2)
انظر: المحلى لابن حزم (10/ 337)، المغني (11/ 430).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 74).
(4)
انظر: تبين الحقائق (3/ 62)، فتح القدير (4/ 412)، البحر الرائق (3/ 238).
(5)
انظر: المدونة (2/ 416 - 417)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 204)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 153).
وهو قول الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
. وحجتهم:
1 -
قوله تعالى في سورة الطلاق: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]؛ حيث إنهم جعلوا آية الطلاق مبيِّنة لآية البقرة
(3)
.
2 -
قياس الأم المرضعة التي في عصمة الزوج على الأم المرضعة المطلقة، فلما لم يجب الاسترضاع على المطلقة لم يجب على من كانت في العصمة.
يقول ابن قدامة: " ولأن إجبار الأم على الرضاع لا يخلوا: إما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج، أو لهما: لا يجوز أن يكون لحق الزوج؛ لأنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمة نفسه فيما يختص به. ولا يجوز أن يكون لحق الولد؛ لأنه لو كان لحقه للزمها بعد الفرقة ولم يقله أحد؛ ولأن الرضاع مما يلزم الوالد لولده، فلزم الأب على الخصوص كالنفقة، أو كما بعد الفرقة. ولا يجوز أن يكون لهما، لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض، ولأنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة. وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} محمول على حال الاتفاق وعدم التعاسر"
(4)
أ. هـ
ومما صرفوا فيه الوجوب إلى الاختيار أو الندب - أيضاً - كون الآية سيقت لبيان مدَّة الرضاع، لا لبيان إيجابه
(5)
.
(1)
انظر: الحاوي للماوردي (11/ 494)، روضة الطالبين (9/ 88).
(2)
انظر: المغني (11/ 430)، الفروع (5/ 600)، الإنصاف (9/ 406 - 407).
(3)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 75).
(4)
المغني (11/ 431).
(5)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 75).
(2)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [البقرة: 234].
أخبرت الآية الكريمة المرأة المتوفى عنها زوجها بوجوب تربصها وإحدادها عليه مدة أربعة أشهر وعشرة أيام مع لياليها.
والإحداد: امتناع المرأة عن الزينة من لباس وغيره بعد زوجها للعدة
(1)
.
ومما يدل على أن الخبر هنا أريد به الأمر والوجوب، هو وجود الخلف في واقع الناس، فنجد امرأة توفي عنها زوجها ولم تتربص أربعة أشهر وعشر، ولو كان خبراً لاستحال وجود مخبره على خلافه.
والتربص هذه المدة باق على وجوبه، غير مصروف، وبه قال أكثر أهل العلم، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه
(2)
.
والعموم في اسم الموصول باق على عمومه، فتدخل كل امرأة توفي عنها زوجها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، آيسة أو غير آيسة.
ولم يخرج من العموم السابق إلا الحامل، فقد اختلف العلماء في سقوط وجوب إحدادها هل هو بانقضاء حملها فتستمر حتى الوضع، أو تشملها الآية الكريمة بعمومها؟ وبسط ذلك في كتب الفقه
(3)
.
(1)
انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (7/ 79).
(2)
نقل الإجماع على وجوب إحداد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً عدد من العلماء، منهم ابن المنذر في كتابه الإجماع (73)، وابن عبد البر في التمهيد (17/ 321)، وابن قدامة في المغني (11/ 284)، وغيرهم، ويقدح في هذا الإجماع مخالفة الحسن البصري والشعبي. قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 584):" ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها رد على من ادعى الإجماع ".
(3)
يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم (10/ 89): " عدة المتوفى عنها بوضع الحمل، حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله، انقضت عدتها، وحلَّت للأزواج، وهذا قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلماء كافة ".
(3)
قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
دلت الآية على وجوب تأمين من دخل مكة.
قال القرطبي: "وقال بعض أهل المعاني: صورة الآية خبر، ومعناها أمر، تقديرها: ومن دخله فأمنوه
…
"
(1)
.
وسبق دراسة المسألة عند قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
(4)
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34].
في الأية الكريمة حكمين فرعيين من الأحكام التي وردت بالأسلوب الخبري وهما:
الحكم الأول: قوامة الرجل على المرأة، من قوله:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} والقوامة هي: الولاية التي يفوَّض الزوج بموجبها بتدبير شؤون زوجته، والقيام بما يصلحها.
قال الجصاص: "قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة ..... "
(2)
.
وقال السعدي: " يخبر الله تعالى أن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، أي: قوامون بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/ 137).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 236).
المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون أيضاً بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن "
(1)
.
الحكم الثاني: طاعة المرأة لزوجها، من قوله:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} وهذا الحكم هو من مقتضيات القوامة السابق ذكرها.
يقول ابن العربي: " والمعنى: هو أمين عليها، يتولى أمرها ويصلحها في حالها، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعليها الطاعة ..... "
(2)
.
وقال ابن كثير في قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} : "وقوله {فَالصَّالِحَاتُ} أي من النساء، {قَانِتَاتٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن "
(3)
.
وقال ابن القيم عند حديثه عن وجوب خدمة المرأة لزوجها - وهي من مقتضيات الطاعة -: " .... وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوَّامة عليه "
(4)
.
ولم أقف على من خالف في قِوامة الرجل على المرأة، أو في وجوب طاعة المرأة لزوجها، والله أعلم.
(5)
قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
(1)
تيسير الكريم المنان للسعدي (2/ 60).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 415 - 416).
(3)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 95).
(4)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 187).
رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].
أخبر المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية أن كفارة من حنث في يمينه المنعقدة، بقوله:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: كفروا بالإطعام والكفارة المذكورة.
والكفارة هي: ما كفِّر به من صدقة أو صوم أو نحو ذلك، واستعملت فيما وجد فيه صورة مخالفة، أو انتهاك، وإن لم يكن فيه إثم، كالقتل الخطأ وغيره
(1)
.
ولا خلاف بين العلماء في وجوب الكفارة الواردة في النص لمن حنث في يمينه، وإنما الخلاف في مقدار الإطعام، والمراد بالوسط والكسوة، وفي أيهما أفضل من المخيرات المذكورة، لكي يقدمها الحانث
(2)
.
(6)
أخبرت الآية بأسلوبها الخبري عن حكم الشهادة على الوصية، فقال تعالى:{ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وهو خبر يقتضي الطلب، والمعنى: استشهدوا على وصيتكم ذوي عدل منكم أو من غيركم.
(1)
انظر: شرح المنتهى (3/ 328)، كشاف القناع (6/ 65).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 649)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 258).
وشهادة العدل المسلم هي الأصل ولا خلاف فيها بين العلماء، وإنما الخلاف في شهادة الكافر على وصية المسلم في حال الضرورة، وفي السفر خاصة، لمن حضره الموت.
فذهب بعض المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، و هو المذهب عند الحنابلة
(3)
إلى جوازها، بل نقل ابن القيم الإجماع على ذلك فقال:" والآية صريحة في قبول شهادة الكافر على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، لم يجئ بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارضا البتة فكان إجماعاً"
(4)
.
وكلام ابن القيم رحمه الله السابق عورض بوقوع الخلاف في المسألة فقد خالف الحنفية
(5)
، والمالكية
(6)
، والشافعية
(7)
في هذه المسألة، ويرون عدم قبول شهادة الكافر على المسلم لا في الوصية ولا في غيرها، وقالوا بأن الآية التي معنا - أي آية المائدة- منسوخة بآية الدين
(8)
، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 350).
(2)
انظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب (9/ 297).
(3)
انظر: المغني (14/ 170)، الإنصاف (12/ 60).
(4)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 97).
(5)
انظر: المبسوط (16/ 141)، بدائع الصنائع (6/ 280).
(6)
انظر: بداية المجتهد (4/ 1774)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 324).
(7)
انظر: الأم (6/ 258)، المجموع (18/ 463).
(8)
انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي (2/ 421) ...... الخ. وكون آية الدين في سورة البقرة نزلت بعد آية الوصية التي في سورة المائدة غير مسلم؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا بآية الوصية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الطرق الحكمية لابن القيم (144)، وفتح الباري لابن حجر (5/ 489)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 324 - 325).
مِنَ الشُّهَدَاءِ}، والكافر غير مرض فلا تجوز شهادته. قلت: إن دعوى النسخ إنما يصار إليه إذا لم يمكن الجمع بين الأدلة، وعلم تأخر الناسخ وتراخيه عن المنسوخ، وفي هذه المسألة لا يوجد ما يدل على تأخر ما يقال بأنه الناسخ، ويمكن الجمع بين الأدلة، وذلك بحمل ما يدل على اشتراط العدالة والإسلام في الشهادة على الحالة العامة، وحمل ما يدل على جواز شهادة غير المسلم على الحالة الخاصة، وهو جواز شهادته على الوصية في السفر، إذا لم يوجد أحد من المسلمين، فهذه حالة ضروة فتقبل شهادته فيه
(1)
.
فائدة: عدل المولى سبحانه وتعالى عن أسلوب الطلب إلى أسلوب الخبر؛ لأن الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محل ثقتهم
(2)
.
(7)
أخبرت الآية بوجوب مصابرة الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين، وعدم الفرار أمامهم، ثم خفف عنهم أو نسخ
(3)
إلى مصابرة الواحد للاثنين.
(1)
انظر: الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ للدكتور محمد إبراهيم سركند (5/ 2544).
(2)
انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (5/ 255).
(3)
انظر خلاف العلماء في كون نسخاً أو تخفيفاُ: الناسخ والمنسوخ للنحاس (156)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (2/ 452) وحجة القائلين بأنه نسخ، أن قوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ، يستلزم وجود التثقيل قبله.
وعورض بأنه لا يستلزم ذلك، بل إن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى في ترخيصه للحر في نكاح الأمة:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وليس هناك نسخ، إنما إطلاق نكاح الأمة لمن لم يستطع نكاح الحرائر.
ثم إن الأصل في الناسخ أن يكون متراخياً عن المنسوخ، ولا تجوز مقارنته له إلا بدليل قاهر، وهنا ذُكرت الآيتان متقارنتان.
وفائدة الخلاف في كونه تخفيفاً أو نسخاً تظهر فيما لو قاتل واحد عشرة، فقُتل هل يأثم أو لا؟ فعلى القول الأول بأن الآية منسوخة يأثم، وعلى القول بأنها تخفيفٌ لا يأثم. انظر: التفسير الكبير للرازي (15/ 194)، ومحاسن التأويل للقاسمي (8/ 94 - 95).
يقول ابن الجوزي: " لفظ هذا الكلام لفظ الخبر ومعناه الأمر"
(1)
.
وقد نقل جمع من العلماء
(2)
الإجماع على وجوب مصابرة الواحد للإثنين، وعدم جواز الفرار منهم.
يقول ابن هبيرة: " واتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات، وحرم عليهم الانصراف والفرار إذ قد تعين عليهم، إلا إن يكون مُتحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، أو يكون الواحد مع ثلاثة أو المائة مع ثلثمائة؛ فإنه أبيح لهم الفرار، ولهم الثبات لا سيما مع غلبة ظنهم بالظهور "
(3)
.
(1)
زاد المسير (3/ 378).
(2)
كابن رشد في بداية المجتهد (1/ 287).
(3)
الإفصاح لابن هبيرة (2/ 300)، خالف في هذه المسألة الحسن والضحاك ومقاتل، ورأوا أن تحريم الفرار خاص لأهل بدر دون غيرهم. واحتجوا بقوله تعالى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فظنوا: أن ذلك إشارة إلى يوم بدر. ورأى ابن العربي في إحكام القرآن (2/ 843 - 844): أن خلافهم شاذ لا يقدح في الإجماع. وقال في (2/ 877) عند آيتنا {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية [الأنفال: 65]: " قال قوم: كان هذا يوم بدر ثم نسخ، وهذا خطأ من قائله؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيِّفاً، والكفار كانوا تسعمائة؛ فكان للواحد ثلاثة. وأما هذه المقابلة وهي الواحد بالعشرة فلم ينقل أن المسلمين صافُّوا المشركين عليها قطّ ..... الخ".
الدراسة السادسة التطبيق على نوازل أحكام العبادات
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فما زالت الجامعات تخرج من رحمها رسائل علمية موسومة بتخريج الفروع على الأصول، إلا أنني لم أر من جمع وحصر التخريج الأصولي في نوازل أحكام القرآن، فعقدت العزم على وضع لبنة في هذا الجانب، بجمع ما أمكنني من نوازل في العبادات، استدل عليها بكتاب الله.
والقرآن أصل الأدلة، والأحكام ثمرة تلك الأدلة، يقول الإمام الشاطبي في معرض بيانه أن القرآن فيه بيان لكل شيء، ومنها الأحكام، فقال:«ومنها التجربة: وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها أصلاً، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل، وقال ابن حزم الظاهري: " كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة، نعلمه والحمد لله، حاش القِراض، فما وجدنا له أصلاً فيهما ألبتة " إلى آخر ما قال، وأنت تعلم أن القِراض نوع من أنواع الإجارة، وأصل الإجارة في القرآن ثابت»
(1)
.
(1)
الموافقات (4/ 189).
قلت: ومما سبق يُعلم أن القول بأن الحوادث لا تنتهي: حق، وأن النصوص محصورة: حق، أما القول بأن المحصور لا يشمل غير المحصور: ففيه نظر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الأحكام كلها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام معلَّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضاً متناولة لجميع الأحكام، لكن قد يفهم المعنى من لم يعرف اللفظ العام، وقد يعرف اللفظ العام ودلالته من لم يفهم العلَّة العامة»
(1)
.
فالدراسة تهدف إلى إكمال مسيرة العلماء بإضافة النوازل إلى كتب أحكام القرآن، مع ربطها بأصولها.
* وقد قسمت الدراسة إلى خمسة فصول، بحسب أبواب العبادات:
الفصل الأول: تخريج نوازل أحكام الطهارة.
الفصل الثاني: تخريج نوازل أحكام الصلاة.
الفصل الثالث: تخريج نوازل أحكام الزكاة.
الفصل الرابع: تخريج نوازل أحكام الصيام.
الفصل الخامس: تخريج نوازل أحكام الحج.
(1)
جامع المسائل (2/ 207).
الدراسة التطبيقية
الفصل الأول تخريج نوازل أحكام الطهارة
•
المبحث الأول: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
استدل بالآية من حرّم استعمال المنظفات التي تستخدم فيها النجاسات ولم تستهلك
(1)
. أي: المنظفات التي يكون في تركيبها شيء من النجاسات؛ كدهن الخنزير، أو الكحول، كالصابون ونحوه
(2)
.
وتخريج الحكم: أن ما حرم لعينه؛ فإنّه نجس، والميتة والدّم والخنزير حرمت لعينها فهي نجسة، وقد نصّ الشّارع على تحريمها بقوله:{حُرِّمَتْ} وهي صيغة إخبار عن الحكم ثم أتى بصيغة العموم (أل) غير العهدية؛ ليشمل التحريم جميع وجوه الانتفاع من أكل وبيع واستعمال للتنظيف، وغير ذلك، فلا يجوز الانتفاع بالنّجاسة مطلقًا.
(1)
قال ابن رجب في القاعدة الثانية والعشرين من قواعده: «أن العين التي تنغمر في غيرها وتستهلك لا حكم لها.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (24/ 270)، وفتاوى المنار (1631)، وفتاوى ابن عثيمين (1/ 254)، الفقه الميسر (9/ 15)، فقه النوازل في العبادات للمشيقح (66).
•
المبحث الثاني: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
*
المطلب الأول: وجوب إزالة كل ما يعلق بأعضاء الوضوء:
استدل بالآية على وجوب إزالة ما يعلق بأعضاء الوضوء، ويمنع وصول الماء إلى البشرة مما له جرم، كالدّهون والكريمات، وطلاء الأظافر، والأكحال التي تكون مادتها بلاستيكية، والأصابع المعدنيّة التي تحتوي على الكبريت أو الرّصاص أو النحاس، وبيضات الشعر
(1)
.
تخريج الحكم: يمكن تخريج الحكم السابق من الآية بواسطة قاعدة: ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب.
وبيانه: أنَّ غسل جميع أعضاء الوضوء واجب، ولا يتمّ هذا لواجب إلّا بإزالة ما يحول دون وصول الماء إليها، فيكون إزالة تلك الحوائل من الدّهون والكريمات ونحوها واجب.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/ 218)، فتاوى ابن باز (10/ 49)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/ 140)، الفقه الميسر (النوازل في العبادات)(9/ 9)، فقه النوازل في العبادات للمشيقح (32، 42)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (20).
*
المطلب الثاني: نزع الأطراف الصناعية عند الغسل والوضوء إن بقي من العضو المقطوع شيئ مما هو داخل في محل فرض الوضوء غسلًا أو مسحًا.
استدل بالآية من قال بوجوب غسل ما بقي من العضو إن كان القطع من المفصل فما دونه، سواء كان في اليد أو القدم، وتنزع الأطراف الصناعية لأجل ذلك
(1)
.
تخريج الحكم: إن معنى (إلى) هنا بمعنى (مع)
(2)
ويفسرها فعل النبي صلى الله عليه وسلم الدائم في الوضوء.
نوقش: بأنّ (إلى) الأصل أنها للغاية، فلا يدخل ما بعدها إلى ما قبلها، وعليه فلا يدخل المرافق في الغسل مع الأيدي، ولا الكعب في الغسل مع الأرجل
(3)
.
وأجيب: بأنّ ورود (إلى) بمعنى (مع) شائع في اللسان
(4)
.
*
المطلب الثالث: المسح على الجورب الملبوس على الأرجل الصناعية.
استدلَّ بوجوب المسح على الجورب الملبوس على الأرجل الصناعية على قراءة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بكسر (أرجلِكم) وذلك إن كان القطع من الكعب فما دونه من جهة القدم.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (11/ 106، 152)، الفقه الميسر (9/ 18)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (25 - 26).
(2)
ينظر: المغني (1/ 172)، الشرح الممتع (1/ 213)، أثر اللغة في اختلاف المجتهدين، ص (252).
(3)
ينظر: تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 731).
(4)
لقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ) وقالوا: لفظ: «كان» في الحديث يدل على المداومة، ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم اقتصر على ما دون المرفق، فدلّ على دخوله وجوبًا، وفي فعله صلى الله عليه وسلم بيانٌ للغسل المأمور به في الآية.
ينظر: تيسير البيان (2/ 732)، أثر العربية في استنباط الأحكام الفقهية من السنة النبوي، ص (406).
فالقول في هذا المطلب كالقول في المطلب السابق، إلا أنّ الحكم -هنا- متعلِّقٌ بالمسح على الجورب أو الخف الذي على الرّجل الصناعية
تخريج الحكم: ما سبق في المسألة السابقة من دلالة معنى حرف (إلى) وأنه بمعنى (مع)، مع جواز الاحتجاج بالقراءة الأخرى، فيأخذ حكم الغسل في المسألة السابقة، فيمسح عليها، إن كان قطع الرِجل من الكعب فما دون جهة القدم.
تنبيه: الكلام في هذه المسألة هو نفس الكلام في المسألة السابقة.
*
المطلب الرابع: المسح على الشماغ والغترة والطاقية والقبعات.
استدل بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} من قال بعدم جواز المسح على الشماغ والغترة والطاقية
(1)
والقبعات
(2)
.
تخريج الحكم: أن الباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} للإلصاق، وهذا يقتضي عدم وجود الحائل بين الراس والماء.
تنبيه: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة
(3)
، ومن أجاز ذلك اشترط للمسح عليها شروطًا لا تنطبق على الشماغ وما ذكر معه. فالحنابلة يشترطون في
(1)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 170)، الشرح الممتع (1/ 193)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (24).
(2)
يرى الشيخ العثيمين جواز المسح على القبّعة التي تلبس على الرأس أيام الشتاء لتقية البرد؛ لأنّ نزعها قد يكون أشق من العمامة، ولأنها أشد تدفئة من العمامة فتأخذ حكمها.
ينظر: شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (1/ 580)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 170)، فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 386).
(3)
كما في حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه قال: (رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، برقم:(205).
جواز المسح على العمامة كونها محنّكة أو ذات ذؤابة
(1)
، والشماغ والغترة والطاقية ليست كذلك
ولعل ضابط ذلك ما ذكره الشيخ العثيمين: «ما كان بمعنى العمامة مما يشق نزعه، فإنه يلحق بها، وما لا فلا»
(2)
.
*
المطلب الخامس: المسح على الباروكة.
استدل بالآية على عدم جواز المسح على الباروكة
(3)
.
تخريج الحكم: أن الباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} للإلصاق، وهذا يقتضي عدم وجود الحائل بين الراس والماء.
ويستصحب التنبيه السابق في المسألة الماضية.
كما ينبه: أن لبس الباروكة للرجال والنساء محرم، هذا هو الأصل فيها؛ لأنها داخلة في الوصل، وهي وإن لم تكن وصلاً إلا أنها تظهر شعر الرأس على وجه أطول من حقيقته فتشبه الوصل، فتأخذ حكم وصل الشعر، وقد أجاز الشيخ العثيمين رحمه الله لبس الباروكة للمرأة القرعاء التي لا شعر لها أصلاً؛ لأنه من باب إزالة العيب وهو جائز قياساً على إذن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أنف من ذهب لمن جدع أنفه
(4)
.
(1)
ينظر: كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 119)، الإنصاف (1/ 185)، الشرح الممتع (1/ 237).
(2)
ينظر: شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (1/ 579).
(3)
ينظر: فتاوى العثيمين (11/ 193)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (22).
(4)
ينظر: فتاوى المرأة ص (166 - 183).
*
المطلب السادس: عدم نقض الوضوء من خروج غير البول والعذرة من النجاسات.
استدل بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} من قال بعدم نقض الوضوء من الخارج من النجاسات غير البول والعذرة، سواء كان الخارج من المخرج المعتاد - السبيلين - أو من غيرهما
(1)
.
تخريج الحكم: يخرج الحكم على مفهوم الآية، حيث دلت الآية بمنطوقها على النقض من الغائط. والخارج في الغائط: البول والعذرة. ومفهومه: أن غير ذلك ليس بناقض.
*
المطلب السابع: نقض الوضوء من الخارج عن طريق القسطرة والشرج الصناعي
استدل بالآية من قال بنقض الوضوء عن طريق خروج البول عن طريق القسطرة، أو الغائط عن طريق الشرج الصناعي
(2)
:
والقسطرة: أن يوضع للمريض في مجرى البول قِسْطار أي: (ماسور بلاستيكي) يخرج منه البول دون إرادة المريض
(3)
.
أمّا الشرج الصناعي: فكأن يفتح الطبيب في جدار البطن فتحة يخرج منها البراز دون إرادة المريض، وتجتمع في علبة وتزال بين فترة وأخرى
(4)
.
(1)
ينظر: الإنصاف (2/ 13)، مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 526)، الشرح الممتع (1/ 274).
(2)
ينظر: الشرح الممتع (1/ 274)، شرح عمدة الفقه للجبرين (1/ 124)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (26). وخروج النجاسة من غير المخرج لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بولاً أو غائطًا وهي رواية في المذهب الحنبلي كما في الإنصاف (2/ 13)، واختارها شيخ الإسلام في مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 526).
(3)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (42)، الفقه الميسر (9/ 12).
(4)
ينظر: المصدر السابق.
وتخريج الحكم: ما سبق في المسألة السابقة من كون المطلق يجري على إطلاقه، وقد أطلق الشرع نقض الوضوء من خروج البول والغائط، ولم يقيّده من مخرجه المعتاد، فإن خرجا من أي مخرجٍ فإنهما ناقضان.
تنبيه: ذكر ابن رشد أن سبب اختلافهم في ذلك هو: «أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائطٍ وبولٍ وريح ومذي؛ لظاهر الكتاب، ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاثة احتمالات:
أحدها: أن يكون الحكم إنما علّق بأعيان هذه الأشياء فقط، الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم إنما علّق بهذه من جهة أنها أنجاسٌ خارجةٌ من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس، والاحتمال الثالث: أن يكون الحكم -أيضًا- إنما علّق بها من جهة أنها خارجةٌ من هذين السبيلين»
(1)
.
*
المطلب الثامن: نقض الوضوء بالغسيل الكلوي البروتيني.
استدل بالآية من قال بنقض الوضوء بالغسيل الكلوي البروتيني والغسيل الكلوي
(2)
. البروتيني: هو عبارة عن أنبوب يوضع في جوف المريض، وهذا الأنبوب يوضع بين السّرة والعانة، ويُعطى المريض بعض السوائل والأدوية الخاصّة التي تساعد الجسم على التّخلص من السموم، والفضلات السائلة، والأملاح الزائدة، ثم بعد ذلك تجتمع هذه الفضلات السائلة والسموم والأملاح الزائدة في هذا الأنبوب، ما يقارب من ثمان ساعات، ثمّ بعد اجتماعها يقوم المريض بتفريغ هذا الأنبوب في كيس خارجي
(3)
.
(1)
بداية المجتهد (1/ 41).
(2)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (48 - 49)، الفقه الميسر (9/ 14).
(3)
المصدر السابق.
وتخريج الحكم: أوجب المولى سبحانه وتعالى في الآية التطهر بالوضوء أو التيمم عند خروج البول أو الغائط لمن أراد القيام للصلاة، وأطلق في المحل، ولم يقيده بالمخرج المعتاد؛ لذا ذهب الحنفية والحنابلة إلى نقض الوضوء بخروج البول والغائط من أي محل خرجا؛ وذلك لأنّ المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد التّقييد الشّرعيّ له
(1)
.
تنبيه: الخارج من الغسيل الكلوي فيه صفات البول من الفضلات والأملاح والسموم؛ لذا أخذ حكمه، ولم يأخذ حكم الدّم، ونُقل عن بعض الباحثين أن من استعمل الغسيل البرويتيني في الغالب أنه يستغني عن التبول الطبيعي
(2)
.
*
المطلب التاسع: طهوريّة الماء المتغير بالدواء
استدل بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} من قال بطهوريّة الماء المتغير بالدواء، شريطة أن يبقى اطلاق اسم الماء عليه
(3)
.
تخريج الحكم: أن لفظة {مَاءً} نكرة في سياق النّفي، فتعمّ كل ما يطلق عليه ماء، والماء المتغير بالدواء يطلق عليه اسم الماء، فلم يسلبه الدواء المخالط اسم الماء، وعليه لا يجوز العدول عنه إلى التيمم.
تنبيه: هذا الحكم مبني على أن الماء إذا خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه؛ فإنّه يبقى على طهوريته، ما لم يسلبه اسم الماء المطلق، وهذا مذهب الحنفية، ورجحه كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رأي الشيخين عبد العزيز بن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-.
(1)
حاشية ابن عابدين (11/ 260) والمبدع شرح المقنع (1/ 117).
(2)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (49 - 50)، الفقه الميسر (9/ 15).
(3)
ينظر: فقه النوزال في العبادات للمشيقح (20).
*
المطلب العاشر: طهورية المياه المتغيرة بصدأ الأنابيب والخزانات
استدل بالآية على من قال بأن المياه المتغيرة بصدأ الأنابيب والخزانات باقية على طهوريتها، ولا يجوز التيمم مع وجود هذا الماء، ولا يؤثر تغير الصدأ فيها؛ لعدم القدرة عن الانفكاك عنه، ولا يمكن التحرز ولا صون الماء منه
(1)
.
تخريج الحكم: ما سبق من كون لفظ {مَاءً} في الآية نكرة في سياق النفي فتعمّ كل ماءٍ، وهذا ماء فلا يجوز التيمم مع وجوده.
وكذا يمكن تخريجها على عموم النكرة في سياق الامتنان الواردة في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11].
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
*
المطلب الحادي عشر: طهورية مياه الصرف الصّحي بعد تنقيتها.
استدل بالآية من قال بطهورية مياه الصرف الصحي بعد تنقيتها، وعدم جواز التيمم مع وجودها
(2)
.
وتخريج الحكم: ما سبق من تخريج، من كون لفظة {مَاءً} نكرة في سياق نفي، تعمّ كل ما يتعلق عليه ماء، ومياه الصّرف الصّحيّ بعد تنقيها يطلق عليها ماء، فيكون المتيمم واجدًا، ولا يجوز له العدول عنه إلى التيمم عند وجوده.
(1)
ينظر: فقه النوزال في العبادات للمشيقح (20 - 21).
(2)
ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الحادية عشرة (258)، ورجحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره رقم (64)، وفتاوى اللجنة الدائمة (5/ 80 - 100)، وأبحاث الهيئة (6/ 216)، ومجلة البحوث الإسلامية (49/ 359 - 361)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز (10/ 404)، والشرح الممتع (1/ 47)، وفقه النوازل للمشيقح (57)، والفقه الميسر (9/ 7)،.
وناقش البعض: صحة التخريج السابق، بأنّ مياه الصّرف الصّحي لا يطلق عليها اسم الماء إلّا بالإضافة.
يقول الدكتور عبد الله بن بكر أبوزيد: وماء الصرف الصحي بعد تنقيته ليس ماءً مطلقاً باقياً على أصل خلقته بل مقيداً بوصف التنقية المشعر بالاستقذار والاستخباث
(1)
.
ثم نقل عن النووي رحمه الله قوله: (وأما الماء المطلق فالصحيح في حده أنه: العاري عن الإضافة اللازمة، وإن شئت قلت: هو ما كفى في تعريفه اسم ماء.
وهذا الحد نص عليه الشافعي رحمه الله في البويطي.
وقيل: هو الباقي على وصف خلقته، وغلطوا قائله؛ لأنه يخرج عنه المتغير بما يتعذر صونه عنه أو بمكث أو تراب ونحو ذلك، واختلفوا في المستعمل هل هو مطلق أم لا على وجهين: أصحهما وبه قطع المصنف في باب ما يفسد الماء من الاستعمال وآخرون من محققي أصحابنا: أنه ليس بمطلق، والثاني: أنه مطلق)
(2)
.
*
المطلب الثاني عشر: التيمم على جدار الأسمنت أو البلاط، أو الجدار الذّي عليه دهان
استدل بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} من قال بعدم جواز التيمم على جدار الأسمنت أو البلاط، أو الجدار الذّي عليه دهان (بوية)
(3)
.
وتخريج الحكم: أن (من) في قوله: {مِنْهُ} تبعيضية، وهذا يقتضي أن يكون
(1)
فقه القضايا المعاصرة في العبادات (117) رسالة دكتوراه غير منشورة.
(2)
المجموع شرح المهذب (1/ 21).
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 240)، (15/ 412)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (27).
هناك غبار يعلق باليد، وهذا لا يتحقق بجدار الأسمنت أو البلاط، فلا يتحقق المسح.
نوقش: أن التيمم غير مختص بالتراب، بل بكل ما تصاعد على وجه الأرض؛ لقوله سبحانه:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، والصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض
(1)
.
وحمل بعضهم (من) في قوله: {مِنْهُ} على كونها ابتدائية، أي لابتداء الغاية
(2)
، أي: مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطّيب، وعليه فلا يتعين ما له غبار، ويصحّ التيمم بجدار الأسمنت وغيره.
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]
*
المطلب الأول: وضع المصلي على يده أو ثوبه العطور المسماة بالكولونيا
استدل بالآية على عدم جواز الصّلاة فيما إذا وضع المصلي على يده أو ثوبه العطور المسماة بالكولونيا.
قال محمّد الأمين الشّنقيطي: «
…
وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي ب (الكولانيا) نجس لا تجوز الصلاة به»
(3)
.
(1)
ينظر: الشرح الممتع (1/ 392).
(2)
ينظر: أضواء البيان (2/ 45)(2/ 127)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (19 - 20).
(3)
أضواء البيان (2/ 154)، الجامع الأحكام القرآن (6/ 27).
وتخريج الحكم: أن الأمر في قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذّي لا ينتفع معه بشيء من المسكر. وهو أمرٌ بمعنى النهي، فيقتضي تحريمه، وفساد الصلاة به؛ لأنّ النّهي يقتضي التحريم والفساد.
وقد دلت الآية على نجاسته بقوله: {رِجْسٌ} ، والرجس هو: النّجس.
نوقش: بأن النجاسة هنا حكمية لا حسية. ويؤيد ذلك قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
(1)
.
والجواب: بل النجاسة حقيقية وليست حكمية؛ لأنّ التّحريم كان لذات الخمر، وما كان لذاته وعينه؛ فإنّه يدلّ على نجاسته. وهذا من القواعد التي يُخرَّج عليها هذا الحكم.
قال ابن قدامة: «الخمر نجسة في قول عامة أهل العلم؛ لأن الله حرمها
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 254 - 256)، وينظر: مجموع فتاوى ابن باز (10/ 38) حيث يرى عدم نجاستها مع تحريم التطيب بالطيب المعمول من الكالونيا.
لعينها، فكانت نجسة كالخنزير، وكل مسكر فهو حرام، نجس، لما ذكرنا»
(1)
كما أن العلماء علقوا نجاسة الخمر على وصف الإسكار، وهذا الوصف موجود في الكالونيا.
قال ابن القيم: «الخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار»
(2)
.
وقال القرافي: «نجاسة الخمر معللة بالإسكار»
(3)
.
ومما يؤيد نجاسته مفهوم قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، حيث دلَّ منطوق الآية أن شراب الآخرة طهور، ومفهومه أن شراب الدنيا ليس بطهور.
تنبيه: يأخذ حكم الكالونيا كل المواد المشتملة على الكحول، كمستحضرات التجميل، والمسحات الطبية، ونحوها
(4)
في أثرها على الطهارة.
(1)
المغني (9/ 144). وقد ذكر النووي في المجموع شرح المهذب للنووي (2/ 584) هذا المعنى وهو أن الخمر يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجساً كالدم.
(2)
إعلام الموقعين (4/ 80). وانظر: مدارج السالكين (2/ 497).
(3)
الذخيرة (1/ 164).
(4)
استعملت الكحول بجميع أنواعه بشكلٍ واسعٍ مع التّطوّر الهائل في الصناعة، حتى دخلت في العديد من المنتجات الحديثة، مثل:
* العطورات ومستحضرات التجميل.
* محاليل الغسيل، ومستحضرات التنظيف، كالصابون، والشامبو، ونحوها.
* مستحضرات التطهير والتعقيم، كالمسحات والمحاليل الطبية المستخدمة لتطهير الجروح، أو للتعقيم قبل العمليات الجراحية أو قبل ضرب الإبر العلاجية، ونحو ذلك.
* الروائح والمنكهات التي تضاف إلى الأطعمة.
* وقود المحرّكات، والطلاء، والأصباغ، والمذيبات، ومنها مذيبات المواد الصمغية واللواصق، كالمحاليل الخاصة بإزالة طلاء الأظافر، والمعروفة باسم الراتينج.
كما أنها تستخدم في تحضير كثير من الأدوية.
ومنها ما يضاف للبترول، فيؤدي إلى تحسين المعدل الأوكتاني للبترول، ومنه ما يخلط مع البترول، فينتج عنهما وقود للمحركات، يسمى البترول الكحولي، إلى غير ذلك من الصناعات التي يصعب حصرها. انظر: الموسوعة العربية العالمية (19/ 152)، والكحول والمخدّرات في الغذاء والدواء، لمحمد البار.
ولذا تسامح بها البعض؛ لكونها مما عمَّت بها البلوى، وانتشرت، ولا يكاد يخلو منها بيت من بيوت المسلمين.
وقالوا: إن في القول بنجاستها حرج عظيم؛ لأن فيه تأثيماً للأمة، وإبطالاً لعباداتها من صلاة وطواف ونحوه
(1)
.
*
المطلب الثاني: استعمال السوائل الكحولية لأغراض الصّناعة والرسوم، والخرائط والمختبرات
استدل بالآية على جواز استعمال السوائل الكحولية لأغراض الصّناعة والرسوم، والخرائط والمختبرات
(2)
.
تخريج الحكم: إنّ الحكم يدور مع علته، حيث قالوا: إنّ علة تحريم الخمر هي ما ورد في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ} [المائدة: 91]، وهذه العلة لا تحصل فيما إذا استعمل في غير الشراب
(3)
.
تنبيه: هذا القول مبني على القول بعدم نجاسة الخمر من جهة، والقول بأن المحرم من الخمر هو الشرب فقط من جهة أخرى.
وقالوا: إن الخمر ليس هو الكحول، وإنما هو كلّ مادّة أعدّت للشرب،
(1)
ينظر: فقه القضايا المعاصرة في العبادات (175) رسالة غير منشورة د. عبد الله بن بكر أبو زيد، والفقه الميسر (9/ 17).
(2)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (11/ 254).
(3)
المصدر السابق.
وهي تؤدّي إلى الإسكار، سواءٌ أكانتْ من الكحول أم من غيرها، وعلى هذا فالعطورات الكحولية لا تدخل في مسمّى الخمر؛ لأنها من الطيب المباح في عرف جميع الناس، فهي لم تعدّ لغرض الإسكار، مثلها مثل البنزين، ومذيب البوية، والصمغ، والأصباغ، وغيرها مما قد يسكر وهو لم يعدّ لذلك.
* * *
•
المبحث الرابع: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]
*
المطلب الأول: جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة
استدل بالآية على جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة
(1)
.
وتخريج الحكم: على قاعدة دوران الحكم مع علته وجودًا وعدمًا؛ حيث نصت الآية على كونها حلالًا إن كان طيبًا، وجعل مقابل الطّيب الخبيث، وقد فصل سبحانه وتعالى ما حرم من الخبائث في القرآن من الدّم والخنزير والميتة وغيرها من النجاسات، وعليه فإذا زالت واستحالت لم يبق لها أثر فينتفي حكمها، وتكون من الطيبات. والجواز مأخوذ من لفظ الحلِّ
وقد أصدر المجمع الفقهي بمكة قراره الخامس في دورته الحادية عشرة عام 1409 بشأن: (حكم التطهر بمياه المجاري بعد تنقيتها) وهذا نصه: (
…
نظر
(1)
صدر به قرار المجمع الفقهي، وهيئة كبار العلماء في المملكة قرارها رقم (64).
ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (91 - 93، 258)، فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 80)، ومجلة البحوث الإسلامية (49/ 359 - 361)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (10/ 404).
في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟ وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربعة وهي الترسيب والتهوية وقتل الجراثيم وتعقيمه بالكلور بحيث لايبقى للنجاسة في طعمه ولونه وريحه وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم.
قرر المجمع ما يأتي:
إن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به بناءً على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه النجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه والله أعلم)
(1)
.
نوقش: بعدم التسليم في كونه أصبح طيباً، مع وجود صفة الاستخباث، كما سيأتي في المطلب التالي.
*
المطلب الثاني: عدم جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة.
استدل من قال بعدم جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة بالآية الكريمة.
وتخريج الحكم: ما ورد بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وهو إخبار عن الحكم شرعي.
سبق في المسألة السابقة القول بصدور قرار المجمع الفقهي بمكة بجواز
(1)
قرارات المجمع ص (91 - 93).
التطهر بمياه الصرف الصحي بعد تنقيتها، وقد توقف في هذا القرار عضو المجمع الشيخ صالح الفوزان، والشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد، وكتب الشيخ بكر وجهة نظره، فقال: (الحمد لله وبعد .. فإن المجاري في الأصل معدة لصرف ما يضر الناس في الدين والبدن طلباً للطهارة ودفعاً لتلوث البيئة.
وبحكم الوسائل الحديثة لاستصلاح ومعالجة مشمولها لتحويله إلى مياه عذبة منقاة صالحة للاستعمالات المشروعة والمباحة مثل: التطهر بها، وشربها، وسقي الحرث منها، بحكم ذلك صار السبر للعلل والأوصاف القاضية للمنع في كل أو بعض الاستعمالات، فتحصل أن مياه المجاري قبل التنقية معلة بأمور:
الأول: الفضلات النجسة باللون والطعم والرائحة.
الثاني: فضلات الأمراض المعدية، وكثافة الأدواء والجراثيم (البكتيريا).
الثالث: علة الاستخباث والاستقذار لما تتحول إليه باعتبار أصلها، ولما يتولد عنها في ذات المجاري من الدواب والحشرات المستقذرة طبعاً وشرعاً.
ولذا صار النظر بعد التنقية في مدى زوال تلكم العلل، وعليه:
فإن استحالتها من النجاسة بزوال طعمها ولونها وريحها لا يعني ذلك زوال ما فيها من العلل والجراثيم الضارة. والجهات الزراعية توالي الإعلام بعدم سقي ما يؤكل نتاجه من الخضار بدون طبخ فكيف بشربها مباشرة. ومن مقاصد الإسلام المحافظة على الأجسام؛ ولذا لايورد ممرض على مصح، والمنع لاستصلاح الأبدان كالمنع لاستصلاح الأديان.
ولو زالت هذه العلل لبقيت علة الاستقذار والاستخباث باعتبار الأصل لماء يعتصر من البول والغائط فيستعمل في الشرعيات والعادات على قدم
التساوي .... الخ)
(1)
.
ونوقش: بأن العبرة في التحليل والتحريم للنصوص وليس لما تحسنه أو تقبحه النفوس.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (من قال من العلماء أنه حَرَّم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه، فجمهور العلماء على خلاف هذا القول: كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وقدماء أصحابه، ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول، وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء.
وما كان عليه الصحابة والتابعون: أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله: كالدم، والميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وما أهل به لغير الله، وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي يكرهه، وقال:(لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)
(2)
، وقال مع هذا:(أنه ليس بمحرم)، وأُكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه:(لا آكله ولا أحرمه)
(3)
.
وقال جمهور العلماء: الطيبات التى أحلها الله ما كان نافعاً لآكله فى دينه، والخبيث ما كان ضاراً له فى دينه)
(4)
.
(1)
قرارات المجمع ص (91 - 93)، وفقه القضايا المعاصرة في العبادات د. عبد الله أبوزيد (111) رسالة دكتواره غير منشورة.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، برقم (5217)، ومسلم برقم (1945)، (1946).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، برقم (5216).
(4)
مجموع الفتاوى (19/ 24).
•
المبحث الخامس: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
استدل بها من قال بعدم إزالة النجاسة بالبخار.
تخريج الحكم: أن الامتنان بالماء يقتضي اختصاصه بالتّطهر، فلو جعل التطهير بغيره لفات الامتنان به
(1)
. والبخار لا يسمى ماء على الإطلاق بل بخاراً أو رشحاً
(2)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن الامتنان يفوت بمشاركة غير الماء للماء في التطهر؛ لأنّ الشّارع إنّما ذكر الشارع الماء وامتنّ به على عباده - هنا - لكونه أنفع المطهرات؛ ولكونه الغالب المتيسر في ذلك الوقت، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.
كما نوقش بعدم تسمية البخار ماء، وفي ذلك يقول الروياني:«وهذا غير صحيح عندي؛ لأن رشح الماء ماء حقيقة، وينقص منه بقدره فهو ماء مطلق فيتطهر به»
(3)
.
أو يقال: إن البخار ماء باعتبار ما سيؤول إليه بعد جمعه فما جمع من البخار يسمى ماءً، ويسمى بخاراً حال تبخره.
(1)
ينظر: المجموع (1/ 96)، الشرح الممتع (1/ 423).
(2)
نقله الرافعي عن بعض الشافعية. ينظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب لابن زكريا الأنصاري (1/ 6).
(3)
المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 34).
تنبيه: يرى الحنفية جواز إزالة النجاسة بغير الماء
(1)
، وهو رواية عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة
(2)
، والشيخ ابن عثيمين
(3)
.
وهؤلاء يرون أن إزالة النجاسة ليست مما يتعبد به قصداً، أي أنها ليست عبادة مقصودة، وإنما إزالة النجاسة هو التخلي من عين خبيثة نجسة، فبأي شيء أزال النجاسة وزالت وزال أثرها فإنه يكون ذلك الشيء مطهِّراً لها، سواء بالماء أو البنزين، أو أي مزيل يكون
(4)
.
* * *
•
المبحث السادس: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]
استد بالآية على جواز استعمال ما يرد إلينا من بلاد الكفار من الثياب والمفارش والأغطية والبسط وغيرها، مما يصنع من الصّوف أو الشّعر أو الريّش
(5)
.
تخريج الحكم: أن السياق سياق امتنان، ولا يمتن سبحانه وتعالى إلّا بما هو طاهر وجائز الانتفاع به، كما أن سياق الامتنان يقتضي التّعميم، فيعم شعر المذكاة والميتة إلا ما منعه الدليل
(6)
.
(1)
ينظر: حاشية ابن عابدين (1/ 309).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 476).
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 86)، الشرح الممتع (1/ 424).
(4)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 16)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 86)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (16).
(5)
ينظر: شرح عمدة الفقه د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (441)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (16).
(6)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/ 155).
والقول بأن الشعر والصوف والريش من الميتة طاهر إذا جُزَّ، هو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
؛ لكون الأصل طهارتها قبل الموت بإجماع، فيستصحب هذا الأصل، ومن زعم أنه انتقلت إليها النجاسة فعليه الدليل
(2)
.
وعلى هذا الأصل، وكون الأصل في الأشياء الإباحة يمكن استصحاب ما يرد إلينا من بلاد الكفر من الثياب والمفارش والأغطية والبسط وغيرها.
•
المبحث السابع: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]
استدل بها من قال بأن المتوضئ لا يلزمه إزالة الأسنان الاصطناعية عند الوضوء
(3)
.
تخريج الحكم: يؤخذ من عموم نفي الحرج في الشريعة، وقد ورد {حَرَجٍ} منكرًا في سياق النّفي فيعمّ كل حرج، ونزع الأسنان قد يكون فيه حرج، فيدخل في العموم.
(1)
ينظر: البحر الرائق (1/ 115)، ومواهب الجليل (1/ 126)، والشرح الكبير (1/ 74)، والشرح الممتع (1/ 93).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/ 155).
(3)
وبه أفتت اللجنة الدّائمة بالمملكة العربيّة السّعوديّة. ينظر فتاوى اللجنة الدائمة (24/ 73)، والشرح الممتع (1/ 209)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/ 140) وذكر رحمه الله أنه قد يكون في خلعها مشقة فلا تنزع ولا تتحرك.، وينظر: فقه النوازل للمشيقح (30)، والفقه الميسر (9/ 8)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (21).
(1)
.
تنبيه: ويدخل في ذلك كل ما فيه مشقة وعنت في رفعه وإزالته، كالمسح على الباروكة أو الأرجل الصناعية
(2)
.
* * *
•
المبحث الثامن: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77 - 80]
استدل بها على عدم جواز مسح السّبورة الثّابتة بلا وضوء، إذا كتب فيها آية فأكثر؛ لأنها تلحق باللوح
(3)
تخريج الحكم: يخرج الحكم على قاعدة النّهي يقتضي التّحريم، والفعل في قوله:{لَا يَمَسُّهُ} ينزل منزلة النكرة، فيكون عامّاً في أيّ مسٍّ سواء كان على الورق أو السبورة.
(1)
شرح صحيح البخاري، لابن عثيمين (1/ 431).
(2)
ينظر: ص (5، 7) من هذا البحث.
(3)
وكان هذا اختياراً للشيخ العثيمين كما في الشرح الممتع (1/ 322، 333). وتوقّف في مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 214)، وقال: هي عندي محلّ توقّفٍ
تنبيه: وهذا القول مبني على أمرين:
الأول: على القول بتحريم مس المصحف، وإليه ذهب الجمهور
(1)
، واختاره ابن تيمية
(2)
، وتلميذه ابن القيم
(3)
، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين أخيرًا
(4)
.
الثاني: أنَّ الضّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود إلى القرآن؛ بقرينة: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والمنزّل هو القرآن
(5)
.
ونوقش بما يلي:
أنّ الضّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} لا يعود إلى القرآن، وإنما يعود إلى الكتاب المكنون؛ لأنّ الضّمير يعود إلى أقرب مذكور
(6)
، وأما قوله:{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو عائدٌ بلا شكّ إلى القرآن الكريم، ولا مانع من تداخل الضّمائر إذا كان ثمّة قرينة تدلّ على ذلك
(7)
، ثم إنّه على احتمال تساوي الأمرين فإنّ الاستدلال بهذه الآية يسقط؛ لأنّ الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
(1)
ينظر: المبسوط (3/ 152)، وبدائع الصنائع (1/ 33)، وبداية المجتهد (1/ 55) والمجموع (2/ 67، 72)، والمغني (1/ 137).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 266).
(3)
ينظر: أعلام الموقعين (1/ 172).
(4)
ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 462)، الشرح الممتع (1/ 320).
(5)
ينظر: المغني (1/ 202)، المجموع (2/ 72)، إعلام الموقعين (1/ 172).
(6)
ينظر: نيل الأوطار (1/ 320)، فتاوى القنوجي (404).
(7)
انظر: الشرح الممتع (1/ 318).
ومما يدلّ على أنّ الضّمير لا يعود على القرآن قوله: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ؛ لأنه لو أراد منع المحدث من مسّه لقال: «إلا المتطهِّرون» ؛ كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فالمتطهّر: فاعل التطهير، والمطهّر: الذي طهّره غيره، فالمتوضِّئ متطهِّرٌ، والملائكة مطهَّرون
(1)
.
(1)
ينظر: التبيان في أيمان القرآن لابن القيم (331). وقد ناقش ابن القيم في هذا الكتاب استدلال الجمهور بهذه الآية من عشرة أوجه.
الفصل الثاني تخريج نوازل أحكام الصلاة
•
المبحث الأول: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ومثلها في الحجّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].
استدل بالآية على جواز الائتمام بالإمام الذي تنقل في صلاته عن طريق المذياع
(1)
.
تخريج الحكم: بناء على قاعدة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد.
وبيانه: أن الأمر بالصلاة مطلق غير مقيد بمكان واحد يجتمع فيه، والصّلاة مع الإمام عبر التلفاز متحققة، فتدخل في الإطلاق المذكور في الأمر.
ويمكن مناقشة ما سبق، بأنّ الأصل حمل كلام الشارع على المعهود، وقت نزول الخطاب، ولا شك أن المعهود هو الاجتماع في مكان واحدٍ مع الإمام حقيقة، ولا سيما أن من مقاصد الصّلاة الاجتماع لها، وكل ما خالف مقصود العبادة فهو باطل.
(1)
ينظر: بواسطة فقه النوازل للمشيقح (101) المصادر التالية: رسالة الإقناع بصحة صلاة الجمعة بالمنزل خلف المذياع للغماري، وفقه المستجدات في باب العبادات (210 - 218)، والأجوبة النافعة (320)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (45).
(1)
.
كما أن الصلاة قد تقع على أحوال لا تصح معها صلاته عند جماعة من أهل العلم، مثل كونه منفرداً خلف الصف مع إمكان دخوله في صفّ لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإمام، وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطاع التيار الكهربائي، وهو في أمن من هذا؛ لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين
(2)
.
•
المبحث الثاني: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]
استدل بالآية على عدم جواز الصّلاة خلف المذياع
(3)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (15/ 213)، وينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 299).
(2)
ينظر: الفقه الميسر (النوازل في العبادات)(9/ 52).
(3)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 213) فتوى رقم (2437)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 42)، (15/ 213)، والفقه الميسر (9/ 52)، فقه النوازل للمشيقح (101)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (45).
تخريج الحكم: بناء على أن حرف (مع) في قوله: {مَعَكَ} يقتضي المعيّة والجمعيّة.
تنبيه: سبق في المسألة السابقة - عند مناقشة القول بالجواز - بيان وجه الجمع.
* * *
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]
استدل بها من قال بسقوط الصّلاة عمن كان في بلاد يستمر فيها الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة فأكثر
(1)
.
تخريج الحكم: إن الشرط الشرعي يقتضي أنّه يلزم من عدم الشرط عدم المشروط، وقد عدم شرط الصّلاة، وهو الوقت المؤقت لكل صلاة، فيعدم حكمها.
وبيانه: إنّه سبحانه وتعالى جعل للصّلاة أوقاتًا محدّدة، يوقع فيها المسلم صلاته، فإذا لم توجد هذه الأوقات لم تجب الصّلاة؛ وذلك بناء على قاعدة: الشرط الشرعي حجة.
نوقش: بوجوب الصلاة وعدم سقوطها، ويكون التقدير في حقهم بحسب وقت أقرب البلدان التي وقتها منتظم إليهم، بحيث يصلون في كل أربع وعشرين ساعة خمس صلوات
(2)
.
(1)
ينظر: الفقه الميسر: (9/ 48 - 49)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (36 - 37).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 105)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (12/ 206)، وفقه النوازل في العبادات للمشيقح (95)، والفقه الميسر (9/ 48).
•
المبحث الرابع: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]
استدل بالآية من قال بعدم جواز الصّلاة بالنّظارة
(1)
، إن أدّى إلى منع تمكين الأعضاء من السجود على الأرض، ومثلها بعض القبعات.
وبيانه: السجود فرض من فروض الصّلاة بلا خلاف، وإنّما الخلاف في كيفية تمكين أعضاء السجود على الأرض
(2)
، إن كان قادرًا عليه
(3)
، ولا شك أن المصلي قادر على خلع النظارة لتمكين نفسه من السجود.
قال الشيخ محمّد صالح العثيمين رحمه الله: «أمّا بالنّسبة للنّظارة فإن كانت تمنع من وصول طرف الأنف إلى الأرض، فإنّ السجود لا يجزئ، وذلك لأن الذي يحمل الوجه هما النظارتان، وهما ليستا على طرف الأنف بل هما بحذاء العينين، وعلى هذا فلا يصح السجود، ويجب على من عليه نظارة تمنعه من وصول أنفه إلى مكان السجود أن ينزعها في حال السجود»
(4)
.
تخريج الحكم: يخرّج الحكم على قاعدة: ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، ولما كان تمكين أعضاء السجود واجبًا، ولا يتمّ إلّا بإزالة ما يمنع من
(1)
ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 256)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (43).
(2)
في المسألة أقوال: منها: أن الفرض في السجود هو جزء من الجبهة ولو قليلًا، وهو قول الحنفية والمالكية، وقيل: إن الفرض هو السجود على الأعضاء السبعة إلا الأنف، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية، وقيل: وجوب السجود على جميع الأعضاء السبعة وهو المذهب عند الحنابلة. والخلاف يرد في مسألة الصلاة في النظارة على المذهب الثالث، وهو مذهب الحنابلة.
ينظر: بدائع الصنائع (1/ 106) حاشية الدسوقي (2/ 390) المجموع للنووي (3/ 423) المغني (2/ 398) المحلى (3/ 355).
(3)
العاجز: لا يكلف بالفعل غير المقدور عليه، ويكفيه الإيماء إن قدر عليه.
(4)
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (13/ 186 - 187).
ذلك، فكان إزالة ما يمنع ذلك واجبًا، فيجب نزع النظارة، إن كانت تمنع تمكين الجبهة أو الأنف من الأرض.
تنبيه: يؤخذ حكم ما سبق العقال، وبعض القبعات، وكل ما يمنع من تمكين الجبهة على الأرض، وكذا الفرش الذي يحول دون تمكين الجبهة من السجود
(1)
.
* * *
•
المبحث الخامس: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]
استدل بالآية من قال بوجوب حضور الجماعة على كل من سمع النداء، ولو بمكبر الصوت
(2)
.
تخريج الحكم: أن الأمر في قوله: {فَاسْعَوْا} للوجوب وهو معلّق على شرط، وهو الأذان ليوم الجمعة، في قوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} ، والمقصود من النّداء هو إسماع الغير؛ بدلالة قوله عليه السلام:«من سمع النّداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر»
(3)
، فيجري العام في قوله:{نُودِيَ} على عمومه، أي سواء كان
(1)
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (13/ 184)، وفتاوى اللجنة الدائمة (6/ 175)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (43).
(2)
هذه المسألة تبنى على قول من قال بأن صلاة الجماعة فرض عين على الرجال، وهم الحنابلة.
ينظر: المغني (2/ 130)، والإنصاف (2/ 210).
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم (793)، وابن حبان في صحيحه (5/ 415)، كتاب الصلاة، باب ذكر الخبر الدال على أن هذا الأمر حتم لا ندب، برقم (2064)، والدارقطني في سننه (2/ 293)، كتاب الصلاة، باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه إلا من عذر، برقم (1555)، والحاكم في المستدرك (1/ 373) وقال: «وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه «. وقال الألباني في إرواء الغليل (2/ 337): «وهو كما قال «.
السماع بمكبر الصوت أو بدونه.
ووجه كونه عاماً: أن الفعل هنا ينزل منزلة النكرة، وهو مثبت وفي سياق شرط فيعم.
أما والوجوب على كل من سمع النداء فهو مأخوذ من دلالة ضمير الجمع في قوله: {فَاسْعَوْا} فيعم كل من سمع النداء.
نوقش: بأن الأمر في الآية محمول على الأذان المعتاد في زمن التشريع.
قال الشيخ العثيمين: «فالظاهر أن هؤلاء لا يلزمهم صلاة الجماعة في المسجد إذا كانوا إنما يسمعون صوت المؤذن بواسطة مكبر الصوت، وأنه لولا المكبر ما سمعوا، فالظاهر أنه لا يجب عليهم حضور الجماعة في الحال؛ لأن هذا السماع غير معتاد ولا ضابط له، ولا يقول قائل إن عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر» يتناول ما سمع بواسطة المكبر وما سمع بدونه، فبعض المكبرات يكون صوته عالياً يسمع من بعيد، وبعضها دون ذلك، والمرجع في هذا إلى ما كان معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو السماع بدون مكبر»
(1)
.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (15/ 27)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (49).
الفصل الثالث تخريج نوازل أحكام الزكاة
•
المبحث الأول: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]
استدل بالآية على وجوب زكاة أنواع التجارات؛ لأنّ التجارة نوع من الكسب.
وقد روي من عدة طرق عن مجاهد في تفسير قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ، أنه قال: من التجارة
(1)
.
وقال الرازي: «ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب
…
»
(2)
.
وعليه فيستدل على وجوب الزكاة في كثير من أنواع التجارات العصرية، كربح المحطات، والنفط الخارج بواسطة عقد الامتياز .... إلخ.
تخريج الحكم: عموم الكسب الطيب، أو عموم الطيبات المكتسبة، والتي دلّت عليها صيغة العموم، وهي الإضافة في قوله:{طَيِّبَاتِ} بما بعدها، أو عموم (ما) الموصولة في قوله:{مَا كَسَبْتُمْ} ، وكل ما سبق مأمورون أن ننفق منه
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 556).
(2)
التفسير الكبير (7/ 52).
بالأمر في قوله: {أَنْفِقُوا} وهو يقتضي الوجوب.
•
المبحث الثاني: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
استدل بالآية من قال بوجوب الزكاة في الأوراق النّقديّة
(1)
.
تخريج الحكم: استنباط كون العلّة فيما يزكى (النّقديّة) أي: كونها نقودًا، والأوراق تكون نقودًا فتجب فيها الزكاة.
ووجه استنباط العلّة من الآية: هو أن قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} إيماء إلى أنّ المراد بالذهب والفضة في الآية نقودهما؛ لأنها المعدّة للإنفاق، والآلة المباشرة له، والضّمير عائد عليهما باعتبارهما دراهم ودنانير، أي: باعتبارهما نقودًا؛ ولهذه الخاصيّة نصّ عليها في الآية لا لنفاستهما في نفسيهما
(2)
؛ لأنّه وجدت معادن لا تقل غلاء ونفاسة عن الذهب والفضة، بل قد تزيد كالألماس، واليورانيم، ولا زكاة فيهما؛ لأنّها ليست نقودًا
(3)
.
(1)
وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وصدر قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الأولى (13/ 444)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 3، ج 3، ص (1950)، (1893)، ومجلة البحوث الإسلامية (31/ 376) ومجموع فتاوى ابن عثيمين (18/ 173)، والشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 93)، ومجموع فتاوى ابن باز (14/ 333، 79)، والفقه الميسر (9/ 81)، وفقه النوازل للشيقح (163)، شرح عمدة الفقه للجبرين (1/ 509)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (66).
(2)
ينظر: الفتاوى السعدية، ص 314، مختصر فقه الزكاة، ص 92، توضيح الرؤية القاصرة، ص 73.
(3)
وسبب اختلافهم راجع إلى اختلافهم في حقيقة الأوراق النقدية فمن رأى أنها أسناد بدين على جهة إصدارها لم يوجب الزكاة قبل قبض هذه الأسناد أو بعبارة أدق جعلها في حكم زكاة الدين، ومن قال بأنها عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام لم يوجب الزكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة، ومثله من ألحقها بالفلوس مع ملاحظة أصل الفلوس وهو العرضية وأما من لحظ عامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية فإنه أوجب الزكاة فيها، ومن نظر إلى أن هذه الأوراق بدل لما استعيض بها عنه وهما النقدان أو أنها نقد قائم بنفسه كالذهب والفضة فإنه أوجب الزكاة فيها. انظر: أبحاث هيئة كبار العلماء 1/ 35.
ثمّ إنّ كون الزّكاة واجبة دلّ عليه قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولا عقاب إلا على ترك واجب، فدلّ على أن الانفاق واجب.
* * *
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
*
المطلب الأول: الإقراض من مال الزكاة.
استدل بالآية من قال بعدم جواز الإقراض من مال الزكاة
(1)
، أي: لمن ليس من أهل الزكاة.
تخريج الحكم ما يلي:
أولًا: أن المال هو مال للفقير والمسكين يملكونه بنص الآية، حيث أضاف المولى سبحانه الصّدقات لهم بلام الملك، وهذا يقتضي عدم جواز التّصرف بغير إذن مالكه.
ثانيًا: صدرت الآية بأداة الحصر {إِنَّمَا} ومفهوم الحصر عدم جواز أخذها لغير الأصناف الثمانية
(2)
.
(1)
وبه أفتت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، بفتواها رقم (4/ 316).
ينظر: الإقراض من أموال الزكاة لنايف حجاج العجمي (13 - 14).
(2)
ينظر: الإقراض من أموال الزكاة (51).
ثالثًا: إنّ لفظ {الصَّدَقَاتُ} جمع محلى ب (أل)، وهو يفيد العموم، وهذا يقتضي أن جميع الصّدقات تعطى لهؤلاء المذكورين في الآية، وإذا كان جميعها يعطى لهم، فلا يجوز إقراض غيرهم منها
(1)
.
*
المطلب الثاني: استثمار أموال الزكاة من قبل المالك أو وكيله
استدل بالآية من قال بعدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل المالك أو وكيله
(2)
.
وتخريج الحكم: ما سبق من كون اللام للتّمليك، فهي خرجت من ملكه إلى ملك الفقير، ومن ثمَّ لا يجوز له التّصرف بها.
وأيدوا قولهم: بأنّ الأصل دفع الزّكاة للفقير على الفور؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} والأمر يقتضي الفور
(3)
.
تنبيه: إذا تأخر المالك عن إخراج الزكاة واستثمرها مع ماله، هل يشاركه الفقير والمسكين في الربح والخسارة أو لا؟ خلاف يتوقف على كون الزكاة متعلقة بالعين (المال) أو الذّمة؟
(4)
.
(1)
ينظر: المصدر السابق.
(2)
وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وبه صدر قرار من المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة والمنعقدة بمكة، ومن مجمع الفقه الإسلامي من الهند في ندوته الثالثة عشرة.
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/ 454 - 455)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 3، ج 1، ص (334)، وفتاوى ابن عثيمين (18/ 478)، والفقه الميسر (9/ 125)، النوازل في الزكاة للغفيلي (475)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (71 - 72).
(3)
ينظر: المغني (4/ 146)، ووفقه النوازل للشيقح (218)، والنوازل في الزكاة (471).
(4)
ينظر: مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بين العموم والخصوص د. سعود الفنيسان (97).
*
المطلب الثالث: صرف الزكاة في حفر الآبار العامّة للفقراء
استدل بالآية من قال بعدم جواز صرف الزكاة في حفر الآبار العامّة للفقراء
(1)
.
تخريج الحكم: أن اللام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} لام الملك والاختصاص، وتقتضي التمليك، والآبار يردها الفقير والغني، فليس فيها تمليك خالص للفقراء.
كما أن مفهوم التمليك هو أن يخلي بين المالك - الفقير هنا - وماله، يتصرف به كيف شاء، ويؤيده قوله سبحانه:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} والايتاء الاعطاء.
ولذا رأت الهيئة الشرعيّة في بيت الزكاة الكويتي إنّه يجوز شرعًا تمليك مال الزكاة لأهل المنطقة الفقراء، ثم يوجهون إلى وضعه في حفر بئر يبيحون الانتفاع بها لهم ولغيرهم
(2)
.
ويرى بعض المفسرين
(3)
ان الفقير والمسكين والعامل والمؤَّلف قلبه، الذين دخلت عليهم لام التّمليك في الآية، إنّما هو تمليك لما عساه أن يدفع إليهم، ويأخذونه تملكًا؛ لذا كان دخول اللام لائقًا بهم.
أمّا الأصناف الأربعة الأواخر، الذين دخل عليهم حرف (في) في قوله:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فلا يملكون لما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم.
(1)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل للشيقح (205).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (ص: 360).
(3)
الألوسي في روح المعاني (10/ 124).
تنبيه: أمّا حفر بئر في ملك فقير معين، فحكمه يتخرج على مسألة مقدار ما يُعطاه الفقير والمسكين؛ فإن قيل لا يعطى أكثر من كفاية السنة فإنّه يمنع ذلك، أمّا على القول يُعطى كفاية العمر فيجوز، كما يجوز شراء بيت ومسكن له
(1)
.
وينبه - أيضاً -: أن بعض المتأخرين استثنى إذا لم يمكن حفر الآبار إلا بمال الزكاة فإنه يجوز حفرها به؛ للضرورة، والضرورة تبيح المحظور
(2)
.
*
المطلب الرابع: شراء الكتب المدرسيّة ونفقة الزواج للفقراء من مال الزكاة
استدل بها من أجاز شراء الكتب المدرسيّة ونفقة الزواج
…
إلخ
(3)
، مما يحتاجه الفقير والمسكين.
(4)
.
تخريج الحكم: أن المولى سبحانه حدد المصرف، وأطلق في وجوه الصّرف، والمطلق يجري على إطلاقه، فيشمل كل ما يحتاجه.
ثمّ إنّ المقصد هو سد حاجة الفقير والمسكين، والفقر قد يكون في الطعام أو المسكن أو غير ذلك، فيشمل جميع الحاجات من جهة المعنى
(5)
.
(1)
ينظر: نوازل الزكاة (ص: 361).
(2)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل للشيقح (205).
(3)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل (209).
(4)
الشرح الممتع (6/ 221).
(5)
قال الشيخ العثيمين في الشرح الممتع (6/ 220).: «وسمي الفقير فقيراً؛ لأنه خالي اليد، وأصلها من القفر - وهو مطابق للفقر في الاشتقاق الأصغر بموافقة الحروف مع اختلاف الترتيب- وهي الأرض الخالية من السكان» .
قال الشيخ العثيمين رحمه الله: «وإذا كان رجل عنده ما يكفيه، لأكله، وشربه، وسكنه، وكسوته، ولكنه طالب علم يحتاج إلى كتب تُشترى له، فإننا نعطيه ما يحتاج إليه فقط من الكتب؛ لأنه إذا كان يعطى لغذائه البدني، فيعطى أيضاً لغذائه الروحي والقلبي، ولكن لا يعطى ليؤثث مكتبة كبيرة، بل لسد حاجته في طلب العلم فقط»
(1)
.
تنبيه: هذه المسألة مبنية على مقدار ما يُعطاه الفقير والمسكين، والجمهور على أن مقدار ما يُعطاه هو كفاية السنة، وعليه فإنه لا يجوز صرف الزكاة لبناء أو شراء بيت للفقير والمسكين. وأما على القول بجواز إعطائه كفاية العمر فيجوز ما سبق
(2)
.
*
المطلب الخامس: دخول الموظفات في المؤسسات الزكوية في مصرف العاملين عليها
استدل بقوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} من قال بأن الموظفات في المؤسسات الزكوية
(3)
لا يدخلن في مصرف العاملين عليها
(4)
.
وتخريج الحكم: أن لفظ {وَالْعَامِلِينَ} لفظ مذكر يصرف على الذكور دون الإناث، وأكدّوا ما ذهبوا إليه من كونها نوعًا من أنواع الولايات، فلا يجوز أن
(1)
الشرح الممتع (6/ 221).
(2)
ينظر: النوازل في الزكاة للغفيلي (353، 361).
(3)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (212 - 213)، ونوازل الزكاة للغفيلي (383).
(4)
هذه المسألة حاجتها اليوم أظهر من ذي قبل؛ لذا أعاد المعاصرون النّظر فيها. ومن حيث القواعد الشّرعيّة المرعيّة، فإنّ لفظ الذكور في خطابات الشّرع يطلق أيضًا على المرأة؛ لذا وقع الخلاف في هذا الأصل. وعدم جواز صرف سهم العاملين على النساء هو مذهب المالكية والشافعية وقول عند الحنابلة.
ينظر: التاج والإكليل (3/ 230)، وإعانة الطالبين (1/ 190)، والإنصاف (3/ 266).
تتولاها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة»
(1)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن اللفظ يختص بالذكور، بدليل ألفاظ باقي المصارف، كالفقراء، والمساكين، والعاملين، وهي شاملة للمذكر والمؤنث
(2)
.
يقول القرضاوي: «والحق أنّه ليس في المسألة دليل خاص يمنع المرأة من الاشتغال بالعمالة على الزّكاة، لكن القواعد العامّة التي توجب
…
»
(3)
.
*
المطلب السادس: صرف سهم العاملين للموظفين في المؤسسات الخيريّة
واستدل بالآية على جواز صرف سهم العاملين للموظفين في المؤسسات الخيريّة
(4)
؛ والأصل في العامل هو: الذّي يعينه الإمام لجباية الزكاة وصرفها، وهذا أمر متفق عليه. ولا شك في دخول المرخص لهم من قبل الإمام من المؤسسات.
وتخريج الحكم: يمكن تخريجها على قاعدة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد، وذكر سبحانه وتعالى:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} مطلقة دون أن يقيد ذلك بنوع من العمل.
كما يخُرَّج على قاعدة تحقيق المناط. وبيانه: أن تعليق الاستحقاق بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} ، وهو الحكم، على وصف العمل في قوله:{وَالْعَامِلِينَ} ، إيماء بأن علة الاستحقاق هي كونه عاملاً عليها، وهذه العلة متحققة في الموظفين في المؤسسات الخيرية، فيدخل فيه العاملون على الزكاة في المؤسسات الخيرية الزّكويّة على اختلاف أنواع أعمالهم
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، برقم (4163).
(2)
ينظر: فقه الزكاة د. القرضاوي (2/ 630)، والي إدارة الزكاة د. سليمان الأشقر (2/ 741).
(3)
فقه الزكاة د. القرضاوي (2/ 58).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (377).
(5)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (379).
تنبيهان:
الأول: لا يحق للموظفين الجمع بين الأخذ من المؤسسة الخيرية - من سهم العاملين عليها - ومن بيت المال
(1)
.
الثاني: ذكر العلماء ضوابط في استحقاق الموظفين في المؤسسات الخيرية من مصرف العاملين عليها، ومن تلك الضوابط:
(1)
أن يكون العمل الذي يقوم به الموظف مما يحتاج إليه في جمع الزكاة وتوزيعها.
(2)
أن يراعى في ذلك إعطاء العامل بقدر عمله
(2)
.
*
المطلب السابع: إعطاء الكافر من سهم المؤلفة قلوبهم؛ ليدفع المخاطر عن المسلمين
وقد استدل بعض العلماء بقوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} على جواز إعطاء الكافر من سهم المؤلفة قلوبهم؛ ليدفع المخاطر عن المسلمين
(3)
.
(4)
، قاله ابن عباس رضي الله عنه تفسيرًا للآية.
(1)
ينظر: المغني (6/ 327)، نوازل الزكاة للغفيلي (378).
(2)
ينظر لها بشيء من البسط في: نوازل الزكاة للغفيلي (379 - 380).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (405).
(4)
رواه ابن جرير بإسناده في تفسيره (6/ 399)، قال الألباني في إرواء الغليل (3/ 369):"لم أقف على إسناده الآن". ونقله صاحب التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل ص (141) عن ابن جرير وضعف إسناده.
واستدل العلماء بالعموم السابق على مسائل أخرى منها
(1)
:
(1)
إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد يصرف لها من سهم المؤلفة قلوبهم.
ومن منع ذلك احتج بعدم وجود التّمليك للأفراد، والذي دلّت عليه لام التمليك في قوله:{لِلْفُقَرَاءِ} وما عطف عليها، ومنها {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} .
(2)
إعطاء رؤساء الدول الفقيرة والقبائل الكافرة لتأليف قلوبهم للإسلام.
وقد جاء في قرار الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، في بيان أهم المجلات التي يصرف عليها هذا السهم «تأليف من يرجى إسلامه، وبخاصة أهل الرأي والنفوذ ممن يظن أن له دورًا كبيرًا في تحقيق ما فيه صلاح المسلمين»
(2)
.
(3)
القيام بحملات دعائية؛ لتوضيح صورة الإسلام والمسلمين لدى المدعوين، يُصرف لها من هذا السهم؛ لكونه من معاني تأليف القلوب على الإسلام، فيدخل في العموم، ومن منع ذلك احتج بعدم وجود التمليك لمعينين.
وبعضهم: جعله من مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} لكونه نصرة للإسلام.
وتخريج الحكم: عموم قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وكلام ابن عباس رضي الله عنهما، وإن كان في قوم قد أسلموا، إلا أن عموم النّص يشمله.
(1)
أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، مصرف المؤلفة قلوبهم. ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (407 - 413).
(2)
ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (407 - 413).
فائدة: ذكرت الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة ضوابط لصرف سهم المؤلفة قلوبهم
(1)
، وتلك الضوابط هي:
(1)
أن يراعى في الصرف المقاصد ووجوه السياسة الشرعية، بحيث يتوصل به إلى الغاية المنشودة شرعاً.
(2)
أن يكون الإنفاق بقدر لا يضر بالمصارف الأخرى، وألا يتوسع فيه إلا بمقتضى الحاجة.
(3)
توخي الدِّقة والحذر في أوجه الصرف؛ لتفادي الآثار غير المقبولة شرعاً، أو ما قد يكون له ردود فعل سيئة في نفوس المؤلفة قلوبهم، وما قد يعود بالضرر على الإسلام والمسلمين.
*
المطلب الثامن: فك الأسرى
استدل بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} بعض العلماء على جواز فك الأسرى، وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
تخريج الحكم: عموم اللفظ، والأسير رقبته مقيدة بالأسر، فيصرف عليه من هذا السهم؛ لفكاكها.
نوقش: بأن المقصود فك الرِّقاب، وليس من ذلك فكاك الأسرى؛ لأنهم أحرار، فالمراد بالرِّقاب: الأرقاء
(3)
.
وأجيب: بأن النص جاء بلفظ {وَفِي الرِّقَابِ} ، ولم ينص فيه على الأرقاء، أو
(1)
ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (413).
(2)
ينظر: المغني (9/ 322)، نوازل الزكاة للغفيلي (423)، وفقه النوازل للمشيقح (233).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (424).
العبيد، وهذا يدل على عموم اللفظ وشموله للعبيد، والمكاتب، والأسير، والأخير -كما سبق- رقبته مُقيَّدة بالأسر، ويكون الصرف عليها بفكاكها من الأسر
(1)
.
(2)
.
*
المطلب التاسع: فكاك الشعوب المسلمة المحتلة من الكافرين
استدل بها بعض المعاصرين على جواز فكاك الشعوب المسلمة المحتلة من الكافرين
(3)
.
وتخريج الحكم: النظر إلى المقصد والمعنى؛ إذ إن استرقاق الشعوب في عقائدها وأموالها وسلطانها وحرياتها أشدّ وأخطر من استرقاق الفرد في حريته. وإن شئت قلت بقياس الأولى.
جاء في فتيا الشيخ محمود شلتوت رحمه الله وبعد ذكره انقراض الرِّق قال: «ولكن حلَّ محلَّه الآن رقٌّ هو أشد خطراً منه على الإنسانية، ذلكم هو رق الشعوب في أفكارها، وأموالها، وسلطانها، وحريتها في بلادها .... فهو رقٌّ عام دائم، وهو أجدر وأحق بالعمل على التخلص منه، ورفع ذله عن الشعوب، لا بمال
(1)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (425).
(2)
المغني (9/ 321 - 322).
(3)
ينظر: تفسير المنار (10/ 598)، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت (118)، بواسطة كتاب نوازل الزكاة للغفيلي (427).
الصدقات فقط، بل بكل المال والأرواح»
(1)
نوقش: بأن احتلال الكافرين لبلاد المسلمين ليس داخلًا في دلالة لفظ الرقاب لغة ولا شرعًا
(2)
.
فالرقبة لغة وشرعاً تحمل على المعروف في العهد النبوي، وهو الرِّق الفردي، وهو الذي كان سائداً قبل الإسلام. وجاء الإسلام متشوفاً للتخلص منه، وألفاظ الشارع تحمل على عرفه
(3)
.
كما أن المقصود المذكور يتحقق بالموارد الأخرى للزكاة، كمصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
(4)
.
*
المطلب العاشر: صرف الزكاة للمقاتلين في سبيل الله
استدل بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} من قال بصرف الزكاة للمقاتلين في سبيل الله دون غيرهم
(5)
، وصرفه لهم لا خلاف فيه بين العلماء.
ويخرج الحكم: على قاعدة: تقديم الحقيقة الشرعيّة على الحقيقة اللغويّة، إذا تعارضتا، فإن لفظ {سَبِيلِ اللَّهِ} يعني لغة: كل طريق يؤدي إلى مرضات الله، وهذا عامّ في كل معروف، لكن الشارع نقل هذا اللفظ العامّ على معنى خاص وقصره على الجهاد، فقدمت الحقيقة الشّرعية؛ لأنها مقصود الشارع في خطابه غالبًا.
(1)
فتاوى الشيخ محمود شلتوت (118).
(2)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 664)، نوازل الزكاة (428).
(3)
ينظر: بحث مصرف الزكاة د. نزيه حماد، ضمن أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة (320)، بواسطة نوازل الزكاة للغفيلي (428) حاشية (1).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (428).
(5)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (431).
تنبيه: من مصارفه العصريّة: إنشاء وتمويل المصانع الحربيّة، التي تصنع مختلف أنواع الأسلحة الثّقيلة والخفيفة، وشراء تلك الأسلحة عند الاحتياج، وإنشاء معاهد التّدريب على الأسلحة، والقتال للمؤهلين للدّفاع عن ديار الإسلام، وطبع الكتب والمجلات العسكريّة والتّوجيهيّة للمقاتلين المسلمين مما يحتاجونه في جهادهم، وإنشاء مراكز للدّراسات المختصّة بمواجهة خطط الأعداء
(1)
.
قال الدكتور عبد الله بن منصور الغفيلي: «وهذه الصور المذكورة إنّما يجوز صرف الزكاة فيها، إذا قرر علماء الأمّة انطباق الوصف الشّرعيّ عليها»
(2)
.
*
المطلب الحادي عشر: صرف الزكاة في وجوه البر والخير
واستدل بالآية على تعميم هذا المصرف في وجوه البر والخير، سواء كان جهاداً بالنّفس أو المال أو الحج والعمرة، أو الوقف، أو طلب العلم، أو بناء المساجد والقناطر، وتعبيد الطرق، وتكفين الموتى، وكفالة الأيتام والأرامل، والدّعوة إلى الله بنشر الكتب العلميّة وبناء المدارس والمستشفيات ومراكز الإغاثة
…
إلخ
(3)
.
وتخريج الحكم السابق: وهو توسيع مفهوم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} على أعمال البرّ ووجوهه.
أولًا: تحقيق مناط المصرف، باعتبار انطباق الوصف الشّرعيّ عليها.
(1)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (445 - 446).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (446).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (445 - 446)، مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} للفنيسان (106).
ثانيًا: تفسير بعض الصّحابة لهذا المصرف؛ منهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وحذيفة
(1)
.
ثالثًا: ويمكن القول بعموم اللفظ، في كل تلك الوجوه؛ لأنها داخلة في معنى سبيل الله.
رابعاً: المقصد الشّرعيّ، أو تعميم الحكم لتعميم علته، وبيان ذلك: أن القصد من الجهاد في سبيل الله في الإسلام هو: أن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا القصد يتحقق بإعداد الدعاة، وفتح المدارس والمعاهد .... إلخ.
*
المطلب الثاني عشر: صرف الزكاة على المهاجرين الفارين بدينهم
استدل بقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} صرف الزكاة على المهاجرين الفارين بدينهم، ومنهم من قصره على المسافر المنقطع.
والأصل أن ابن السبيل: هو المسافر، مهما كانت مسافة سفره الذي طرأت عليه الحاجة؛ بسبب ضياع ماله، أو نفاد نفقته، وإن كان غنيًا في بلده
(2)
.
تخريج الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، فمن عممّه جعله شاملاً للمهاجرين الفارين بدينهم وغيرهم
(3)
، ومن قصره على حقيقته الشرعية، وهو المسافر المنقطع الغريب. بناء على تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية.
(1)
ينظر: مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} للفنيسان (107).
(2)
فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة، المتعلقة ببيان مصرف ابن السبيل (152) بواسطة كتاب نوازل الزكاة للغفيلي (454).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (454).
وأدخل بعض المعاصرين في هذا المصرف المبعدون عن بلادهم التي بها أموالهم، مع رجاء عودتهم لبلادهم، بخلاف من لا يرجو ذلك فهو في حكم الفقير
(1)
.
وأدخل بعضهم في هذا المصرف: المغتربين عن أوطانهم لطلب العلم أو العمل، إن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أموالهم التي في بلادهم، ولم يقصدوا الإقامة والاستقرار في بلد الغربة، وغلب على الظن رجوعهم قريباً، حتى لا يدخلوا في مصرف الفقراء
(2)
.
*
المطلب الثالث عشر: صرف الزكاة على المحرومين من المأوى في بلادهم لظروفهم المعيشية الصعبة
استدل بالآية من أجاز صرف الزكاة على المحرومين من المأوى في بلادهم لظروفهم المعيشية الصعبة
(3)
.
تخريج الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى ومناط {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، وقالوا يدخل هؤلاء فيه بمعنى السؤال، كما نص عليه بعض الحنابلة
(4)
.
أو لكونهم ابناء الطريق؛ لسكنهم في الطرقات والتجائهم إليها، فيأخذون حكم المسافر المنقطع عن ماله
(5)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن ابن السبيل بمعنى السؤال لا لغة ولا شرعاً.
(1)
فلا يدخل في مصرف ابن السبيل. ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (457).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (459 - 460).
(3)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 729)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
(4)
ينظر: الإنصاف للمرداوي (7/ 252)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
(5)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 729)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
وكما سبق فإن ألفاظ الشارع تحمل على عرفه، وعرفه في ابن السبيل هو المسافر المنقطع عن ماله كما سبق.
*
المطلب الرابع عشر: صرف الزكاة على المسافرين لمصلحة عامة يعود نفعها للمسلمين
استدل بالآية من أجاز صرف الزكاة على المسافرين لمصلحة عامة يعود نفعها للمسلمين.
تخريج الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى ومناط {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، على القول بجواز إعطاء من يريد سفراً ولا يجد نفقة، فإنه يعطى من هذا المصرف
(1)
.
(2)
.
(1)
وهذا على مذهب الشافعية. ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 721)، ونوازل الزكاة للغفيلي (461).
(2)
نوازل الزكاة للغفيلي (462)، وأحال إلى مصرف ابن السبيل وتطبيقاته المعاصرة، ضمن أبحاث الندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة (401).
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]
*
المطلب الأول: الزكاة في جميع ما يملكه الانسان من مال
استدل بها من قال: بأن الزكاة تجب في جميع ما يملكه الانسان من مال، كالراتب الشّهري، وأجرة العمل، والمهن الحرّة، وكذا المستغلات، كأجرة الدور، وغلة المصانع سواء كان في يده أو في يد غيره.
ومن ذلك المال المودع في الحساب الجاري، وكذا الحقوق المعنوية للأسهم التجاري، إذا عرضت للبيع، ومواد الخام، - على القول بأنّها من عروض التجارة، والمواد المصنعة، وجمعيات الموظفين، ومحطات الوقود - من قال بأنها: من العروض.
أمّا ربحها فلا خلاف في ذلك. ويدخل في عموم الآية المنافع على اعتبار كونها مالًا، كما يدخل الدّين المقسَّط.
تخرج الأحكام السابقة: كلها يعود إلى عموم قوله: {أَمْوَالِهِمْ} وهي جمع مضاف، يفيد العموم، فكل ما يطلق عليه مال، فتجب فيه الصّدقة، ومأمورون بالأخذ منه، والأمر يقتضي الوجوب، فتجب الزكاة في جميع ما سبق.
وكونه مالاً أو غير مال مرجعه للعرف؛ إذ إن المال من المسميات التي علَّق الشرع بها حكماً، ولم يرد لها حدٌّ لها في الشرع أو اللغة، فيكون مرجعه للعرف.
المطلب الثاني: زكاة المال العامّ
استدل بالآية على عدم زكاة المال العامّ.
والمقصود بالمال العامّ: المال الذّي رصد للنّفع العامّ دون أن يكون مملوكاً لشخص أو جهة معيَّنة
(1)
.
وعُرِّف بأنه: كل مال ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين، ولم يتعين مالكه بل هو لهم جميعا
(2)
.
وبذلك أفتى كثير من المعاصرين بعدم الزّكاة في أموال الجمعيات الخيرية، والأوقاف الخيريّة
(3)
، وريعها حتى لو استثمرت
(4)
، وأدخل فيها البعض أموال التأمين التّعاوني
(5)
،
(1)
وهو تعريف الندوة الثامنة لقضايا الزكاة المعاصرة (139)، ينظر: فقه النوازل (178)، والفقه الميسر (9/ 110)، ونوازل الزكاة للغفيلي (ص: 214).
(2)
الموسوعة الفقيّة الكويتية (8/ 242).
(3)
ينظر: اللجنة الدائمة للإفتاء (9/ 294)، وأفتت به الندوة الثالثة عشر لقضايا الزكاة المعاصرة بالأكثرية. ينظر: أبحاث الندوة (414)، ونوازل الزكاة للغفيلي (ص: 243)، والفقه الميسر (9/ 110)، وفقه النوازل (178 - 179).
(4)
لكون الربح تابع لأصله، وأصله لا زكاة فيه فكذا التابع؛ لأنّ التابع تابع.
ينطر: أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة (3/ 424 - 425)، نوازل الزكاة للغفيلي (243) وأفتت به الندوة الثالثة عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالأكثرية.
(5)
التأمين التّعاوني: هو تعاون مجموعة من النّاس؛ لدفع الأخطار المحتملة عن بعضهم البعض، وذلك بتبرع كل منهم بقدر من المال لصندوق تعاوني، على أسس علمية رياضية إحصائية، بحيث يكفي لإقالة عثرة المتضررين من الأخطار المحتملة، وتحديد مقدار قدرة الصندوق على تعويض المشترك عند وقوع الخطر الذّي قد يتعرض له، فإنّ تحقق فائض سنوي من الإشتراكات بعد دفع التعويضات والمصروفات وخصم الاحتياطات أعيد الفائض دون إلتزام على المتبرع، أو ينفق فيما يحقق الخير للإسلام والمسلمين. ينظر: التأمين التعاوني وتطبيقاته المعاصرة (ص: 38).
أو الاجتماعي
(1)
، كالضّمانات العمالية، ومعاشاة التقاعد.
ووجه كون المال العامّ لا زكاة فيه: هو كونها ليست مملوكة لمعين، ومن شرط الزّكاة تمام الملك للمال، وكونه مملوكًا لمعين
(2)
.
وبيان ذلك: أن المولى سبحانه وتعالى أضاف الأموال إليهم بقوله: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وهذه الإضافة تدلّ على ملكهم إيّاها، واختصاصهم بالتّصرف والانتفاع بها، والمال العامّ ليس كذلك، فلا تجب فيه الزّكاة.
فالإضافة المذكورة استنبط منها العلماء كون الملك المعيَّن شرطًا في المال الذي هو وعاء الزكاة، والمال العامّ ليس ملكًا لمعين فلا زكاة فيه.
وتخريج الحكم: كان على أصل حجية الشّرط الشّرعيّ، والشّرط الشّرعي يلزم من عدمه العدم، فيلزم من عدم الملك المعيَّن عدم الزكاة.
(1)
التأمين الاجتماعي: هو نظام إجباري غالبًا، تشرف عليه الدولة، وغالبًا ما تقوم به لا بقصد تحقيق الأرباح المالية، يموله المؤَمَن عليه، وصاحب العمل، والحكومة، أو بعضهم بمساهمات دوريّة موحدة أو مختلفة في المقدار أو النّسبة؛ ليحصل المستحق من المؤمن عليه، أو من يعوله كلهم أو بعضهم على مبلغ جملي ومعاش وبدل دوريين، يتناسب مع دخله ومدّة الاشتراك، أو من غير تناسب عند انقطاعه، أو قيام ما يستلزم نفقات ماليّة، وعلى غيرها من الخدمات، كالعلاج والتّدريب والتأهيل عند الحاجة إليها، أو بعض ذلك.
وللتأمين الاجتماعي عنصران أساسيان هي:
1 -
الضمانات العماليّة؛ كتأمين إصابات العمل، والتأمين ضد البطالة، والتأمين الصّحيّ، والتأمين ضد الشيخوخة، والعجز والوفاة.
2 -
معاشاة التقاعد.
ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعوديّة (4/ 45) ومعالم التأمين الاسلامي د. صالح العلي وسميح الحسن (ص: 33 - 34) نوازل الزكاة (ص: 269 - 270).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (ص: 235 - 236).
•
المطلب الثالث: زكاة في المال المحرم
استدل بالآية من قال لا زكاة في المال المحرم كالسّيجارة
(1)
.
تخريج الحكم: أن المال إذا أطلق فإنّه ينصرف إلى الكامل وهو الحلال بخلاف مطلق المال فإنّه يدخل فيه الحلال والحرام. عليه فلا يدخل المحرم فيما أمر بزكاته من الأموال.
كما أنّ المولى سبحانه وتعالى جعل الزّكاة من المال؛ لأجل الطّهرة والتّزكية به، والحرام خبيث فلا يطهر
(2)
.
تنبيه: السيجارة محرَّمة لذاتها، والمحرَّم لذاته لا يعتبر مالاً زكوياً، ويجب التخلص منه بإتلافه، والإمساك به إثم وعصيان، وأما المحرم لغيره، كالمغصوب أو المسروق، فهذه يتعين ردُّها إلى أصحابها، وهم يقومون بإخراج زكاتها بعد قبضها
(3)
.
ويقول د. عبد الله الغفيلي: «
…
وإن كان المال حراماً بوصفه لا بأصله كالأموال الربوية فيده عليه يدُ تمليك، فيجب عليه إخراج زكاته؛ لأنه مال منسوب إلى مسلم متعبد بجميع أحكام الإسلام
…
الخ»
(4)
.
(1)
وهو قول عامة الفقهاء المتقدمين، وأكثر الفقهاء المعاصرين، وصدرت به فتوى الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة. ينظر: فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة (67)، ونوازل الزكاة (210).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة (212).
(3)
ينظر: فقه النوازل (173 - 174)، وفتاوى وتوصيات ندوةقضايا الزكاة المعاصرة (68)، ونوازل الزكاة (210).
(4)
نوازل الزكاة (211).
الفصل الرابع تخريج نوازل أحكام الصيام
•
المبحث الأول: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]
استدل بالآية من قال بوجوب الصيام في البلاد التي يستمر فيها الليل أو النّهار، ويقدِّرون صومهم بصوم أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛ وبه أفتت اللجنة الدّائمة، وصدر قرار مجمع الفقه الإسلامي
(1)
.
تخريج الحكم: عموم الأدلة الواردة على وجوب الصيام على المسلمين.
ومنها: قوله: في هذه الآية {كُتِبَ} وهو إخبار عن حكم الشّارع، والكتب معناه الإيجاب
(2)
.
وأكد الوجوب بقوله: {عَلَيْكُمُ} وهي نص في الوجوب أيضا، وضمير الجمع يدلّ على العموم، فيشمل البلاد والزمن المعتاد، وغير المعتاد.
(1)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 133 - 134)، و (9/ 342 - 343) فتوى رقم (12756)، وقرارات المجمع الفقهي الإسلامي (93)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (15/ 293)، فتاوى إسلامية لابن عثيمين (2/ 124)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (76 - 77).
(2)
وقد جعلها بعض الأصوليين نصَّاً في الوجوب.
ينظر: المختصر في أصول الفقه (115)، وشرح الكوكب المنير (1/ 181).
•
المبحث الثاني: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]
*
المطلب الأول: حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في دخول الشّهر:
استدل بها من أجاز دخول الشّهر بالاعتماد على الحساب الفلكي
(1)
؛ حيث فسر معنى شهود الشهر بالعلم بوجوده، ومن علم بوجود هلال الشهر بعد غروب شمس آخر يوم من شعبان، بأي طريق من طرق العلم، - ومنها الحساب الفلكي - وجب عليه الصّوم.
قال ابن عبد البر: «إنَّ شهوده رؤيته أو العلم برؤيته»
(2)
.
تخريج الحكم هو: أن قوله {شَهِدَ} جملة فعلية تنزل منزلة النكرات، وهي في سياق الشّرط، فتعمّ أي: شهود، وقد فسر الشهود بالعلم، أي: بأي علم كان.
نوقش: بأن المراد ب {شَهِدَ} في الآية حضر لا شاهد بدليل قوله بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} ؛ لأن قوله: {عَلَى سَفَرٍ} يقابل حضر
(3)
.
(1)
وبهذا قال بعض الحنفية، والمالكية، والشافعية،، وقال به جمعٌ من المعاصرين: كمحمد رشيد رضا، ومحمد نجيب المطيعي، وأحمد شاكر، ومصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، وأحمد الغماري.
ينظر: العلم المنشور في إثبات الشهور، ص (20)، و إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (3/ 327)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 121)، و إحكام الأحكام مع العدة (3/ 326)، و تفسير المنار (2/ 151)، وإرشاد أهل الملة في إثبات الأهلة، ص (258)، والعقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ص (84، 85)، وتيسير الفقه في ضوء القرآن والسنة «فقه الصيام «، ص (30، 31)، وتوجيه الأنظار، ص (52، 53) وأوائل الشهور العربية، ص (13، 14).
(2)
التمهيد (2/ 39).
(3)
ينظر تفسير القرآن الكريم، لابن عثيمين (2/ 334).
وبهذا التفسير استدل من قال بعدم جواز الاعتماد على الحساب الفلكي بالآية نفسها.
تنبيه: القائلون بجواز الاعتماد على الحساب الفلكي اختلفوا في حدود العمل به: فمنهم من قصر العمل بالحساب الفلكي في الحالة التي يكون فيها الجوّ غائمًا، أو يحول دون رؤية الهلال قتر ونحوه، ومنهم من جعل الحكم خاصًّا بالحاسب دون غيره، ومنهم من أجاز الاعتماد عليه في النفي لا الإثبات، ومنهم من قال بجواز الاعتماد عليه مطلقًا
(1)
.
*
المطلب الثاني: حكم الاستعانة (بالدربيل) لرؤية الهلال
استدل بها على جواز الاستعانة (بالدربيل) لرؤية الهلال
(2)
.
تخريج الحكم: أن {شَهِدَ} هنا بمعنى شاهد، والمشاهدة في الآية عامّة -كما سبق - فتشتمل ما إذا رؤي بالعين المجردة أو بواسطة (الدربيل) والمراصد، فيحمل العام على عمومه
ووجه كون {شَهِدَ} عامة؛ لأنّها فعل فتنزل منزلة النكرة، وهي في سياق الشرط فتعم، وتشمل كذلك المشاهدة بواسطة المراصد (الدربيل)
(3)
؛ لأنّ العام
(1)
ينظر: إثبات هلال رمضان، ص (40)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 208)، والفتاوى الكبرى (2/ 464)، تيسير الفقه، ص (31، 32)، أقوال الشيخ ابن عثيمين في المستجدات الفقهية (584) رسالة علمية آلة.
(2)
ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (3/ 47)، مجلة البحوث الإسلامية، ع 29، عموم البلوى (432، 433)، وأثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي (236، 237)، المستجدات في وسائل الإثبات (202، 203)، مجموع فتاوى ابن باز (15/ 70)، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية (10/ 99)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (19/ 36، 37)، الفقه الميسر (9/ 134).
(3)
ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء 3/ 47، فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 10/ 99.
يجري على عمومه مالم يرد دليل التّخصيص.
*
المطلب الثالث: اختلاف المطالع
استدل بالآية على القول بأنّه لا عبرة باختلاف المطالع، فمتى ما رأى الهلال أهل بلد، وجب الصّيام على جميع البلاد الإسلاميّة
(1)
.
تخريج الحكم: دلّت الآية على ثبوت الشّهر بنفسه، من أي مطلع كان؛ إذ علق سبحانه الصيام بشرط ثبوت الشهر والعلم به، والشرط هنا لغوي، فهي أسباب شرعيّة، والمعلق على سبب يثبت بثبوته، والشهود عامّ على ما سبق، ويبقى على عمومه ما لم يرد تخصيصه.
*
المطلب الرابع: حكم الصوم على السّاكنين في المناطق التي يستمر فيها الليل والنهار
استدل بالآية على وجوب الصوم على السّاكنين في المناطق التي يستمر فيها الليل والنهار، بعموم الأوامر الدّالة على وجوب صيام رمضان على المسلمين عامّة
(2)
.
تخريج الحكم: أن قوله سبحانه {مِنَ} شرطيّة تعمّ كل من شهد الشهر وهؤلاء أمروا بالصّيام بقوله: {فَلْيَصُمْهُ} وهو فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، يقتضي وجوب الصيام على جميع المسلمين.
(1)
ينظر: اللجنة الدائمة (10/ 96، 100، 102، 110)، والفقه الميسر (9/ 132)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (80).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 133 - 134)، وقرارات المجمع الفقهي الإسلامي (93)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (15/ 293)، فتاوى إسلامية لابن عثيمين (2/ 124).
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]
*
المطلب الأول: وضع وقت للإمساك في التقاويم
استدل بها من قال بعدم الجواز، بل ببدعية وضع وقت للإمساك في التقاويم قبل وقت الفجر احتياطًا.
(1)
، وهذا الإمساك الذي يصنعه بعض الناس زيادة على ما فرض الله عز وجل فيكون باطلاً، وهو من التنطّع في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»
(2)
(3)
.
تخريج الحكم: يخرَّج الحكم على مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ومنطوقه: له الأكل والشرب إلى الفجر، فهذه هي الغاية الشّرعيّة، ووضع الإمساك قبل ذلك مخالف لهذا المنطوق، فهو لا يجوز، وهو بدعة لما فيه من ابتداع وقت للإمساك غير مشروع.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، برقم:(617)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أنّ الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم:(1091). أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم:(2670).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم:(2670).
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (19/ 292).
المطلب الثاني: من أفطر ثم سافر بطائرة إلى بلد لم تغرب فيه الشمس
استدل بها من قال إن من أفطر ثم سافر بطائرة إلى بلد لم تغرب فيه الشمس، فإنّه قد أتمّ صيامه ذلك اليوم
(1)
، ولا يلزمه الامساك قوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
*
المطلب الثالث: من أفطر في الطائرة، وبعد الإقلاع رأى الشمس
استدل بها من قال إنّ من أفطر في الطائرة، وبعد الإقلاع رأى الشمس؛ فإنّه لا يلزمه الامساك لقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وهذا قد أتمّ
(2)
.
تخريج الحكم للحكمين السابقين: أن المأمور يخرج من عهدته بفعله ولو بمرة- عند من يقول بعدم التكرار- وقد أمر بالإتمام، فأتمه فسقطت المطالبة به.
يقول الشيخ العثيمين لما سئل عن من أفطر في الطائرة، وبعد الإقلاع رأى الشمس:«جوابنا على هذا أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض .... فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم، وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني، وعلى هذا فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة، لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي، فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي»
(3)
.
(1)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296، 137)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 331 - 333)، (19/ 332)، إتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 438)، (19/ 332)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77 - 78).
(3)
مجموعة فتاوى ابن عثيمين (19/ 332).
*
المطلب الرابع: من سافر بالطّائرة من الشرق إلى الغرب فطال عليه النهار
استدل بها من قال إنّ من سافر بالطّائرة من الشرق إلى الغرب فطال عليه النهار؛ فإنّه يلزمه الامساك، أي: حتى تغرب الشمس.
تخريج الحكم: دلَّ منطوق الآية على وجوب الإتمام والإمساك إلى الليل، ومفهومه عدم جواز الإفطار ما لم تغرب الشمس، ويخل الليل.
*
المطلب الخامس: هل يفطر الصائم الذّي في الطائرة، إذا علم بإفطار البلد الذي تحلق الطائرة فوقها وهو يرى الشمس
استدل بها من قال بأنّ الصائم الذّي في داخل الطائرة، لا يفطر، إذا علم بإفطار البلد الذي تحلق الطائرة فوقها أو قريب منها، عن طريق الإذاعة أو الجولات، وهو يرى الشمس؛ وبه أفتت اللجنة الدّائمة
(1)
.
وتخريج الحكم: ما سبق في منطوق الغاية {إِلَى اللَّيْلِ} ومفهومه أن ما قبله داخل في الأمر، ويجب عليه الإمساك، ولا يجوز له الإفطار.
كما أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن يبين ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»
(2)
.
(1)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296، 137)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 331 - 333)، (19/ 332)، إتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب متى فِطر الصائم؟، برقم (1100)، ومسلم في كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، برقم (1954).
*
المطلب السادس: منظار المعدة هل يفطر؟
استدل بالآية من قال بأن منظار المعدة مفطر
(1)
، باعتبار أن الأكل في الآية يشمل ما هو مطعوم وغير مطعوم
(2)
..
تخريج الحكم: أنّ الإطلاق في الآية {وَكُلُوا} يحمل على إطلاقه حتى يرد الدليل على تقييده، وكونه مطلقا؛ لأنّها جملة فعلية فهي نكرة، وفي سياق إثبات، فهي مطلق.
أو يقال: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. والصوم هو الإمساك، وقد حصل منه بلع شيءٍ يمكن الاحتراز منه فيفطر بذلك
(3)
.
نوقش: بأن المعنى والقصد مقيد له، فيحمل الأكل على المغذي للبدن من الطعام والشراب عادة، فالعبرة بالحقائق والمعاني، لا بالصور والمباني، والغرض من الأكل هو نفع البدن، وهذا ينحصر بالغذاء والدواء
(4)
.
تنبيه: فصَّل بعضهم وقال بأن المنظار إن كان معه سائل، فإنه يُعدَّ مفطراً، لدخول سائل إلى جوف الأنسان
(5)
.
(1)
وبه أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ينظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص (136).
(2)
القول بأن دخول الشيء إلى المعدة يعتبر مفطراً، سواء كان مغذياً أم غير مغذ هو المذهب عند المالكية والشافعية والحنابلة، ومقتضى هذا القول أن منظار المعدة مفطر.
ينظر: بداية المجتهد (3/ 162)، مغني المحتاج (1/ 626)، المغني (4/ 353).
(3)
ينظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 438).
(4)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (247)، واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية (4/ 169)، ذكره في مسألة بلع الخيط ونحوه، وأنه غير مؤثر في الصوم، وهذه النازلة مخرَّجة عند البعض على هذه المسألة ما إذا ابتلع طرف خيطٍ وطرفه الآخر بارزٌ.
(5)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (247)، والفقه الميسر (9/ 137).
يقول الشيخ العثيمين: «
…
فلو أنّ إنسانًا أدخل منظارًا إلى المعدة حتى وصل إليها، فإنه يكون ذلك مفطِرًا
(1)
، والصحيح أنه لا يفطر إلا أنْ يكون في هذ االمنظار دهنٌ أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار، فإنه يكون بذلك مفطرًا، ولا يجوز استعماله في الصوم الواجب إلا للضرورة»
(2)
.
*
المطلب السابع: هل الدخان مفطر؟
استدل بالآية من قال بأن الدخان مفطر
(3)
.
تخريج الحكم: أنّه سبحانه أطلق الشرب في الآية، وأمرنا بعد ذلك بالإمساك إلى الليل، فيدخل في الإطلاق كل مشروب، والدخان مشروب؛ لأنّ شرب كل شيء بحسبه، وشرب الدخان باستنشاقه وإدخاله للجوف.
ويؤيد هذا الحكم بعضهم ما ورد في الحديث أن الصائم (يدع شهوته من أجلي)
(4)
، والشهوة هنا: مفرد مضاف، فيعمّ أي: شهوة يشتهيها المكلَّف، ومنها: الدخان للشارب له.
* * *
•
المبحث الرابع: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]
استدل بها جمهور أهل العلم على وجوب الاعتماد على الحول القمري، الذي يعتمد على السّنة القمرية، دون الحول الشّمسي
(5)
.
(1)
أي عند الحنابلة.
(2)
الشرح الممتع (6/ 371).
(3)
ينظر: مجموعة فتاوي ابن عثيمين (19/ 202)، فقه النوازل للمشيقح (265).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (579).
(5)
ينظر: المغني (8/ 84)، رؤية الهلال الفلكي لشيخ الإسلام (48)، أحكام الأهلة والآثار المترتبة عليها لأحمد ابن عبد الله الفريح (28).
وكذا قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، فاعتبر سبحانه التوقيت بالهلال؛ إذ إنّ الحول القمريّ هو المكون من اثني عشر شهرًا.
(1)
.
(2)
.
وتخريج الحكم للآيتين: هو أن المعتبر في الأحكام الشرعية حقائقها؛ إذ الشارع يخاطبنا بعرفه، كيف وقد نصّ في الآية الأولى على كون الأهلة {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وبلفظه العامّ؛ ليشمل الصّيام وغيره.
وفي الآية الثانية: حصرها بالعرف الشّرعي بقوله {عِنْدَ اللَّهِ} وعليه فوجب تعليق العبادات وغيرها بها.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 133).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 23).
الفصل الخامس تخريج نوازل أحكام الحج
•
المبحث الأول: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وفيه مطلبان:
*
المطلب الأول: جواز نقل مقام إبراهيم
استدل بالآية من قال بجواز نقل مقام إبراهيم من مكانه لأجل التوسعة
(1)
.
تخريج الحكم: أن الأمر في قوله: {أَنْ طَهِّرَا} جاء مطلقًا، والمطلق يجري على إطلاقه، وإطلاق التّطهير يشمل التطهير من الشّرك بلا ريب، ومن معاني التّطهير: إزالة كل ما يمنع من أداء هذه العبادة، أو يعسرها أو يخل بها، وخاصة الطائفين لاختصاصهم بهذا المكان دون مشارك، خاصّة إذا تزاحمت الاستحقاقات، فوجب إعطاؤهم حقهم، وعدم الحيلولة بينهم وبينه في حال تزاحم الحقوق لا لحجر ولا لغيره
(2)
.
وكونه مطلقًا لأنّ الفعل {طَهِّرَا} نكرة وهو في سياق إثبات.
(1)
ينظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (5/ 15)، والشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 265)، و مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ص (7)، والنوازل في الحج للشلعان (290)، والفقه الميسر (9/ 169).
(2)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (305).
*
المطلب الثاني: جواز توسعة المطاف
استدل بالآية من قال بجواز توسعة المطاف
(1)
.
تخريج الحكم: هو ما سبق من كون الأمر جاء على جهة الإطلاق، والمطلق يجري على إطلاقه، فيشمل التطهير إزالة كل ما يمنع من أداء العبادة.
* * *
•
المبحث الثاني: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]
*
المطلب الأول: حكم توسعة المسعى
استدل بالآية من أجاز، أو منع توسعة المسعى بين الصفا والمروة، وذلك للخلاف في حقيقة حجم جبلي الصفا والمروة التي أمرنا بالسعي بينهما.
فمن قال إنه أكبر من حجمه الظاهر لنا الآن أجاز التوسعة، ومن قال بأن هذا حجمه لم يجز التوسعة عليه.
وتخريج الحكم: يرجع إلى تحقيق مناط البينونة بينهما، وهو يعود لحقيقة حجم الجبلين.
جاء في الفقه الميسر: «والذي نراه أن الخلاف في ذلك ليس راجعاً في حكم واحد لحقيقة واحدة، بل هو اختلاف في حكم لحقيقتين مختلفتين.
فالعلماء متفقون على أنه لا يجوز السعي خارج الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة، ومتفقون على أنه يجوز ويصح لما كان واقعاً بين حدود الصفا والمروة، ولكنهم يختلفون هل التوسعة داخلة بحيث تكون بين الصفا والمروة،
(1)
ينظر: فقه النوازل (296)، والفقه الميسر (9/ 164 - 165).
أم أنها خارجة عن حد الصفا والمروة.
فمن رآها داخلة أجاز السعي فيها، ومن رآها خارجة عن الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة منع ذلك»
(1)
.
ومما استدلَّ به القائل بعدم صحة التوسعة، قوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، وقالوا: ظاهر المعنى اللغوي للمشعر يدل على الإشعار والإعلام، فالعلم به من الواضحات التي لا تخفى على أحد، وعليه فيبعد أن يجهل المسعى طيلة هذه القرون، ويكتشف سعته هذه الأزمان
(2)
.
ونوقش: بأن عرضه كان ظاهراً - كما نصت الآية - ولم تكن الحاجة لبيانه، ولما زاحمت البيوتات المكان احتيج لبيانه
(3)
.
*
المطلب الثاني: صحة السعي في التّوسعة الجديدة
استدل بالآية من قال بصحة السعي في التّوسعة الجديدة.
وتخريج حكم من قال بالصحة: هو أن المولى سبحانه وتعالى أطلق الطّواف بالصّفا والمروة، والمطلق يجري على إطلاق، ويقع على أي وجه كان شريطة أن يكون مبتدأه الصفا ومنتهاه المروة. وهذا مبني على المسألة السابقة، وهي جواز توسعة الصفا والمروة.
ثم إنَّ القول بتحديد المسعى - على القول بأنه كذلك - ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله عليه الصلاة والسلام، والفعل المجرد ليس له مفهوم، فلا يفهم منه سوى
(1)
الفقه الميسر (9/ 164 - 165).
(2)
حسن المسعى في الرد على القول المحدث في عرض المسعى (38).
(3)
ينظر: نبل المسعى في مشروعية توسعة المسعى للسديس (63).
المكان الذي سعى فيه فقط، ولا يدل على عدم جواز السّعي في غيره.
قال السعدي: وكذلك المسعى منهم من قال: إن عرضه لا يحد بأذرع معيَّنة؛ بل كان بين الصفا والمروة، فإنه داخل في المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم ....
(1)
.
نوقش: بأنّه ليس مجرد فعل، بل فعل لبيان مجمل الآية، مقرونًا بالأمر باتباعه في قوله:«لتأخذوا مناسككم»
(2)
.
*
المطلب الثالث: جواز السعي في الدورين والسطح وكذا عدم الجواز.
استدل بالآية على جواز السعي في الدورين والسطح
(3)
. وكذا استدل بها من قال بعدم جواز ذلك
(4)
.
تخريج الحكم: أما القائل بالجواز فلأن السّعي في الآية ورد مطلق - كما سبق تقريره في الحكم السابق - والمطلق يجري على إطلاقه، والسعي فوق السقف، لا يخرج عن مسمى السعي فيدخل في إطلاق الآية.
نوقش: بمنع دخولها في الآية، بل الآية جعلت للمسعى حدًّا، والمكان الذّي حددّه الشارع لعبادة معينة لا يجوز الزيادة عليه، أو النقص منه إلّا بنص من
(1)
الأجوبة النافعة في المسائل الواقعة للشيخ ابن سعدي (293).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم (1297).
(3)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (22/ 437 - 438)، وفقه النوازل (294)، والفقه الميسر (9/ 162)، النوازل في الحج للشلعان (364)، وعليه فتوى هيئة كبار العلماء، ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 16)(2/ 388) قرار رقم (3)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (102 - 103).
(4)
ينظر: الرحلة إلى أفريقيا - القسم الأول - (71)، وفقه النوازل (294)، والفقه الميسر (9/ 162)، النوازل في الحج للشلعان (364).
الكتاب والسّنة.
وهذه الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادة ليست محلًا للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النّص الصّريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة
(1)
.
ويفهم من النقاش السابق وجه القائل بالجواز، ووجه القائل بالمنع.
ومن المآخذ التي خرَّج عليها الشيخ محمد الأمين رحمه الله القول بعدم جواز السعي في الدورين، ما يلي:
الأول: فعله صلى الله عليه وسلم كان بياناً لمجمل القرآن، ولا يجوز العدول عن بيانه صلى الله عليه وسلم، يقول الأمين رحمه الله:«وقوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إجمال يحتاج إلى بيان كيفية الطواف ومكانه ومبدئه ومنهاه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالسعي بين الصفا والمروة مبيناً فعله المذكور واقع لبيان القرآن المذكور لقوله: «خذوا عني مناسككم» وعليه فلا يجوز العدول عن كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل من كتاب وسنة»
(2)
.
والمأخذ الثاني: كون الآية نص في تحديد مكان السعي، ولا اجتهاد مع النص، فقال: «
…
إن الأمكنة المحددة شرعاً لنوع من أنواع العبادات ليست محلاً للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة»
(3)
.
(1)
أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 43).
(2)
الرحلة إلى إفريقيا (71).
(3)
أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 43).
•
المبحث الثالث: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]
*
المطلب الأول: حكم من مُنع بسبب عدم حمل التصريح
استدل بها من قال بأن من حجّ بدون تصريح، فمُنع فإن حكمه حكم المحصر
(1)
.
حيث إن ظاهر الآية الكريمة أن الإحصار عامّ لكل ما يكون به المنع من إتمام النّسك، فلم يخصصه سبحانه بحصر العدو.
تخريج الحكم: العموم الوارد في الإحصار، يعمّ كل ما يكون به المنع من إتمام النّسك، ووجه العموم أن الفعل {أُحْصِرْتُمْ} ينزل منزلة النكرة، وهو في سياق الشرط فيعمّ.
ووروده على سبب وهو حصر العدو لا يقصر به عموم اللفظ.
تنبيه: هذا القول مبني على القول بأن الإحصار يكون بكلّ ما يمنع من الوصول إلى البيت، سواءٌ أكان بعدوّ أم غيره، وبهذا قال الحنفية
(2)
، والظاهرية
(3)
، ورواية عند الحنابلة
(4)
، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية
(6)
.
(1)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (21/ 356)(23/ 433)، وإتحاف البرية (100).
(2)
ينظر: فتح القدير (3/ 124).
(3)
ينظر: المحلى بالآثار (5/ 219).
(4)
ينظر: المغني (5/ 203).
(5)
الاختيارات، للبعلي، ص (120).
(6)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 351).
وأما إذا أحصر بعدوّ فإنه يحلّ بعد أنْ يذبح هديه بلا خلاف
(1)
.
*
المطلب الثاني: جواز الإحرام قبل الميقات في الطائرة
استدل بالآية على جواز الإحرام قبل الميقات في الطائرة.
تخريج الحكم: ما ورد عن الصحابي من تفسيره للآية، وتفسيره حجة، وقد روي عن علي رضي الله عنه، أنّ الإتمام هو الإحرام من دويرة أهله، فقال:(تُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ)
(2)
، وهذا يعني جواز كونه قبل الميقات، بل هو الإتمام المراد بالآية.
ويناقش: إنْ صحّ هذا عن عليّ رضي الله عنه فهو مخالفٌ لما روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهم إذْ ثبت عنهما كراهة الإحرام قبل الميقات
(3)
، وليس قول علي رضي الله عنه بأولى من قوليهما.
لكن على القول بكراهة الإحرام قبل الميقات
(4)
، إلا أن الكراهة تزول عند الحاجة، كما هو مقرّرٌ عند الأصوليين.
قال الشيخ العثيمين: «الذي يكون في الطائرة نرى أنه يحتاط أي يحرم قبل خمس دقائق؛ لأنه لو أخّر حتى يحاذي الميقات فالطائرة في دقيقة واحدة تأخذ مسافة طويلة، ولهذا نقول: احتط، ومن ثم كان القائمون على الطائرة -جزاهم
(1)
ينظر: المغني (5/ 194).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، (2/ 276). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: إسناده قويّ. انظر: التلخيص الحبير (4/ 1527).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب كيف التلبية؟ (5/ 44).
(4)
اتفق الفقهاء على صحّة إحرام من أحرم قبل الميقات، واختلفوا في كراهة ذلك، وذهب الجمهور إلى الكراهية.
ينظر: الإجماع لابن المنذر، ص (51)، وحاشية الدسوقي (2/ 22)، والمجموع شرح المهذب (7/ 105، 206)، والإنصاف (8/ 127).
الله خيرا- يعلنون قبل الوصول إلى الميقات أولا بنصف ساعة أو ثلث ساعة، ثم بعشر دقائق»
(1)
. وهذا محمول منه عند عدم إعلان القائمين على الطائرة، أو الخوف من عدم ذلك، أما إذا كان يعلم أو يظن بأنّ ملاحي الطائرة يعلنون عن المحاذاة بوقتٍ كافٍ للإحرام وأراد أن يحرم قبل الصعود أو الميقات، فقد قال الشيخ:«هذا ليس بحسنٍ، والعلماء قالوا: يكره أنْ يحرم قبل الميقات، ولا داعي للاحتياط هنا»
(2)
.
* * *
•
المبحث الرابع: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
*
المطلب الأول: عدم وجوب الحجّ على من لم يحصل على التّصريح بالحجّ
استدل بها على عدم وجوب الحجّ على من لم يحصل على التّصريح بالحجّ
(3)
؛ إذ إنّ إخلاء الطريق له شرط في الوجوب.
تخريج الحكم: يخرج على قاعدة الشّرط الشّرعي حجة، ويلزم من عدم الشّرط عدم المشروط، إذ إن الشرط الشرعي يلزم من عدمه العدم. والاستطاعة من شرائط الوجوب.
والسّبيل في الأصل هو: الطريق والسبب، وكل ما يوصل إلى الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه، فمن استطاع إليه سبيلًا، فقد وجب عليه الفعل وإلّا فلا
(4)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 387).
(2)
المرجع السابق (21/ 388).
(3)
ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز (6/ 191)، وفتاوى العثيمين (23/ 432)، وفقه النوازل (270)، والفقه الميسر (9/ 9/ 151)، والنوازل في الحج للشلعان (48 - 49).
(4)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (49).
ويمكن تخريج الحكم: على قاعدة وجوب حمل الأمر على ظاهره، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه؛ إذ إنّ ظاهر الآية دلّ على سقوط الحجّ عمن لا يجد سبيلًا إليه.
*
المطلب الثاني: وجوب الحجّ لمن لم يأذن له مرجعه أو كفيله
استدل بالآية على وجوب الحجّ لمن لم يأذن له مرجعه أو كفيله، وكان حجه حجّ الفرض
(1)
.
تخريج الحكم: الأمر في الآية يقتضي الإيجاب والفور، وكونه مستطيعًا يوجب عليه الحجّ؛ إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه.
*
المطلب الثالث: عدم جواز تحديد نسبة الحجاج من الخارج
استدل بالآية من قال بعدم جواز تحديد نسبة الحجاج من الخارج، حيث إنّ كل من تحققت فيهم شروط الحجّ، يجب ألّا يمنعوا من الحجّ إذا أرادوا
(2)
.
تخريج الحكم: ورود الأمر على جهة العموم، فالأمر بصيغة (على) الدّالة عليه في قوله:{عَلَى النَّاسِ} ، وعموم {النَّاسِ} يقتضي دخول جميع النّاس، إلّا أنّه مخصوص ببدل البعض في قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فالواجب عدم منع من وجب عليه الحجّ وهو مستطيع.
نوقش: بأن العموم الوارد في الآية معارض بعمومات أخر، كالعمومات الواردة في رفع الحرج عن الأمة، في قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:
(1)
ينظر: اللجنة الدائمة (11/ 116)، ومجلة البحوث الإسلامية (13/ 67)، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (5/ 189)، وفتاوى ابن باز (17/ 122 - 123)، فتاوى ابن عثيمين (21/ 163)، والنوازل في الحج للشلعان (74)، إتحاف البرية (90).
(2)
ينظر: أحكام الاستطاعة في الحج في ضوء المستجدات المعاصرة (182).
78]، وكذا في تحريم إلقاء النفس بالتهلكة، كقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وفي تحديد نسبة الحجاج رفع للحرج عن الحجاج، ومنع للتهلكة بسبب الزحام، وعليه فتخصص هذه العمومات عموم ما قد يحتج به على المنع والصَّد، جمعاً بين النصوص. وقد افتت اللجنة الدائمة بجواز تحديد نسبة الحجاج نظراً للمصالح العظمى المتحققة في ذلك، ودفعاً للمفاسدة المتحققة من عدم جواز التحديد
(1)
.
*
المطلب الرابع: إلزام الناس بالحج عن طريق الحملات.
استدل بالآية من قال بعدم وجوب الحج لمن لا يستطيع الحج عن طريق الحملات
(2)
.
قال الشيخ العثيمين: «إذاكان مفهوم النظام أنّ الإنسان يجب أن يعقد مع الحملة من بلده، حتى يرجع، وهذا يكلّفه ما لا يستطيعه، فإنّه لا يجب عليه الحجّ؛ لأنّه غير مستطيعٍ»
(3)
.
تخريج الحكم: ورود الأمر على جهة العموم، فالأمر بصيغة (على) الدّالة عليه في قوله:{عَلَى النَّاسِ} ، وعموم {النَّاسِ} يقتضي دخول جميع النّاس، إلّا أنّه مخصوص ببدل البعض في قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، ومن لا يستطع الحج عن طريق حملة فهو غير مستطيع.
(1)
ينظر: قرار هيئة كبار العلماء رقم (187)، وقرار رقم (224)، والنوازل في الحج للشلعان (46 - 47).
(2)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (21/ 118، 355)، وإتحاف رب البرية (91).
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 118).
•
المبحث الخامس: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25].
*
المطلب الأول: عدم جواز تحديد نسبة الحجاج
استدل بها من قال بأن تحديد نسبة الحجاج الصدّ عن سبيل الله؛ لما فيه من منع بعض المسلمين الذين يريدون أداء الفريضة مع الاستطاعة
(1)
.
تخريج الحكم: قرن المولى سبحانه وتعالى بصدّ عن المسجد الحرام بالكفر، ودلالة السياق تقتضي المشاركة في الإثم، واستحقاق العذاب الأليم، الذي ختمت به الآية، ولا يستحق العقاب إلّا على ترك واجب، أو ارتكاب محرّم، فدلّ على عدم جواز تحديد النّسبة لما فيها من صدّ بعض المستطعين عن فريضة حجهم.
تنبيه: سبق مناقشة هذا القول في المطلب الثالث، من المبحث السابق (الرابع).
*
المطلب الثاني: عدم جواز تأجير المخيمات بمنى
استدل بالآية على عدم جواز تأجير المخيمات بمنى
(2)
.
تخريج الحكم: أنّ تأجير المخيمات يتسبب في الصدّ عن المسجد الحرام، وما أدّى إلى الصدّ عن المسجد الحرام فهو حرام؛ وذلك لأنّ وسيلة الحرام محرّمة.
(1)
ينظر: أحكام الاستطاعة في الحج في ضوء المستجدات المعاصرة (180).
(2)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (452).
ثمَّ إنه عز وجل جعل المسجد الحرام {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، ومثله بقية المشاعر.
تنبيه: رأت هيئة كبار العلماء في المملكة بالأغلبية: أنه يجوز للدولة أنْ تؤجّر هذه الخيام بقيمة متناسبة مع ما كلّفه هذا المشروع حتى تحصل على قيمة التكلفة، وبعد ذلك لا يجوز الأخذ إلا بقدر تكاليف الصيانة فحسب، مع وجوب مراعاة الأسبقية في تأجيرها؛ لأنّ منى مناخ من سبق، فإنْ تعذّر مراعاة الأسبقية فيرجع إلى الاقتراع؛ لأنّ القرعة يلجأ إليها عند التزاحم ولا مميّز لأحدهم، أو إذا علمنا أنّ الشيء لأحدهم وجهلناه
(1)
.
ولعل القول به مبني على الاستحسان، واعتبروه التأجير معدول به عن الأصل للمصلحة المترتبة على المشروع من سلامة الحجاج، وحفظ أرواحهم. وإلا فالأصل أن حكم منى حكم نظائرها من أراضي المشاعر، فيشملها الحكم العام، وهو حكم المساجد - الوارد في الآية - في قوله:{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25].
*
المطلب الثالث: إلزام الناس الحج عن طريق الحملات
استدل بالآية على عدم جواز إلزام الناس الحج عن طريق الحملات.
تخريج الحكم: أنّ إلزام الناس الحج عن طريق الحملات يتسبب في الصدّ عن المسجد الحرام، وما أدّى إلى الصدّ عن المسجد الحرام فهو حرام؛ وذلك لأنّ وسيلة الحرام محرّمة.
ويقال هنا ما قيل في المطلب السابق - تأجير المخيمات - من التنبيه.
(1)
انظر: قرار هيئة كبار العلماء رقم (185)، بتاريخ 9/ 2/ 1418 هـ.
يقول الشيخ العثيمين: «أنّ لوليّ الأمر أنْ يلزم الناس بالحجّ عن طريق الحملات إذا رأى أنّ المصلحة تقتضي ذلك»
(1)
.
* * *
•
المبحث السادس: تخريج نوازل أحكام قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
*
المطلب الأول: عدم جواز الطواف في الطّابق العلوي
استدل بها من قال بعدم جواز الطواف في الطّابق العلوي؛ لأنّ ظاهر الآية لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائه
(2)
.
التخريج: على المعنى اللغوي، واللغة حجة، حيث إنّ معنى الطواف جعل المكان في وسطه، لا فوقه لا تحته.
يمكن أن يناقش بأنّ الهواء له حكم القرار
(3)
، فيتحقق الطواف حكماً، وحقيقة شرعية، لا حقيقة لغوية، والحقيقة الشرعية مقدَّمة، وسبق أن قوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا} مطلق؛ لأن الأفعال نكرات، وهو في سياق إثبات، والمطلق يجري على إطلاقه، سواء كان أسفل أو في الهواء، فيجري على إطلاقه ما لم يأت دليل التقييد.
المطلب الثاني: جواز الطواف من المحدث
استدل بها على جواز الطواف من المحدث
(4)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 118).
(2)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (272).
(3)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 155)، وبه أفتت اللجنة الدائمة كما في فتاويها (11/ 232).
(4)
ينظر: المبسوط (4/ 38)، وبدائع الصنائع (2/ 129)، والنوازل في الحج للشلعان (315).
تخريج الحكم: أخذ من المعنى اللغوي؛ إذ إنّ الطواف هو الدوران حول الكعبة، وهذا يتحقق من المحدث والطّاهر.
أو يقال بأن الطواف مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه، فلا يتقيد بكون على طهارة أو لا، إلّا بدليل يقيد ذلك.
*
المطلب الثالث: جواز الطواف على العربة أو السير
ويستدل بالآية على جواز الطواف على العربة أو السير
(1)
.
وتخريج الحكم: على ما سبق من أن المطلق يجري على إطلاقه.
تنبيه: هذا الحكم مبني على القول بأن المشي في الطواف مع عدم العذر سنّةٌ، وبهذا قال الشافعية
(2)
، واختاره المجد
(3)
، وابن قدامة
(4)
، والشنقيطي
(5)
، وابن باز
(6)
.
يقول الشيخ العثيمين: «لو تحذلق متحذْلِقٌ، وقال: إنّ من المهم عمل مشروع، وهو: أنْ يجعل المطاف متحرِّكًا بحركة الكهرباء كالدّرج، فهناك درجٌ الآن لا تترجّل فيه، وإنما تصعد عليه ويسير هو بك بالكهرباء، قال: تسهيلاً للناس، يدور بالناس وهم واقفون؛ لأنّ هذا أهون عن التزاحم، فنقول: أما على رأي من يرى أنّ الركوب في الطواف جائزٌ ولو بلا عذر، فهذا سائغٌ، وأما على رأي من يرى أنه
(1)
ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 272)، و الحلل الإبريزية من التعليقات البازية (2/ 36)، والنوازل في الحج للشلعان (276).
(2)
ينظر: المجموع شرح المهذب (8/ 27).
(3)
ينظر: الشفا الشافيات (1/ 236).
(4)
ينظر: المغني (5/ 251).
(5)
ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 272).
(6)
ينظر: الحلل الإبريزية من التعليقات البازية (2/ 36).
لا يجوز، فهذا لا يجوز، على أنه ينبغي أنْ يمنع مطلقًا؛ لأنّ هذا يخرج مكان الطواف عن الطواف في الحقيقة، هذا رجلٌ واقفٌ لا يتحرّك، والأرض تدور به، فهذا المشروع ينبغي أن يردّ جملةً وتفصيلاً، والحجّ لا بدّ فيه من تعبٍ»
(1)
.
*
المطلب الرابع: جواز الانتقال من طابق إلى طابق أثناء الطواف.
ويستدل بالآية على جواز الانتقال من طابق إلى طابق أثناء الطواف والسعي.
وتخريج الحكم: على ما سبق من كونه مطلقًا، والمطلق يجري على إطلاقه، فيتحقق الطواف والسعي في جميع الحالات السابقة، فدلَّ على جواز ذلك
(2)
.
(1)
شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (4/ 423).
(2)
ينظر: المغني (5/ 250).
الدراسة السابعة الاستثمار الأصولي للنص التطبيق على قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن المراد بالنص - كما في عنوان الدراسة - مجرد لفظ الكتاب والسنة
(1)
، وقد احتفى الأصوليون بالنص - الكتاب والسنة - احتفاءً كبيراً؛ لكون علم أصول الفقه قائماً على الأدلة، فموضوعه هو الأدلة كما هو عند جمهور أهل العلم، وقيل: الأدلة الأحكام
(2)
.
والأدلة كلها متوقفة وراجعة إلى دليل القرآن الكريم، وهو أصل الأدلة إذ كلها يرجع إليه، واستدل على حجتها به، فالسنة بيانه، والاجماع لا يكون إلا عن دليل منه أو من السنة، والقياس لا يكون إلا على أصل ثبت حكمه بالكتاب والسنة والإجماع.
(1)
يطلق النص على معان كثيرة منها: ما يذكر في باب القياس، وما يقابل الإيماء، وعلى نصوص الأئمة، وهي أقوالهم وألفاظهم الدالة على حكم شرعي، وعلى حكاية اللفظ على صورته، كما يقال: هذا نص كلام فلان، وما يقابل الظاهر، وهو ما لا يحتمل إلا معنىً واحد،، وهناك معان أخرى يرجع فيها إلى بحث قراءة نقدية في مصطلح النص في الفكر الأصولي للدكتور أيمن علي صالح منشور في مجلة إسلامية المعرفة ص (52 - 87)، العدد (33 - 34) عام 1424 هـ، والشامل للدكتور عبد الكريم النملة (2/ 587 - 590).
(2)
انظر: المستصفى (1/ 36)، الإحكام (1/ 23)، منتهى الوصول لابن الحاجب (4)، التحبير (1/ 143)، شرح الكوكب (1/ 22)، فواتح الرحموت (1/ 16 - 17).
والمقصود بالاستثمار: طلب الثمرة، وثمرة الشيء نتاجه، وسميت الأحكام ثمرة للأصول؛ لأنها نتاجه، كما سمي الولد ثمرة أبيه؛ لأنه نتاجه، وهذا كله أخذاً من ثمر الشجر الذي هو نتاجه
(1)
.
فالثمرة عند الأصولي - كما عبّر بذلك الغزالي - هي الأحكام، فاستخراج الأحكام من الأدلة بطريق من طرق الاستنباط بواسطة المجتهد، ذلك هو هدف الأصولي وغايته.
والأحكام هي: الوجوب، والحظر، والإباحة، والندب، والكراهة، وكون العقد: صحيحاً، وفاسداً، وباطلاً، وكون العبادة: أداء وقضاء، وأمثاله
(2)
.
ويشترك في إخراج تلك الأحكام الأصولي والفقيه، أما الأصولي فبتمهيد القواعد وضبطها، وأما الفقيه فبربطها وتحقيق مناطها
…
إلخ.
(3)
.
ويوضح الغزالي رحمه الله الفرق بين عمل الأصولي والفقيه بقوله: «أصول الفقه عبارة عن: أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل، فإن علم الخلاف من الفقه - أيضاً - مشتمل على أدلة الأحكام، ووجوه دلالتها، ولكن من حيث التفصيل، كدلالة حديث
(1)
انظر: لسان العرب (2/ 126) مادة (ثمر).
(2)
انظر: المستصفى (1/ 35).
(3)
شفاء الغليل للغزالي (59).
خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص، ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص، وأما الأصول، فلا يتعرض فيها لإحدى المسائل - إلا على طريق ضرب المثال - بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع، ولشرائط صحتها وثبوتها، ثم لوجوه دلالتها الجُملْيّة: أما من حيث صيغتها، أو مفهوم لفظها، أو فحوى لفظها، أو معقول لفظها - وهو القياس - من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة، فبهذا فارق أصول الفقه فروعه، وقد عرفت من هذا أن أدلة الأحكام: الكتاب، والسنة، والإجماع. فالعلم بطريق ثبوت هذه الأصول الثلاثة، وشروط صحتها، ووجوه دلالتها على الأحكام، هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه»
(1)
وقول الغزالي: «أما من حيث صيغتها، أو مفهوم لفظها، أو فحوى لفظها، أو معقول لفظها، وهو القياس» ، هذا بيان منه لطرق الاستثمار، وقد صرّح بذلك بعد فقال:«وطرق الاستثمار، وهي وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة؛ إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنطوقها، أو بفحواها ومفهومها، أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها، ومعناها المستنبط منها»
(2)
.
قلت: وبالجملة يلاحظ أن الأصولي يستعمل النص ويستثمره - مستعملاً الطرق الأربع السابقة - فيما يلي:
الأول: الاستدلال بالنص في إثبات قاعدة أو نقض قاعدة للخصم، وهذا ظاهر بالنظر في النصوص المستدل عليها على إثبات دليل الإجماع أو القياس أو غيرها، وقد يستدل الخصمان بالنص الواحد، كل يستنبط من النص ما يقرر قاعدته.
(1)
المستصفى للغزالي (1/ 36).
(2)
المستصفى للغزالي (1/ 39).
وتفصيل هذا النوع من الاستثمار يرجع فيه إلى كتاب: (استدلال الأصوليين بالكتاب والسنة على القواعد الأصولية) للدكتور: عياض بن نامي السلمي
(1)
.
الثاني: الاستشهاد بالنص على إثبات القاعدة الأصولية، وهذا أخص من الأول؛ إذ كل شاهد دليل، وليس كل دليل شاهد.
فالشاهد هو: الجزئي الذي يُذكر لإثبات القاعدة؛ كآية من التنزيل، أو قول من أقوال العرب الموثوق بعربيتهم
(2)
.
الثالث: استنباط الأحكام الشرعية من النص، بواسطة القاعدة الأصولية، وهذا يشترك فيه كما سبق الأصولي والفقيه، ودور الأصولي - كما سبق النقل عن الغزالي- هو التمثيل غالباً.
وعليه: فليس القصد هنا تقرير المسألة الفقهية، أو حتى القاعدة الأصولية، بل مجرد بيان المأخذ الأصولي في المسألة.
قلت: ودراستي هذه ستقتصر على النوعين الأخيرين - بإذن الله - مع الآية الكريمة، مع زيادات فوائد ولطائف لأهل العلم، يلحظها الأصولي باعتبار كونها وسيلة لاستنباط الحكم.
(1)
مطبوع عام 1418 هـ بدون اسم المطبعة.
(2)
ذكره الألوسي في رسالته إتحاف الأمجاد في ما صحَّ به الاستشهاد، وقال فيها « .... وأما قول ربنا تبارك وتعالى، فهو أفصح كلام وأبلغه، فلا خلاف في جواز الاستشهاد بمتواتره وشاذه، كما بيَّنه ابن جني في أول كتابه (المحتسب)، وأجاد القول فيه» (60).
الدراسة التطبيقية
•
المبحث الأول: مباحث الأحكام والأدلة:
*
المطلب الأول: معنى الحل والحرمة.
ورد الحلُ في الشرع مقابلاً للحرمة، كما في هذه الآية وغيرها من الآيات
(1)
والأحاديث النبوية
(2)
، وهذا يعني أن الحلال «كل شي لا يعاقب عليه باستعماله»
(3)
، فإذا ما عوقب على استعماله فهو الحرام.
فدخل في الحل المباح، والمندوب، والمكروه، والواجب، فهذه الأربعة لا يعاقب المكلف على فعلها.
يقول الكفوي: «الحلال هو المطلق بالإذن من جهة الشرع، والحرام ما ستحق الذم على فعله»
(4)
.
(1)
ومن تلك الآيات، قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وانظر:[المائدة: 96]، [التوبة: 37].
(2)
كقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن
…
» الحديث، أخرجه البخاري، برقم (52)، ومسلم، برقم (1599).
(3)
التعريفات للجرجاني (92).
(4)
الكليات (400).
المطلب الثاني: دلالة الآية على الحكم.
دلت الآية بظاهرها على حل البيع وحرمة الربا، والعمل بالظاهر حجة
(1)
.
والظاهر عند الحنفية هو: ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل
(2)
، وإحلال البيع وتحريم الربا في الآية ظاهر يفهمه السامع من غير تأمل، فلا يحتاج في فهم الحكم المراد منه إلى قرينة خارجية، وإنما يتضح مدلوله من ذات صيغته، فسماع اللفظ كافٍ للحكم على المعنى الذي يدل عليه اللفظ.
والظاهر عند المتكلمين: المعنى الذي يسبق فهم السامع من المعاني التي يحتملها
(3)
، أو يقال: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر
(4)
.
فهو يحتمل أكثر من معنى، ولكن هذه المعاني متقاربة من حيث قوة دلالة اللفظ عليها، وأقواها هو المعنى الذي يسبق فهم السامع إليه لقوته، وهو الظاهر إصطلاحًا.
ولما قيل بأن لفظ «البيع» و «الربا» مترددان بين معنييهما الشرعي واللغوي.
- كما سيأتي في دلالة الإجمال - يقال: إن شأن الشرع أن يبين أحكام الشرع لا أحكام اللغة، وعليه فينصرف اللفظ ويترجح في الآية إلى الحقيقية الشرعية، ويكون ظاهراً فيها، ومن ثم يجب حمل اللفظ على أظهر معانيه، ودلالته ظنية
(1)
حجية الظاهر، والعمل بمقتضاه مما تضافرت النصوص في الدلالة عليه، وإن كانت آحادها لا تفيد العلم، إلا أن مجموعها يفيده.
انظر بعض تلك الأدلة في كتاب: الأصل والظاهر لمحمد سمَّاعي (119).
(2)
انظر: أصول السرخسي (1/ 163)، كشف الأسرار للبخاري (1/ 46).
(3)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (1/ 178).
(4)
انظر: العدة لأبي يعلى (1/ 140)، شرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 558).
راجحة
(1)
.
ومن العلماء من جعل دلالة الآية على الحكم بطريق النص
(2)
، وذلك بسبب القرائن المحتفة بالآية ومن تلك القرائن المتصلة: التغليظ في تحريمه بالتهديد والوعيد لأصحابه، ووصفهم بأنهم محاربون الله ورسوله، ووصف قيامهم يوم القيامة بوصف بشع {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].
وتعتبر الآية شاهداً عند الحنفية على ما يسمى بدلالة العبارة، أو عبارة النص وهي: ما كان السياق لأجله، ويعلم قبل التأمل أن ظاهر النص متناول له
(3)
، وذلك لأن الآية _عندهم _تحمل على معنيين، الأول: حل البيع وحرمة الربا.
والثاني: التفرفة بين البيع والربا، وكل واحد من الحكمين مقصود، فدلالة الآية عليهما تسمى دلالة العبارة، لأنها ثابتة باللفظ والنظم، إلا أن المعنى الأول لم تُسق الآية من أجله فهو مقصود تبعًا، وهذا ما يسمى باعتبار وضوح الدلالة، دلالة الظاهر
(4)
. والثاني من المعاني: وهو التفرفة بين البيع والربا فقد سيق النص للدلالة عليه، وذلك لأن الكفار قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فسووا بينهما، فأراد الشارع أن يرد عليهم بحكم التفرفة بينهما، وهذا ما يسمى عند الحنفية بدلالة النص
(5)
.
(1)
سيأتي في مبحث الإجمال.
(2)
يقول السرخسي في أصوله (1/ 164): «أما النص: فما يزداد وضوحاً، بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهراً بدون تلك القرينة» .
(3)
انظر: أصول السرخسي (1/ 236).
(4)
انظر: علم أصول الفقه لخلاف (158)، دراسات أصولية للحفناوي (226).
(5)
انظر: أصول السرخسي (1/ 241)، أصول الشاشي (61).
*
المطلب الثالث: دلالة صيغة الخبر في الآية على الحكم
وردت الآية دالة على الحكم بصيغة الخبر، وهي متضمنة للإنشاء
(1)
، وبيان ذلك: إن كان مدلول الخبر
(2)
وهو الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم - كثبوت الحل للبيع - أو نفيه عنه - كنفي الحل بالحرمة للربا - والمحكوم به في الآية وهو الحل أو الحرمة هو الحكم الشرعي، فهذا يفيد ثبوت الحكم الشرعي من غير أن يجعل مجازاً عن الإنشاء
(3)
.
*
المطلب الرابع: ما يترتب على الحل من الأحكام.
يترتب على الحل صحة البيع، فالصحة مستنبطة من الحل، لأن الحل دليل المشروعية، والملك المشروع لا يثبت إلا بالعقد المشروع ولولا الشرع لم يعرف شيء من هذه العقود وقد شرع الله تعالى هذه العقود على شرط مخصوص، في محل مخصوص، من فاعل مخصوص، فما وراء ذلك غير مشروع أصلاً
(4)
.
كما أن الصحة مستنبطة من اقتران الحكم بالوصف، بدلالة الإيماء على العلة كما سيأتي في مبحث القياس.
*
(1)
الجمهور على أن الخبر بمعنى الأمر يأخذ حكم الأمر، انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (115)، الموافقات (3/ 117)، البحر المحيط (2/ 37)(3/ 465)، فتح الغفار (35).
(2)
مدلول الخبر: الحكم بثبوت النسبة لا نفس الثبوت، فإذا قلت: زيد قائم، فمدلوله: الحكم بثبوت قيامه، لا نفس ثبوت قيامه، إذ لو كان الثاني لزم فيه أن لا يكون شئ من الخبر كذباً.
انظر: شرح التلويح على التوضيح (1/ 282)، التحبير (5/ 2196).
(3)
انظر: شرح التلويح على التوضيح (1/ 149)، البحر المحيط (4/ 228)، بدائع الفوائد (2/ 12).
(4)
انظر: قواطع الأدلة (1/ 147)، التحبير (7/ 3347).
المطلب الخامس: ما يترتب على الحرمة من الأحكام.
يترتب على الحرمة فساد ذلك المحرم، فيترتب على تحريم الربا فساد العقد المعقود عليه، وذلك لأن الحرمة تقتضي وجوب الامتناع من التصرف فيما أخذ عن عقد الربا، وإذا وجب الامتناع عنه لم يجز أن يكون مشروعاً، وإذا لم يكن عقد الربا مشروعاً لم يثبت الملك المشروع، لأن الملك المشروع لا يثبت إلا بالعقد المشروع، وهذا يقتضي فساده
(1)
، إذ الفاسد ما لا يترتب عليه أثره
(2)
.
كما أن الحرمة وقعت مقابلة للحل والمشروع - كما سبق - فإذا كان وقوع البيع علة الوجه المشروع يوجب صحته، فوقوع الربا على غير الوجه المشروع - وهو المحرم - يوجب فساده لما بينهما من تطابق «الحل والحرمة» و «الصحة والفساد» .
ويدل على ما سبق - أيضا - من فحوى الآية من إيجاب التفرفة بينهما من هذه الجهة
(3)
.
(1)
انظر: قواطع الأدلة للسمعاني (1/ 147)، وقد نقل عدد من العلماء الإجماع على فساده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (33/ 27):«وقو القائل: إنه شرعي [أي: البيع المنهي عنه] إن أراد أنه يسمى بما سماه به الشارع، فهذا صحيح، وإن أراد أن الله أذن فيه، فهذا خلاف الإجماع. وإن أراد أنه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه - كما في المباح - فهذا باطل بالإجماع» .
(2)
انظر: المنثور للزركشي (2/ 409)، قواعد ابن رجب (66).
(3)
كما يدل على فساد عقد الربا القرائن المحتفة بالنص، ومن تلك وجوب رد الزيادة المأخوذة عن عقد الربا إلى بائعها، وذلك لا يكون إلا مع فساد العقد انظر: اللباب في علوم الكتاب (4/ 453).
انظر: اللباب في علوم الكتاب (4/ 453).
*
المطلب السادس: المنهج القرآني في التدرج بالأحكام.
من الشواهد على تدرج القرآن الكريم في تشريع الأحكام هذه الآية.
وقد مر تحريم الربا بأربع مراحل وهي
(1)
:
المرحلة الأولى: أول ما نزل في الربا قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].
وليس في هذه الآية نص على تحريم الربا وإنما إشارة إلى أن الله يمحق الربا فلا ينمو ولا يبارك الله فيه بخلاف الزكاة التي يراد بها وجه الله فإنه سبحانه يضاعف الثواب لصاحبه.
المرحلة الثانية: قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]
بين سبحانه وتعالى إلى أن من معاصي اليهود أكلهم الربا وقد نهوا عنه، وفي ذلك إشارة إلى أنه إذا كان أكل الربا والتعامل به محرمًا على اليهود فأولى أن يكون كذلك بين المسلمين وهم خير أمة أخرجت للناس وهو تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح وفي هذا توطئة للنص على التحريم في المرحلة التالية.
المرحلة الثالثة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
(1)
انظر: دراسات في علوم القرآن للرومي (250).
بدأ تحريم الربا بتحريم نسبة منه معينة وهي ما كانت أضعافًا مضاعفة تمهيدًا لتحريمه كله في المرحلة الأخيرة.
المرحلة الرابعة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] الآيات من سورة البقرة.
فغلظ سبحانه في تحريم الربا، وغلظ في تحريمه بالتهديد والوعيد لأصحابه ووصفهم بأنهم محاربون لله ورسوله وهل بعد هذا أغلظ في التحريم وأبشع في الوصف، وأصرح بالتحريم.
ملحوظة: وقع بعض المفتين في الخطأ في الفتيا فأباح بعضهم الربا اليسير وهو الذي لا يصل إلى الأضعاف المتضاعفة جهلًا منه بأن هذا كان في مرحلة من مراحل تحريم الربا
(1)
، وأنه بهذا كمن يبيح الخمر في غير أوقات الصلاة مستدلًّا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ولعله يظهر بهذا أهمية معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل.
*
المطلب السابع: الاستشهاد بالآية على مستند الإجماع.
أجمع العلماء على حل البيع وحرمة الربا
(2)
، والإجماع حجة، ولا بد له من مستند
(3)
، ويستدل بالآية على كونها مستنداً للإجماع.
(1)
المصدر السابق.
(2)
نقل الإجماع على تحليل البيع وتحريم الربا جمع من العلماء: منهم ابن قدامة في المغني (6/ 7، 51).
(3)
قال الآمدي في الإحكام (1/ 261): «اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا على مأخذ ومستند يوجب اجتماعها عليه، خلافاً لطائفة شاذة
…
» وانظر: كشف الأسرار (3/ 293 - 295)، شرح الكوكب (2/ 259).
*
المطلب الثامن: من قواعد القياس.
(1)
استدل بالآية من قال بعدم حجية القياس.
ووجه الاستدلال منها: أنه لو كان الدّين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة، لكن لما كانت الشبهة مدفوعة وذمهم الله تعالى عليها تبين أن الدّين بالنص لا بالقياس، وأن القياس ليس حجة.
والجواب عن هذه الاستدلال: إن هذا القياس في مقابلة نص، ولا قياس مع النص، فلا تبطل بذلك جميع الأقيسة إذا توفرت شروطها وأركانها.
كما أن الكفار قدموا ذكر البيع على الربا مع أن القياس تقديم الربا للمبالغة، لأن البيع متفق على جوازه، فمرادهم المناقضة والإلزام، وليس التمسك بطريقة القياس
(1)
.
(2)
التعليل بالحكمة
(2)
: ذكر بعض العلماء أن مرجع التفرقة بين البيع والرّبا هو التعليل بالمظنة، وذلك لمراعاة الفرق بين حالي المقترض والمشتري «فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدّون التداين هماً وكرباً، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال التفضّل. وكذلك اختلاف حالي المسْلِف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المتسلّف مظنّة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلع تجارةً حال من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع
(1)
انظر: التفسير الكبير للرازي (7/ 77)، اللباب في علوم الكتاب (4/ 452).
(2)
الحكمة هي: الأمر المناسب الذي تضمنه الوصف الظاهر. قاله السفياني في كتابه الثبات والشمول (390)، وانظر: تشنيف المسامع (3/ 215).
بذلهم له ما بيدهم من المال. فالتجارة معاملة بين غنيّين: ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه، فالمتسلّف مظنّة الفقر، والمشتري مظنّة الغِنى، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات. فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندباً، وأيّاً ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين»
(1)
.
(3)
من المعلوم أن من شروط القياس ألا يكون حكم الفرع منصوصاً على حكمه
(2)
، إذا لا قياس مع النص. وهذا الشرط غالبا ما يذكر ضمن شروط الفرع الذي هو أحد أركان القياس، وفي الآية الكريمة قياس البيع على الربا، فجعلوا الفرع الذي هو «البيع» هنا مثل الربا، الذي جعلوه أصلا في قياسهم
(3)
، والفرع الذي هو البيع منصوص على حكمه.
(1)
التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (3/ 85)، ثم ذكر أن الفخر الرازي ذكر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة، قلت: انظرها في التفسير الكبير (7/ 74).
(2)
انظر: تقريب الوصول لابن جزي (355)، وعلق محققه - شيخنا الدكتور محمد المختار بن محمد الأمين - على هذا الشرط بقوله:«سواء أكان النص عليه بموافق، أو مخالف؛ لأن التعدية إن كانت على وفاق النص الذي في الفرع فلا فائدة فيه؛ لأن النص يغني عنه، وإن كانت على خلافه فهو باطل؛ لمخالفته حكم النص، والصحيح أنه إن كان موافقاً فلا مانع منه؛ لأنهم درجوا على القول بأن هذه المسألة دلَّ عليها النص، والإجماع، والقياس، وأنه لا مانع من توارد الأدلة على مدلول واحد، كما هو الواقع في الأدلة من الكتاب والسنة» وانظر: الشرط في: البحر المحيط (5/ 108)، شرح الكوكب (4/ 110).
(3)
صنيعهم هذا يسمى عند الأصوليين بقياس العكس، ويقصد به هنا إبطال مذهب الخصم، وهو إنما يلجأ إليه عند المناظرة، لا في وقت استنباط المجتهد في خاصة نفسه.
انظر: التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (2/ 551).
(4)
من الطرق الدالة على العلة طريق الإيماء والتنبيه وهو اقتران الحكم بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً فيحمل الوصف على التعليل دفعًا للاستبعاد
(1)
.
وهو أنواع كثيرة
(2)
، اتفق الأصوليون على بعض صوره، واختلفوا في البعض الآخر، ومن الصور المختلف فيها: أن يذكر الوصف صريحاً، ولا يذكر الحكم معه، بل يكون الحكم مستنبطا منه
(3)
، ومن ذلك الآية الكريمة فالوصف هنا وهو البيع مذكور صريحاً، أما الحكم وهو صحة البيع فهو مستنبط من كونه بيعاً.
فمن قال بأنه إيماء فبناء على أن الاقتران بين الوصف والحكم قد حصل من غير نظر إلى أن الحكم أو الوصف صريح أو مستنبط أو مقدر.
أو يقال: إن الحكم لما كان مستلزماً - بالفتح - للوصف فذكر الوصف يغني عن ذكره فتحقق الاقتران.
ويرى بعض الأصوليين أنه ليس بإيماء، لعدم ذكر الحكم والوصف صريحين
(4)
.
وينبني على كونه إيماء تعميم الحكم في كل ما وجدت فيه العلة.
(1)
انظر: المحصول (5/ 143)، روضة الناظر (3/ 839 - 846)، شرح مختصر الروضة (3/ 362)، البحر المحيط (5/ 198)، التحبير (7/ 3331)، شرح الكوكب (4/ 125).
(2)
انظر: المصادر السابقة.
(3)
انظر: البحر المحيط (7/ 252)، تسنيف المسامع (3/ 268)، التحبير (7/ 3347)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 100).
(4)
انظر: المصادر السابقة.
(5)
من قوادح القياس، فساد الاعتبار، والمعارضة. أما فساد الاعتبار وهو القياس في مقابلة النص
(1)
، فقد بيّن سبحانه وتعالى فساد قياسهم:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بأنه مخالف للنص وهو قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} والقياس مع النص فاسد
(2)
.
أما المعارضة، فقد يعترض على الاستدلال بظاهر الآية بعدة اعتراضات منها:
(أ) الاستفسار
(3)
على القول بالإجمال وعدم ظهور المراد بالبيع أو الربا لما سيأتي من القول بالإجمال.
(ب) منع ظهور صحة كل بيع في الدلالة، وذلك لخروج صور لا تحصى، أو لا نسلم أن اللام للعموم - كما سيأتي في مباحث العموم - فإنه يجيء للعموم والخصوص
(4)
.
(ج) التأويل، وهو أنه وإن كان ظاهراً فيما ذكرت، لكن يجب صرفه عنه إلى محمل مرجوح بدليل يصيره راجحًا
(5)
.
فيقال مثلا في البيع الغائب غير داخل في العموم لما فيه من الغرر وقد نهى عليه الصلاة والسلام
(6)
عن بيع الغرر وهذا أقوى، لأنه عام لم يتطرق إليه تخصيص أو التخصيص فيه أقل
(7)
.
(1)
انظر: روضة الناظر (3/ 930)، شرح مختصر الروضة (3/ 467).
(2)
انظر: اللباب في علوم الكتاب (4/ 452).
(3)
الاستفسار هو: طلب تفسير اللفظ، وبيان المراد منه، ويتوجه على الإجمال.
انظر: روضة الناظر (3/ 930)، شرح مختصر الروضة (3/ 467).
(4)
انظر: التحبير (7/ 3580)، شرح الكوكب (3/ 261).
(5)
انظر: التحبير (7/ 3580)، شرح الكوكب (4/ 260).
(6)
أخرجه مسلم، في كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر، برقم (1513).
(7)
انظر: التحبير (7/ 3580)، شرح الكوكب (4/ 260).
فصرف بيع الغرر - إن قلنا بأن حكمه ظاهر في حل البيع - عن ظاهره لدليل راجح وهو النهي عن بيع الغرر.
•
المبحث الثاني: مباحث العموم.
*
المطلب الأول: من صيغ العموم.
من صيغ العموم، دخول «أل» غير العهدية على المفرد المشتق
(1)
، كما في لفظي «البيع» ، و «الربا» في الآية ومن ثم يعم لحل كل بيع، وحرمة كل ربا.
واشترط بعض الشافعية للعموم في «أل» الداخلة على المفرد المشتق، عدم مخالفته لأصل، فعم في البيع لأنه موافق للأصل من حيث إن الأصل في المنافع الحل، فمهما حرم البيع فهو على خلاف الأصل، وعم في الربا من حيث إن الأصل في المضار المنع.
أما إذا لم يكن موافقاً للأصل فأن اللفظ المفرد المشتق وإن دخلت عليه «أل» غير العهدية فإنها لا تعم. ومثّل ذلك ب «الزكاة» في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وذلك لأن الزكاة على خلاف الأصل لتضمنها أخذ مال الغير بغير إرادته، فوجوبها على خلاف الأصل
(2)
.
*
المطلب الثاني: الخلاف بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص.
اختلف الأصوليون في قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} هل هو عام مراد به الخصوص أو عام مخصوص؟
وسبب الخلاف راجح إلى الخلاف في التفرقة بينهما، وقد ذكر جمع
(1)
انظر: روضة الناظر (2/ 665)، شرح مختصر الروضة (2/ 465)، التحبير (5/ 2363).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 141)، التحبير (6/ 2775)، شرح الكوكب (3/ 427).
الأصوليين فروقاً بينهما
(1)
، ومن تلك الفروق: إن الذي يراد به الخصوص يكون المراد به أقل فإذا كان المراد به هو الأكثر فذلك العام المخصوص.
والباقي بعد تخصيص الربا، والبيوع المحرمة المنهي عنها دائر بين الأقل والأكثر.
ويترتب على الخلاف في كونه عاماً مخصوصاً، أو عاماً مراداً به الخصوص ما قاله البرماوي حيث قال: «وحاصل ما قرره أن العام إذا قصر على بعضه له ثلاث حالات:
الأولى: أن يراد به في الإبتداء خاص، فهذا هو المراد به خاص.
الثانية: أن يراد به في عام ثم يخرج منه بعضه فهو نسخ.
الثالثة: أن لا يقصد به خاص، ولا عام في الابتداء، ثم يخرج منه أمر، ويتبين بذلك أن لم يرد به في الابتداء عمومه، فهذا هو العام المخصوص. ولهذا كان التخصيص عندنا بياناً لا نسخاً إلا إن أخرج بعد دخول وقت العمل بالعام فيكون نسخاً لأنه قد تبين أن العموم أريد في الابتداء»
(2)
.
*
المطلب الثالث: الخلاف بين العام المخصوص والعام الباقي على عمومه.
اختلف العلماء في العموم الوارد في قوله {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فالقائل بأنه باق على عمومه قائل بأن التحريم يشمل كل عقد فيه ربا سواء كان ربا فضل أو نسيئة.
أما القائل بأنه عام مخصوص، باعتبار تخصيصه بقوله عليه الصلاة والسلام:«إنما الربا في النسيئة»
(3)
كما خص بالقرائن المتصلة وسيأتي تفصيل ذلك في مباحث التخصيص.
(1)
انظر: الفروق في أصول الفقه للحمد (558 - 561).
(2)
انظر: التحبير (5/ 2380)، شرح الكوكب (3/ 167).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، برقم (1596).
*
المطلب الرابع: حمل العام على الخاص.
تكاد تتفق كلمة الأصوليين على وجوب حمل العام على الخاص فيما إذا استقلَّ العام - كما في الآية -
(1)
ثم إن الخاص قد يكون كتاباً أو سنة أو غير ذلك، وقد حمل العلماء عموم البيع في الآية على غير ما نهى الله ورسوله من البياعات، وسيأتي أمثلة لذلك في مباحث التخصيص.
*
المطلب الخامس: حجية العام المخصوص فيما بقي بعد التخصيص.
سبقت الإشارة إلى الخلاف في كون قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عاماً مراداً به الخصوص أو عاماً مخصوصاً، وعلى القول بأنه عام مخصوص فهل الباقي بعد التخصيص حجة؟
وقع خلاف بين العلماء في العام إذا خُصَّ بمبهم، هل يكون حجة في الباقي؟
(2)
وعلى القول بأن لفظ «الربا» في الآية مجمل، وهو بمنزلة الاستثناء من جمل البيع، فإن الخلاف ينسحب عليه. ومن قال بأنه لم يبق حجة قال: إما لأنه خص بمبهم، أو لأنه ليس بعام بل لكون البيع أصبح مجملاً بهذا الاستثناء كما سيأتي في مباحث الإجمال. وعلى القول ببقاء عمومه، وبأن الربا معلوم، كما في المخصصات المعلومة المعينة الأخرى من عموم البيع، فهل يجعل البيع - العام المخصوص - حجة فيما بقي بعد التخصيص؟
(1)
انظر: المحصول (3/ 104)، البحر المحيط (3/ 407)، شرح مختصر الروضة (3/ 733)، شرح الكوكب (3/ 382).
(2)
نقل الأصبهاني في بيان المختصر (2/ 142) الاتفاق على حجيته. وقال ابن السبكي في إبهاجه (2/ 137 - 138): «وقد ادعى جماعة فيه الاتفاق، وهي دعوى غير مسموعة، فقد صرح ابن برهان في الوجيز بأن محل الخلاف فيم إذا خُصَّ بمبهم .... » .
ذهب جمهور أهل العلم
(1)
إلى بقاء حجيته في غير ما تناوله التخصيص، ولهذا استدل العلماء بالآية على أن الأصل حل البيع وجوازه، فمن ادعى الحظر وإخراج شيء فعليه إقامة الدليل
(2)
.
*
المطلب السادس: دلالة العام على أفراده.
اختلف العلماء في دلالة العام على أفراده هل هي بطريق الظهور أو التنصيص
(3)
؟.
وثمرة الخلاف تظهر في التخصيص بالتراخي، فعلى القول بأنه بطريق الظهور لا يكون نسخاً، ولو كان العام نصاً على أفراد لكان نسخاً.
كما أن دلالة العام إن كانت بطريق التنصيص فإذا ما تعارضت مع الخاص في شيء واحد فإنهما يتساويان، فيطلب الترجيح من خارج.
أما على القول بالأول وهو أن دلالته على أفراده بطريق الظهور فالحديث المخصص للآية يعتبر قاصراً لبعض أفراده عليه وليس ناسخاً للعام.
يقول الغزالي في مسألة تخصيص خبر الآحاد للقرآن: «قولهم: إن الحديث إما أن يكون نسخاً أو بياناً، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد اتفاقاً، وإن كان بياناً فمحال إذ البيان ما يقترن بالمبين، وما يعرفه الشارعُ أهلَ التواتر حتى تقدم الحجة به قلنا: هو بيان ولا يجب اقتران البيان بل يجوز تأخيره عندنا
…
»
(4)
.
(1)
المصدر السابق. وانظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 568)، أصول السرخسي (1/ 144)، وروضة الناظر (2/ 706)، المسودة (116).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (4/ 134)، البحر المحيط (4/ 141).
(3)
انظر: أصول السرخسي (1/ 132)، كشف الأسرار (1/ 161)، البرهان (2/ 1195)، جمع الجوامع (2/ 8).
(4)
المستصفى (2/ 160).
*
المطلب السابع: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
(1)
.
يقال في سبب نزول الآية أن ثقيفاً كانوا أكثر العرب رباً، فلما نهوا عنه قالوا: كيف ننهي عن الربا وهو مثل البيع، فحكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع
(2)
، فقال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
فيقال العبرة بعموم اللفظ، فيحرم جميع أنواع الربا، ومنها الربا الذي يعامل به أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمة طالبه، فيقال: زدني في الأجل وأزيدك في المال، وهو ربا النسأ، واللفظ يعمه ويعم ربا الفضل.
•
المبحث الثالث: مباحث التخصيص.
*
المطلب الأول: تخصيص الآية بالكتاب.
تخصيص الكتاب بالكتاب مما لا خلاف فيه بين أهل العلم
(3)
، ومن أمثلة ذلك وشواهده تخصيص عموم حل البيع الوارد في هذه الآية بالربا الوارد تحريمه بنفس الآية، فيكون بمنزلة الاستثناء من الجملة، ولو لم يخصه لكانت الاباحة عامة في سائر البياعات رباً كان أو غيره
(4)
.
كما خصصوا الآية بالآيات التي حرمت بعض البيوع، بعموم لفظها، كالبيوع الداخلة تحت قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]
(1)
انظر: العدة (1/ 501)، روضة الناظر (2/ 693)، شرح الكوكب (3/ 178)، المستصفى (2/ 131)، الإحكام (2/ 258)، شرح التنقيح (216)، فواتح الرحموت (1/ 290).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 240).
(3)
يقول الآمدي في الإحكام (2/ 456): «اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب، خلافاً لبعض الطوائف» والمخالف هم الظاهرية كما الإحكام لابن حزم (1/ 77)، وانظر: شرح تنقيح الفصول (202)، والإبهاج (2/ 180)، شرح الكوكب المنير (3/ 359).
(4)
انظر: الفصول في الأصول للجصاص (1/ 406)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 339).
أو الداخلة تحت عموم مقتضاها، كتحريم بيع الميتة والدم من قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى غير ذلك من الآيات.
*
المطلب الثاني: تخصيص الآية بالسنة.
وتخصيص الكتاب بالسنة ولو كانت آحادية هو قول جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
.
قال السيوطي: «ومن أمثلة ما خُصَّ بالحديث: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خُصَّ منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة في السنة»
(2)
.
قلت: وجواز هذا التخصيص إجماع الصحابة كما سيأتي في المطلب القادم.
ثم إن العام والخاص دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم الوارد في الآية، فيتقدم عليه، لأن تقديم العموم عليه يقتضي إلغاء خبر الواحد بالكلية، وتقديم الخبر على العموم، لا يبطل العموم بل يبقى في غير ما يتناوله الخبر فكان أولى
(3)
.
كما أن المسألة ترجع إلى الخلاف في تخصيص المقطوع بالمظنون، والواقع أن الخبر يتسلط على فحوى العام، وفحواه غير مقطوع به
(4)
.
(1)
انظر: العدة (2/ 551)، التبصرة (132)، الإحكام للآمدي (2/ 347)، أحكام الفصول للباجي (262)، البحر المحيط (4/ 242)، شرح الكوكب (3/ 359).
(2)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 1419).
(3)
انظر: شرح تنقيح الفصول (208).
(4)
انظر: المنخول (252)، البحر المحيط (4/ 482) ونقل الزركشي عن القاضي قوله:«أنا أتوقف فيه إذا ظاهر القرآن مقطوع الأصل غير مقطوع الفحوى، ونص أخبار الآحاد مقطوع الفحوى غير مقطوع الأصل» .
*
المطلب الثالث: تخصيص الآية بالقياس.
ذهب كثير من العلماء إلى جواز تخصيص الكتاب بالقياس على النص الخاص
(1)
.
فقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} دل على جواز كل بيع بلفظ عام، ثم ورد النص بتحريم الربا في البرّ بعلة الكيل - مثلا- ثم يقاس على البر الأرز، فيحرم الربا في الأرز، ويخص تحريم الربا في الأرز من حل البيع فهو قياس نص خاص يخص به عموم إحلال البيع
(2)
.
ملحوظة: قد يقال: إن القياس فرع على النص، فلو خص القياس العموم لكان قد اعترض بالفرع على الأصل. وبمعنى آخر يقال: إن حكم القياس حكم أصله الذي هو النص الخاص، وكما أن النص الخاص يخص العموم، فكذا قياسه الذي حكمه حكمه، فكما أن النص على تحريم الربا في البر خصَّ عموم البيع، فكذا قياس البر في الأرز
(3)
.
والجواب: إن قياس الأرز على البر إنما يخص قول الله: عز وجل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وليس هذه الآية أصلاً لهذا القياس، لأن أصل القياس هو ما يقع الرد إليه كالبر، أو تحريمه، أو ما يدل على تحريمه، أو ما يدل على صحة القياس كإجماع الصحابة وغيره.
فأما قول الله عز وجل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فليس هو الذي رددنا إليه الأرز،
(1)
انظر: شرح تنقيح الفصول (203)، فواتح الرحموت (1/ 351)، روضة الناظر (2/ 734) وقال محقق الروضة الدكتور عبد الكريم النملة:«والخلاف في القياس الظني، أما القياس القطعي فيجوز التخصيص به إجماعاً» .
(2)
انظر: المعتمد (2/ 279 - 280)، شرح مختصر الروضة (2/ 572).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 572).
ولا هو الدال على صحة القياس، فلم يعترض بالفرع على أصله.
*
المطلب الرابع: تخصيص العام بمقصوده.
لما كانت الآية القصد منها التفريق بين البيع والربا، والرد على من قال {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] اختلف العلماء في تخصيص العام بمقصوده فذهب الجمهور إلى عدم تخصيصه بمقصوده
(1)
، بل يجب إجراء اللفظ على موجبه لغة، فيحمل لفظ «البيع» على عمومه.
وذهب بعض الأصوليين إلى وجوب وقف العموم على ما قصد به، وأن لا يتعداه إلى غيره إلا بدليل، وإن كانت الصيغة تقتضي العموم وذلك لأن العموم لم يقع مقصوداً.
وعليه يكون البيع غير عام، فلا يدخل في العموم الصور غير المقصودة فلا يستشهد به - مثلاً- على جواز بيع لبن الآدميات ونحوه مما وقع فيه الخلاف
(2)
.
*
المطلب الخامس: تخصيص العام بالقرائن.
تكلم أهل الأصول عن القرائن وبينوا أن اللفظية المتصلة منها تخصص اللفظ العام، ومثلوا لذلك بالآية الكريمة، حيث بيّن قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} أن المراد من قوله سبحانه {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} البعض دون الكل. كما أن قوله سبحانه وتعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} قد خصصه بعضهم بربا النسيئة، للحديث «إنما الربا في النسيئة» وبالقرائن اللفظية المتصلة بالآية، ومن تلك قوله تعالى {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275].
(1)
أي لا يقصر العام على مقصوده، بل يحمل على عموم لفظه، وانظر قول الجمهور في: المسودة (132)، أصول الفقه لابن مفلح (3/ 975)، البحر المحيط (3/ 58)، شرح الكوكب (3/ 389).
(2)
انظر: التمهيد للإسنوي (329)، الكوكب الدري للإسنوي (216)، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (265).
•
المبحث الرابع: مباحث الإجمال.
*
المطلب الأول: وجود الإجمال في القرآن الكريم.
نقل غير واحد من أهل العلم وجود الإجمال في القرآن الكريم، وأن ذلك المجمل قد فُسِّر وبُيِّن في سنة الرسول الكرم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية «وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة الدين: أن السنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبّر عن مجمله، وأنها تفسر مجمل القرآن، من الأمر والخبر»
(1)
.
وقال القرطبي بعد أن نقل القول بأنه عام واختاره: «وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فُسِّر بالمحلَّل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يُستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن دلَّ على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل وا وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل، والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان»
(2)
*
المطلب الثاني: دلالة الإجمال في لفظي «البيع» و «الربا» .
لورود الإجمال في لفظي (البيع) و (الربا) أسباب عدة منها
(3)
:
(1)
تردد اللفظ بين الحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، فإذا أطلق الشرع لفظ «الربا» فإنه يتردد بين مسمييه اللغوي والشرعي، لأن الربا في اللغة: الزيادة كيف كانت، وحيث كانت، وفي الشرع هو زيادة مخصوصة، وهو التفاضل
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 432).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 339).
(3)
انظر: التفسير الكبير للرازي (7/ 81).
في الأموال الربوية، كبيع درهم بدرهمين، وصاع بصاعين، فنتوقف فيه حتى نعلم أيّ الزيادتين أراد
(1)
.
يقول الجصاص في ترجيح كون الربا منقولاً من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي: «وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال: «إنما الربا في النسيئة»
(2)
.
وقال عمر بن الخطاب: إن من الربا أبواباً لا تخفى منها السلم في السن
(3)
، يعني الحيوان. وقال عمر: - أيضا -: إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة
(4)
.
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسماً شرعياً؛ لأنه لو كان باقياً على حكمه في أصل اللغة، لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالماً بأسماء اللغة؛ لأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء رباً، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة» «البيع» .
(1)
التفسير الكبير للرازي (7/ 81)، واللباب لابن عادل (4/ 453).
(2)
أخرجه مسلم، وقد سبق.
(3)
أخرجه ابن كثير في مسند أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم (1/ 347)، ونقل الألباني في إرواء الغليل (5/ 215) برقم (1373) عن الجوزجاني ص (341) ولم يحكم عليه.
(4)
أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، برقم (2276) وقال محققه محمد فؤاد عبد الباقي:«إسناده صحيح، ورجاله موثوقون، إلا أن سعيداً، وهو ابن عروبة، اختلط بآخره. كذا في الزوائد» .
يريد أن الشارع وإن بيَّن الإجمال في لفظ «الربا» إلا أن البيان ليس وافياً؛ لأنه لم يحصر الربا فيما بيَّنه، فجاز الاجتهاد ولبيان ما يكون فيه الربا قياساً على ما ورد في بيان السنة
(1)
.
وقال ابن العربي: «قال علماؤنا: الربا في اللغة هو الزيادة، ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به، فلأجل ذلك اختلفوا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟
…
فحرم الله تعالى الربا، وهو الزيادة، ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضاً إلا بإظهار الشرع؛ ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيَّده الله تعالى بالنور الأظهر
…
الخ»
(2)
.
وبعض الأصوليين قرر الإجمال بسبب التردد بين مسمييه اللغوي والشرعي في لفظ «البيع» .
وبيان ذلك: أن البياعات في الشرع منها حلال، كالعقود المستجمعة لشروط الصحة، ومنها حرام كبيوع الغرر
(3)
، وبيع تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي
(4)
…
الخ، فتردده بين هذه البياعات الجائزة والمحرمة جعلها مجملة، ثم ورد البيان من الشرع بالمحرم منها من الجائز
(5)
.
(1)
انظر: أصول السرخسي (1/ 168 - 169)، أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار (1/ 86).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 241).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» ، أخرجه البخاري برقم (2158)، ومسلم، برقم (1521).
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 661).
قال ابن السمعاني: - «
…
وعلى القول الثاني ليس بمجمل، وهو الأصح، لأن البيع معقول في اللغة، فيحمل اللفظ على العموم إلا ما خصه الدليل .. »
(1)
.
(2)
من أسباب الإجمال تردد «أل» في لفظي «البيع» و «الربا» هل هي للتعريف أو للاستغراق
(2)
.
(3)
إن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} مجمل - على القول بذلك كما في السبب الأول - وهو مذكور في حكم الاستثناء عن البيع، والمجهول إذا استثنى من المعلوم انسحب على الكلام كله فأصبح لفظ «البيع» أيضا مجملاً.
يقول ابن القشيري في تفسيره: «قال العلماء: هذه الآية مجملة لأن قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يقتضي تحليل كل بيع. وقوله {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يقتضي تحريم كل بيع، لأنه لا يبيع إلا ويقصد منه الزيادة»
(3)
.
*
المطلب الثالث: السنة تبين القرآن الكريم.
وضع الله سبحانه وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم موضع الإبانة عنه سبحانه وتعالى، وفرض على خلقه اتّباعه فقال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فهذه الآية - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} على القول بأنها مجملة فهي مما تولى سبحانه تنزيله، ووقعت الإحالة على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه، فبين عليه الصلاة والسلام ما يحل وما يحرم فعلم من ذلك أنه سبحانه وتعالى أراد بإحلال البيع ما لم يحرّم منه دون ما حرّم على لسان نبيه، أو يقال: أحل
(1)
انظر: قواطع الأدلة (1/ 291)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 241)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 340).
(2)
انظر: أصول السرخسي (1/ 168) كشف الأسرار للبخاري (1/ 86).
(3)
انظر: البحر المحيط (5/ 67 - 68)، والتفسير الكبير للرازي (7/ 93).
الله البيع إذا كان على غير ما نهى الله في كتابه أو على لسان نبيه.
فائدة: ذكر الجصاص في كتابه الفصول باباً فيما يحتاج إلى البيان، وما لا يحتاج إليه، وذكر الضابط في ذلك فقال: «كل لفظ أمكن استعماله على ظاهره وحقيقته، ولم يقترن إليه ما يمنع استعمال حكمه على مقتضى لفظه فغير محتاج إلى البيان، إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه، أو كان مراده غير حقيقته، فيحتاج إلى بيان المراد به، وكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه إما لأنه مجمل في نفسه، أو لأنه اقترن إليه ما جعله في معنى المجمل على حسب ما تقدم من القول في صفة المجمل، وما في معناه فهو مفتقر إلى البيان، فالأول نحو قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] هذه ألفاظ معانيها معقولة ظاهرة فهو غير مفتقر إلى البيان بنفس ورودها
…
»
(1)
.
*
المطلب الرابع: جواز كون المبيِّن أضعف من المبيَّن
(2)
.
على القول بأن الآية مجملة، وقد بينتها السنة الآحادية، وهي من حيث الثبوت أضعف من الآية الكريمة، فتكون الآية شاهده على جواز ذلك.
(3)
.
(1)
الفصول في الأصول للجصاص (2/ 27)، وانظر: العدة لأبي يعلى (1/ 108).
(2)
انظر: المحصول (3/ 184)، التحبير (6/ 2814).
(3)
المستصفى (2/ 160).
*
المطلب الخامس: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
من المعلوم إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(1)
، لدخوله في تكليف ما لا يطاق، ولم يقع شيء من ذلك في الشريعة، بخلاف تأخيره إلى وقت الحاجة، فأنه جائز وواقع في الشريعة الإسلامية
(2)
، ومما يستدل به على ذلك الحديث المبين للإجمال في الآية.
يقول الغزالي: «ويجوز تأخيره عندنا، وما يدريهم أنه وقع متراخياً؟ فلعله كان مقترناً، والراوي لم يرو اقترانه»
(3)
.
*
المطلب السادس: ثمرة الخلاف في دلالة الآية على العموم أو الإجمال.
تظهر فائدة الخلاف في دلالة الآية على العموم أو الإجمال، إذا قلنا بأن البيع مجمل قد بُيِّن كان حجة بلا خلاف، وأن قلنا بأنه عام خصَّ كان في بقائه بعد التخصيص حجة خلاف، والجمهور على حجته.
وإن كان القولان متقاربين، وذلك لأن تخصيص العموم نوع من البيان، وكونه من باب العام المخصوص أولى وأكثر وأشهر
(4)
.
(1)
انظر: العدة (3/ 724)، التحبير (3/ 493)، شرح التنقيح (282)، فواتح الرحموت (2/ 49).
(2)
انظر: العدة (3/ 725)، روضة الناظر (2/ 585)، الإحكام للآمدي (3/ 36)، شرح مختصر الروضة (2/ 688)، البحر المحيط (3/ 494)، التحبير (6/ 2820 - 2821)، فواتح الرحموت (2/ 49).
(3)
المستصفى (2/ 160).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 662)، التحبير (6/ 2773).
•
المبحث الخامس: مباحث التعارض والترجيح.
*
المطلب الأول: تعارض الحقيقة الشرعية والعرفية واللغوية.
سبق في بيان أسباب الإجمال في لفظي «البيع» و «الربا» ترددها بين مسمييها الشرعي واللغوي، وهناك من اعتبرها داخله في المسمى العرفي، والعرفي غالباً ما يوافق المعنى اللغوي، ومن خلال عبارات المفسرين في أسباب الإجمال يظهر لي التطابق بينهما هنا.
وعلى كل حال فقد تعارضا مع الحقيقة الشرعية، والقاعدة تقديم الحقيقة الشرعية عليهما
(1)
.
*
المطلب الثاني: تعارض الظاهر مع الإجمال.
ذكر عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار بأنه: «لو استدل مستدل في حل البيع في صورة من الصور بعموم في قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لا يكون لخصمه أن يعارضه بقوله عزّ اسمه {وَحَرَّمَ الرِّبَا} لأنه مجمل فلا يعارض الظاهر»
(2)
.
*
المطلب الثالث: تعارض التخصيص مع النقل.
ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالبيع في الآية، البيع اللغوي، وهو مبادلة الشيء بالشيء مطلقاً، وحمله على هذا المعنى يقتضي التخصيص بالبيوع الباطلة والفاسدة التي ورد النهي عنها في الشرع
(3)
.
(1)
انظر: المحصول (5/ 429)، شرح الكوكب (3/ 434).
(2)
كشف الأسرار (3/ 89).
(3)
انظر: الإبهاج للسبكي (1/ 330 - 331).
ويترتب على هذا القول بأن جميع البيوع حلال لعموم الآية، إلا ما خصّ منها، وذهب بعض العلماء بأن المراد بالبيع معناه المنقول إليه شرعاً، وهو البيع المستجمع لشرائط الصحة ككونه طاهراً، منتفعاً به، مملوكاً .... إلخ
(1)
.
ويترتب على هذا القول: إنه لا داعي للقول بالتخصيص؛ لأنه لم يبق مستعملاً في الشرع بمعناه اللغوي المفيد للعموم، فمن شك في كون البيع مكتملاً لشرائط صحته كبعض البيوع المختلف فيها فإنه يحكم بعدم صحته لأن الأصل عدم استجماعه لشرائط الصحة
(2)
.
*
المطلب الرابع: تعارض الإضمار مع النقل.
قال بعض العلماء: الربا في الآية مستعمل بمعناه اللغوي، وهو الزيادة، والزيادة بعينها لا توصف بحل ولا حرمة، فكان لا بد من تأويل الآية، وتقدير كلمة مضمرة. «أخذ» ، فيكون معنى الآية: حرم أخذ الربا، فالمنهي عنه هو أخذ الزيادة، وليس العقد.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الربا في الآية منقول من معناه اللغوي إلي معناه الشرعي، وهو العقد المشتمل على الزيادة لقرينة قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فالمنهي عنه هو نفس العقد المشتمل على الزيادة، فيكون المضمر في الآية لفظ «عقد» ومعنى الآية حرم عقد الربا.
ويترتب على ما سبق حكم البيع المشتمل على الربا، فعلى القول الأول إذا اتفق البائع مع المشتري بعد العقد على إسقاط تلك الزيادة صح العقد؛ لأن
(1)
انظر: نهاية السول للإسنوي (1/ 139).
(2)
انظر: نهاية السول (1/ 139).
المحرم هو الأخذ دون أصل العقد فلو تعاقدوا على بيع درهم بدرهمين ثم أسقطت الزيادة صح البيع وارتفع الإثم.
أما على القول الثاني فالإثم باق، والعقد باطل؛ لأن المنهي عنه هو نفس العقد المشتمل على الزيادة
(1)
.
*
المطلب الخامس: تعارض المجاز مع الاشتراك.
قال بعض العلماء: وردت صيغة «أل» للعموم تارة وللخصوص تارة أخرى، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتركة، وإذا كانت مشتركة كانت مجملة فيسقط الاستدلال بها.
وقد سبق بيان سبب القول بالإجمال في المفرد المشتق، المعرف ب «أل» كالبيع والربا.
وذهب بعض العلماء: جعلها مجازاً في الخصوص أولى من الاشتراك.
ويترتب على ذلك حكم بعض البيوع المختلف فيها، كحكم بيع الغائب على الصفة، فعلى القول الأول لا يصح الاستدلال بالآية، وهي حل البيع، لكون لفظ «البيع» مجملا فيسقط الاستدلال به. وعلى القول الثاني يصح البيع بحمل الصيغة على العموم فيتناول صورة النزاع.
(1)
انظر: الإبهاج (1/ 330)، غاية الوصول شرح لب الأصول للأنصاري (51)، حاشية العطار على شرح جمع الجوامع (1/ 409).
المبحث السادس: المقصد الشرعي من تحريم الربا.
قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره مبيِّناً المقصد الشرعي من تحريم الربا: «وحكمة تحريم الربا هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غنيها محتاجها احتياجاً عارضاً موقتاً بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف، فإن انتدب لها المكلف حرم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كله، وذلك أن العادة الماضية في الأمم، وخاصة العرب، أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته، فلذلك كان حق الأمة مواساته. والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القادرين عليها، فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين: للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلا أن الشرع ميز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف، ولو كان المستسلف غير محتاج، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الذي يتسلفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودين السلم، ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا تفرقة بين المواهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الربا، ولو كان قليلاً، مع تجويز الربح من التجارة والشركات، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد»
(1)
.
(1)
التحرير والتنوير (4/ 86 - 87).
الدراسة الثامنة دراسة تحليلية لآيات المحرَّمات في سورة النساء مع تخريج النوازل عليه
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن فهم القران الكريم له مناهج عدَّة، ويحتاج المفسر الإلمام بها، وإعمالها بحسب ما يرد عليه من النصوص القرآنية، وإن كان النص المراد تفسيره متعلقاً بآية من آيات الأحكام فإن أنسب تلك المناهج هو المنهج الاستدلالي، وقد ضبطه الأصوليون، باستقراءات خاصة، حيث إنهم درسوا كل ما يتعلق بفهم النص، فدرسوا الأساليب العربية التي نزل بها القرآن، تحت ما أسموه " دلالات الألفاظ "، وربطوا من خلالها الألفاظ بمعانيها ومقاصدها، وازدوج النقل عندهم بالعقل، والرواية بالدراية، بقواعد استدلالية محكمة، وبقدر الإحاطة بهذا المنهج الاستدلالي يتفاوت الناس في فهم النص القرآني.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: " منهم من يفهم من الآية حكماً أو حكمين، ومنهم من يفهم عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به، فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فِهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه "
(1)
.
(1)
إعلام الموقعين (1/ 321).
وما ذاك إلا بحسب التضلع من علم أصول الفقه، والقدرة على الاستنباط والتخريج، وهي منزلة لا يقوم بها إلا مجتهد، يقول القرافي:" لا يجوز التخريج إلا لمن هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة والعلل، ورتب المصالح، وشروط القواعد، وما يصلح أن يكون معارضاً وما لا يصلح، وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة .... وبهذا التقرير يتعين على من لا يشتغل بأصول الفقه أن لا يخرج فرعاً على نازلة "
(1)
.
ونظراً لما يتخرج من آيات النكاح من أحكام، وما يتخرج عليها من نوازل، فإني أحببت تطبيق المنهج الاستدلالي الأصولي، ب (دراسة تحليلية أصولية لآيات المحرَّمات في سورة النساء مع تخريج النوازل عليها)، معتمداً وواصفاً أقوال العلماء المجتهدين في الدراسة التحليلية، لتكون مادة تطبيقية أصوليَّة يستفاد منها بإذن الله، وتأكيداً لنتيجة معلومة وهي أن المفسِّر لكتاب الله لا غنى له عن المنهج الأصولي، لوجود آيات الأحكام، فأصول الفقه شرط ضروري لمن تصدى لتفسير كلام الباري.
(1)
الفروق (2/ 107 - 109).
دراسة تحليلية لآيات المحرَّمات
تضمنت الآيات السابقة المحرَّمات من النساء، وتنوعت فيها أسباب التحريم، ففيها المحرَّمات بسبب النسب وهنَّ {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ، والمحرَّمات بسبب الرضاع، وهنَّ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، والمحرَّمات بسبب المصاهرة، كما في قوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} والمحرَّمات بسبب الجمع بين المحارم، وذلك في قوله تعالى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، والمحرَّمات بسبب الإحصان، كما في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، والمحرَّمات بسبب التأقيت، كما في قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، وتفصيل هذا، وبحسب ترتيب الآيات كما يلي:
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22].
قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وهي صيغة النهي الصريحة، والنهي يقتضي التحريم، فحرم المولى سبحانه وتعالى منكوحة الأب، كما أن النهي يقتضي فساد العقد.
وأكد سبحانه التحريم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} .
(1)
ضمير الجمع في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} يفيد العموم، فيشمل جميع الأبناء، وأبناءهم وإن نزلوا.
و {مَا} الموصوله، وأُتي بهذه الصيغة، ولم يؤت بصيغة (مَنْ) التي للعاقل؛ لأن المراد به هنا نوع النساء، و {مَا} تقع على الأنواع، أي: صفات ما يعقل
(1)
انظر: أجمعت الأمة على تحريم موطوءة الأب على الابن، وجعل ابن كثير الإجماع على التحريم شاملاً ما وطئها الأب بالتزويج، أو ملك اليمين، أو كان شبهة". تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 414).
وما لا يعقل
(1)
.
وهي تفيد بعموم صلتها، منكوحة الأب سواء كانت حرة أو أمة بملك اليمين، لأن النكاح كما سبق حقيقة في الوطء عند البعض، ومجاز يمكن حمل الكلام عليه عند البعض الآخر.
قوله: {نَكَحَ} تردد اسم النكاح بين معناه الشرعي، وهو العقد، ومعناه اللغوي وهو الوطء، ويدخل في الوطء المحرَّم والمباح، والقاعدة تقتضي تقديم الحقيقة الشرعية وهي العقد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لبيان المعاني الشرعية، ولم يبعث عليه السلام لبيان المعاني اللغوية، كما أن الشرع طارئ على اللغة وناسخ لها، والحمل على الناسخ المتأخر أولى
(2)
.
وإذا حمل لفظ النكاح على معناه الشرعي، فإن المرأة التي زنى بها الأب لا تحرم على أبناءه، وهو قول المالكية والشافعية
(3)
.
وحمله بعض العلماء على الوطء دون العقد للقرينة المتصلة بالآية نفسها {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} والفاحشة: الوطء، والتغليظ إنما يكون في الوطء لا العقد، ولا مانع من هذا الحمل إذ القاعدة تقتضي حمل الكلام على حقيقته
(4)
إلا إذا ورد ما يصرفه عنه، والصارف
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 118)، وقول القرطبي في جامعة (5/ 100) عن (ما):" بمعنى الذي، أو بمعنى مَنْ، وقد تلقت الصحابة هذه الآية على هذا ".
(2)
انظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (272).
(3)
انظر: موطأ مالك رواية مصعب الزهري (1/ 580)، والأم للشافعي (5/ 25).
(4)
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 192): " وكذلك قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط، ولا الوطء المجرد عن عقد ".
هنا القرينة المتصلة بهذا اللفظ
(1)
.
يقول ابن قدامة: " والوطء يسمى نكاحاً
…
وفي الآية قرينة تصرفه إلى الوطء، وهو قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} "
(2)
.
ويقول التلمساني: "وذلك أن العرب كانت في الجاهلية تخلف الآباء في نسائهم، وإنما كانوا يخلفونهم في الوطء لا في العقد، لأنهم لم يكونوا يجدون عليهن عقداً، بل كانوا يأخذونهن بالإرث، ولذلك قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] وأيضا فقد قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} والفاحشة: الوطء لا العقد. "
(3)
.
* وثمَّة قواعد أصولية أخرى تؤثر في أحكام هذه الآية منها:
ما سبق بيانه من جواز حمل لفظ النكاح على محتملاته من حقيقة ومجاز، وهذا مذهب المعميمين، وعليه فتحرم على الابن زوجة الأب غير المدخول بها، وكذا التي وطأها من غير عقد صحيح، أو من غير عقد أصلاً، فتحرم من زنى بها الأب ولا تحل لأبنائه، وهو ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة
(4)
.
ومن القواعد المؤثرة، ما تقرر عند الأصوليين من أن الحقيقة مقدمة على المجاز
(5)
، والمجاز مقدم على الاشتراك، فالحقيقة مقدمة على الاشتراك، وعليه
(1)
انظر: القرائن وأثرها في فهم الخطاب الشرعي للدكتور حمادي (400).
(2)
المغني (7/ 90).
(3)
مفتاح الوصول للتلمساني (517 - 518)، وانظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 117).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 51 - 61)، المغني لابن قدامة (7/ 90).
(5)
إن حمله على العقد داخل في باب إطلاق السبب على المسبب وهو أقوى من حمله على الوطء، بيان ذلك: إن علاقة السببية أقوى من علاقة المسببية، والعقد سبب للوطء، لأنا لو جعلناه مجازاً في العقد لكان من إطلاق المسبب على السبب؛ إذا العقد سبب للوطء، والوطء مسبب له، ولو عكسنا ما جعلناه مجازاً في الوطء لكان من إطلاق اسم السبب على المسبب، وإطلاق السبب على المسبب أقوى. انظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (273).
فحمل لفظ النكاح على الحقيقة وهو العقد، أولى من جعله مشتركاً بين العقد والوطء، لأن الاشتراك خلاف الأصل، فتكون بذلك موطوءة الأب محرمة على الابن سواء وطئها الأب أم لا
(1)
.
ومن القواعد المؤثرة - وذلك عند من يجعل الكلام مشتركاً بينه وبين الحقيقة - قاعدة: الحكم المعلق على اسم هل يقتضي أوله أو لا بد من آخره؟، فمن يقول الحكم متعلق بأوله قائل بتحريم منكوحة الأب على الابن بمجرد العقد، سواء دخل بها أو لا، ومن قال بأن الحكم متعلق بآخره فلا تحرم منكوحة الأب عنده إلا بالوطء، ومغيب الحشفة، وربما الإنزال؛ لأنه آخر ذوق العسيلة، الوارد في إباحة المرأة لزوجها الأول
(2)
.
قوله: {آبَاؤُكُمْ} جمع مضاف فيعم آباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب والرضاعة.
ويفهم من تحريم منكوحة الآباء بملك اليمين تحريم نكاح الشبهة الذي وقع من أبيه، وذلك بمفهوم الموافقة الأولوي.
قال الموزعي: "وبنكاح الشبهة بطريق التنبيه والأولى. "
(3)
ولعل الأولوية، لأن النكاح يطلق على الوطء كحقيقة لغوية، وبه دخلت الأمة في التحريم، أما نكاح الشبهة ففيه الوطء والعقد أيضاً فكان أولى بالتحريم لدخوله في معنى النكاح بلا خلاف.
(1)
انظر: المغني (7/ 113 - 117)، أثر الدلالة النحوية للسعدي (307).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 198).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 313).
قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع، وقال ابن العربي:" قال علماؤنا هو استثناء منقطع، وصدقوا فإنه ليس بإباحة المحظور، وإنما هو خبر عن عفو سحب ذيله عما مضى من عملهم القبيح فصار تقديره: إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به "
(1)
.
وقيل إن الاستثناء متصل ويكون المراد بالآية: النهي أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من الأباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن، وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى. وعلى هذا التقدير يكون أصلاً في أن الزنى لا يحرِّم
(2)
.
خصصت هذه الآيات عموم آيات أخرى تقتضي إباحة نكاح جميع النساء
(3)
، منها قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله تعالى:
(1)
أحكام القرآن (1/ 369)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 100)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 118).
(2)
انظر: والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 101).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 122).
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32].
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} نصت الآيات على تحريم نكاح النساء المذكورات، وهو نص صريح لا إجمال فيه.
قال ابن الفرس: " .... ومن لاحن العرب ومارس اللغة واطَّلع على عرف أهلها علم أنه لا يستراب في أن من قال: حرمت عليك الدار إنما يريد الدخول فيها خاصة، أو الطعام إنما يريد الأكل خاصة، أو النساء إنما يريد الجماع، وهذا صريح عندهم مقطوع به، فكيف يكون مجملا "
(1)
.
وسبب الخلاف يرجع إلى إضافة التحريم لأعيان النساء، والتحريم المضاف إلى الأعيان يكون المراد منه تحريم ما يتعلق بالأعيان من أفعال، لأن الأعيان ليست مورداً للتحليل والتحريم، وإنما يتعلق الحل والحرمة بأفعال المكلفين
(2)
.
فقال قوم: إن الفعل في هذه الآية لا يدري ما هو؟ هل النظر أو المضاجعة، أو الوطء، فلا يُدرى أي ذلك حرِّم، ولولا تبيينها بغيرها لما عُلم المرد منه، فهي إذاً مجملة. وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المحرم هو نكاحهن، لدلالة العرف كما سبق.
ونقل ابن الفرس عن قوم قولهم: "إن الآية من قبيل المحذوف، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، ثم قال: " وهذا إن أراد أنه مجاز فيلزم أن تسمى الأسماء العرفية مجازا .... فأما على قول من يرى اللفظ الشامل للحقيقة
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 124).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 371)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 123).
والمجاز عاماً فتعلقه بالآية في التحريم ظاهر، لكنه قول ضعيف، ومن لم ير ذلك فوجه تعلقه بالتحريم الإجماع. "
(1)
وسيأتي بيان هذا عند تفصيل المحرمات.
وقوله: {أُمَّهَاتُكُمْ} جمع مضاف يعم كل أم شرعاً، وهي: كل أنثى لها عليك ولادة، أو انتهى نسبك إليها بالولادة، سواء وقع عليها اسم الأم حقيقة وهي التي كانت فيها الولادة المباشرة، أو مجازاً وهي التي منها الولادة بواسطة وإن علت، فيدخل فيه أم الأب، وأم الأم، وجدتي الأب، وجدتي الأم وإن علون، وارثات كنّ أو غير وارثات، كلهن محرمات
(2)
.
وهذا على قول من يرى أن اللفظ العام يشمل الحقيقة والمجاز، أو أن اللفظ العام يجوز أن يقصد به كلا الحقيقة والمجاز في مكانين مختلفين
(3)
.
أما القائلون بأن اللفظ الواحد لا يقصد به الحقيقة والمجاز فإن تحريم الجدات -الأمهات مجازاً- إنما كان عندهم بدليل الإجماع.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الجمع المضاف يعم، فما وجه العموم في الآية إذا حملت على الأم حقيقة؟
قلت: لعل هذا داخل تحت قاعدة مقابلة الجمع بالجمع، فبيَّن الشارع حكم نكاح كل رجل لأمه
(4)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 124 - 125).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 372)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 103).
(3)
يقول الرازي في المحصول (1/ 343): " المسألة الثانية: في أن اللفظ الواحد هل يكون حقيقة ومجازاً؟ أما بالنسبة إلى معنيين فلاشك في جوازه ".
(4)
يقول الزركشي في البحر المحيط (3/ 145): " اختلفوا في مقابلة الجمع بالجمع، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فقيل: إن آحاده تقابل آحاده. وقيل: بل الجمعُ لجمع، فعلى الأول يكون الظاهر موجباً تحريم كل من يقع عليه اسم الأمومة على كل واحد. والثاني يوجب تحريم كل أم على ابنها، ويطلب في تحريمه على غيره دليل يختص به .. ".
قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} جمع مضاف فيعم كل أنثى انتسبت إليك بالولادة
(1)
، كابنة الصلب، وبنات البنين والبنات وإن نزلت درجتهن، وارثات أو غير وارثات
(2)
.
وعلى كلا القولين فإن البنات داخلات في التحريم بلا خلاف، وإنما الخلاف واقع في تحريم البنت إن كانت من الزنا
(3)
.
فذهب فريق من العلماء إلى أنها داخلة في عموم الآية، لأنها أنثى مخلوقة من مائه، وهذه حقيقة كونها ابنته، ولا تختلف هذه الحقيقة بالحل والحرمة، وقاسوها على المخلوقة من وطء الشبهة.
وذهب فريق آخر إلى عدم حرمة نكاح الرجل ابنته من الزنا، لعدم دخولها في الآية، بحجة أنها لا تسمى بنتا شرعاً، بدليل أن نسبها لا يثبت في الوارثين، ولا تستحق النفقة، فليست داخلة في قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، ولا في قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وإذا لم تكن داخلة في عموم الآية المحرمة، فهي داخلة في قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 372)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 103 - 104)
(2)
يرى الدكتور أمير عبد العزيز في كتابه الأنكحة الفاسدة (1/ 129) إن تحريم بنات البنات، وبنات الأبناء وإن نزلن ثبت بدلالة النص - مفهوم الموافقة الأولوي - لأنهن أقرب من بنات الأخ، وبنات الأخت اللواتي ورد تحريهن بالإجماع.
(3)
ذهب أبوحنيفة وأحمد والمشهور من مذهب مالك: أنها تحرم. ومذهب الشافعي عدم الحرمة، وهي رواية عن مالك. انظر: المبسوط للسرخسي (4/ 206)، والشرح الكبيرللدردير مع حاشية الدسوقي (2/ 250)، والمغني لابن قدامة (7/ 119).
وذكر ابن الفرس وجهاً من الآية للقائلين بعدم حرمتها فقال: " واحتج من لم يحرم بأن الله تعالى إنما حرم على الإنسان البنت المضاف إليه، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} فأضاف التحريم إلى هذا الاسم المشتق، فكأنه قال: حرمت البنت لبنوتها، وهذه الصبية الحاصلة من الزنا غير مضافة إلى الزاني، فلم تدخل في آية التحريم. "
(1)
قلت: لعل هذا على القول بأن مفهوم اللقب إن كان مشتقاً فإنه حجة
(2)
.
واستدل كل واحد من الفريقين بالسنة باعتبارها مبينة للقرآن، وبأدلة أخرى ليس هذا مجال الاستطراد بها
(3)
.
قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع معرف بالإضافة، فيعم الأخوات من الجهات الثلاث، من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإن اسم الأخت حقيقة يتناول الأصناف الثلاثة، لأن الأختية تعني المجاورة، إما في الرحم وإما في الصلب
(4)
.
قوله: {وَعَمَّاتُكُمْ} جمع معرف بالإضافة فيعم العمات- وهن كل من ولده جدك أو جدتك من قبل الأب وإن علو - وهن أخوات الأب من الجهات الثلاث حقيقة، و أخوات الأجداد من قبل الأب، ومن قبل الأم، قريباً كان الجد أو بعيداً مجازا، كلهن محرمات
(5)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 125).
(2)
انظر: التحبير شرح التحرير للمرداوي (6/ 2945 - 2946).
(3)
انظر: الأنكحة الفاسدة للدكتور عبد الرحمن الأهدل (74)، الأنكحة الفاسدة للدكتور أمير عبد العزيز (1/ 131).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 372)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 104).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 372)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 104)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 126).
قوله تعالى: {وَخَالَاتُكُمْ} جمع معرف بالإضافة، فيعم الخالات- وهن كل من ولده جدك أو جدتك من قبل الأم وإن علو- فيدخل فيها أخوات الأم من الجهات الثلاث حقيقة، وأخوات الجدات وإن علون مجازاً، فكلهن محرمات
(1)
.
قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ} جمع معرف بالإضافة، فيعم كل من لأخيك عليه ولادة، فيعم جهات الأخ الثلاثة
(2)
.
قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} جمع معرف بالإضافة فيعم كل من لأختك عليه ولادة، فيعم جهات الأخت الثلاثة
(3)
.
قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} . قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ} جمع مضاف-كما سبق- فيعم اللواتي أرضعننا وأمهاتهن وإن علون.
قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع مضاف فيعم الأخوات، ويدخل في الأخوات كل امرأة أرضعتك أمها، أو أرضعتها أمك، أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة، أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما، وأرضعتها الأخرى
(4)
.
ودلت الآية بمفهوم الموافقة الأولوي على تحريم نكاح زوج المرضعة للمرضعة؛ لأنه أبٌ.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 372)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 104).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 126).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 373).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 108).
يقول ابن القيم: " وإذا صارت المرضعة أمه صار صاحب اللبن أباه، وآباؤه أجداده، فنبه بالمرضعة صاحبة اللبن التي هي مودع فيها للأب على كونه أباً بطريق الأولى؛ لأن اللبن له، وبوطئه ثاب، ولهذا حكم رسول الله بتحريم لبن الفحل، فثبت بالنص وإيمائه انتشار حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه من الرضاعة، وأنه قد صار ابناً لهما، وصار أبوين له "
(1)
.
ثمَّ إن الله سبحانه أطلق الإرضاع في الآية ولم يقيده بصفة، فظاهر الآية أن مطلق الإرضاع يحرم، والظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل، وقد عدل العلماء عن ظاهر إطلاقه إلى تقييد بالقرآن والسنة
(2)
.
أما القرآن فقد استنبط بعض أهل العلم من قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] أن الرضاع المحرِّم ما كان في مدة الحولين، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الرضاعة من المجاعة»
(3)
، والمجاعة إنما تثبت في حق من يقوم له الرضاع مقام الغذاء عند الجوع، وهذا إنما يكون في الحولين.
كما أن العلماء عدلوا عن ظاهر الآية وقيدوا إطلاق الرضاع بقيد آخر، وهو العدد، واختلفوا في قدر ما يحرم من الرضاع، فقيل المصة الواحدة تحرّم، وقيل الثلاث، وقيل الخمس، وقيل: العشر
(4)
.
وتخصيص الأمهات والأخوات بالذكر لا يدل على أن ما عداهن ممن يدلي
(1)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 120 - 121).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 315 - 316).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الشهادة، باب الشهادة على الأنساب برقم (2504)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، برقم (1455).
(4)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 315 - 325)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 127).
بجهة غير جهة الأم بخلافهن، لأنه من مفهوم اللقب وهو غير حجة، ومن قال بالمفهوم قال: لا يحرم بالرضاع إلا الأمهات والأخوات، ولو حرمن غيرهن لذكره المولى سبحانه وتعالى
(1)
.
وقد تعلق بعض العلماء بهذا المفهوم، واستدلوا على عدم تحريم رضاع الرجل، لأنه ليس أُمّاً، وكذا البهائم لا تكون أمّهات.
(2)
قال ابن العربي: " {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وهما محرمتان بالقرآن، ولم يذكر المحرم بالرضاعة في القرآن سواهما، والأم أصل والأخت فرع، فنبه بذلك على جميع الأصول والفروع، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»
(3)
"
(4)
.
قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} جمع مضاف فيعم، فتحرم على الزوج أم زوجته، وجدتها، سواء كانت من جهة الأب أو من جهة الأم من نسب أو رضاع، سواء دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، "لصدق الاسم على هؤلاء كلهن"
(5)
، فقال سبحانه:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أما تحريم الجدات فإما أن يكون بعموم اللفظ لحقيقته ومجازه، أو أن تحريمهن كان بالإجماع -كما سبق- وقد يكون التحريم بمفهوم الموافقة المساوي، إذا قلنا: إن الأم في الآية بمعنى الأصل.
(1)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 324 - 325)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 127).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 127)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 107).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، برقم (1444).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 373).
(5)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 121).
وأطلق سبحانه وتعالى تحريم أمهات الزوجات ولم يقيده بالدخول كما فعل مع البنت الربيبة-كما سيأتي -، وقد وقع خلاف بين العلماء هل يحرمن بالعقد على البنات أو بالدخول عليهن؟
(1)
، ومن قال بالدخول فكان مأخذه القياس على البنت، فكما أن البنت لا تحرم إلا بالدخول على أمها فكذلك الأم لا تحرم إلا بالدخول على بنتها. وأخذ جمهور أهل العلم بمقتضى الإطلاق، ولم يشترطوا الدخول بهن
(2)
.
ونقل الموزعي عن بعض المتأخرين أن منشأ اختلاف الفريقين هو الأصل المشهور في الصفة إذا تعقبت جُملاً عطف بعضها على بعض هل يعود إلى الجميع أو يختص بالأخيرة؟.
وأعتقد أن قوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} -وهي الصفة هنا
(3)
- عائد إلى {نِسَائِكُمُ} في قوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقوله {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} على قول. وعائد إلى الأخيرة في قول.
ثم قال الموزعي: "وليس كذلك، بل تقييد الصفة خاص بالربائب. "
(4)
..
قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]، وهو معطوف على قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فدل على تحريم الربائب
(5)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (2/ 327 - 328).
(2)
نسبه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (5/ 102) للجمهور، وقال:" وعليه الحكم والفتيا"، وانظر مزيد تدليل وتفصيل عند ابن القيم في زاد المعاد (5/ 122).
(3)
وهو متضمن للشرطية. فإن تحقق الدخول بالزوجة تحقق الحكم وهو تحريم أمها، وإلا فلا.
(4)
تيسير البيان للموزعي (2/ 327 - 328)، وانظر: للجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 102).
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 108).
قال ابن عبد البر: "لا أعلم أحداً قال بهذا من فقهاء الأمصار، أهل الرأي والحديث الذين تدور عليهم وعلى أصحابهم الفتوى"
(1)
.
قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} جمع مضاف فيعم، كل ربيبة سواء كانت في حجر الزوج، أو ليست في حجره، وسواء دخل بأمها أولا. كما أن اللفظ يشمل بنات الربيبة، وبنات الربيب، " فإنهن داخلات في اسم الربائب"
(2)
، وانعقد الإجماع على تحريمهن
(3)
.
قلت: لعله من الإجماع بعد الخلاف؛ لثبوت الخلاف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعض الصحابة
(4)
. *
وهل تدخل بنت الجارية؟، يرى ابن القيم أن " السرية قد تدخل في جملة نسائه، كما دخلت في قوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، ودخلت في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، ودخلت في قوله {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] "
(5)
، وعليه فهي تدخل في لفظ النساء في قوله {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} .
(1)
الاستذكار لابن عبد البر (5/ 458 - 459).
(2)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 121).
(3)
نقل ابن قدامة الإجماع في المغني (7/ 85) عن ابن المنذر. وانظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 158)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 108).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب النكاج، باب وربائبكم، برقم (10834)، ورقم (10835)، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/ 158):" والأثر صحيح عن علي وكذا صح عن عمر .... ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى .. ".
(5)
زاد المعاد (5/ 122 - 123)، وبيَّن رحمه الله إن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد، وأما المملوكة فلا تصير من نسائه حتى يطأها، فإذا وطئها صارت من نسائه فحرمت عليه أمها وبنتها.
قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيد يدل بمفهوم صفته على أنّهن إذا لم يكن في الحجور لا يحرمن
(1)
.
وذهب جمهور أهل العلم على أنه لا مفهوم له في هذه الآية، لخروجه مخرج الغالب، فإن الغالب الموجود من أحوال الناس أن الربائب لا يكن إلا في حجور أزواج أمهاتهن
(2)
.
وضمير الجمع في قوله: {حُجُورِكُمْ} ورد لمقابلة الجمع في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ}
وقوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ} اسم جمع مضاف فيعم كل من للربائب عليهن ولادة
(3)
.
يقول ابن القيم: " فتتناول بذلك بناتهن وبنات أبنائهن، فإنهن داخلات في اسم الربائب "
(4)
.
قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قيد يدل بمفهوم صفته أنه إن لم يكن دخل بأمها فله أن ينكحها فلا جناح ولا إثم عليه، وهذا مفهوم معمول به، وجاءت تكملة الآية منطوقة به فقال سبحانه:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
(1)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 327).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 72)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 387)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 328)، وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 47).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 377)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 129).
(4)
زاد المعاد (5/ 121).
قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} النساء: 23
دلت الآية على تحريم زوجات الأبناء، حيث صُدِّرت بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} النساء: 23 ثم عطف عليها تحريم زوجات الأبناء.
قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} جمع مضاف فيعم زوجة الابن، وابن الابن، وابن البنت من النسب وإن نزلوا، سواء دخل الفرع بزوجته أو لم يدخل
(1)
.
قوله: {وَحَلَائِلُ} مفهومه بالصفة يقتضي عدم تحريم ما وطئه الابن بملك اليمين، لأن لفظ الحليلة مخصوص بالمنكوحة -على قول- لكن الإجماع دل على عدم اعتبار هذا المفهوم، وألحق ما وطئها الابن بملك اليمين بالمنكوحة
(2)
.
وعلى القول الآخر: إن الحليلة بمعنى المحلَّلة، فيدخل موطوآت الابناء بملك اليمين بالنص، وليس بالإلحاق والقياس
(3)
.
يقول الألوسي: " والظاهر من كلام اللغويين إن الحليلة: الزوجة - كما أشرنا إليه - واختار بعضهم: إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين، ليكون السر في التعبير بها دون الأزواج أو النساء: أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناء على أن الولد وماله لأبيه، فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الابن، فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة، صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر "
(4)
.
(1)
انظر: زاد المعاد (5/ 123).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 329)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 129).
(3)
انظر: زاد المعاد (5/ 123).
(4)
روح المعاني للألوسي (4/ 260).
وهل مازنى بها الابن تدخل في التحريم على الآباء؟ بمعنى هل حرمة المصاهرة تثبت بالزنا؟.
دلت الآية بإشارتها إلى عدم دخولها في التحريم؛ لأن القرآن أتى بلفظ الحلائل، وهو جمع حليلة، "ومن زنى بها الابن لا تسمى حليلة لغة، ولا شرعاً ولا عرفاً"
(1)
، ومن أدخلها فهو باعتبار اشتقاق الحلية، من الحَل، أو من الحلول
(2)
.
قوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} جمع مضاف، يقول الجصاص:"فيتناول عند الجميع تحريم حليلة ولد الولد على الجد، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد، لأن اطلاق الآية قد اقتضاها عند الجميع، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بولادة"
(3)
وهو قيد دل بمفهوم صفته على أن زوجة الابن من التبني لا تحرم. وهذا المفهوم صرح القرآن به في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
(4)
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (5/ 192).
(2)
يقال للمرأة حليلة وللرجل حليل، وسميا بذلك من الحَل؛ لأن كل واحد منهما يحل إزاره للآخر. وقيل: من الحلول، أي النزول؛ لأن كل واحد منهما يحل مع الآخر، وقيل: من الحِل؛ لأن كل منهما حلال للآخر. انظر: معاني القرآن للنحاس (2/ 54)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 109).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 73).
(4)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 329)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 249).
كما أن الآية أخرجت بمفهوم الصفة - أيضاً - حليَّة زوجة الابن من الرضاع. وعليه فإن زوجة الابن من الرضاع تحل لأبيه إذا طلقها الابن أو مات عنها.
يقول ابن القيم: "ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع، فكيف إذا قيد بكونه ابن الصلب؟ وقصد إخراج التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع، ويوجب دخوله "
(1)
.
قلت: واعتبار هذا المفهوم خلاف بين أهل العلم، وقد نقل كثير من أهل العلم الاتفاق والإجماع على تحريم حليلة ابن الرضاع
(2)
، واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
(3)
وبهذا الحديث يدفع المفهوم الدال على حليلة ابن الرضاع، ومعلوم أن المفهوم إنما يكون حجة إذا لم يعارضه منطوق.
يقول الخطابي: "وفي هذا الحديث بيان حرمة الرضاع في المناكح كحرمة الأنساب، وأن المرتضعيْن من الرجال والنساء باللبن الواحد كالمنتسبين منهم إلى النسب الواحد"
(4)
قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] عطفاً على قوله في أول الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وفيه بيان للحكم
(1)
زاد المعاد (5/ 557 - 564).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 329)، يقول ابن القيم في زاد المعاد (5/ 557 - 564):" ودعوى الإجماع في هذه المسألة مردود بلاخلاف في التحريم بلبن الفحل، فيلزم من لا يحرم بلبن الفحل ألا يحرم على المرأة أبا زوجها من الرضاعة، ولا ابنه من الرضاعة ".
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب، برقم (2645)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، برقم (1447).
(4)
معالم السنن للخطابي (2/ 245).
الشرعي، وهو تحريم الجمع بين الأختين.
قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} تنحل الجملة إلى مصدر، وهو (الجمع) فيحرم الجمع بين الأختين، و (الجمع) اسم جمع معرف بأل غير عهدية فيعم، ويشمل نكاحهن معاً أو مترتبات.
وضمير الجمع في قوله: {تَجْمَعُوا} يشمل كل ناكح سواء كان حراً أو عبداً.
وقوله: {الْأُخْتَيْنِ} مثنى عرف بأل وهو يفيد العموم، فتشمل الحرائر بالاتفاق سواء كن شقيقتين أو لأب أو الأم، وسواء كن بالنسب أو الرضاع، واختلفوا في الأختين بملك اليمين هل يجوز الجمع بينهما في الوطء.
قال ابن القيم: " وحرم سبحانه الجمع بين الأختين، وهذا يتناول الجمع بينهما في عقد النكاح، وملك اليمين، كسائر محرمات الآية، وهذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم وهو الصواب "
(1)
.
وسبب الخلاف راجع إلى التعارض الوارد بين هذه الآية - التي دلت على تحريم الجمع بين الأختين - وبين الآية التي بعدها، وهي وقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وذلك عند من يقول بأن الاستثناء يعود إلى الجمل السابقة، ومنها قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وسيأتي بيان ذلك في محله.
كما أن الآية تفيد بمفهومها المخالف عدم دخول غير الأختين أما بمفهومها الموافق، فدلت على حرمة الجمع بين سائر المحارم، ويرى البعض أن تحريم
(1)
زاد المعاد (5/ 125 - 126)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 112).
الجمع بين سائر المحارم إنما كان بالقياس
(1)
.
وقد وردت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ومما ورد في الصحيحين قوله عليه السلام:«لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
(2)
.
تنبيه: يرى ابن الفرس أنه حتى يصح إلحاق ما في الخبر بما في الآية فإنه يجب أن لا تكون هذه الزيادة نسخاً، لأنه يرى أن نسخ القرآن بخبر الآحاد فاسد، والجمهور خلافاً للحنفية لا يرون الزيادة على النص نسخاً
(3)
.
قوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} الاستثناء في الآية راجع إلى الجملة الأخيرة، ومعلوم أن الاستثناء المتعقب جملاً يعود إلى الجميع عند الجمهور إلا إذا دلّ دليل على قصره على الجملة الأخيرة.
ومما يستدل على رجوع الاستثناء للجملة الأخيرة قول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين"
(4)
.
قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} الواو حرف عطف، وهو يقتضي مطلق الجمع
(5)
، وهذا يقتضي الجمع بين المحصنات والمعطوف عليه من المحرمات من النساء في التحريم.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 333).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، برقم (5109)، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، برقم (1408).
(3)
انظر: شرح التنقيح للقرافي (317)، والمحصول للرازي (3/ 363)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (6/ 3093).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 336، 330).
(5)
انظر: التحبير شرح التحرير للمرداوي (2/ 602).
{وَالْمُحْصَنَاتُ} جمع عرف بالألف واللام غير العهدية فيعم جميع المحصنات، وهن الزوجات
(1)
، ويدخل في ذلك الحرائر والإماء.
قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (إِلَّا) استثناء متصل فأخرج الإماء من الحكم السابق فيحل نكاحهن.
وقوله: {أَيْمَانُكُمْ} جمع مضاف، فيشمل كل من دخلت تحت ملك اليمين، سواء كانت مسبية، أو مشتراة، أو غير ذلك، وثنية كانت أو كتابية، وسواء كن أخوات أو غير أخوات
(2)
.
وقد اختلف أهل العلم في عود الاستثناء إلى جميع الجمل السابقة، أو إلى الجملة الأخيرة، والذي عليه الجمهور هو عوده إلى الجميع، ويرى بعض المحققين "أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله، أو بعضها، يحتاج إلى دليل منفصل؛ لأن الدليل قد يدل على رجوعه للجميع، أو لبعضها دون بعض، وربما دلَّ الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه"
(3)
. وبناء على الخلاف السابق في عود الاستثناء، اختلف العلماء في عوده للأختين بملك اليمين، هل يجوز الجمع بينهما في الوطء، فمن قال بعود الاستثناء للجميع قال بأنه يحل الجمع بينهما في الوطء؛ لأن ملك اليمين مستثنى من التحريم المنصوص عليه في الجملة المعطوفة السابقة، وهي {وَأَنْ تَجْمَعُوا
(1)
هذا ما عليه جمهور المفسرين. وقيل المراد بهن: الحرائر، يقول ابن القيم في زاد المعاد (5/ 129 - 130): " ورد هذا لفظاً ومعنى
…
" ثم بين ذلك فراجعه. وانظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 332 - 333)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 115).
(2)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 333).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 522)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}.
ويرى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أن هناك مانعاً من رجوع الاستثناء إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، فقال: "لما قدمنا من أن قوله {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي بالسبي خاصَّة مع الكفر، وأن المعنى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: وحرمت عليكم المتزوجات من النساء، لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها، إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر، فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسببية، وتحل لسابيها بعد الاستبراء
…
وإذا كان ملك اليمين في قوله {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في السبي خاصَّة - كما هو مذهب الجمهور - كان ذلك مانعاً من رجوعه إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقاً "
(1)
وكونه خاصاً بالمسبيات يؤيده سبب نزول الآية، وهو ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس فلقي عدواً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنَّ من المشركين، فأنزل عليه في ذلك
(2)
: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، أي فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن
(3)
.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 522).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي، برقم (1456). وانظر: أسباب النزول للواحدي (141 - 142).
(3)
انظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 332 - 333).
يقول ابن عبد البر: " وهذا دليل واضح على ذلك، وفيه تفسير الآية، وهو أولى ما قيل في تفسيرها"
(1)
.
ثمَّ ذكر المولى سبحانه حلِّية ما وراء هؤلاء المحرَّمات بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} النساء: 24
(2)
. ثمَّ قال سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]، وقيل: إنها نزلت في نكاح المتعة، ويؤيده القراءة الشاذة (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن)
(3)
، ثمَّ اختلف القائلون بأنها نزلت في نكاح المتعة في الناسخ لها بعد الاتفاق على نسخ حكم المتعة، وثبوت حرمتها بالسنة
(4)
. وجمهور المفسرين على كون الآية محكمة
(5)
، ولا علاقة لها بالمتعة، وتأويلها بمعنى: ما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فريضة
(6)
.
وسباق الآية وسياقها يمنع حملها على المتعة، وذلك لأن سياق الآية بيان المحرمات، وكان آخر المحرمات المتزوجات من النساء إلا ما ملكت اليمين،
(1)
التمهيد لابن عبد البر (3/ 144)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 117).
(2)
يقول ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 384): " هذا عموم متفق عليه ممن نفاه، وممن أثبته".
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 389)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 125)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 144)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 342).
(4)
لقوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئا فلا يأخذه» وفي رواية ما يفيد أن إباحتها بالسنة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذالك إلى القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» .
(5)
ونقل القرطبي نسخها عن سائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعي. انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 128).
(6)
انظر: تفسير الطبري (5/ 13)، تيسير البيان للموزعي (2/ 344).
ثم قال سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] أي تلذذتم به منهن في النكاح الصحيح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن.
ثم قال بعدها {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخر الآيات التي تبين أن المعنى بهذه الآيات إنما هو النكاح الدائم لا المتعة.
تخريج النوازل على أحكام وأصول المحرَّمات
المقصود هنا تخريج الفروع النازلة على الفروع والأحكام المستنبطة من آيات المحرَّمات، وكذا تخريج النوازل على أصول تلك الأحكام، فيتضمن البحث نوعان من أنواع التخريج هما: تخريج الفروع على الفروع، والمقصود بالفروع الأولى النازلة العصرية، وكذا يتضمن تخريج هذه النوازل على الأصول، وهذان هما التخريج الشائع عند الفقهاء والأصوليين، والأول وهو عبارة عن استنباط للأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم، سواء كانت أقوالهم أو أفعالهم أو تقريراتهم، واصطلح على تسميته بتخريج الفروع على الفروع.
والثاني وهو عبارة عن استنباط للأحكام من القواعد، واصطلح على تسميته بتخريج الفروع على الأصول
(1)
.
(1)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (185 - 186).
إذا تبيَّن المقصود - هنا - ففيما يلي
بعض النوازل المخرَّجة على ما سبق تقريره في المبحث الأول:
(1)
سبق القول أن التحريم في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآيات، لايضاف إلى الأعيان، ويجب تقدير محذوف، وقدَّر العلماء فعلاً من أفعال المكلف، وهو (نكاح)، أي حرِّم عليكم نكاح أمهاتكم، كما سبق أن النكاح حقيقة في العقد، وبالقول بعموم المقتضى والمحذوف فإنه يتخرَّج على القاعدة: تحريم جميع صور عقود النكاح، سواء كانت حقيقية أو صورية.
ومن العقود الصورية الواقعة في بلاد الغرب - ويفعلها بعض الجاليات المسلمة - عقد زواج صوري للجنس الآخر - من غير قصد له، وقد يكون بمقابل مادي - بغية حصول أحد الطرفين، وهو غير المتجنس بجنسية تلك البلد الغربي الإقامة، أو الهجرة لها إذ أن النظام في بعض الدول الغربية يتيح الإقامة أو الهجرة لمن كان متزوجاً بطرف يحمل جنسية تلك البلاد
(1)
، ولهذه العقود صور، والقصد أن الطرف الآخر قد يكون من المحارم
(2)
، فهنا يخرَّج حكم التحريم بالنص على هذه النازلة.
(2)
وهذه المسألة متعلقة بحقيقة النكاح أيضاً، وسبق ذكر خلاف العلماء في أن النكاح في القرآن الكريم يراد به: العقد، أو الوطء، أو يطلق عليهما بالاشتراك
(1)
انظر: القواعد الأصولية المؤثرة في فقه الأقليات المسلمة (287 - 288)، رسالة مقدمة لمرحلة العالمية الماجستير (آلة) من الطالب يحي عثمان صوفي - إمريكي الجنسية- بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2)
بعض القوانين الغربية تبيح نكاح المحارم إن كانوا من الدرجة الثانية، كالعمات والخالات، وتبيح نكاح الأصهار مطلقاً، بزعمهم لعدم وجود ما يثبت ضرره من الناحية الطبية. انظر: أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب للدكتور سالم عبد الغني الرفاعي (364 - 366).
اللفظي. وإذا ما خرجنا عن تحريم النكاح بسبب القرابة، وتوجهنا إلى المحرمات بسبب المصاهرة، كتحريم ما نكح الأب، وأمهات النساء، وابنة المرأة التي دخل الرجل بأمها. أو حتى التحريم بسبب الوطء المحرم سواء من الأب على الابن، أو من الابن فتحرم على الأب، فحصل ما يسمى اليوم بتأجير الرحم، كأن تؤجر زوجة الأب رحمها لزراعة لقيحة الابن
(1)
، وهذه الصورة محرمة بالاتفاق
(2)
، لا لكونها نكاحاً، بل لكونها مؤديةً إلى اختلاط الأنساب، وقد يحدث حملين في الزوجة الحاضنة، أحدهما من معاشرة زوجها لها، والثاني من اللقيحة المزروعة، فيحدث الاختلاط في الأنساب. والشاهد هنا أنه وقع التحريم في جميع صور ما يسمى بتأجير الأرحام، إلا فيما إذا زرعت لقيحة الزوجين حال قيام الزوجية في رحم الزوجة الثانية للرجل، عند عدم إمكانية حمل الزوجة الأولى صاحبة البيضة، ونظراً لهذا الخلاف فقد توقف مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في المسألة بعد أن قرروا جوازها أولاً
(3)
.
قلت ومن المعلوم أن العقد سبب للوطء، والوطء سبب للإنزال وبه يثبت النسب أو يختلط، فهو علة العلة، أو الحكمة التي من أجلها أباح الله النكاح وحرم الزنا
(4)
(1)
يتقدم الزوجان - الابن وزوجته هنا - بالتلقيح الخارجي، ثم تنقل اللقيحة إلى رحم زوجة الأب مثلاً، وهم يقسمون الرحم إلى الرحم المضيف الأجير، وهذا بأجرة، والرحم القريبة، وهي رحم أحد قريبات الزوجين، أو أحدهما، وقد تكون بغير مقابل ..
(2)
انظر: الأم البديلة رؤية إسلامية للدكتور عارف علي عارف (2/ 812)، وأحكام التلقيح غير الطبيعي للدكتور سعد الشويرخ (1/ 356).
(3)
انظر: قرارات وتوصيات المجمع الفقهي الإسلامي (152).
(4)
يجب التأكيد هنا على أن العلة في تحريم الزنا كونه زنا، وليست العلة اختلاط الأنساب، وبناء عليه لو أدخل ذكره في فرج امرأة أجنبية عنه فهو زان وإن لم ينزل، أو لو أنزل مع وجود حائل من جهته أو جهتها فهو زان، قلت هذا لوجود من يبيح الزنا بدعوى أن العلة اختلاط الأنساب، والاكتشافات الحديثة، والطب المتقدم استطاع معالجة ما قد يخشى منه؟!!.
وهنا مسألتان متعلقتان بهذه المسألة:
المسألة الأولى: هل تسمى صاحبة الرحم المستأجرة أماً، فتدخل في آية المحرمات، لقوله تعالى {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} ومفهوم الآية يدل على أن الأمومة الحقيقة محصورة في الولادة، وتتصف به صاحبة الرحم المستأجرة.
أما الثانية: وهو عدم تسمية صاحبة النطفة أماً، باعتبار ما سبق، وهو عدم حصول الولادة منها، وقد يبنى عليه عدم المحرمية.
والذي يظهر لي عدم صحة الاستدلال بقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} على عدم تسمية صاحبة النطفة أماً؛ لأن الآية تحمل على أنها لبيان الواقع، وليس لها مفهوم.
ثم إن الآية نزلت على سبب خاص، وهو الرد على من يظاهرون من نسائهم بتشبيه الزوجة بالأم في الحرمة، فبيّن المولى سبحانه أن الأمومة ليست قولاً باللسان وإنما هي حقيقة تترتب عليها أحكام معينة، وذلك لأن المظاهر أمام امرأتين: زوجته التي ظاهر منها، وأمه التي ولدته، وشبه زوجته بها، أما زوجته فهي بعيدة كل البعد عن معنى الأمومة بالنسبة له، ولذلك فهي غير محرمة عليه وإنما تحرم عليه المرأة التي ولدته
(1)
.
وأما تسمية صاحبة الرحم أماً باعتبار الحمل والولادة - وتسمى بالأم البديلة
(2)
- فهو وارد في نظري، ولاسيما أن الطفل يتغذى بدمها وعبر مشيمتها،
(1)
انظر: أحكام التلقيح غير الطبيعي للدكتور سعد الشويرخ (1/ 398 - 399).
(2)
سمى الدكتور عارف علي عارف: الأم البديلة رؤية إسلامية، منشور ضمن كتاب: دراسات في قضايا طبية معاصرة، مع مجموعة باحثين، دار النفائس للنشر والتوزيع.
وقد يسقى بماء زوجها. وقياساً على الأم المرضعة بجامع المشاركة في نمو جسم الطفل بالتغذية.
المسألة الثانية: يدخل ضمن تحريم البنات بقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} تحريم بنته من التلقيح غير الشرعي، عبر ما يسمى بالتلقيح الاصطناعي، أو أطفال الأنابيب؛ كما في بعض صوره فيما إذا تبرع بالنطفة، ودخولها في معنى البنت؛ لأنها مخلوقة من مائه
(1)
.
ومما يدل على أن ابنته المتخلقة من تلقيح محرم داخلة في عموم آية المحرمات، أن الله ذكر في تحريم حليلة الابن، قيداً في تحريمها وهو أن يكون الابن من صلب الأب، وكان القيد احترازاً عن ابنه الذي تبناه، فعلم بذلك أن لفظ البنت والابن يشمل كل من كان في لغتهم داخلاً في الاسم، فيدخل في لفظ البنت بنته من تلقيح غير شرعي؛ لأنها ابنته لغة
(2)
.
(3)
ذكر المولى سبحانه وتعالى من أسباب التحريم الإرضاع فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وقد حلَّت نوازل عصرية بسبب غياب ما كان يعرف بالمرضعات، والطفل قد يحرم من حليب أمه لأسباب كثيرة
(3)
، مما أدى في هذا العصر إلى البحث عن بدائل أخرى وكان من تلك البدائل:
(أ) بنوك الحليب، وهي عبارة عن مجمع لحليب خليط من الأمهات يرضع منه الأطفال الخدج
(4)
بمقابل مادي، واختلف المعاصرون في نشرها للحرمة، ونظراً
(1)
انظر: أحكام التلقيح غير الطبيعي للدكتور سعد الشويرخ (1/ 257).
(2)
انظر: المصدر السابق (1/ 260).
(3)
كوفاة الأم، أو إصابتها بمرض معد، أو لنضوب اللبن، إلى غير ذلك من الأسباب.
(4)
جمع خديج، وهو الطفل الذي يولد قبل تمام أيامه. انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بمصر (219).
لهذا الخلاف وخشية اختلاط الأنساب، ذهب كثير من المعاصرين إلى حرمة الرضاع منها، وبه صدر قرار المجمع الفقه الإسلامي بجدة
(1)
.
(ب) ومما ظهر في هذا العصر أيضاً ما يسمى بالحليب المعدّل وراثياً، وقد توصل العلم الحديث من خلال الهندسة الوراثية إلى طريقة يمكن من خلالها إنتاج كميات كافية من الحليب البشري، وذلك بنقل الجين المخلق للبروتين البشري (ألفالاكتالبومين) إلى الحيوان المدر للحليب، كالبقرة مثلاً، فتصبح البقرة منتجة لهذا البروتين في حليبها الذي تدره، فيكون من شرب حليب البقرة كأنما شرب من حليب السيدة التي أخذ منها الجين، وهناك طرق أخرى لإنتاجه.
وذهب إلى جواز إنتاج وشرب هذا الحليب كثير من الباحثين، وصدر به قرار المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري رؤية إسلامية، وجمعية العلوم الطبية الإسلامية الأردنية
(2)
.
قلت ولا يمكن قياس هذه المسألة على سابقتها لوجود الفرق، إما من خلال المفاسد والسلبيات المترتبة من كلٍ، كما أن الحليب المعدل مستهلك فيه الحليب البشري، إن قلنا بوجوده، إذ أن العرف العلمي الخاص لا يسمي هذا حليباً بشرياً.
ومما يتعلق بالإرضاع - أيضاً- من المسائل العصرية حكم نقل الدم لطفل دون الحولين من امرأة غير أمه التي ولدته، مما قد يتغذى منه الطفل، فهل
(1)
انظر: فقه النوازل للدكتور محمد حسين الجيزاني (4/ 160).
(2)
انظر: أحكام الهندسة الوراثية للدكتور سعد الشريرخ (568)، وأثر النظر المقاصدي في المسائل الطبية (358)، رسالة مقدمة لمرحلة العالمية الماجستير (آلة) من الطالب ديالو حذيفة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ..
للتخصيص بالإرضاع مفهوم، والذي عليه إجماع المعاصرين وبه صدر قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة أن التحريم خاص بالرضاع ولا يتعدى إلى نقل الدم
(1)
.
وفي ظني لا ينتقض هذا مع ماذكرناه سابقاً من أن الطفل المتغذي بدم الأم البديلة، أو ما يسمى بالمؤجرة رحمها؛ لأن غذاءه قبل الولادة هذا طريقه، وبعد الولادة طريقه الرضاعة، وإذا حصل الفرق اختلف الحكم، والله أعلم.
(1)
انظر: فقه النوازل للدكتور محمد الجيزاني (4/ 156).
فهرس المصادر والمراجع
(1)
القرآن الكريم.
(2)
إتحاف البرية فيما جدّ من المسائل الفقهية، محمد سعود الحربي، تركي محمد حامد النصر، ط: الأولى، 1435 هـ - 2014 م، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت.
(3)
الاتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية، بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف، مطبعة المجمع.
(4)
أثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي، د. هشام بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، ط: الثانية، 1418 هـ - 2007 م، مكتبة الرشد.
(5)
الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة، العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، اعتنى به: هيثم بن جواد الحداد، إشراف: الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، ط: الثانية، شوال 1420 هـ - 2000 م، دار المعالي، ودار ابن الجوزي للنشر والتوزيع.
(6)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد، تحقيق: علي الهندي، المكتبة السلفية، ط: الثانية، 1409 هـ.
(7)
أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم بن عبد الغني الرفاعي، دار الوطن للنشر، ط. 1، 1422 هـ.
(8) أحكام التلقيح غير الطبيعي (أطفال الأنابيب)، د. سعد بن عبد العزيز الشويرخ، كنوز إشبيلية. الرياض، ط. 1، 1430 هـ
(9)
أحكام القرآن لأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس، تحقيق الدكتورة منجية السوايجي، دار ابن حزم، ط: الأولى 1427 هـ.
(10)
أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق علي البجاوي، دار المعرفة ببيروت، بدون تاريخ.
(11)
أحكام القرآن، للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1415 هـ.
(12)
الإحكام في أصول الأحكام: للإمام علي بن أحمد بن حزم الظاهري، دار الكتب العلمية، بيروت.
(13)
الإحكام في أصول الأحكام: للإمام علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د/ سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1418 هـ.
(14)
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، بإشراف: محمد زهير الشاويش، ط: الثانية، 1405 هـ - 1985 م، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق.
(15)
استثمار أموال الزكاة، د. محمد عثمان شبير، ضمن أبحاث فقهية في قضايا المعاصرة.
(16)
استدلال الأصوليين بالكتاب والسنة على القواعد الأولية، للدكتور عياض بن نامي السلمي، بدون اسم مطبعة وناشر، ط. الأولى 1418 هـ.
(17)
الإشارات الألهية إلى المباحث الأصولية، لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق الحسن بن عباس بن قطب، نشر مكتبة الفاروق الحديثة بمصر.
(18) أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة - بيروت.
(19)
أصول الشاشي، نظام الدين أبو علي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي، دار الكتاب العربي - بيروت.
(20)
أصول الفقه: لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، تحقيق: فهد بن محمد السدحان، مكتبة العبيكان، ط 1، 1420 هـ.
(21)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، ط: الأولى، 1426 هـ، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.
(22)
الإكليل في استنباط التنزيل، لجلال الدين السيوطي، تحقيق د. عامر بن علي العرابي، دار الأندلس الخضراء، بجدة، ط: الأولى 1422 هـ.
(23)
الأم البديلة - رؤية إسلامية- د. عرف علي عارف، ضمن دراسات في قضايا طبية معاصرة، لمجموعة باحثين، دار النفائس، الأردن، ط. 1، 1418 هـ.
(24)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط: الأولى، 1415 هـ - 1995 م، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان.
(25)
الأنكحة الفاسدة دراسة فقهية مقارنة، عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأهدل، منشورات المكتبة الدولية بالرياض، ط. 1، 1403 هـ
(26)
الأنكحة الفاسدة والمنهي عنها في الشريعة، د. أمير عبد العزيز، مكتبة الأقصى، الأردن، ط. 1. 1402 هـ
(27)
البحر المحيط في أصول الفقه: لبدر الدين الزركشي، حرره عبد القادر العاني، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط 2، 1413 هـ.
(28) بحوث فقهية حديثية (مقام إبراهيم عليه السلام، بقلم المُحدث: العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، تحقيق: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري، ط: الأولى، 1417 هـ، دار الراية للنشر والتوزيع.
(29)
بحوث في الاقتصاد الإسلامي، د. علي القرة داغي، ط: الأولى، 1423 هـ، دار البشائر الإسلاميَّة.
(30)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، ط: بدون طبعة، 1425 هـ - 2004 م، دار الحديث، القاهرة، ومكتبة ابن تيميّة بتحقيق: محمد صبحي حلاق، ط: الأولى.
(31)
بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب: لشمس الدين محمود عبد الرحمن الأصفهاني، تحقيق: د/ محمد مظهر بقا، من مطبوعات مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، ط 1، 1406 هـ.
(32)
التبصرة في أصول الفقه: لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، 1400 هـ.
(33)
التبيان في أيمان القرآن، الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، ط: الأولى، 1429 هـ، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.
(34)
التحبير في شرح التحرير: لعلاء الدين المرداوي، تحقيق: د عبد الرحمن الجبرين، وعوض القرني، وأحمد السراح، مكتبة الرشد ناشرون، (ط 1)، 1421 هـ.
(35)
التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس 1984 م.
(36) تحقيق المقال في جواز نقل المقام لضرورة توسعة المطاف بالبيت الحرام، الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، مطابع العروبة.
(37)
تسهيل الفقه، للدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ط: الأولى 1436 هـ، مدار الوطن.
(38)
تشنيف المسامع بجمع الجوامع: لبدر الدين الزركشي، تحقيق: د/ عبد الله ربيع، د/ سيد عبد العزيز، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1419 هـ.
(39)
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، للشيخ محمد الأمين بن عبد الله الهرري، إشراف ومراجعة د. هاشم محمد علي، دار المنهاج، ودار طوق النجاة.
(40)
تقريب الأصول إلى علم الأصول: لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي المالكي، تحقيق: د/ محمد المختار بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ط 2، 1423 هـ.
(41)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، 1387 هـ، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة، المغرب.
(42)
تنقيح الفصول وشرحه: لشهاب الدين القرافي، تحقيق: طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية، ط 2، 1414 هـ.
(43)
تيسير البيان لأحكام القرآن، لمحمد بن علي اليمني الشافعي، المشهور بالموزعي، تحقيق عبد المعين الحرش، طبعة دار الأنوار، ط: الأولى 1433 هـ.
(44)
تيسير التحرير: لمحمد أمين، بأمير بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت.
(45) جامع البيان في تأويل القرآن، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ.
(46)
الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1433 هـ
(47)
جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني: لتاج الدين عبد الوهاب السبكي، دار الفكر، 1415 هـ.
(48)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، العلاّمة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير، أبي البركات سيدي أحمد الدرّدير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(49)
حاشية رد المختار، خاتمة المحققين محمد أمين الشهير بابن عابدين على الدر المختار، شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ط: الثانية، 1386 هـ - 1966 م، دار الفكر، والمكتبة التجارة.
(50)
دراسات في علوم القرآن الكريم، للدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، الناشر: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، ط 12، 1424 هـ.
(51)
روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: زهير الشاويش، ط: الثالثة، 1412 هـ - 1991 م، المكتب الإسلامي، ودار الكتب العلمية، بيروت، دمشق، عمان.
(52)
روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه: لموفق الدين ابن قدامة، تحقيق: د/ عبد الكريم النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 4، 1416 هـ.
(53)
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، ط. 5، 1412 هـ
(54) سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، مع شرح السندي، دار المعرفة، ط: الثالثة، 1420 هـ 2000 م.
(55)
سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط: الأولى 1418 هـ-1997 م، دار ابن حزم.
(56)
سنن الدارقطني، للحافظ الكبير علي بن عمر الدار قطني وبذيله التعليق المغني على الدارقطني، للمحدث العلامة أبي الطيب محمد شمس الحقّ العظيم آبادي. حققه وضبط نصّه وعلق عليه الشيخ شعيب الأرناؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، ط: الأولى 1424 هـ-2004 م، مؤسسة الرسالة.
(57)
السنن الكبرى، للحافظ الكبير أبي بكر بن الحسين بن علي البيهقي، ومعه الجوهر النقي، دار الفكر.
(58)
سنن النسائي، للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، دار المعرفة، ط: الخامسة، 1420 هـ- 1999 م.
(59)
شرح الكوكب المنير: للشيخ محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار، مكتبة العبيكان، الرياض، 1413 هـ.
(60)
الشرح الممتع على زاد المستقنع، فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، دار ابن الجوزي، ط: الأولى، ومركز فجر للطباعة ودار الآثار للنشر والتوزيع، القاهرة.
(61)
شرح مختصر الروضة: لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق: د/ عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1419 هـ.
(62) صحيح البخاري (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، للإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ط: الأولى 1417 هـ-1997 م، دار السلام.
(63)
صحيح مسلم (الجامع الصحيح)، لأبي الحجاج مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ط: الأولى 1419 هـ، دار المغني.
(64)
عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقيّة، مسلم بن محمد الدوسري، ط: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، مكتبة الرشد، الرياض.
(65)
فتاوى إسلامية، لجمع من العلماء، جمع ترتيب: محمد عبد العزيز المسند، ط: الأولى، 1413 هـ، دار الوطن للنشر.
(66)
الفتاوى الكبرى، للإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(67)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، ط: الرابعة، 1423 هـ - 2002 م، طبع ونشر: مؤسسة الأميرة العنود آل سعود الخيريَّة.
(68)
فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة، من الندوة الأولى إلى الثالثة عشر، إصدار بيت الزكاة.
(69)
فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة بيروت، 1379 هـ.
(70)
فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، محمد بن صالح العثيمين، مدار الوطن، ط: الأولى، 1425 هـ.
(71)
الفروق: للقرافي، دار المعرفة، بيروت.
(72) الفصول في الأصول: للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: د/ عجيل جاسم الشمس، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط 1، 1405 هـ.
(73)
فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، ط: السادسة عشرة، 1406 هـ - 1986 م، مؤسسة الرسالة.
(74)
الفقه الميسر (النوازل في العبادات)، أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، وأ. د. عبد الله بن محمد المطلق، ود. محمد بن إبراهيم الموسى، ط: الأولى، 1432 هـ - 2011 م، مدار الوطن للنشر.
(75)
فقه النوازل في العبادات، د. خالد بن علي المشيقح، اعتنى به: عبد العزيز بن حواس الشمري، ط: الأولى، 1433 هـ - 2012 م، جمعية إحياء التراث الإسلامي، ومكتبة الرشد.
(76)
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: عبد العلي محمد بن النظام، بهامش المستصفى، دار الفكر.
(77)
قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي - جدة، تنسيق وتعليق: د. عبد الستار أبو غدة، ط: الثانية، 1418 هـ - 1998 م، دار القلم، دمشق.
(78)
القرائن وأثرها في الخطاب الشرعي، د. حمامي مختار، دار ابن حزم، بيروت، ط. 1، 1430 هـ
(79)
القضايا المعاصرة في فقه العبادات، عبد الله بن بكر أبو زيد، رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراه، المعهد العالي للقضاء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة.
(80) قواطع الأدلة في الأصول، أبي المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، تحقيق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط الأولى، 1418 هـ.
(81)
القواعد في الفقه المسمى تقرير القواعد وتحرير الفوائد، تصنيف: الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي، حققه: إياد بن عبد اللطيف بن إبراهيم القيسي، بيت الأفكار الدوليَّة.
(82)
كشاف القناع، منصور يونس البهوتي الحنبلي عن متن الإقناع للإمام موسى بن أحمد الحجاوي الصالحي، قدّم له: أ. د. كمال عبد العظيم العناني، وحقّقه: أبو عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، ط: الأولى، 1418 هـ - 1997 م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(83)
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمد بن عمر الزمخشري
(84)
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي: للبخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، (ط 1)، 1418 هـ.
(85)
اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، ط: الأولى، 1419 هـ.
(86)
لسان العرب: لابن منظور، دار صادر.
(87)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن تيميّة، جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، 1412 هـ.
(88) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (فتاوى الفقه)، جمع: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، ط: الأولى، 1420 هـ - 1990 م، دار الثريا للنشر.
(89)
مجموع فتاوى ومقالات متنوّعة، للشيخ عبد العزيز بن باز، جمع وترتيب: د. محمد بن سعد الشويعر، ط: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، رئاسة إدارة البحوث العلميَّة والإفتاء، المملكة العربية السعودية.
(90)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب، ابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422 هـ.
(91)
المحصول في علم أصول الفقه لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، تحقيق: د. طه العلواني، مؤسسة الرسالة، ط. 2، 1412 هـ
(92)
المستصفى من علم الأصول: للغزالي، تحقيق: د محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، (ط 1)، 1417 هـ.
(93)
المسودة في أصول الفقه: لآل تيمية، جمع: شهاب الدين أبو العباس الحراني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بيروت.
(94)
المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية بمصر، مكتبة الشروق الدولية، (ط 4).
(95)
معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر.
(96)
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شرح: الشيخ محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين للإمام أبي زكريا بن شرف النووي، دار الفكر.
(97) المغني، لابن قدامة، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، ط: الثانية، 1412 هـ - 1992 م، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
(98)
مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط الثالثة، 1420 هـ.
(99)
مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للإمام الشريف أبي عبد الله محمد بن أحمد الحسني التلمساني، دراسة وتحقيق: محمد علي فركوس، مؤسسة الريان، بيروت، ط. 1، 1419 هـ
(100)
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط. 1، 1412 هـ.
(101)
منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل: لأبي عمرو عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ.
(102)
المنخول من تعليقات الأصول: للإمام أبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1419 هـ.
(103)
نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، للحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب، تحقيق د. علي بن غازي التويجري وزملاؤه، دار ابن القيم بالسعودية، ودار ابن عفان بمصر، ط 2، 1429 هـ.
(104)
نهاية السول في شرح المنهاج: لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي، عالم الكتب.
(105)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة شهاب الدين الرملي، ط: الأخيرة، 1404 هـ - 1984 م، دار الفكر، بيروت.
(106) نوازل الزكاة دراسة فقهية تأصيلية لمستجدات الزكاة، د. عبد الله بن منصور الغفيلي، ط: الأولى، الدوحة، 1430 هـ - 2009 م، دار الميمان للنشر والتوزيع، الرياض، القاهرة.
(107)
النوازل في الحج، علي بن ناصر الشلعان، ط: الأولى، 1431 هـ - 2010 م، دار التوحيد للنشر، الرياض.