المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

دراسات في السنة النبوية … الأمور التي ألغاها الإسلام وأنكرها فهي كثيرة - دراسات في السنة النبوية - جـ ٢١

[محمد ضياء الرحمن الأعظمي]

فهرس الكتاب

دراسات في السنة النبوية

الأمور التي ألغاها الإسلام وأنكرها فهي كثيرة جدا يطول بنا القول لو ذكرناها في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والزواج والطلاق والحرب والقتال وغيرها من العادات والتقاليد.

وأما الأمور التي عدلها الإسلام من شريعة الجاهلية فهي كذلك باب واسع مبثوث في كتب الحديث والتفسير والفقه والعقيدة فمن شاء فليرجع إليها.

هذا هو موقف الإسلام الصحيح من الجاهلية لا كما يزعم بعض المخدوعين والدجاجلة الكفرة من أن السنة ليست لها قيمة شرعية ولا منزلة ذاتية بل هي من العادات الجاهلية التي أبقى عليها الإسلام تطييبا لخواطرهم وتعظيما لتقاليدهم فشرع الإسلام بعقائده وعباداته وأحكامه ونواهيه تام أكمله الله من فوق سبع سماوات من غير احتياج إلى العادات والتقاليد. وقد عز الله القائل:

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 1.

أما شبهات شاخت فهي نتيجة لعدم اطلاعه على تاريخ التشريع

ص: 89

الإسلامي فجعل الإمام الشافعي مثلا أول قائل بحجية السنة واستشهد على ذلك ببعض النصوص التي أوردها الإمام في كتابه الأم1حيث يذكر أن الإمام مالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أخذوا بالقياس والرأي في مقابلة السنة في بعض المواضع. ولكن الأمر الذي فات شاخت هو هل هذا الترك كان لعدم وقوفهم على السنة؟ أو لعدم احتجاجهم بالسنة؟ فإذا عجز شاخت عن فهم هذه الأصول فلماذا أقدم على أمر هو بعيد عن إدراكه؟. نحن نجيب عن هذه الأسئلة إن شاء الله ولو بقليل من التفصيل: ونسلك في هذا طريقة المنطقية:

لم يعرف أحد من أئمة أهل السنة الذي قال بعدم حجية السنة ونحن نقيم على هذا أدلة قاطعة من كتب الحديث والفقه وتاريخ المسلمين إن شاء الله تعالى.

فهذا إمام من أئمة أهل السنة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس الذي شدت إليه الرحال وضربت له أكباد الإبل وازدحم الناس حوله، لقد عرف رحمه الله تعالى فقيها ومحدثا وهذا الوصف المطابق لم يزل ملازما الإمام مالك حتى انتقل إلى رحمة الله ورضوانه.

لقد توهم بعض الباحثين فقالوا إن مالكا كان يقدم القياس والرأي في مقابلة السنة، وهذا اتهام وبهتان فقد نقل عبد الوهاب الشعراني على لسان مالك قوله " إياكم رأي الرجال إلا إن أجمعوا عليه واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم وإن لم تفهموا المعنى وسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوا، فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق"2.

وفيه أيضا نقلا عن ابن حزم قوله: "أنه لما حضرته الوفاة قال وددت الآن أني أضرب على كل مسألة قلتها برأي سوطا ولا ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء زدته، في شريعته

1 راجع اختلاف مالك والشافعي ج/7 ص177، كتاب جماع العلم ص250 كتاب الرد على محمد بن الحسن ص277، كتاب إبطال الإحسان ص267.

(2)

الميزان ج1 ص64.

ص: 90

وخالفت فيه ظاهرها"1 ومن هنا أخذ بعض الناس منع رواية الحديث بالمعنى للعارف خوفا أن يزيد الراوي في الحديث أو ينقص.

وقال الإمام مالك في رسالته الخالدة إلى الليث بن سعد2 "وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال"3 ومن منا لا يعرف قول الإمام مالك المشهور: كل يؤخذ بقوله ويرد إلا صاحب هذا القبر (مشيرا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه بعض النصوص حجة صريحة على من يتهم الإمام مالكا. نعم لقد تحير بعض الناس لما وقفوا على موطأ مالك ووجدوا أنه كتاب فقه وحديث، كتاب رواية ودراية، كتاب رأي وفتوى وهو مشهور بين أهل العلم بكتاب السنة، فكيف يجمع هذا في كتاب واحد وفي رجل واحد.

فنقول هذا الانتقاد صحيح في حد ذاته ولكن المدقق البصير لتاريخ التشريع الإسلامي يعثر على شيء جمعه مالك دون غيره وهو اجتماع الرواية والفقه عنده، والسبب في ذلك أن الناس ما كانوا يفرقون بين الرواية والدراية في عصره، فالمحدث هو الفقيه والفقيه هو المحدث لقرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الأمر المعروف في أصول الفقه أن قول الصحابي ينزل منزلة الرفع إذا لم يكن موضع اجتهاد، ولهذا كان من عادة الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية أن يرجعوا إلى كتاب الله أولا ثم إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم إلى قول أصحابه المتفق عليه ثم إلى أقضية الخلفاء الراشدين، هكذا روي عن الإمام أبي حنيفة فإذا وصل إلى رأي التابعين قال هم رجال ونحن رجال.

وقد جاء عن بعض السلف قولهم "إن مالكا جمع بين الحديث والفقه ما لم يجمع غيره قط". قال ابن جرير الطبري أن أحمد بن حنبل لم يكن فقيها

(1) المصدر السابق ص65.

(2)

توفي سنة 175هـ.

(3)

ترتيب المدارك ج1 ص65.

ص: 91

بل إنه كان محدثا ومالك وحده هو المحدث الذي يعد في الرعيل الأول بالإجماع والفقيه البصير بمواضع الفتوى ومصادرها بالإجماع. فهذا كتاب الموطأ الذي يحتوي على ألف وسبعمائة وعشرين حديثا برواية أبي بكر الأبهري قال السيوطي عنه "إن الأحاديث الموصلة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحاح كلها بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين"1. وقال الإمام الشافعي "لا أعلم كتابا في أكثر صوابا من كتاب مالك"2 حتى أن الإمام البخاري الذي يُعد كتابه أصح كتب الحديث وأقواها يعتبر سند مالك في بعض مروياته التي رواها أصح الأسانيد وهو مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وأصح الأسانيد عن أبي داود مالك عن نافع عن ابن عمر ولهذا استغرب الشافعي من مالك مسألة خيار المجلس، والحديث مروي عن مالك عن نافع عن ابن عمر فقال:" لا أدري هل أتهم مالك نفسه أو نافعا"3. فكأنه اعتبر هذا السند من سلسلة الذهب. فهذه شهادات تدل على أنه كان عدلا ضابطا لا مجال للطعن فيه فكيف لأحد أن يعده من منكري السنة وغير المحتجين بها!.

هذه هي منزلة السنة عند مالك من حيث الأصول، وبحثنا مقتصر على الأصول وأما في الفروع فقد تلحقه شبهة وأعذار نذكر منها البعض في باب عمل أهل المدينة إن شاء الله تعالى.

أما من ناحية تقديم القياس على بعض السنة فنقول بعون الله تعالى:

لقد تضافرت الأدلة القاطعة على أن القياس أصل من أصول الفقه الإسلامي ولم يعارضه أحد إلا طائفة من الظاهرية وجماعة من الشيعة وشبهاتهم مذكورة في كتبهم ولا حاجة بنا إلى إعادة ذكرها.

القياس على قسمين: قياس يخالف الكتاب والسنة وهو مردود ومذموم لم يأخذ به أحد، وقياس لا يخالف الكتاب والسنة، وهو إلحاق أمر غير

1على هامش الباعث الحثيث ص32.

2 المصدر السابق ص31.

3 المغني ج3 ص504.

ص: 92

منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لعلة جامعة بينهما. وهو أمر ضروري لا بد منه لوقوع كثرة الحوادث وعدم انتهاء المساءل وإلى هذا أشار معاذ بن جبل وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم1 والعلماء والفقهاء من القرون المشهود لها بالخير إلى يومنا هذا لم يستغنوا عن استعمال المقاييس في أمور دينهم إذا لم يجدوا أمرا صريحا من الشارع لأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، وعلى هذا الأساس فإن مالكا استعمل القياس وقال بما دل عليه قياسه متمسكا بشروطه وآدابه. وكيف لا يقول به مالك وقد قال به رسول الله صلى الله عليه سلم في مواضع كثيرة منها ما يروى عن عمر بن الخضاب قال:"صنعت يا رسول الله أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم"؟ فقلت لا بأس فقال: "فصم" 2 فقاس رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة على المضمضة لأن كلا منهما مقدمة للإفطار فلا ذنب على مالك إن قاس الأمور الحادثة على أصولها.

نعم وقد يظن قياسه مخالفا للسنة الثابتة فما السبب في ذلك؟ فنقول: هناك عدة أعذار عد بينها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وقال: جميع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. ثم فرع الأسباب على تلك الأصناف فجعل السبب الأول هو أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف إن يكون عالما بموجبه كما حصل لعمر وابنه فإنهما كانا ينهيان المحرم عن التطيب قبل الإحرام قبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة ولم يبلغهما

1 أخرجه الترمذي وقال: حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وقال البخاري في التاريخ الكبير: الحرث بن عود بن أخي المغيرة عن أصحاب معاذ عن معاذ روي عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا. جمع الفوائد 4923.

2 أبو داود صوم 33، الدارمي صوم 21 سند أحمد 1/ 21.

ص: 93

حديث عائشة رضي الله عنها أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف، وغيره من الأمثلة الكثيرة ذكرها ابن تيمية1 رحمه الله تعالى وإلى هذا أشار الإمام الشافعي في قوله "لو صح حديث لحوم الإبل قلت به" ذكره الحافظ في التلخيص2 فلماذا لا نحمل مالكا على أحد هذا الأعذار؟ فالأئمة المجتهدون والمحدثون الحاذقون والفقهاء المبصرون كلهم معذورون إذا قالوا شيئا يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هم مأجورون على ذلك. فقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" 3 فتبين أن المجتهد له مع خطئه أجر وذلك لأجل اجتهاده، فإن إحاطة واحد لجميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لا يمكن ادعاؤه حتى أن الخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة وأفقه الفقهاء وباشروا رسول الله سفرا وحضرا لم يكونوا قد بلغوا الكمال في العلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن ميراث الجدة قال مالك في كتاب الله من شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة وشهد له محمد بن مسلمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.

وروي عن عمران بن حصين مثل ذلك. فإذا كان هذا من حال أبي بكر وعمر وابنه الذين شاهدوا التنزيل فأين أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وغيرهم من الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين!

لقد تخبط بعض الباحثين من المستشرقين من أمثال جولد زهير في معنى السنة فظنوا أنها من باب العادات والتقاليد الموروثة من الجاهلية، واستشهدوا على ما ذهبوا إليه ببعض

1رفع الملام ص1.

2 نقلا من تحفة الأحوذي ج1 ص263.

3 خ اعتصام باب 21.

م، اقضية15، واقضية2، حم ج2/187.

ص: 94

العادات التي أبقاها الإسلام من العادات القديمة. وقالوا أن السنة ليست من مصادر التشريع في الإسلام، فإن الأوائل لم يكونوا يرجعون إليها في المسائل الدينية والفتاوى الشرعية حتى ظهر بعض المسلمين في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، ونادوا بحجية السنة، وملأوا كتبهم بالأدلة والبراهين، وممن اشتهر في هذا العصر الإمام الشافعي فإنه قام بالرد على الإمامين السابقين أبي حنيفة ومالك رحمهما الله1.

وأخذ هؤلاء الباحثون ببعض الآثار المروية في هذا الباب، منها قول عمر ابن الخطاب "حسبنا كتاب الله " وحديث حدث به المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله. إنما هو حسوة من النار"2.

وهذا أثر ضعيف بل أوهن من بيت العنكبوت أخذوا به دليلا إلى ما ذهبوا إليه _ وقد قال عبد الرحمن بن مهدي "الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث". وقال محمد بن حزم: "الحسين بن عبد الله ساقط متهم بالزندقة"3 ورد الشافعي والبيهقي هذا الحديث كليا. وبمثل هذه الأحاديث المكذوبة أوردها ابن حزم ورد عليها واحدة بعد واحدة. أما قول عمر بن الخطاب وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى

1 هكذا يريد المستشرق ((شاخت)) أن يرد حجية السنة وسيأتي التفصيل عن هذا إن شاء الله تعالى.

2 الإحكام لابن حزم ج2 ص76.

3 الإحكام لابن حزم ج2 ص76.

ص: 95

الله عليه وسلم هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله1 وفيه قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم2 هذا القول لا يدل على الاستغناء بالسنة لأن عمر ابن الخطاب أراد أن يخفف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ولهذا سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد عاش بعده بأيام ولم يرد على عمر قوله، فلما وجد التخفيف والراحة أملى عليهم كما أخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة:"ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"3. وهذا المعنى يؤيد سلوك عمر بن الخطاب في زمن خلافته فإنه كان يحرص على الأخذ بالسنة، وهذا باب واسع لا أرى الحاجة إلى إيراده.

بمثل هذه الأدلة أخذ منكرو السنة، فمن المستشرقين الذين اشتهروا بهذا الطعن جولد سهير قد قال في دائرة المعارف الإسلامية تحت كلمة (الحديث) وفي كتابه:

(MUHAMMAD STUDY) ج1 ص41 واللفظ من الدائرة "كان السير على سنة الآباء الأولين (السنة هي المنهج القديم المأثور الذي يعتاده المرء في المبادلة والأخذ والعطاء) حتى يعد عند الكفار من العرب فضيلة من الفضائل ولما جاء الإسلام لم تستطع السنة أن تبقى على قديمها وهو اتباع عادات الآباء الكفار وأقوالهم، وكان لا بد للمسلمين من أن ينشئوا لهم سنة جديدة. فأصبح واجبا على المؤمن أن يتخذ من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته مثلا يحتذيه في

1 خ ج 7 ص 104.

2 المصدر السابق.

3 نقلا من فتح الباري ج1 ص186.

ص: 96

جميع أحوال معاشه، ولهذا بذل كل جهد ممكن في سبيل جمع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته1.

فالفكرة التي يريد جولد سهير أن يعطيها لنا هي أن السنة ليس لها قيمة ذاتية نفسية بل جاءت من قبل العادات والتقاليد الجامعية. ولكن الأمر ليس كما يظن المستشرق فسوف نبين خطأ فكره في باب العادات الجاهلية بعون الله تعالى. ثم جاء بعده جوزيف شاخت فجعل السنة وليدة البيئة والمجتمع الإسلامي وعمل الخلفاء، وأنها ليست أمرا ثبتا في القرنين الأول والثاني حتى جاء الإمام الشافعي ونادى بحجية السنة وشن الغارات على منكريها2.

ثم رأيت المرحوم الدكتور السباعي يُورد فصلا كاملا في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) بعنوان ((السنة مع من ينكر حجيتها حديثا)) فأحببت أن ألخص كلامه هنا في أسطر لما فيه من الفوائد لطالب السنة.

يقول المرحوم: "وقد نشرت مجلة المنار للمرحوم السيد رشيد رضا في العددين 7_12 من السنة التاسعة مقالين للدكتور توفيق صدقي تحت عنوان (الإسلام هو القرآن وحده) وشبهته:

أولا _ قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} .

ثانيا _ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة.

ثالثا _ لو كان الحديث حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته.

رابعا _ بعض الآثار المروية التي تدل على بعدم حجية السنة.

تلك هي خلاصة ما أورده الدكتور صدقي من الشبهات حول حجية السنة

1 دائرة المعارف الإسلامية ج7 ص330.

2 هذه هي الفكرة الرئيسية في تأليفه. (MUHAMMADAN JURISPRUDENU)

وخاصة في الباب السابع SUNNA PRACTIEEND LIVING TRADITION) P58.

ص: 97

وقد قام المرحوم الدكتور السباعي بالرد على هذه الشبهات واحدة فواحدة، ولا أريد أن أطيل البحث فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه1 فإنه جاء بجواب مسكت مقحم فجزاه الله خيرا وتقبل سعيه.

فالآن نعود إلى موضوعنا وهو: (مقدار العادات الجاهلية في الإسلام) .

معنى الجاهلية وموقف الإسلام منها:

الجهل لغة: نقيض العلم، يقال جهل فلان جهلا وجهالة، والجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم ومنه المجاهل جمع مجهل.

قال مضرس بن ربعي:

أنا لنصفح عن مجاهل قومنا

ونقيم سالفة العدو الأصيد2

قال الراغب: الجهل على ثلاثة أقسام:

1 _

خلو النفس من العلم ومثاله قول خولة بنت حكيم امرأة عثمان رضي الله عنهما قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول: "والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله" أي يُشغل بهم الآباء عن طلب العلم.

2 _

اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه مثاله: "إن من العلم جهلا. قيل هو أن يعلم ما لا يحتاج إليه من دينه".

3 _

فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أم فاسدا كقوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 3 فجعل فعل الهزو جهلا4.

وقد يأتي الجهل بمعنى ضد الخبر كقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} أي الذي ليس عنده خبرة.

1 السنة ص165.

2لسان العرب ج11 ص129.

3 البقرة: 67.

4 البقرة: 273.

ص: 98

هذه هي معاني كلمة الجاهلية فهل يستطيع جولد سهير ومن معه أن يطبق هذه المعاني على السنة النبوية. فالمنتصح الدقيق يجد الفرق بينهما بينا باعتبار التضاد والتناقض. وقد حذر الشارع من اتباع سنن الجاهلية في مواطن كثيرة.

قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة} 1!

وفي صحيح البخاري عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاث: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلّب دم امرئ بغير حق بهريق دمه". وفي سند الإمام أحمد عن أبي بن كعب عال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" 2 وفي مسلم أيضا عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركهن: الفخر بالأنساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" 3، ومن هذا الباب ما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاّب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما بال دعوى الجاهلية

دعوها فإنها مُنتنة" 4. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنك امرأ فيك جاهلية" 5، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذهب عنكم غبية الجاهلية وفخرها بالآباء:

1 آل عمران: 154.

2 خ تفسير سورة المنافقون.

3 مسلم جنائز 29، حم5/342.

4 خ تفسير سورة المنافقون.

5 خ أدب 44، إيمان22، م إيمان38.

ص: 99

مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونُنّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" 1، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" 2 وغيرها من الأحاديث المروية في كتب السنة التي لا تُعد ولا تُحصى فتدل هذه الأحاديث على تقبيح أمور الجاهلية وذمها، وبالتالي تقتضي المنع من اتباعها. ولهذا قسم العلماء الزمان قسمين: قسم زمن الفترة قبل الإسلام يُسمى فترة الجاهلية، وهي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والتكبر والتجبر. وقسم فترة الإسلام وهو زمن بزغت فيه شمس الإسلام وأشرقت الأرض بنور ربها وخرج الناس من الجاهلية الجهلاء إلى هدى الله وشرعه.

فهل يُعقل بعد هذه النصوص البينة أن يكون اتباع السنة النبوية من باب التقاليد الجاهلية؟ تعالى الله عمّا يقولون.

نعم هناك أمر ضروري لا بد أن عليه ولو بعبارة موجزة وهو أن الإسلام لم يأت بشرع جديد مطلق يخالف شرائع الأنبياء والمرسلين، بل جاء بالملة الحنيفة السمحة التي حرفها أهل الزيغ والضلال. بل أعلن الله تعالى على لسان خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 3 وقال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 4 وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 5 وغيرها من الآيات والآثار.

إذا فما هو موقف الإسلام من أمور الجاهلية وعاداتها؟ فنقول بعون الله تعالى: إن العرب كانوا في الجاهلية

1 أبو داود: أدب 111.

2 مسلم أمارة: 53.

3 الأحقاف: 9.

4 الأنعام: 90.

5 المائدة: 44.

ص: 100

بدو أو شبه بدو لم يكن عندهم قانون مدون ولا قواعد معروفة يرجعون إليها إلا ما حصل عندهم من العرف والتقاليد والتجارب والمعتقدات المحرفة من اليهودية والنصرانية، فجاء الإسلام وأقر بعضا وأنكر على بعض وعدل بعضا إذا وافق اللوح المحفوظ.

مثال ما أقره الإسلام القسامة فقد أخرج مسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله أمر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين أناس من الأنصار1، وصوم يوم عاشوراء، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون صوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق بموسى منكم. فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه"2. وقد أمر الإسلام بقرى الضيف وابن السبيل وحمل الكل وصلة الأرحام والإعانة في نوائب الحق، وهذه الأوصاف كانت تعتبر مزية من مزايا الجاهلية، وغيرها من أمور العبادة والطهارة من الجنابة وخصال الفطرة مثل الختان. ويروى أن أبا ذر كان يصوم ويصلي قبل أن يقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكذلك قس بن ساعدة الإيادي. وكان أهل الجاهلية يحجون بيت الله الحرام ويعظمون شعائره وكان فيهم من يوحد الله مثل ورقة بن نوفل الأسدي من أسد بن عبد العزى وزيد بن عمر وابن نفيل العدوي من عدي بن كعب وعثمان بن الحويرث الأسدي من أسد بن عبد العزى. هؤلاء من قريش وعبيد الله بن الجحش الأسدي من أسد بن خزيمة من حُلفاء قريش. يروى أنهم اجتمعوا مرة يوم عيد لأحد أصنامهم فقالوا: نعلن

1 مسلم قسامة: 7، النسائي قسامة2، حم 5/ 432.

2 البخاري صوم: 69.

ص: 101

والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. هذا حجر لا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء1. ولقد سار عمرو بن لحي الخزاعي إلى بلاد الشام ورأى ما يفعله أهلها من تعظيم التماثيل والتقرب بها فمالت نفسه إلى الاقتداء بهم فأخذ بعض هذه التماثيل وأقامها على الكعبة التي كان هو سادنها ودعى العرب إلى تعظيمها فأجابوه، وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبته (الأمعاء) في النار وقال: "إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي" 2

ومن هنا تتضح لنا بعض الأمور التي أقرها الإسلام بدون تحريف وتبديل، وإلى هذا يشير قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالملة السمحة الحنيفية البيضاء".

1 البداية والنهاية، ج2 ص238.

2 ابن هشام ج1 ص79.

ص: 102