الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فقد مَنَّ الله عليَّ بالتقاط واختيار درر ثمينة من سفر عظيم من أسفار الإسلام ومراجعه العظام في التفسير ألا وهو تفسير الإمام القرطبي رحمه الله الموسوم بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» .
وقمت بتدوينها مذيلًا كل فائدة بذكر رقم الجزء والصفحة، وأحيانًا أنقل الفائدة كاملة وأحيانًا أقوم باختصارها، واكتب بعدها «بتصرف» ، وقد بلغ عدد هذه الدرر المختارة ألف وأربعمائة وإحدى عشرة فائدة، والطبعة التي التقطت منها تلك
الدرر والفوائد هي الطبعة الرابعة الصادرة عن دار الكتاب العربي ببيروت والتي قام بتحقيقها الأستاذ عبد الرزاق المهدي وتاريخها 1422 هـ، وقد منَّ الله عليّ بتقديم هذه الدرر في برنامج أسبوعي أذيع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم خلال ثلاث دورات إذاعية في الأعوام 1442 - 1443 - 1444 هـ.
وقبل البدء في عرض تلك الدرر الثمينة يحسن أن أقف بك أيها القارئ الكريم وقفات موجزة تعريفًا بالكتاب ومؤلفه، وهذه الوقفات من تقريرات عالم كبير وشيخ فاضل سبر أغوار هذا الكتاب وصحبه زمنًا طويلًا وتوج هذه الصحبة بإقامة درس علمي في تفسير القرطبي استمر فيه اثنان وعشرون عامًا حيث ابتدأ في عام 1411 هـ وختمه في عام 1433 هـ بفضل الله وتوفيقه وهو فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير حفظه الله تعالى، وقد جمعت هذه الوقفات من خلال اللقاء الذي نظمه مركز تفسير للدراسات القرآنية بعنوان:(تجربتي في تدريس تفسير الإمام القرطبي خلال 22 سنة والتي كانت بتاريخ 28/ 2/ 1435 هـ)، وكذلك من خلال الدرس الأول من التعليق الثاني على تفسير القرطبي بتاريخ 8/ 5/ 1443 هـ.
فإلى أولى هذه الوقفات:
1 -
هذا التفسير من أعظم التفاسير إذا استثنينا التفسير بالمأثور للطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم مما يعنى بالأثر والرواية وتفسير كلام الله تعالى بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وقد اشتمل على بيان
الأحكام المستنبطة من كتاب الله تعالى، وفيه بيان اللغات والقراءات وفيه فوائد عظيمة لا توجد في غيره فهو أعظم كتاب تفسير في آيات الأحكام وهو يستنبط من الآيات ما قرب وما بعد ويفرع على الآية ويستنبط من الآية مسائل كثيرة جدًا، ويستوعب الأقوال في المسألة ويذكر النوازل والفتاوى الغريبة والقصص المحتفة بهذه المسائل فهو يحشد كل ما يستطيع حشده.
2 -
ومع تعدد وتنوع مشارب المفسرين نرى أن هذا التفسير من أهمها ومن أكثرها فائدة لطلاب العلم مع أنه لم يهمل جانب الأثر ففيه ما يزيد على عشرة آلاف حديث.
3 -
وهذا التفسير في منظومة تفسير آيات الأحكام، وآيات الأحكام صنف فيها على مختلف المذاهب الفقهية، وتفسير القرطبي أوسع هذه التفاسير وأشملها لأن كتب أحكام القرآن لا تفسر جميع الآيات وإنما تفسر ما يشتمل على حكم من أحكام القرآن؛ حكم عملي فقهي.
ومما أولاه القرطبي عناية فائقة الأحكام والمباحث الفقهية حتى كأنك تقرأ في كتاب فقه ومن أوسع كتب الفقه، ويذكر في الآية الواحدة من المسائل العشرات، ذكر في آية الدين ستين مسألة، وذكر في غيرها كثير.
4 -
هذا التفسير لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح القرطبي المالكي الأنصاري الخزرجي رحل إلى المشرق واستوطن ببنية ابن خُصَيب في مصر، وعاش رحمه الله عالمًا معلمًا زاهدًا ورعًا مستقلًا عن الدنيا، وأثر الزهد
ظاهر في كتابه، ففيه نفس الوعظ والاهتمام بالرقائق فما تمر مناسبة إلا ويأتي بكلام يلامس القلوب وله في هذا الباب مؤلفات، توفي رحمه الله سنة إحدى وسبعين وستمائة قبل ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية بعشر سنوات، له من المصنفات: هذا التفسير العظيم الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، وله: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، وله أيضًا: التذكار في أفضل الأذكار، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى، وله كتب أخرى منها المطبوع وبعضها غير مطبوع.
5 -
وهذا الكتاب أعني تفسير القرطبي على جلالة قدره وعظيم فائدته ينقصه تحقيق مسائل الاعتقاد ولاسيما مسائل الصفات فهو على طريقة الأشعرية وأيضًا فيه ضعف من الناحية الحديثية فهو يشتمل على أكثر من عشرة آلاف حديث لكنه لا يميز بين الصحيح والسقيم وقد يكون الحديث في البخاري ويخرجه من ابن ماجه، وقد يكون في مسلم ويخرجه من نوادر الأصول للحكيم الترمذي، وفيه شيء من الإسرائيليات ولكنها قليلة بالنسبة لغيره من التفاسير.
6 -
والكتاب مليء بالعلم وخفيف في القراءة للتنوع الذي فيه ولهذا كله عنيت بطبعه دار الكتب المصرية وريثة مطبعة بولاق وعنايتها في اللغة والأدب والتواريخ ويندر أن تطبع كتابًا شرعيًا، لكن لكثرة مباحثه اللغوية وكثرة الأشعار كأنك تقرأ في ديوان من دواوين العرب، وينقل عن أئمة اللغة نُقُولٌ، طالب العلم بأمس الحاجة إليها.
7 -
والكتاب حظي بطبعات نفيسة فكان هذا من أسباب تقديمه على غيره، ومن أفضل الطبعات الحديثة طبعة مؤسسة الرسالة بإشراف د/ عبد الله التركي، وهي طبعة جيدة ولا أقول إنها مئة بالمئة، لكن أنا -الشيخ الخضير- ما زلت متعلقًا بالطبعات القديمة فالكتاب مخدوم خدمة تامة.
الأمر الثاني: فيه من العلم أنواع الفنون والعلوم وفيه من الطرائف وأشياء مخبر الكتاب أعظم مما نذكره أو نقوله، وترتيب المسائل فيه يجذب طالب العلم وطباعته في دار الكتب المصرية أيضًا مغرية للقراءة.
وعلى كل حال: الكتاب يحتاج إلى الاهتمام وعناية من طالب العلم وينتقي له نسخة من النسخ التي فيها الإحالات وفيها التعليقات.
وبعد استعراض هذه الوقفات، ندلف بك أيها القارئ الكريم إلى تلك الدرر من تفسير الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-.
أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا صالحًا ولوجهه خالصًا وأن يجعله حجة لنا لا علينا. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحمد بن صالح بن عمر بن مرشد
في مدينة الرياض
4/ 4/ 1444 هـ
ahmd577@gmail.com
(1)
الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الصمد الواحد الحي القيوم الذي لا يموت ذو الجلال والإكرام والمواهب العظام والمتكلم بالقرآن والخالق للإنسان والمنعم عليه بالإيمان والمرسل رسوله بالبيان محمدًا صلى الله عليه وسلم ما اختلف الملوان وتعاقب الجديدان. [1/ 27]
(2)
فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ويتذكر ما شرح له فيه ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحييه فإنه قد حُمل أعباء الرسل وصار شهيدًا في القيامة على من خالف من أهل الملل. [1/ 28]
(3)
فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عبارته ويتفهم عجائبه ويتبين غرائبه قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ويتدبره حق تدبره. [1/ 28]
(4)
وبعد: فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن اشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه مُنَتي -أي قوتي- بأن أكتب فيه تعليقًا وجيزًا يتضمن نكتًا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام
ونزول الآيات جامعًا بين معانيهما ومبينًا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف وعملته تذكرة لنفسي وذخيرة ليوم رَمْسِي وعملًا صالحًا بعد موتي
…
وسميته بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» . جعله الله خالصًا لوجهه وأن ينفعني به ووالديّ ومن أراد بمنه إنه سميع الدعاء قريب مجيب آمين. [1/ 29 - 30] بتصرف
(5)
وينبغي له -حامل القرآن- أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا. [1/ 54]
(6)
ذكر ابن أبي الحواري قال: «أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول فقال بعض القوم: إن كان خارجًا لشيء فسيخرج لتلاوة القرآن فأمرنا قارئًا فقرأ فاطلع علينا من كوة فقلنا: السلام عليك ورحمة الله؛ فقال: وعليكم السلام؛ فقلنا: كيف أنت يا أبا علي وكيف حالك فقال: أنا من الله في عافية ومنكم في أذى وإن ما أنتم فيه حدث في الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما هكذا كنا نطلب العلم، ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلًا للجلوس معهم فنجلس دونهم ونسترق السمع فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه
وأنتم تطلبون العلم بالجهل وقد ضيعتم كتاب الله ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون قال: قلنا قد تعلمنا القرآن قال: إن في تعلمكم شغلًا لأعماركم، وأعمار أولادكم قلنا كيف يا أبا علي؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 57 - 58]». [1/ 55]
(7)
قال إياس بن معاوية: «مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب» . [1/ 10]
(8)
قال أبو عمر: روي من وجوه فيها لين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة: الإمام المقسط وذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه» ، وقال أبو عمر:«وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه والعاملون بما فيه» . [1/ 60]
(9)
ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة الغراء:
إن العلوم وإن جلت محاسنها
…
فتاجها ما به الإيمان قد وجبا
هو الكتاب العزيز الله يحفظه
…
وبعد ذلك علم فرج الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه
…
نور النبوة سن الشرع والأدبا
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها
…
فاختر لنفسك يا من آثر الطلبا
والعلم كنز تجده في معادنه
…
يا أيها الطالب ابحث وانظر الكتبا
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت
…
كل العلوم تدبره تر العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن
…
مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا
من ذاق طعمًا لعلم الدين سُرَّ به
…
إذا تَزَيَّد منه قال واطربا
[1/ 76]
(10)
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال:
الأول: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم
…
قال الطحاوي: «إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى مشتقًا فكانوا كذلك حتى كثر
منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها».
قال ابن عبدالبر: «فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد» . [1/ 77 - 78](بتصرف)
(11)
الصحيح من هذه الأقوال قول مالك -في البسملة أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها- لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه قال ابن العربي: «ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يختلف فيه» . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليس بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. [1/ 130]
(12)
وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده. [1/ 149]
(13)
في أسمائها- أي الفاتحة- وهي اثنا عشر اسمًا:
الأول: الصلاة قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
…
» الحديث. الثاني: سورة الحمد. الثالث: فاتحة الكتاب. الرابع: أم
الكتاب. الخامس: أم القرآن. السادس: المثاني. السابع: القرآن العظيم. الثامن: الشفاء. التاسع: الرقية. العاشر: الأساس. الحادي عشر: الوافية. الثاني عشر: الكافية. [1/ 149 - 152] بتصرف
(14)
قال المهلب: «إن موضع الرقية منها إنما هو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]» ، وقيل: السورة كلها رقية لقوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما أخبره: «وما أدراك أنها رقية؟» ، ولم يقل أن فيها رقية؛ فدل على أن السورة بأجمعها رقية؛ لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ومتضمنة لجميع علومه. [1/ 152]
(15)
اختلفوا أهي مكية أم مدنية
…
والأول أصح لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} [الحجر: 87]، والحِجر مكية بإجماع ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]. [1/ 154] بتصرف
(16)
والصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم. [1/ 160]
(17)
من تعذر ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شيء من القرآن ولا علق منه بشيء لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر فيه الإمام فقد روى أبو داود وغيره
عن عبدالله بن أبي أوفى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» . قال: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: «قل اللهم ارحمني وعافني وأهدني وارزقني» .
فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله وعليه أبدًا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله. [1/ 168]
(18)
ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] آمين ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن.
- ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمن الإمام فأمّنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث الأول: تأمين الإمام. الثانية: تأمين من خلفه. الثالثة: تأمين الملائكة. الرابعة: موافقة التأمين. قيل في الإجابة وقيل: في الزمن وقيل: في الصفة من إخلاص الدعاء لقوله عليه الصلاة والسلام: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ» . [1/ 169]
(19)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين» قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمدٌ لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين. [1/ 175] بتصرف
(20)
من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2].
الحمد في كلام العرب معناه: الثناء الكامل والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلى والحمد أعم من الشكر والمُحمد الذي كثرت خصاله المحمودة.
قال الشاعر:
إلى الماجد القرم الجواد المحمد
وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشاعر:
فشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد؛ لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة.
وقيل: الحمد أعم؛ لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح وهو أعم من
الشكر؛ لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)} [المؤمنون: 28]. وقال إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39]. وقال في قصة داود وسليمان عليهما السلام: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)} [النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] وقال أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]. {دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10] فهي كلمة كل شاكر.
قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان وعلى هذا الحدّ قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفًا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. [1/ 177 - 179]
(21)
قال شقيق بن إبراهيم في تفسير {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال هو على ثلاثة أوجه: أولهما: إذا أعطاك الله شيئًا تعرف من أعطاك. والثاني: أن ترضى بما أعطاك. والثالث: ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه فهذه شرائط الحمد. [1/ 179]
(22)
فمعنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، أي سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة وحمدي الخلق مشوب بالعلل قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده حمد نفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محل العجز عن حمده ألا ترى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم كيف أظهر العجز بقوله: «لا أحصي ثناء عليك» .
وأنشدوا:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح
…
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وقيل: حمد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم لتكون النعمة أهنأ لديهم حيث أسقط عنهم به ثقل المنة. وقيل إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها لِيُعَلِّمَ ذلك عباده فالمعنى على هذا قولوا: الحمد لله قال الطبري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله. [1/ 179 - 181] بتصرف
(23)
قال بعض العلماء: إن هذا الاسم (الرب) هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرها.
ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال. [1/ 182]
(24)
متى أُدخلت الألف واللام على (رب) اختص الله تعالى به لأنها للعهد وإن حذفتا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك وهو خالق ذلك ورازقه وكل رب سواه غير خالق ولا رازق وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن ومنتزع ذلك من يده وإنما يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين. [1/ 182].
(25)
قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3].
وصف نفسه تعالى بعد {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} ؛ لأنه لما كان في اتصافه ب {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} ترهيب قرنه ب: الله {الرَّحْمَنِ} لما تضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49 - 50]، وقال:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» . [1/ 184]
(26)
من قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4].
اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم؛ وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم وليلة ليلاء
…
{الدِّينِ (4)} الجزاء على الأعمال والحساب بها ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] أي حسابهم وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] و {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} [الجاثية: 28]، وقال:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون.
وقال لبيد:
حصادك يومًا ما زرعت وإنما
…
يُدان الفتى يومًا كما هو دائن
وقال آخر:
واعلم يقينا أن ملكك زائل
…
واعلم بأن كما تدين تدان
[1/ 188 - 189] بتصرف
(27)
من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
إن قيل: لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قُدم اهتماما وشأن العرب تقديم الأهم.
يذكر أن أعرابيا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه؛ فقال له الساب: إياك أعني، فقال له الآخر: وعنك أعرض فقدّما الأهم. [1/ 190]
(28)
من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].
{اهْدِنَا} دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك.
قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعًا في هذه السورة نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به وفي الحديث:«ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» . [1/ 191]
(29)
سورة البقرة فضلها عظيم وثوابها جسيم ويقال لها فسطاط القرآن. قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة وابنه عبد الله في ثمان سنين.
قال ابن العربي: «سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا وهم ذوو عدد وقدّم عليهم أحدثهم سنًا لحفظه سورة البقرة» . وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرأوا سورة البقرة فإن
أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» قال معاوية بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» وروى الدارمي عن عبد الله قال: «ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط» وقال: «إن لكل شيء سنامًا وإن سنام القرآن سورة البقرة وإن لكل شيء لُبابًا وإن لباب القرآن المفصل» وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء سنامًا وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلًا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارًا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» . قال أبو حاتم البستي قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» : «أراد: مردة الشياطين» . وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال: قال عبدالله: «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يُصبح أربعًا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثًا خواتيمها أولها «لله ما في السموات» وعن الشعبي عنه: «لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يُقرآن على مجنون إلا أفاق» وقال المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبدالله: «لم ينس القرآن» . وقال إسحاق بن عيسى: «لم ينس ما قد حفظ»
…
وفي كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر «وكان لبيد بن ربيعة من شعراء الجاهلية أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في
الإسلام وسأله عمر في خلافته من شعره واستنشده فقرأ سورة البقرة فقال: إنما سألتك عن شعرك فقال: ما كنت لأقول بيتًا من الشعر بعد إذا علمني الله البقرة وآل عمران». [1/ 197 - 199] بتصرف
(30)
من قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2].
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيًا عن التقوى فقال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت قال: فذاك التقوى وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:
خل الذنوب صغيرها
…
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر
…
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
…
إن الجبال من الحصى
التقوى فيها جماع الخير كله وهي وصية الله في الأولين والآخرين وهي خير ما يستفيده الإنسان كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حُفظ عنك شيء فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه
…
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
…
وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» . [1/ 208]
(31)
وروى حجاج بن حجاج الأحول ويلقب بِزِقِّ العسل قال سمعت قتادة يقول: «يا بن آدم إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السآمة والفترة والملة ولكن المؤمن هو المتحامل والمؤمن هو المتقوِّي والمؤمن هو المتشدد وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية» . [12/ 208]
(32)
من قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3].
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله» . قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة: وأيُّ رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. [1/ 226]
(33)
قيل: الإيمان بالغيب حظ القلب وإقام الصلاة حظ البدن ومما رزقناهم ينفقون حظ المال وهذا ظاهر. [1/ 226]
(34)
من قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].
وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحَمَيَّة والإنكار. [1/ 232]
(35)
الختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق سبحانه- مفهوم مخاطباته والفكر في آياته وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دُعوا إلى وحدانيته وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم. [1/ 233]
(36)
من قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].
فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح والقلب للإنسان وغيره، وخالص كل شيء وأشرفه قلبه فالقلب موضع الفكر وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبًا إذا رددته على بداءته وقلبت الإناء: رددته على وجهه ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه ولترددها عليه كما قيل:
ما سمي القلب إلا من تقلبه
…
فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه تفريقًا بينه وبين أصله روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة» ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك» ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به. [1/ 234]
(37)
قال الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم
…
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
[1/ 256]
(38)
قال الشاعر:
وقد جعلتُ أرى الاثنين أربعة
…
والواحد اثنين لما هدني الكبر
[1/ 271]
(39)
من قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25].
أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم وقال عكرمة يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. وقال ابن عباس: هذا على وجه التعجب وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: «خيارًا لا رذل» . [1/ 282]
(40)
القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر قال الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] وقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1] يعني في الموضعين (قلبك) وقد يعبر عنه عن الفعل. قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [سورة ق: 37] أي عقل لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين والفؤاد محل القلب والصدر محل الفؤاد والله أعلم. [1/ 236]
(41)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «نسي آدم عهد الله فسمي إنسانًا» . وقال عليه الصلاة والسلام: «نسي آدم فنسيت ذريته» ، وفي التنزيل:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وعلى هذا فالهمزة زائدة قال الشاعر:
لا تنسين تلك العهود فإنما
…
سميت إنسانًا لأنك ناسي
وقيل: سمي إنسانًا لأنسه بحواء.
وقيل: لأنسه بربه فالهمزة أصلية.
قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه
…
ولا القلب إلا أنه يتقلب
[1/ 239]
(42)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11].
والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. [1/ 248]
(43)
قال بعضهم:
إذا ما علا المرء رام العلا
…
ويقنع بالدون من كان دونا
[1/ 275]
(44)
الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان. [1/ 287]
(45)
من قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27].
واختلف ما الشيء الذي أَمَر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام وقيل: أمر أن
يوصل القول بالعمل فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض وإقامة شرائعه وحفظ حدوده فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل هذا قول الجمهور. [1/ 288]
(46)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد. [1/ 293]
(47)
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم وقال في تنزيله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعًا لعذره وحجة عليه ليكون له عبدًا كما خلقه عبدًا فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه كما قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ: 39] وقال: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «سبقت رحمتي غضبي يا بن آدم أنفق أنفق عليك يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيءٌ الليل والنهار» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان
فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفًا». وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضًا وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله فمن استنار صدره وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته وانقطعت مشيئته لنفسه فهذا يُعطي من يُسره وعُسره ولا يخاف إقلالًا وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء فإذا أَعطى اليوم وله غدًا مشيئته في شيء خاف ألا يصيب غدا فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفحي أو أنضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك» وروى النسائي عن عائشة قالت: «دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرتُ له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك قلت نعم قال مهلا يا عائشة: لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك» . [1/ 293 - 294]
(48)
ذكر عبدالرزاق عن عمر بن حبيب بن عمرو بن المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال: «جاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال الرجل: فمم خلق هؤلاء! قال: لا أدري قال: ثم أتى الرجل عبدالله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو قال: فأتى الرجل عبدالله بن عباس
فسأله فقال: مم خلق الخلق؟ قال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبد الله بن عباس: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولًا أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ثم جعله أصلًا لما خلق بعد فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه سبحانه جل وعز». [1/ 298 - 299]
(49)
روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن الخبيث والطيب» . قال أبو عيسى: «هذا حديث حسن صحيح» .
أديم: جمع أَدَم.
قال الشاعر:
الناس أخياف وشتى في الشيم
…
وكلهم يجمعهم وجه الأدم
[1/ 322]
(50)
من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].
في البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون
يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء» الحديث.
قال ابن خويز منداد: «في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفًا وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلًا» . وكذلك قال ابن عباس: «علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب» . [1/ 323]
(51)
من قوله قال: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
الواجب على من سُئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم، ولا أدري؛ اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم فيبقى ناس جهال يُستفتون فيفتون برأيهم فيضِلون ويُضلون
…
وقال الصديق للجدة: «ارجعي حتى أسأل الناس» . وكان علي يقول: «وأبردها على الكبد» ثلاث مرات، قالوا: وما ذلك يا أمير المؤمنين! قال: «أن يُسأل الرجل عما لا يعلم» ، فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: «لا علم لي بها» ، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر:«نِعْمَ ما قال ابن عمر، سُئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي به» . ذكره الدارمي في مسنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بُهيّة قال: «كنت جالسًا عند القاسم بن عبيدالله ويحيى بن سعيد فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يُسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا
يوجد عندك منه علم ولا فرج أو علم ولا مخرج، فقال له القاسم: وعمّ ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هُدى: ابن أبي بكر وعمر، قال يقول: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ من غير ثقة فسكت فما أجابه، وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلًا في أيديهم فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري.
وذكر الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري» . [1/ 326 - 327]
(52)
روى يونس بن عبدالأعلى قال سمعت ابن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: «ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف» .
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فينا الفساد وكثر فيه الطَّغَام! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى.
وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: «لما رحلت إلى المشرق ونزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد فقرأت عليه فيه يومًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قدم عليه قوم من مضر من
مجتابي النمار» فقال: «إنما هو مجتابي الثمار» ، فقلت: إنما مجتابي النمار هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق؛ فقال لي: «بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا ثم قال لي قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد- فإن له بمثل هذا علمًا فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار» كما قلت وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم والنمار جمع نمرة فقال بكر بن حماد: وأخذ بأنفه رغم أنفي للحق رغم أنفي للحق وانصرف. وقال يزيد بن الوليد بن عبدالملك فأحسن».
إذا ما تحدثت في مجلس
…
تناهى حديثي إلى ما علمت
ولم أعد علمي إلى غيره
…
وكان إذا ما تناهى سكت
[1/ 328]
(53)
وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} [سورة ص: 76]، {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)} [الإسراء: 61]، {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)} [الحجر: 33] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئًا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم كان حكُمه حكَمه وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: «بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر حسد إبليس آدم وشح آدم في أكله من الشجرة» .
وقال قتادة: حسد إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناريٌّ وهذا طيني وكان بدء الذنوب الكبر ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه. [1/ 338]
(54)
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالًا على ولايته خلافًا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه وليّ إذ لو لم يكن وليًا ما أظهر الله على يديه ما أظهر ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا وإذا لم يُعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى لأن الولي لله تعالى مَنْ عَلم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان عُلم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله. [1/ 339]
(55)
قال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشًا فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها فلما انتبه رآها فقال من أنت؟! قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي وهو معنى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] قال العلماء ولهذا كانت المرأة عوجاء لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع- في رواية- وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه- لن يستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها» .
وقال الشاعر:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
…
ألا إن تقويم الضلوع إنكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى
…
أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
[1/ 343]
(56)
من قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36].
قرأ الجماعة {فَأَزَلَّهُمَا} بغير ألف من الزلة وهي الخطيئة، أي: استزلهما وأوقعهما فيها.
وقرأ حمزة {فَأَزَالَهُمَا} بألف من التنحية أي نحاهما، يقال: أزلته فزال. قال ابن كيسان: «فأزالهما من الزوال أي حرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية» .
قراءة الجماعة أمكن في المعنى يقال منه: أزللته فزل ودل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20]. والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان
إنما قدرته على إدخاله في الزلل؛ فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه. [1/ 352]
(57)
الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله لقوله: «اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل» فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام ولأن نوع الحيات غالبه الضرر فيستصحب ذلك فيه ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس والنفرة عنه.
ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام» وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها قالوا ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أولا، قاله ابن نافع، وقال مالك:«نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد وهو الصحيح»
…
وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يُحَرَّج عليه وينذر
…
قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام وقاله عيسى بن دينار وإن ظهر في اليوم مرارًا ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام وقيل: يكفي ثلاث مرار
…
قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول:
أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. [1/ 356 - 358] بتصرف.
(58)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل وزعْة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك» ، وفي رواية أنه قال:«في أول ضربة سبعون حسنة» . [1/ 360]
(59)
وسجستان أكثر بلاد الله حيات ولولا العربد
(1)
الذي يأكلها ويفنى كثيرًا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات ذكره أبو الحسن المسعودي. [1/ 362]
(60)
من قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36].
لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وَقَبِلَ توبته وإنما أهبطه إما تأديبًا وإما تغليظًا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت
(1)
العربد: حية تنفخ ولا تؤذي.
الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} . [1/ 362]
(61)
سئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وقال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. [1/ 366]
(62)
من قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
إن قيل لم قال {عَلَيْهِ} ولم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [الأعراف: 19] و {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] فالجواب أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله: {اسْكُنْ} خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضًا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121] وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف: 75] وقيل: إنه دلّ بذكر التوبة عليه أن تاب عليها إذ أمرهما سواء قاله الحسن وقيل: إنه مثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أي التجارة؛
لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. [1/ 366]
(63)
من قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة: 38].
فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم. [1/ 370]
(64)
من قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41].
اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية وما كان في معناها
…
وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس- حديث الرقية-: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانًا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن. [1/ 374 - 375] بتصرف
(65)
روى الدارمي في مسنده
…
أخبرنا الضحاك بن موسى قال: مر سليمان بن عبدالملك بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أيامًا فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه ..... قال له سليمان: ارفع إلينا حوائجك قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة قال له سليمان ليس ذاك إلي! قال له أبو حازم: فما لي إليك حاجة غيرها قال: فادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى قال له سليمان قط! قال أبو حازم: قد أوجزتُ وأكثرتُ إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر قال له سليمان: أوصني قال: سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير قال: فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلًا وما أرضاها لك فيكف أرضاها لنفسي
…
فإن كانت هذه المائة دينار عوضًا لما حدثتُ فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه وإن كانت لِحقٍ في بيت المال فلي فيها نظراء فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.
قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضًا ولا على وصيته بدلا
ولا على نصيحته صفدًا بل بَيَّنَ الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان» ، وفي التنزيل:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. [1/ 378 - 380] بتصرف
(66)
من قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42].
اللبس: الخلط لبست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بَيِّنَه بمشكله وَحَقَّه بباطله. قال تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام: 9] وفي الأمر لُبْسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله.
وقالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبه
…
رشدًا وهيهات فانظر ما به التبسا
صَدِّق مقالته واحذر عداوته
…
والبس عليه أمورًا مثل ما لبسا
وقال العجاج:
لما لَبَسن الحق بالتجني
…
غنين واستبدلن زيدًا مني
[1/ 380]
(67)
من قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد
…
وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي.
وقيل: أصلها الثناء الجميل؛ ومنه زَكَّى القاضي الشاهد. فكأن من يُخرج الزكاة يُحَصِّل لنفسه الثناء الجميل وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال. فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس وقد قال تعالى: «{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]» . [1/ 382 - 383] بتصرف
(68)
ولا تعاد الضعيف عَلَّك أن
…
تركع يومًا والدهر قد رفعه
[1/ 384]
(69)
الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعًا يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثًا وذلك أدناه. [1/ 385]
(70)
روى البخاري عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلًا لا يتم الركوع ولا السجود فقال: ما صليت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم. [1/ 388]
(71)
من قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].
اعلم وفقك الله أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون
بها وبخهم به توبيخًا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية.
وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قومًا يأمرونا
…
بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم
…
لم يكونوا يُصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
…
وريح الخطايا من ثيابك تسطع
وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحِيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير فسكت حتى طال سكوته فناداه رجل كان يُعرف بأبي العباس ترى أن تقول في سكوتك شيئًا؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
…
طبيب يداوي والطبيب مريض
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2]، وقوله:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وقال مسلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ
…
يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقًا
…
أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله
…
يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على من ترى
…
يناله الأبيض والأسود
وقال الحسن لمطرف بن عبدالله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل قال يرحمك الله: وأينا يفعل ما يقول! يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء! [1/ 410 - 411] بتصرف
(72)
من قوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44].
أي: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم، والعقل: المنع ومنه عقال البعير؛ لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية؛ لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ومنه اعتقال البطن واللسان، ومنه يقال للحصن: مَعقِل. والعقل: نقيض الجهل. [1/ 412].
(73)
من قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: {وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] يقال فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل قال النحاس: ولا يقال لمن صبر
على المصيبة صابر إنما يقال صابر على كذا فإذا قلت صابر مطلقًا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].
وخص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهًا بذكرها وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم وقيل بنت له وهو في سفر فاسترجع وقال عورة سترها الله ومؤونة كفاها الله وأجر ساقه الله ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
والصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان: الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك.
وقال الشعبي: «قال علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد» .
قال الطبري: «وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به» . [1/ 414 - 415] بتصرف
(74)
من قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45].
اختلف المتأولون في عود الضمير في قوله: {وَإِنَّهَا} فقيل: على الصلاة
وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم والصبر هنا الصوم.
وقيل: عليهما ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة.
وقيل: إن الصبر لما كان داخلًا في الصلاة أعاد عليهما.
وقيل: على العبادة التي يقتضيها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقيل: على المصدر وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله: {وَاسْتَعِينُوا} .
وقيل: على إجابة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه
…
و {لَكَبِيرَةٌ} معناه: ثقيلة شاقة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} فإنها خفيفة عليهم.
(75)
من قوله تعالى: {الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45].
الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع.
وقال قتادة: «الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة» .
ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال: «يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب» .
وقال علي بن أبي طالب: «الخشوع في القلب وأن تُلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك» . ا. هـ.
فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقًا على نفاق.
قال سهل بن عبدالله: «لا يكون خاشعًا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23]» .
قلت: وهذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقًا متأدّبًا متذللًا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلّفه والتباهي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال لِيُرَوا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان.
روى الحسن أن رجلًا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكًا صادقًا وخاشعًا حقًا.
وروى ابن أبي نجيم عن مجاهد قال: «الخاشعون هم المؤمنون حقًا» . [1/ 417 - 418] بتصرف
(76)
إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف
العقاب ويرجو النجاة، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا ينجو أحد إلا برحمة الله» ، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» . [1/ 423]
(77)
من قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} [البقرة: 48].
وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر؛ لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يُشفع له أو يُنصر أو يُفتدى. [1/ 424]
(78)
من قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة: 49].
{نَجَّيْنَاكُمْ} : ألقيناكم على نجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، هذا هو الأصل، ثم سمي كل فائز ناجيًا، فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة.
(79)
من قوله تعالى: {آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46].
{آلِ فِرْعَوْنَ} : قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم: من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبًا له أو لم يكن، ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافًا للرافضة حيث قالت: إن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط دليلنا قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50]، {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، أي آل دينه إذ لم
يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبًا له ولأجل هذا يقال: إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة. [1/ 424]
(80)
من قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} [البقرة: 49].
قال أبو الهيثم: البلاء يكون حسنًا ويكون سيئًا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره. [1/ 428]
(81)
من قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50].
البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال: فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة «وإن وجدناه لبحرًا» . [1/ 429]
(82)
من قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51].
إن قيل: لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة؛ ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها. [1/ 437]
(83)
من قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 52].
العفو: عفو الله عز وجل عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف
الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك: عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]. [1/ 438]
(84)
من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} [البقرة: 52].
وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قوله: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه
…
وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» .
(85)
من قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل إماتة الحركة وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عيينة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل
وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري: لما قيل لهم {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي. [1/ 441 - 442] بتصرف
(86)
وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم- على القول الأول- لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب» أخرجه ابن ماجه في سننه
…
فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفًا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنه وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة. [1/ 442]
(87)
من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57].
اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال: فقيل: الترنجبين بتشديد الراء وتسكين النون ويقال الطرنجبين وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل: صمغة حلوة وقيل عسل وقيل شراب حلو وقيل: خبز الرقاق. وقيل: المن مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل «الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» في رواية له «من المن الذي أنزل الله على موسى» رواه مسلم قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي مِنَّة أي من جنس مَنّ بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف
…
لما نص عليه الصلاة والسلام على أن «ماء الكمأة شفاء للعين» قال بعض أهل العلم بالطب إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتًا في جميع مرض العين.
{وَالسَّلْوَى} اختلف في السلوى فقيل هو السُّماني بعينه وقيل: العسل وقال بعضهم السلوان: دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المُفَرِّح. [1/ 446، 447] بتصرف
(88)
من قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58].
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديل بما يخرج عنه. [1/ 451]
(89)
من قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)} [البقرة: 58].
والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. [1/ 454].
(90)
من قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59].
وذلك أنهم قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة
…
فزادوا حرفًا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر هذا في تغيير كلمة هي عبارة التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود! هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل. [1/ 455]
(91)
من قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60].
وقد كان تعالى قادرًا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمةً منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. [1/ 459]
(92)
من قوله تعالى: {وَقِثَّائِهَا} [البقرة: 61].
روى ابن ماجه
…
عن عائشة قالت: «كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت
القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة»، وهذا إسناد صحيح. [1/ 463].
(93)
من قوله تعالى: {وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61].
اختلف في الفوم فقيل هو الثوم وقيل الفوم الحنطة رُوي عن ابن عباس وأكثر المفسرين.
(94)
من قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61].
والذلة: الذل والصغار، والمسكنة: الفقر فلا يوجد يهودي وإن كان غنيًا خاليًا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. [1/ 468]
(95)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65].
{فِي السَّبْتِ} معناه: في يوم السبت ويحتمل أن يريد في حكم السبت والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال
…
والسبت
مأخوذ من السبت وهو القطع فقيل: إن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها وقيل مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة. [1/ 478] بتصرف
(96)
من قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: 65].
قال قتادة: «صار الشبان قردة والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذي نَهوا، وهلك سائرهم» . وسيأتي في الأعراف قول من قال إنهم كانوا ثلاث فرق وهو أصح من قول من قال: «إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين» . والله أعلم.
وقال الجمهور: الممسوخ لا يَنْسُل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك؛ والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل لأنهم قد أصابهم السخط والعذاب فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام
…
قلت: هذا الصحيح من القولين. [1/ 479]
(97)
من قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 66].
قال الخليل: «الوعظ التذكير بالخير فما يرق له القلب» .
قال الماوردي: «وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين» .
قال ابن عطية: «واللفظ يعم كل متق من كل أمة» .
وقال الزجاج: «{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حُرَمِ الله جل وعز ما نهاهم عنه فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم. [1/ 482]
(98)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
قال الماوردي: وإنما أمروا -والله أعلم- بذبح بقرة دون غيرها لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة وليس بعلة في جواب السائل ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها. [1/ 483]
(99)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «من أراد العلم فليثور القرآن» . قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومناقشة العلماء به. [1/ 484]
(100)
من قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67].
في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلًا تقدم إلى عبيد الله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي! فقال له عبيد الله: وأين وجدت المزاح جهلًا! فتلا عليه هذه الآية؛ فأعرض عنه عبيد الله لأنه رآه جاهلًا لا يعرف المزح من الاستهزاء وليس أحدهما من الآخر بسبيل. [1/ 485]
(101)
من قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69].
واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون: النوع وفلان متلون. إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، قال الشاعر:
كل يوم تتلون
…
غير هذا بك أجمل
ولَوَّن البسر تلوينا: إذا بدا فيه أثر النضج. واللون: الدَّقَل وهو ضرب من النخل. [1/ 487]
(102)
من قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)} [البقرة: 69].
قال وهب: كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسر النفس وحَض على لباس النعال الصفر حكاه عنه النقاش.
(103)
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ودين الله يسر والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم نسأل الله العافية. [1/ 491]
(104)
من قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74].
القسوة: الصلابة والشدة واليُبس. وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى.
روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» . [1/ 500]
(105)
من قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
{أَوْ} قيل: هي بمعنى الواو وقيل هي بمعنى بل وقيل: معناها الإبهام على المخاطب ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمدًا حبًا شديدًا
…
وعباسًا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدًا أصبه
…
ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر وإنما قصد الإبهام وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك شككت! قال: كلا ثم استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} [سبأ: 24]، وقال: أو كان شاكًا من أخبر بهذا! وقيل معناها التخيير أي شبهوها بالحجارة تصيبوا أو بأشد من الحجارة تصيبوا وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو وقيل: بل هي على بابها من الشك ومعناها: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى: هم فرقتان. [1/ 501] بتصرف
(106)
من قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74].
قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله نزل بذلك القرآن الكريم ومثله عن ابن جريج. [1/ 502]
(107)
من قوله تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78].
الأماني: جمع أمنية وهي التلاوة ومنه قوله تعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليله
…
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله
…
تمني داود الزبور على رسل
والأماني أيضًا الأكاذيب ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت- الأماني أيضًا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه
…
[2/ 9]
(108)
من قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78].
{وَإِنْ} بمعنى ما النافية {يَظُنُّونَ} يكذبون ويحدثون لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرأون به.
قال أبو بكر بن الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي: أن العرب تجعل الظن علمًا وشكاً وكذبًا وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب قال الله عز وجل: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أراد إلا يكذبون. [2/ 10] بتصرف
(109)
من قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79].
وقيل فائدة: {بِأَيْدِيهِمْ} بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيًا له وقال ابن السراج {بِأَيْدِيهِمْ} كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم. [2/ 12] بتصرف
(110)
من قوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79].
وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته وإما لكونه حرامًا؛ لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله.
قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر فجعلوه آدم سبطًا طويلا. وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم فمن ثَمَّ غيروا. [2/ 13]
(111)
من قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81].
{بَلَى} أي: ليس الأمر كما ذكرتم
…
وهي رد لقولهم: لن تمسنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأول زيدت عليها الياء ليحسن الوقف وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام.
ف (بل) تدل على رد الجحد و (الياء) تدل على الإيجاب لما بعد وفي التنزيل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ولو قالوا نعم لكفروا. [2/ 15] بتصرف
(112)
من قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83].
أي: وأمرناهم بالوالدين إحسانًا وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد لأن النشأة الأولى من عند الله والنشء الثاني -وهو التربية- من جهة الوالدين ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]. [2/ 17]
(113)
اليتم في بني آدم بفقد الأب. وفي البهائم: بفقد الأم وحكى الماوردي: أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم والأول المعروف وأصله الانفراد يقال صبي يتيم منفرد عن أبيه وبيت يتيم أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر ودرة يتيمة: ليس لها نظير وقيل أصله الإبطاء فسمي به اليتيم لأن البر يبطئ عنه. [2/ 17]
(114)
السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة لأنهم كانوا يسبون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد.
وتسمى أيضًا بالسباحة جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. [1/ 18]
(115)
من قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
قال أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به وهذا كله حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم منه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد أمرهما الله تعالى باللين معه وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيّ حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي. [2/ 20]
(116)
من قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85].
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم قال ابن خويز منداد تضمنت الآية وجوب فك الأسرى وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع ويجب فك الأسارى من بيت المال فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. [2/ 26]
(117)
كل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام. [2/ 27]
(118)
من قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87].
وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه وهذه الآية من ذلك وقد يستعمل في الحق ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: «فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث «والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» . أخرجها مسلم. [2/ 28]
(119)
من قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89].
الاستفتاح الاستنصار. استفتحت استنصرت روى النسائي عن سعد ابن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» . [2/ 29]
(120)
من قوله تعالى: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 90].
بغيًا: معناه حسدًا قاله قتادة والسدي وهو مفعول من أجله وهو على
الحقيقة مصدر وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد قاله الأصمعي. وقيل: أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيًّا. [2/ 31] بتصرف
(121)
من قوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة: 93].
معنى {وَاسْمَعُوا} : أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب. [2/ 33]
(122)
من قوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]
اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقاً أو يكونوا فعلوا فعلًا قام مقام القول فيكون مجازًا كما قال:
امتلأ الحوض وقال قطني
…
مهلا رويدًا قد ملأت بطني
[2/ 33]
(123)
من قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبًا لها:
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها
…
أطير لو أن إنسانًا يطير
[2/ 33]
(124)
من قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} [البقرة: 101].
قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه فذلك النبذ. [2/ 41]
(125)
من قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102].
وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمدًا أن ابن داود كان نبيًا! والله ما كان إلا ساحرًا فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرًا.
قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدًا نسبه إلى الكفر ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرًا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر ثم قال:
{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] فأثبت كفرهم بتعليم السحر. [2/ 42، 43] بتصرف
(126)
سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا فقال: «إن من البيان لسحرا» أخرجه مالك وغيره وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق فعلى هذا يكون قوله عليه السلام «إن من البيان لسحرا»
…
خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة إذ شبهها بالسحر، وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان قاله جماعة من أهل العلم والأول أصح والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» وقوله: «إن أبغضكم إليَّ الثرثارون المتفيقهون»
…
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب وتصوير الباطل في صورة الحق وهذا بين والحمد لله. [2/ 44، 45] بتصرف
(127)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديّ من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم
…
الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -لما حُلَّ السحر- «إن الله شفاني» والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض فدل على أن له حقًا وحقيقة فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله
على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: عُلِّمَ السحر في قرية من قرى مصر يقال لها الفَرَما فمن كذب به فهو كافر مكذب لله ورسوله منكر لما علم مشاهدة وعيانا. [2/ 46]
(128)
قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد قالوا: ولا يبعد من السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة والجري على خيط مستدق والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك ومع ذلك فلا يكون السحر موجبًا لذلك ولا علة لوقوعه ولا سببًا مولدًا ولا يكون الساحر مستقلا به وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر كما يخلق الشبع عن الأكل والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الدهني أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب- هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي. [2/ 46]
(129)
قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. [2/ 49]
(130)
من قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102].
{وَمَا} نفي والواو للعطف على قوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وذلك أن اليهود قالوا إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذلك وفي الكلام تقديم وتأخير التقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4].
قال الزجاج: وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل على الملكين وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ومعناه أنهما يعلّمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا ولا تحتالوا بكذا
لتفرقوا بين المرء وزوجه والذي أنزل عليهما هو النهي كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا ف {يُعَلِّمَانِ} بمعنى يُعْلِمان كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] أي أكرمنا. [2/ 50 - 53] بتصرف
(131)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا على جهة الطلب والرغبة- من المراعاة- أي التفت إلينا وكان هذا بلسان اليهود سبًا أي اسمع لا سمعت فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرًا فالآن نسبه جهرًا فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه. [2/ 56]
(132)
التمسك بسد الذرائع وحمايتها دل على هذا الأصل الكتاب والسنة.
والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع أما الكتاب فهذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب في
لغتهم فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ لأنه ذريعة للسب
…
وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» أخرجه البخاري ومسلم.
قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد» . [2/ 57]
(133)
من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} لفظة {بِخَيْرٍ} هنا صفة تفضيل والمعنى: بأنفع لكم أيها الناس في عاجلٍ: إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت
أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال مالك: محكمة مكان منسوخة، وقيل: ليس المراد بأخير التفضيل لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] أي فله منها خير أي نفع وأجر لا الخير الذي هو بمعنى الأفضل ويدل على القول الأول قوله: {أَوْ مِثْلِهَا} . [2/ 67]
(134)
من قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110].
جاء في الحديث
…
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله» ، قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال:«فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر»
…
ولقد أحسن القائل:
قدم لنفسك قبل موتك صالحا
…
واعمل فليس إلى الخلود سبيل
وقال آخر:
قدم لنفسك توبة مرجوة
…
قبل الممات وقبل حبس الألسن
وقال آخر:
سابق إلى الخير وبادر به
…
فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرئ
…
على الذي قدّمه يقدم
وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية:
أسعد بمالك في حياتك إنما
…
يبقى وراءك مصلح أو مفسد
وإذا تركت لمفسد لم يبقه
…
وأخو الصلاح قليله يتزيد
وإن استطعت فكن لنفسك وارثا
…
إن المورث نفسه لمسدد
[2/ 72، 73] بتصرف
(135)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].
أي يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم وقيل {وَاسِعٌ} بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98] وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء دليله قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب وقيل متفضل على العباد وغني عن أعمالهم يقال فلان يسع ما يسئل أي لا يبخل قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أي لينفق الغني مما أعطاه الله. [2/ 82]
(136)
من قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120].
قوله تعالى: {مِنَ الْعِلْمِ} سئل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق فقال: كافر قيل: بم كفرته؟ قال: بآيات من كتاب الله {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والقرآن من علم الله. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر. [2/ 92]
(137)
من قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].
اختلف في معنى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} فقيل: يتبعونه حق اتباعه باتباع الأمر
والنهي فيحللون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه قاله عكرمة.
وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا مرّ بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ» . وقال الحسن: هم الذين يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه وقيل: يقرأونه حق قراءته. قلت: وهذا فيه بعد إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه ويفهمون معانيه فإنه بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق. [2/ 93]
(138)
من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124].
{إِبْرَاهِيمَ} تفسيره بالسيريانية فيما ذكر الماوردي وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: أب رحيم قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم لرحمته بالأطفال ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارًا إلى يوم القيامة
قلت: ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. [2/ 94]
(139)
اختلف العلماء في المراد بالكلمات في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] على أقوال وأصح من هذا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن ابن عباس في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الشعر، وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والاختتان ونتف الإبط وغسل (مكان الغائط والبول) بالماء- وعلى هذا القول: فالذي أتم هو إبراهيم وهو ظاهر القرآن وروى مطر عن أبي الجلد أنها عشر أيضا إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم وموضع الاستنجاء الاستحداد. [2/ 95]
(140)
قال الميموني قال لي أحمد: إن هاهنا رجلًا وُلد له ولد مختون فاغتم لذلك غمًا شديدا فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا. [2/ 98]
(141)
قص الشارب: الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ولا يجزه فيمثل نفسه قاله مالك. وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع وأرى أن يوجع ضربًا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربًا كأنه يراه ممثلًا بنفسه وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. [2/ 103]
(142)
الثريد أزكى الطعام وأكثره بركة وهو طعام العرب وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . [2/ 106]
(143)
خرج مسلم عن أنس قال: «وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة» .
قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة. [2/ 107]
(144)
من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]
المعنى: جعلناك للناس إمامًا يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إمامًا لأهل طاعته. قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى أي من ذريتي يا رب فاجعل وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيًا وظالمًا لا يستحق الإمامة قال ابن عباس. سأل إبراهيم عليه السلام أن يُجعل من ذريته إمام فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي؛ فقال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]. [2/ 107]
(145)
والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن
بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض. [2/ 109]
(146)
من قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125].
مثابة: أي مرجعًا
…
قال ورقة بن نوفل في الكعبة:
مثابًا لأفناء القبائل كلها
…
تخب إليها اليعملات الذوامل
وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرًا قال الشاعر:
جُعِلَ البيت مثابًا لهم
…
ليس منه الدهر يقضون الوطر
[2/ 110]
(147)
لما قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها أو لكونها أعظم حرمة والأول أظهر والله أعلم، وفي التنزيل:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} . [النور: 36][2/ 114]
(148)
واختلفوا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟
فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد والجمهور على أن الصلاة أفضل
…
والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور والله أعلم. [2/ 116] بتصرف
(149)
روي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده على بناء ابن الزبير لِما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس. [2/ 124]
(150)
من قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
أي من ذريتنا فاجعل فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة و {وَمِنْ} في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. [2/ 126]
(151)
من قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128].
{وَأَرِنَا} من رؤية البصر وقيل من رؤية القلب.
قال حطائط بن يعفر:
أريني جوادًا مات هزلًا لأنني
…
أرى ما ترين أو بخيلًا مخلدًا
وقرأ بعض القراء: (أرْنا) بسكون الراء واستدل بقول الشاعر:
أَرْنا إداواة عبد الله نملؤها
…
من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
[2/ 126، 127] بتصرف
(152)
من قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128].
اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام {وَتُبْ عَلَيْنَا} وهم
أنبياء معصومون فقالت طائفة طلبا التثبيت والدوام لا أنهما كان لهما ذنب قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبيّنا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. [2/ 129]
(153)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129].
يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وفي قراءة أُبي «وابعث في آخرهم رسولًا منهم» . وقد روى خالد بن معدان: «أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك قال: نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى» . [2/ 129]
(154)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130]
تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي أي وما يرغب قاله النحاس والمعنى: يزهد فيها وينأى نفسه عنها أي عن الملة وهي الدين والشرع. [2/ 130] بتصرف
(155)
من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
قال ابن بحر: معناه: جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعًا ليس كمثله شيء فيعلم به توحيد الله وقدرته.
قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج فيفكر في نفسه مِنْ يدين يبطش بهما ورجلين يمشي عليهما وعين يبصر بها وأُذن يسمع بها ولسان ينطق به وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ومعدة
أعدت لطبخ الغذاء وكبد يصعد إليها صفوه وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويتبرز من أسفل البدن فيستدل بهذا على أن له خالقًا قادرًا حكيمًا وهذا معنى قوله فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]. أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله. [2/ 131]
(156)
روى حجاج: قال سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك وارض عنا. [2/ 132]
(157)
من قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 132].
أي بالملة وقيل بالكلمة التي هي قوله له: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131] وهو أصوب لأنه أقرب أي قولوا أسلمنا
…
وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية وهو أكبر ولده نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع وقيل كان له سنتان وقيل كان له أربع عشرة سنة والأول أصح
…
وولد له قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة ومات وله 137 سنة وقيل 130 سنة وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام 89 سنة. وإسحاق أمه سارة ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق 180 سنة ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. [2/ 133] بتصرف
(158)
من قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132].
إيجاز بليغ والمعنى: الزموا الإسلام وداوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود ويتضمن وعظًا وتذكيرا بالموت وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى فإذا أُمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبًا لازمًا. [2/ 134]
(159)
وحكي أن يعقوب حين خُيِّر كما تُخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أُوصي بَنيّ وأهلي فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة: 133] الآية فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى. [2/ 131]
(160)
من قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133].
سمى الله كل واحد من العم والجد أبًا. وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق و (إلهًا) بدل (إلهك) بدل النكرة من المعرفة وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية وقيل (إلهًا) حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن لأن الغرض إثبات حال الوحدانية. [2/ 135]
(161)
من قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134].
وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب وإن كان الله
تعالى أقدره على ذلك إن كان خيرًا فبفضله وإن كان شرًا فبعدله وهذا مذهب أهل السنة والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة فالعبد مكتسب لأفعاله على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلًا وذلك التمكن مناط التكليف. [2/ 136]
(162)
من قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]
سمي إبراهيم حنيفًا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام والحنف: الميل وقال قوم. الحنف الاستقامة فسمي دين إبراهيم حنيفًا لاستقامته وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلًا بالسلامة كما قيل للديغ سليم وللمهلكة مفازة في قول أكثرهم. [2/ 137] بتصرف
(163)
الأسباط: ولد يعقوب عليه السلام وهم اثنا عشر ولدًا ولد لكل واحد منهم أمة من الناس واحدهم سبط والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل وسموا الأسباط من السَّبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السَّبَط بالتحريك وهو الشجر أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سَبَطة. قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري
…
عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوحًا وشعيبًا وهودًا وصالحًا ولوطًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب والسبط: الجماعة والقبيلة والراجعون إلى أصل واحد. [2/ 138]
(164)
من قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138]
قال الأخفش وغيره: دين الله وهو بدل من (ملة) وقال الكسائي. وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي الزموا.
أي صبغة الله أحسن صبغة وهو الإسلام فسمي الدين صبغة استعارة ومجازًا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. وقال بعض شعراء ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة
…
وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا
…
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
[2/ 140] بتصرف
(165)
من قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139]
أي مخلصون العبادة وفيه معنى التوبيخ أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تَدَّعُون ما نحن أولى به منكم! والإخلاص حقيقته تصفيه الفعل عن ملاحظة المخلوقين قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء» رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، خرجه الدارقطني.
وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين ولاحَظًّا من الملكين.
وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. [2/ 142]
(166)
من قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].
تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودًا أو نصارى فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم أي لم يكونوا هودًا ولا نصارى. [2/ 143]
(167)
من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء: أوسطها وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]«عدلا» قال: هذا حديث حسن صحيح وفي التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أعدلهم وخيرهم. [2/ 149]
(168)
من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]
والآية جواب لقريش في قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]
وكانت قريش تألف الكعبة فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. [2/ 153]
(169)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس. [2/ 153]
(170)
من قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]
أي إلى الخيرات فحذف الحرف أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآية. والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم. [2/ 160]
(171)
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149].
وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها لأن موقع التحويل كان صعبًا في نفوسهم جدًا فأكد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه وقيل أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة أي عاينها إذا صليت تلقاءها ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} معاشر المسلمين في سائر
المساجد بالمدينة وغيرها {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثم قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني: وجوب الاستقبال في الأسفار فكان هذا أمرًا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض.
قلت: هذا القول أحسن من الأول لأن فيه حمل كل آية على فائدة
…
ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض فكررت لتكون عند من حفظ البعض. [2/ 163 - 164] بتصرف
(172)
من قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150].
وقالت فرقة: {إِلَّا الَّذِينَ} استثناء متصل روي معناه عن ابن عباس وغيره واختاره الطبري، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا: ما ولاّهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة. [2/ 165]
(173)
قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} يريد الناس {وَاخْشَوْنِي} الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفًا ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى والأمر بإطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى. [2/ 165]
(174)
من قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم، وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له، وسمي الذكر باللسان ذكرًا لأنه دلالة على الذكر القلبي غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة قاله سعيد بن جبير وقال أيضًا: الذكر طاعة الله فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن
…
وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة! فقال: أحمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته. [2/ 166 - 167] بتصرف
(175)
من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة: 155].
أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها
فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث
…
وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على التقدير فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله تعالى في قصة أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [سورة ص: 44] مع ما أخبر عنه أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]. [2/ 169 - 170] بتصرف
(176)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156]
والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت وتستعمل في الشر. [2/ 170]
(177)
من قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 156].
جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة فإن قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} توحيد وإقرار بالعبودية والملك وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: لم تعط هذه الكلمات نبيًا قبل نبينا ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفى على يوسف
…
قال أبو سنان: دفنت ابني سنانًا وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي
فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» . وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا أخلف الله له خيرًا منها» فهذا تنبيه على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها وإما بالثواب الجزيل كما في حديث أبي موسى وقد يكون بهما. [2/ 172، 173]
(178)
من قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158]
وَذُكِّر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنث لذلك والله أعلم وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى إسافًا وعلى المروة صنم يدعى نائلة فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر وهذا حسن لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا حتى رفع الله الحرج في ذلك. [2/ 175]
(179)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159].
.. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ولا السلطان تأويلًا يتطرق به إلى مكاره الرعية ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقًا إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات ونحو ذلك. [2/ 182].
(180)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159].
لما قال: {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن
والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى والله تعالى أعلم. [2/ 183]
(181)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} [البقرة: 161].
قوله تعالى: {وَهُمْ كُفَّارٌ} الواو واو الحال قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه لأن حاله عند الموافاة لا تُعلم وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقوامًا بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله.
قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهو يلعنون الكفرة في رمضان قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن وليس ذلك بواجب ولكنه مباح لمن فعله لجحدهم الحق وعداوتهم الدين وأهله وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشرّاب الخمر وأكلة الربا ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.
.. وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقًا لما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أتي بشارب خمر مرارًا فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» فجعل له حرمة الأخوة وهذا يوجب الشفقة وهذا حديث صحيح قلت خرجه البخاري ومسلم. وقد ذكر بعض العلماء خلافًا في لعن العاصي المعين قال: وإنما قال عليه السلام: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ومن أقيم عليه حد من الله تعالى فلا ينبغي لعنه ومن لم يُقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سُمي أو عُين أم لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه وَبَيَّن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب» فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة والله تعالى أعلم.
قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقًا فيجوز إجماعًا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده» . [2/ 185، 186]
(182)
من قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]
ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى وقال
له جبريل: اصنعها على جؤجؤ الطائر فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها قاله ابن العربي. [2/ 191]
(183)
وقد قال بعض من طعن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك! فقيل له في قوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]. [2/ 192]
(184)
من قوله فقال: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164].
قال العلماء: الريح تحرك الهواء وقد يشتد ويضعف فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح (الصَّبا) وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى اتجاه القبلة قيل لتلك الريح (الدَّبور) وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها (ريح الجنوب)، وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها (ريح الشمال) ولكل واحدة من هذه الرياح طبع فتكون منفعتها بحسب طبعها فالصبا حارة يابسة والدبور باردة رطبة والجنوب حارة رطبة والشمال باردة يابسة واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. [2/ 195]
(185)
قال بعض الحكماء: إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، الذي هو بدن الإنسان ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]، وقال:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]؛ فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها وأعضاؤه تصير عند البلى ترابًا من جنس الأرض وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنَّفَسْ ومن جنس النار فيه المرة الصفراء وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار؛ لأن العروق تستمد من الأرض ومثانته بمنزلة البحر لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار فكما أن لكل شجرة ورقًا أو ثمرًا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد لا إله إلا هو. [2/ 199]
(186)
من قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167].
قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها.
والحسرة أعلى درجات الندامة على شيء فائت
…
[2/ 202] بتصرف
(187)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]
سمي الحلال حلالًا لانحلال عقدة الحظر عنه قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة أكل الحلال وأداء الفرائض والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبد الله الساجي: خمس خصال بها تمام العلم وهي: معرفة الله عز وجل ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله والعمل على السنة وأكل الحلال فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ولا يكون المال حلالًا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت- وهو اسم مجمل- والغلول والمكروه والشبهة. [2/ 203]
(188)
من قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168].
أخبر تعالى بأن الشيطان عدو وخبره حق وصدق فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم وقد أمر الله تعالى بالحذر منه
…
وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: «وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر
الله»
…
الحديث، وقال فيه:«حديث حسن صحيح غريب» . [2/ 204] بتصرف
(189)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].
التقليد ليس طريقًا للعلم ولا موصلًا له لا في الأصول ولا في الفروع وهو قول جمهور العقلاء والعلماء.
فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه [أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس] وعلى العالم أيضًا فرض أن يقلد عالمًا مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب فضاق الوقت عن ذلك وخاف على العبادة أن تفوت أو على الحكم أن يذهب سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيًا أو غيره وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين. [2/ 207] بتصرف
(190)
من قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} [البقرة: 171].
شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي
الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفهم ما يقول
…
والنعيق: زجر الغنم والصياح بها يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نَعيقًا ونُعاقًا ونَعاقًا أي صاح بها وزجرها.
قال الأخطل:
انعق بضأنك يا جرير فإنما
…
منتك نفسك في الخلاء ضلالًا
قال القتبي: لم يكن جرير راعي ضأن وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن وجرير منهم فهو في جهلهم والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون أجهل من راعي ضأن
…
والنداء للبعيد والدعاء للقريب ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد. [2/ 209] بتصرف
(191)
أكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها وهو مذهب مالك وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرًا! قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أقول حرامًا. [2/ 212]
(192)
وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثًا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل» .
وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذ خُبْنَة» [2/ 222 - 223] بتصرف
(193)
من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173].
{غَيْرَ} : نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير يصلح في موضعها (في) فهي حال- وإذا صلح موضعها (إلا) فهي استثناء فقس عليه.
و {بَاغٍ} أصله باغي
…
والمعنى .. {غَيْرَ بَاغٍ} في أكله فوق حاجته {وَلَا عَادٍ} بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. [2/ 228] بتصرف.
(194)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر» ، وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي إذ لم يحملهم على ذلك حاجة ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. [2/ 231]
(195)
من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177]
قرأ حمزة وحفص {الْبِرَّ} بالنصب لأن [ليس] من أخوات [كان] يقع بعدها المعرفتان فَتَجْعَلُ أيهما شئت الاسم أو الخبر [فلما وقع بعد {لَيْسَ} {الْبِرَّ} نصبه وجعل {أَنْ تُوَلُّوا} الاسم وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف.
وقرأ الباقون {الْبِرُّ} بالرفع على أنه اسم ليس وخبره {أَنْ تُوَلُّوا} تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البرَّ. [2/ 233]
(196)
اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضًا وهو يقوي ما اخترناه والموفق الإله. [2/ 237]
(197)
قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطغيان وطاعة للشيطان فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فَقُتِلَ لهم عبد قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرًا وإذا قُتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلًا وإذا قُتل منهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفًا ويقولون (القتل أوفى للقتل) ويروى (أبقى) ويقال (أنفى) فنهاهم الله عن البغي فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الآية. وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم. [2/ 240] بتصرف
(198)
اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم
عن بعض وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته إذ هو واحد منهم وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل وذلك لا يمنع القصاص وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل لقوله جل ذكره {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملًا قطع يده: «لئن كنت صادقًا لأقيدنك منه» . وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فصاح الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تعال فاستقد قال بل عفوت يا رسول الله وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إليّ أقيده منه فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين لئن أدب رجل منا رجلًا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه! ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فُعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه - وذكر الحديث بمعناه. [2/ 253].
(199)
من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} هذه آية الوصية وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية وفي النساء {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [الآية: 11]، وفي
المائدة {حِينَ الْوَصِيَّةِ} [الآية: 106]، والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث.
(200)
قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية وإنما هي من حديث ابن عمر وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودًا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظًا لعمل بها وإن لم تكتب خًطًا فلو كتبها بيده ولم يُشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يُعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه.
روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم. هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]. [2/ 263 - 264]
(201)
من قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182].
قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم. معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية
بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، أي: لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولابد ولكنه تبديل لمصلحة والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. [2/ 266]
(202)
لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل: «أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح» الحديث أخرجه أهل الصحيح.
وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة» وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع» . [2/ 267]
(203)
روى الدارقطني عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر» وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» .
وترجم النسائي «الصلاة على من جنف في وصيته» عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال: «لقد هممت ألا أصلي عليه»
ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة.
وأخرج مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولًا شديدًا بدل قوله: «لقد هممت ألا أصلي عليه» . [2/ 267 - 268] بتصرف.
(204)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} لعل: ترج في حقهم
…
و {تَتَّقُونَ (183)} قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قلّ الأكل ضعفت الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلّت المعاصي، وهذا وجه مجازي حسن.
وقيل: لتتقوا المعاصي.
وقيل: هو على العموم لأن الصيام كما قال عليه الصلاة والسلام: «الصيام جنة ووجاء» وسبب تقوى لأنه يميت الشهوات. [2/ 271]
(205)
من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185].
رمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش والرمضاء: شدة الحر ومنه الحديث «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» خرجه مسلم ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان فيما ذكروا - وافق شدة الحر فهو مأخوذ من الرمضاء.
يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك وقيل: إنما
سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة من الإرماض وهو الإحراق
…
وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمال والحجارة من حر الشمس
…
وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربو بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. [2/ 286] بتصرف
(206)
قال الشاعر:
أخوان من نجد على ثقة
…
والشهر مثل قلامة الظفر
حتى تكامل في استدارته
…
في أربع زادت على عشر
[2/ 289]
(207)
من قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185].
والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «دين الله يسر» وقال صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا» . واليسر من السهولة ومنه اليسار للغنى وسميت اليد اليسرى تفاؤلًا أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى». [2/ 296 - 297]
(208)
قوله صلى الله عليه وسلم: «فليعزم المسألة» دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمة الله لأنه يدعو كريمًا، قال سفيان بن عيينة: «لا يمنعن أحدًا من الدعاء ما يعلمه
من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)} [الحجر: 36 - 37]». [2/ 308]
(209)
من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187].
الرفث: كناية عن الجماع؛ لأن الله عز وجل كريم يكني؛ قاله ابن عباس والسدي.
وقال الزجاج: «الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته» .
وقال ابن عرفة: «الرفث هاهنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به» . [2/ 311]
(210)
من قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
أصل اللباس في الثياب ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسًا لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيهًا بالثوب وقال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها
…
تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضًا:
لبست أناسًا فأفنيتهم
…
وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه لباس: فجائز أن يكون كل واحد منهما سترًا لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس وقال أبو عبيد وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك قال رجل لعمر بن الخطاب
ألا أبلغ أبا حفص رسولا
ذذ
…
فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أبو عبيد: أي نسائي وقيل: نفسي وقال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن وقال مجاهد: أي سكن لكم أي يسكن بعضكم إلى بعض. [2/ 312]
(211)
من قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187].
أي: هذه الأحكام حدود الله فلا تخالفوها ف {تِلْكَ} إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي والحدود: الحواجز. والحد المنع ومنه سمي الحديد حديدًا؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادًا لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها ويمنع الخارج من الدخول فيها وسميت حدود الله؛ لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها وأن يخرج منها ما هو منها ومنها سميت الحدود في المعاصي لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها ومنه سميت الحاد في العدة لأنها تمتنع من الزينة. [2/ 335]
(212)
من قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة على ما يأتي بيانه في سورة النساء. [2/ 336]
(213)
من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل فالحرام لا يصير حلالًا بقضاء القاضي لأنه إنما يقضي بالظاهر وهذا إجماع في الأموال وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنًا وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى وروى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار» وفي رواية: «فليحملها أو يذرها» وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج. [2/ 336]
(214)
من قوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188].
والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة وهو كقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] وهو من قبيل قولك. لا تأكل السمك وتشرب اللبن وقيل المعنى: لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عُصم وهو الأقل وأيضًا فإن اللفظين متناسبان تُدلوا من إرسال الدلو
والرشوة من الرشاء كأنه يمد بها ليقضي الحاجة. [2/ 337 - 338] بتصرف
(215)
من قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189].
الأهلة: جمع هلال
…
وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه كما قال:
أخوان من نجد على ثقة
…
والشهر مثل قلامة الظفر
قيل سمي شهرًا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر وليلتين من أوله وقيل لثلاث من أوله وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير كالخيط الرقيق وقيل بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه واستهل وجهه فرحًا وتهلل إذا ظهر فيه السرور.
قال أبو كبير:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
…
برقت كبرق العارض المتهلل
2/ 339]
(216)
من قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والأَيمان والحج والعِدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية إلى غير ذلك من مصالح العباد.
أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته بخلاف ما رأته العرب فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور فأبطل الله قولهم وفعلهم 2/ 340، 341 بتصرف
(217)
إذا رؤي الهلال كبيرًا فقال علماؤنا: لا يُعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلة روى مسلم عن أبي البختري قال: «خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين فقال: أي ليلة رأيتموه قال فقلت ليلة كذا وكذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله مدّه للرؤية» فهو لليلة رأيتموه. [2/ 342]
(218)
من قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]
في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قُربة ولا نَدَبَ إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا: هو أبو إسرائيل نذر
أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن. [2/ 344]
(219)
من قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
الحرمات جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة والحجرات جمع حجرة وإنما جمعت لأنه أراد حُرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام وحرمة الإحرام والحرمة: ما مُنِعْتَ من انتهاكه
…
والقصاص المساواة أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع ف {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} على هذا متصل بما قبله ومتعلق به. [2/ 352]
(220)
من قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص فمن قَتَل بشيء قُتِلَ بمثل ما قَتَل به وهو قول الجمهور. [2/ 355]
(221)
من قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
الاعتداء هو التجاوز قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، أي: يتجاوزها فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك ومن شتمك فرد
عليه مثل قوله ومن أخذ عرضك فخذ عرضه لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك فإن المعصية لا تقابل بالمعصية
…
وإن قال: يا زان فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور ولو قلت له يا زان كنت كاذبًا وأثمت في الكذب وإن مطلك وهو غني دون عذر فقل يا ظالم يا آكل أموال الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته» أما عرضه فبما فسرناه وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. [2/ 358 - 359] بتصرف
(222)
من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
المعنى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل ليس عندي ما أنفقه وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره والله أعلم.
قال ابن عباس أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم لا أجد شيئًا ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالًا ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول ليس عندي شيء. [2/ 360] بتصرف
- اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنية خالصة فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة وقيل: إذا طلب الشهادة
وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم وذلك بين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يُقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين.
وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة قال رجل من المسلمين ضعوني في الجحفة وألقوني إليهم ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.
قلت: ومن هذا ما روي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا
قال: فلك الجنة فانغمس في العدو حتى قتل .. 2/ 361، 362 بتصرف.
(223)
من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله فقيل: أداؤهما والإتيان بهما وقيل: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما
…
[2/ 263]
(224)
لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز خلافًا لمن قال إنه مُثلة، ولو كان مُثلة ما جاز في الحج ولا غيره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وقد حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ولو لم يجز الحلق ما حلقهم وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه قال ابن عبدالبر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق وكفى بهذا حجة وبالله التوفيق. [2/ 380]
(225)
اختلف العلماء لم سمي المتمتع متمتعًا فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج وقال غيره سمي متمتعًا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر وحق الحج كذلك فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد والوجه الأول أعم فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله وسقط عنه السفر لحجه من بلده وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود وقالا أو قال أحدهما: يأتي أحدكم منى وذكره يقطر منيًا. وقد أجمع المسلمون على جواز هذا وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين مرة في الحج ومرة في العمرة ورأى الإفراد أفضل فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابًا ولذلك قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. [2/ 393]
(226)
من قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
واختلفوا في معنى قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وقد علم أنها عشرة فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلًا منها لأنه لم يقل وسبعة أخرى- أزيل ذلك بالجملة من قوله {تِلْكَ عَشَرَةٌ} ثم قال {كَامِلَةٌ} .
وقال الحسن: كاملة في الثواب كمن أهدى وقيل: كاملة في البدل عن الهدي يعني العشرة كلها بدل عن الهدي وقيل: كاملة في الثواب كمن لم يتمتع وقيل: لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها وقال المبرد: عشرة دلالة على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة وقيل هو توكيد كما تقول: كتبت بيدي.
ومنه قول الشاعر:
ثلاث واثنتان فهن خمس
…
وسادسة تميل إلى شمامي
فقوله خمس تأكيد
ومثله قول الآخر:
ثلاث بالغداة فذاك حسبي
…
وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي
…
وشرب المرء فوق الري داء
وقوله: كاملة: تأكيد آخر فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر. [2/ 399 - 400]
(227)
من قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
اختلف في الأشهر المعلومات فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة
…
وفائدة الفرق تعلق الدم فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دمًا فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته
…
لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه لأنها كانت معلومة عندهم ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا أو على عهد فلان ولعله إنما رآه في ساعة منها فالوقت يذكر بعضه بكله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام منى ثلاثة» وإنما هي يومان وبعض الثالث ويقولون: رأيتك اليوم وجئتك العام وقيل لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر والله أعلم. [2/ 401 - 402]
(228)
قال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده ذكر القولين ابن العربي رحمه الله. قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة. [2/ 405]
(229)
وقال آخر:
الموت بحر طامح موجه
…
تذهب فيه حيلة السابح
يا نفس إني قائل فاسمعي
…
مقالة من مشفق ناصح
لا يصحب الإنسان في قبره
…
غير التقى والعمل الصالح
[2/ 408]
(230)
من قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198].
قيل: سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها وقيل: لأن آدم لما هبط وقع بالهند وحواء بجدة فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم عرفة.
قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع وعرفة هي نَعمان الأراك وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب قال الله تعالى: «عرفها لكم» أي طيبها فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء فلذلك سميت عرفات. ويوم الوقوف يوم عرفة وقال بعضهم أصل هذين الاسمين من الصبر يقال رجل عارف إذا كان صابرًا خاشعًا ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. [2/ 410 - 411]
(231)
من قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200].
كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين.
وقال ابن عباس: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آبائهم وأمهاتهم: أبه أمه أي فاستغيثوا والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم.
وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حُرَمَهِ وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه فما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عُصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما. [2/ 427 - 428]
(232)
من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].
والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله فإن {حَسَنَةً} نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع.
وقيل: لم يرد حسنة واحدة بل أراد أعطنا في الدنيا عطية حسنة فحذف الاسم. [2/ 429]
هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا: زدنا قال: ما تريدون قد سألت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ، قال:«فكان أنس إذا أرد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه» ، وفيه حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول:«ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ماله هجيرى غيرها. [2/ 429 - 430]
(233)
قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. [2/ 432]
(234)
قال ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] هو الرجل يأخذ مالًا يحج به عن غيره فيكون له ثواب وروي عنه في هذه الآية: أن رجلًا قال يا رسول الله مات أبي ولم يحج أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي» قال: نعم قال: فدين الله أحق أن يقضى قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202]» يعني من حجّ عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت. [2/ 433]
(235)
من قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى وهي أيام التشريق وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها وهي أيام رمي الجمار وهي واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر فقف على ذلك. [3/ 5]
(236)
من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204]
.. والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري (أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة. [3/ 20]
(237)
من قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204]
والمعنى أشد المخاصمين خصومة أي هو ذو جدال إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنة باطل وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» . [3/ 20]
(238)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]
قال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض وقال عطاء: إن رجلًا كان يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها قال قتادة قلت لعطاء: إنا كنا نسمع أن يشقها فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد قلت فالآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. [3/ 22]
(239)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206].
هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوًا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا وقال عبد الله: كفى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتق الله فيقول: عليك بنفسك مثلك يوصيني! [3/ 23]
(240)
ذكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد فاختلف إلى بابه سنة فلم يقض حاجته فوقف يومًا على الباب فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين فنزل هارون عن دابته وخر ساجدًا فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي قال: لا ولكن تذكرت قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} [البقرة: 206]
حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك: وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل، والمهاد جمع المهد وهو الموضع المهيأ للنوم ومنه مهد الصبي. [3/ 23]
(241)
من قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
وعسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ} [التحريم: 5] وقال أبو عبيدة: {عَسَى} من الله إيجاب والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون ومن مات مات شهيدًا وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم.
قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأيّ بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته.
وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك
رب أمر تتقيه
…
جر أمرًا ترتضيه
خفي المحبوب منه
…
وبدا المكروه فيه
[3/ 40]
(242)
عن ابن عباس قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم قال ابن عبدالبر:«ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث» . [3/ 40]
(243)
من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217].
ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرمًا عند الله وقال عبد الله بن جحش رضي الله عنه:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
…
وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
…
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم عن مسجد الله أهله
…
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
…
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
…
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دمًا وابن عبد الله عثمان بيننا
…
ينازعه غلٌّ من القد عاند
[3/ 45]
(244)
من قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
{يَرْجُونَ} معناه يطمعون ويستقربون وإنما قال {يَرْجُونَ} وقد مدحهم؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين أحدهما لا يدري بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله. [3/ 49]
(245)
من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219].
قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئًا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك تحريم الخمر وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر ثم بعده {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ثم قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، ثم قوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. [3/ 51]
(246)
روي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء فقال اصطناع المعروف واجب فقيل له: إنه ينهى عن الزنى فقال: هو فحش وقبيح في العقل وقد
صرت شيخًا فلا أحتاج إليه فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. [3/ 54]
(247)
ثم إن الشارب (شارب الخمر) يصير ضحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه حتى رؤي بعضهم يمسح بوجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله. [3/ 55]
(248)
من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].
قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215]- سؤالًا عن النفقة إلى من تصرف كما بيناه ودل عليه الجواب والجواب خرج على وفق السؤال كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق وهو في شأن عمرو بن الجموح كما تقدم- فإنه لما نزل {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} قال كم أنفق؟ فنزل: {قُلِ الْعَفْوَ} والعفو: ما سهل وتيسر وفضل ولم يشق على القلب إخراجه ومن قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
…
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فالمعنى: أنفقوا ما فضل من حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. [3/ 9]
(249)
من قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} [البقرة: 219].
قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 219 - 220]، فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها. [3/ 60]
(250)
من قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220].
قال أبو عبيد: وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضيل على رفيقه فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعًا كان في غيرهم أوسع ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس. [3/ 63]
(251)
من قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم و {حَرْثٌ} تشبيه؛ لأنهم مزروع الذرية فلفظ «الحرث» يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزروع وأنشد ثعلب:
إنما الأرحام أر
…
ضون لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها
…
وعلى الله النبات
ففرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات فالحرث بمعنى المحترث. [3/ 90]
(252)
وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة.
وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا عليَّ كذبوا عليَّ كذبوا عليَّ! ثم قال: ألستم قومًا عربًا؟ ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وهل يكون الحرث إلا موضع المنبت! [وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل {أَنَّى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها إذ هي مخصصة بما ذكرناه وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا بمتون مختلفة كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار. قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه وقد حذرنا من زلة العالم. [3/ 91 - 92] بتصرف
(253)
من قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224].
قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللًا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس فيقال له: بر فيقول: قد حلفت. [3/ 94]
(254)
من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226].
التربص: التأني والتأخر مقلوب التصبر قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها
…
تطلق يومًا أو يموت حليلها
وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرًا تأديبًا لهن وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:
ألا طال هذا الليل واسود جانبه
…
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
…
لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني
…
وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها أين زوجك؟ قالت: بعثت به إلى العراق فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن شهرين ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفذ صبرها في أربعة أشهر فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر
استرد الغازين ووجه بقوم آخرين وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر. [3/ 104]
(255)
من قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
{وَلَهُنَّ} أي: لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ولهذا قال ابن عباس «إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي لأن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}» .
قول ابن عباس: «إني لأتزين لامرأتي» قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت وزينة تليق بالشباب وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حفّ شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت لأن اللحية لم توفر بعد فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك
…
وكذلك في شأن الكسوة ففي هذا كله ابتغاء الحقوق فإنما يعمل على اللبق والوفاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من
الشباب والشيوخ زينة وهو حلي الرجال ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره وإن رأى الرجل من نفسه عجزًا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها. [3/ 118] بتصرف
(256)
من قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته وبالإنفاق وبالدية والميراث والجهاد وقال حميد: الدرجة اللحية وهذا إن صح عنه فهو ضعيف ولا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها.
قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم وخصوصًا في كتاب الله تعالى ولا يخفى على لبيبٍ فضلُ الرجالِ على النساء ولو لم يكن إلا أن المرأة خُلقت من الرجل فهو أصلها وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه وقيل الدرجة الصداق قاله الشعبي، وقيل: جواز الأدب وعلى الجملة (فدرجة) تقتضي التفضيل وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «ولو أمرت أحدًا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخُلق أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع قال الماوردي: يحتمل أنها في حقوق النكاح له رفع العقد دونها ويلزمها
إجابته إلى الفراش ولا يلزمه إجابتها قلت- ومن هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح» . [3/ 119]
(257)
من قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]
المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الطلقة الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه واختلفوا فيما يكفي من النكاح وما الذي يبيح التحليل فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كافي وقال الحسن بن أبي الحسن: لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل ويفسد الصوم ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق.
قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها. فإن قلنا إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب وإن قلنا إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء وعلى هذا جماعة من العلماء إلا سعيد بن
المسيب فقال أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني وأنا أقول: إذا تزوجها تزوجًا صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول وهذا قول لا نعلم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير ذكره النحاس في كتاب (معاني القرآن) له قال: وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع لأنه قال: {زَوْجًا غَيْرَهُ} فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح هاهنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها. قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والله أعلم. [3/ 140، 141]
(258)
قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا ليس على الزوجة خدمة وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة وإنما عقد على الاستمتاع والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره فلا تطالب بأكثر منه ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك وإن كانت دون ذلك
فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم وذلك أن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ولا يسوغ لها الامتناع بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك ويأخذونهن بالخدمة فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك. [3/ 146، 147]
(259)
من قوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233].
قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ} أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني وقيل: سمي العام حولًا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب.
{كَامِلَيْنِ} قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولًا وبعض حول آخر قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني.
قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتمًا فإنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد
لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين. [3/ 153، 154]
(260)
من قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].
المعنى: لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارًا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع هذا قول جمهور المفسرين. [3/ 159]
(261)
من قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233]
وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين. [3/ 163]
(262)
من قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها تنبيه عليه لا يجوز وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما
هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وَجُوِّزَ ما عدا ذلك ومن أعظمه قربًا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني نفسك» ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعًا لأنها كالزوجة وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم. وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين: الأول: أن يذكر لوليها يقول له لا تسبقني بها والثاني: أن يشير بذلك إليها دون واسطة فيقول لها. إني أريد التزويج أو إنك لجميلة إنك لصالحة إن الله لسائق إليك خيرًا إني فيك لراغب ومن يرغب عنك إنك لنافقة وإن حاجتي في النساء وإن يقدر الله أمرًا يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وقال ابن عباس لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك ولا بأس أن يهدي إليها وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريف بالزواج وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين قالت سكينة بنت حنظلة استأذن عليَّ محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب. قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر إنك رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي! قال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنْ عَلي وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال: لقد علمت
أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي» كانت تلك خطبة أخرجه الدارقطني. والهدية إلى المعتدة جائزة وهي من التعريض قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. [3/ 178، 179].
(263)
من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].
قوله تعالى: {حَافِظُوا} خطاب لجمع الأمة والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وعدله .... واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال ثم سردها
…
الثاني: أنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل
…
وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول أي -ابن عطية- واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره وأنصها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الوسطى صلاة العصر» خرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس. [3/ 196 - 198] بتصرف
(264)
من قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة
الخوف الطارئة أحيانًا وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال ورخص لعبيده في الصلاة رجالًا على الأقدام وركبانًا على الخيل والإبل ونحوها إيماءً وإشارة بالرأس حيثما توجه هذا قول العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية. [3/ 213]
(265)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243]
أصح الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارًا من الوباء رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خرجوا فرارًا من الطاعون فماتوا فدعا الله نبيٌ من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. [3/ 220]
(266)
روى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال: رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارًا منه.
قال الطبري في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها وأن عليه الصبر وترك
الجزع بعد نزولها وذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها سبيله في ذلك سبيل الطاعون وهذا المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا» قلت وهذا هو الصحيح في الباب وهو مقتضى قول الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجًا عليه لما قال له: أفرارًا من قدر الله: فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى مجدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. [3/ 221، 222]
(267)
يروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فناء أمتي بالطعن والطاعون» قالت: «الطعن قد عرفنا فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط» قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم وقد
يرسله شهادة ورحمة للصالحين كما قال معاذ في طاعون عمواس: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذًا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف دعوة نبيكم؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه الصلاة والسلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. [3/ 223، 224]
(268)
ذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارًا له ومضى بأهله نحو سفوان فسمع حاديًا يحدو خلفه
لن يُسبق الله على حمار
…
ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار
…
قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربًا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سكر فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان فقال له عبدالعزيز ما اسمك؟ فقال له: طالب بن مدرك فقال: أوه ما أراني راجعًا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية. [3/ 225]
(269)
من قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245].
عن عبدالله بن مسعود قال «لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا
أبا الدحداح» قال: أرني يدك، قال: فناوله، قال: فإني أقرضت الله حائطًا فيه ستمائة نخلة ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي قد أقرضت ربي عز وجل حائطًا فيه ستمائة نخلة»
…
قال ابن العربي: انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقسامًا فتفرقوا فرقًا ثلاثة: الفرقة الأولى الرذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب فرد الله عليهم بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرًا ولا أعانت أحدًا تكاسلا عن الطاعة وركونًا إلى هذه الدار.
الفرقة الثالثة: لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره والله أعلم 226، 227 - 228 بتصرف.
(270)
من قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]
استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ولهذه المبالغة لم يأت الكلام «ومن لم يشرب منه» . 3/ 240]
(271)
من قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249].
وفي قولهم رضي الله عنهم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم) وفيه مُسْندٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة قال الله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45] فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقًا وغربًا برًا وبحرًا وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم. [3/ 243، 244]
(272)
لولا عباد للإله ركع
…
وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع
…
صب عليكم العذاب الأوجع
[3/ 249]
(273)
من قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251].
قيل هذا الدفع بما شرع على ألسنة الرسل من الشرائع ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا وهذا قول حسن فإنه عمومٌ في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة. [3/ 249]
(274)
من قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].
قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل وأولو عزم ومنهم من اتخذ خليلا ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} [الإسراء: 55] وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]
قلت: وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما مُنح من الفضائل وأعطي من الوسائل وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدًا على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 29] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 1، 2] قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الجن والإنس ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده.
قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم وحسبك بقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] إلى آخر السورة وقال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26].
ثم قال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] فعمَّ
وخص ونفى عنهم الشين والنقص رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين. [3/ 251 - 253] بتصرف
(275)
من قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]
المكلم: موسى عليه السلام وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال: «نعم نبي مكلم» قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة فعلى هذا تبقى خاصية موسى وحذفت الهاء لطول الاسم والمعنى من كلمه الله. [3/ 253]
(276)
من قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255].
هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية
…
روى الأئمة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم» . قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال:«يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» ، قال: قلت: «{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}» فضرب في صدري وقال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر» .
وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا وهي خمسون كلمة
…
وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثمان عشرة مرة. [3/ 256 - 259] بتصرف
(277)
قال ابن عطية في قول أبي موسى «الكرسي موضع القدمين» يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك فهو مخلوق
عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه وهذا ليس بمرضي والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه.
وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أيّ ما أنزل الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي ثم قال: يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة» أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح وقال مجاهد: ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم. [3/ 266]
(278)
من قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]
اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال
…
ثم ذكر الأول والثاني ثم قال: الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بني النضر كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية إنما فعلنا ما
فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أوفى الأقوال لصحة إسناده وأن مثله لا يؤخذ بالرأي [3/ 268] بتصرف
(279)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]
هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكًا إذ آتاه الله الملك والعز والرفعة في الدنيا وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [النمل: 64]. {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68] أي: من حجة وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها وقال في قصة نوح عليه السلام: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] الآيات إلى قوله: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)} [هود: 35] وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين لأنه لا يظهر الفرق بين الحق
والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في آل عمران وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة إلى غير ذلك مما يكثر إيراده وفي قول الله عز وجل:{فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف وإلا فهو مِراءٌ ومكابرة. [3/ 273]
(280)
من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260].
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أن لو كان شاكًا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك
هو المنفي عن الخليل عليه السلام وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به يدلك على ذلك قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون عن الكبائر وعن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعًا. [3/ 284]
(281)
من قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261].
وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك وفي الكلام حذف مضاف تقديره: مثلُ نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة، وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت سبع سنابل يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] يعني على سبعمائة فيكون مثل المتصدق مثل الزارع إن كان حاذقًا في عمله ويكون البذر جيدًا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر فكذلك المتصدق إذا كان صالحًا والمال طيبًا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر. خلافًا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة [3/ 288]
(282)
وفي هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال ولذلك ضرب الله به المثل فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة» .
والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار، ولقي عبد الله بن عبدالملك ابن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه فأنشأ ابن شهاب يقول:
أقول لعبد الله يوم لقيته
…
وقد شد أحلاس المطي مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها
…
لعلك يومًا أن تجاب فترزقا
فيؤتيك مالًا واسعًا ذا مثابة
…
إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا
وحكي عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض. [3/ 390، 391] بتصرف
(283)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262]
المنُّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها .. والأذى: السب
والتشكي وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه وقال ابن زيد: لئن ظننتَ أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقًا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه
(1)
فإن عندي أسهمًا وجعبة فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. [3/ 293] بتصرف
(284)
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يُتبعه مَنًّا ولا أذى كقوله: ما أشد إلحاحك! وخلصنا الله منك! وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر والأجر الجنة ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه لأنه يغتبط بآخرته فقال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274] وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة على فضل الغني على الفقير. [3/ 293]
(285)
من قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263].
القول المعروف: هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء لأن ذكر القول المعروف فيه
(1)
يعني يأخذون النفقة لأكل الفواكه تمن عليهم بذلك.
أجر وهذه لا أجر فيها قال صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» أخرجه مسلم فيتلقى السائل بالبشر والترحيب ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورًا إن أعطى ومعذورًا إن منع وقد قال بعض الحكماء: اِلقَ صاحب الحاجة بالبشر فإن عَدِمتَ شكره لم تَعدِم عُذره.
{وَمَغْفِرَةٌ} المغفرة هنا: الستر للخَلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي وقد سأل قومًا بكلام فصيح فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال له: اللهم غفرًا! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل المعنى: تجاوزٌ عن السائل إذ ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه مع المن والأذى .... وقال النحاس .... والمعنى والله أعلم. وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وتقديره في العربية: وفعل مغفرة ويجوز أن يكون مثل قولك. تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها. [3/ 294، 295] بتصرف
(286)
قد كنت ميتًا فصرت حيًا
…
وعن قليل تصير ميتًا
فاخرب بدار الفناء بيتًا
…
وابن بدار البقاء بيتًا
[3/ 295]
(287)
العرب تقول لما يُمَنُّ به يدٌ سوداء ولما يُعطى عن غير مسألة: يد بيضاء ولما يُعطى عن مسألة: يد خضراء وقال بعض البلغاء: من مَنَّ بمعروفه سقط شكره ومن أعجب بعمله حبط أجره.
أفسدت بالمن ما أسديت من حَسَنٍ
…
ليس الكريم إذا أسدى بمنان
وقال أبو بكر الوراق فأحسن:
أَحسنُ من كل حَسَن
…
في كل وقت وزمن
صنيعةٌ مربوبةٌ
…
خالية من المنن
وسمع ابن سيرين رجلًا يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحصي 3/ 296
(288)
من قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265].
{وَتَثْبِيتًا} معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم قاله مجاهد والحسن.
قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك وقيل: معناه: تصديقًا ويقينًا قاله ابن عباس: وقال ابن عباس أيضًا وقتادة: معناه واحتسابًا من أنفسهم وقال الشعبي
…
{وَتَثْبِيتًا} معناه: وتيقنًا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتًا وهذه الأقوال الثلاثة أصوب من قول الحسن ومجاهد. [3/ 298]
(289)
من قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265].
والربوة: المكان المرتفع ارتفاعًا يسيرًا معه في الأغلب كثافة تراب وما كان كذلك فنباته أحسن ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق ونجد يقال لها حزن وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل. ولذلك قالت الأعرابية: زوجي كليل تهامة. [3/ 299]
(290)
…
فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة بخلاف الصفوان الذي انكشف عن ترابه فبقي صلدًا وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم» خرجه الموطأ أيضًا. [3/ 301]
(291)
من قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]
قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس:
في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله.
في رواية: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء فرضي ذلك عمر وروى ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء.
قال ابن عطية: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. [3/ 302]
(292)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]
قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد والآية تعم الوجهين.
لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ودرهم خير من تمرة.
تمسك أصحاب الندب بأن لفظة أفعل صالح للندب صلاحيته للفرض والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض والله أحق من اختير له.
قال ابن خويز منداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئًا» . [3/ 304] بتصرف
(293)
من قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]
{يَعِدُكُمُ} معناه: يخوفكم {الْفَقْرَ} أي بالفقر لئلا تنفقوا
…
قال ابن عباس في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة وللملك لمة فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان - ثم قرأ - {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]» ، قال:«هذا حديث حسن صحيح» . [3/ 311 - 312] بتصرف
(294)
من قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269].
قلت: وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو
فعل فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس فكتاب الله حكمة وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حكمة وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة.
وأصل الحكمة ما يُمتنع به من السَفة فقيل للعلم حكمة لأنه يُمتنع به وبه يعلم الامتناع من السفة وهو كل فعل قبيح
…
وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده
…
أخبرنا ثابت بن عجلان الأنصاري قال: كان يقال إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم قال مروان: يعني بالحكمة القرآن. [3/ 313] بتصرف
(295)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]
يقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها لأنه قال لأولئك {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] وسمي هذا خيرًا كثيرًا لأن هذا هو جوامع الكلم وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعًا قليلًا فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وسمى العلم والقرآن {خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. [3/ 313 - 314]
(296)
من قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271].
ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها وليس كذلك الواجبات قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن وإخفاء التطوع أفضل لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفًا وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفًا. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. قلت مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف 3/ 315
قوله: {فَنِعِمَّا هِيَ} ثناء على إبداء الصدقة ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره وإذا اصطنع إليك فانشره
قال دعبل الخزاعي:
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم
…
وإن أنعموا أنعموا باكتتام
وقال سهل بن هارون:
خِلٌ إذا جئته يومًا لتسأله
…
أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يُخفي صنائعه والله يظهرها
…
إن الجميل إذا أَخفيته ظَهرا
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث
خصال: تعجيله وتصغيره وستره فإذا أعجلته هنيته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته أتممته.
وقال بعض الشعراء فأحسن
زاد معروفك عندي عِظَمًا
…
أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور حقير
[3/ 317]
(297)
من قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272].
وحكي عن بعض العلماء كان يصنع كثيرًا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرًا فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي ويتلو {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} . [3/ 321]
(298)
من قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273].
أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرضى ولا عميان. [3/ 323].
(299)
من قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273].
فيه دليل على أن للسيما أثرًا في اعتبار من يظهر عليه ذلك حتى إذا رأينا ميتًا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل. واتفق العلماء على ذلك وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة والشافعي اعتبر قوت سنة ومالك اعتبر أربعين درهمًا والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب 3/ 324].
(300)
من قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
اختلف العلماء في معنى قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} على قولين فقال قوم منهم الطبري والزجاج إن المعنى لا يسألون البتة وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة وعلى هذا جمهور المفسرين ويكون التعفف صفة ثابتة لهم أي لا يسألون الناس إلحاحًا ولا غير إلحاح وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف أي إنهم يسألون غير إلحاف وهذا هو السابق للفهم أي يسألون غير ملحفين وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافًا. [3/ 325]
(301)
قال ابن عبدالبر: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن عنده ما يغديه ويعشيه. قيل لأبي عبدالله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر قيل له: فإن تعفف؛ قال ذلك خير له ثم قال: ما أظن أحدًا يموت من الجوع الله يأتيه برزقه ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري: «من استعف أعفه الله .... » .
فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده إذ هو رزق رزقه الله .... خرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني حتى إذا أعطاني مرة مالًا فقلت أعطه أفقر إليه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك» زاد النسائي بعد قوله: «خذه- فتموله أو تصدق به»
…
قال الأثرم سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يُسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف» أي الإشراف أراد؟ فقال أن تستشرفه وتقول: لعله يُبعثُ إليَّ بقلبك قيل له وإن لم يتعرض؟ قال نعم إنما هو بالقلب قيل له: هذا شديد قال: وإن كان شديدًا فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يُعودني في أن يرسل إلي شيئًا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلي قال: هذا إشراف فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر
على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف قال أبو عمر: الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه وأن يهش الإنسان ويتعرض وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد؛ لأن الله تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع. [3/ 327 - 328] بتصرف
(302)
فإن كان محتاجًا إلى ما يُقيم به سُنَّة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي: سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلًا يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابًا أخر فقيل لي: كساها إياها أبو الطاهر البرسني. [3/ 329]
(303)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].
في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا
وأعوذ بك أن أموت لديغًا» و
…
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام» والمس: الجنون يقال: مُس الرجل وأَلِسِ فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونًا وذلك علامة الربا في الآخرة. [3/ 337]
(304)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275].
أي: إنما الزيادة عند حلول الأجل آخِرًا كمثل أصل الثمن في أول العقد وذلك أن العرب كانت لا تعرف رِبًا إلا ذلك فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تربي أي تزيد في الدين فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أُنظر إلى الميسرة، وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال:«ألا إن كل ربًا موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» ؛ فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس. [3/ 339].
(305)
البيع في اللغة: مصدر باع كذا بكذا أي دفع عوضًا وأخذ معوضًا وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته ومبتاعًا وهو الذي يبذل الثمن ومبيعًا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن وعلى هذا فأركان البيع أربعة البائع والمبتاع والثمن والمثمن. ثم المعاوضة عند
العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعًا، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة: فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحًا، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة وإن كان عينًا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف وإن كان بدين مؤجل فهو السلم. [3/ 339]
(306)
ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلا سكرانًا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى انظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له امرأتك طالق إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم أر شيئًا أشر من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب. [3/ 346]
(307)
من قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مع قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالمًا فإن الله تعالى يقول {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] فجعل له المطالبة برأس ماله فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه. [3/ 353].
(308)
من قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة: 280].
ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرًا من إنظاره.
روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنظر معسرًا كان له بكل يوم صدقة» ثم قلت: بكل يوم صدقة قال: فقال: بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة. وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه. وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر فقال: آلله؟ قال: آلله قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن مُعْسرٍ أو يضع عنه» .
وفي حديث أبي اليسر الطويل واسمه كعب بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله» ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته وإن لم
تثبت عُسرته عند الحاكم وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل. [3/ 356 - 357] بتصرف
(309)
من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281].
قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء .... والآية وعظ لجميع الناس وأمرٌ يخص كل إنسان .. قال ابن جني: كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقًا بهم. وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية. [3/ 357 - 358] بتصرف
(310)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
ذهب بعض الناس إلى أن كَتْبَ الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية بيعًا كان أو قرضًا لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وهو اختيار الطبري وقال ابن جريج: من أدان فليكتب ومن باع فليشهد
…
وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب. وإذا كان الغريم تقيًا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق.
قال بعضهم: إن أشهدت فحزم وإن أئتمنت ففي حل وسعة. ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. [3/ 364]
(311)
قوله تعالى: {بِالْعَدْلِ} أي: بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل
…
قال مالك -رحمه الله تعالى-: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]. [3/ 365]
(312)
قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].
وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. والإملاء والإملال لغتان أملّ وأملَى فأملّ لغة أهل الحجاز وبني أسد وتميم تقول: أمليت وجاء القرآن باللغتين قال عز وجل: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5]، والأصل أمللت أبدل من اللام ياء لأنه أخف فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره وأمره تعالى بالتقوى فيما يُملّ ونهى عن أن يبخس شيئًا من الحق والبخس النقص. [3/ 366]
(313)
قوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ} رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا
…
وشهيد بناء مبالغة وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه فكأنه إشارة إلى العدالة والله أعلم. [3/ 370]
(314)
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282].
أي: إن لم يكن المستشهد رجلين أي: إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلًا وامرأتين فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ولم يذكرها في غيرها فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور بشرط أن يكون معهما رجل وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. [3/ 372]
(315)
قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية وذلك يتم بأن يكون مجتنبًا للكبائر محافظًا على مروءته وعلى ترك الصغائر ظاهر الأمانة غير مغفل. وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل والمعنى متقارب. [3/ 376]
(316)
لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة وهي قبول قول الغير على الغير شرط تعالى فيها الرضا والعدالة فمن حِكم الشاهد أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات
والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. [3/ 376].
(317)
قوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
{تَسْأَمُوا} معناه: تملوا {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} حالان من الضمير في {تَكْتُبُوهُ} ، وقدم الصغير اهتمامًا به وهذا النهي عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكَتْب ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه فأكد تعالى التحضيض في القليل والكثير قال علماؤنا: إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفس إليه إقرارًا وإنكارًا. قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} معناه أعدل يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أي أصح وأحفظ (وأدنى) معناه أقرب و {تَرْتَابُوا} تشكوا. [3/ 381] بتصرف.
(318)
قوله تعالى: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدين فكان الكتاب توثقًا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب فأما إذا تفاضلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. [3/ 382]
(319)
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه أي يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يلقى إليه وقد يجعل الله
في قلبه ابتداء فرقانًا أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل ومنه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] والله أعلم. [3/ 386]
(320)
من قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين لئلا يسول الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية. فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66] الآية. [3/ 395]
(321)
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» . وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استدانت فقيل: يا أم المؤمنين تستدينين وليس عندك وفاء!
قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ دينًا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه» وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها» قالوا يا رسول الله وما ذاك؟ قال: «الدين» وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» .
قال العلماء: ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه وهو مأخوذ من قول العرب حِمْل مُضْلِع أي ثقيل ودابة مُضْلِع لا تقوى على الحمل قاله صاحب العين.
قال علماؤنا: وإنما كان -الدين- شينًا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه والتذلل للغريم عند لقائه وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف أو يحدث الغريم بسببه فيكذب أو يحلف له فيحنث إلى غير ذلك ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من المأثم والمغرم وهو الدين فقيل له يا رسول الله ما أكثر ما تتعوذ من المغرم؟ فقال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف» وأيضًا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به كما قال عليه الصلاة والسلام: «نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يُقضى عنه» وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله والله أعلم. [3/ 395 - 397] بتصرف
(322)
ومتى صح القصد فجمعه - أي المال - أفضل بلا خلاف عند العلماء وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه فإن مات تركه ميراثًا لمن بعده. وخلّف ابن المسيب أربعمائة دينار وخلف سفيان الثوري مائتين وكان يقول المال في هذا الزمان سلاح. وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء وإنما تحاماه قوم منهم إيثارًا للتشاغل بالعبادات وجمع الهم فقنعوا باليسير فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم قلت: ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها. قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» . [3/ 400 - 401].
(323)
من قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته حكاه الجوهري.
والوسع: الطاقة والجِدة وهذا خبر جزم نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر وفي معنى الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وددت أن أحدًا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب فإني تبعته يومًا وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثاره فشقه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّبِّ وهو يقول:
ما كلف الله نفسًا فوق طاقتها
…
ولا تجود يد إلا بما تجد
[3/ 409]
(324)
من قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
يريد من الحسنات والسيئات
…
وهو مثل قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان.
وجاءت العبارة في الحسنات ب {لَهَا} من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات ب {وَعَلَيْهَا} من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة وهذا كما نقول لي مال وعلي دين، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنًا لنمط الكلام كما قال:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17]. قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازًا لهذا المعنى. [3/ 410] بتصرف
(325)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
المعنى: اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما كقوله
عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أي إثم ذلك وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيًا في رمضان أو حنث ساهيًا وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانًا ويعرف ذلك في الفروع. [3/ 411]
(326)
من قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286].
قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} أي عن ذنوبنا، عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: استر على ذنوبنا، والغفر: الستر {وَارْحَمْنَا} أي: تفضل برحمة مبتدئًا منك علينا {أَنْتَ مَوْلَانَا} أي ولينا وناصرنا- وخرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة أي سورة البقرة قال آمين. قال ابن عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك فكمال وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء وهنا دعاء فحسن. [3/ 412 - 413]
(327)
الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة [285 - 286] {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}.
قال علي بن أبي طالب: «ما أظن أن أحدًا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما» .
قلت: قد روى مسلم في هذا المعنى عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» قيل: من قيام الليل. وقيل: كفتاه من شر الشيطان فلا يكون له عليه سلطان.
وأسند أبو عمرو الداني عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه هذه الثلاث آيات التي ختم بهن البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال» .
قال المحقق: تنبيه: وقع عند المصنف (القرطبي) فأنزل منه هذه الثلاث آيات والذي عند الترمذي وغيره وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة)
…
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي» وهذا صحيح. [3/ 411 - 412] بتصرف
(328)
للعلماء في تسمية (البقرة وآل عمران) بالزهراوين ثلاثة أقوال:
الأول: أنهما النيرتان مأخوذ من الزهر والزهرة فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما أي من معانيهما وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة وهو القول الثاني.
الثالث: سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين» «{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] والتي في آل عمران {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]» أخرجه ابن ماجه أيضًا. والغمام السحاب الملتف، وهو الغياية إذا كانت قريبًا من الرأس وهي الظلة أيضًا والمعنى: أن قارئهما في ظل ثوابهما. [4/ 7]
(329)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6].
{كَيْفَ يَشَاءُ} يعني: من حُسن وقُبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة. وذكر عن إبراهيم بن أدهم: أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث، فقال لهم: إني مشغول عنكم بأربعة أشياء فلا أتفرغ لرواية الحديث. فقيل له: وما ذاك الشغل؟ قال: أحدها: أني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال: هؤلاء في الجنة
ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني: حيث صُوِّرتُ في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام. يا رب شقي هو أم سعيد. فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت، والثالث: حين يقبض ملك الموت روحي، فيقول: يا رب مع الكفر أم مع الإيمان، فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع: حيث يقول: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} [يس: 59] فلا أدري في أي الفريقين أكون. [4/ 12]
(330)
من قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة فقال جابر بن عبدالله وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: «المحكمات من آي القرآن ما عُرف تأويله وفُهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه» .
قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. [4/ 13].
(331)
ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وأن ما بعده استئناف
كلام آخر وهو قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة. [4/ 19]
(332)
فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه والله يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فكيف لم يجعله كله واضحًا؟ قيل له: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن يظهر فضل العلماء لأنه لو كان واضحًا لم يظهر فضل بعضهم على بعض، وهكذا يفعل من يصنف تصنيفًا يجعل بعضه واضحًا وبعضه مشكلًا ويترك للجثوة
(1)
موضعًا لأن ما هان وجوده قل بهاؤه والله أعلم. [4/ 22].
(333)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8].
أي: ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا.
وقيل: هو منقطع مما قبل وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت، وهي أهل الزيغ وفي الموطأ عن أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب؛ فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل ثم قام في الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن، وهذه الآية: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا
…
} الآية [آل عمران: 8] قال العلماء: قراءته بهذه
(1)
الجماعة.
الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم وفي كل صلاة أيضًا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم، وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك قالت: «كان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ! فقلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! قال: «يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» ، فتلا معاذ:«{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]» . قال: «حديث حسن» . [4/ 22 - 23]
(334)
من قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران: 13].
اختلف من المخاطب بها فقيل: يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار. ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة وبكل احتمال منها قد قال قوم وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع. [4/ 27]
(335)
من قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14].
بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء» أخرجه البخاري ومسلم.
ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء ويقال: في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة واحدة فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم. [4/ 30]
(336)
ومن أحسن ما قيل:
النار آخر دينار نطقت به
…
والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما إن كان ذا ورع
…
معذب القلب بين الهم والنار
[4/ 33]
(337)
في «سنن ابن ماجه» عن عروة البارقي يرفعه قال: «الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة»
…
وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «اتخذي غنمًا فإن فيها بركة» . [4/ 36].
(338)
وفي حديث عبدالله: «احرثوا هذا القرآن» أي: فتشوه.
قال ابن الأعرابي: الحرث التفتيش. قال المحقق في الحاشية: «ورد عن ابن مسعود موقوفًا أخرجه الطبراني في الكبير ولفظه: «من أراد العلم فليثور بالقرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين» . [4/ 37]
(339)
وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سِكةً -وهي الحديدة التي تحرث بها الأرض- وشيئًا من آلة الحرث فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل» قيل: إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين وقال المهلب: معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم: الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم. الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة ألا ترى أن عمر قال: تمعدووا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل فأمرهم بملازمة الخيل ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها. [4/ 38]
(340)
قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق- السواد والقرى- فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول فأما النساء والبنون ففتنة للجميع. [4/ 38]
(341)
قال صلى الله عليه وسلم: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن عفان. وسئل سهل بن عبدالله: بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات؟ قال: «بتشاغله بما أمر به» . [4/ 39]
(342)
وقال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم. [4/ 43]
(343)
من قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18].
في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: «وقل رب زدني علمًا» فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن العلماء ورثة الأنبياء» . [4/ 44]
(344)
من قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].
كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم وقال جعفر الصادق:«الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم يعني قولوا: لا إله إلا الله العزيز الحكيم» . [4/ 47]
(345)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 21].
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبًا في الأمم المتقدمة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة
…
وليس من شرط الناهي أن يكون عدلًا عند أهل السنة خلافًا للمبتدعة حيث تقول لا يغيره إلا عدل وهذا ساقط فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس فإن تشبثوا بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقوله:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3] ونحوه قيل لهم: إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى. [4/ 50 - 51]
(346)
أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك قال: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا ولكنها مقيدة بالاستطاعة قال
الحسن: إنما يُكَلَّمُ مؤمن يرجى أو جاهل يُعَلَّم فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال اتقني اتقني فما لك وله. وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرًا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. [4/ 51]
(347)
وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم وعالم على سبيل الهدى ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. [4/ 53]
(348)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33].
{وَنُوحًا}
…
وهو شيخ المرسلين وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات ومن قال إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم. [4/ 64].
وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء بقضهم وقضيضهم من نسلهم. [4/ 65]
(349)
من قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35].
قيل: إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد وكانوا أهل بيت من الله بمكان وأنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا أي: -يطعمه بمنقاره- فتحركت نفسها لذلك ودعت ربها أن يهب لها ولدًا
ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررًا أي عتيقًا خالصًا لله تعالى خادمًا للكنيسة حَبيسًا عليها مفرغا لعبادة الله تعالى وكان ذلك جائزًا في شريعتهم وكان على أولادهم أن يطيعوهم فلما وضعت مريم قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36]، يعني: أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة قيل لما يصيبها من الحيض والأذى وقيل لا تصلح لمخالطة الرجال وكانت ترجو أن يكون ذكرًا فلذلك حررت. [4/ 68]
(350)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36].
هو على قراءة من قرأ وضعتُ بضم التاء من جملة كلامها فالكلام متصل وهي قراءة أبي بكر وابن عامر وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء ولم تقله على طريق الإخبار؛ لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور: {وَضَعَتْ} هو من كلام الله عز وجل قُدم وتقديره أن يكون مؤخرًا بعد {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} [آل عمران: 36]، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36]، قاله المهدوي. [4/ 19]
(351)
من قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38].
.. فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية
ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية وأن يكونا مُعينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما أولاه وأخراه ألا ترى قول زكريا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 6] وقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ، وقال:{هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال:«اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» خرجه البخاري ومسلم وحسبك. [4/ 75]
(352)
قال قتادة: سمي بيحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة، وقال بعضهم سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل:«اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى وقيل لأنه أحيا به رحم أمه» . [4/ 77]
(353)
من قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39].
يعني: عيسى في قول أكثر المفسرين وسمي عيسى كلمة؛ لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي {كُنْ} [آل عمران: 47] فكان من غير أب- وقيل غير ذلك- والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. [4/ 77]
(354)
من قوله تعالى: {وَسَيِّدًا} [آل عمران: 39].
السيد: الذي يسود قومه ويُنتهى إلى قوله
…
ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدًا كما يجوز أن يسمى عزيزًا أو كريمًا وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قريظة: «قوموا إلى سيدكم» وفي البخاري ومسلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين» وكذلك كان. [4/ 77]
(355)
من قوله تعالى: {وَحَصُورًا} [آل عمران: 39].
هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح الأقوال لوجهين:
أحدهما: أنه مدح وثناء عليه والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب.
الثاني: أن فعولًا في اللغة من صيغ الفاعلية كما قال:
ضروب بنصل السيف سُوْقٌ سمانها
…
إذا عَدِمُوا زادًا فإنك عاقر
فالمعنى: أنه يحصر نفسه عن الشهوات. ولعل هذا كان شرعه. [4/ 79]
(356)
من قوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].
الرمز في اللغة: الإيماء بالشفتين وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين وأصله الحركة وقيل طلب تلك الآية زيادة طمأنينة، المعنى تتم النعمة بأن تجعل لي آية وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة فقيل له:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} أي تمتنع عن الكلام ثلاث ليال
…
وفي هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر
السوداء حين قال لها: «أين الله؟» ، فأشارت برأسها إلى السماء فقال:«أعتقها فإنها مؤمنة» ؛ فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجي به من النار وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة وهو قول عامة الفقهاء. [4/ 81 - 82] بتصرف
(357)
من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} [آل عمران: 41].
قال محمد بن كعب القرظي: لو رُخِّصَ لأحدٍ في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]، ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45].
(358)
من قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)} [آل عمران: 42]
كرر الاصطفاء؛ لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته ومعنى الثاني لولادة عيسى. [4/ 82]
(359)
وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدًا من النساء وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة فليس هذا لأحد من النساء {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12]، ولم تسأل آية عندما
بُشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم الآية ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، وقال:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 12]؛ فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت.
وإنما بُشِّر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]، فسأل آية وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها:{كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم: 21]، فاقتصرت على ذلك وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر ومن لامرأةٍ في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب؟! [4/ 85]
(360)
من قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44].
استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة .... قال أبو عبيد: «وقد عمل بالقرعة، ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم» . قال ابن المنذر: «واستعمال القرعة كالإجماع من
أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء فلا معنى لقول من ردها، وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44]». [4/ 87 - 88]
(361)
وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. [4/ 88]
(362)
من قوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45].
واختلف في المسيح ابن مريم مماذا أخذ فقيل: لأنه مسح الأرض أي ذهب فيها فلم يستكن بكن. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء فكأنه سمي مسيحًا لذلك
…
وقيل: لأنه ممسوح بدهن البركة كانت الأنبياء تمسح به طيب الرائحة فإذا مسح به علم أنه نبي وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين. وقيل: لأن الجَمَال مَسَحَهُ أي أصابه وظهر عليه. وقيل: إنما سمي بذلك لأنه مُسح بالطهر من الذنوب.
وقال أبو الهيثم: «المسيح ضد المسيخ يقال: مسحه الله أي خلقه حسنا مباركًا ومسخه أي خلقه خلقًا ملعونًا قبيحًا» .
وقال ابن الأعرابي: «المسيح الصديق والمسيخ الأعور وبه سمي الدجال» .
وقال أبو عبيد: «المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى» . [4/ 90]
(363)
من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس. [4/ 1010]
(364)
من قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61].
هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارًا فإن محمدًا نبي مرسل ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلًا من الإسلام. [5/ 1041]
(365)
من قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [آل عمران: 65].
قال الزجاج: «هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لوِاحِدٍ من الأديان واسم الإسلام
في كل كتاب ويقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى أيضًا ألف سنة {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [آل عمران: 65] دحوض حجتكم وبطلان قولكم، والله أعلم». [4/ 108]
(366)
من قوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66].
في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له والحظر على من لا تحقيق عنده.
وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» ، قال: نعم، قال:«ما ألوانها؟» ، قال: حمر، قال:«هل فيها من أورق؟» ، قال: نعم. قال: «فمن أين ذلك؟» ، قال: لعل عرقًا نزعه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذا الغلام لعل عرقًا نزعه» ، وهذا حقيقة الجدال، ونهاية تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. [4/ 108]
(367)
من قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75].
ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافًا لمن ذهب
إلى ذلك لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولًا فطريق العدالة والشهادة ليس يجزى فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ألا ترى قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، فكيف يُعَدَّل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه ولو كان ذلك كافيًا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين. [4/ 116]
(368)
قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم. [4/ 117]
(369)
من قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].
الربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور روي معناه عن ابن عباس.
فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم. [4/ 120]
(370)
من قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].
عن مجاهد عن ابن عباس قال: «إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسًا
(1)
؛ فليقرأ في أذنها هذه الآية: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] إلى آخر الآية». [4/ 125]
(371)
من قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].
يقال: ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالمًا لا يهديه الله وقد رأينا كثيرًا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله وكثيرًا من الظالمين تابوا عن الظلم قيل له معناه: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك والله تعالى أعلم. [4/ 127]
(372)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} [آل عمران: 91].
وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا
(1)
أي جموح تمنع ظهورها.
أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» لفظ البخاري. وقال مسلم بدل: «قد كنت؟ كذبت قد سئلت» . [4/ 12]
(373)
من قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلها في قرابتك في حسان بن ثابت وأبي بن كعب» ، وفي «الموطأ»:«وكانت أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب» ، وذكر الحديث ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك ألا ترى أبا طلحة حين سمع {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]
…
الآية لم يحتج أن يقف حتى يَرِدَ البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك؛ فإنهم يحبون أشياء كثيرة، وكذلك فعل زيد بن حارثة: عمد مما يحب إلى فرس يقال له سبل وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا في سبيل الله، فقال لأسامة بن زيد: اقبضه فكأن زيدًا وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد قبلها منك» ذكره أسد بن موسى.
وأعتق ابن عمر نافعًا مولاه وكان أعطاه فيه عبدالله بن جعفر ألف دينار.
قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله عز وجل يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فأعتقها عمر رضي الله عنه. وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خثيم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي يا فلانة أعطي السائل سُكرًا فإن الربيع يحب السكر.
قال سفيان: يتأول قوله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها! فقال لأن السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب. وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ولا تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
وقال عطاء: «لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر» . [4/ 129 - 130].
(374)
من قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93].
قال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء
له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه فقالت اليهود: إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل لأن يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} [آل عمران: 93]. قال الضحاك: فكذبهم الله ورد عليهم فقال: يا محمد {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: 93]، فلم يأتوا فقال عز وجل:{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)} [آل عمران: 94]. قال الزجاج: في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه ليس في كتابهم وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا؟ يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. [4/ 132]
(375)
ترجم ابن ماجه في «سننه» : «دواء عرق النسا»
…
أنه سمع أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء» . وأخرجه الثعلبي في «تفسيره» أيضًا من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا: «تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارًا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا» . قال أنس: «فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى» . قال شعبة: «حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا: أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينك بنار أو لأحلقنك بموس قال شعبة: قد جربته تقوله: وتمسح على ذلك الموضع» . [4/ 133]
(376)
وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه» . [4/ 134]
(377)
من قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96].
بكة: مشتقة من البك وهو الازدحام تباك القوم ازدحموا وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم والبك دق العنق وقيل سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم قال عبدالله بن الزبير: لم يقصدها جبار بسوء إلا وقصه الله عز وجل، وأما مكة فقيل: إنها سميت بذلك لقلة مائها، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومكَّ الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه وقيل سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه وتنقصه. [4/ 135]
(378)
من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
قال الحسن: «الحج المبرور هو أن يرجع زاهدًا في الدينار راغبًا في الآخرة» .
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ} اللام في قوله ولله لام الإيجاب والإلزام ثم أكده بقوله تعالى: {عَلَى} التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب فإذا قال العربي: «لفلان علي كذا» ؛ فقد وكده وأوجبه فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدًا لحقه وتعظيمًا لحرمته ولا خلاف في فريضته وهو أحد قواعد الإسلام وليس يجب إلا مرة في العمر، وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام مرة ورووا في ذلك حديثًا أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحديث باطل لا يصح، والإجماع صاد في وجوههم.
قلت: ذكر عبدالرزاق قال: حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الرب جل وعز: «إن عبدًا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم» . مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين روى عنه غير واحد منهم من قال: في كل خمسة أعوام ومنهم من قال: عن العلاء بن يونس بن خباب عن أبي سعيد في غير ذلك من الاختلاف. قال المحقق في الحاشية: «الراجح وقفه» . [4/ 139]
(379)
من قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101].
وقال قتادة: في هذه الآية علمان بينان كتاب الله ونبي الله؟ فأما نبي
الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. [4/ 153]
(380)
من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة ورحم الله ابن المبارك، حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
…
منه بعروته الوثقى لمن دانا
وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع فإن ذلك ليس اختلافًا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون. [4/ 156]
(381)
من قوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
أي: صرتم بنعمة الإسلام إخوانًا في الدين وكل ما في القرآن {فَأَصْبَحْتُمْ} معناه: صرتم كقوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30]، أي: صار غائرًا.
والإخوان جمع أخ وسمي أخًا لأنه يتوخى مذهب أخيه أي: يقصده. [4/ 161].
(382)
من قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
روي أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبدالله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر ولا رجالك كرجال عمر وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني» بقوله: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله» قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين ويكثر فيه الفسق والهرج ويُذل المؤمن ويُعز الفاجر ويعود الدين غريبًا كما بدأ غريبًا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر فيستوي حينئذٍ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب والله يؤتي فضله من يشاء. [4/ 170]
(383)
من قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111].
فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. [4/ 171]
(384)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118].
والبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر وبطن فلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصًا به
قال الشاعر:
أولئك خلصاني نعم وبطانتي
…
وهم عيبتي من دون كل قريب
نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء أخلاء وولجاء يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم
…
ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]، يقول: فسادًا يعني لا يتركون الجهد في فسادكم يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة.
روي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميًا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتابٌ فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني؛ فانتهره عمر وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ولا تأمنهم وقد خونهم الله.
وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلًا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال لا آخذ بطانة من دون المؤمنين فلا يجوز استكتاب أهل الذمة ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.
قلت -القرطبي-: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة والأغبياء من الولاة والأمراء. [4/ 175 - 176]
(385)
من قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118].
يعني: ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم
…
وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه فهم فوق المتستر الذي تبدوا البغضاء في عينيه. [4/ 177]
(386)
من قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
{وَإِنْ تَصْبِرُوا} : أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين {وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]؛ فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم. [4/ 180]
(387)
وفي هذه الغزاة -أي غزوة أحد- قُتل حمزة رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله وحشي وكان وحشي مملوكًا لجبير بن مطعم.
وقال عبدالله بن رواحة يبكي حمزة رضي الله عنه:
بكت عيني وحق لها بُكاها
…
وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا
…
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعًا
…
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت
…
وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان
…
مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرًا
…
فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم
…
بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيًا
…
فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا
…
وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر
…
غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعًا
…
عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعًا
…
وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعبًا
…
وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها
…
ففي أسيافنا منهم فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتًا
…
بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي
…
فأنت الواله العبرى الهبول
[4/ 184]
(388)
من قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122].
التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لابد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًا بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل فيه وبمشيئته ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم ثم المتوكلون على حالين:
الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر.
الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانًا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين. [4/ 186]
(389)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
{أَذِلَّةٌ} : معناها قليلون وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلًا وكان عددهم -أي المشركون- ما بين التسعمائة إلى الألف و {أَذِلَّةٌ} جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يُغلبون والنصر العون فنصرهم الله يوم بدر وقتل فيه صناديد المشركين وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم. [4/ 186]
(390)
قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة وسراياه ست وخمسون وفي رواية ست وأربعون والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح وحنين والطائف قال ابن سعد: هذا الذي اجتمع لنا عليه وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة. [4/ 187].
(391)
من قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} [آل عمران: 124].
وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولأن الله
تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم.
وقال ابن عباس ومجاهد: «لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددًا» .
وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت والأول أكثر قال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف. [4/ 190]
(392)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130].
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قصة أحد قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئًا مرويًا. قلت: قال مجاهد كانوا يبيعون البيع إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} . قلت: وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، والحرب يؤذن بالقتل فكأنه يقول إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم فأمرهم بترك الربا لأنه كان معمولًا به عندهم، والله أعلم. [4/ 128]
(393)
ذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكثر ما يُنزع الإيمان من العبد عند الموت، ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئًا أسرع نزعًا للإيمان من ظلم العباد. [4/ 199]
(394)
من قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133].
ونبه تعالى بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقوله تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأتقن من البطائن وتقول العرب بلاد عريضة وفلاة عريضة أي واسعة».
وقال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة
…
على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل
والكفة: ما يصاد به الظباء يجعل كالطوق.
وقال قوم: الكلام جاء على مقطع العرب من الاستعارة فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض، كما تقول للرجل: هذا بحر ولشخص كبير من الحيوان هذا جبل ولم تقصد الآية تحديد العرض ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه.
وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة لقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]، وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. [4/ 201]
(395)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134].
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه و {السَّرَّاءِ} اليُسر و {وَالضَّرَّاءِ} العُسر. قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. [4/ 202]
(396)
من قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134].
كظم الغيظ رده في الجوف يقال: كظم غيظه أي سكت عليه، ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه.
والغيظ أصل الغضب وكثيرًا ما يتلازمان لكن فُرقان ما بينهما أن الغيظ لا يظهر على الجوارح بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما ولا بد.
(397)
من قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134].
فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى: 37]، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث وذلك من
أعظم العبادة وجهاد النفس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرًا من جرعة غيظ في الله» .
قال العرجي:
وإذا غضبت فكن وقورًا كاظمًا
…
للغيظ تُبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفًا تصبر ساعة
…
يرضى بها عنك الإله وترفع
وقال عروة بن الزبير في العفو:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا
…
حتى يُذَلُّو وإن عَزوا لأقوام
ويُشتموا فترى الألوان مشرقة
…
لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
[2/ 204].
(398)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134].
قال سري السقطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان فليس كل وقت يمكنك الإحسان.
قال الشاعر:
بادر بالخير إذا ما كنت مقتدرًا
…
فليس في كل وقت أنت مقتدر
وقال أبو العباس الجماني فأحسن:
ليس في كل ساعة وأوان
…
تتهيأ صنائع الإحسان
وإذا أمكنت فبادر إليها
…
حذرًا من تعذر الإمكان
[4/ 205]
(399)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارًا من أبي هريرة وكان مكحول كثير الاستغفار.
قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان فأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر وروي عن الحسن أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
قلت: هذا يقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعمًا أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف وفي التنزيل:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]. [4/ 207]
(400)
من قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 135].
الإصرار: هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه ومنه صَرُّ الدنانير أي الربط عليها وقال قتادة: الإصرار: الثبوت على المعاصي.
قال سهل بن عبد الله: الجاهل ميت والناسي نائم والعاصي سكران
والمصر هالك والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول أتوب غدًا وهذا دعوى النفس كيف يتوب غدًا وغدًا لا يملكه! وقال غير سهل: الإصرار: هو أن ينوي ألا يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار وقول سهل أحسن. [4/ 208]
(401)
قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» . أخرجاه في «الصحيحين» .
قال بعضهم:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
…
بما جنى من الذنوب واقترف
وقال آخر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه
…
إن الجحود جحود الذنب ذنبان
[4/ 310]
(402)
في قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا} [آل عمران: 135] حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قاله سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب: إن الإنسان يؤاخذ بما وطَّن عليه بضميره وعزم عليه بقلبه من المعصية.
قلت: وفي التنزيل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وقال: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]، فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم
…
وفي البخاري «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قالوا:
يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» ؛ فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح وَأَنصُّ من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعًا: «إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل أعطاه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء ورجل آتاه الله مالًا ولم يؤته علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا؛ فهذا بأخبث المنازل ورجل لم يؤته الله مالًا ولا علمًا فهو الذي يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء» ، وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه لا يؤاخذ به ولا حجة له في قوله صلى الله عليه وسلم:«من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة» لأن معنى «فلم يعملها» فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا ومعنى «فإن عملها» أي: أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا والله أعلم. [4/ 211 - 212] بتصرف
(403)
من قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139].
في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبيائه لأنه
قال لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]، وقال لهذه الأمة:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139]، وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي. قال للمؤمنين:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . [2/ 214]
(404)
من قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون وقيل:{نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر، والدولة: الكرة
قال الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا
…
ويوم نُساء ويوم نُسر
[4/ 412]
(405)
من قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
أي: يكرمكم بالشهادة أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم وقيل لهذا قيل شهيد.
وقيل: سمي شهيدًا؛ لأنه مشهود له بالجنة وقيل سمي شهيدًا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة وهذا هو الصحيح. [4/ 214 - 215]
(406)
من قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].
هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم: .. فظهرت عنده شجاعته وعلمه قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح الحديث؛ كذا في البخاري. [4/ 218]
(407)
لم أُخر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته.
الثاني: لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه قال قوم في البقيع وقال آخرون في المسجد وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى قال العالم الأكبر -أبو بكر الصديق رضي الله عنه سمعته يقول: «ما دفن نبي إلا حيث يموت» ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما.
الثالث: أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا؛ فكشف الله به الكربة من أهل الردة وقام به الدين
والحمد لله رب العالمين، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه، والله أعلم. [4/ 220]
(408)
من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145].
هذا حض على الجهاد وإعلام أن الموت لابد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له لأن معنى {مُؤَجَّلًا} إلى أجل ومعنى {بِإِذْنِ اللَّهِ} بقضاء الله وقدره. [4/ 222]
(409)
من قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146].
ومعنى الآية: تشجيع المؤمنين والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم والربيون الجماعات الكثيرة. [4/ 225]
(410)
من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} يعني: الصغائر.
{وَإِسْرَافَنَا} يعني: الكبائر. والإسراف: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد، وفي «صحيح مسلم» عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري
وما أنت أعلم به مني
…
» وذكر الحديث، فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه ولا يقول أختار كذا فإن الله تعالى قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم وأوليائه وعلمهم كيف يدعون. [4/ 226]
(411)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} [آل عمران: 152].
{تَحُسُّونَهُمْ} معناه تقتلونهم وتستأصلونهم.
قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسًا فأصبحت فأصبحت
…
بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وأصله من الحِسّ الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حَسه أذهب حِسَّه بالقتل. [4/ 230]
(412)
من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} [آل عمران: 152].
وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم رضي الله عنهم ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام ثم بين سبب التنازع فقال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني الغنيمة.
قال ابن مسعود: «ما شعرنا أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد» .
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وهم الذين ثبتوا في مركزهم ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبد الله بن جبير فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي رحمهم الله والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت فإن من ثبت فاز بالثواب وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة بل هو سبب المثوبة والله أعلم. [4/ 231]
(413)
من قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154].
تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه» {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] يعني المنافقين معتب بن قشير وأصحابه وكانوا خرجوا طمعًا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ويقولون الأقاويل {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 154]، أي: من أمر الخروج وإنما خرجنا كرهًا يدل عليه قوله إخبارًا عنهم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. [4/ 236]
(414)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155].
{اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم فكرهوا الثبوت لئلا يُقتلوا وهو معنى {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ، وقيل: استزلهم: حملهم على الزلل.
ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة فإنما تولوا لهذا وهذا على القول الأول وعلى الثاني: بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة وقال الحسن: {مَا كَسَبُوا} قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم.
وعلى الجملة فإن حُمِلَ الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه وإن حُمِلَ على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. [4/ 237 - 238] بتصرف
(415)
من قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156].
يعني: ظنهم وقولهم: أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا {حَسْرَةً} أي: ندامة {فِي قُلُوبِهِمْ} والحسرة الاهتمام على فائت لم يُقدر بلوغه.
وقيل: لا تكونوا مثلهم {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ} القول: {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} ؛ لأنهم ظهر نفاقهم. وقيل المعنى: لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم فكان ذلك حسرة في قلوبهم وقيل: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يوم القيامة لما هم
فيه من الخزي والندامة ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. [4/ 240]
(416)
من قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
ومعنى الآية: أنه عليه الصلاة والسلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه.
والفظ: الغليظ الجافي. وغِلَظُ القلب: عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة.
ومن ذلك قول الشاعر:
يُبكى علينا ولا نبكي على أحد
…
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. [4/ 241]
(417)
من قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريجٍ بليغ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم مَالَهُ في خاصته عليهم من تبعة.
فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضًا.
فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور. [40/ 241]
(418)
من قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
روي عن الحسن البصري والضحاك قالا: «ما أمر الله تعالى نبيه
بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ولتقتدي به أمته من بعده». [4/ 242]
(419)
ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل
…
واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه
…
في قوله: شاورهم وتوكل
وجاء في «مصنف أبي داوود» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن» قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا دينا وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه قاله الخطابي وغيره.
وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا وادًّا في المستشير قال:
وإن باب أمر عليك التوى
…
فشاور لبيبًا ولا تعصه
وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليًا وأنت تأخذه مجانًا وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة وهي أعظم النوازل شورى.
قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها.
وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخش الله تعالى.
وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم.
والشورى مبنية على اختلاف الآراء والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولًا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلًا عليه إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب وبهذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية. [4/ 243 - 244] بتصرف.
(420)
من قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم. والعزم: هو الأمر المُرَوَّى المنقح وليس ركوب الرأي دون تروية عزمًا إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال:
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه
…
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه
…
ولم يرض إلا قاثم السيف صاحبا صاحبا
وقال ابن عطية:
…
الحزم: جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه والعزم قصد الإمضاء .. فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول قد أَحْزِمُ لو أَعْزِم. [2/ 244 - 245] بتصرف
(421)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].
أي: يأتي به حاملًا له على ظهره ورقبته معذبًا بحمله وثقله ومرعوبًا بصوته وموبخًا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد
…
وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر في أن ينصب له لواء عند استه بقدر غدرته وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر:
أَسُمَيَّ ويحكِ هل سمعتِ بغدرة
…
رُفع اللواء لنا بها في المجمع
وكانت العرب ترفع للغادر لواء وكذلك يُطاف بالجاني مع جنايته. [4/ 249]
(422)
ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها ويدخل غيرها في معناها قال الزهري: «إياك وغلول الكتب فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها» . [4/ 255]
(423)
من قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163].
فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدرجة ثم المؤمنون يختلفون أيضًا فبعضهم أرفع درجة من بعض وكذلك الكفار والدرجة الرتبة ومنه الدرج لأنه يُطوى رتبة بعد رتبة والأشهر في منازل جهنم دركات كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، فلمن لم يغل
درجات في الجنة ولمن غل دركات في النار. قال أبو عبيدة: «جهنم أدراك أي منازل يقال لكل منزل منها: دَرَك ودَرْك. والدرَك إلى أسفل والدرج إلى أعلى» . [4/ 256]
(424)
من قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165].
{مُصِيبَةٌ} أي: غلبة {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين والأسير في حكم المقتول لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد أي فهزمتوهم يوم بدر ويوم أحد أيضًا في الابتداء وقتلتم فيه قريبًا من عشرين قتلتم منهم في يومين ونالوا منكم في يوم أحد {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، يعني: مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نُصروا لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون. [4/ 257] بتصرف
(425)
من قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167].
واختلف الناس في معنى قوله: {أَوِ ادْفَعُوا} فقال السدي وابن جريج وغيرهما. كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا فيكون ذلك دفعًا وقمعًا للعدو فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو.
وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبدالله بن أم مكتوم الأعمى
وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله.
وقال أبو عون الأنصاري: معنى {أَوِ ادْفَعُوا} رابطوا وهذا قريب من الأول ولا محالة أن المرابط مدافع لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو.
وذهب قوم من المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو {أَوِ ادْفَعُوا} إنما هو استدعاء إلى القتال حمية لأنه استدعاهم إلى القتال في سبيل الله وهي أن تكون كلمة الله هي العليا فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة أي: أو قاتلوا دفاعًا عن الحوزة ألا ترى أن قُزمان قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم أحد لما رأى قريشًا قد أرسلت الظهر في زروع قناة أتُرعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ المعنى: إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعًا عن أنفسكم وحريمكم. [4/ 259]
(426)
من قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169].
روى بقي بن مخلد عن جابر قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابر ما لي أراك منكسًا مهتمًا» ، قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً
وعليه دين، فقال:«ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك؟» ، قلت: بلى يا رسول الله، قال:«إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً وما كلم أحدًا قط إلا من وراء حجاب، فقال له: يا عبدي تمن أعطك، قال: يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي» ؛ فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية» أخرجه ابن ماجه في «سننه» ، والترمذي في «جامعه» ، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4/ 261]
(427)
من قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].
أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.
وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون وهذا هو الصحيح من الأقوال لأن ما صح به النقل فهو الواقع. [4/ 262] بتصرف
(428)
يقال: ما مات فلان أي ذكره حي كما قيل
موت التقي حياة لا فناء لها
…
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
[4/ 262]
(429)
العدو إذا صبح قومًا في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك أو حكم سائر الموتى.
وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعاذها الله.
أغار العدو -قصمه الله- صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة فقتل وأسر وكان من جملة من قُتل والدي رحمه الله فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال: غسله وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين ثم سألت شيخنا ربيع بن عبدالرحمن بن أحمد بن ربيع بن أُبي فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه ففعلت ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في التبصرة لأبي الحسن اللخمي وغيرها. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته وكنت دفنته بدمه في ثيابه. [4/ 264]
(430)
من قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى إنه يكفر الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: «القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفًا» .
قال علماؤنا: ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة
بالذمم كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. [4/ 265]
(431)
الدَّين الذي يُحبس به صاحبه عن الجنة -والله أعلم- هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوصِ به أو قدر على الأداء فلم يؤده أو ادّانه في سرف أو سفه ومات ولم يوفّه وأما من أدّان في حق واجب لِفَاقَةٍ وعُسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه إما من جملة الصدقات أو من سهم الغارمين أو من الفيء الراجع على المسلمين قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك دينًا أو ضياعًا فعلى الله ورسوله ومن ترك مالًا فلورثته» . [4/ 267]
(432)
من قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 174].
قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة والفضل وصرف السوء واتباع الرضا فرضاهم عنه ورضي عنهم. [4/ 275]
(433)
من قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175].
ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يُعَذَّب عليه قال الأستاذ أبو علي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فُورَك
رحمه الله عائدًا فلما رآني دمعت عيناه فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك فقال لي: أترى أني أخاف الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت. [4/ 276].
(434)
روي عن ابن مسعود أنه قال: «ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برًا؛ فقد قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 198]، وإن كان فاجرًا فقد قال الله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]» . [4/ 278].
(435)
من قوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181].
أي: ونكتب قتلهم الأنبياء أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم.
وَحَسَّنَ رجل عند الشعبي قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي: شَرِكْتَ في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلًا رضي الله عنه.
قلت: وهذه مسألة عظمى حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. [4/ 286]
(436)
من قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
أي: تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية والمتاع ما يتمتع به وينتفع كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه قاله أكثر المفسرين.
قال الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة:
هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع ولقد أحسن من قال:
هي الدار دار الأذى والقذى
…
ودار الفناء ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها
…
لمت ولم تقضِ منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود
…
وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت شبت وبان الشباب
…
فلا خير في العيش بعد الكبر
والغَرور بفتح الغين الشيطان يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة.
قال ابن عرفة: الغُرُور ما رأيتَ له ظاهرًا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول والشيطان غَرور لأنه يعمل على محاب النفس ووراء ذلك ما يسوء، قال: ومن هذا بيع الغرر وهو ما كان له ظاهر بيعٍ يَغر وباطنٌ مجهول. [4/ 295].
(437)
من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187].
قال الحسن وقتادة: «هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب فمن علم شيئًا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم؛ فإنه هلكة» .
وقال محمد بن كعب: «لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا للجاهل أن يسكت على جهله. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية، وقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه
الآية {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال حدثني. قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يُعلموا. قال: فحدثني أربعين حديثًا». [4/ 297]
(438)
وفي «الصحيحين» : عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران وقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءًا خفيفًا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة. الحديث.
فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات، ثم إقباله على صلاته بعده وهذه السنة هي التي يعتمد عليها فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يومًا وليلة وشهرًا مفكرًا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر ولا مستمرة على السنن. [4/ 306]
(439)
من قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195].
أي: أجابهم. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم، وقال جعفر الصادق: من حزبه أمر؛ فقال: خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤوا إن شئتم {الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] إلى قوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]. [4/ 309]
(440)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200].
في «الموطأ» : عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعًا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: «هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه» . رواه الحاكم أبو عبدالله في «صحيحه» .
واحتج أبو سلمة بقوله عليه الصلاة والسلام: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط (ثلاثًا)» . رواه مالك.
قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطًا
فارسًا كان أو راجلًا واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلكم الرباط» إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله. [4/ 314]
(441)
من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع كما قاله من بَعُدَ فهمه للكتاب والسنة وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعًا وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضًا إلى أقبح منها فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة تمسكًا منه بأن العدد في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع، وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع وأخرج مالك في موطئه والنسائي والدارقطني في «سننهما» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي، وقد أسلم وتحته عشر نسوة «اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن» . [5/ 20]
(442)
ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: يا أمير
المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله عز وجل فقال لها: نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما فقال كعب عليَّ بزوجها فَأُتي به فقال له إن امرأتك هذه تشكوك قال أفي طعام أم شراب؟ قال: لا فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده
…
ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده
…
فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره وليله ما يرقده
…
فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها:
زهدني في فرشها وفي الحجل
…
أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول
…
وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إن لها عليك حقًا يا رجل
…
نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن لربك فقال عمر: والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. [5/ 21]
(443)
من قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].
قال الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين {فَوَاحِدَةً} فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة وذلك دليل على وجوب ذلك والله أعلم. [5/ 22]
(444)
من قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].
وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ألا ترى أنها المُنْفِقَة كما قال عليه الصلاة والسلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة وبها سميت الألية يمينًا وهي المتلقية لرايات المجد كما قال:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عَرَابةُ باليمين
[5/ 23]
(445)
من قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
دخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئًا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهنيء المريء وقيل: الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة ولا في الآخرة تبعة. [5/ 29]
(446)
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته درهمًا من صداقها ثم ليشتر به عسلًا فليشربه بماء السماء فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك. [5/ 26]
(447)
من قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. [5/ 30]
(448)
روي عن عمر أنه قال: «من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا» . [5/ 30]
(449)
من قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9].
قوله عليه الصلاة والسلام لسعد: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ؛ فإن لم يكن للإنسان ولد أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح فيكون وزره عليه. [5/ 52]
(450)
قال ابن العربي: «كان أصل النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أَحْدَث حدثًا في الحرم غُرب عن بلده وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة» . [5/ 86]
(451)
من قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]
قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن
الضحاك أنه قال: «كل ما كان قبل الموت فهو قريب» . وقال أبو مجلز والضحاك أيضًا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق وأن يغلب المرء على نفسه ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدم لنفسك توبة مرجوة
…
قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها
…
ذخر وغنم للمنيب المحسن
قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. قاله الهروي: وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل وألحق لأمله من العمل الصالح والبعد كل البعد الموت.
وروى صالح المري عن الحسن قال: «من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به» . [5/ 89]
(452)
من قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
أي: على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذا لكل أَحَدٍ عِشْرة زوجًا كان أو وليًا ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]؛ وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقًا في القول
لافظًا ولا غليظًا ولا مظهرًا ميلًا إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة
…
وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له. قال يحيى الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية فقلت: ما هذا! قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن وقال ابن عباس رضي الله عنهما إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي. [5/ 93]
(453)
من قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19].
أي: لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادًا صالحين.
قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» أو قال: «غيره» المعنى: لا يبغضها بغضًا كليًا يحمله على فراقها أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب.
وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. وذكر ابن العربي
…
عن أبي بكر بن عبدالرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها فيقال له في أمرها ويعذل
بالصبر عليها فكان يقول أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها. [5/ 14]
(454)
من قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23].
الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. [5/ 109]
(455)
من قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]
أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله تعالى في جوابهم: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ فقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يستبرؤن المسبية بحيضة» وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض» . [5/ 187]
(456)
من قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]
روي عن ابن عباس أنه قرأ (وخَلَقَ الإنسان ضعيفًا) أي وخلق الله الإنسان ضعيفًا أي لا يصبر عن النساء. قال ابن المسيب: لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال عبادة: ألا تروني لا أقوم إلا رفدًا ولا آكل إلا ما لُوِّق لي. قال يحيى يعني: لُيِّن وسُخِّن- وقد مات صاحبي منذ زمان قال يحيى -يعني ذكره- وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي إنه لا سمع له ولا بصر. [5/ 143]
(457)
وقد روى الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال سمعت شعيبًا يقول سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله»
…
وفي قول عمرو بن شعيب: «سمعت أبي يقول» دليل على صحة حديثه فإن الدارقطني قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال: قلت لأحمد بن حنبل: شعيب سمع من أبيه شيئًا؟ قال يقول حدثني أبي قال: فقلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قل: نعم أراه قد سمع منه. قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص وقد صح سماع عمرو بن شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. [5/ 148 - 149] بتصرف.
(458)
وقال أبو سعيد بن الأعرابي سمعت أبا داود السجستاني يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: المسلمون كلهم في الجنة فقلت له: وكيف؟ قال يقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31] يعني الجنة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين. [5/ 154]
(459)
وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعًا قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48] الآية، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]، وقوله تعالى:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء: 152]. [5/ 154]
(460)
وقال ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] ن {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110]، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147]. [5/ 155]
(461)
من قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32].
التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله والجمهور على إجازة ذلك. مالك وغيره وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» فمعنى قوله: لا حسد: أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث: باب الاغتباط في العلم والحكمة. [5/ 155]
(462)
من قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]
روى الترمذي عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يُسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» وخرج أيضًا ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» وهذا يدل على أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال:
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبُنَيَّ آدم حين يُسأل يَغضب
وقال سعيد بن جبير {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] العبادة ليس من أمر الدنيا وقيل: سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه. وعن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: سلوا ربكم حتى الشبع فإنه إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر. وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي. وقرأ الكسائي وابن كثير (وسلوا الله من فضله) بغير همز في جميع القرآن. [5/ 158]
(463)
من قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]
وإذا ثبت هذا فاعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحًا إلا هنا وفي الحدود العظام فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر وولى الأزواج ذلك دون الأئمة وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله تعالى للأزواج على النساء 5/ 166
(464)
من قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36].
وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلمًا كان أو كافرًا وهو الصحيح والإحسان قد يكون بمعنى المواساة وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل مَنْ آذى جاره فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه». [5/ 176]
(465)
من قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]
أي الرفيق في السفر
…
وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة فأما المروءة في السفر فبذل الزاد وقلة الخلاف على الأصحاب وكثرة المزاح في غير مساخط الله وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل. [5/ 181]
(466)
من قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54].
وقال الحسن: «ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من حاسد؛ نَفَس دائم وحزن لازم وعبرة لا تنفد» . وقال عبد الله بن مسعود: «لا تعادوا نعم الله قيل
له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» يقول الله تعالى في بعض الكتب: «الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي» . ولمنصور الفقيه:
ألا قل لمن ظل لي حاسدًا
…
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
…
إذا أنت لم ترض لي ما وهب
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك
ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت
…
فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة
…
لم يضرها قول أعداء النعم
[5/ 242]
(467)
يقال إن كل من كان أتقى فشهوته أشد لأن الذي لا يكون تقيًا فإنما يتفرج بالنظر والمس ألا ترى ما روي في الخبر: «العينان تزنيان واليدان تزنيان» فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعًا وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك. [5/ 243]
(468)
من قوله تعالى: {
…
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
…
} [النساء: 59].
قال سهل بن عبدالله التستري: «أطيعوا السلطان في سبعة ضرب
الدراهم والدنانير والمكاييل والأوزان والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد».
قال سهل: إذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميراً جائراً، وقال ابن خويز منداد وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة وإقامة ذلك على وجه الشريعة وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاني جازت الصلاة معهم وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يُخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة. [5/ 249]
(469)
من قوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].
في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صديقًا كما أجمعوا على تسمية محمد عليه الصلاة والسلام رسولًا وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد والله أعلم. [5/ 262]
(470)
من قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا} [النساء: 77].
.. وقيل هو وصف للمنافقين والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} أي عندهم وفي اعتقادهم.
قلت: وهذا أشبه بسياق الآية لقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] أي هلا ولا يليها إلا الفعل ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرًا من المقام في الدار العاجلة على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه ولا انشرح بالإسلام جنانه فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه المشقة وتدركه الشدة والله أعلم. [5/ 270]
(471)
من قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].
ودلت هذه الآية وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24] على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنع أن يُتأول على ما يسوغه لسان العرب وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد وفيه دليل على إثبات القياس. [5/ 277]
(472)
من قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84].
إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة وقلتم: إنَّ عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وُجد ولو لحظة مثلًا فقد صدق الوعد فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] وبالحديبية أيضًا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح وهو المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24] على ما يأتي وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال كما قال تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين فكف الله بأسهم عن المؤمنين والحمد لله رب العالمين. [5/ 281]
(473)
من قوله تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [النساء: 89].
والهجرة أنواع: منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد
الفتح» وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة وهجرة المسلم ما حرم الله عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه» وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن. وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبًا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه رضي الله عنهم. [5/ 294]
(474)
من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90].
تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يُقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارًا كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]، وإما تمحيصًا للذنوب كما قال تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. [5/ 96]
(475)
من قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]
الدية: ما يعطى عوضًا عن دم القتيل إلى وليه {مُسَلَّمَةٌ} مدفوعة مؤداة ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقًا وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل وإنما أخذ ذلك من السنة ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات
وضمان المتلفات، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظًا ولا أن وزر القاتل عليهم ولكن مواساة محضة. [5/ 300]
(476)
ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول فكان ذلك بيانًا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل فقالت طائفة: على أهل الذهب 1000 دينار وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم.
وقال الشافعي: الدية الإبل فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم
…
بتصرف. [5/ 300]
(477)
ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» العمد دون الخطأ. وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة واختلفوا في الثلث والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدًا ولا اعترافًا ولا صلحًا ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة الجاني قَلَّتْ
الجناية أو كثرت لأن من غرم الأكثر غرم الأقل كما عُقل العمد في مال الجاني قَلَّ أو كثر هذا قول الشافعي. [5/ 304]
(478)
وقال أبو عمر: أجمع العلماء قديمًا وحديثًا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقود به. [5/ 305]
(479)
وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قال أبو عمر: إنما صارت ديتها- والله أعلم- على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل وشهادة امرأتين بشهادة رجل وهذا إنما هو في دية الخطأ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] و {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]. [5/ 309]
(480)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93].
وذهب جماعة من العلماء منهم عبد الله بن عمر وهو أيضًا مروي عن زيد وابن عباس إلى أن له- القاتل العمد- توبة. روى يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال جاء رجل إلى ابن
عباس فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا إلا النار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة؛ قال: إني لأحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. قال: فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك. وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح وأن هذه الآية مخصوصة ودليل التخصيص آيات وأخبار. [5/ 316]
(481)
من قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94].
ويسمى متاع الدنيا عرضًا لأنه عارض زائل غير ثابت
…
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس» وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا
…
فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما
…
يكون الغنى والفقر من قبل النفس
[5/ 323]
(482)
من قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد وصح وثبت في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال وقد قفل من بعض غزواته: «إن بالمدينة رجالًا ما قطعتم واديًا ولا سرتم مسيرًا إلا كانوا معكم
أولئك قوم حبسهم العذر» فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي فقيل يحتمل أن يكون أجره مساويًا وفي فضل الله متسع وثوابه فضل لا استحقاق فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل وقيل يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة والله أعلم. قلت: والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة
…
» ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الدنيا لأربعة نفر
…
الحديث»
…
ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر: إذا مرض العبد قال الله تعالى: «اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي» . [5/ 326]
(483)
وقد اختلف الناس في هذه المسألة- الغنى أفضل أم الفقر- مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه وما أبطر من الغنى مذموم فذهب قوم إلى تفضيل الغنى لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز. وقال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر لأن الفقير تارك والغني مُلابس وترك الدنيا أفضل من مُلابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن (خير
الأمور أوسطها) ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
ألا عائذًا بالله من عدم الغنى
…
ومن رغبة يومًا إلى غير مرغب
[5/ 326]
(484)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء: 97]
المدينة؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمل فيها بالمعاصي وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها وتلا {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} . [5/ 329]
(485)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية.
قال عكرمة مولى ابن عباس: «طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديمًا وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل ونحو منه قول ابن عباس: «مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته» والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع. [5/ 331]
(486)
قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين هربًا وطلبًا فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:
الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام.
الثاني: الخروج من أرض البدعة.
الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام.
الرابع: الفرار من الأذية في البدن.
الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة.
السادس: الفرار خوف الأذية في المال.
وأما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دِيْن وطلب دُنيا فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام:
الأول: سفر العبرة.
الثاني: سفر الحج.
الثالث: سفر الجهاد.
الرابع: سفر المعاش.
الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت.
السادس: في طلب العلم.
السابع: قصد البقاع.
الثامن: الثغور للرباط.
التاسع: زيارة الإخوان في الله. [5/ 333] بتصرف
(487)
من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101].
اختلف العلماء في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم.
فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم وروي عن سعيد بن المسيب وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم وإن كان أقل قصر وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي وروي عن سعيد أيضًا.
وقال أحمد: إذا جمع المسافر مَقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر وإن زاد على ذلك أتم وبه قال داود والصحيح ما قاله مالك لحديث ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يُصدر أخرجه الطحاوي وابن ماجه وغيرهما.
ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة وأبقى عليه فيها حكم المسافر ومنعه من مقام الرابع فحكم له بحكم الحاضر القاطن فكان ذلك أصلًا معتمدًا عليه. [5/ 339، 340]
(488)
من قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101].
قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} خرج الكلام على الغالب إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ولهذا قال يعلى بن أمية قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أَمِنّا. قال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . [5/ 344]
(489)
من قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء: 102].
أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى لأنها أولى بأخذ الحِذْر لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة وأيضًا يقول العدو قد أثقلتهم السلاح وكَلّوا. وفي هذه الآية دليل على تعاطي الأسباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب ويوصل إلى السلامة ويبلغ دار الكرامة. [5/ 354]
(490)
من قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102].
أي كونوا متيقظين وضعتم السلاح أو لم تضعوه وهذا يدل على تأكيد
التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102] يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة. [5/ 355]
(491)
من قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: 114].
وقيل لأنوشروان: ما أعظم المصائب عندكم؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت. وقال عبد الحميد: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها. وقال بعض الشعراء:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
…
فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها
…
فما تدري السكون متى يكون
وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره فإذا عجلته هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته أتممته وقال بعض الشعراء:
زاد معروفك عندي عظمًا
…
إنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور خطير
ومن شرط المعروف: ترك الامتنان به وترك الإعجاب بفعله لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر. [5/ 365] بتصرف.
(492)
من قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]
والخلة بين الآدميين الصداقة مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالّين وقيل: هي من الخَلَّة فكل واحد من الخليلين يسد خَلَّة صاحبه وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ولقد أحسن من قال:
من لم تكن في الله خلته
…
فخليله منه على خطر
آخر:
إذا ما كنت متخذًا خليلًا
…
فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق
…
بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما
…
تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أخلاء الرجال هم كثير
…
ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلة من تؤاخي
…
فما لك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفيٌّ
…
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين
…
فذاك لما يقول هو الفعول
[5/ 382]
(493)
من قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].
روي عن جعفر بن محمد أن رجلًا شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر فأمره بالطلاق فسئل عن هذه
الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت لعله من أهل هذه الآية: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} . [5/ 389]
(494)
من قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133].
وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته أو كان عالمًا فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره. [5/ 390]
(495)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} [النساء: 135].
لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية ولا يمنع ذلك من برهما بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل وهو معنى قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. [5/ 391]
(496)
من قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135].
في الكلام إضمار وهو اسم كان أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنياً فلا يُراعى لغناه ولا يُخاف منه وإن يكن فقيرًا فلا يُراعى إشفاقًا {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي فيما اختار لهما من فقر وغنى. [5/ 393]
(497)
من قوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140].
{فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: غير الكفر {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر قال الله عز وجل:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه أخذ قومًا يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين إنه صائم فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي إن الرضا بالمعصية معصية ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شُبِّه بحكم الظاهر من المقارنة كما قال:
فكل قرين بالمقارن يقتدي. [5/ 397].
(498)
من قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141].
للعلماء فيه تأويلات خمسة:
أحدها:
…
فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم.
الثاني: إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم.
الثالث: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم قال ابن العربي وهذا نفيس جدًا.
الرابع: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا شرعًا فإن وجد فبخلاف الشرع.
الخامس: أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت. [5/ 398، 399] بتصرف
(499)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142].
أي يُصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثوابًا ولا يعتقدون على تركها عقابًا وفي صحيح الحديث: «إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح» ، فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به ولولا السيف ما قاموا [5/ 400].
(500)
قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقال
تعالى عن أصحاب المائدة: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 115]، وقال في آل فرعون:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46][5/ 403].
(501)
من قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
قال مكحول: أربع من كن فيه كن له وثلاث من كن فيه كن عليه. فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار.
قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} ، وقال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]، وقال تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]. وأما الثلاث اللاتي عليه:
فالمكر والبغي والنكث، قال الله تعالى:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]، وقال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال تعالى:{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]. [5/ 404]
(502)
من قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك.
فقال الحسن: هو الرجل يَظلم الرجل فلا يَدْعُ عليه ولكن ليقل: اللهم
أعني عليه اللهم استخرج حقي اللهم حُل بينه وبين ما يريد من ظلمي. فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء.
وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظُلم أن يدعو على من ظلمه وإن صبر فهو خير له فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم.
وقال هو أيضًا والسدي: لا بأس لمن ظُلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول.
وقال ابن المستنير: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفرٍ أو نحوه فذلك مباح.
والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه ولكن مع اقتصاد إن كان مؤمنًا كما قال الحسن فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا
…
وإن كان كافرًا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. [6/ 5 - 6]
(503)
من قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149].
روى ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا؟ يصدق هذا الحديث قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. [6/ 8]
(504)
من قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161].
فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنًا وسنة. قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهذا نص وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرًا وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم فإن قيل: كان ذلك قبل النبوة قلنا: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام- ثبت ذلك تواترًا- ولا اعتذر عنه إذ بُعث ولا مَنع منه إذ نُباء ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ولا أحد من المسلمين بعد وفاته فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره، وقد يجب وقد يكون ندبًا فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح. [6/ 14]
(505)
من قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 162].
وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة (والمقيمون) على العطف وكذا
هو في حرف عبد الله وأما حرف أبي فهو فيه {وَالْمُقِيمِينَ} كما في المصاحف واختلف في نصبه على أقوال ستة أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح أي وأعني المقيمين قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم ومن ذلك {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} وأنشد:
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم
…
إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
[6/ 15]
(506)
من قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].
{إِلَى نُوحٍ} قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع
…
{وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 163]، فخص أقوامًا بالذكر تشريفًا لهم كقوله تعالى:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ثم قال: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء: 163] قدم عيسى على قوم كانوا قبله لأن الواو لا تقتضي الترتيب وأيضًا فيه تخصيص عيسى ردًا على اليهود وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه حيث قدمه في الذكر على أنبيائه ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية. [6/ 17]
(507)
من قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163].
الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال
ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ. والزَّبر الكتابة والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب
…
والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة والكتاب يسمى زبورًا لقوة الوثيقة به وكان داود عليه السلام حسن الصوت فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته وكان متواضعًا يأكل من عمل يده. [6/ 18]
(508)
من قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171].
نهى عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلواً وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها. ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رَباً فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين وقال الشاعر:
وأوف ولا تستوف حقك كله
…
وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها
…
نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي «صحيح البخاري» عنه عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله» . [6/ 21]
(509)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء: 171].
لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعًا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملأ ولا يبتذلون أسماءهن بل يكنون عن الزوجة بالعِرس والأهل والعيال ونحو ذلك فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها فلما قالت النصارى في مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله باسمها ولم يُكَنِّ عنها بالأُمُوّة والعبودية التي هي صفة لها وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها. [6/ 22]
(510)
اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب فإذا تكرر اسمه منسوبًا للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم. [6/ 22]
(511)
من قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176].
هذه الآية تسمى بآية الصيف لأنها نزلت في زمن الصيف قال عمر: إني والله لا أدع شيئًا أهم إلي من أمر الكلالة وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في
صدري ثم قال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء. [6/ 28]
(512)
من قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له لأن في التقوى رضا الله تعالى وفي البر رضا الناس ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ويعينهم الغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة. [6/ 45]
(513)
من قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3].
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها أفعل وعلى الثاني لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب .. وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون.
والنوع الثاني: سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل كل قدح منها فيه كتاب قدح فيه العقل من أمر
الديات وفي آخر (منكم) وفي آخر (من غيركم) وفي آخر (ملصق)
(1)
وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه
…
والنوع الثالث: هو قداح الميسر وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة لهوًا ولعبًا وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم.
عن سعيد بن جبير: أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. [6/ 57]
(514)
من قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4].
وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس لاسيما إذا عمل بما علم وهذا كما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه» . [6/ 73]
(1)
قال المحقق عبدالرزاق المهدي في الحاشية: كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل بمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح ثم يطلبون من هبل أن يبين لهم الحقيقة ثم يضرب صاحب القداح فإن خرج عليه منكم كان منهم وسيطًا وإن خرج على (من غيركم) كان حليفًا وإن خرج (ملصق) فلا حلف ولا نسب.
(515)
من قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8].
ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق وأن المُثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغَمُّونا بذلك فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم. [6/ 108]
(516)
من قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12].
النقيب: كبير القوم القائم بأمورهم الذي يُنَقِّبُ عنها وعن مصالحهم فيها والنَّقَّاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر رضي الله عنه: إنه كان لنقّاباً. فالنقباء الضُّمان واحدهم نقيب وهو شاهد القوم وضمينهم يقال: نقب عليهم وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة والنَّقب والنُّقَبَ الطريق في الجبل وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم وقال قوم: النقباء الأمناء على قومهم وهذا كله قريب بعضه من بعض. [6/ 110].
(517)
…
واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال
…
ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير وعند موسى ما قد نص عليه
نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم من: «أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره» فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه فلطمه ففقأ عينه امتحانًا لملك الموت إذ لم يصرح له بالتخيير ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم والله بغيبه أحكم وأعلم هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصًا وأخبارًا الله أعلم بصحتها وفي الصحيح غنية عنها. [6/ 127]
(518)
من قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [المائدة: 30].
تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة وأمسه به رحمًا وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه. [6/ 135].
(519)
من قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37].
قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبدالله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قومًا يخرجون من النار، والله تعالى يقول:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصًا والخاص عامًا إنما هذا في الكفار خاصةً فقرأتُ الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار
خاصةً و {مُقِيمٌ (37)} [المائدة: 37]، معناه: دائم ثابت لا يزول ولا يحول.
قال الشاعر:
فإن لكم بيوم الشَّعب مني
…
عذابًا دائمًا لكم مقيمًا
[6/ 152]
(520)
من قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وقد قطع السارق في الجاهلية وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأمر الله بقطعه في الإسلام فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن مناف ومن النساء مُرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخروم وقطع أبو بكر اليمني الذي سرق العقد وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبدالرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه. [6/ 152]
(521)
يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال على الرجال أغلب وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة النور من البداية بها على الزاني إن شاء الله ثم جعل الله حد السرقة قطع اليد لتناول المال ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان:
أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر في الزنى باطن. الثالث: أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطاله، والله أعلم. [6/ 167]
(522)
من قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]
وسمي المال الحرام سحتًا؛ لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها وقال الفراء أصله: كَلَب الجوع يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يُعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتًا لأنه يسحت مروءة الإنسان. [6/ 174]
(523)
وعن ابن مسعود أيضًا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة، فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سُحت حرام وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل وبطل كل حكم حَكَم به بعد ذلك. قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله لأن أخذ الرشوة منه فسق والفاسق لا يجوز حكمه، والله أعلم. [6/ 174]
(524)
قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ومن أخذ طيبًا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته، وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه قال ابن عبدالبر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنًا ولا جُعلا ولا عوضا لشيء من الباطل وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم وناسخ لما كرهه من إجازة الحجام. [6/ 175]
(525)
…
وقال الحسن أيضًا: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى وألا يخشوا الناس ويخشوه وألا يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا. [6/ 181]
(526)
من قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50].
روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فكان طاوس يقول: ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض فإن فعل لم ينفذ وفسخ. [6/ 202]
(527)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54].
وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم
يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبًا فكان على ما أخبر بعد مدة وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد جؤاثى وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي فقاتل الصديق جميعهم وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم على ما هو مشهور من أخبارهم
…
[6/ 206]
(528)
من قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58].
وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية أما أنه ذكر في الجمعة على الاختصاص.
قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة وإنما كانوا ينادون (الصلاة جامعة) فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان وبقي: (الصلاة جامعة) للأمر يعرض. [6/ 8]
(529)
من قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60].
لما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم- أي لليهود- يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحًا.
وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود
…
إن اليهود إخوة القرود
[6/ 223]
(530)
من قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} [المائدة: 63].
دلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد روى سفيان بن عيينه قال حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال: بلغني أن مَلكًا أُمر أن يَخسف بقرية فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه: «أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ ساعة قط» وفي صحيح الترمذي «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» . [6/ 224]
(531)
من قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82].
هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره خوفًا من المشركين وفتنتهم .. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]، أي: عن الانقياد إلى الحق. [6/ 239 - 241] بتصرف
(532)
جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إن لي جارًا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال يقول: لا يؤدي شكره فقال الحسن: أفيشرب الماء
البارد؟ فقال: نعم فقال: إن جارك جاهل فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. [6/ 245].
(533)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].
هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارًا أو غير قمار لأن الله تعالى لما حرم الخمر بالمعنى الذي فيها فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] الآية فكل لهو دعا قليله إلى كثيره وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر وأوجب أن يكون حرامًا مثله. [6/ 271].
(534)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم ثلاثًا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» . قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعًا وتكلفًا فيما لم يتنزل والأغلوطات وتشقيق المولدات وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف ويقولون إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها. قال مالك:
أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بكثرة السؤال كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحًا واستكثارًا؛ وقاله أيضًا مالك، وقيل: المراد بكثرة السؤال: السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والإطلاع على مساوئهم وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] قال ابن خويز منداد: ولذلك قال بعض أصحابنا متى قُدِّم إليه طعام لم يسأل من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو وحَمَلَ أمور المسلمين على السلامة والصحة قلت: والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها والله أعلم. [6/ 308]
(535)
قال ابن عبدالبر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله فمن سأل مستفهما راغبًا في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثًا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا بأس به فشفاء العي السؤال ومن سأل متعنتًا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة وإيضاح سبل النظر وتحصيل مقدمات الاجتهاد وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد فإذا عرضت نازلة أُتِيَتْ من بابها ونُشِدَتْ في مظانها والله يفتح صوابها. [6/ 309]
(536)
من قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101].
فالمعنى: وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم أو مَسَّتْ حاجتكم إلى التفسير فإذا سألتم فحينئذٍ تبد لكم فقد أباح هذا النوع من السؤال. ومثاله: أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل فسألوه فنزل {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] فالنهي إذًا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه فأما ما مست الحاجة إليه فلا. [6/ 310].
(537)
من قوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105].
قال سعيد بن المسيب: «معنى الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . [6/ 319]
(538)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رُجي القبول أو رُجي ردّ الظالم ولو بعنف ما لم يخف الآمر ضررًا يلحقه في خاصته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا ف {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلًا كما تقدم وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه. [6/ 320]
(539)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106].
الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه أحد من المؤمنين فَلْيُشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدّلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة وحُكم بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. [6/ 324]
(540)
من قوله تعالى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى ورزية كبرى فأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وترك التفكر فيه وترك العمل له وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر .. ويروى أن أعرابيًا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتًا فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول مالك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك ما الذي صرعك ما الذي عن الحركة منعك ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه متعجبًا من أمره. [6/ 326]
(541)
من قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة: 109].
قال الماوردي: فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان أحدهما: أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ليكون ذلك نوعًا من العقوبة لهم. [6/ 335]
(542)
من قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118].
ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه ولو قال فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء. [6/ 349]
(543)
من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6].
والقرن: الأمة من الناس والجمع القرون قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم
…
وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن: كل عَالَم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن بعضهم
إلى بعض وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني -يعني أصحابي- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» هذا أصح ما قيل فيه. وقيل المعنى: من أهل قرن فحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، فالقرن على هذا مدة من الزمان قيل ستون عامًا وقيل سبعون وقيل ثمانون وقيل: مائة وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر: «تعيش قرنًا» ، فعاش مائة سنة ذكره النحاس. وأصل القرن الشيء الطالع كَقَرِنِ مَالَهُ قَرْن من الحيوان. [6/ 360]
(544)
من قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11].
أي: قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار والعاقبة آخر الأمر والمكذبون هنا من كذّب الحق وأهله لا من كذّب بالباطل. [7/ 363]
(545)
من قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13].
{سَكَنَ} : معناه هدأ واستقر والمراد ما سكن وما تحرك فحذف لعلم السامع. وقيل: خص الساكن بالذكر؛ لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة وقيل المعنى: ما خلق فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها فإنه
يجري عليه الليل والنهار وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق وهذا أحسن ما قيل لأنه يجمع شتات الأقوال. [6/ 365]
(546)
من قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17].
روى ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا غلام -أو يا بني- ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت بلى فقال: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل لله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا» أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب الفصل والوصل وهو حديث صحيح وقد خرجه الترمذي وهذا أتم. [6/ 366]
(547)
من قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} أي والقرآن شاهد بنبوتي {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يا أهل مكة {وَمَنْ بَلَغَ} أي ومن بلغه القرآن فحذف الهاء لطول الكلام وقيل: ومن بلغ الحلم ودل هذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد وتبليغ
القرآن والسنة مأمور بهما كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. وفي «صحيح البخاري» عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . [6/ 367]
(548)
من قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23].
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق وارتفعت الدواعي {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]، تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. [7/ 369].
(549)
من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} [الأنعام: 25].
مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله عن ابن عباس. [6/ 371]
(550)
من قوله تعالى: {قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31].
وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ولكنه يدل على كثرة التحسر ومثله يا للعجب ويا للرخا وليسا بمنادين في الحقيقة ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء قال سيبويه: كأنه قال: يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك؛ وكذلك قولك: يا حسرتي أي يا حسرتا تعالي فهذا وقتك
وكذلك ما لا يصح نداؤه يجري هذا المجرى فهذا أبلغ من قولك تعجبت ومنه قول الشاعر:
فيا عجبًا من رحلها المتحمل
وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحمل بهم من الحسرة أي يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بي من الحسرة فوقع النداء على غير المنادى حقيقة كقولك: لا أرينك هاهنا فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة. [6/ 378].
(551)
من قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام: 32].
أي: لقصر مدتها كما قال أحدهم:
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم
…
وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة
…
فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وقال آخر:
فاعمل على مهل فإنك ميت
…
واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأنَّ ما قد كان لم يك إذ مضى
…
وكأن ما هو كائن قد كانا
وقيل: المعنى: متاع الحياة الدنيا لعب ولهو أي الذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللعب واللهو، ونظر سليمان بن عبدالملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب فقالت له جارية له:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
…
غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب
…
كان في الناس غير أنك فاني
[6/ 379]
(552)
ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة فإن حقيقة اللعب مالا ينتفع به واللهو ما يلتهى به وما كان مرادًا للآخرة خارج عنهما، وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صِدق لمن صَدَقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها وقال محمود الوراق:
لا تُتْبِعِ الدنيا وأيامها
…
ذمًا وإن دارت بك الدائرة
مِنْ شرف الدنيا ومِنْ فضلها
…
أنَّ بها تستدرك الآخرة
[6/ 380]
(553)
من قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
قال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه فمنهم من يعدو كالأسد ومنهم يشره كالخنزير ومنهم من يعوي كالكلب ومنهم من يزهو كالطاووس فهذا معنى المماثلة واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك. [6/ 384]
(554)
من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
أي: في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث وقيل: أي: في القرآن أي ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن إما دلالة مبينة شروحه وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام أو من الإجماع أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فأجمل في هذه الآية وآية النحل ما لم ينص عليه مما لم يذكره فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره إما تفصيلًا وإما تأصيلًا وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. [6/ 385]
(555)
من قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام: 42]
ومعنى {بِالْبَأْسَاءِ} بالمصائب في الأموال {وَالضَّرَّاءِ} في الأبدان وهذا قول الأكثر وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]. [6/ 388]
(556)
من قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44].
وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خيرٌ له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه. [6/ 390]
(557)
من قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52].
وخص الغداة والعشي بالذكر لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلًا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. [6/ 395]
(558)
من قوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52].
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم أي جزاؤهم ورزقهم على الله وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره.
{مِنْ} الأولى للتبعيض والثانية زائدة للتوكيد وكذا {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} المعنى وإذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل فإن فعلت كنت ظالمًا. وحاشاه من وقوع ذلك منه وإنما هذا بيان للأحكام ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام وهذا مثل قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله. [6/ 396]
(559)
من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68].
ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرًا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يُعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. [7/ 15]
(560)
من قوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} [الأنعام: 68].
واختلفوا بعد جواز النسيان عليه -أي النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا؟ فذهب إلى الأول فيما
ذكره القاضي عياض- عامة العلماء والأئمة النظار كما هو ظاهر القرآن والأحاديث لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصاله بالحادثة على الفور وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء. [7/ 17]
(561)
من قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70].
وجاء اللعب مقدمًا في أربعة مواضع وقد نظمت:
إذا أتى لعب ولهو
…
وكم من موضع هو في القرآن
فحرف في الحديد وفي القتال
…
وفي الأنعام منها موضعان
[7/ 18]
(562)
يقال إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولاءً أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبدالرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبدالرحمن، والله أعلم. [7/ 21].
(563)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلًا بهما ليس معهم شيء. وقال العلماء: يحشر العبد غدًا وله من الأعضاء ما كان له يوم وُلد؛ فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه وهذا معنى قوله: غرلا أي غير مختونين أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان. [7/ 40].
(564)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95].
عَدَّ من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شيء منه آلهتهم. والفلق: الشق؛ أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقًا أخضر وكذلك الحبة ويخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة وهذا معنى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك معنى فالق: خالق وقال مجاهد: عنى بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى والنوى جمع نواة ويجري في كل ما له عجم كالمشمش والخوخ. [7/ 41].
(565)
من قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].
وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانًا اقض عني الدين واغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك» . [7/ 42]
(566)
من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98].
وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب
…
قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا. فقال: إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. [7/ 44].
(567)
من قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99].
{وَيَنْعِهِ}
…
والمعنى ونضجه ينع وأينع إذا نضج وأدرك ..
قلت: وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى بن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا طلعت الثريا صباحًا رفعت العاهة عن أهل البلد» والثريا النجم لا خلاف في ذلك وطلوعها لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار وهو شهر مايه.
وفي البخاري: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. [7/ 47]
(568)
من قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ} [الأنعام: 100].
{وَخَرَقُوا} قراءة نافع بالتشديد على التكثير لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة وسموهم جِنّا لاجتنناهم والنصارى ادعت المسيح ابن الله واليهود قالت عزير ابن الله فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى تعالى الله عما يقولون.
وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل وسئل الحسن البصري عن معنى: {وَخَرَقُوا لَهُ} بالتشديد فقال: إنما هو {وَخَرَقُوا} بالتخفيف كلمة عربية كان
الرجل إذا كذب في النادي قيل خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة: معنى: خرقوا اختلقوا وافتعلوا {وَخَرَقُوا} بالتشديد على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج: خرقوا: كذبوا. ويقال إن معنى خرق واخترق واختلق سواء أي أحدث. [7/ 49]
(569)
من قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108].
قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في مَنعة وخِيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه بمنزلة البعث على المعصية وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب {الَّذِينَ} على معتقد الكفرة فيها. [7/ 56]
(570)
من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].
.. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر هل تعوذت من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم هم شر من شياطين الجن» وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا. [7/ 61]
(571)
من قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].
الحَكَم أبلغ من الحاكم إذ لا يستحق التسمية بِحَكَم إلا من يحكم بالحق لأنها صفة تعظيم في مدح والحاكم صفة جارية على الفعل فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. [7/ 63]
(572)
من قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120].
للعلماء فيه أقول كثيرة
…
وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملًا بالبدن مما نهى الله عنه وباطنه ما عُقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى وهي المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن كما قال تعالى: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]. [7/ 66]
(573)
لبعض شعراء البصرة:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله لأهله
…
فأجسامهم قبل القبور قبور
وإنَّ امرأً لم يحي بالعلم ميت
…
فليس له حتى النشور نشور
[7/ 70]
(574)
من قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].
أي: يوسعه له ويوفقه ويزين عنده ثوابه ويقال: شرح شق وأصله التوسعة وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك وشرحت الأمر بينته وأوضحته. [7/ 72]
(575)
من قوله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128].
فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمر بإغواء الجن إياهم وقيل: كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر وفي التنزيل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] فهذا استمتاع الإنس بالجن وأما استمتاع الجن فما كانوا يُلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر وقيل: استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون، ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. [7/ 75]
(576)
من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
المعنى: وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدًا ومعنى {نُوَلِّي} على هذا نجعل وليًا.
قال ابن زيد: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وعنه أيضًا: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظُلمه سلط الله عليه ظالمًا آخر ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو
يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالمًا ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبًا. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. [7/ 76]
(577)
من قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136].
الزعم الكذب. قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} [الأنعام: 140].
وقد روي أن رجلًا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. [7/ 80]
(578)
من قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]
{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي كذبهم وافتراءهم أي يعذبهم على ذلك وانتصب وصفهم بنزع الخافض أي بوصفهم وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به حتى يعرف فساد قوله
ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من أهل زمانهم ليعرفوا فساد عقولهم. [7/ 85]
(579)
من قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
بناءان جاءا بصفة افعل، أحدهما: مباح كقوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، والثاني: واجب وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف. [7/ 87]
(580)
من قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143].
والمعنى: قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذَكَرٍ حرام وإن كان حَرَّمَ الإناث فكل أنثى حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكرًا كان أو أنثى وكلها مولود فكلها إذًا حرام لوجود العلة فيها فبين انتقاض علتهم وفساد قولهم فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه. [7/ 102]
(581)
من قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145].
أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم والمعنى قل يا محمد لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا إلا هذه الأشياء لا ما تحرمونه بشهوتكم والآية مكية ولم
يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. [7/ 102]
(582)
روى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال: علام تقتلوني! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد حصانة فعليه الرجم أو قتل عمدًا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل» ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحدًا فأقيد نفسي به ولا ارتددت منذ أسلمت إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون. [7/ 120]
(583)
من قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد قاله ابن عطية قلت: وهو الصحيح ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس. أن رجلًا قال لابن مسعود: «ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا
محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جوادّ وعن يساره جوادّ وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ثم قرأ ابن مسعود أن {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] الآية» وقال عبد الله بن مسعود: «تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق» أخرجه الدارمي. [7/ 124]
(584)
من قوله تعالى: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)} [الأعراف: 4].
{بَيَاتًا} أي: ليلًا ومنه البيت لأنه يبات فيه يقال بات يبيت بيتًا وبياتًا {قَائِلُونَ (4)} من القائلة وهي القيلولة وهي نوم نصف النهار وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم والمعنى: جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلًا أو نهارًا. [7/ 46]
(585)
من قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
قوله تعالى: {إِذْ أَمَرْتُكَ} يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الإسراء: 61]، وهذا بيّن. [7/ 152]
(586)
من قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12].
قالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين وإن كانا
في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة:
أحدها: أن من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء قاله القفال.
الثاني: أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارًا وأن في النار ترابًا.
الثالث: أن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لأعدائه وليس التراب سببًا للعذاب.
الرابع: أن الطين مستغن عن النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. [7/ 153]
(587)
من قوله تعالى: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: 13].
أي من الأذلين ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. [7/ 155]
(588)
من قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف: 50].
في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال وقد سئل ابن
عباس: «أي الصدقة أفضل؟ فقال: «الماء ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]» وروى أبو داود أن سعدًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: «الماء» ، وفي رواية:«فحفر بئرًا فقال هذه لأم سعد» . وعن أنس قال: «قال سعد يا رسول الله إن أم سعد كانت تحب الصدقة أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: «نعم، وعليك بالماء» . وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء. فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب فكيف بمن سقى رجلًا مؤمنًا موحدًا وأحياه. [7/ 192]
(589)
من قوله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 53]
أي فلم ينتفعوا بها وكل من لم ينتفع بنفسه فقد خسرها وقيل خسروا النعم وحظ أنفسهم منها. [7/ 195]
(590)
من قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
ذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور ولتظهر قدرته للملائكة شيئًا بعد شيء وهذا عند من يقول خلق الملائكة قبل خلق
السموات والأرض وحكمة أخرى خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلًا وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب لأن لكل شي عنده أجلًا. [7/ 195]
(591)
من قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55].
الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من الشطط ومنها أن يدعو طالبًا معصية وغير ذلك ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخير ألفاظًا مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء. [7/ 202]
(592)
من قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58].
قيل: معناه التشبيه: شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب والبليد بالذي خبث وقيل: هذا مثل للقلوب فقلب يقبل الوعظ والذكرى وقلب فاسق ينبو عن ذلك وقال قتادة: مثل للمؤمن يعمل محتسبًا متطوعًا والمنافق غير محتسب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» .
قال مجاهد: يعني أن في بني آدم الطيب والخبيث. [7/ 206] بتصرف
(593)
من قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ} [الأعراف: 95].
{حَتَّى عَفَوْا} أي كثروا عن ابن عباس وقال ابن زيد: كثرت أموالهم وأولادهم.
وعفا: من الأضداد. عفا: كثر، وعفا: درس.
أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا. [7/ 225]
(594)
من قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} [الأعراف: 142].
قال علماؤنا: دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا وحكم به للأمم وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات
…
وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العبّاد وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله وترقب المنية ولقاء الله ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي عليه السلام والثاني بالشيب وذلك عند كمال الأربعين قال الله تعالى:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [الأحقاف: 15] فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها قال مالك: أدركت أهل العلم
ببلدنا وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس.
ودلت الآية أيضًا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام لقوله تعالى: {ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]؛ لأن الليالي أوائل الشهور وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام حتى روي عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والعجم تخالف في ذلك فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس قال ابن العربي: وحساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك ولهذا قال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. [7/ 244 - 245] بتصرف
(595)
من قوله تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} [الأعراف: 144].
{فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} إشارة إلى القناعة أي اقنع بما أعطيتك {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} أي: من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك يقال دابة شكور إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعطى من العلف والشاكر معرض للمزيد كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. [7/ 248]
(596)
من قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
ومعنى {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين
الحلال والحرام وقيل هو لفظ يذكر تفخيمًا ولا يراد به التعميم تقول دخلت السوق فاشتريت كل شيء وعند فلان كل شيء {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وقد تقدم.
{مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] أي لكل شيء أمروا به من الأحكام فإنه لم يكن عندهم اجتهاد وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. [7/ 249]
(597)
من قوله تعالى: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150].
أي: لا تُسرهم. والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا وهي محرمة نُهي عنها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول:«اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء» أخرجه البخاري وغيره.
وقال الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس
…
كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا
…
سيلقى الشامتون كما لقينا
[7/ 257]
(598)
من قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150].
أي: بلحيته وذؤابته
…
وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات: -ونذكر الأول منها فقط- الأول: أن ذلك كان متعارفًا عندهم كما
كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكرامًا وتعظيمًا فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. [7/ 255].
(599)
من قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
عموم أي لا نهاية لها أي من دخل فيها لم تعجز عنه وقيل: وسعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها.
قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون. فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآية فخرجت الآية عن العموم والحمد لله روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة. [7/ 261]
(600)
من قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف: 165].
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق وهو الظاهر من الضمائر في الآية.
فرقة عصت وصادت وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا.
وفرقة نهت واعتزلت وكانوا اثني عشر ألفًا.
وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قومًا -تريد العاصية- الله مهلكهم أو معذبهم -على غلبة الظن- وما عُهد من فعل الله حينئذٍ بالأمم العاصية فقالت الناهية. موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون بالكاف.
ثم اختلف بعد هذا؛ فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي قاله ابن عباس وقال أيضًا: ما أدري ما فعل بهم وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال: ما أدري ما فعل بهم. ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف: 165]. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
…
} الآية [البقرة: 65]. [7/ 270]
(601)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170].
قرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر {يُمَسِّكُونَ} بالتخفيف من أمسك يمسك والقراءة الأولى (بالتشديد) أولى لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يُمدحون فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. [7/ 275]
(602)
من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172].
قال الطرطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرًا دخل الجنة لإقراره في الميثاق الأول ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة وهو الصحيح في الباب وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار والصحيح ما ذكرناه. [7/ 278]
(603)
من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
أي: اطلبوا منه بأسمائه فَيُطْلَبُ بكل اسم ما يليق به تقول: يا رحيم ارحمني يا حكيم احكم لي يا رازق ارزقني يا هادي اهدني يا فتاح افتح لي يا تواب تب علي وهكذا فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني يا عزيز احكم لي يا لطيف ارزقني وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت يا الله فهو متضمن لكل اسم ولا تقول: يا رزاق اهدني إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير قال ابن العربي وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين. [7/ 287]
(604)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182].
الاستدراج: الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة والدَرْجُ لف الشيء. قال
الضحاك كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة وقيل لذي النون: ما أقصى ما يُخْدَعُ به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات لذلك قال سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182] نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر وأنشدوا:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
…
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
…
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
[7/ 289]
(605)
من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185].
وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لم يحل الله النظر إلا على صورة لا ميل للنفس إليها ولاحظ للهوى فيها بل عبرة لا يمازجها شهوة ولا يقارنها لذة ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة ولا جعلها قاضيًا ولا إمامًا ولا مؤذنًا كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبرًا كذبناه وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. [7/ 292]
(606)
وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ويتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقًا إلى كونه خلقًا سويًا يعان
بالأغذية ويربى بالرفق ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى ويبلغ الأشد وإذا هو قد قال: أنا وأنا ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا وسيعود مقبورًا فيا ويحه إنه كان محسورًا.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] إلى قوله: {تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] فينظر أنه عبد مربوب مكلف مُخَوفٌ بالعذاب إن قَصَّر مرتجيًا بالثواب إن ائتمر فيقبل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه ولا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه ولا يتكبر على أحد من عباد الله فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار.
وقال ابن العربي: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكيمة التي جمعت هذه الأوصاف العلميه:
كيف يزهو من رجيعُه
…
أبد الدهر ضجيعُه
فهو منه وإليه
…
وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحُشِّ
…
بِصُغْرٍ فَيُطِيعُه
[7/ 292]
(607)
من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185].
معطوف على ما قبله {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:
185]- أي وفيما خلق الله من الأشياء {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185] أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت. [7/ 293]
(608)
من قوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187].
خفي علمها على أهل السموات والأرض وكل ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد وقيل: كبر مجيئها على أهل السموات والأرض. وقيل: عظم وصفها على أهل السموات والأرض وقيل: لا تطيقها السموات والأرض لعظمها لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب وقيل: ثقلت المسألة عنها. [7/ 294] بتصرف
(609)
من قوله تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189].
كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حَملٌ بالفتح وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حِمل بالكسر. [7/ 295].
(610)
من قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف: 189].
وقال قوم إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام وهو الذي يعول عليه فقوله: {جَعَلَا لَهُ} [الأعراف: 190] يعني الذكر والأنثى الكافرين ويعني به الجنسان ودل على هذا {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} [الأعراف: 190] ولم يقل يشركان وهذا قول حسن
…
ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض روى ابن القاسم
ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يُسر وسرور وآخره مرض من الأمراض وهذا الذي قاله مالك: «إنه مرض من الأمراض» يعطيه ظاهر قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] وهذه الحالة مشاهدة في الحُمّال ولأجل عِظم الأمر وشِدة الخطب جُعل موتها شهادة كما ورد في الحديث. [7/ 297]
(611)
وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح وقال ابن وهب وأشهب حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر ولا رأى دودًا على عود ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل، والتفويض، فليركب البحر. [7/ 299]
(612)
من قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
هذه الآية من ثلاث كلمات تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات فقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرفق بالمؤمنين وغير ذلك من أخلاق المطيعين ودخل في قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار والاستعداد لدار القرار وفي قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التعلق بالعلم
والإعراض عن أهل الظلم والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الأغبياء وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة. [7/ 301]
(613)
من قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم، قال جابر بن سليم أبو جري: ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة، فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال:«وعليك السلام» ، فقلت: إنا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها قال: «ادن -ثلاثًا-» ، فدنوت فقال:«أعد علي فأعدت عليه» ، فقال:«اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئًا، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله جاعل لك أجرًا وعليه وزرًا ولا تسبن شيئًا مما خولك الله تعالى» ، قال أبو جري:«فوالذي نفسي بيده ما سببت بعده شاة ولا بعيرًا» . [7/ 301]
(614)
مكارم الأخلاق في ثلاثة
…
من كملت فيه فذلك الفتى
إعطاء من تحرمه ووصل من
…
تقطعه والعفو عمن اعتدى
وقال الشاعر:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي
…
إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خيرت كل فضيلة
…
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
[7/ 302]
(615)
من قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200].
النَّغْزُ والنزغ والهمز والوسوسة سواء وأصل النزغ الفساد يقال نزغ أي: أفسد. ومنه قوله تعالى: {نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] أي أفسد وقيل النزغ الإغواء والإغراء والمعنى متقارب. [7/ 305].
(616)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201].
المعنى: إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية. [7/ 306].
(617)
قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي فأعجبني سمته وحسن روائه فأثار مني الحسد ما يجنه صدري لأبيه من البغض فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال: نعم فبالغت في شتمه وشتم أبيه فنظر إليّ نظرة عاطف رؤوف ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] فقرأ إلى قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201] ثم قال:
خفض عليك أستغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك ولو استرفدتنا أرفدناك ولو استرشدتنا أرشدناك فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} [يوسف: 92] أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم فقال: شنشنة أعرفها من أخزم.
حياك الله وبياك وعافاك وآداك انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله. قال عصام: فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وودت أنها ساخت بي ثم تسللت منه لواذًا وما على وجه الأرض أحب إليَّ منه ومن أبيه. [7/ 307]
(618)
من قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7].
قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد والشوكة السلاح والشوك النبت الذي له حد ومنه رجل شائك السلاح أي حديد السلاح ثم يقلب فيقال شاكي السلاح أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب. [7/ 324]
(619)
من قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
{إِنْ يَنْتَهُوا} يريد عن الكفر قال ابن عطية ولا بد والحامل على ذلك جواب الشرط {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا
لمنته عن الكفر ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
…
ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله سبحانه في المعترف
…
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
روى مسلم عن أبي شماسة المهري قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله
…
» الحديث.
قال ابن العربي: هذه لطيفة من الله سبحانه منّ بها على الخلق وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم ويرتكبون المعاصي والمآثم فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدًا توبة ولا نالتهم مغفرة فيسر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة وبذل المغفرة بالإسلام وهدم جميع ما تقدم ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا. [7/ 352]
(620)
من قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} [الأنفال: 42]؟
العدوة: جانب الوادي فالدنيا كانت مما يلي المدينة والقصوى مما يلي مكة أي إذ أنتم بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة وعدوكم بالجانب الأقصى. [8/ 24]
(621)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45].
ذكر اللسان الموافق للجنان قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا يقول الله عز وجل: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41] ولرخص للرجل يكون في الحرب يقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45]. [8/ 26]
(622)
من قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. [8/ 36]
(623)
من قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
عن ابن زيد: الرباط من الخيل. الخمس فما فوقها، ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو قال الشاعر:
أمر الإله بربطها لعدوّه
…
في الحرب إن الله خير موفق
وقال مكحول بن عبد الله:
تلوم على ربط الجياد وحبسها
…
وأوصى بها الله النبي محمدًا
ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة وكان لعروة البارقي سبعون فرسًا معدة للجهاد. [8/ 37]
(624)
قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدًا. قال القشيري: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها، وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم، وفي السورة كشف أسرار المنافقين وتسمى الفاضحة والبحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة: البحث. [8/ 60]
(625)
اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال
…
والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة. قاله القشيري. [8/ 94]
(626)
من قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)} الآية [التوبة: 2].
خرج عمرو بن سالم الخزاعي وبُديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال:
يا رب إني ناشد محمداً
…
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا
…
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً عتدا
…
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
…
أبيض مثل الشمس ينموا صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
…
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
…
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعوا أحدا
…
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا
…
وقتلونا ركعاً وسجداً
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» . [8/ 63]
(627)
من قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]
اعلم أن مطلق قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال والتنكيس في الآبار تعلق بعموم الآية وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قومًا من أهل الردة يجوز أن يكون ميلًا إلى هذا المذهب واعتمادًا على عموم اللفظ والله أعلم. [8/ 69]
(628)
من قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].
قال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى الله يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال ابن مسعود: «أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له» . [8/ 76]
(629)
من قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12].
استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي. وروي أن رجلًا قال في مجلس علي: ما قُتل كعب بن الأشرف إلا غدرًا فأمر علي بضرب عنقه
…
[8/ 77]
(630)
فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل الله في الكافرين ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق -الحملان المشوية- وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]. وهذه الآية نص في الكفار ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع وهذا نفيس وبه يزول الإشكال ويرتفع الإبهام والله أعلم. [8/ 85]
(631)
من قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28].
في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرًا وأمر الله وقسمه مفعولًا ولكنه علقه بالأسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل قال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» أخرجه الترمذي وغيره فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق. [8/ 18]
(632)
أهل الصفة كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون ليس لهم كسب ولا مال إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسوقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأون القرآن بالليل ويصلون هكذا وصفهم البخاري وغيره فكانوا يتسببون وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم وإن كانت صدقة خصهم بها فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا -كأبي هريرة وغيره- وما قعدوا
…
بتصرف. [8/ 99]
(633)
الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع: -
أعلاها: كسب نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي
وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري» خرجه الترمذي وصححه فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله وخصه بأفضل أنواع الكسب وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه.
الثاني: أكل الرجل من عمل يده قال صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» خرجه البخاري وفي التنزيل: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه.
الثالث: التجارة وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم وخاصةً المهاجرين وقد دل عليها التنزيل في غير موضع.
الرابع: الحرث والغرس وقد بيناه في سورة البقرة.
الخامس: إقراء القرآن وتعليمه والرقية وقد مضى في الفاتحة.
السادس: يأخذ بنية الأداء إذا احتاج قال صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» خرجه البخاري. [8/ 100]
(634)
من قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29].
قال ابن العربي: سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها فقال: {قَاتِلُوا} ؛ وذلك أمر بالعقوبة.
ثم قال: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة.
وقوله: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد.
ثم قال: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} زيادة للذنب في مخالفة الأعمال.
ثم قال: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إشارة إلى تأكيد المعصية والانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام.
ثم قال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تأكيد للحجة لأنهم كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به. [8/ 101]
(635)
من قوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30].
قيل: معناه التأكيد كما قال تعالى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، وقوله:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وقوله:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)} [الحاقة: 13].
وقيل: المعنى أنه لما كان قولٌ ساذج ليس فيه بيان ولا برهان وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدًا فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان.
قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن
إلا وكان قولًا زورًا كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 5]، و {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]. [8/ 108]
(636)
من قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30].
أي: لعنهم الله يعني اليهود والنصارى لأن الملعون كالمقتول. قال ابن جريج: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} هو بمعنى التعجب وقال ابن عباس: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن.
ومنه قول أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت
…
أَنّى لنفسي إفسادي وإصلاحي
وحكى النقاش أن أصل (قاتل الله) الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء وأنشد الأصمعي:
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني
…
وأخبر الناس أني لا أباليها
[8/ 109]
(637)
من قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36].
هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها
العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرًا لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص والذي ينقص ليس يتعين له شهر وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج. [8/ 123]
(638)
من قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان وهو رجب مضر وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبًا وكانت مضر تحرم رجبًا نفسه فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «الذي بين جمادى وشعبان» ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان وكانت العرب أيضًا تسميه (مُنْصِلُ الأسنة) روى البخاري عن أبي رجاء العُطاردي. قال كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة فلم ندع رمحًا فيه حديدة ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه. [8/ 123]
(639)
من قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
في الظلم قولان أحدهما: لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور. وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي
رباح أنه ما يحل للناس: أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يُقَاتَلوا فيها وما نسخت والصحيح الأول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفًا بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.
الثاني: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب لأن الله سبحانه إذا عظم شيئًا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. [8/ 123]
(640)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60].
خَصَّ الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. [8/ 151]
(641)
فإن جاء وادعى وصفًا من الأوصاف [أي الخاصة بأهل الزكاة] هل يقبل قوله أم لا ويقال له أثبت ما تقول.
فأما الدَّيْنُ فلا بد أن يثبته وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له
ويُكتفى به فيها والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح وهو ظاهر القرآن روى مسلم عن جرير قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب.
الحديث وفيه قال: «فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب
…
» الحديث. فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة ولم يطلب منهم بينة ولا استقصى هل عندهم مال أم لا. ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره ..... وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادة على فقره من عيال أو غيره لايكشف عنه خلافًا لمن قال يكشف عنه إن قدر فإن في الحديث: «فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة» ولم يكلفه إثبات السفر. فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لأن الرق هو الأصل حتى تثبت الحرية. [8/ 172]
(642)
من قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف
وقال في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] لأن قلوبهم مختلفة ولكن يُضَّمُ بعضهم إلى بعض في الحكم. [8/ 186]
(643)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73].
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار وقال ابن عباس: أُمر بالجهاد مع الكفار بالسيف ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. [8/ 187]
(644)
من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75].
أخرج البخاري في الأدب المفرد والقضاعي وأحمد من حديث أبي هريرة قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته» أي من عاقبتها فرب أمنية يفتتن بها أو يطغى فتكون سببًا للهلاك دنيا وأخرى لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها، خطرة غائلتها، وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها. [8/ 193]
(645)
من قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82].
قال الحسن: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} في الدنيا، {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} في جهنم وقيل
هو أمر بمعنى الخبر أي إنهم سيضحكون قليلًا ويبكون كثيرًا {جَزَاءً} مفعول من أجله أي للجزاء.
من الناس من كان لا يضحك اهتمامًا بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف وإن كان عبدًا صالحًا قال صلى الله عليه وسلم: «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا
…
» الحديث.
وكان الحسن البصري ممن غلب عليه الحزن فكان لا يضحك وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول الله أضحك وأبكى وكان الصحابة يضحكون إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم وهو من فعل السفهاء والبطالة وفي الخبر «أن كثرته تميت القلب» وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود. [8/ 198].
(646)
من قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} [التوبة: 90].
المعذرون بالتشديد فيه قولان: أحدهما: أنه يكون المحقّ فهو في المعنى المعتذر لأن له عذرًا والقول الآخر أن المعذّر قد يكون غير محق وهو الذي يعتذر ولا عذر له وكان ابن عباس يقول: «لعن الله المعذِّرين» كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالًا من غير حقيقة له في العذر
…
سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لأنهم جاءوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. [8/ 205] بتصرف.
(647)
من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91].
الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز فكل من عجز عن شيء سقط عنه فتارة إلى بدل هو فعل وتارة إلى بدل هو غرم ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال. [8/ 207].
(648)
من قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
{مِنْ سَبِيلٍ} : في موضع رفع اسم ما أي من طريق إلى العقوبة وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. [8/ 208]
(649)
من قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92].
وقيل نزلت في بني مقرّن وعلى هذا جمهور المفسرين- وكانوا سبعة إخوة كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان (وعبد الله وعبدالرحمن)
(1)
بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة- في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل إنهم شهدوا الخندق كلهم. [8/ 209]
(1)
إضافة من المحقق.
(650)
من قوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92].
في قوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ما يستدل به على قرائن الأحوال ثم منها ما يفيد العلم الضروري ومنها ما يحتمل الترديد:
فالأول: كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسُلِقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور فيعلم أنه قد مات.
وأما الثاني: فكدموع الأيتام على أبواب الحكام قال الله تعالى مخبرًا عن إخوة يوسف عليه السلام:: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} [يوسف: 16] وهم الكاذبون، قال الله تعالى مخبرًا عنهم:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبنى عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها وقال الشاعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود
…
تبين من بكى ممن تباكى
[8/ 210]
(651)
من قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].
لما ذكر تعالى أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجًا منها ونائياً عنها من الأعراب فقال كفرهم أشد. قال قتادة: لأنهم أبعد عن معرفة السنن وقيل لأنهم أقسى قلبًا وأجفى قولًا وأغلظ طبعًا وأبعد عن سماع التنزيل. [8/ 212 - 214] بتصرف
(652)
من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100].
والأنصار اسم إسلامي قيل لأنس بن مالك أرأيت قول الناس لكم: الأنصار اسم سماكم الله به أم كنتم تُدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن، ذكره أبو عمر في الاستذكار. [8/ 215]
(653)
روى مجالد عن الشعبي قال سألت ابن عباس من أول الناس إسلامًا؟ قال: أبو بكر أو ما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة
…
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
…
بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهدُه
…
وأول الناس منهم صدق الرسلا
[8/ 216]
(654)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100].
وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهم سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبدالرحمن وعبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال:
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
…
سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب فقيل له: فعلقمة
والأسود فقال سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود، وعنه أيضًا قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان ومسروق هؤلاء كانوا فاضلين ومن عِلْية التابعين، وقال أيضًا: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن وثالثتهما وليست كهما أم الدرداء. [8/ 218]
(655)
من قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101].
معنى {مَرَدُوا} أقاموا ولم يتوبوا عن ابن زيد. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره. والمعنى متقارب.
وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها وغصن أمرد لا ورق عليه وفرس أمرد لا شعر على ثنته وغلام أمرد بين المرد ولا يقال جارية مرداء وتمريد البناء تمليسه ومنه قوله:{صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل: 44] وتمريد الغصن تجريده من الورق. [8/ 220]
(656)
من قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102].
وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة فهي ترجي، ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله
تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}
…
الآية. وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ وشطره كأقبح ما أنت راءٍ قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا: أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا تجاوز الله عنهم» . [8/ 222]
(657)
الخطاب من القرآن لم يرد بابًا واحدًا ولكن اختلفت موارده على وجوه فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6].
ومنها خطاب خص به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشركه فيه غيره لفظًا ولا معنى كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] ومنها خطاب خص به لفظًا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. بتصرف [8/ 223]
(658)
من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103].
قوله تعالى: {صَدَقَةً} مأخوذ من الصدق إذ هي دليل على صحة إيمانه
وصدق باطنه مع ظاهره وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات.
{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} حالين للمخاطب التقدير خذها مطهرًا لهم ومزكيًا لهم بها ويجوز أن يجعلها صفتين للصدقة أي صدقة مطهرة لهم مزكية.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة. [8/ 227] بتصرف
(659)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107].
روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه» قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة وقيل هما بمعنى واحد تكلم بهما جميعًا على جهة التأكيد. [8/ 232]
(660)
من قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108].
أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية وفي الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: «مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم» قال حديث
صحيح وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء فكان يستعمل الحجارة تخفيفًا والماء تطهيرًا.
وقال ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارًا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء. [8/ 238]
(661)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111].
قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحًا وأقل فسادًا منهم عند ألم الأطفال وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضًا إذا صاروا إليه ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر. [8/ 244]
(662)
حكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} [غافر: 71] وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع. [8/ 246]
(663)
من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115].
أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال. قلت ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكبت وانتهك حجابها كانت سببًا إلى الضلالة والردى وسلمًا إلى ترك الرشاد والهدى نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه. [8/ 252]
(664)
من قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117].
قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم وينشد:
منك أرجو ولست أعرف ربا
…
يُرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأرض
…
على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجوع
…
وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ
…
فتيقنت أنني بك أنجو
[8/ 256]
(665)
من قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118].
قيل: عن التوبة وقيل: عن غزوة تبوك. وقيل: أُرجوا وأُخروا عن
المنافقين فلم يقض فيهم بشيء وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم واعتذر أقوام فقبل عذرهم وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما واللفظ لمسلم قال كعب: «كنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا تَخَلُّفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه» . [8/ 256]
(666)
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة: «من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلّوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها» حسنه الأرناؤوط في جامع الأصول وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بُعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه. [8/ 265]
(667)
قال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]
، وقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. [8/ 274]
(668)
من قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1].
{الْحَكِيمِ (1)} : المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، وقيل الحكيم بمعنى الحاكم أي إنه حاكم بالحلال والحرام وحاكم بين الناس بالحق دليله:{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، وقيل الحكيم بمعنى المحكوم فيه أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه.
وقال مقاتل: الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف. [8/ 278]
(669)
من قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2].
قال مقاتل: أعمالًا قدموها واختاره الطبري:
قال الوضاح:
صَلِّ لِذي العرش واتخذ قدمًا
…
تُنْجَيك يوم العِثار والزلل
[8/ 279]
(670)
من قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10].
التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء، روى مسلم والبخاري عن
ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم» قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب وقال ابن عيينه وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول: «إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له» . [8/ 284]
(671)
من قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12].
{دَعَانَا لِجَنْبِهِ} : أي على جنبه مضطجعًا، {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] وإنما أراد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم: إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر فهو يدعو أكثر واجتهاده أشد ثم القاعد ثم القائم {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} [يونس: 12] أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ.
قلت: وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين إذا أصابته العافية مر على ما كان عليه من المعاصي فالآية تعم الكافر وغيره. [8/ 288]
(672)
من قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15].
والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدًا والوعيد وعدًا والحلال حرامًا والحرام حلالًا قاله ابن جرير الطبري.
الثاني: سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم قاله ابن عيسى.
الثالث: أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور قاله الزجاج. [8/ 286]
(673)
من قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18].
أي أتخبرون الله أن له شريكًا في ملكه أو شفيعًا بغير إذنه والله لا يعلم لنفسه شريكًا في السموات ولا في الأرض لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه. نظيره قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 33]، ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)} [النحل: 1]، أي: هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]
فيكذبون وهل يتهيأ لكم أن تنبؤه بما لا يعلم سبحانه وتعالى عما يشركون. [8/ 291]
(674)
من قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ} [يونس: 22].
وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرًا لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب. [8/ 293]
(675)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23].
روي عن سفيان بن عيينه أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا كما يقال البغي مَصْرَعةٌ. [8/ 294]
(676)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24].
روي عن نافع أنه وقف على {فَاخْتَلَطَ} أي: فاختلط الماء بالأرض، ثم ابتدأ {بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: بالماء نبات الأرض فأخرجت ألوانًا من النبات، فنبات على هذا ابتداء وعلى مذهب من لم يقف على {فَاخْتَلَطَ} مرفوع باختلط، أي اختلط النبات بالمطر أي شرب منه فتندى وحسن واخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض. [8/ 295]
(677)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25].
لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله وداره الجنة وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات ومن أسمائه سبحانه السلام. [8/ 296]
(678)
من قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].
قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى وكذلك هو الأمر في نظائرها وهي مسائل الأصول التي الحق فيها طرف واحد لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذاتٍ كَيفَ هِيَ وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وقوله عليه السلام: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات» والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يُختلف فيها وإنما يُختلف في الأحكام المتعلقة بها. [8/ 303]
(679)
روى عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] قال: اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال، وروى يونس عن ابن وهب: أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع
امرأته بأربع عشرة فقال مالك: ما يعجبني وليس من شأن المؤمنين يقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} . وروى يونس عن أشهب قال سئل- يعني مالكًا- عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج هي من الباطل ولا أحبها. [8/ 304]
(680)
وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: أما والله لغير هذا خلقتم أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم وعنه رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52] لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير من أن يمسها، وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد، وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية .... وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار والله أعلم. [8/ 305] بتصرف
(681)
قيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن: من جهل شيئًا عاداه. قال: نعم في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، وقوله:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} [الأحقاف: 11]. [8/ 310]
(682)
من قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].
الفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب وقد ذم الفرح في مواضع كقوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} [القصص: 76]، وقوله:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 10] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذمًا لقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] وههنا قال تبارك وتعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا فقيّد. [8/ 317]
(683)
قال ابن عباس: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} [يونس: 81] لم يضره كيد ساحر. ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر. [8/ 328]
(684)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 85].
أي لا تنصرهم علينا فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم وقال مجاهد المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول: أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم فيفتنوا، وقال أبو مجلز وأبو الضحى: يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانًا. [8/ 330]
(685)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} [يونس: 88].
وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحُكُم الرُّسل استدعاء إيمان قومهم؟ فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن الله وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن دليله قوله لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وعند ذلك قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح: 26] والله أعلم. [8/ 334]
(686)
من قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89].
قال أبو العالية: دعا موسى وَأَمَّنَ هارون فسمى هارون وقد أمن على الدعاء داعيًا والتأمين على الدعاء أن يقول آمين فقولك آمين دعاء أي يا رب استجب لي وقيل: دعا هارون مع موسى أيضًا. [8/ 334]
(687)
من قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 89].
وقيل: {فَاسْتَقِيمَا} أي على الدعاء. والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. [8/ 335]
(688)
من قوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس: 91].
قيل هو من قول الله تعالى وقيل هو من قول جبريل وقيل ميكائيل صلوات الله عليهما أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم. وقيل: هو من قول فرعون في نفسه ولم يكن ثَمَّ قول باللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة ونظيره {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم. [8/ 337]
(689)
من قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92].
أي نلقيك على نجوة من الأرض وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق وقالوا: هو أعظم شأنًا من ذلك فألقاه الله على نجوة من الأرض أي مكان مرتفع حتى شاهدوه. [8/ 337]
(690)
روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: «يا رسول الله قد شبت! قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» ، قال هذا حديث حسن غريب
…
قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده فالنفس تذهل
بوعيد الله وأهوال ما جاء به الخبر عن الله تعالى فتذبل وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به فمنه تشيب وقال الله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17] فإنما شابوا من الفزع. [9/ 6]
(691)
من قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
قيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي
…
ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم
…
وللضب في البيداء والحوت في البحر
[9/ 10]
(692)
من قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27].
قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد وهذا غالب أحوال الدنيا. [9/ 24]
(693)
من قوله تعالى: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32].
والجدل في الدين محمود ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر
الحق فمن قبله أنجح وأفلح ومن رده خاب وخسر وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم وصاحبه في الدارين ملوم. [9/ 27]
(694)
من قوله تعالى: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].
في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حَمَامٌ قد غطاه. قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات.
وفيها أيضًا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعًا ومن أهل البيت. [9/ 43]
(695)
من قوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56].
الناصية: قصاص الشعر في مقدم الرأس ونصوت الرجل أنصوه نصوًا أي مددت ناصيته.
قال ابن جريج: إنما خص الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء وكانوا إذا أسروا أسيرًا وأردوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرًا عليه فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. [9/ 47]
(696)
من قوله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].
قال أهل التفسير كان مما ينهاهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة وكانوا يتعاملون على الصحاح عدًا وعلى المقروضة وزنًا وكانوا يبخسون في الوزن
…
قال عبدالرحمن بن القاسم
…
: من كسرها لم تقبل شهادته وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر وليس هذا بموضع عذر
…
إذا كان هذا معصية وفسادًا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه وأما حلقه فقد فعله عمر وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونًا له على المعصية وطريقًا إلى التجمل به في الفساد وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن
…
وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم إلا أني كنت محفوفًا بالجهال فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يومًا من أهل الحق فليفعله احتسابًا لله تعالى. [9/ 77] بتصرف
(697)
من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118، 119].
قيل الإشارة بذلك {وَلِذَلِكَ} للاختلاف والرحمة وقد يشار ب {وَلِذَلِكَ} إلى شيئين متضادين، كقوله تعالى:{لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] ولم يقل بين ذينك ولا تينك.
وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]، وقال:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110]، وكذلك قوله:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى لأنه يعم أي ولما ذكر خلقهم وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب. قال أشهب: سألت مالكًا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة. [9/ 99]
(698)
من قوله تعالى: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} [هود: 120].
{فِي هَذِهِ} أي: في هذه السورة
…
وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار وقيل خصها بالذكر تأكيدًا وإن كان الحق في كل القرآن.
{وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية والقرون الخالية المكذبة وهذا تشريف لهذه السورة لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} أي: يتذكرون ما نزل بمن هلك
فيتوبون وخص المؤمنين؛ لأنهم هم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء. [9/ 100]
(699)
إنما كانت الرؤيا جزءًا من النبوة لأن فيها ما يُعْجِزْ ويمتنع كالطيران وقلب الأعيان والاطلاع على شيء من علم الغيب كما قال عليه السلام: «إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم
…
» الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله وإنها من النبوة قال صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» وأن التصديق بها حق ولها التأويل الحسن وربما أغنى بعضها عن التأويل وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة. [9/ 107]
(700)
وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقسامًا تغني عن قول كل قائل روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، قال قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. [9/ 108]
(701)
وقيل لمالك: أَيُعَبِّر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيرًا أخبر به وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا أو ليصمت؛ قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على
المكروه لقول من قال: إنها على ما تأولت عليه! فقال: لا ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة. [9/ 110]
(702)
روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة» وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقًا به ورحمة ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه فإن أدرك تأولها بنفسه وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك. [9/ 111]
(703)
من قوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10].
أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافهًا يسيرًا أو شيئًا لا بقاء لها فإنها تعرف حولًا كاملًا وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمّنه فإن ذلك له وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها. [9/ 117]
(704)
من قوله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11].
قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب. [9/ 120]
(705)
من قوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} [يوسف: 16].
قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعًا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك ومنهم من لا يقدر وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود
…
تبين من بكى ممن تباكى
[9/ 125]
(706)
من قوله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17].
قال القشيري أبو نصر {نَسْتَبِقُ} أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العَدْو لأنه الآلة في قتال العدو ودفع الذئب عن الأغنام.
وقال السدي وابن حيان {نَسْتَبِقُ} نشتد جريًا لنرى أينا أسبق.
قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة وخصلة بديعة وعون على الحرب وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته فقال لها: هذه بتلك.
قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلًا لما رجعوا من ذي قَرَدْ إلى المدينة فسبقه سلمة خرجه مسلم. [9/ 125]
(707)
قال عبدالله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف، فقال:{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر.
قال ابن العربي: عجبًا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر! والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة الحجر وليس كذلك فيما نقلوه لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنّة وليس ذلك من طريق الفراسة وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في (القصص) وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة والله أعلم. [9/ 138]
(708)
وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات وذلك كثير في أشعارها وكلامها ومن أحلاه قول بعضهم قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. [9/ 148]
(709)
من قوله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30].
قال الحسن: ويقال: إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى
وهي الجلدة البيضاء فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب. [9/ 152]
(710)
قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قلنا: لا يلزمه وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي وتعبير النبي حكم. وقد قال: إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقًا لنبوته، فإن قيل فقد روى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: «إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر ثم تؤمن ثم تكفر ثم تموت كافرًا فقال الرجل: ما رأيت شيئًا فقال له عمر: قد قضي لك ما قضي لصاحب يوسف» .
قلنا: ليست لأحد بعد عمر لأن عمر كان محدثًا وكان إذا ظن ظنًا كان وإذا تكلم به وقع على ما ورد في أخباره وهي كثيرة منها أنه دخل عليه رجل فقال له: «أظنك كاهنًا فكان كما ظن» . خرجه البخاري. ومنها أنه سأل رجلًا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له:«أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال» خرجه في الموطأ. [9/ 165]
(711)
من قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42].
أي سيدك وذلك معروف في اللغة أن يقال للسيد رب وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضيء ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا
يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي» وفي القرآن: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ويقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه قد ربه يربه فهو رب له.
قال العلماء: قوله عليه السلام: (لا يقل أحدكم). (ليقل): من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأَوْلَى لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم ولأنه قد جاء عنه عليه السلام: «أن تلد الأمة ربها» أي مالكها وسيدها وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن. [9/ 165 - 166] بتصرف
(712)
من قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)} [يوسف: 47].
هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة وكل ما يُفوت شيئًا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده من غير وجوب عليه ولا استحقاق هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين وبسطه في أصول الفقه. [9/ 173]
(713)
من قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]
قال سعيد بن منصور سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض أما سمعت إلى قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي على حفظها. [9/ 181]
(714)
من قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55].
يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره وهذا الحكم اليوم لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك كما قال يوسف عليه السلام فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب لقوله عليه السلام لعبدالرحمن: «لا تسأل الإمارة» وأيضًا فإن سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليلًا على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك. [9/ 184]
(715)
من قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} [يوسف: 57].
أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا لأن أجر الآخرة دائم وأجر الدنيا ينقطع وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق وأنشدوا:
أما في رسول الله يوسف أسوة
…
لمثلك محبوسًا على الظلم والإفك والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة
…
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن
…
وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملّك يوسفًا
…
خزائنه بعد الخلاص من السجن
وأنشد بعضهم:
إذا الحادثات بلغن النهى
…
وكادت تذوب لهن المهج
وحل البلاء وقل العزاء
…
فعند التناهي يكون الفرج
[9/ 187]
(716)
إن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟
قيل له: عن هذا أربعة أجوبة:
أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ليعظم له الثواب فاتبع أمره فيه.
الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام.
الثالث: لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه.
الرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته لميل كان منه إليه.
والأول أظهر والله أعلم. [9/ 189]
(717)
من قوله تعالى: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67].
لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد وكانت مصر لها أربعة أبواب وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلًا لرجل واحد وكانوا أهل جمال وبسطة.
إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين والعين حق. [9/ 192]
(718)
.. روى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف أنه سمع أباه يقول: «اغتسل أبي سهل به حنيف بالخرار فنزع جبةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهلٌ رجلًا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! فوعك سهلٌ مكانه واشتد وعكه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلًا وعك، وأنه غير رائحٍ معك يا رسول اللَّه، فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهلٌ بالذي كان من شأن عامرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له، فتوضأ عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس» .
وفي رواية «اغتسل» فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه
…
وركب سعد بن أبي وقاص يومًا فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم
هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين فرجع إلى منزله فسقط فبلغه ما قالت المرأة فأرسل إليها فغسلت له ففي هذين الحديثين أن العين حق وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول علماء الأمة ومذهب أهل السنة وقد أنكرته طوائف من المبتدعة وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة وبما يشاهد من ذلك في الوجود فكم من رجل أدخلته العين القبر وكم من جمل ظهير أدخلته القدر لكن ذلك بمشيئة الله تعالى، كما قال:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] قال الأصمعي رأيت رجلًا عيونًا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه! فقالوا الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها فهلكتا جميعًا المورى بها والمورى عنها، قال الأصمعي وسمعته يقول: إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. [9/ 193]
(719)
واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: «ألا بركت» فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برّك العائن وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه.
(720)
العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال ويجبر على ذلك إن أباه لأن الأمر على الوجوب لاسيما هذا فإنه قد يخاف على المعين الهلاك ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو ولاسيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه.
(721)
من عُرِفَ بالإصابة بالعين مُنِعَ من مداخلة الناس دفعًا لضرره وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته وإن كان فقيرًا رَزَقَه ما يقوم به ويكف أذاه عن الناس وقد قيل يُنفى وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي بل قد يكون الرجل الصالح عائنًا وأنه لا يقدح فيه ولا يفسّق به، ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته فذلك احتياط ودفع ضرر والله أعلم. [9/ 193]
(722)
الرقى مما يستدفع به البلاء. والعين تؤثر في الإنسان وتضرعه أي تضعفه وتنحله وذلك بقضاء الله تعالى وقدره ويقال إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار. [9/ 194]
(723)
قال علماؤنا: إنما يُسترقى من العين إذا لم يُعرف العائن وأما إذا عَرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء. [9/ 194]
(724)
من قوله تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)} [يوسف: 74].
المعنى: فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم؟ فأجاب إخوة يوسف: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ، أي: يستعبد ويسترق {جَزَاؤُهُ} مبتدأ و {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره والتقدير جزاؤه استعباد من وجد في رحله فهو كناية عن الاستعباد وفي الجملة معنى التوكيد كما تقول جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)} [يوسف: 75]، أي: كذلك نفعل مع
الظالمين إذا سرقوا أن يُستَرقُّوا وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه. وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ قاله الحسن والسدي وغيرهما. [9/ 199]
(725)
من قوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78].
وقولهم: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} أي كبير القدر ولم يريدوا كبر السن لأن ذلك معروف من حال الشيخ. [9/ 204]
(726)
من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82].
في هذه الآية من الفقه: أن كل من كان على حق وعلم أنه قد يُظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يُتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه ويصرح بالحق الذي هو عليه حتى لا يبقى لأحد مُتكلَّم وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد «على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله! وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا» رواه البخاري ومسلم. [9/ 209]
(727)
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ ألم تر قول يوسف عليه السلام: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}
[يوسف: 92]، وقال يعقوب:{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]. [9/ 219]
(728)
من قوله تعالى: {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4].
هما جمع صنو وهي النخلات والنخلتان يجمعهن أصل واحد وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلًا نظيرها قنوان واحدها قنو
…
والصنو المثل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع ولا بالإعراب فتعرب نون الجمع وتكسر نون التثنية.
قال الشاعر:
العلم والحلم خُلتا كرم
…
للمرء زين إذا هما اجتمعا
صنوان لا يستتم حسنهما
…
إلا بجمع ذا وذاك معا
[9/ 240]
(729)
من قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8].
روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاث أبطن في اثنتي عشرة سنة تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره
عن المبارك بن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين وكانت تسمى حاملة الفيل.
وروي أيضًا قال: بينما مالك بن دينار يومًا جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيي! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ ثم دعا ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلامًا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ورفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال أدرك امرأتك فذهب الرجل فما حطّ مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره.
وروي أيضًا أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى فشاور عمر الناس في رجمها فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع فتركها فوضعت غلامًا قد خرجت ثنيتاه، فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة! فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ لولا معاذ لهلك عمر.
وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حَمَلَت بي في بطنها سنتين فولدتني وقد
خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين وقيل ثلاث سنين ويقال: أن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين فماتت به وهو يضطرب اضطرابًا شديدًا فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه.
وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرمًا لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه فسمي ضحاكًا. [9/ 245]
(730)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير إما منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم بسبب كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم إلى غير هذا من أمثلة الشريعة فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما قال صلى الله عليه وسلم: «وقد سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» والله أعلم. [9/ 250]
(731)
من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)} [إبراهيم: 5].
وتوارى الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته وسجد شكرًا وقرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}، وإنما خص بالآيات كل صبار شكور لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45]، وإن كان منذرًا للجميع. [9/ 291]
(732)
من قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
سئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة مجددة منك عليّ قال: يا داود الآن شكرتني.
قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم، وألا يصرفها في غير طاعته وأنشد الهادي وهو يأكل:
أنا لك، رزقه لتقوم فيه
…
بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن
…
قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة وخنقته العبرة، وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة نعمة الشكر فتأهب للمزيد. [9/ 292]
(733)
من قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
أي: يتفضل عليه بالنبوة وقيل بالتوفيق والحكمة والمعرفة والهداية. وقال سهل بن عبدالله بتلاوة القرآن وفهم ما فيه، قلت: وهذا قول حسن. [9/ 295]
(734)
حكي الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين أن الوليد بن يزيد ابن عبدالملك تفاءل يومًا في المصحف فخرج له قوله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم: 15] فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد
…
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
…
فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أيامًا حتى قتل شر قتله وصلب رأسه على قصره ثم على سور بلده. [9/ 298]
(735)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37].
لما أراد الله تأسيس الحال وتمهيد المقام وخط الموضع للبيت المكرم والبلد المحرم أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء.
وفي الصحيح أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني وما أجد على كبدي سخفة جوع وذكر الحديث
…
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة إنها طعام طعم .... » وروى الدارقطني عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل» .
وروي أيضًا عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاء من كل داء» .
قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته وسلمت طويته ولم يكن به مكذبًا ولا يشربه مجربًا فإن الله مع المتوكلين وهو يفضح المجربين.
وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني فجعلت أعتصر (العصر: الحبس والمنع) حتى آذاني وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام وذلك أيام الحج فذكرت هذا الحديث فدخلت زمزم فتضلعت منه (التضلع: أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه) فذهب عني إلى الصباح وروى عن عبد الله بن عمرو إن في زمزم عينًا في الجنة من قبل الركن. [9/ 316]
(736)
من قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].
قال ابن عباس ومجاهد: لو قال: أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس ولكن قال من الناس فهم المسلمون فقوله: {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي تحن إليهم وتحن إلى زيارة البيت. [9/ 319]
(737)
من قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} [إبراهيم: 46].
(إن) بمعنى (ما) أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه (وإن) بمعنى (ما) في القرآن في مواضع خمسة أحدها هذا، والثاني:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94].
الثالث: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} [الأنبياء: 17] أي ما كنا.
الرابع: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81].
الخامس: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26]. [9/ 324]
(738)
من قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3].
قال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل وصدق رضي الله عنه!
فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني ويعقب التشاغل والتقاعس ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان كما أن قصر الأمل يبعث على العمل ويُحيل على المبادرة ويحث على المسابقة. [10/ 7]
(739)
من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
أنبأنا الشيخ
…
عبد الله عن أبيه علي التلمساني قال قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شُهدة بنت أبي نصر الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة سنة 564 هـ قيل لها: أخبركم الشيخ طراد الزينبي قراءة عليه وأنت تسمعين سنة 490 هـ أخبرنا علي قال حدثنا عيسى المعروف بالطوماري حدثنا الحسين قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون- وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع ووعده فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها
البيعة فاشتريت مني وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت وأدخلتها الوراقين فتصفحوها فلما أنه وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها فعلمت أن هذا كتاب محفوظ فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل، قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. [10/ 9] بتصرف
(740)
من قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 40].
قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام {الْمُخْلَصِينَ} أي: الذين استخلصتهم وأخلصتهم، وقرأ الباقون بكسر اللام:{الْمُخْلِصِينَ} ، أي: الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس. [10/ 27]
(741)
من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75].
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل عبادًا يعرفون الناس بالتوسم» أخرجه الطبراني في الأوسط والبزار والقضاعي والحكيم الترمذي وقال الهيثمي وإسناده حسن وكذا حسنه السخاوي.
قال العلماء: التوسم: تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها يقال توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه ومنه قول عبد الله بن رواحه للنبي صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير أعرفه
…
والله يعلم أني ثابت البصر
وقال آخر:
توسمته لما رأيت مهابة
…
عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فَرْقك إلى قدمك، وأصل التوسم التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس: «للمتوسمين» قال لأهل الصلاح والخير وزعمت الصوفية أنها كرامة وقيل بل هي استدلال بالعلامات ومن العلامات ما يبدو ظاهرًا لكل أحد وبأول نظرة ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر
…
ومثله قول ابن عباس: ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيهٌ هو أو غير فقيه. وروى عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارًا وقال الآخر: بل حدادًا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال كنت نجارًا وأنا اليوم حداد
…
قال أبو بكر بن العربي: إذا ثبت أن التوسم
والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. [10/ 40، 41]
(742)
من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} [النحل: 14].
تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره وهذه نعمة من نعم الله علينا فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. [10/ 79]
(743)
من قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه محمد رسول الله: وقال: «إني اتخذت خاتمًا من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه» .
قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك: ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم ونهيه عليه السلام لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه .... ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري:(محمد يسأل الله العافية) وكان نقش خاتم مالك: (حسبي الله ونعم الوكيل) وبلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنه اشترى خاتمًا بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتمًا بألف درهم فبعه وأطعم منه ألف جائع واشتر خاتمًا من حديد بدرهم واكتب عليه (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه)[10/ 82، 83] بتصرف.
(744)
من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} [النحل: 23].
عن الحسين بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كِسَرًا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبد الله، فنزل وجلس معهم وقال:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا.
قال العلماء: وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان وهو أصل العصيان كله. [10/ 88]
(745)
من قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26].
قال ابن الأعرابي: وَكَّدَ ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} أي: عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. [10/ 90]
(746)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 42].
قال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل. [10/ 97]
(747)
من قوله تعالى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59].
قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن وكان صعصعة بن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلًا يستحييها فقال الفرزدق يفتخر:
وعمي الذي منع الوائدات
…
وأحيا الوئيد فلم يوأد
وخُطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:
إني وإن سيق إلي المهر
…
ألف وعبدان وخور عشر
(1)
أحب أصهاري إلي القبر
وقال عبد الله بن طاهر:
لكل أبي بنت يراعي شؤونها
…
ثلاثة أصهار إذا حُمِدَ الصهر
فبعلٌ يراعيها وخدر يكنها
…
وقبر يواريها وخيرهم القبر
[10/ 104 - 106]
(748)
من قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66].
نبه سبحانه على عظمة قدرته بخروج اللبن خالصًا بين الفرث والدم.
(1)
أي نوق غزيرات اللبن.
والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش فإذا خرج لم يُسم فرثاً، يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها والمعنى أن الطعام يكون منه ما في الكرش ويكون منه الدم ثم يخلص اللبن من الدم فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا. والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش
…
{خَالِصًا} يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعها وعاء واحد. [10/ 110]
(749)
من قوله تعالى: {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66].
أي لذيذًا هَيّناً لا يغص به من شربه وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط وفي هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها ولا يقال إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار وفي الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ واللبن والماء.
وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام وأباحه عامة العلماء وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله فقال له الحسن: كل! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا. [10/ 112، 113]
(750)
قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة. [10/ 120]
(751)
من قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} [النحل: 69].
{شَرَابٌ} يعني العسل وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ....
وقال: {مِنْ بُطُونِهَا} لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.
قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم وأنهم النحل وأن الشراب القرآن والحكمة وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فأضحك الحاضرين وظهرت سخافة قوله. [10/ 121]
(752)
{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل: 69]، يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نَوّعته بحسب تنويع الغذاء كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي. [10/ 120]
(753)
من قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69].
اختلف العلماء هل هو على عمومه أم لا؟
1 -
فقالت طائفة هو على العموم في كل حال ولكل أحد فروي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه عسلًا حتى الدمل إذا خرج عليه طَلى عليه عسلًا، وحَكى النقاش عن أبي وَجْرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشي بالعسل ويتداوى بالعسل، وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء فإن الله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9]، ثم قال: ائتوني بعسل فإن الله تعالى يقول: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وائتوني بزيت فإن الله تعالى يقول: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] فجاءوه وبذلك كله فخلطه جميعًا ثم شربه فبريء.
2 -
ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابًا ينتفع به في كل حالة من كل داء.
3 -
وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال
…
ومما يدل على أنه ليس على العموم أن {شِفَاءٌ} نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلفي أهل الأصول.
لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم فكانوا
يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان.
وقال ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهومًا على قول الأطباء والكل من حِكَم الفعال لما يشاء. [10/ 121 - 122]
(754)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80].
معناه: صير وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت.
وقوله: {سَكَنًا} أي: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره إلا أن القول خرج على الغالب. [10/ 136]
(755)
من قوله تعالى: {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80].
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أَدَم وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة واعتلاء في الصفة وحسنًا للبشرة ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفًا ولا رآه سرفًا لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه وظهرت منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفًا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب
لنفسي فيك؛ فقال: هذا الخباء لنا كثير وكان في صنعنا من الحقير؟ فقلت: ليس كما زعمت! فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها فبهت ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه. [10/ 137]
(756)
من قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80].
ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها وهذا كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرًا عندهم وسكت عن الثلج لأنه لم يكن في بلادهم وهو مثله في الصفة والمنفعة وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في التطهير فقال: «اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد» قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. [10/ 137] بتصرف
(757)
من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90].
وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه وتقديم رضاه على هواه والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر.
وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها قال الله تعالى: {وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} [النازعات: 40] وعزوب الأطماع عن الاتباع ولزوم القناعة في كل حال ومعنى.
وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى. قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل. [10/ 148]
(758)
من قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91].
لفظ عام لجميع ما يُعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة.
عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول أي حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل لكثرة كفلس وفلوس.
روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد
شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت». [10/ 151] بتصرف
(759)
من قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول. وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد وثبت على العقد ولقد أحسن من قال:
المال ينفد حله وحرامه
…
يومًا وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه
…
حتى يطيب شرابه وطعامه
وقال آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوًا
…
أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء
…
أظلك ثم آذن بالزوال
[10/ 155]
(760)
أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. [10/ 163]
(761)
عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم ولأن أحلف سبعين يمينًا وأحنث أحب إلي أن أدل على مسلم وقال إدريس بن يحيى كان الوليد
بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير! فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له الوليد: قل آلله الذي لا إله إلا هو قال: الله الذي لا إله إلا هو فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطًا فكان يلقى رجاء فيقول يا رجاء بك يستقى المطر وسبعون سوطًا في ظهري؟ فيقول رجاء: سبعون سوطًا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم. [10/ 169]
(762)
من قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112].
سماه لباسًا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} أي: من الكفر والمعاصي. [10/ 172]
(763)
من قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116].
خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة
…
أسند الدارمي
…
عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون وقال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: أن التحليل
والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا وكذلك كان مالك يفعل اقتداءً بمن تقدم من أهل الفتوى. [10/ 174]
(764)
من قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
.. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] .. في هذه الآية {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 123] دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول لما تقدم في الأصول والعمل به ولا درك على الفاضل في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام وقد أمر بالاقتداء بهم فقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقال هنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]. [10/ 175]
(765)
الإسراء سير الليل وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره والأول أعرف. [10/ 181]
(766)
من قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية وأرقاه
فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة. [10/ 181]
(767)
ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيًا. [10/ 181]
(768)
من قوله تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
سمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يُعظم بالزيارة ثم قال:{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار وقيل بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين وبهذا جعله مقدسًا. [10/ 187]
(769)
من قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ} [الإسراء: 4].
المراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة {فِي الْأَرْضِ} [الإسراء: 4]، يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. [10/ 189]
(770)
من قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11].
قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له! اللهم أهلكه ونحوه {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي كدعائه ربه أن يهب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. [10/ 198]
(771)
من قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 14].
قال بعض الصلحاء: هذا كتابٌ لسانك قلمه وريقك مداده وأعضاؤك قرطاسه أنت كنت المملي على حفظتك ما زيد فيه ولا نقص منه ومتى أنكرت منه شيئًا يكون فيه الشاهد منك عليك. [10/ 202]
(772)
من قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنه لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها فإن الرواة لهذا المعنى كثير كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة وهم جازمون بالرواية فلا وجه لتخطئتهم ولا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته كما كانت الجاهلية تفعله حتى قال طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
…
وشقي عليّ الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
…
ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر
وإلى هذا نحا البخاري، وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث وأنه إنما يعذب بنوحهم لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك فيعذب بتفريطه في ذلك وبترك ما أمره الله به من قوله: {قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] لا بذنب غيره والله أعلم. [10/ 202]
(773)
أخرج أحمد والطبراني في الكبير والديلمي من حديث سويد بن هبيرة وقال الهيثمي في المجمع رجال أحمد ثقات حديث: «خير المال مُهرة مأمورة أو سكة مأبورة» السكة: النخل المصطف، والمأبورة: الملقحة. [10/ 204] مأمورة: أي كثيرة النتاج والنسل.
(774)
روي عن مالك أن رجلًا قال له: إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك فقال له: أطع أباك ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم وزعم أن لها ثلثي البر.
وحديث أبي هريرة: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك» يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر وهو الحجة على من خالف وقد زعم المحاسبي في كتاب الرعاية له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم. [10/ 209]
(775)
عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان، فقال:«ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث حسن وله شواهد. قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهي عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. [10/ 210]
(776)
قال ابن المنذر: والأجداد آباء والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الأخوة وسائر القرابات وكان طاووس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. [10/ 211]
(777)
من قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الإسراء: 23].
خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلًّا عليه فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه فلذلك خص هذه الحالة بالذكر وأيضًا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب فقال:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]. [10/ 212]
(778)
قوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] النهر: الزجر والغلظة {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]: أي لينًا لطيفًا مثل: يا أبتاه ويا أماه من غير أن يسميهما ويكنيهما قاله عطاء وقال أبو الهداج التجيبي: قلت
لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قول: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. [10/ 214]
(779)
من قوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [الإسراء: 26].
أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق، قال الشافعي: والتبذير إنفاق المال في غير حقه ولا تبذير في عمل الخير وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف وهو حرام، لقوله تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]، وقوله:{إِخْوَانَ} : يعني أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم أو أنهم يُقرنون بهم غدًا في النار ثلاثة أقوال. [10/ 217]
(780)
من قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} [الإسراء: 28].
أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولًا ميسورًا: أي أحسن القول وابسط العذر وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدتُ فعلتُ وأكرمتْ فإن ذلك يعمل في مَسّرة نفسه عمل المواساة وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارًا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد والضمير في {عَنْهُمُ} عائد على من تقدم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل.
وقولًا ميسورًا: أي لينًا لطيفًا طيبًا مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر كالميمون أي وعدًا جميلًا ولقد أحسن من قال:
إلا تكن وَرِقٌ يومًا أجودُ بها
…
للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خُلُقي
…
إما نوالي وإما حسن مردودي
[10/ 218]
(781)
من قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33].
أي معانًا يعني الولي فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه.
قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى وبمجموعها ثالثة فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. [10/ 223]
(782)
من قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة لأنه لما قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] دل على جواز ما لنا به علم فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص لأنه ضرب من غلبة الظن وقد يسمى علمًا اتساعًا فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. [10/ 226]
(783)
من قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
أي يُسأل كل واحد منهم عما اكتسب فالفؤاد يُسأل عما افتكر فيه واعتقده والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع، وقيل المعنى: إن الله سبحانه وتعالى يَسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده. [10/ 227]
(784)
ومن قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا
…
فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة
…
فكم مات من قوم همو منك أمنع
[10/ 228]
(785)
ومن قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء: 45].
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذممًا أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله: لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لن تراني وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال. وقرأ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ .... } فوقفت على أبي
بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا أبا بكر: إني أخبرت أن صاحبك هجاني فقال: لا ورب البيت ما هجاك. فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن فعبرا عليَّ ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر هذا دِيبلُه يعنون شيطانًا وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني والحمد لله حمدًا كثيرًا على ذلك. [10/ 236]
(786)
قال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله: ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من قول لا إله إلا الله ثم تلا: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 46]. [10/ 237]
(787)
من قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} [الإسراء: 55] الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. [10/ 242]
(788)
من قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60].
ولم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها والمعنى والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها ويمكن أن يكون هذا
على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعني الكَشُوت. [10/ 249]
(789)
من قوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)} [الإسراء: 62].
أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال ولأجتاحنهم. وروي عن العرب: احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله .... وإنما قال إبليس ذلك ظنًا كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] أو عَلِمَ من طبع البشر تَرَكُّبَ الشهوة فيهم أو بنى على قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما. [10/ 250]
(790)
من قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64].
استفزز: استزله بقطعك إياه عن الحق .. وصوته: كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى، .. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]، فالمعنى: أجمع عليهم كلما تقدر عليه من مكايدك وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى. [10/ 251]
(791)
من قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64].
أي اجعل لنفسك شركة في ذلك فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله
قاله الحسن وقيل هي التي أصابوها من غير حلها قاله مجاهد
…
والأولاد: قيل هم أولاد الزنا، وقيل: ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم، وقيل: تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه
…
بتصرف [10/ 251]
(792)
من قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].
لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة وفيها طلب النصر على الأعداء ومثله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 97، 98]
…
وهذه الآية (آية الإسراء) بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. [10/ 263]
(793)
اختلف العلماء في الدلوك فقيل: زوال الشمس عن كبد السماء، وقيل: الغروب، قال الماوردي: من جعل الدلوك اسمًا لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ومن جعله اسمًا لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها. [10/ 263]
(794)
اختلف العلماء في آخر وقت المغرب فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس. وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء
…
لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله وزعم ابن العربي أن هذا القول هو
المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته.
والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوًا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر.
قلت: والقول بالتوسعة أرجح. [10/ 264] بتصرف
(795)
من قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78].
انتصب {قُرْآنَ} من وجهين أحدهما: أن يكون معطوفًا على الصلاة؛ المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح قاله الفراء وقال أهل البصرة: انتصب على الإغراء: أي فعليك بقرآن الفجر قاله الزجاج.
وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور. [10/ 265]
(796)
من قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79].
فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم
…
وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد
رقدة كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم». [10/ 267]
(797)
من قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79].
اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال:
الأول: وهو أصحها- الشفاعة للناس يوم القيامة قاله حذيفة بن اليمان. [10/ 268]
(798)
من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ .... } روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات .... الحديث.
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذتين وتفل أو نفث» قال أبو بكر بن الأنباري: قال اللغويون تفسير (نفث) نفخ نفخًا ليس معه ريق، ومعنى (تفل): نفخ نفخًا معه ريق.
قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه
…
وإن يُفْقَد فَحُقَّ له الفُقُود
وقال ذو الرمة:
ومن جوف ما ء عَرْمَضَ الحول فوقه فوقه
…
متى يَحسُ منه مائح القوم يتفل
[10/ 277]
(799)
من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
{وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} تفريج الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته.
قال قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثم قرأ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ}
…
الآية. [10/ 280]
(800)
من قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84].
والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها وهذا ذمٌ للكافر ومدح للمؤمن.
(801)
قال القرطبي: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. [10/ 282]
(802)
من قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
والصحيح الإبهام لقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى مبهمًا له وتاركًا تفصيله ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى وحكمة ذلك
تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. [10/ 283]
(803)
من قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء: 93].
قرأ أهل مكة والشام {قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي} يعني النبي صلى الله عليه وسلم أي قال ذلك تنزيهًا لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل، وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. والباقون {قُلْ} على الأمر أي قل لهم يا محمد {هَلْ كُنْتُ} أي ما أنا {إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} أتبع ما يوحى إليّ من ربي ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر فهل سمعتم أحدًا من البشر أتى بهذه الآيات. [10/ 289]
(804)
من قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109].
هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وَحَقٌّ بكل من توسم بالعلم وحصّل منه شيئًا أن يجري إلى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي، قال: من أوتي من العلم ما لم يُبكّه لخليق ألا يكون أوتي علمًا لأن الله تعالى نعت العلماء ثم تلا هذه الآية {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107 - 109]. [10/ 296]
(805)
من قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110].
عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير ومنه الحديث الصحيح: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» أي قراءة الفاتحة. [10/ 299]
(806)
من قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء: 111].
أي عظمه عظمة تامة، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال الله أكبر، أي صِفه بأنه أكبر من كل شيء.
قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء
…
محاولة وأكثرهم جنودًا
[10/ 300]
(807)
من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)} [الكهف: 9].
(أحسبت يا محمد أن أصحاب
…
) أي ليسوا بعجب من آياتنا بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. وقال الكلبي: خلق السموات والأرض أعجب من خبرهم.
والكهف: النقب المتسع في الجبل وما لم يتسع فهو غار.
واختلف الناس في الرقيم فقال ابن عباس: كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة:
غسلين وَحَنان والأواه والرقيم، وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا منها وقيل واد وقيل صخرة وقيل كتاب في لوح من نحاس
…
قال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قومًا مؤرخين للحوادث وذلك من نبل المملكة وهو أمر مفيد وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ومنه كتاب مرقوم ومنه الأرقم لتخطيطه
…
[10/ 310]
(808)
من قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10].
هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارًا بدينه وكذلك أصحابه وجلس في الغار .... وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة: اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهرهم، وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت .... قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف. [10/ 315]
(809)
من قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} [الكهف: 12].
والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلًا
والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية وهذا قول الجمهور من المفسرين. [10/ 317]
(810)
من قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)} [الكهف: 13 - 14].
{فِتْيَةٌ} : أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة كذلك قال أهل اللسان رأس الفتوة الإيمان، وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم وهذا القول حسن جدًا لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} أي يسرناهم للعمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى ومباعدة الناس والزهد في الدنيا وهذه زيادة على الإيمان، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} عبارة عن شدة عزم وقوة وصبر أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار:{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14][11/ 317، 318]
(811)
من قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16].
ومُضمَّن الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها
علينا ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا وهذا كله دعاء بحسب الدنيا وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم [10/ 320]
(812)
من قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18].
قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة 469: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله، قلت: إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه -جل وعلا- فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين! بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعددت لها، قال: فكأن الرجل استكان ثم قال يا رسول الله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت» وفي رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم، قلت:
وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قومًا فذكره الله معهم! فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام وحب النبي صلى الله عليه وسلم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. [10/ 223]
(813)
من قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31].
وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم والخضرة بين البياض والسواد وذلك يجمع الشعاع والله أعلم. [10/ 344]
(814)
قال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت هذه- يعني الجنة- يدخلني الضعفاء، من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. [10/ 353]
(815)
روي أن من قال أربعًا أَمِنَ من أربع: من قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله أَمِنَ من العين، ومن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال: وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم. [10/ 353]
(816)
من قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} [الكهف: 44].
قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: (الوِلاية) بكسر الواو وقرأ الباقون بفتحها وهما بمعنى واحد كالرَّضاعة والرِّضاعة
…
وقال أبو عبيدة إنها بفتح الواو للخالق وبكسرها للمخلوق.
وقرأ أبو عمرو والكسائي (الحقُّ) بالرفع نعتًا للولاية وقرأ أهل المدينة وحمزة (الحقِّ) بالخفض نعتًا لله عز وجل والتقدير لله ذي الحق.
قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى {عُقْبًا (44)} ساكنة القاف والباقون بضمها وهما بمعنى واحد أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به. [10/ 356]
(817)
من قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} [الكهف: 45].
قالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء:
لأن الماء لا يستقر في موضع كذلك الدنيا لا تبقى على واحد.
ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا.
ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى.
ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها.
ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعًا منبتًا وإذا جاوز المقدار كان ضارًا مهلكًا وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر وفي صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه» . [10/ 357]
(818)
من قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالًا ونفعًا وفي البنين قوة ودفعًا فصارا زينة الحياة الدنيا لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين لأن المعنى المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم .. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدًا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدًا لغيرك ويكفي في هذا قول الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقال تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. [10/ 358]
(819)
من قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46].
اختلف العلماء في الباقيات الصالحات
…
وعن ابن عباس: «أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة» ، وقاله ابن زيد، ورجحه الطبري، وهو الصحيح إن شاء الله. [10/ 358]
(820)
من قوله تعالى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62].
النصب التعب والمشقة وقيل عنى به هنا الجوع وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض وأن ذلك لا يقدح في الرضا
ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط. [11/ 16]
(821)
والخضر نبي عند الجمهور وقيل هو عبد صالح غير نبي والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي وأيضًا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي وقيل كان مَلَكًا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن والأول الصحيح والله أعلم. [11/ 18]
(822)
من قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80].
ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعاً من الأكباد ومن سَلَّمَ للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء، قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب. [11/ 37]
(823)
من قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيةً (الأدنى) وقيل هو الأب السابع قاله جعفر بن محمد وقيل العاشر فحفظا فيه وإن لم يُذكر بصلاح
…
ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته وعلى هذا يدل
قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196]. [11/ 38]
(824)
من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83].
واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به اختلافًا كثيرًا فقيل هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني (وقيل غير ذلك) وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فقص ذلك ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك
…
وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملّكه ودانت له الملوك فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر
…
[11/ 46، 47] بتصرف
(825)
من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86].
وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربًا ومشرقًا حتى وصل إلى جرمها ومسّها لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض بل هي أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة بل المراد أنه انتهى
إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة كما أَنَّا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ولهذا قال: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)} [الكهف: 90] ولم يُرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. [11/ 49]
(826)
من قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} [الكهف: 94].
في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون وحبس أهل الفساد فيها ومنعهم من التصرف لما يريدونه ولا يتركون وما هم عليه بل يوجعون ضربًا ويحبسون أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه. [11/ 58]
(827)
من قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95].
في هذه الآية دليل على أن الملك فرضٌ عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم وسد فرجتهم وإصلاح ثغورهم من أموالهم التي تفيء عليهم وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره حتى لو أكلتها الحقوق وأنفذتها المؤن لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم وعليه حسن النظر لهم وذلك بثلاثة شروط:
الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء، الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم، الثالث: أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا
وبقيت صفرًا فأطلعت الحوادث أمرًا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير وتصرف بتدبير فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: اخدموا بأنفسكم معي فإن الأموال عندي والرجال عندكم ورأى أن الأموال لا تغني عنهم فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه فيعود بالأجر عليهم فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى وضابط الأمر: أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض فيؤخذ ذلك المال جهرًا لا سرًا وينفق بالعدل لا بالاستئثار وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب. [11/ 58، 59]
(828)
من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96].
{حَتَّى إِذَا سَاوَى} يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال أبو عبيدة هما جانبا الجبل وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما.
(829)
من قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]
أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه لأنه أملس مستو مع الجبل، والجبل عال لا يرام وارتفاع السد مائتا ذراع
…
{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} [الكهف: 97] لبعد عرضه وقوته وفي الصحيح عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وعقد وهب بن منبه بيده تسعين. وفي رواية- وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. [11/ 60]
(830)
من قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99].
وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج {يَوْمَئِذٍ} أي: وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. [11/ 62]
(831)
من قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} [الكهف: 103].
فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة والمراد هنا الكفر. [11/ 63]
(832)
من قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3].
اختلف في إخفائه هذا النداء فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن ولأنه أمر دنيوي فإن أُجيب فيه نال بغيته وإن لم يُجَب لم يعرف بذلك أحد.
قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويُؤَمِّن مَنْ خلفه من غير رفع صوت وتلا يونس: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}
[مريم: 3]. قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي والجهر به أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرًا. [11/ 74]
(833)
من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4].
قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع لأن قوله تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} إظهار للخضوع، وقوله:{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} [مريم: 4] إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته أي لم أكن بدعائي إياك شقيًا أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده وعن بعضهم: أن محتاجًا سأله وقال: أنا الذي أحسنتَ إليه في وقت كذا فقال: مرحبًا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته. [11/ 74]
(834)
من قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5].
وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب وليًا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول الزجاج وعليه فلم يسل من يرث ماله لأن الأنبياء لا تورث وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال. [11/ 75]
(835)
الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]، وقال:{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 6] والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة وخرج من
حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» فدعا له بالبركة تحرزًا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء. [11/ 78]
(836)
من قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم: 11].
أي أشرف عليهم من المصلى، والمحراب أرفع المواضع وأشرف المجالس وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض
…
واختلف الناس في اشتقاقه فقالت فرقه: هو مأخوذ من الحَرْب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات، وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحَرَب كأن ملازمه يلقى منه حربًا وتعبًا ونصبا. [11/ 81]
(837)
من قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} [مريم: 12].
روى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقت فأنزل الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. [11/ 83]
(838)
من قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم: 13].
قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأنشد سيبويه:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا
…
أذو نسب أم أنت بالحي عارف
وقال الحطيئة:
تحنن عليَّ هداك المليك
…
فإن لكل مقام مقالا
[11/ 84]
(839)
من قوله تعالى: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16].
أي مكانًا من جانب الشرق .. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها حكاه الطبري
…
وحكي عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قِبلةً لقول الله عز وجل: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)} فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة، وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرًا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. [11/ 86]
(840)
من قوله تعالى: {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23].
تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين:
أحدهما: أنها خافت أن يُظَنَّ بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك.
والثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزًا. [11/ 87]
(841)
من قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25].
استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتومًا فإن الله تعالى قد وَكَلَ ابن آدم إلى سَعيٍ مّا فيه لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية وكانت الآية تكون بألا تهز.
وقال الربيع بن خثيم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ولو علم الله شيئًا أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك وقيل إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل. [11/ 90 - 91]
(842)
من قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31].
أي: ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلمًا له، وقال القشيري: وجعلني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأرشد الضال وأنصر المظلوم وأغيث الملهوف. [11/ 96]
(843)
من قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38].
قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب فتقول: أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره، قال: فمعناه أنه عَجَّب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع منهم يوم القيامة ولا أبصر حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] وقيل أسمع بمعنى الطاعة أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم. [11/ 101]
(844)
من قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ} [مريم: 79].
{كَلَّا} يكون بمعنيين: أحدهما: بمعنى (حقًا)، والثاني: بمعنى (لا) فإذا كانت بمعنى حقًا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتديء {كَلَّا} أي: حقًا. وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على {كَلَّا} جائزًا، كما في هذه الآية لأن المعنى: لا ليس الأمر كذا ويجوز أن تقف على قوله {عَهْدًا (78)} ، وتبتدئ {كَلَّا} أي: حقًا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم: 79]، وكذا قوله تعالى:{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون: 100] يجوز الوقف على {كَلَّا} وعلى (تركت)، وقوله:{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 14، 15] الوقف على {كَلَّا} لأن المعنى لا - وليس الأمر كما تظن {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 15]، فليس للحق في هذا المعنى موضع. [11/ 135]
(845)
روي أن المأمون قرأ هذه السورة -مريم- فمرّ بهذه الآية: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 84]، وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في هذا المعنى:
حياتك أنفاس تعد فكلما
…
مضى نفس منك انتقصت به جزءًا
يميتك ما يحييك في كل ليلة
…
ويحدوك حاد ما يريد به الهُزءا
[11/ 138]
(846)
قال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90، 91].
قال ابن العربي: وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا أن الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون. [11/ 144]
(847)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
أي حبًا في قلوب عباده وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة.
قلت: إذا كان محبوبًا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا
يحب إلا مؤمنًا تقيًا ولا يرضى إلا خالصًا نقيًا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل عليه السلام، فقال: إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال: ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل عليه السلام وقال: إني أبغض فلانًا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه قال: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض» . [11/ 146 - 147]
(848)
من قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12].
واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين
…
وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت وقيل إعظامًا لذلك الموضع كما أن الحرم لا يُدخل بنعلين إعظامًا له.
قال سعيد بن جبير: قيل له طإ الأرض حافيًا كما تدخل الكعبة حافيًا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه
…
وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برًا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة والجثة الكريمة
…
[11/ 157] بتصرف
(849)
قال أبو الأحوص: زار عبد الله أبا موسى في داره فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى فقال أبو موسى لعبد الله تقدم فقال عبد الله: تقدم أنت في دارك فتقدم وخلع نعليه فقال عبد الله: أبالوادي المقدس أنت. [11/ 158]
«قال المحقق: حيثما أطلق عبد الله عند أهل العراق فالمراد ابن مسعود» .
(850)
من قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 13].
حُسْنُ الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه، فقال:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف، فقال:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} [الإسراء: 47] الآية فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل وأمر عباده بذلك أدبًا لهم {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وقال:{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 13]، لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى وهو أن يكف العبد جوارحه ولا يشغلها فيشتغل قلبه عما يسمع ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى ويحصر عقله فلا يُحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
وقال سفيان بن عيينه: أول العلم الاستماع ثم الفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب وجعل له في قلبه نورًا. [11/ 160]
(851)
من قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].
اختلف في تأويل قوله: {لِذِكْرِي (14)} فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، وقيل المعنى: أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة
…
وقيل المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر «فليصلها إذا ذكرها» . [11/ 161]
(852)
من قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 18].
تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرِّشا وصلته بالعصا وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني وإن خفت شيئًا من هوام الأرض قتلته بها وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة وأقاتل بها السباع عن الغنم .. والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئًا على سيف أو عصا فالعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن شريف ولا ينكرها إلا جاهل وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون.
قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها، وقال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه قلت وفي مشيته كما قال بعضهم:
قد كنت أمشي على رجلين معتمدًا
…
فصرت أمشي على أخرى من الخشب
[11/ 171، 172]
(853)
من قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44].
دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة وضمنت له العصمة ألا تراه قال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} وقال: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك وحينئذٍ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه ويظفر بمطلوبه وهذا واضح.
القول اللين: هو القول الذي لا خشونة فيه
…
فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولًا لينًا فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه وأمره بالمعروف في كلامه وقد قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. [11/ 181 - 182]
(854)
من قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [طه: 47].
قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاءٍ ولا خطاب. [11/ 184]
(855)
من قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} [طه: 48].
قال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا. [11/ 185]
(856)
من قوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]
هذه الآية ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكَتْبِها لئلا تنسى فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه، وقيل لقتادة: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]. [11/ 86]
(857)
وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها رواه مسلم.
وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يُعد عِلمه علمًا وقد ذهب قوم إلى المنع من الكَتْبِ والكَتْبُ أولى على الجملة وبه وردت الآي والأحاديث
…
وأيضًا: فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكَتْب من كره من الصدر الأول لقرب العهد وتقارب الإسناد لئلا
يعتمده الكاتب فيهمله أو يرغب عن حفظه والعمل به فأما والوقت متباعد والإسناد غير متقارب والطرق مختلفة والنقلة متشابهون وآفة النسيان معترضة والوهم غير مأمون فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى والدليل على وجوبه أقوى. [11/ 188]
(858)
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان والحبر أبقاها على مر الدهور وهو آلة ذوي العلم وعدة أهل المعرفة.
ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه فقال: لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد وفي البصائر بياض وقال خالد بن يزيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخَلوق في ثوب العروس وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوي فقال:
مداد المحابر طيب الرجال
…
وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا
…
وهذا يليق بثوب الحَصَان
[11/ 188]
(859)
من قوله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69].
ولم يقل وألق عصاك فجائز أن يكون تصغيرًا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العُويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه
بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيمًا لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئًا أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها. [11/ 209]
(860)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75].
أي يمت عليه ويوافيه مصدقًا به وقد عمل الطاعات وما أمر به ونهي عنه {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. [11/ 204]
(861)
من قوله تعالى: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92، 93].
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي. قاله ابن عباس وقيل إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142] فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لاسيما إذا كان راضيًا حكمه كحكمهم.
وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في
مذهب الصوفية؟ وأعلم- حرس الله مدته- أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيًا عليه ويُحضرون شيئًا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين وهذا القول الذي يذكرونه:
يا شيخ كف عن الذنوب
…
قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحًا
…
ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى
…
ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا ونحوه.
الجواب: يرحمك الله- مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلًا جسدًا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق. [11/ 212 - 213]
(862)
قال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)} [طه: 102] وقال في موضع آخر: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، فقال: إن ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيه زرقًا وحالة عميا. [11/ 218]
(863)
من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)} [طه: 105].
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} : أي عن حال الجبال يوم القيامة، {فَقُلْ}: جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن (قل) بغير فاء إلا هذا لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل فتضمن الكلام معنى الشرط. وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال فلذلك كان بغير فاء وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد؛ فتفهمه. [11/ 219]
(864)
من قوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107].
قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقى، ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا (بالبراريق) واحدها (بروقة) تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير يكون في طرف كل عود عقدة تُمرّ كل عقدة على الثآليل وتقرآ الآية مرة ثم تدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفّن وتعفن الثآليل؛ فلا يبقى لها أثر، جربت ذلك في نفسي وفي غيري فوجدته نافعًا إن شاء الله. [11/ 219]
(865)
من قوله تعالى: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 108].
الهمس: الصوت الخفي؛ قاله مجاهد. وهمس الطعام: أي مضغه وفُوه منضمٌّ.
قال الراجز:
لقد رأيت عجبًا مُذ أمسا
…
عجائزًا مثل السعالي خمسًا
يأكلن ما أصنع همسًا همسًا. [11/ 220]
(866)
من قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117 - 119].
وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج فمن يومئذٍ جرت نفقة النساء على الأزواج فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة الطعام والشراب والكسوة والمسكن فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور فأما هذه الأربعة فلا بد منها لأن بها إقامة المهجة. [11/ 225]
(867)
روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى
أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثًا» قال المهلب قوله: فحج آدم موسى أي غلبه بالحجة.
قال الليث بن سعد: إنما صحت هذه الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له .... وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فَرَّ يوم أُحد فقال ابن عمر ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]. [11/ 227]
(868)
من قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123].
خاطب آدم وإبليس {مِنْهَا} أي: من الجنة وقد قال لإبليس {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء ثم أهبط إلى الأرض {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24]، أي: أنت عدو للحية وإبليس وهما عدوان لك وهذا يدل على أن قوله: {اهْبِطَا} ليس خطابًا لآدم وحواء لأنهما ما كانا متعاديين وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. [11/ 229]
(869)
من قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131].
ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنًا فإنه لا بقاء لها {وَلَا
تَمُدَّنَّ} أبلغ من ولا تنظرن لأن الذي يمد بصره إنما يحمله على ذلك حرص مقترن والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه. [11/ 232].
(870)
من قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132].
يروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما كان إذا رأى شيئًا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية إلى قوله: {وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]، ثم ينادي بالصلاة! الصلاة يرحمكم الله ويصلي وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية، وقوله تعالى:{لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق بل نحن نتكفل برزقك وإياهم. [11/ 233]
(871)
من قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهنّ من تلادي]، يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد، وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارًا فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة فقال الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية فنفض يده من البنيان وقال: والله لا بنيت أبدًا وقد اقترب الحساب. [11/ 236]
(872)
ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله وطابت نفسه بالتوبة ولم يركن إلى الدنيا فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب وكل آتٍ قريب والموت لا محالة آت وموت كل إنسان قيام ساعته والقيامة أيضًا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. [12/ 236]
(873)
من قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء: 7].
لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المراد بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه القبلة إذا أشكلت عليه فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لابد له من تقليد عالمه وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم. [11/ 241]
(874)
من قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].
قال عبدالله بن الحارث سألت كعبًا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء، فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي: هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. [11/ 245]
(875)
من قوله تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30].
قال عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقًا لا تمطر والأرض كانت رتقًا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات نظيره قوله عز وجل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)} [الطارق: 11، 12] واختار هذا القول الطبري لأن بعده {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30] قلت وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية ليدل على كمال قدرته وعلى البعث والجزاء. [11/ 250]
(876)
قال ابن عباس: ما أرسل الله نبيًا إلا شابًا ثم قرأ: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60]. [11/ 262]
(877)
قال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم! فتقوم عليهم الحجة منهم ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة. [11/ 263]
(878)
من قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} [الأنبياء: 78].
أي: واذكرهما إذ يحكمان ولم يرد بقوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ} الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول فإن حَكَمين على حكم واحد لا يجوز وإنما
حَكَمَ كل واحد منهما على انفراده وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. [11/ 268]
(879)
من قوله تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78].
أي: رعت فيه ليلًا والنفش الرعي بالليل، يقال: نفشت بالليل وهَمَلت بالنهار إذا رعت بلا راع. [11/ 268]
(880)
لما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر، فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال: لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع قال: وما هو: قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه، فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. [11/ 269]
(881)
لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كنت مصيبًا فقد أخطأ أبوك وإن كان أبوك مصيبًا فقد أخطأت أنت فأجابه الوليد: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ
إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 78، 79]. [11/ 270]
(882)
قال الحسن: لولا هذه الآية: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} [الأنبياء: 78] لرأيت القضاة هلكوا ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود باجتهاده. [11/ 271]
(883)
قال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين وكل مجتهد مصيب والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس على الموطأ فإذا قال عالم في أمرٍ (حلال) فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله وكذا في العكس. [11/ 271]
(884)
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا
على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى لا- يرحمك الله- هو ابنها فقضى به للصغرى
…
» الحديث
…
والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه فيمكن أن الولد كان بيدها وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوى الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. [11/ 274]
(885)
من قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80].
هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المُنة (القوة) وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع وكان أيضًا يصنع الخوص وكان يأكل من عمل يده وكان آدم حراثًا ونوح نجارًا ولقمان خياطًا وطالوت دباغًا وقيل سقاء فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس. [11/ 280]
(886)
من قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83].
قال العلماء: ولم يكن قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعًا لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] بل كان دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا.
قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسًا غاصًا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76] والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء فاستحسنوه وارتضوه، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال: عَرَّفَه فَاقَة السؤال ليمنّ عليه بكرم النّوال. [11/ 284]
(887)
من قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
1 -
قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته وهذا قول مردود مرغوب عنه لأنه كفر.
2 -
وقال كثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه.
3 -
وقيل: هو من القَدَرَ الذي هو القضاء والحكم أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة.
4 -
وقيل: من التقدير وليس من القدرة يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرًا بمعنى قدر الله لك الخير.
وعلى هذين التأويلين (2، 3) العلماء قلت وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط لأهله إذا مات فحرقوه: «فوالله لئن قدر الله علي .... » الحديث رواه البخاري وغيره فعلى التقدير الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه.
وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين غيري. [11/ 290] بتصرف
(888)
من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88].
أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم وذلك قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143، 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أيامًا قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. [11/ 292]
(889)
خَمَّرَ الشيب لُمَّتي تخميرا
…
وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت
…
ودعي بالحساب أين المصيرا
[11/ 293]
(890)
من قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91].
أي: واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام، ولهذا قال:{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين. [11/ 295]
(891)
من قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].
قال ابن عباس آية لا يسألني الناس عنها لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها أو جهلوا فلا يسألون عنها فقيل: وما هي، قال:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} لما أنزلت شق على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه، قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيرًا أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أن محمدًا قد خُصم فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]،
وفيه نزل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] يعني ابن الزبعرى {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف: 57]. [11/ 300]
(892)
سورة الحج قال الغزنوي: وهي من أعاجيب السور نزلت ليلًا ونهارًا سفرًا وحضرًا مكيًا ومدنيًا سلميًا وحربيًا ناسخًا ومنسوخًا محكمًا ومتشابهًا مختلف العدد. [12/ 5]
(893)
من قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70].
{أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: أخسه وأدونه وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ولهذا قال: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، كما قال في سورة يس:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول:«اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» أخرجه النسائي عن سعد وقال: «وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المُكْتِبُ -المعلم- الغلمان» . والحديث صحيح أخرجه البخاري وغيره. [12/ 15]
(894)
من قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج: 5].
ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] فخاطب جميعًا وقال في الثاني: {وَتَرَى الْأَرْضَ} ؛ فخاطب واحدًا فانفصل اللفظ عن اللفظ ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. [12/ 16]
(895)
ومن قوله تعالى: {
…
وَالْمَجُوسَ} المجوس: هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين نور وظلمة
…
وقيل: المجوس في الأصل: النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين والأيم والأين. [12/ 24]
(896)
من قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} [الحج: 27].
وإنما قال يأتوك وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم فمن أتى الكعبة حاجًا فكأنما أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه وفيه تشريف إبراهيم. [12/ 38]
(897)
قدم الرجال على الركبان في الذكر {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] لزيادة تعبهم في المشي والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة ولما قال تعالى: {رِجَالًا} ، وبدأ بهم دل على ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب.
قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيًا فإني سمعت الله عز وجل يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} . [12/ 38
(898)
من قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28].
وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم
فلا جرم كذلك شَرَعَ وبَلَّغ وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم. [12/ 45]
وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولًا من الكبد.
(899)
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31]
معناه: مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق ولفظة حنفاء من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. [12/ 54]
(900)
من قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32].
الشعائر: جمع شعيرة وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ومنه شعار القوم في الحرب أي علامتهم التي يتعارفون بها ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة.
فشعائر الله: أعلام دينه لاسيما ما يتعلق بالمناسك
…
وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب. [12/ 55]
(901)
من قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن وقد قيل: إن العقل محله الدماغ وروي عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة. [12/ 73]
(902)
قال مجاهد: لكل عين أربع أعين يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا. وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. [12/ 73]
(903)
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، قال: إلا إذا حدث: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، قال: في حديثه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52]، قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله، وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا، والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. [12/ 88]
(904)
من قوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} [الحج: 68، 69].
في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتًا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويُدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. [12/ 88]
(905)
من قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72].
أي: أكره من هذا القرآن الذي تسمعونه هو النار فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؟ فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبئكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار فيكون هذا وعيدًا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن ويجوز في {النَّارُ} الرفع والنصب والخفض فالرفع على هو النار أو هي النار والنصب بمعنى: أعني أو على إضمار فعل مثل الثاني أو يكون محمولًا على المعنى: أي أعرفكم بشر من ذلكم النار، والخفض على البدل. [12/ 89]
(906)
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73].
وإنما قال: {ضُرِبَ مَثَلٌ} لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. [12/ 89]
(907)
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} [الحج: 73].
قيل: الطالب: الآلهة، والمطلوب: الذباب
وقيل: بالعكس
وقيل: الطالب: عابد الصنم، والمطلوب: الصنم
وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين
وأربابًا مطاعين وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان. [12/ 90]
(908)
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
{مِنْ حَرَجٍ} أي: من ضيق، وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام وهي مما خص الله بها هذه الأمة.
قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين وليس في الشرع أعظم حرجًا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج. [12/ 92، 93] بتصرف
(909)
اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس قاله عبادة بن الصامت. [12/ 97]
(910)
من الآيات العشر الأولى من سورة المؤمنون: من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} [المؤمنون: 10].
قال ابن العربي: من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم إلا قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5]، فإنما خاطب بها الرجال خاصةً دون الزوجات بدليل قوله:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
[المؤمنون: 6] وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عمومًا وخصوصًا وغير ذلك من الأدلة.
قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعًا من العلماء لأنها غير داخلة في الآية ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور. [12/ 97]
(911)
قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبدالعزيز قال: سألت مالكًا عن الرجل يجلد عُميرة فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} إلى قوله: {الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7]، وهذا لأنهم يكنون عن الذَّكَر بُعميرة وفيه يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به
…
فاجلد عميرة لا داءٌ ولا حرج
ويسميه أهل العراق: الاستمناء
…
وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة أصله الفصد والحجامة وعامة العلماء على تحريمه. [12/ 98]
(912)
من قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20].
يريد بها شجرة الزيتون وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار.
{مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} : أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام قاله ابن عباس وغيره.
والمراد من الآية: تعديد نعمة الزيت على الإنسان وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} : يراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وأصل الصبغ ما يلون به الثوب وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه، وقال مقاتل: الأُدم: الزيتون، والدهن: الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أُدمًا ودهنًا؛ فالصبغ على هذا الزيتون. [12/ 106]
(913)
لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرُّب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل فقال:«نعم الإدام الخل» متفق عليه
…
والحاصل: أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إدامًا وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إدامًا والله أعلم. [12/ 108]
(914)
روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» .
قال المحقق عبد الرزاق المهدي عنه: «حديث جيد» . انظر: «الصحيحة» (379)،
و «صحيح ابن ماجه» (2682). [12/ 108]
(915)
من قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)} [المؤمنون: 37].
يقال: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ ففي هذا أجوبة:
منها: أن يكون المعنى: نكون مواتًا أي نطفا ثم نحيا في الدنيا، وقيل: فيه تقديم وتأخير.
أي: إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت كما قال تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43].
وقيل: نموت: يعني الآباء، ونحيا: يعني الأولاد. [12/ 114]
(916)
من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44].
جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به، كأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب منه. قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ولا يقال في الخير، كما يقال: صار فلان حديثًا أي عبرة ومثلًا كما قال في آية أخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
قلت: وقد يقال فلان حديث حسن، إذا كان مقيدًا بذكر ذلك، ومنه قول ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده
…
فكن حديثًا حسنًا لمن وعى
[12/ 115]
(917)
سَوَّى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم. [12/ 117]
(918)
قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].
ما: بمعنى الذي أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء ليس إسراعًا في الخيرات. [12/ 119]
(919)
قال الحسن: «لقد أدركنا أقوامًا كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها» . [12/ 120]
(920)
من قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 62].
أظهر ما قيل فيه: أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره فهو ينطق بالحق وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم ولفظ النطق يجوز في الكتاب والمراد أن النبيين تنطق بما فيه والله أعلم. [12/ 122]
(921)
من قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67].
{مُسْتَكْبِرِينَ} : حال والضمير في به، قال الجمهور هو عائد على الحرم
أو المسجد أو البلد الذي هو مكة وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف.
{سَامِرًا} : معناه سُمّارًا وهو الجماعة يتحدثون بالليل مأخوذ من السَّمر وهو ظل القمر ومنه سُمرة اللون وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سَمَر القمر فسمي التحدث به.
وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب وكانت تسمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها فعابهم الله بذلك، ومعنى:{تَهْجُرُونَ} : يتكلمون بهوس وسيء من القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن عن ابن عباس وغيره. [12/ 124]
(922)
كان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم يتوضأ للصلاة. [12/ 125]
(923)
من قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].
أي يَمنع ولا يُمنع منه، وقيل:{يُجِيرُ} : يؤمِّن من شاء، و {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}: أي لا يؤمّن من أخافه ثم قيل هذا في الدنيا: أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه
دافع، وقيل: هذا في الآخرة أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجب العذاب دافع. [12/ 131]
(924)
من قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 94].
أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرًا لربه تعالى. [12/ 132]
(925)
من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99].
دلت الآية على أن أحدًا لا يموت حتى يعرف اضطرارًا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ولولا ذلك لما سأل الرجعة فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه. [12/ 135]
(926)
من قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106].
وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، لأن ذلك يؤديهم إلى النار، وقيل: ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة، وقيل: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. [12/ 137]
(927)
من قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]
الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى رحمة بعباده وسترًا لهم. [12/ 158]
(928)
اختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما وفائدة الخلاف أنه إن كان حقًا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى وإن كان حقًا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف. [12/ 159]
(929)
تضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف جلده، ورد شهادته، وفسقه فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة فقيل: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته وإنما يزول فسقه عند الله تعالى وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبته ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال، وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقًا قبل الحد وبعده. [12/ 160] بتصرف
(930)
من قوله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].
والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه، وإنَّ خيرًا لا شر فيه هو الجنة، وشرًا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان إذ الخطاب لهم في قوله:{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لرجحان النفع والخير على جانب الشر. [12/ 177]
(931)
قال علماؤنا: وإنما لم يُحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أَعَّد له في الآخرة عذابًا عظيمًا فلو حُدَّ في الدنيا لكان ذلك نقصًا من عذابه في الآخرة وتخفيفًا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} [النور: 13] وإنما حُدَّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود:«إنها كفارة لمن أقيمت عليه» رواه مسلم ويحتمل أن يقال إنما ترك حد ابن أبي استئلافًا لقومه واحترمًا لابنه وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه كما في صحيح مسلم والله أعلم. [12/ 180]
(932)
من قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12].
قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن ولُبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدًا أو مجهولًا. [12/ 181]
(933)
خرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمن ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن السرائر إلى الله عز وجل. [12/ 182]
(934)
من قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].
تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «من لا يرحم لا يرحم» أخرجه البخاري ومسلم.
قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ وقيل أرجى آية قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} [الأحزاب: 47]، وقد قال في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} [الشورى: 22] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} في تلك. وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. [12/ 187]
(935)
قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن فما رضي ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. [12/ 189]
(936)
روى علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد أعطيت تسعًا ما أُعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرًا وما تزوج بكرًا غيري ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي ولقد حفت الملائكة بيتي وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يُبينني عن جسده وإني لابنة خليفته وصديقه ولقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت طيبة وعند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقًا كريمًا تعني قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)} [الحج: 50] وهو الجنة» . [12/ 189]
(937)
ومن قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
…
} البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كَثُرَ السقوط من جهته ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله. [12/ 201]
(938)
من قوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].
أي: لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصامًا من معاصيه، وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية، وقال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء» أخرجه ابن ماجه في سننه.
فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد وقد قيل يغنيه أي يغني النفس وهو الصحيح وقيل المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى. [12/ 220] بتصرف
(939)
من قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
أمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله فيرزقه ما يتزوج به أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق أو تزول عنه شهوة النساء. [12/ 221]
(940)
من قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35].
أي من زيت شجرة والزيتون من أعظم الثمار نماء وكذلك الرمان، وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها، وقال ابن عباس: في الزيتون منافع، يسرج بالزيت وهو إدام ودهان ودباغ ووقود يوقد بحطبه وتُفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسيم، وهي أول شجرة نبتت في الدنيا وأول شجرة نبتت بعد الطوفان وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة ودعا لها سبعون نبيًا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد عليهم الصلاة والسلام. [12/ 235]
(941)
قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشوور فيه فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه وألا يشاهد معهم الصلاة إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى
السلامة منه فذاكرته يومًا وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول فاستدل بحديث الثوم وقال: «هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد» . [12/ 244]
(942)
سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال ما هذا الصوت! أتدري أين أنت! وكان خَلَفُ بن أيوب جالسًا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه فقيل له في ذلك فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا فكرهت أن أتكلم اليوم. [2/ 246]
(943)
قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ فقال: من صلى على جنازة فله قيراط ومن شهد دفنها فله قيراطان والجلوس في المسجد أحب إلي لأن الملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه. [12/ 254]
(944)
من قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذّر من مخالفة أمره وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63] فتحرم مخالفته فيجب امتثال أمره والفتنة هنا القتل قاله ابن عباس
…
وقيل الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. [12/ 295]
(945)
من قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)} [الفرقان: 10].
قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرًا كائنًا ما كان. والقصر في اللغة الحبس وسمي القصر قصرًا لأن من فيه مقصورًا عن أن يوصل إليه وقيل: العرب تسمي بيوت الطين القصر وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. [13/ 9]
(946)
من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان: 17].
فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. [13/ 13]
(947)
من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
أي أن الدنيا دار بلاء وامتحان فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والفقير الصابر فتنة للغني ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه والفقير ممتحن بالغني عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه وأن يصبر كل واحد منهما على الحق
…
فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ويحقر المعافى المبتلى والصبر أن يحبس كلاهما نفسه هذا عن البطر وذاك عن الضجر.
قال المزني وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيًا في مراكب ومناكب فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية: {أَتَصْبِرُونَ} فقال: بلى ربنا! نصبر ونحتسب وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرًا عليه ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. [13/ 20]
(948)
من قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} [الفرقان: 22].
يريد تقول الملائكة حرامًا محرمًا أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله وأقام شرائعها.
وقيل هو قول الكفار للملائكة وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال: حجرًا محجورًا أي حرامًا عليك التعرض لي
…
أي أن المجرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا نعوذ بالله منكم (بتصرف). [13/ 22]
(949)
لا يجوز أن يقال النصراني خير من اليهودي لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير لكن يقال اليهودي شر من النصراني. [13/ 25]
(950)
روي: «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل» . قال المحقق د/ عبدالرزاق المهدي في حاشية الكتاب عن هذا الحديث: ضعيف أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 112) المجمع من حديث أنس وفيه كثير به مروان قال الهيثمي عنه كذاب وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه (1693) والحاكم
(1/ 435) والطبراني (11/ 195) وفيه زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام وكلاهما واه وانظر ضعيف الجامع (916). [13/ 25]
(951)
من قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 33].
يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. [13/ 30]
(952)
من قوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان: 38].
الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية والجمع رساس. [13/ 33]
(953)
من قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)} [الفرقان: 38].
عن الربيع بن خثيم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا كانوا أكثر وأشد حرصًا على جمع المال فكان فيهم أطباء فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات رحمه الله. [13/ 34]
(954)
من قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43].
قيل المعنى: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه وقيل أطاع هواه وعن الحسن لا يهوى شيئًا إلا اتبعه والمعنى واحد {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}
[الفرقان: 43] أي حفيظًا وكفيلًا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك وإنما عليك التبليغ. [13/ 36]
(955)
من قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
أي: في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضًا. [13/ 36]
(956)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45].
قال الحسن وقتادة وغيرهما: مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وقيل هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها والأول أصح والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد وتطيب نفوس الأحياء فيها وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. [13/ 37]
(957)
من قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)} [الفرقان: 45].
أي: جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء
ومعنى لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل ولولا النور ما عرفت الظلمة. [13/ 37]
(958)
من قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: 47].
أي: راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال وأصل السبات من التمدد يقال سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة وقيل للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون وفي التمدد معنى الراحة. [13/ 38]
(959)
من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
المخالط للماء على ثلاثة أضرب:
ضرب يوافقه في صفتيه جميعًا فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفًا منهما لموافقته لهما وهو التراب، والضرب الثاني: يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير كماء الورد وسائر الطاهرات، والضرب الثالث: يخالفه في الصفتين جميعًا فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعًا لمخالفته له فيهما وهو النجس. [13/ 201]
(960)
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله وقال الجمهور إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره
من تربة وحمأة وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه ولا التباس معه. [13/ 44]
(961)
روى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيًا وقع في زمزم يعني فمات فأمر به ابن عباس رضي الله عنهما فأخرج فأمر بها أن تنزح قال فغلبتهم عين جاءتهم من الركن فأمر بها فدسمت- سدت- بالقُباطي- ثياب مصرية- والمطارف حتى نزحوها فلما نزحوها انفجرت عليهم. [13/ 46]
(962)
الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة ..
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث ومن توضأ به أعاد
…
ومما احتجوا به:
الماء إذ تُوضئ به خرجت الخطايا معه فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب، قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده وإنما معنى قوله: (خرجت الخطايا مع الماء) إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلًا عليهم. [13/ 48] بتصرف
(963)
قال أبو عمر:
…
والذي نذهب إليه أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال والله المستعان. [13/ 55]
(964)
من قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان: 59].
قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه
…
قلت قول الزجاج يُخَرَّجُ على وجه حسن وهو أن يكون الخبير غير الله أي فاسأل عنه خبيرًا أي عالمًا به أي بصفاته وأسمائه وقيل المعنى: فاسأل له خبيرًا. [13/ 63]
(965)
من قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
أي زادهم قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن نفورًا عن الدين وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية إلهي زادني لك خضوعًا ما زاد أعداءك نفورًا. [13/ 64]
(966)
من قوله تعالى: {وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} [الفرقان: 61].
ينير الأرض إذا طلع وروى عصمة عن الأعمش (وقُمْرا) بضم القاف وإسكان الميم وهذه قراءة شاذة ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا. [13/ 65]
(967)
من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62].
قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. وقال مجاهد: من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثًا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر
والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن معناه: من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. [13/ 65]
(968)
من قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63].
فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني في عدم الاعتبار. [13/ 67]
(969)
من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63].
قال النحاس: ليس سلامًا من التسليم إنما هو من التسلم تقول العرب سلامًا أي تسلمًا منك أي براءة منك، وقال مجاهد:{سَلَامًا} : سدادًا، أي يقول للجاهل كلامًا يدفعه به برفق ولين، وقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلامًا بهذا اللفظ. [13/ 61]
(970)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64].
قال الزجاج: «بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل نام أو لم ينم» .
وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدًا وقائمًا وأنشدوا في صفة الأولياء:
امنع جفونك أن تذوق منامًا
…
واذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب
…
يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه
…
فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم
…
باتوا هنالك سجدًا وقيامًا
خمص البطون من التعفف ضمرًا
…
لا يعرفون سوى الحلال طعاما
[13/ 70]
(971)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67].
ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار ومن أنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام. [13/ 71]
(972)
قال الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
…
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
…
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم: يا بني كل في نصف بطنك ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم.
ولحاتم طي:
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله
…
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
[13/ 72]
(973)
من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].
قلت: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» الترمذي وهو حديث حسن. [13/ 76]
(974)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72].
أي: لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه والزور كل باطل زُوّر وَزُخِرف وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. [13/ 78]
(975)
من قوله تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
قوله عليه الصلاة والسلام لأنس: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» .
وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة معاونون له على وظائف الدين والدنيا لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده فتسكن عينه من الملاحظة ولا تمتد عينه إلى ما ترى فذلك حين قرة العين وسكون النفس. [13/ 80]
(976)
من قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
أي قدوة يُقتدى بنا في الخير وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيًا
قدوة وهذا هو قصد الداعي
…
ويكون فيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين ندب. [13/ 81]
(977)
من قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75].
{أُولَئِكَ} : خبر {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63] وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي وهي إحدى عشرة التواضع والحلم والتهجد والخوف وترك الإسراف والإقتار والنزاهة عن الشرك والزنى والقتل والتوبة وتجنب الكذب والعفو عن المسيء وقبول المواعظ والابتهال إلى الله.
والغرفة: الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. [13/ 81]
(978)
من قوله تعالى في سورة الشعراء: {طسم (1)} [الشعراء: 1].
والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس وأنشد أبو عبيدة:
وبالطواسيم التي قد ثلثت
…
وبالحواميم التي قد سبعت
قال الجوهري والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد فيقال ذوات طسم وذوات حم. [13/ 86]
(979)
روى الشعبي أنه قال: الناس من نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فهم لئيم. [13/ 88]
(980)
روى أشهب عن مالك قال: قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحًا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96] أي حبًا في قلوب عباده وثناء حسنًا فنبه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. [13/ 106]
(981)
من قوله تعالى: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 89].
قال الضحاك: السليم الخالص، قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن أي الخالص من الأوصاف الذميمة والمتصف بالأوصاف الجميلة والله أعلم. وقد روي عن عروة أنه قال: يا بَنيَّ لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئًا قط، قال الله تعالى:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} [الصافات: 84]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» يريد والله أعلم أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا. [13/ 107]
(982)
كان علي رضي الله عنه يقول: عليكم بالإخوان فإنهم عُدة الدنيا وعُدة الآخرة ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء: 100، 101]. [13/ 109]
(983)
روي أن رجلًا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار؟ فقال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)} [الشعراء: 113]. [13/ 112]
(984)
عن الزهري: أن عمر بن عبدالعزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207] ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
…
وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم
…
ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
…
كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه
…
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
[13/ 127]
(985)
لقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إني رضيت عليًا للهدى علمًا
…
كما رضيت عتيقًا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته
…
وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة عَلَمُ
…
فهل عليَّ بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم
…
إلا من أجلك فأعتقني من النار
[13/ 132]
(986)
وقال آخر فأحسن:
حب النبي رسول الله مفترض
…
وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه
…
لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه
…
ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله
…
والبيت لا يستوي إلا بأركان
[13/ 133]
(987)
قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد فبذلك يضرب المَلَكُ الموكل بالرؤيا المثل وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلا أغض غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ابتسمت
…
كأنه مُنهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. [13/ 133]
(988)
قال أبو عمر: ولا ينُكِرُ الحَسَن من الشعر أحدٌ من أهل العلم ولا من أولي النهى وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمةً أو مباحًا
ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله. [13/ 133]
(989)
للزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب وكانت له زوجة حسنة تسمى عَثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها وله فيها أشعار كثيرة منها قوله:
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها
…
أطير لو ان إنسانًا يطير
وقال ابن شهاب: قلت له: تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ. [13/ 134]
(990)
روي أن النعمان بن عدي بن فضلة كان عاملًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
من مبلغ الحسناء أن حليلها
…
بميسان يُسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
…
ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
…
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه
…
تنادمنا بالجوسق
(1)
المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه، وقال إي الله إنه ليسوءني ذلك فقال يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئًا مما قلت وإنما كانت فضلة من القول
(1)
الجوسق: القصر فارسي معرب.
وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 224 - 226] فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملًا أبدًا وقد قلت ما قلت. [13/ 132]
(991)
من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)} [النمل: 7].
معناه يستدفئون من البرد يقال: اصطلى يصطلي إذا استدفأ قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد
…
أكل الفواكه شاتيًا فليصطل
[13/ 143]
(992)
من قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل: 10 - 11].
فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين وهم أيضًا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به فهم يخافون من المطالبة به. [13/ 147]
(993)
قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب، وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر، قلت: والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة وإذا أحدث المقرب حدثًا فهو وإن
غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باقٍ وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)} [القصص: 17]. [13/ 147]
(994)
من قوله تعالى: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)} [النمل: 15].
في الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلَّ النعم وأجزل القسم وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من عباد الله المؤمنين. [13/ 149]
(995)
من قوله تعالى: {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].
أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. [13/ 150]
(996)
من قوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].
قال قتادة والشعبي: إنما هذا الأمر في الطير خاصة لقوله: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة، قال الشعبي: وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين.
وقالت فرقة: بل كانت في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جندًا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير.
وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام والله جل وعز أعلم بما أراد، وقال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات فكان كل نبت يقول: أنا شجر كذا أنفع من كذا وأضر من كذا فما ظنك بالحيوان. [13/ 151]
(997)
من قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} [النمل: 17].
{فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} معناه: يرد أولهم إلى آخرهم وَيُكَفّون.
وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. [13/ 152]
(998)
ذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؟ أي من الناس قال ابن القاسم: قلت لمالك: ما يزع؟ قال يكف قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق لا زيادة عليها
ولا نقصان معها ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها وقصروا عنها وأتوا ما أتوا بغير نية ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها فلم يرتدع الخلق بها ولو حكموا بالعدل وأخلصوا النية لاستقامت الأمور وصلح الجمهور. [13/ 153]
(999)
من قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18].
سميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها [13/ 153]
(1000)
من قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19].
وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ولذلك أكد التبسم بقوله ضاحكًا إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتَبَسُّمُ الضَّحِك إنما هو عن سرور ولا يُسر نبي بأمر دنيا وإنما سُر بما كان من أمر الآخرة والدين. [13/ 154]
(1001)
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن نملة قرصت نبيًا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح» وفي طريق آخر: «فهلا نملة واحدة» قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة
مستروحًا إلى ظلها وعندها قرية النمل فغلبه النوم فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته فدلكهن بقدمه فأهلكهم وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرًا ونقمة على العاصي. [13/ 157]
(1002)
لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدًا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب لقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقتين ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عُدَّة. قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها. [13/ 159]
إذا أراد الله أمرًا بامرئ
…
وكان ذا عقل ورأي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما
…
يأتي به مكروه أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله
…
وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه
…
رد عليه عقله ليعتبر
[13/ 161]
(1003)
من قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل: 20].
في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم
فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله فكيف بعظام الملك ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته. قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان وتضيع الرعية ويضيع الرعيان.
(1004)
من قوله تعالى: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20].
قيل: إنما قال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} لأنه اعتبر حال نفسه إذ علم أنه أوتي الملك العظيم وسخر له الخلق فقد لزمه الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قَصّر في حق الشكر فلأجله سُلبها فجعل يتفقد نفسه فقال: ما لي. قال ابن العربي: وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم تفقدوا أعمالهم هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض! [13/ 161]
(1005)
من قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} [النمل: 22].
سبأ قيل: اسم رجل وقيل: اسم مدينة وقيل: اسم امرأة والصحيح أنه اسم رجل. [13/ 163]
(1006)
من قوله تعالى: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22].
في الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره،
وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا لا يتيمم الجنب. وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت وكان غسل رأس المحرم معلومًا عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة ومثله كثير فلا يطول به. [13/ 164]
(1007)
من قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23].
وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها وسماع البينة عليها والفصل بين الخصوم فيها وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى، فإن الغرض منه حفظ الثغور وتدبير الأمور وحماية البيضة وقبض الخراج ورده على مستحقه وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي: وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء، فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس ولا تخالط الرجال ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها وإن كانت برزة
(1)
لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم وتكون مناظرة لهم ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده. [13/ 166]
(1)
البرزة: الكهلة.
(1008)
من قوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27].
دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه وإنما صار صدق الهدهد عذرًا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد وفي الصحيح: «ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل» . [13/ 170]
(1009)
من قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان وبذلك جاءت الآثار وروى الربيع بن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم
…
قال أبو الليث في كتاب البستان له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ثم بنفسه لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافًا بالمكتوب إليه وتكبرًا عليه إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده أو غلام من غلمانه.
وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن
الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبًا كما يرى رد السلام. [13/ 173]
(1010)
من قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35].
الهدية مندوب إليها وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» وعن ابن شهاب قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة» هذا مرسل وجاء مرفوعًا عن جماعة من الصحابة بلفظ «تهادوا وتحابوا» .
قال ابن وهب سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال: الغل.
وعلى الجملة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية وفيه الأسوة الحسنة ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس وتكسب المهدي والمهدى إليه رنّة في اللقاء والجلوس. [13/ 179]
(1011)
ولقد أحسن من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض
…
تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى وودًا
…
وتكسبهم إذا حضروا جمالا
وقال آخر:
إن الهدايا لها حظ إذا وردت
…
أحظى من الابن عند الوالد الحدب الحدب
[13/ 179]
(1012)
من قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ} [النمل: 40].
أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب (آصف بن برخيا) وهو من بني إسرائيل. وقال ابن عطية: وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] واستدل قائلوا هذه المقالة بقول سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] قلت: ما ذكره ابن عطية قاله النحاس في معاني القرآن له وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. [13/ 84]
(1013)
من قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
قيل: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرًا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة
وفي مفتتح كل خطبة وتبعهم المترسلون أي المتراسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. [13/ 197]
(1014)
من قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه وأخبر بذلك عن نفسه والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة وُجِدَ من مؤمن أو كافر طائع أو فاجر، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]، وقوله:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]؛ فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم، وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. [13/ 200]
(1015)
في الحديث: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده» ذكره صاحب الشهاب وهو حديث صحيح.
فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرًا وكذلك إن كان فاجرًا في دينه ففجور الفاجر وكفر
الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته
…
ويقرب منه المسافر لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم لا يسكن قلبه إلى مُسعد ولا مُعين لغربته فتصدق ضرورته إلى المولى فيخلص إليه في اللجأ وهو المجيب للمضطر إذا دعاه وكذلك دعوة الوالد على ولده لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته إلا عند تكامل عجزه عنه وصدق ضرورته وإياسه عن بر ولده مع وجود أذيته فيسرع الحق إلى إجابته. [13/ 201] بتصرف
(1016)
من قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
روي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصاة؟ فحسب المنجم ثم قال كذا فأصاب. ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ، ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا، قال: فإني لا أصيب، قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب وهذا لم تحصه فهو غيب ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله. [13/ 202]
(1017)
من قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66].
هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش
وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد:«بل أَدْرَكَ» من الإدراك.
في معناه قولان {ادَّارَكَ} أحدهما أن المعنى تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة فقالوا: تكون وقالوا: لا تكون [وهذا على القراءة الأولى وهي قراءة أكثر الناس]. [13/ 203]
(1018)
من قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89].
قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: «الحسنة: لا إله إلا الله» .
قلت: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض «فله خير منها» قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها. وقيل: فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس [خير] للتفضيل. قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خيرٌ منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرًا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل «فله خير منها» للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد قاله ابن عباس وقيل: يرجع هذا إلى الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرًا وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد. [13/ 209]
(1019)
من قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7].
وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور خرجه البخاري ومسلم
…
وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة وقد سَلَّمَتْ على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيًا. [13/ 224]
(1020)
من قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص: 7].
حكى الأصمعي قال: سمعت جاريةً أعرابيةً تُنشد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله
…
قبلت إنسانًا بغير حله
مثل الغزال ناعمًا في دله
…
فانتصف الليل ولم أصله
فقلت قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أَوَ يُعَدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص: 7] الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. [13/ 225]
(1021)
من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].
ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر، ثم لم يزل عليه السلام يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له
حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، وإنما عدده على نفسه ذنبًا، وقال: ظلمت نفسي فاغفر لي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر وأيضًا فإن الأنبياء يشفقون ما لا يشفق منه غيرهم.
قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدًا للقتل؛ وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه، قال: وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة وقال كعب كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة وكان قتله مع ذلك خطأ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل.
وروى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة!
سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من ها هنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]» . [13/ 233]
(1022)
من قوله تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].
قال سلمة بن نبيط: بعث عبدالرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى، وقال: أعطهم، فقال: أعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقيل له: ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئًا، فقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم، وقال عبيد الله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح: إن
لي أخًا يأخذ بقلمه وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدّان؟ فقال من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]، قال ابن عباس: فلم يستثن فابتلي ثانية فأعانه الله فلا يعينهم أخوك فإن الله لا يعينه،
…
قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالمًا ولا يكتب له ولا يصحبه وأنه إن فعل شيئًا من ذلك فقد صار معينًا للظالمين. [13/ 235]
(1023)
من قوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29].
قيل فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء لماله عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرًا فالمؤمنون عند شروطهم وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج. [13/ 250]
(1024)
من قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54].
ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمَن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» قال الشعبي لعطاء الخراساني: خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة. [13/ 264]
(1025)
من قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68].
قال محمود الوراق:
توكل على الرحمن في كل حاجة
…
أردتَ فإن الله يقضي ويقدِر
إذا ما يرد ذو العرش أمرًا بعبده
…
يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه حِذره
…
وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وقال آخر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر
…
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا
…
وفي اختيار سواه اللَّوم والشُّوم
قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يُقْدِمَ على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة. [13/ 271]
(1026)
من قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
اختلف فيه:
فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملًا صالحًا في دنياك إذ الآخرة إنما يعمل لها فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق
به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة قاله ابن عطية.
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. [13/ 279]
(1027)
من قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
أي أطع الله واعبده كما أنعم عليك
…
قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله. [13/ 279]
(1028)
من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83].
قال أبو معاوية: الذي لا يريد علوًا، هو من لم يجزع من ذلها ولم ينافس في عزها وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعًا وأعزهم غدًا ألزمهم لذل اليوم، وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال:«مر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كِسَرًا لهم فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فتلا هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ} ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم» خرجه الطبراني.
(1029)
من قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].
ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرًا لأعدائه وقيل هو بشارة له بالجنة والأول أكثر. [13/ 284]
(1030)
فإن قيل: فلم قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولم يقل: تسعمائة وخمسين عامًا؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن المقصود به تكثير العدد، فكان ذكره الألف أكثر في اللفظ وأكثر في العدد.
الثاني: ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده، فلما حضرته الوفاة رجع في استكمال الألف، فذكر الله تعالى ذلك تنبيهًا على أن النقيصة كانت من جهته. [13/ 296]
(1031)
من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27].
فلم يبعث الله نبيًا بعد إبراهيم إلا من صلبه، ووحد الكتاب لأنه أراد المصدر، كالنبوة والمراد: التوراة والإنجيل والفرقان، فهو عبارة عن الجمع، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والفرقان على محمد من ولده صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. [13/ 301]
(1032)
من قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27].
أمر سعيد بن جبير إنسانًا أن يسأل عكرمة عن هذه الآية، فقال عكرمة أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منا. فقال سعيد بن جبير: صدق، وقيل معناها: أن أكثر الأنبياء من ولده. [13/ 302]
(1033)
من قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7].
يعني أمر معايشهم ودنياهم، متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون
…
حتى لقد قال الحسن: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي
…
وقال المبرد: قسم كسرى أيامه، فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج.
قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم! يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} [الروم: 7] أي: عن العلم بها والعمل لها، {هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
قال بعضهم:
ومن البلية أن ترى لك صاحبًا
…
في صورة الرجل السميع المبصر
فطنٌ بكل مصيبة في ماله
…
وإذا يصاب بدينه لم يشعر
[14/ 11]
(1034)
من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
{أَهْوَنُ} : بمعنى هين، أي الإعادة هين عليه، لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء.
قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله
مردود بقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} [الأحزاب: 19]، وبقوله:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]. والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتًا دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة. [14/ 22]
(1035)
من قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} [الروم: 28] الآية.
قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال عز وجل:{ضَرَبَ لَكُمْ} الآية.
فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركائنا فيما رزقتنا. فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم، وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي!؟ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب.
إذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة.
والخلق كلهم عبيد الله تعالى، فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكًا لله تعالى في شيء من أفعاله، فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضًا بالمال والعمل.
والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز، وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك. [14/ 23 - 24]
(1036)
من قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية.
سميت الفطرة دينًا لأن الناس يخلقون له، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. [14/ 24]
(1037)
من قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)} [الروم: 36].
أي ييأسون من الرحمة والفرج، والآية صفة للكافر يقنط عند الشدة ويبطر عند النعمة كما قيل:
كحمار السوء إن أعلفته
…
رمح الناس وإن جاع نهق
وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة. [14/ 34] بتصرف
(1038)
من قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
قال ابن عباس: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. [14/ 39]
(1039)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12].
قال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليًا ولم يكن نبيًا، والصواب أنه كان رجلًا حكيمًا بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل، قاضيًا في بني إسرائيل أسود مشقق الرجلين، ذا مشافر أي عظيم الشفتين.
قاله ابن عباس وغيره. [14/ 56]
(1040)
قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب، وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها، وقال: نعم لبوس الحرب أنتِ، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيمًا. [14/ 58]
(1041)
من قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] الآية.
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه
مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العِشاء شفقةً فلا يطعها. [14/ 60]
(1042)
من قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما. [14/ 60]
(1043)
من قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها وقيل أمها من الرضاعة، فقالت يا رسول الله: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم.
وراغبة: قيل معناه عن الإسلام، قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها.
ووالدة أسماء هي قُتيلة بنت عبد العزى بن أسد، وأم عائشة وعبدالرحمن هي أم رُومان قديمة الإسلام. [14/ 61]
(1044)
من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
يقتضي حضًا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانًا، وقيل أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل وهذا قول حسن لأنه يعم. [14/ 64]
(1045)
من قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19].
أي أقبحها وأوحشها
…
والحمار: مَثَلٌ في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نُهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجردًا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة وقد عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة.
وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونًا بهم أو بترك الصياح جملة، وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتًا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} أي لو كان شيئًا يُهاب لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل سواء. [14/ 68]
(1046)
من قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
قال المحاسبي: الظاهرة: نعم الدنيا، الباطنة: نعم العقبى.
وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات
…
بتصرف [14/ 68]
(1047)
قال الحسن: مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء. [14/ 73]
(1048)
من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} [لقمان: 31].
أي صبار لقضائه شكور على نعمائه، وقال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن بهذه الصفة لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان، والآية: العلامة والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن، إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء.
قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} [لقمان: 31]، وقوله:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} [الذاريات: 20]. [14/ 73]
(1049)
من قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
{أَحْسَنَ} أي: أتقن وأحكم، فهو أحسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، ومن هذا المعنى قال ابن عباس وعكرمة:«ليست أست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة» . [14/ 83].
(1050)
من قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
فيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان:
أحدهما: لذكر الله تعالى إما في صلاة وإما في غير صلاة. قاله ابن عباس والضحاك.
الثاني: للصلاة.
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال:
1 -
التنفل بالليل. قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس وهو الذي فيه المدح.
2 -
صلاة العشاء.
3 -
التنفل بين المغرب والعشاء.
4 -
صلاة الرجل العشاء والصبح في جماعة.
قلت: وهذا قول حسن وهو يجمع الأقوال بالمعنى وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز. [14/ 91]
(1051)
من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي على ميت عليه دَيْن، فلما فتح الله عليه الفتوح قال:«أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته» فهذا تفسير الولاية المذكورة بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عطية: قال بعض العلماء العارفين: هو أولى بهم من أنفسهم، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش» قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها. وقيل: أولى
بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وقيل: أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم، أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه. [14/ 111]
(1052)
من قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].
أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم
…
ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. [14/ 130]
(1053)
من قوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19].
قال قتادة: معناه: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانًا ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: هذا قول حسن، لأن بعده: أشحة على الخير، وقيل المعنى: بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم، وقال القتبي: آذوكم بالكلام الشديد. [14/ 137]
(1054)
من قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
الأسوة: القدوة، والأسوة ما يتأسى به أي يتعزى به فيقتدى به في جميع
أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله، فلقد شج وجهه وكسرت رباعيته وقُتل عمه حمزة وجاع بطنه، ولم يلف إلا صابرًا محتسبًا وشاكرًا راضيًا
…
واختلف في هذه الأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم هل هي على الإيجاب أم الاستحباب على قولين، ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، والاستحباب في أمور الدنيا. [138/ 14]
(1055)
من قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30].
قال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي، وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. [14/ 156]
(1056)
من قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32].
أي لا تُلِنَّ القول، أمرهن الله أن يكون قولهن جزلًا، وكلامهن فصلًا ولا يكون على وجه يُظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا. [14/ 157]
(1057)
من قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب: 32].
قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في
القول من غير رفع صوت فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام، وعلى الجملة: فالقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس. [14/ 158]
(1058)
من قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
روي أن عمارًا قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان ما زلت قوالًا بالحق، فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. [14/ 159]
(1059)
من قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يَرِدْ دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة. فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفًا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه من فعل الجاهلية الأولى. [14/ 159]
(1060)
من قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
حقيقة التبرج: إظهار ما سِتْره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه بَرَج، إذا كانت متفرقة. [14/ 159]
(1061)
قال ابن العربي: لقد دخلت نيفًا على ألف قرية، فما رأيت نساءً أصون عيالًا ولا أعف نساءً من نساء نابلس التي رمي بها الخليل عليه السلام
بالنار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارًا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلأ المسجد منهن فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه. [14/ 160]
(1062)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33].
اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم؟
والذي يظهر من الآية {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33] أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال:{لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليًا وحسنًا وحسينًا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام والله أعلم. [14/ 162]
(1063)
من قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].
قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق، سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن
يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة، ولا كان عليه إذا عَلَّم أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم: نزل كذا ولا كان كذا، ولهذا قلنا يجوز العمل بخبر بُسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت، ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال كما قال أبو حنيفة على أنه قد نُقل عن سعد بن أبي وقاص وعمر. [14/ 163]
(1064)
من قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] الآية.
لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معانٍ:
1 -
اذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت تُتْلى فيها آيات الله والحكمة.
2 -
اذكرن آيات الله واقدرن قدرها وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حاله ينبغي أن تحسن أفعاله.
3 -
بمعنى: احفظن واقرأن وألزمنه الألسنة، فكأنه يقول: احفظن أوامر الله تعالى ونواهيه وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وما يرين من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعن من أقواله حتى يُبلغن ذلك إلى الناس فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين. [14/ 163]
(1065)
من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب: 36].
لفظ ما كان، وما ينبغي، ونحوهما معناها الحظر والمنع، فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون كما في هذه الآية، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلًا كقوله تعالى:{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] وربما كان العلم بامتناعه شرعًا كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79]، وكقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] الآية، وربما كان في المندوبات كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل ونحو هذا. [14/ 165]
(1066)
من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
توعد تعالى وأخبر أن من يعص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل، وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليون من أن صيغة: افعل للوجوب في أصل وضعها لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية ثم علق على المعصية بذلك الضلال فلزم حمل الأمر على الوجوب والله أعلم. [14/ 166]
(1067)
من قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37].
روي عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدًا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: اتق الله وأمسك عليك زوجك، وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لِما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له بأن قال:(أمسك) مع علمه بأنه يُطلق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالزهري والقاضي بكر ابن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. [14/ 168]
(1068)
فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هَوِيَ زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المُجَّان لفظ عَشِقَ، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي
صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته، وقال النحاس: قال بعض العلماء ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه. وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس. [14/ 169]
(1069)
من قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37].
وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وطراً زوجتكها).
ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق ولا شيء مما يكون شرطًا في حقوقنا ومشروعًا لنا، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول:«زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى» أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: «إن الله عز وجل أنكحني من السماء» . [14/ 170]
(1070)
قال الإمام السهيلي: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فقال: أنا زيد بن حارثة وحرم عليه أن يقول زيد بن محمد، فلما نُزع هذا الشرف وهذا الفخر وعلم الله وحشته من ذلك شَرَّفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه
سماه في القرآن فقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37] يعني من زينب.
وَمَنْ ذَكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنًا يتلى في المحاريب نوه به غاية التنويه فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له ألا ترى إلى قول أُبي بن كعب رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا فبكى وقال: أو ذُكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أُخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنًا يتلى مخلدًا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرأووا القرآن وأهل الجنة كذلك أبدًا لا يزال على ألسنة المؤمنين كما لم يزل مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين» . [14/ 171]
(1071)
قال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأَدِلُّ عليكَ بثلاث، ما من نساءك امرأة تَدِلُّ بهن، إن جَدي وجدَّك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل» . [14/ 172]
(1072)
في كلام بعضهم: ثلاثة تُضْني: رسول بطيء وسراج لا يضيء ومائدة ينتظر لها من يجيء. [14/ 178]
(1073)
لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد لأنه في معنى الوطء وهو من آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإيتان. [14/ 180]
تعقيب: في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] المراد بالنكاح الوطء، وهذا هو الموضع الوحيد الذي يراد بالنكاح فيه الوطء وهو عدم جواز رجوع البائن من الأول حتى تنكح آخر ويطأها ويطلقها.
(1074)
من قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} [الأحزاب: 50].
ذكر الله تبارك وتعالى العم فردًا، والعمات جمعًا، وكذلك قال:{خَالِكَ} {خَالَاتِكَ} والحكمة في ذلك أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة، وهذا عرف لغوي فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال وهذا دقيق فتأملوه. قاله ابن العربي. [14/ 184]
(1075)
من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50].
روي عن ابن عباس أنه قال: لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو مِلك يمين، فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال قوم: كانت عنده موهوبة. قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:«كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» وروى البخاري عن عائشة أنها قالت:
كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل هذا على أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم.
(1076)
من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50].
يدل على أن الكافرة لا تحل له، قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه، قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه، وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر، فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات، وإذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر. [14/ 186]
(1077)
من قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه وأتم لعصمته. [14/ 202]
(1078)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
قال ابن العربي: من هذه الروايات - أي في صفة الصلاة عليه
صلى الله عليه وسلم صحيح، ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه عن أبي مسعود الأنصاري:«أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» .
ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارًا معيبًا وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده؛ لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين. [14/ 208].
(1079)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58].
أطلق إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛
لأن إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بغير حق أبدًا وإما إيذاء المؤمنين والمؤمنات، فمنه .... ومنه .... [14/ 212]
(1080)
من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 60].
أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء والواو مقحمة كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام
…
وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام [14/ 219]
(1081)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)} [سبأ: 11].
في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» . [14/ 236]
(1082)
لما ملك داود عليه السلام بني إسرائيل لقي مَلَكًا وداود يظنه إنسانًا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له المَلَكَ: نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله، فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرًا وتوسعت معيشة منزله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. هذه القصة من الإسرائيليات. [14/ 236]
(1083)
قال الحسن: شغلت سليمان عليه السلام الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرًا منها وأسرع، أبدله الريح تجري بأمره حيث شاء غدوها شهر ورواحها شهر. [14/ 236]
(1084)
من قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
المحاريب: المحراب في اللغة كل موضع مرتفع، وقيل للذي يصلى فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظم. وقيل: المساجد، وقيل: ما يرقى
إليه بالدرج كالغرفة الحسنة، وتماثيل: جمع تمثال وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان، وهذا يدل على أن التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} : الجوابي جمع جابية، وهي حفيرة كالحوض، وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل.
{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} : ثوابت لا تحمل ولا تحرك لعظمها.
[14/ 240 - 244]
(1085)
قال ابن العربي: كانت قدور عبد الله بن جُدعان يُصعد إليها في الجاهلية بسلم، وعبر عنها طرفة بن العبد بقوله:
كالجوابي لا تَنِي مُترعةً
…
لِقرى الأضياف أو للمحتِضر
وقال أيضًا ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعًا، ويأكلون جميعًا من غير استئثار واحد منهم على أحد. [14/ 244]
(1086)
من قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].
بهذه الآية استدل من فّضَّلَ الغنى على الفقر، وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيًا تقيًا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية [14/ 268]
(1087)
من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46].
هذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق، لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا، أي لوجه الله والتقرب إليه، كما قال تعالى:{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127].
{مَثْنَى وَفُرَادَى} أي وحدانًا ومجتمعين، وقيل: منفردًا برأيه ومشاورًا لغيره، وقيل: مناظرًا مع غيره ومفكرًا في نفسه، وكله متقارب.
ويحتمل رابعًا: أن المَثْنَى عمل النهار، والفرادى عمل الليل؛ لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد.
وقيل: إنما قال: مثنى وفرادى؛ لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلاً أوفرهم حظًا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد، والله أعلم. [14/ 273]
(1088)
من قوله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].
قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا: أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي» .
وقال سعيد بن جبير أيضًا: الغرور بالله: أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. [14/ 282]
(1089)
أخبرنا عز وجل أن الشيطان لنا عدو مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف انتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب يا مغتر اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية، وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك: يا عجبًا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته. [14/ 283]
(1090)
اختلف في عود الضمير في قوله تعالى {يَدْخُلُونَهَا} ، والقول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله وهو: الضمير يعود على الثلاثة أصناف على ألا يكون الظالم ها هنا كافرًا ولا فاسقًا، وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة، والتقدير على
هذا القول أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر، والمقتصد، قال محمد بن زيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها. [14/ 301]
(1091)
من قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} [فاطر: 37].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة» رواه البخاري.
قال الخطابي: أعذر إليه: أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته، والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار. الأول بالنبي صلى الله عليه وسلم، والموتان في الأربعين والستين. ففي الأربعين تناهي العقل وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه، والله أعلم.
وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. [14/ 306 - 308]
(1092)
من قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].
اختلف فيه على أقوال: القرآن، الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيب، الحمى، موت الأهل والأقارب، كمال العقل، والنذير بمعنى الإنذار .. وأما كمال
العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه فهو نذير. [14/ 306 - 308]
(1093)
أ- رأيت الشيب من نذر المنايا
…
لصاحبه وحسبك من نذير
فقلت لها المشيب نذير عمري
…
ولست مسودًا وجه النذير
ب- وأراك تحملهم ولست تردهم
…
فكأنني بك قد حُملت فلم ترد
ج- الموت في كل حين ينشر الكفنا
…
ونحن في غفلة عما يراد بنا
[14/ 308]
(1094)
قال بعض الحكماء:
يا أيها الظالم في فعله
…
والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى
…
تحصي المصائب وتنسى النعم
[14/ 312]
(1095)
من قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45].
قال ابن مسعود: كاد الجُعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم. وقال يحيى بن أبي كثير: أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو - ثم قال - والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلاً في
وكرها بظلم الظالم. وقال الثمالي ويحيى بن سلام: يحبس الله المطر فيهلك كل شيء. [14/ 314]
(1096)
من قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)} [يس: 8]
أي رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من غلت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه.
روى عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس: وهذا أجل ما روي فيه، وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. [15/ 12]
(1097)
من قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)} [يس: 10].
عن ابن شهاب: أن عمر بن عبدالعزيز أحضر غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2 - 3]. قال: اقرأ يا غيلان، فقرأ حتى انتهى إلى قوله:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)} ؛ فقال: اقرأ، فقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:
29 -
30]، فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان اقرأ أول سورة (يس) فقرأ حتى بلغ: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقًا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبًا فسلط عليه من لا يرحمه، واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبًا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبدالعزيز. [15/ 14]
(1098)
من قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس: 26 - 27].
في معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته. الثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله، قال ابن عباس: نصح قومه حيًا وميتًا.
وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. فلما قُتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة
على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم. [15/ 22]
(1099)
من قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس: 39].
قال الزمخشري: القديم المُحْوِل، وإذا قَدُم دقَّ وانحنى واصفر، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل عدة الموصوف بالقديم الحَوْل، فلو أن رجلاً قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حَوْل أو أكثر. [15/ 32]
(1100)
من قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65].
قيل: في سبب الختم أربعة أوجه:
1 -
لأنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} .
2 -
ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم.
3 -
لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق؛ لخروجه مخرج الإعجاز وإن كان يومًا ما لا يحتاج إلى إعجاز.
4 -
ليعلم أن أعضائه التي كانت أعوانًا في حق نفسه صارت عليه شهودًا في حق ربه.
فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فجعل ما كان من اليد كلامًا، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل
حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل بالشهادة. [15/ 46]
(1101)
من قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79].
قال سعيد بن المسيب: وبلغني أنه من قال حين يمسي: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها أن رجلاً من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أي شيء؟» فقال: لدغتني عقرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك» . [15/ 81]
(1102)
من قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].
سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل
…
نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا
…
وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أُمَّتَه فلا تنكر له
…
شرفًا به قد خصه التفضيل
وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح؟ فقال: يا أصمعي أين عزب عقلك؟! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة. [15/ 90]
(1103)
من قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)} [ص: 17].
ذا القوة في العبادة، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وذلك أشد الصوم وأفضله، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويًا في الدعاء إلى الله تعالى. [15/ 139]
(1104)
من قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].
في هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ، وقال الحسن: تدبر آيات الله: اتباعها. [15/ 169]
(1105)
من قوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32].
يعني الخيل، والعرب تسميها كذلك، وتُعاقب بين الراء واللام، فتقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت وخترت أي خدعت، قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد. [15/ 170]
(1106)
من قوله تعالى عن سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} [ص: 35].
يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا مع ذمها من الله تعالى، وبغضه لها، وحقارتها لديه؟
فالجواب: أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى،
وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبًا لنفس الدنيا؛ لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطي سليمان المملكة. [15/ 180]
(1107)
ذكر أبو نعيم الحافظ بسنده عن وهب بن منبه قال: كان لسليمان بن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد، فركب الريح يومًا فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكًا عظيمًا، فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان، قال فنزل حتى أتى الحراث فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحةٌ واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود. فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي. [15/ 181]
(1108)
من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} [ص: 41].
قال ابن العربي القاضي أبو بكر رحمه الله: ولم يصح عن أيوب عليه السلام في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين، الأولى قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} والثانية في ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله:«بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب .... الحديث» عند البخاري وغيره.
وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالاً، ولا تزيد فؤادك إلا خبالاً. وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين، تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرءونه محضًا لم يُشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب، فقالوا:{يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا} ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي نزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة. [15/ 186]
(1109)
من قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].
قال نافع: قال لي ابن عمر: قم فصلِ، فقمت أصلي، وكان علي ثوب
خلق فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا؟ فقلت: كنت أتزين، قال: فالله أحق أن تتزين له. [15/ 210]
(1110)
من قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].
قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. [15/ 210]
(1111)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. [15/ 214]
(1112)
من قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم. [15/ 217]
(1113)
من قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرًا في كل أمر، واقفًا متأدبًا متثبتًا حذرًا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت. [15/ 217]
(1114)
من قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30].
قال الحسن والفراء والكسائي: الميّت بالتشديد: من لم يمت وسيموت، والميْت بالتخفيف من فارقته الروح؛ فلذلك لم تخفف هنا.
قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ونعيت إليكم أنفسكم، وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخًا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين؛ قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر، قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم. [15/ 222]
(1115)
من قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [الزمر: 42].
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. [15/ 228]
(1116)
من قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].
قال سعيد بن جبير: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)} [الزمر: 46]. [15/ 232]
(1117)
من قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69].
حديث أبي سعيد عند البخاري ومسلم: «تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامون في رؤيته» يروى على أربعة أوجه:
- «لا تُضامُون» : لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا من النظر إلى الملوك.
- «لا تضارون» : لا يلحقكم ضير.
- «لا تضامُّون» : لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه.
- «لا تضارُّون» : لا يخالف بعضكم بعضًا. [15/ 248]
(1118)
من قوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]
قال قتادة: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وختم بالحمد فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. [15/ 252]
(1119)
من قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 1 - 3].
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} ، ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيًا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرأها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشياطين عليه. [15/ 256]
(1120)
من قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7].
قال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بكى ثم قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله، نائمًا على فراشه والملائكة يستغفرون له. [15/ 259]
(1121)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13].
جمع بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق، لأن بالآيات قوام الأديان، وبالرزق قوام الأبدان. [15/ 262]
(1122)
من قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19].
قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي: يعلم الأعين الخائنة. وقال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسًا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها. وقال مجاهد: هو مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه. وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى. وقال الضحاك: هي قول الإنسان: ما رأيت، وقد رأى، أو رأيت، وما رأى. [15/ 266]
(1123)
من قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67].
في الصحاح: جمع الشيخ: شُيوخ، وأشياخ، وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء، والمرأة شيخة. قال عبيد ابن الأبرص:
كأنها شيخة رَقُوبُ
…
..................................
أي التي ترقب ولدها خوف أن يموت، وقد شاخ الرجل يشيخ شيخًا بالتحريك على أصله، وشيخوخة، وأصل الياء متحركة فسكنت؛ وشيخ تشييخًا أي: شاخ. وشيخته دعوته شيخًا للتبجيل. وتصغير الشيخ: شُييخ وشِييخ أيضًا، ولا تقل: شويخ. والشيخ من جاوز أربعين سنة. [15/ 288 - 289]
(1124)
من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6 - 7].
قال الزمخشري: فإن قلت لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونًا بالكفر في الآخرة؛ قلت: لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته، ألا ترى قوله عز وجل {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من
الدنيا، فقويت عصبتهم ولانت شكيمتهم، وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم الحروب وجوهدوا. [15/ 298]
(1125)
من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)} [فصلت: 8].
قال السدي: نزلت في الزمنى والمرضى والهرمى، إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه. [15/ 299]
(1126)
من قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} [فصلت: 22].
قال عبد الله بن عبد الأعلى فأحسن:
العمر ينقص والذنوب تزيد
…
وتُقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد
…
رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي
…
تقليلها وعن الممات يحيد
وقال محمد بن بشير فأحسن:
مضى أمسك الأدنى شهيدًا معدلاً
…
ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة
…
فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد
…
لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
[15/ 307 - 308]
(1127)
من قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].
قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضًا: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. وقال مجاهد:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني السلام إذا لقي من يعاديه. [15/ 315]
(1128)
من قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
روي أن رجلاً شتم قنبرًا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي: يا قنبر! دع شاتمك، واله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا:
وللكف عن شتم اللئيم تكرمًا
…
أضر له من شتمه حين يشتم
وقال آخر:
وما من شيء أحب إلى سفيه
…
إذا سَبَّ الكريم من الجواب
متاركة السفيه بلا جواب
…
أشد على السفيه من السباب
وقال محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب مذنب
…
وإن كثرت منه لدي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة
…
شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فإن قال صُنت عن
…
إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا
…
تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
[15/ 31]
(1129)
من قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44].
العجمي الذي ليس من العرب سواء كان فصيحًا أو غير فصيح، والأعجمي الذي لا يفصح، كان من العرب أو من العجم، يقال للحيوان غير الناطق أعجم، ومنه:«صلاة النهار عجماء» أي لا يجهر فيها بالقراءة. [15/ 321]
(1130)
من قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
روى العدول الثقات والأئمة الأثبات عن الزاهد العدل، عن أمين الأرض، عن أمين السماء، عن الرب جل جلاله: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا
…
» الحديث. والمراد بالزاهد: العدل، أبو ذر رضي الله عنه، والحديث في مسلم. [15/ 322]
(1131)
من قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 54].
{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول، فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد، ويتميز ذلك من مكانين، وبديع صنعة الله وحكمته في عينية اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بينهما بين الأصوات المختلفة. [15/ 235]
(1132)
من قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54].
{مُحِيطٌ} : هذا الاسم أكثر ما يجيء في معرض الوعيد، وحقيقته الإحاطة بكل شيء واستئصال المحاط به. [15/ 236]
(1133)
من قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19].
قال ابن عباس: حفي بهم، وقال عكرمة: بار بهم، وقال السدي: رفيق بهم، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم، وقال القرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: يلطف بهم في الرزق من وجهين:
1 -
أنه جعل رزقك من الطيبات.
2 -
أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذره، قال أبو علي الثقفي:
أمر بأفناء القبور كأنني
…
أخو فطنة والثوب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدر رزقه
…
وربي بمن يلجأ إليه لطيف
[16/ 16]
(1134)
من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} [الشورى: 28].
قال قتادة: ذُكر أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، يا أمير المؤمنين: قحط المطر وقل الغيث وقنط الناس؟ فقال: مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} .
والغيث: ما كان نافعًا في وقته، والمطر: قد يكون نافعًا وضارًا، في وقته وغير وقته. [16/ 28]
(1135)
من قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
قال مرة الهمذاني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري قيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . [16/ 29]
(1136)
من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
قال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هُدوا. وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون. [16/ 34]
(1137)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39].
ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في
موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعًا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعًا إلى حالتين إحداهما: أن يكون الباغي معلنًا بالفجور، وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق.
الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
(1138)
من قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
يحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيسمح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. [16/ 40]
(1139)
من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].
كان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب، كما أن الغيث ربيع الأرض. [16/ 50]
(1140)
من قوله تعالى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53].
قال سهل بن الجعد: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} ، وغرق مصحف فأمحى كله إلا قوله:{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} . [16/ 54]
(1141)
من قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 13 - 14].
علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك. وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا. فلما كان الركوب مباشرة أمرٍ محظورٍ واتصالاً بأسباب من أسباب التلف، أَمَرَ ألا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدًا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه. [16/ 60]
(1142)
من قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32].
أي: أفقرنا قومًا وأغنينا قومًا، فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم، قال قتادة: تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. [16/ 73]
(1143)
من قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 35].
قال بعضهم:
فلو كانت الدنيا جزاءًا لمحسن
…
إذًا لم يكن فيها معاشٌ لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة
…
وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر:
تمتع من الدنيا إن كنت حازمًا
…
فإنك فيها بين ناهٍ وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه
…
فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة
…
ولا وزن رَقٍّ من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابًا لمحسن
…
ولا رضي الدنيا عقابًا لكافر
[16/ 77]
(1144)
من قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39].
أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه، كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أعزِي النفس عنه بالتأسي
فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئًا لشغلهم بالعذاب.
وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر. [16/ 80]
(1145)
من قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)} [الدخان: 23].
أُمر موسى عليه السلام بالخروج ليلاً في قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} . وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترًا مسدلاً، فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بِحَرٍ أو جدب، فيتخذ السُّرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسري ويدلج ويترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. [16/ 119]
(1146)
من قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)} [الدخان: 43].
كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر الشجرة فالوقف عليها بالهاء، إلا حرفًا واحدًا في سورة الدخان {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} . قاله ابن الأنباري. [16/ 125]
(1147)
من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
سئل ابن المقفع عن الهوى؟ فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شاعر فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانًا
ولعبدالله بن المبارك:
ومن البلايا للبلاء علامة
…
ألا يُرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها
…
والحر يشبع تارة ويجوع
ولابن دريد:
إذا طالبتك النفس يومًا بشهوة
…
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما
…
هواك عدو والخلاف صديق
قال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك.
ولأبي عبيد الطوسي:
والنفس إن أعطيتها مُناها
…
فاغرة نحو هواها فاها
وقال أحمد بن أبي الحواري: مررت براهب فوجدته نحيفًا فقلت له: أنت عليل. قال نعم. قلت مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى. قال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته. [16/ 146]
(1148)
من قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4].
قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يُبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنًا، فإذا سمع مكروهًا فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضي على أمره مسرورًا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله. [16/ 156]
(1149)
من قوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].
قيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئًا عاداه؟ فقال نعم، قال الله تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} ومثله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} . [16/ 162]
(1150)
من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف: 15].
قال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعًا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. فوالده هو: أبو قحافة عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، وأمه: أم الخير، واسمها: سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه أبي قحافة: قَيْلة. [16/ 167]
(1151)
من قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15].
أي اجعل ذريتي صالحين. وقال سهل بن عبد الله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارًا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً. وقال مالك بن مغول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)} . [16/ 168]
(1152)
من قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
قال جابر: اشتهى أهلي لحمًا فاشتريته، فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئًا
جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الآية. قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء. فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا
(1)
، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يُعتمد أصلاً، ولا يجعله ديدنًا.
ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم [16/ 173]
(1)
الطعام بلا أدم.
(1153)
من قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا عَسُرَ على المرأة ولدها، تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} . [16/ 190]
(1154)
من قوله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
الأقفال هاهنا إشارة إلى ارتتاج القلب وخلوه عن الإيمان. أي: لا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال:{عَلَى قُلُوبٍ} لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها. [16/ 210]
(1155)
من قوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36].
أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض. وقيل: لا يسألكم أموالكم لنفسه أو لحاجة منه إليها إنما يسألكم أمواله لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أموالكم أجرًا على تبليغ الرسالة. [16/ 218]
(1156)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة، إلا التي في البقرة. [16/ 225].
(1157)
من قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16].
قال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم؟ حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. [16/ 231]
(1158)
من قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29].
قال ابن عباس ومجاهد: السيما في الدنيا هو السمت الحسن. وعن مجاهد: الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهدًا عن قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبًا من الحجارة، ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. [16/ 249]
(1159)
من قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية [الفتح: 29].
روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا
رجلًا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. [16/ 252]
(1160)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفًا مذمومًا لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطًا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفًا محمودًا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة. بل تُحتقر وتُذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق. [16/ 278]
(1161)
وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرًا وأنقى قلبًا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله،
والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزًا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا. [16/ 277]
(1162)
من قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11].
قال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابًا فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب.
قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلاً ورعًا
…
أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله
…
عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا ستروا
…
فيهتك الله سترًا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا
…
ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا
[16/ 279]
(1163)
من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37].
قال يحيى بن معاذ: القلب قلبان، قلب محتش بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. [17/ 24]
(1164)
من قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدًا لا نبلغ أعمالهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا. [16/ 17]
(1165)
من قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. وقال سعيد بن جبير: كل عين قائمة فإنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! [17/ 21]
(1166)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].
اختلف العلماء في معناه، فقيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أربع روايات:
1 -
إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه.
2 -
إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان.
3 -
المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية: التابعون.
4 -
إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء. [17/ 60]
(1167)
من قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16].
قال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل: لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟
قيل: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية؛ فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية؛ فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. [17/ 87]
(1168)
من قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)} [القمر: 7].
وقال في آية أخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 4] فهما صفتان في وقتين مختلفين، أحدهما: عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها، الثاني: فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد له جهة يقصدها. [17/ 115]
(1169)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17].
أي: سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، مأخوذ من يَسَّر ناقته: إذا رَحَلها ويَسَّر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه.
وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن؛ وقال غيره: لم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرءون التوراة إلا نظرًا، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم. [17/ 118]
(1170)
من قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن].
التكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ خلقٍ.
وقال القُتَبِي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة -أي سورة الرحمن- نعماءه وذكّر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك؛ أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملاً فعززتك؛ أفتنكر هذا؟! ألم تكن صرورة -أي لم تحج قط- فحججت بك؛ أفتنكر هذا؟! ألم تكن راجلاً فحملتك؛ أفتنكر هذا؟!
والتكرير حسن في مثل هذا. قال:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكمِ
وقال آخر:
لا تقتلي مسلمًا إن كنت مسلمة
…
إياك من دمه إياكِ إياكِ
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ما طرفت
…
عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره
…
وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردًا للغفلة، وتأكيدًا للحجة. [17/ 139]
(1171)
من قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
عن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي؛ قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة. وقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شئون يبديها
لا شئون يبتديها. وأما قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلاً، ولي أن أجزيه بواحدة ألفًا فضلاً. فقام عبد الله. وقبل رأسه وسوغ خراجه. [17/ 146]
(1172)
من قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].
{هَلْ} في الكلام على أربعة أوجه:
1 -
تكون بمعنى (قد) كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1].
- وبمعنى الاستفهام، كقوله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44].
3 -
وبمعنى الأمر، كقوله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
4 -
وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 34]، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] [17/ 158]
(1173)
من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [الواقعة: 10].
قال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب
الشمال. [17/ 172]
(1174)
من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} [الواقعة: 63].
والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. [17/ 187]
(1175)
من قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
وفي مس الصبيان إياه - المصحف - على وجهين، أحدهما: المنع اعتبارًا بالبالغ. والثاني: الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأن تعلمه حال الصغر؛ ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثًا. [17/ 195]
(1176)
من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
ذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب
القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. [17/ 215]
(1177)
من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد: 24].
فَرَّق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين، أحدهما: أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. [17/ 221]
(1178)
من قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
…
} [المجادلة: 1]، التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة، وزوجها: أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلًا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعي عميرًا ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟! فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا
يسمعه عمر! وقالت عائشة رضي الله عنه: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليَّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} ». خرجه ابن ماجه في «السنن» . [17/ 229]
(1179)
من قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال: نعم، الشبع عندنا مُدٌّ بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظًا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا.
قال ابن العربي: وقع الكلام هاهنا في مُدِّ هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها، واستقر الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع.
وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرًا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدًا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة، وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة، وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره الأحكام، ويجعلوه تفسيرًا لما ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان مُفَسَرًا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مُدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة.
وبهذا أقول؛ فإن العبادة إذا أُديت بالسنة فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد
الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم [17/ 243](بتصرف)
(1180)
من قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8].
وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك.
وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل: عليك. وقد اختار ابن طاووس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي: ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: (السِّلام) بكسر السين، يعني الحجارة. وما قاله مالك أولى اتباعًا للسنة، والله أعلم. [17/ 248]
(1181)
من قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 1]، قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولًا ثم بعلمه ثانيًا. وفي «الصحيح» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه وسألهم عن تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]، فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم
…
وفي «صحيح مسلم» أن نافع بن عبدالحارث لقي عمر بعُسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوادي؟ فقال ابن أبزى فقال: ومن ابن أبزى؟
قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين». [17/ 254]
(1182)
من قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
…
} [المجادلة: 22].
استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم قال أشهب، عن مالك: لا تجالس القدرية وعادِهم في الله؛ لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. [17/ 261]
(1183)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2].
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من أمرهم ما نص الله عليه. [18/ 6]
(1184)
من قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} [الحشر: 2].
قراءة العامة {يُخْرِبُونَ} بالتخفيف من أخرب أي يهدمون، وقرأ السُّلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو:{يُخرِّبُونَ} بالتشديد من التخريب، قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب
ترك الشيء خرابًا بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوها خرابًا، وإنما خربوها بالهدم يؤيده قوله تعالى:{بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال آخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد والتشديد بمعنى: التكثير
…
وقال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخرّبون من خارج ليدخلوا واليهود يخرّبون من داخل ليبنُوا به ما خرب من حصنهم». [18/ 6]
(1185)
من قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2].
أي: اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب، وقيل: يا من عاين ذلك ببصره فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها، ومن وجوهه أنه سلط عليهم من كان ينصرهم، ومن وجوهه أيضًا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه وفي الأمثال الصحيحة السعيد من وُعظ بغيره. [18/ 8]
(1186)
من قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
…
} [الحشر: 3].
أي: لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم، وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي: بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة.
والجلاء مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج، وإن كان معناهما في الإبعاد واحدًا من
وجهين: أحدهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة. قاله الماوردي. [18/ 9]
(1187)
من قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5].
ما: في محل نصب ب {قَطَعْتُمْ} كأنه قال: أي شيء قطعتم؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البُويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد أمر بقطع نخيلهم وإحراقها
…
وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم
…
على عهد موسى ولم نَصْدِفِ
وأنتم رِعاءٌ لشاءٍ عجاف
…
بِسهل تِهامَة والأخيف
ترون الرعاية مجدًا لكم
…
لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا
…
عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور
…
يُدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها
…
وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
تفاقد معشر نصروا قريشًا
…
وليس لهم ببلدتهم نصير
هُموا أوتوا الكتاب فضيعوه
…
وهم عُميٌ عن التوراة بُورُ
كفرتم بالقرآن وقد أبيتم
…
بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي
…
حريق بالبويرة مستطير
وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها وحينئذ نزل تحريم الخمر، ودس عبدالله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير إنا معكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم فاغترّوا بذلك؛ فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح فاحتملوا ذلك إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. [18/ 9 - 10]
(1188)
من قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، قال عبدالرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرمًا وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [18/ 18].
(1189)
قال عبدالله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ قال: فقلت: ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزنبور؟ قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}. وحدثنا .. عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» . حدثنا
…
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدي فيه بعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة. [18/ 18 - 19]
(1190)
من قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
خرج مسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني مجهود» ، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك. لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال:«من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟» ، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، فقال: فَعَلِّليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة» . [18/ 24]
(1191)
الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدينوية ورغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، وفي «موطأ مالك» أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت. فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدى لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قُرصك
…
ومعنى شاة وكفنها؛ فإن العرب أو بعض العرب أو بعض وجوههم كان هذا من طعامهم يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر، وكفنوه به، ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم. [18/ 26]
(1192)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10].
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم. فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل. [18/ 30].
(1193)
من قوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
قال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت
اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أُمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. [18/ 32]
(1194)
من قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
…
} [الحشر: 21].
حثَّ على تأمل مواعظ القرآن، وبيَّن أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة أي: متشققة من خشية الله
…
وقيل {خَاشِعًا} لله بما كلفه من طاعته {مُتَصَدِّعًا} من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه، وقيل: هو على وجه المثل للكفار. [18/ 41]
(1195)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
…
} [الممتحنة: 1].
روى الأئمة واللفظ لمسلم عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «ائتوا روضة خاخ فإنها بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» ، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا:
أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب؛ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا حاطب ما هذا؟» ، قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، قال سفيان: كان حليفًا لهم ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق» ، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:«إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فأنزل الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} .
قيل: اسم المرأة «سارَّة» من موالي قريش، وكان في الكتاب:«أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره» . ذكره بعض المفسرين. [18/ 46]
(1196)
من قوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4].
في هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء؛ لأنا
حين أُمرنا بالاقتداء به أُمرنا أمرًا مطلقًا في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وحين أُمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله. [18/ 52]
(1197)
من قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5].
أي: لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك، وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا. [18/ 52]
(1198)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12].
ذكر الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة -بيعة النساء- خصالاً شتى؛ صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر أركان الأمر. وهي ستة أيضًا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة؛ وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا، ونحوٌ منه.
وقوله عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس: «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها. [18/ 66]
(1199)
من قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
…
} [الممتحنة: 12].
في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء، واختلف في معناه .. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وينهى عنه، فيدخل فيه النوح، وتخريق الثياب، وجز الشعر، والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. [18/ 67]
(1200)
من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
أحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل، فمعنى أحمد، أي: أحمدُ الحامدين لربه، والأنبياء صلوات الله عليه وسلامه كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدًا، وأما محمد فمنقول من صفة أيضًا، وهي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار؛ فالمحمد هو الذي حُمد مرة بعد مرة، كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سماه قبل أن يُسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته؛ إذ كان اسمه صادقًا عليه فهو محمود في الدنيا، لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضي اللفظ ثم إنه لم يكن محمدًا حتى كان أحمد، حمد ربه، فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى عليه السلام فقال:{اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وفي «الصحيح»:
(1201)
من قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
…
} [الصف: 8].
الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه وهو: أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل؛ فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج.
وفي {نُورَ اللَّهِ} هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرآن يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: أنه الإسلام يريدون دفعه بالكلام. قاله السدي. الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف. قاله الضحاك. الرابع: حجج الله ودلائله يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلًا ممتنعًا فكذلك من أراد إبطال الحق. حكاه ابن عيسى. [18/ 76]
(1202)
من قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8].
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} ، أي: بإظهاره في الآفاق، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} بالإضافة على نية الانفصال؛ كقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وشبهه.
والباقون {مُتِمٌّ نُورَه} لأنه فيما يستقبل فَعَمِل.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} من سائر الأصناف. [18/ 77]
(1203)
من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
قال الماوردي: فإن قيل: ما وجه الامتنان بأن بَعَثَ نبيًّا أمِّيًّا؛ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه؛ أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. قلت: وهذا كله دليل معجزته وصدقه نبوته». [18/ 82]
(1204)
من قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
…
} [الجمعة: 4].
قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقيل: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله الكلبي، وقيل: يعني الوحي والنبوة. قاله مقاتل. وقول رابع: إنه المال ينفق في الطاعة، وهو معنى قول أبي صالح، وقد روى مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا، والنعيم المقيم، فقال:«وما ذاك؟» ، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلا أعلمكم شيئًا تدركون من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل صنعتم؟» ، قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال:
«تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة» ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» .
وقول خامس: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته، والله أعلم. [18/ 83 - 84]
(1205)
من قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
ضرب مثلًا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أي: كلفوا العمل بها،
…
{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل فهكذا اليهود. وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء.
وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن:
انعق بما شئت تجد أنصارا
…
وزُمَّ أسفارًا تجد حمارا
يحمل ما وضعت من أسفارِي
…
يحمله كمثل الحمار
يحمل أسفارا له وما درى
…
إن كان ما فيها صوابًا وخطا
إن سئلوا قالوا كذا روينا
…
ما إن كذبنا ولا اعتدينا
كبيرهم يصغر عند الحفل
…
لأنه قلد أهل الجهل
{ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي لم يعملوا بها، شبههم -والتوارة في أيديهم وهم لا يعملون بها- بالحمار يحمل كتبًا وليس له إلا ثِقل الحِمل من غير فائدة. [18/ 84]
(1206)
من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ
…
} [الجمعة: 8].
قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلم
قلت: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ثم يبتدئ {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} .
وقال طرفة:
وكفى بالموت فاعلم واعظًا
…
لمن الموت عليه قد قُدر
فاذكر الموت وحاذر ذكره
…
إن في الموت لذي اللب عبر
كل شيء سوف يلقى حتفه
…
في مقام أو على ظهر سفر
والمنايا حوله ترصده
…
ليس ينجيه من الموت الحذر
[18/ 85]
(1207)
من قوله تعالى: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].
قرأ عبدالله بن الزبير والأعمش وغيرها {الْجُمْعَةِ} بإسكان الميم على التخفيف وهما لغتان.
وقال ابن عباس: «نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤوها «جُمُعة» ، يعني بضم الميم.
وقال الفراء وأبو عبيد: «والتخفيف أقيس وأحسن نحو: غُرفة وغرف وطُرفة وطُرف وحُجرة وحُجر» . [18/ 86]
(1208)
من قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على من كان مخاطبًا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما؛ كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81].
وخص البيع؛ لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة، فلا ينهى عن البيع والشراء. [18/ 95]
(1209)
من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا
…
} [الجمعة: 11].
في «صحيح مسلم» عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا -في رواية أنا فيهم- فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} . [18/ 97]
(1210)
من قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11].
شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب، قال علقمة: سئل عبدالله أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقال: أما تقرأ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .
وخرج مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم؛ فيخطب فمن نبأك أنه يخطب جالسًا فقد كذب؛ فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة» وعلى هذا جمهور العلماء. [18/ 101]
(1211)
من قوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
…
} [الجمعة: 11].
فيه وجهان: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} أي: خير من رَزق وأعطى؛ فمنه فاطلبوا واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. [18/ 108]
(1212)
من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ
…
} [المنافقون: 4].
أي: هيئاتهم ومناظرهم، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني: عبدالله بن أبي، قال ابن عباس: «كان عبدالله بن أبي وسيمًا جسيمًا صحيحًا صبيحًا ذَلِق اللسان؛ فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة
…
».
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} ، قال: كانوا رجالًا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، وقيل: شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها
…
{مُسَنَّدَةٌ} للتكثير، أي: استندوا إلى الإيمان بحقن دمائهم. [18/ 112]
(1213)
من قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4].
في قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} ، وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} ، أي: لعنهم الله. قاله ابن عباس وأبو مالك وهي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب، وقيل: معنى {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي: أحلهم محل من قاتله عدو قاهر؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عابس. [18/ 113]
(1214)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)} [المنافقون: 5].
وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له «المريسيع» من ناحية «قُديد» إلى الساحل فازدحم أجير لعمر يقال له: «جهجاه» مع حليف لعبدالله بن أبي يقال له: «سنان» على ماء بالمشلِّلْ، فصرخ «جهجاه» بالمهاجرين، وصرخ «سنان» بالأنصار، فلطم «جهجاه» «سنانًا» ، فقال عبدالله بن أبي: أَوقد فعلوها! والله ما مَثلنا ومَثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز -يعني أُبيًّا- الأذل -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل ولا تنفقوا على مَنْ عنده حتى ينفضوا ويتركوه.
فقال زيد بن أرقم -وهو من رهط عبدالله- أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدًا، فقال عبدالله: اسكت إنما كنت ألعب، فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي، ولا مني الناس؛ فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبدالله، فقيل لعبدالله قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك فألوى برأسه؛ فنزلت الآيات». خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. [18/ 114]
(1215)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} ، أي: يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله {يَهْدِ قَلْبَهُ} للصبر والرضا، وقيل: يثبته على الإيمان.
وقال أبو عثمان
…
: «من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة» .
وقيل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. قاله ابن جبير.
وقال ابن عباس: «هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» .
وقال الكلبي: «هو إذا ابتلي صبر، وإذا أُنعم عليه شكر، وإذا ظُلم غفر» .
وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة.
وقراءة العامة {يَهْدِ قَلْبَهُ} بفتح الياء وكسر الدال لذكر اسم الله أولًا. وقرأ السلمي وقتادة {يُهْدَ قَلْبُهُ} بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول.
ورفع الباء؛ لأنه اسم فعل لم يُسم فاعله، وقرأ طلحة به مصرف والأعرج:{نَهْدِ} بنونٍ على التعظيم {قَلْبَهُ} بالنصب.
وقرأ عكرمة: {يَهْدَأُ قَلْبُه} بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي: يسكن ويطمئن. [18/ 124 - 125]
(1216)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14].
أدخل {مِنْ} للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر {مِنْ} في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. [18/ 128]
(1217)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن» . [18/ 127]
(1218)
من قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} [الطلاق: 1].
الأمر الذي يحدثه أن يقلب قلبه من بُغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه؛ فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة.
ومعنى القول: التحريض على طلاق الواحدة، والنهي عن الثلاث؛ فإنه إذا طلق ثلاثًا أضر بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلًا.
وقال مقاتل: «{بَعْدَ ذَلِكَ}، أي: بعد طلقة أو طلقتين، {أَمْرًا (1)}، أي: المراجعة من غير خلاف» . [18/ 140]
(1219)
من قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
…
} [الطلاق: 2].
أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق، فإن راجع من غير إشهاد؛ ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.
وقيل: المعنى: وأشهدوا عند الرجعة والفُرقة جميعًا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وعند الشافعي: واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يُتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما، فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث. [18/ 141]
(1220)
من قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
قال الربيع بن خثيم: «إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له» .
وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17]. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. [18/ 145]
(1221)
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4].
طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة. [18/ 147]
(1222)
من قوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6].
هو خطاب للأزواج والزوجات، أي: وليقبل بعضكم من بعض، ما أمره به من المعروف الجميل.
والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه: لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده. [18/ 151]
(1223)
من قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
…
} [الطلاق: 7].
أي: لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وُسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعًا عليه، ومن كان فقيرًا فعلى قدر ذلك
فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفِق والحاجة من المنفَق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفَق عليه ثم ينظر إلى حالة المنفِق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفَق عليه ردها إلى قدر احتماله. [18/ 151]
(1224)
من قوله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3].
عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرمًا. قاله السدي، وقال الحسن:«ما استقصى كريم قط. قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}» . وقال مقاتل: «يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة وهو حديث أم ولده، ولم يخبرها ببعض، وهوقول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده» . [18/ 165]
(1225)
من قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4].
في «صحيح مسلم» : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجًا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة
وعائشة. قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك. [18/ 167]
(1226)
من قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
…
} [التحريم: 5].
كل «عسى» في القرآن واجب إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق، ولم يطلقهن.
في «صحيح مسلم» عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه -وذلك قبل أن يؤمرون بالحجاب-، فقال عمر: فقلت: لأعلمن ذلك اليوم، قال: فدخلتُ على عائشة، فقلت: يابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا بن الخطاب! عليك بعيبتك -أي عليك بوعظ ابنتك- قال: فدخلتُ على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لقد علمتِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت أشد البكاء. فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المَشرُبة، فدخلتُ فإذا
أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسكفّة المَشرُبة مُدَلٍّ رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينحدر، فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي، فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إليّ أن ارقه، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضةِ من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة، وإذا أُفيقٌ معلق -الجلد الذي لم يتم دباغه- قال: فابتدرت عيناني، قال:«ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» ، قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك! فقال:«يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟» ، قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت، وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل
وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك -وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يُصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية: آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، وقوله تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4]، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال: «لا» ، قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه؛ أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: «نعم إن شئت» ، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كَشَر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرًا ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ونزلتُ فنزلتُ أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده، فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعًا وعشرين. قال:«إن الشهر يكون تسعًا وعشرين» ، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله آية التخيير. [18/ 167 - 169]
(1227)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
…
} [التحريم: 6].
قال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: «قُوا أنفسكم بأفعالكم وقُووا أهليكم بوصيتكم» . [18/ 171]
(1228)
من قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10].
ضرب الله هذا المثل تنبيهًا على أنه لا يُغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين.
قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} . قال عكرمة والضحاك: بالكفر.
وعن ابن عباس: «كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه» .
وعنه: «ما بغت امرأة نبي قط» .
وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين، وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: خيانتاهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئًا أفشتاه إلى المشركين. قاله الضحاك.
وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتُعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ، أي: لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما -لما عصتا- شيئًا من عذاب الله تنبيهًا بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. [18/ 177]
(1229)
من قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11].
واسمهما آسية بنت مزاحم، قال يحيى بن سلام:«قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: مثل ضرب الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلًا بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيبًا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين، وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة أي: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حيث صبرت على أذى فرعون وكانت آسية آمنت بموسى» . [18/ 178]
(1230)
من قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2].
قيل: المعنى: خلقكم للموت والحياة يعني: للموت في الدنيا والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة؛ لأن الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين، فقال:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49].
وقيل: قدمه لأنه أقدم؛ لأن الأشياء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب، ونحوه. [18/ 181]
(1231)
من قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [الملك: 3].
أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته فقال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} ، أي: اردد طرفك إلى السماء. ويقال: قلّب البصر في السماء. ويقال: اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب، وإنما قال:{فَارْجِعِ} بالفاء وليس قبله فعل مذكور؛ لأنه قال: {مَا تَرَى} ، والمعنى: انظر ثم ارجع البصر هل ترى من فطور. قاله قتادة.
والفطور الشقوق. عن مجاهد والضحاك.
وقال قتادة: «من خلل» . وقال السدي: «من خروق» . وعن ابن عباس: «من وهن» . وأصله من التفطر، والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر:
بنى لكم بلا عمد سماءً
…
وزينها فما فيها فطورُ
[18/ 184]
(1232)
من قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4].
{كَرَّتَيْنِ} في موضع المصدر؛ لأن معناه: رجعتين، أي: مرة بعد أخرى، وإنما أمر بالنظر مرتين؛ لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبًا، بل يتحير بالنظر إليها فذلك قوله تعالى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} ، أي: خاشعًا صاغرًا متباعدًا عن أن يرى شيئًا من ذلك. [18/ 184]
(1233)
من قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5].
جمع مصباح، وهو السراج، وتسمى الكواكب مصابيح؛ لإضائتها.
{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} ، أي: جعلنا شُهُبَهَا، فحذف المضاف دليله:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 10].
قال قتادة: «خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر والأوقات؛ فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم» . [18/ 185]
(1234)
من قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
قال ابن المسيب: «بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير، وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى أن الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة -أي الشجر الكثير الملتف- بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير» . [18/ 188]
(1235)
من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19].
أي: كما ذلل الأرض للآدمي، ذلل الهواء للطيور، و {صَافَّاتٍ} أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوائهما صفًّا {وَيَقْبِضْنَ} أي: يضربن بها جنوبهن.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ، أي: ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} . [18/ 190]
(1236)
من قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30].
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} : يا معشر قريش {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} ، أي: غائرًا ذاهبًا في الأرض لا تناله الدلاء، وكان ماؤهم من بئرين؛ بئر زمزم، وبئر ميمون، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} أي: جارٍ. قاله قتادة والضحاك. فلابد لهم من أن يقولوا: لا يأتينا به إلا الله، فقل لهم: لم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم. [18/ 194]
(1237)
من قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1].
أقسم بالقلم لما فيه من البيان؛ كاللسان وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء، ومن في الأرض.
ومنه قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يومًا بسيفهم
…
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
والكرم
كفى قلم الكتاب عزَا ورفعة
…
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وقال ابن عباس: «هذا قسم بالقلم الذي خلق الله فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وقال قتادة: «القلم نعمة من الله تعالى على عباده» .
وقال غيره: «فخلق الله القلم الأول، فكتب ما يكون في الذكر، ووضعه
عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض».
{وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} ، أي: وما يكتبون، يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم. قاله ابن عباس.
وقيل: وما يكتبون، أي: الناس ويتفاهمون به.
[18/ 198]
(1238)
من قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
قال ابن عباس ومجاهد: «على خلق، على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن خلقه كان القرآن» وقال علي رضي الله عنه وعَطِيّة: هو أدب القرآن وقيل هو رِفْقُهُ بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه
…
قلت: ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال
…
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى، وقيل سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. [18/ 198]
(1239)
من قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم: 43].
أي: في الدنيا، وهم معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي: «أي يُدعون بالأذان والإقامة فيأبونه» .
وقال سعيد بن جبير: «كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون» .
وقال كعب الأحبار: «والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات» .
كان الربيع بن خثيم قد فُلج وكان يهادى بين الرجلين إلى المسجد؛ فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوًا. [18/ 219]
(1240)
من قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)} [القلم: 44].
معناه: سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر.
وقال سفيان الثوري: «نسبغ عليهم النعم، وننسيهم الشكر» .
وقال الحسن: «كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه» .
وقال أبو رَوق: «أي: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار» .
وقال ابن عباس: «سنمكر بهم» . وقيل: هو أن نأخذهم قليلًا ولا نباغتهم. [18/ 220]
(1241)
من قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51].
كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر
بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت فتنحر.
وقال الكلبي: «كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئًا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنمًا أحسن من هذه. فما تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة» ؛ فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين؛ فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدًا
…
وإخال أنك سيد معيون
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزلت: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
…
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. [18/ 222]
(1242)
من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} [الحاقة: 3].
استفهام .. أي: أيّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالقيامة، ولكن بالصفة، فقيل تفخيمًا لشأنها: وما أدراك ما هي، كأنك
لست تعلمها إذ لم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: «بلغني أن كل شيء في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه إياه وعلمه، وكل شيء قال: {وَمَا يُدْرِيكَ} فهو مما لم يعلمه» .
وقال سفيان بن عيينة: «كل شيء قال فيه: {وَمَا أَدْرَاكَ} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: {وَمَا يُدْرِيكَ} فإنه لم يخبره به» . [18/ 224]
(1243)
من قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)} [الحاقة: 9] أي أهل قرى قوم لوط.
قال قتادة: «إنما سميت قرى قوم لوط (مؤتفكات) لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت» . وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: «خمس قريات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم وهي القرية العظمى» . [18/ 228].
(1244)
من قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة: 11].
والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول ثم مَنَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق، بقوله:{حَمَلْنَاكُمْ} ، أي: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، {فِي الْجَارِيَةِ (11)} أي: في السفن الجارية، والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك. [18/ 229]
(1245)
من قوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} [الحاقة: 12].
قال قتادة: «الأذن الواعية: أذنٌ عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل» . [18/ 229]
(1246)
من قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19].
إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: «أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» . قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال: «هيهات هيهات!! زفته الملائكة إلى الجنة» ؛ {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} أي: يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورًا بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج، والشمال من دلائل الغم.
قال الشاعر:
أبيني أفي يُمنى يديكِ جعلْتِنِي
…
فأفرحُ أم صيرتني في شمالك
ومعنى {هَاؤُمُ} : تعالوا. قاله ابن زيد. وقيل: {هَاؤُمُ} كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال؛ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «هَاؤُمُ» -يُطول صوته-. [18/ 235]
(1247)
من قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: 20].
قال الضحاك: «كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك» .
قال مجاهد: «ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك» .
قال الحسن: «في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه؛ فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل» . [18/ 224]
(1248)
من قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقة: 45 - 46].
(1249)
من قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)} [الحاقة: 49 - 50].
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)} . قال الربيع: «بالقرآن» . {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني: التكذيب، والحسرة: الندامة. وقيل: أي: وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به، وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. [18/ 241]
(1250)
من قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)} [المعارج: 1 - 2].
السؤال بمعنى الدعاء؛ أي: دعا داع بعذاب. عن ابن عباس وغيره.
{لِلْكَافِرِينَ} أي: على الكافرين. وهو النضر بن الحارث، حيث قال:«اللهم إن كان هذا هو الحق من عند فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» ، فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرًا هو وعقبة بن أبي معيط لم يُقتل صبرًا غيرهما. قاله ابن عباس ومجاهد. [18/ 242]
(1251)
من قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 4].
قال ابن عباس: «هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار» .
قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله.
واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أ بيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل لم يؤد زكاة ماله إلا جعل شجاعًا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس» . قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي: «ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر» . [18/ 245]
(1252)
من قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} [المعارج: 5].
الصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.
وقيل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يُدرى من هو. [18/ 247]
(1253)
من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)} [المعارج: 34].
قال قتادة: «على وضوئها وركوعها وسجودها» .
وقال ابن جريج: «التطوع
…
»، فالدوام خلاف المحافظة، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يُخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملونها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. [18/ 253]
(1254)
من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} [المعارج: 39].
أي: إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خُلق سائر جنسهم فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى، وقيل: كانوا يستهزءون بفقراء المسلمين، ويتكبرون عليهم، فقال:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} ، من القذر فلا يليق بهم هذا التكبر.
قال قتادة في هذه الآية: «إنما خُلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله» .
وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صُفرة يتبختر في مُطْرَف خز وجبة خز، فقال له: يا عبدالله، ما هذه المشية التي يُبغضها الله! فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أولك نطفة مذره، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته.
نظم الكلام محمود الوراق فقال:
عجبت من معجب بصورته
…
وكان في الأصل نطفة مذرة
وهو غدًا بعد حسن صورته
…
يصير في اللحد جيفة قذرة
وهو على تيهه ونخوته
…
ما بين ثوبيه يحمل العذرة
وقال آخر:
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمةٌ
…
وهو بخمس من الأوساخ مضروب
مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهكٌ
…
والعين مرمصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدًا
…
قَصِّر فإنك مأكول ومشروب
[18/ 255]
(1255)
من قوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].
أي: إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الأجل إليه سبحانه؛ لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم؛ كقوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34]، و {لَوْ} بمعنى: إن، {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} أي: إن كنتم تعلمون.
وقال الحسن معناه: «لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر» . [18/ 259]
(1256)
من قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
…
} [نوح: 7].
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي: إلى سبب المغفرة وهي الإيمان بك والطاعة لك، {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا دعائي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي:
غطوا بها وجوههم لئلا يروه، وقال ابن عباس:«جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه» . فاستغشاء الثياب إذًا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرّفوه إعراضهم عنه». وقيل: هو كناية عن العداوة، يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. [18/ 259]
(1257)
من قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} [نوح: 11].
في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار، قال الشعبي:«خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فَأُمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)}» . وقال الأوزاعي: «خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقُوا. وقال ابن صبيح: «شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستان فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول في سورة
(1258)
من قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: 14].
أي: جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: «{أَطْوَارًا (14)} يعني: نطفة ثم علقة ثم مضغة أي طورًا بعد طور إلى تمام الخلق» ، كما ذكر في سورة المؤمنون.
والطَّور في اللغة: المرة، أي: من فعل هذا، وقَدر عليه فهو أحق أن تعظموه، وقيل:{أَطْوَارًا (14)} : صبيانًا ثم شبابًا ثم شيوخًا وضعفاء ثم أقوياء، وقيل: أطوارًا، أي: أنواعًا صحيحًا وسقيمًا وبصيرًا وضريرًا وغنيًّا وفقيرًا.
وقيل: إن {أَطْوَارًا (14)} اختلافهم في الأخلاق والأفعال. [18/ 262]
(1259)
من قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)} [نوح: 21].
شكاهم إلى الله تعالى وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ داعيًا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
وقال الحسن: «كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين» . حكاه الماوردي: «{وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)} يعني: كبراءهم وأغنيائهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالًا في الدنيا وهلاكًا في الآخرة» . [18/ 264]
(1260)
من قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح: 26].
قال ابن العربي: «دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم» . وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كُشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم [18/ 269]
(1261)
من قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 11].
اختلف أهل العلم في أصل الجن، فروى إسماعيل عن الحسن البصري:«أن الجن ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنًا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرًا فهو شيطان» . [19/ 9]
(1262)
من قوله تعالى: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)} [الجن: 1].
أي: في فصاحة كلامه، وقيل: عجبًا في بلاغة مواعظه، وقيل: عجبًا في عظم بركته، وقيل: قرآنًا عزيزًا لا يوجد مثله، وقيل: يعنون عظيمًا. [19/ 10]
(1263)
من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 2].
الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس:«كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا» ، أي: عظم وجل، فمعنى {جَدُّ رَبِّنَا} أي: عظمته وجلاله. قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. [19/ 11]
(1264)
من قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)} [الجن: 7].
هذا من قول الله تعالى للإنس، أي: وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم، وقال الكلبي:«المعنى: ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولًا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم، وكل هذا توكيد للحجة على قريش أي: إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد فأنتم أحق بذلك» . [19/ 13]
(1265)
من قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن: 14].
قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} ، يعني: القرآن، {آمَنَّا بِهِ} وبالله وصدقنا محمدًا صلى الله عليه وسلم على رسالته، وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الإنس والجن.
قال الحسن: «بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم
يبعث الله قط رسولًا إلى الجن، ولا من أهل البادية ولا من النساء وذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]». [19/ 17]
(1266)
من قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14].
أي: وأنا بعد استماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر والقاسط الجائر؛ لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق، يقال: قسط أي: جار، وأقسط إذا عدل.
قال الشاعر:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوةً
…
عَمْرًا وهم قسطوا على النعمانِ
[199/ 18]
(1267)
من قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16].
طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} أي: كثيرًا، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.
وقال عمر في هذه الآية: «أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة» ، فمعنى {لَأَسْقَيْنَاهُمْ}: لوسعنا عليهم في الدنيا وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلًا؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون فأقيم مقامه. [19/ 19]
(1268)
من قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
…
} [الجن: 26 - 27].
قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول، فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. [19/ 28]
(1269)
من قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 28].
أي: أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء و {عَدَدًا (28)} نصب على الحال، أي: أحصى كل شيء في حال العدد، وإن شئت على المصدر أي: أحصى وعد كل شيء عددًا، فيكون مصدر الفعل المحذوف فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء، وقد بينا جميعه في الكتاب «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» ، والحمد لله وحده. [19/ 30]
(1270)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1].
قال السهيلي: «ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم» ، ولم
يُعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب وكذلك المدثر، وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: «قُم يا أبا تراب» ؛ إشعارًا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة «قم يا نومان» وكان نائماً ملاطفة له وإشعارًا لترك العتب والتأنيب؛ فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ} ، فيه تأنيس وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
الفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل، وذكر الله تعالى فيه؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة. [19/ 32]
(1271)
من قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 4].
أي: لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني.
وقال الضحاك: «اقرأه حرفًا حرفًا» . وقال مجاهد: «أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه» ، والترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه: ثغر رتِل ورَتَّل إذا كان حسن التنضيد
…
وسمع علقمة رجلًا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: «تدبر في
لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه». [19/ 36]
(1272)
من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل: 16].
بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأجلب للثواب، واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل، فقال ابن عمر وأنس بن مالك:«هو ما بين المغرب والعشاء؛ تمسكًا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق، وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء، ويقول: «هذا ناشئة الليل» .
وقال عطاء وعكرمة: «إنه بدء الليل» .
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار وهو الذي اختاره مالك بن أنس» .
قال ابن العربي: «وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة» .
{أَشَدُّ وَطْئًا} أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان؛ لانقطاع الأصوات والحركات. قاله مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما.
{وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} أي: القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي أشد استقامة واستمرارًا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة والدنيا ساكنة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. [19/ 39]
(1273)
من قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ
…
} [المزمل: 15].
يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)} ، وهو موسى؛ {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي: كذب به ولم يؤمن، قال مقاتل:«ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدًا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون أزدرى موسى؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18]» . [19/ 46]
(1274)
من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
بيّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل؛ لأجل هؤلاء
…
قال ابن مسعود: «أيما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرًا محتسبًا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}
…
وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حِنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت
علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافًا لا عليّ ولا لي. [19/ 52]
(1275)
من قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [المزمل: 20].
روي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسًا -يعني تمرًا بلبن- فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه، فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} أي: مما تركتم وخلفتم ومن الشح والتقصير، {وَأَعْظَمَ أَجْرًا}. قال أبو هريرة:«الجنة» ويحتمل أن يكون أعظم أجرًا لإعطائه بالحسنة عشرًا». [19/ 55]
(1276)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1].
ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل: يا محمد، ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه.
(1277)
من قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 3].
أي: سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم وَصِفْهُ بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. [19/ 58]
(1278)
من قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6].
قال الإمام القرطبي بعد أن ذكر جملة من الأقوال في الآية: وهذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: «لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت
من المال»، يقال: مننت فلانًا كذا أي: أعطيته، ويقال للعطية: المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا. [19/ 3]
(1279)
من قوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} [المدثر: 13].
أي: حضورًا لا يغيبون عنه في تصرف
…
قال مقاتل: «كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك» . [19/ 66]
(1280)
من قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)} [المدثر: 18].
يعني: الوليد بن المغيرة فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {وَقَدَّرَ (18)} أي: هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته؛ وذلك أنه لما نزل {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 1 - 3]. سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فمضى إليه حزينًا. فقال له: مالي أراك حزينًا، فقال له: وما لي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام
محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما. فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كِسر محمد وصاحبه فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه قط يَخنُق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله، قال: فتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذبًا قط؟ قالوا: لا والله، قال: فتزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعًا وتخالجًا، فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى: الصادق الأمين، من كثرة صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده مواليه؟! فذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ} أي: في أمر محمد والقرآن {وَقَدَّرَ (18)} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما {فَقُتِلَ} أي: لعن
…
{ثُمَّ نَظَرَ (21)} بأي شيء يرد الحق ويدفعه {ثُمَّ عَبَسَ} أي: قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين {وَبَسَرَ (22)} أي: كلح وجهه وتغير لونه.
وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. [19/ 68]
(1281)
من قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 37].
اللام متعلقة ب {نَذِيرًا} أي: نذيرًا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير
والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية. نظيره {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} أي: في الخير {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} .
قال الحسن: «هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]» . [19/ 78]
(1282)
من قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} [المدثر: 49].
أي: فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عما جئتم به، وفي تفسير مقاتل:«الإعراض عن القرآن من وجهين؛ أحدهما: الجحود والإنكار، والوجه الآخر: ترك العمل بما فيه» . [19/ 80]
(1283)
من قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1].
قيل: إن {لَا} صلة، وجاز وقوعها في أول السورة؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض فهو في حكم كلام واحد؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة، ويجيء جوابه في سورة أخرى؛ كقوله تعالى:{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]، وجوابه في سورة أخرى:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2]، ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة. قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قوله الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابةٌ
…
فكاد صميم القلب لا يتقطع
وحكى أبو الليث السمرقندي: «أجمع المفسرون أن معنى {لَا أُقْسِمُ} أقسم، واختلفوا فيه تفسير «لا» . قال بعضهم: «لا» زيادة في الكلام للزينة، ويجري
في كلام العرب زيادة «لا» كما قال في آية أخرى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، يعني: أن تسجد، وقال بعضهم:«لا» رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم. قلت: وهذا قول الفراء. [19/ 83]
(1284)
من قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 2].
أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: «هي والله نفس المؤمن، ما يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه» .
وقال مجاهد: «هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه» . [19/ 84]
(1285)
من قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4].
البنان: عند العرب الأصابع واحدها بنانة.
قال النابغة:
بُمُخضَبٍ رَخص كأن بنانَه
…
عَنْمٌ يكاد من اللطافة يُعقد
وقال عنترة:
وأن الموتَ طَوعَ يدي إذا ما
…
وصلتُ بَنَانَها بالهِنْدُواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضًا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: «وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر» .
وكان الحسن يقول: «جعل لك أصابع فأنت تبسطهن وتقبضهن ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك» . [19/ 85]
(1286)
من قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)} [القيامة: 5].
قال ابن عباس: «يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب» .
وعنه أيضًا: «يعجل المعصية ويسوف التوبة
…
».
وقال الضحاك: «هو الأمل يقول سوف أعيش، وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت، وقيل: أي يعزم على المعصية أبدًا، وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال للإنسان، وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى: بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. [19/ 86]
(1287)
من قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 13].
أي: يخبر ابن آدم بَرًّا كان أو فاجرًا، {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} أي: بما سلف من عمل سيء أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يُعمل بها بعده. قاله ابن عباس وابن مسعود. [19/ 89]
(1288)
من قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} [القيامة: 14].
قال القاضي أبو بكر العربي: «فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه؛ لأنها بشهادة منه عليها قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24]. ولا خلاف فيه؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه» . [19/ 91]
(1289)
من قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1].
{هَلْ} بمعنى: قد. قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة، وقد حكي عن سيبويه:«{هَلْ} بمعنى: قد» .
قال الفراء: «{هَلْ}: تكون جحدًا وتكون خبرًا؛ فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرر بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام والمعنى: أتى» . [19/ 107]
(1290)
من قوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 3].
جمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفيًا للمبالغة في الشكر وإثباتًا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فَقلَّ شكره لكثرة النعم عليه، وكثرة كفره، وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي. [19/ 111]
(1291)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9].
أي: يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} في الله جل ثناؤه فزعًا من عذابه وطمعًا في ثوابه، {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً} أي: لا مكافأة {وَلَا شُكُورًا (9)} أي: ولا أن تثنوا علينا بذلك، قال ابن عباس:«كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا» . وعن سالم، عن مجاهد، قال:«أما إنهم ما تكلموا به، ولكنه عَلِمَه الله جل ثناؤه منهم؛ فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب» . وقاله سعيد بن جبير، حكاه عن النقاش. [19/ 116]
(1292)
من قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} [الإنسان: 17].
كانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. [19/ 162]
(1293)
من قوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19].
أي: ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم لؤلؤًا مفرقًا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظومًا. وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة بخلاف الحور العين؛ إذ شبهوا باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهن لا يُمتهن بالخدمة. [19/ 128]
(1294)
من قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21].
عطف على {وَيَطُوفُ} {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الآية: 33]، وفي سورة الحج:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الآية: 23]. فقيل: حلي الرجل الفضة، وحلي المرأة الذهب.
وقيل: تارة يلبسون الذهب، وتارة يلبسون الفضة.
وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة.
وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. [19/ 130].
(1295)
من قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21].
قال طَيَّب الجمَّال: «صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئًا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته. [19/ 131]
(1296)
من قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)} [المرسلات: 11].
أي: جمعت لوقتها يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109].
وقيل: هذا في الدنيا أي: جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون، وإنما تزول الشكوك يوم القيامة، والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء، ولا يليق به التأقيت قبل يوم القيامة. [19/ 139]
(1297)
من قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)} [المرسلات: 32].
في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره، وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته؛ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله:«كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر» . وهذا أصح ما قيل في ذلك، والله أعلم. [19/ 146]
(1298)
من قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)} [المرسلات: 35].
أي: إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل.
(1299)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات: 48].
يذكر أن مالكًا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبًا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} .
وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفًا لحال الناس في الدنيا فمن كان لله يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رئاء لغيره صار ظهر طبقًا واحدًا. [19/ 148]
(1300)
من قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} [المرسلات: 50].
أي: إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام فبأي شيء يصدقون! وكرر {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} لمعنى تكرير التخويف والوعيد.
وقيل: ليس بتكرار؛ لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئًا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئًا آخر، فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئًا آخر، فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم كذلك إلى آخرها. [19/ 149]
(1301)
من قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)} [النبأ: 8].
أي: أصنافًا ذكرًا وأنثى، وقيل: ألوانًا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن وطويل وقصير لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. [19/ 151]
(1302)
من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ: 10 - 11].
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} . أي: تلبسكم ظلمته وتغشاكم. قاله الطبري.
وقال ابن جبير والسدي: «أي: سكنًا لكم» .
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} فيه إضمار، أي: وقت معاش، أي: متصرفًا لطلب المعاش، وهو كل ما يُعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك. [19/ 152]
(1303)
من قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: 23].
أي: ماكثين في النار ما دامت الأحقاب وهي: لا تنقطع فكلما مضى حُقب جاء حُقب، والحُقُب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحِقبة بالكسر: السنة، والجمع: حِقَب
…
والمعنى في الآية: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، وهو كما يقال أيام الآخرة، أي: أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال: خمسة أحقاب، أو عشرة أحقاب ونحوه.
وذكر الأحقاب؛ لأنه الحُقُبْ كان أبعد شيء عندهم فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها وهي كناية عن التأبيد أي: يمكثون فيها أبدًا.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى: متقارب وهذا الخلود في حق المشركين. [19/ 156]
(1304)
من قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: 26].
أي: موافقًا لأعمالهم، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوفاق بمعنى: الموافقة كالقتال بمعنى: المقاتلة و {جَزَاءً} نُصب على المصدر، أي: جازيناهم جزاء وفق أعمالهم. قاله الفراء والأخفش.
وقال مقاتل: «وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار» .
وقال الحسن وعكرمة: «كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوءهم» . [19/ 159]
(1305)
من قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: 14].
{فَإِذَا هُمْ} أي: الخلائق أجمعون، {بِالسَّاهِرَةِ (14)} أي: على وجه الأرض بعد ما كانوا في بطنها.
قال الفراء: «سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، والعرب تسمي: الفلاة، ووجه الأرض ساهرة بمعنى: ذات سهر؛ لأنه يُسهر
فيها خوفًا منها فوصفها بصفة ما فيها، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحرٌ
…
وما فاهوا به لهمُ مقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:
أَقدِم محاجِ إنها ا لأساورة
…
ولا يهولنك رِجْل نادرة
فإنما قَصْرُك ترُب الساهرة
…
ثم تعودُ بعدها في الحافرة
من بعد ما صرت عظامًا ناخرة
[19/ 174]
(1306)
من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
…
} [النازعات: 15].
أي: قد جاءك وبلغك {حَدِيثُ مُوسَى (15)} وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي: إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء، وقيل: هل بمعنى: ما، أي: ما أتاك ولكن أُخبرت به فإن فيه عبرة لمن يخشى. [19/ 175]
(1307)
من قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} [النازعات: 25].
أي: نكال قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وقوله بعد: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وكان بين الكلمتين أربعون سنة. قاله ابن عباس.
والمعنى: أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه.
وقيل: نكال الأولى هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. [19/ 177]
(1308)
من قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} [النازعات: 31].
أي: أخرج من الأرض {مَاءَهَا} أي: العيون المتفجرة بالماء، {وَمَرْعَاهَا (31)} أي: النبات الذي يُرعى، وقال القُتَبِي:«دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتًا ومتاعًا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء» . [19/ 179]
(1309)
من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)} [النازعات: 34].
وقال سفيان: «هي الساعة التي يُسلَم فيها أهل النار إلى الزبانية أي: الداهية التي طمت وعظمت.
إن بعض الحب يُعمي ويُصم
…
وكذاك البغض أدهى وأطم
[19/ 180]
(1310)
من قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)} [النازعات: 37 - 38].
قال حذيفة: «أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله -جل ثناؤه- قال: «لا يؤثر عبد
لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك». [19/ 181]
(1311)
من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45].
أي: مخوف، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرًا لكل مكلف وهو كقوله تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. [19/ 182]
(1312)
من قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} [عبس: 1].
أنزل الله في حقه -ابن أم مكتوم- على نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيمًا له، ولم يقل: عبست وتوليت ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسًا له، فقال:{وَمَا يُدْرِيكَ} أي: يعلمك {لَعَلَّهُ} يعني: ابن أم مكتوم، {يَزَّكَّى (3)} بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. [19/ 186]
(1313)
من قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس: 24].
لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يسر من رزقه أي: فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر أي: ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للمعاد.
وروي عن الحسن ومجاهد قالا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} أي: إلى مُدخله ومُخرجه.
وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ضحاك ما طعامك؟» ، قلت: يا رسول الله اللحم واللبن، قال:«ثم يصير إلى ماذا؟» ، قلت: إلى ما قد علمته. قال: «فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير» . وقال الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك، فيقول: انظر ما بخلت به إلى ما صار. [19/ 191]
(1314)
من قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} [عبس: 34].
أي: يهرب أي: تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه أي: من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37]. أي: يشغله عن غيره.
وقيل: إنما يفر حذرًا من مطالبتهم إياه لما بينهم من التبعات.
وقيل: لئلا يَروا ما هو فيه من الشدة.
وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعون ولا يغنون عنه شيئًا، كما قال:{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41]، وقال عبدالله بن طاهر الأبهري:«يفر منهم لِما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئًا سوى ربه تعالى» . [19/ 195]
(1315)
من قوله تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4].
أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها؛ الواحدة عُشراء أو التي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وبعدما تضع أيضًا، ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قَرِح: هاتوا مُهري، وقربوا مُهري يسميه بمتقدم اسمه.
قال عنترة:
لا تذكري مُهري وما أطعمته
…
فيكونَ جِلدُكِ مثلُ جلد الأجرب
وإنما خص العشار بالذكر؛ لأنها أعز ما تكون على العرب، وليس يُعطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل. أن هول القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم وشاهد بعضهم بعضًا ورأوا الوحوش والدواب محشورة وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بالعشار؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. [19/ 198].
(1316)
من قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} [التكوير: 14].
يعني: ما عملت من خير وشر، وهذا جواب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} [التكوير: 1]، وما بعدها.
قال عمر رضي الله عنه: «لهذا أجري الحديث» .
وروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما: «أنهما قرآها فلما بلغا {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} ، قالا: لهذا أجريت القصة، فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت، وكانت هذه الأشياء علمت نفس ما أحضرت من عملها.
وفي «الصحيحين» عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة؛ فليفعل» . [19/ 205]
(1317)
من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} [الانفطار: 6].
عن ابن عباس: «{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ} أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} أي: المتجاوز عنك» . قال قتادة: «غره شيطانه المسلَّط عليه» . قال الحسن: «غره شيطانه الخبيث» . وقيل: حمقه وجهله.
قال إبراهيم بن الأشعث: «قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة؛ لأن الكريم هو الستار. ونظمه ابن السماك فقال:
يا كاتم الذنب أما تستحي
…
والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله
…
وستره طول مساويكا
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:
يا من غلا في العُجب والتيه
…
وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته
…
ولم تخف غِب معاصيه
وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: ما لك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. [19/ 214].
(1318)
من قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار: 7].
{الَّذِي خَلَقَكَ} أي: قدر خلقك من نطفة. {فَسَوَّاكَ} في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك، {فَعَدَّلك (7)} أي: جعلك معتدلًا سوي الخَلْق كما يقال: هذا شيء معدّل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال الفراء وأبو عبيد:«يدل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]، وقرأ الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي {فَعَدَلَكَ} مخففًا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء إما حسنًا وإما قبيحًا، وإما طويلًا وإما قصيرًا» . [19/ 214]
(1319)
من قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1].
أي: الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم، وروي عن ابن عمر قال:«المطفف الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه» .
وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث.
وفي «الموطأ» قال مالك: «ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف» .
وروي عن سالم بن أبي الجعد قال: «الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}» . [19/ 219]
(1320)
من قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6].
فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ:«قوموا إلى سيدكم» . وقال أيضًا: «من سره أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» . وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. [19/ 224]
(1321)
من قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].
عن مجاهد قال: «القلب مثل الكف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب
انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين»، ثم قرأ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} .
وقال بكر بن عبدالله: «إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيًا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، لا يعي خيرًا، ولا يثبت فيه صلاح. [19/ 227]
(1322)
من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15].
وقال أنس بن مالك في هذه الآية: «لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه» .
وقال الشافعي: «لما حجب قومًا بالسخط دل على أن قومًا يرونه بالرضا» ، ثم قال:«أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا» . [19/ 228]
(1323)
من قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 21].
قال مالك: «إنها ليست من عزائم السجود» .
قال ابن العربي: «والصحيح أنها منه» .
قال ابن العربي: «لما أممت بالناس تركت قراءتها؛ لأني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرًا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي» . وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة:«لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم» .
ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله بعض الشيعة، فحضر عندي يومًا في محرس ابن الشَّواء بالثغر -موضع تدريسي- عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدًا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تحت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي
وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سُنة؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره. [19/ 247]
(1324)
من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} [1].
قسم أقسم الله به جل وعز، وفي «البروج» أقوال أربعة:
أحدها: ذات النجوم، الثاني: القصور. قال عكرمة: «هي قصور في السماء» . وقال مجاهد: «البروج فيها الحرس» . الثالث: ذات الخَلق الحسن. الرابع: ذات المنازل، وهي اثنا عشر برجًا، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم، فذلك ثمانية وعشرون يومًا، ثم يستسِر ليلتين، وتسير الشمس في كل برج منها شهرًا، وهي الحَمَل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. [19/ 248] بتصرف
(1325)
من قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5].
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ} أي: ابن آدم. {مِمَّ خُلِقَ (5)} وجه الاتصال بما قبله
توصية الإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يُملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. [20/ 8]
(1326)
من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى: 6].
هذه بشرى من الله تعالى بشره بأن أعطاه آية بينة وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه.
وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:«كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتُكَه» . [19/ 20]
(1327)
من قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: 9].
{فَذَكِّرْ} : أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن.
{إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} : أي الموعظة.
وروى يونس عن الحسن قال: «تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر» .
وكان ابن عباس يقول: «تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي» .
وقال الجرجاني: «التذكير واجب وإن لم ينفع» .
والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، فَحُذُف كما قال:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81].
وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم.
وقيل: إنَّ {إِنْ} بمعنى ما، أي: فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون «إن»
بمعنى: (ما)، لا بمعنى الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال، وقيل:{إِنْ} بمعنى (إذ) أي إذ نفعت، كقوله تعالى:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. أي إذ كنتم، فلم يخبرهم بعلوهم إلا بعد إيمانهم.
وقيل: {إِنْ} بمعنى: (قد). [20/ 21]
(1328)
من قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)} [الأعلى: 16].
عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال:«أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها، وطعامها وشرابها ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا فأخذنا العاجل وتركنا الآجل» .
وروى ثابت عن أنس قال: «كنا مع أبي موسى في مسير والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا، قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريًا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة، ثم قال: يا أنس ما ثبر الناس! ما بطأ بهم؟ قلت: الدنيا والشيطان والشهوات. قال: لا، ولكن عُجلت الدنيا وغيبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا» . [20/ .... ].
(1329)
من قوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 17].
قال مالك بن دينار: «لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى» . قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. [20/ 24]
(1330)
من قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} [الغاشية: 2 - 3].
روي عن الحسن قال: «لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام أتاه راهب شيخ كبير مُتَقهِّل عليه سواد فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرًا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، وقرأ قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)}» . قال الكسائي: «التقهل رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيئُ الحال» . [20/ 27]
(1331)
من قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} [الغاشية: 17].
ذكر الإبل أولاً؛ لأنها كثيرة في العرب، ولم يرو الفيلة، فنبههم -جل ثناؤه- على عظيم من خلقه .... ، وعن بعض الحكماء أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق. وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبَّرها على احتمال العطش حتى إن ظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدًا، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم.
وقال الحسن: «إنما خصها الله بالذكر؛ لأنها تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن» .
وسئل الحسن أيضًا عنها، وقالوا: الفيل أعظم في الأعجوبة: فقال: «العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره» .
وكان شريح يقول: «اخرجوا بنا إلى الكُناسة (سوق بالكوفة ترد إليها الإبل بأحمال البضائع) حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت» . [20/ 33 - 40]
(1332)
من قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 5].
معنى {لِذِي حِجْرٍ (5)} ، أي: لذي لب وعقل، وقال الشاعر:
وكيف يُرَجّى أن تتوبَ وإنما
…
يُرجَّى من الفتيان من كان ذا حِجر
كذا قال عامة المفسرين .. وأصل الحِجر: المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها إنه لذو حجر، ومنه سمي الحَجَر لامتناعه بصلابته، ومنه حَجَر الحاكم على فلان، أي: منعه وضبطه عن التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة؛ لامتناع ما فيها بها. [20/ 41]
(1333)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} [الفجر: 6].
أي: ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد، وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد عام.
وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورًا؛ إذ كانوا في بلاد العرب، وحِجر ثمود موجود اليوم، وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب. [20/ .. 4].
(1334)
من قوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} [الفجر: 9].
ثمود هم قوم صالح، و {جَابُوا} قطعوا، ومنه: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها، وإنما سمي جيب القميص؛ لأنه جِيْبَ أي: قُطع. [20/ 44]
(1335)
من قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)} [الفجر: 13].
أي نصيب عذاب. ويقال: شدته؛ لأن السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر:
ألم تر أن الله أظهر دينه
…
وصب على الكفار سوط عذاب
كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: «إن عند الله أسواطًا كثيرة، فأخذهم بسوط منها» . [20/ 46]
(1336)
من قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14].
أي: يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به. قاله الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. [20/ 46]
(1337)
من قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} [الفجر: 27].
لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فَاتْهَمَ الله في إغنائه وإفقاره ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى الله تعالى، فسلم لأمره، واتكل عليه.
وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله عز وجل. والنفس المطمئنة الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله ربها فأخبتت لذلك. قاله مجاهد وغيره.
قوله تعالى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28]، أي: إلى صاحبك وجسدك. قاله ابن عباس وعكرمة وعطاء، واختاره الطبري، ودليله قراءة ابن عباس:{فَادْخُلِي فِي عَبْدِيْ (29)} [الفجر: 29] على التوحيد، فيأمر الله تعالى الأرواح غدًا أن ترجع إلى الأجساد. [20/ 52]
(1338)
منه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4].
لم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصابًا. وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما.
وقال ابن كيسان: «منتصبًا رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه» .
قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطًا، وشد رباطًا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب
وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن. ويكابد محنًا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار. [20/ 56 - 57](بتصرف).
(1339)
من قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11].
قال الحسن: «هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان» .
وأنشد بعضهم:
إني بليت بأربع يرمينني
…
بالنبل قد نصبوا علي شراكا
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
…
من أين أرجو بينهن فكاكا
يا رب ساعدني بعفو إنني
…
أصبحت لا أرجو لهن سواكا
[20/ 61]
(1340)
من قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8].
في «صحيح مسلم» عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن
حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظُلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا. وقلت: كل شيء خَلْق الله ومِلك يده فلا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون، فقال لي: يرحمك الله! إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه أشيء قُضي عليهم، ومضى فيهم من قَدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيءقضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} . [20/ 69].
(1341)
من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10].
{قَدْ أَفْلَحَ} فاز {مَنْ زَكَّاهَا (9)} أي: من زكى نفسه بالطاعة، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} أي: خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية.
وقال ابن عباس: «خابت نفس أضلها وأغواها» .
وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال وخاب من دس نفسه في المعاصي. قاله قتادة وغيره.
فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر شَهَر نفسه ورفعها وكانت
أجواد العرب تنزل الرُّبا وارتفاع الأرض ليشتهر مكانها للمعتفين -أي طالبي الفضل والرزق- وتوقد النار في الليل للطارقين، وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام ليخفى مكانها عن الطالبين.
فأولئك عَلَّوا أنفسهم وزكوها وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها وكذا الفاجر أبداً خفي المكان، زَمِرُ المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. [20/ 70] بتصرف
(1342)
من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14].
أي: عقرها الأشقى، وأضيف إلى الكل؛ لأنهم رَضوا بفعله.
وقال قتادة: «ذُكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم» . [20/ 71]
(1343)
من قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5].
قال ابن مسعود: «يعني أبا بكر رضي الله عنه» . وقاله عامة المفسرين، فروي عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال:«كان أبو بكر يُعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني! لو أنك أعتقت رجالًا جُلدًا يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد» .
وعن ابن عباس في قوله تعالى: «{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} أي: بذل، {وَاتَّقَى (5)} أي: محارم الله التي نهى عنها، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} أي: بالخلف من الله تعالى على عطائه، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}» . [20/ 75]
(1344)
من قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 10].
(1345)
من قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} [الليل: 14].
{فَأَنْذَرْتُكُمْ} ، أي: حذرتكم وخوفتكم، {نَارًا تَلَظَّى (14)} ، أي: تلهب وتتوقد. وأصله: تتلظى.
{لَا يَصْلَاهَا} ، أي: لا يجد صَلَاها وهو حرها، {إِلَّا الْأَشْقَى (15)} ، أي: الشقي، {الَّذِي كَذَّبَ} نبي الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، {وَتَوَلَّى (16)} أي: أعرض عن الإيمان.
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: «كل يدخل الجنة إلا من أباها، قال: يا أبا هريرة! ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى» .
وقال مالك: «صلى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب، فقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها، وقرأ سورة أخرى» . [20/ 78]
(1346)
من قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6].
عدد سبحانه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} لا أب لك قد مات أبوك، {فَآوَى (6)} أي: جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب فكفلك، وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ فقال: «لئلا يكون لمخلوق عليه حق» .
وعن مجاهد: «هو من قول العرب: درة يتيمة؛ إذا لم يكن لها مثل» . [20/ 82]
(1347)
من قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9].
أي لا تَسَلَّط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يُتمك. قاله الأخفش.
وعن مجاهد: «{فَلَا تَقْهَرْ (9)} : فلا تحتقر
…
». وخص اليتيم؛ لأنه لا ناصر له غير الله تعالى؛ فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه.
ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره، والإحسان إليه حتى قال قتادة:«كن لليتيم كالأب الرحيم» . [20/ 91]
(1348)
من قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 10].
أي: لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول، ولكن رُدَّه ببذل يسير أو رد جميل، واذكر فقرك. قاله قتادة وغيره.
وقال إبراهيم بن أدهم: «نعم القوم السُّؤَال يحملون زادنا إلى الآخرة» .
وقيل: المراد بالسائل هنا: الذي يسأل عن الدين، أي: فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين. قاله سفيان.
قال ابن العربي: «وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية؛ كإعطاء سائل البِرّ سواء» . [20/ 92]
(1349)
من قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11].
أي: انشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر
…
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: «إذا أصبت خيرًا، أو عملت خيرًا، فحدث به الثقة من إخوانك» .
وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول: «لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت الله كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا!! قال يقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله» .
وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، فرآني رث الثياب فقال:«ألك مال؟» ، قلت: نعم يا رسول الله، من كل المال. قال:«إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك» . [20/ 93]
(1350)
من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1].
معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} : قد شرحنا. الدليل على ذلك قوله في النسق عليه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} [الشرح: 2]؛ فهذا عطف على التأويل لا على
التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك؛ فدل هذا على أن معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} : قد شرحنا. [20/ 97].
(1351)
من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4].
قال مجاهد: «يعني بالتأذين» .
وفيه يقول حسان بن ثابت:
أغرُّ عليه للنبوة خاتم
…
من الله مشهور يلوح ويُشْهدُ
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
…
إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ
وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. [20/ 98].
(1352)
من قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5 - 6].
قال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسمًا معرفًا ثم كرروه فهو هو، وإذا نكَّروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر. قاله ثعلب.
وقال ابن عباس: «يقول الله تعالى خلقت عسرًا واحدًا، وخلفت يُسرين ولن يغلب عُسر يسيرين» . [20/ 99].
(1353)
من قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} [التين: 1].
إنما أقسم الله بالتين؛ ليبين وجه المنة العظمى فيه فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه:
انظر إلى التين في الغصون ضحى
…
ممزق الجلد مائل العنق
كأنه رب نعمة سلبت
…
فعاد بعد الجديد في الخَلَقِ
أصغر ما في النهود أكبره
…
لكن ينادى عليه في الطرق
وقال آخر:
التين يعدل عندي كل فاكهة
…
إذا انثنى مائلاً في غصنه الزاهي
مخمش الوجه قد سالت حلاوته
…
كأنه راكع من خشية الله
قال ابن العربي: «ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر؛ فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه» . [20/ 103 - 104].
(1354)
من قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
هو اعتداله واستواء شبابه. كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء منكبًا على وجهه، وخلقه هو مستويًا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها.
وقال أبو بكر بن طاهر: «مزينًا بالعقل، مؤديًا للأمر، مهديًا بالتمييز، مديد القامة يتناول مأكوله بيده» .
وقال ابن العربي: «ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًا عالمًا، قادرًا مريدًا متكلمًا، سميعًا بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا. وهذه صفات الرب سبحانه» . [20/ 105](بتصرف).
(1355)
من قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} [العلق: 4].
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} يعني: الخط والكتابة؛ أي: علم الإنسان الخط بالقلم.
وروى سعيد عن قتادة قال: «القلم نعمة من الله عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو» .
وما دُونت العلوم، ولا قُيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا، وسمي قلمًا؛ لأنه يُقْلَم أي: يقطع، ومنه: تقليم الظفر.
وقال بعض الشعراء المُحدَثين يصف القلم:
فكأنه والحِبر يَخضبُ رأسه
…
شيخٌ لوصل خَريدةٍ يَتصنَّعُ
لِمَ لا ألاحظه بعين جَلالة
…
وبه إلى الله الصحائف ترفعُ
[20/ 111].
(1356)
من قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)} إلى {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)} [العلق: 9 - 15].
فالآية -وإن كانت في أبي جهل- فهي عِظة للناس وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة.
وأهل اللغة يقولون: سفعتَ بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذبًا شديدًا.
والناصية: شعر مقدم الرأس، وقد يعبر عنها عن جملة الإنسان، كما يقال: هذه ناصية مباركة؛ إشارة إلى جميع الإنسان.
وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. [20/ 115] بتصرف.
(1357)
من قوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19].
في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فإنه قمن أن يستجاب لكم» .
ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللتِ الرقابُ تواضعًا
…
منا إليك فَعِزُّها في ذُلّها
[20/ 118].
(1358)
من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1].
يعني: القرآن وإن لم يجر له ذِكر في هذه السورة؛ لأن المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة، وقد قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. وقال: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 1]. يريد ليلة القدر.
وقال الشعبي: «المعنى: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر» .
وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عباس. [20/ 120].
(1359)
من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)} [القدر: 2].
قال الفراء: «كل ما في القرآن من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه، وما كان من قوله {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يُدرِه» . وقاله سفيان. [20/ 120].
(1360)
من قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 3].
بين فضلها وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل،
وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
وقال كثير من المفسرين: أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وقال أبو العالية: «ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر» .
وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، يعني: جميع الدهر.
وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدًا حتى يعبد الله ألف شهر ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عبادة ليلة خيرًا من ألف شهر كانوا يعبدونها. [20/ 121].
(1361)
من قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة، الآيات: 1 - 8].
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: وسماني لك؟! قال: نعم؛ فبكى» .
قلت: خرجه البخاري ومسلم، وفيه من الفقه: قراءة العالم على المتعلم.
قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أُبي؛ ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة.
وقيل: لأن أُبيًّا كان أسرع أخذًا لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد
بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ويعلم غيره، وفيه فضيلة عظيمة لأبي إذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه. [20/ 130].
(1362)
من قوله تعالى: {مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة: 1].
{مُنْفَكِّينَ} ، أي: منتهين عن كفرهم مائلين عنه، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ} ، أي: أتتهم البينة، أي محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الانتهاء: بلوغ الغاية، أي: لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة، فالانفكاك على هذا بمعنى: الانتهاء.
وقيل {مُنْفَكِّينَ} : زائلين، أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول.
وقيل: {مُنْفَكِّينَ} : بارحين، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: «أي: لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم حتى بُعث فلما بُعث حسدوه وجحدوه وهو كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]» . [20/ 131].
(1363)
من قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: 3].
أي: مستقيمة مستوية محكمة، من قول العرب: قام يقوم إذا استوى وصح، وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب، فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب: أن الكتب هنا بمعنى: الأحكام. قال الله عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21]، بمعنى: حكم.
وقيل: الكتب القيمة: القرآن؛ فجعله كتبًا؛ لأنه يشتمل على أنواع من البيان. [20/ 133].
(1364)
من قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4].
أي: تخبر الأرض بما عُمل عليها من خير أو شر يومئذ، ثم قيل هو من قول الله تعالى.
وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها؛ متعجبًا. [20/ 138].
(1365)
من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8].
قال ابن مسعود: «هذه أحكم آية في القرآن» ، وصَدَق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمي هذه الآية الجامعة الفاذة كما في الصحيح؛ لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل
والحمار لا كرَّ فيها ولا فَرَّ؛ فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأل السائل عن الحُمُر؛ لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم «الدلدل» التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة. قاله ابن العربي.
وفي «الموطأ» أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت: أتعجب!
كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. [20/ 142].
(1366)
من قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} [العاديات: 1].
أي: الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة أي: تعدو في سبيل الله فتضبح.
قال قتادة: «تضبح إذا عدت، أي: تحمحم» .
وقال الفراء: «الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عَدَوْن» .
قال ابن عباس: «ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب» .
وقيل: كانت تُكعم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة.
وقال أهل اللغة: وأصل الضبح والضُّباح للثعالب، فاستعير للخيل، وهو من قول العرب: ضبحته النار إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه
…
وانضبح لونه: إذا تغير إلى السواد .. وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. [20/ 144] بتصرف.
(1367)
من قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 6].
قال ابن عباس: «لكفور جحود لنعم الله» . وكذلك قال الحسن. وقال: يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه:
يا أيها الظالم في فعله
…
والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى
…
تشكو المصيبات وتنسى النعم!
[20/ 149].
(1368)
من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: 7].
أي: وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد، وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: «{وَإِنَّهُ} أي: وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع» ، وروي عن مجاهد أيضًا. [20/ 151].
(1369)
من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8].
{وَإِنَّهُ} أي: الإنسان من غير خلاف، {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي: المال، ومنه
قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، {لَشَدِيدٌ (8)} أي: لقوي في حبه للمال.
وقيل: لشديد: لبخيل.
قال ابن زيد: «سمى الله المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًّا وحرامًا، ولكن الناس يعدونه خيرًا فسماه خيرًا لذلك، وسمى الجهاد سوءًا، فقال: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174]، على ما يسميه الناس» . [20/ 151].
(1370)
من قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 4].
{يَوْمَ} منصوب على الظرف، تقديره: تكون القارعة يوم يكون الناس.
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} . قال قتادة: «الطير الذي يتساقط في النار، والسراج الواحدة: فراشة» . وقال أبو عبيدة، وقال الفراء:«إنه الهمج الطائر من بعوض وغيره» ، ومنه الجراد، ويقال هو أطيش من فراشه.
وفي «صحيح مسلم» عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقدَ نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذهبهن عنها، وأنا آخذ بِحُجَزِكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي» ، وفي الباب عن أبي هريرة.
والمبثوث المتفرق، وقال في موضع آخر:{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)} [القمر:
7]، فأول حالهم كالفراش لا وجه له يتحير في كل وجه ثم يكونون كالجراد؛ لأن لها وجهًا تقصده.
وقال ابن عباس والفراء: «{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} كغوغاء الجراد يركب بعضها بعضًا كذلك الناس يجول بعضهم في بعض إذا بُعثوا» . [20/ 153].
(1371)
من قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} [القارعة: 9].
ومعنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} يعني: جهنم، وسماها أمًّا؛ لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه. قاله ابن زيد.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أُمَّنا
…
فيها مقابرنا وفيها نولد
وسميت النار هاوية؛ لأنه يهوي فيها مع بُعد قعرها، ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار، وقال قتادة:«معنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)}: فمصيره إلى النار» .
وقال عكرمة: «لأنه يهوي فيها على أم رأسه» . وقال الأخفش: «أمه: مُسْتَقَرُّه» ، والمعنى متقارب.
قال الشاعر:
يا عمرو لو نالتك أرماحنا
…
كنتَ كمن تهوي به الهاوية
[20/ 154].
(1372)
من قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1].
أي: شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله حتى متم ودفنتم في المقابر
…
وفي «صحيح مسلم» عن مطرف عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} قال: «يقول ابن آدم مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك ذاهب، وتاركه للناس» ، وروى البخاري عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:«لو أن لابن آدم واديًا من ذهب لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ، قال ثابت عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} قال ابن العربي: «وهذا نص صحيح مليح غاب عن أهل التفسير فجَهِلوا وجهَّلوا والحمد لله على المعرفة» . [20/ 156].
(1373)
من قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2].
قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه؛ فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه،
واستحكمت فيه دواعي الذنب؛ فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من احتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة؛ فلذلك كان أبلغ من الأول. [20/ 159].
(1374)
من قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8].
قال الحسن: «لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار» .
وقال القشيري: «والجمع بين الأخبار: أن الكل يُسألون ولكن سؤال الكفار توبيخ؛ لأنه قد ترك الشكر وسؤال المؤمن تشريف؛ لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة» .
قلت: هذا القول حسن؛ لأن اللفظ يعم. [20/ 165].
(1375)
من قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2].
(1376)
من قوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)} [الهمزة: 2].
أي: أعدّه -زعم- لنوائب الدهر مثل كرُم وأكرم، وقيل: أحصى عدده.
قال السدي، وقال الضحاك:«أي: أعد ماله لمن يرثه من أولاده» .
وقيل: فاخر بعدده وكثرته، والمقصود: الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة، كما قال:{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم: 12]، وقال:{وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} [المعارج: 18].
وقراءة الجماعة {جَمعَ} مخفف الميم، وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير، واختاره أبو عبيد لقوله:{وَعَدَّدَهُ (2)} . [20/ 171]
(1377)
من قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} [الهمزة: 3].
{يَحْسَبُ} أي: يظن، {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} أي: يبقيه حيًّا لا يموت. قاله السدي.
وقال عكرمة: «أي: يزيد في عمره» . {كَلَّا} رد لما توهمه الكافر، أي: لا يخلد ولا يبقى له مال. [20/ 171]
(1378)
من قوله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)} [الهمزة: 4].
{لَيُنْبَذَنَّ} ، أي: ليطرحن وليلقين، {فِي الْحُطَمَةِ (4)} وهي نار الله سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه.
قال الراجز:
إنا حطمنا بالقضيب مصعبًا
…
يوم كسرنا أنفه ليغضبا
[20/ 171]
(1379)
من قوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)} [الهمزة: 7].
وخص الأفئدة؛ لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، أي: إنه في حال من يموت وهم لا يموتون، كما قال الله تعالى:{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} [الأعلى: 13]؛ فهم إذًا أحياء في معنى الأموات. [20/ 172]
(1380)
من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [الفيل: 1].
قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي؛ لأنها كانت توكيدًا لأمره وتمهيدًا لشأنه.
ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال {أَلَمْ تَرَ} ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس.
وقال أبو صالح: «رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوًا من قفيزين من تلك الحجارة سودًا مخططة بحمرة» . [20/ 181]
(1381)
قال ابن العربي: «قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقد روى الناس عن مالك أنه قال: من مروءة الرجل ألا يُخبر بسنه لأنه إن كان صغيرًا استحقروه، وإن كان كبيرًا استهرموه، وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكًا لا يخبر بسن رسول الله ويكتم سنه، وهو من أعظم العلماء قدوة به. فلا بأس أن يخبر الرجل بسنه كان كبيرًا أو صغيرًا.
وقال عبدالملك بن مروان لعتاب بن أسيد: «أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه؛ ولد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس» .
وقيل لبعض القضاة: كم سنك؟ قال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين. [20/ 180]
(1382)
من قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 5].
أي: جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه، ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. [20/ 184]
(1383)
من قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
(1384)
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ فكل من كان من ولد النضر، فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه، وربما قالوا: قُريشي وهو القياس. قال الشاعر:
بكل قريشي عليه مهابة
فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه.
قال الشاعر:
وكفى قريشَ المعضلاتِ وسادها
والتقريش الاكتساب، وتقرشوا أي: تجمعوا، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكنًا.
قال الشاعر:
أبونا قصي كان يُدعى مُجمعًا
…
به جمع الله القبائل من فهر
وقد قيل إن قريشًا بنو فهر بن مالك بن النضر، فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي، والأول أصح وأثبت، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا» .
وقال واثلة بن الأسقع قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ، صحيح ثابت خرجه البخاري ومسلم، واختلف في تسميتهم قريشًا على أقوال: أحدها: لتجمعهم بعد التفرق،
والتقرش التجمع والالتئام، الثاني: لأنهم كانوا تجارًا يأكلون من مكاسبهم، والتقرش التكسب، الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذوي الخَلّة فيسدون خَلْته، والقَرْش: التفتيش، الرابع: ما روي عن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريشٌ قريشًا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها: القِرش تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، وأنشد قول تُبع:
وقريش هي التي تسكن البحر
…
بها سميت قريش قريشًا
تأكل الرث والسمِين ولا
…
تترك فيها لذي جناحين ريشًا
هكذا في البلاد حي قريشٍ
…
تأكلون البلاد أكلًا كميشًا
ولهم آخر الزمان نبيٌّ
…
يَكْثُرُ القتل فيهم والخموشا
[20/ 186]
(1385)
من قوله تعالى: {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2].
كانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء؛ لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام؛ لأنها بلاد باردة.
وعن ابن عباس أيضًا قال: «كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة» . وقال الشاعر:
تشتي بمكة نَعْمَةٌ
…
ومصيفها بالطائف
[20/ 189 - 190](بتصرف)
(1386)
قال مالك: «الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا» ، وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودُبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه
…
قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف. وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثًا. [20/ 190 - 191]
(1387)
لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاءً وصيفًا، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء. [20/ 191]
(1388)
من قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} [قريش: 3].
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده،
…
والبيت: الكعبة، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان؛ أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان فميز نفسه عنها.
الثاني: لأنهم بالبيت شُرفوا على سائر العرب فذكر لهم ذلك تذكيرًا لنعمته.
وقيل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} ، أي: ليألفوا عبادة رب الكعبة كما كانوا يألفون الرحلتين.
قال عكرمة: «كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بُصرى ورحلة إلى اليمن» . [20/ 191]
(1389)
من قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 4].
{مِنْ جُوعٍ} ، أي: بعد جوع، {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. قال ابن عباس:«وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]» .
وقال ابن زيد: «كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم، وقرأ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]» . [20/ 199]
(1390)
من قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} [الماعون: 2].
أي: يدفعه عن حقه.
قال قتادة: «يقهره ويظلمه» ، والمعنى متقارب.
وقد تقدم في سورة النساء أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يَطعنُ بالسنان، ويضرب بالحسام. [20/ 193]
(1391)
من قوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} [الماعون: 3].
ليس الذم عامًا حتى يتناول من تركه عجزًا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]؛ فنزلت هذه
الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم، فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا ولا يحثون عليه إن عسِروا. [20/ 194]
(1392)
من قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 5].
قال عطاء: «الحمد لله الذي قال {عَنْ صَلَاتِهِمْ} ولم يقل في صلاتهم» .
ومعنى (في) أنَّ السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. [20/ 194 - 195](بتصرف)
(1393)
من قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر: 1].
قراءة العامة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} بالعين، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف {أَنْطَينَاكَ} بالنون.
وهي لغة في العطاء؛ أنطيته: أعطيته.
والكوثر: فوعل من الكثرة، مثل: النوفل من النفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرًا.
قال سفيان: «قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثرأي بمال كثير، والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير.
قال الكميت:
وأنت كثير يابن مروان طيب
…
وكان أبوك ابنُ العقائِل كوثرا
والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع، والكوثر من الغبار الكثير. [20/ 198]
(1394)
اختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولًا:
الأول: أنه نهر في الجنة. الثاني: أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف. قاله عطاء.
وفي «صحيح مسلم» عن أنس قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «نزلت عليَّ أنفًا سورة» ؛ فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} ، ثم قال:«أتدرون ما الكوثر؟» ، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:«فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيُختلج العبد منهم، فأقول إنه من أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» .
والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ذكرناها في كتاب «التذكرة»
…
ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرًا؛ لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هناك، ويسمى لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير.
ثم قال القرطبي بعد أن ساق الأقوال في المراد بالكوثر:
قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر، وسمع أنس قومًا يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. [20/ 200]
(1395)
من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3].
{شَانِئَكَ} ، أي: مبغضك، وهو العاص بن وائل، وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات: أبتر، فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفًا؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة؛ فأنزل الله جل شأنه، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} ، أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة. [20/ 204]
(1396)
من قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 5].
قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار
إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد. [20/ 208].
(1397)
من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].
(1398)
من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} إلا يقول: «سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» ، وعنها قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» ، يتأول القرآن. [20/ 213]
(1399)
فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على كل شيء قدير» . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبًا -وقيل غير ذلك-
…
وإذا كان صلى الله عليه وسلم وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره. [20/ 214 - 215] بتصرف
(1400)
من قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1].
معنى {تَبَّتْ} : خسرت. قاله قتادة.
وقيل: خابت. قاله ابن عباس.
وقيل: ضلت. قاله عطاء.
وقيل: هلكت. قاله ابن جبير.
وقال يمان بن رئاب: «صفرت من كل خير» ،
…
وخصت اليدين بالتباب؛ لأن العمل أكثر ما يكون بهما، أي خسرتا وخسر، وقيل: المراد باليدين نفسه، وقد يعبر عن النفس باليد؛ {وَتَبَّ (1)}. قال الفراء:«التب الأول دعاء والثاني خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك» . [20/ 217].
(1401)
من قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 2].
قلت: قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد في كتاب «الأسنى» ، وأن الصحيح منها ما شهد له الاشتقاق، وهو القول الأول. ذكره الخطابي.
{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} أي: الذي يُصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس.
وقال أبو هريرة: «إنه المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد» . [20/ 225 - 226] بتصرف.
(1402)
من قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3].
قال ابن عباس: «{لَمْ يَلِدْ} كما ولدت مريم، {وَلَمْ يُولَدْ (3)} كما ولد عيسى وعزير وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله» . [20/ 227]
(1403)
ثبت في «صحيح البخاري» عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يرددها، فلما أصبح جاء إلى البني صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجال يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» .
قال بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم الذي هو {الصَّمَدُ (2)} ؛ فإنه لا يوجد في غيرها من السور، وكذلك {أَحَدٌ (1)} .
وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثًا، ثلثًا منه أحكام، وثلثًا منه وعد ووعيد، وثلثًا
منه أسماء وصفات، وقد جمعت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} أحد الأثلاث وهو الأسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في «صحيح مسلم» من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل جزأ القرآن ثلاثة أجزاء؛ فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من أجزاء القرآن» ، وهذا نص، وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص. [20/ 228].
(1404)
روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«سلوه لأي شيء يصنع ذلك» ، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أخبروه أن الله عز وجل يحبه» . [20/ 228]
(1405)
من قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1].
روى النسائي عن عقبة بن عامر، قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة (هود) أقرئني سورة يوسف. فقال لي: «لن تقرأ شيئًا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}» .
وعنه قال: بينا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ ب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ، ويقول:«يا عقبة تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما» ، قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. [20/ 234]
(1406)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها» . النفث: النفخ ليس معه ريق.
(1407)
من قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 2].
قيل: هو إبليس وذريته، وقيل: جهنم، وقيل: هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه عز وجل. [20/ 237]
(1408)
من قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)} [الفلق: 3].
قيل: هو الليل والغسق أول ظلمة الليل، {وَقَبَ} أظلم. وقيل: دخل.
وقال الزجاج: «قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العيث والفساد» . [20/ 237].
(1409)
من قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4].
يعني: الساحرات اللاتي ينفثن في عُقد الخيط حين يرقين عليها. [20/ 238]
(1410)
من قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 5].
قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته .. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون.
ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة
…
يا ظالمًا وكأنه مظلوم
قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟
وثالثها: أنه ضادَّ فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله.
ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم.
وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعًا وغمًّا، ولا ينال في الآخرة إلا حزنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلا بعدًا ومقتًا. [20/ 241].
(1411)
من قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5].
روى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خطمًا كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه.
فعلى ما وصف أبو ثعلبة أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة. [20/ 244]
وبهذا ينتهي ما تم اختياره والتقاطه من الدرر والفوائد من هذا السفر العظيم من أسفار الإسلام وهو تفسير الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-.
أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا كله صالحًا ولوجهه خالصًا والحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحمد بن صالح بن عمر بن مرشد
في مدينة الرياض
11/ 7/ 1444 هـ
ahmd577@gmail.com