الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات
تأليف: علي بن رميح بن علي الرميحي
دار التحبير للنشر والتوزيع - الرياض، السعودية
الطبعة: الأولى، 1440 هـ - 2019 م
تنبيه: وقع في المطبوع أخطاء طباعية، أرسل لنا المؤلف بتصويبها فأثبتنا الصواب [بين معكوفتين]
أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير في الفقه، من كلية الشريعة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض.
ونوقشت الرسالة عام (1439 هـ)، وتألفت لجنة المناقشة من:
1/ د. سليمان بن أحمد الملحم .... مقرراً
2/ أ. د. سعد بن تركي الخثلان .... عضواً
3/ أ. د. احمد بن محمد الخليل .... عضوا
وقد أجازت اللجنة الرسالة بتقدير ممتاز.
- أ -
تَقْديم
أ. د. سعد بن تركي الخثلان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الفقه في الدين من أجلّ المقامات وأرفعها، والتوفيق له توفيق لخير عظيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" متفق عليه، والفقه في الدين حتى يكون نافعًا للإنسان لابد أن يرتسم بمنهجية الاعتدال والارتباط بالدليل من الكتاب والسنة، والصدور عن أفهام الأئمة والعلماء الأثبات الذين تلقت الأمة علومهم بالقبول، والبعد عن الآراء الشاذة التي لا يخلو منها أي عصر.
وفي عصرنا الحاضر الذي انفتح فيه العالم بعضه على بعض عن طريق وسائل التقنية الحديثة والتواصل الاجتماعي، أصبح الترويج للآراء الشاذة وتتبعها ونشرها كبيرًا مما يضاعف المسؤولية على طلاب العلم الشرعي للتصدي وتفنيد تلك الآراء الشاذة، وتوضيح أنها غير مقبولة لدى عامة علماء الإسلام .. ، والعالِم وإن كان كبيرًا جليل القدر إلا أنه يبقى بشرًا، وقد تقع منه الزلّة .. ، وتتبع زلات العلماء ونشرها للناس مسلك خطير، وقد قال سليمان التيمي رحمه الله:(لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) نقله عنه
- ب -
الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه: جامع بيان العلم وفضله، ثم علق على مقولته بقوله:(هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا)، إلا إذا كان النشر من أجل بيان ضعفها إذا اشتهرت كما في هذه الرسالة.
وقد قام تلميذنا الشيخ: علي بن رميح الرميحي بجمع ما أمكن من "الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في قسم العبادات، ودراستها في أطروحته المقدمة لنيل درجة الماجستير من قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكنت عضوًا في لجنة مناقشة الأطروحة، وأفدت من قراءتها، ووافقته في الحكم على معظم المسائل التي أوردها بالشذوذ، وخالفته في مسائل معدودة بينتها أثناء المناقشة
…
وقد سار الشيخ علي في دراسته لتلك المسائل على منهجية رائعة؛ حيث يذكر أولًا صورة المسألة، ثم تحرير محل الشذوذ، ثم يذكر وجه شذوذ ذلك القول، ثم يذكر أقوال العلماء في المسألة وأدلة كل قول ومناقشة ما يمكن مناقشته منها، ويذكر سبب الخلاف - إن وجد، ثم حكم نسبة ذلك الرأي للشذوذ.
وقد ظهر من هذه الدراسة التي قام بها الشيخ علي أن من أبرز أسباب الوقوع في الشذوذات هو: عدم اعتبار الإجماع، وعدم الاعتبار بفهم السلف وعلماء الأمة والصدور عن آرائهم مما يجعل القائل بالرأي الشاذ مخالفة لإجماع منعقد، أو أنه محدث لقول لم يسبق إليه في مسألة تكلم عنها العلماء السابقون ولم يذكروا هذا القول .. ، وكيف يخفي الحق على علماء الأمة على مدار أربعة عشر قرنًا ثم يأتي من يحدث قوة لم يسبق إليه يزعم أن قوله يدل له الكتاب أو السنة؟!
- د -
وأين أفهام العلماء على مر العصور السابقة عن هذا الفهم؟! وقد أجمع العلماء على أنه لا يخلو زمان من قائل بالحق، وأنه لاتزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين ..
أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن ينفع بهذا الكتاب ويبارك فيه وفي مؤلفه .. وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،،
كتبه
أ. د. سعد بن تركي الخثلان
رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية
والأستاذ في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
18/ 5/ 1440 هـ
- هـ -
تَقْديم
أ. د. أحمد بن محمَّد الخليل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد قرأت البحث الذي كتبه الشيخ / علي الرميحي بعنوان:
"الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ قسم العبادات - جمعًا ودراسة" كاملًا حيث كنتُ أحد المناقشين للبحث.
ولا يخفى أن موضوع هذه الرسالة موضوعٌ مهم جدًا، لاسيما في وقتنا الحالي؛ حيث كثرت الأقوال الشاذة، بصفة لم تحدث في أي وقتٍ مضى فيما أظن.
وقد عالج الباحث الشيخ علي الرميحي موضوعَ الرسالة معالجةً علميةً دقيقةً.
وقد أعجبني نفس الباحث في بحثه، ولمست فيه البراعة في تحرير المسائل، وتحقيق الكلام فيها، بما يقل مثله في الرسائل المعاصرة.
- و -
وبالجملة فهذه الرسالة من أحسن الرسائل التي قرأتها، وفيها من الفوائد، والنقولات واللطائف، والنكت، والتحريرات الشيء الكثير الطيب.
نسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب وبكاتبه إنه سميع عليم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
. د. أحمد بن محمَّد الخليل
9/ ر بيع الآخر / 1440 ه
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين، وعلى من اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل قد أكمل لنا الدين، وحفظ الملة في مبناها ومعناها من التغيير والتبديل، فجعل في كل خلف حملة علم عدول ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ولا يخفى على كل مسلم أن التعبد والتفقه له ميزان في الشريعة، كما قال الله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(1)
، قال ابن عطية في تفسيره:(وهذه الآية تعم أهل الأهواء، والبدع، والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد)
(2)
وكلام العلماء في التحذير من الشذوذات، وإحداث الأقوال كثير
(3)
، فكل قول جديد في مسألة قديمة غير نازلة فهو هدر ولا يجوز الفتيا به ولا العمل، فلا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ولا يمكن أن يغيب الحق عن جميعهم في العصور السالفة ثم يتبين لأحدٍ ممن بعدهم من الخلف.
(1)
الآية (153) من سورة الأنعام.
(2)
المحرر الوجيز (2/ 364).
(3)
وسيأتي بعض ذلك في المطلب السادس من التمهيد، بعنوان:"خطر الشذوذ، وموقف المسلم منه".
والخلاف يكون سائغاً: إذا لم يكن في المسألة نص صحيح صريح، أو لم يكن في المسألة إجماع قديم؛ ولما ذكر السبكي مراعاة الخلاف ذكر شرط ذلك:(أن يقوى مدرك الخلاف، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع كان معدوداً من الهفوات والسقطات، لا من الخلافيات المجتهدات)
(1)
.
وقد تتابع العلماء بقولهم وفعلهم على تبيين الهفوات و الشذوذات، ولابد في الأمة من قائم بذلك، كما قال أبو العباس ابن تيمية:(فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً)
(2)
.
وإن كان الأولى دفن المقالة الشاذة وعدم إشهارها إلا إنه يقال كما قال الإمام مسلم في مقدمة الصحيح -بعد أن ذكر أن الإعراض عن القول المطّرح أولى- استدرك فقال: (غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد= أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله)
(3)
.
ولذلك فليس كل رأي شاذ يصلح أن يطرح للنقاش، إلاّ أنّه متى اشتهر هذا القول الشّاذّ، وتعلّق به أهل الأهواء، أو خُشي من ذلك؛ فإنّ في ذكره وبيان ضعف مأخذه من الكتاب والسّنة، ومن أقوال الأئمّة إسقاطًا له وإعذارًا إلى الله تعالى؛ كما كان الأئمّة يروون الأحاديث الموضوعة، ويُدوِّنونها في كتبهم، ويُصرِّحون بكذب راويها تحذيرًا
(1)
الأشباه والنظائر (1/ 112).
(2)
الفتاوى الكبرى (6/ 96).
(3)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 28).
للأمّة، ولئلاّ تُركّب الأسانيد الصّحيحة عليها، بل إنّ في هذا المسلك حراسة للدّين، ودفاعًا عن حياض الشّريعة، وسيرًا على نهج أوائل أهل السّنة والجماعة في ردّهم على كلّ مخالفٍ بمخالفته المذمومة، فلا يزهق الباطل إلاّ إذا قُذف بالحقّ كما قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}
(1)
.
وفي عصرنا هذا يتأكد الكلام السابق؛ لوجود من يروج لهذه الآراء الشاذة، ولانتشارها، ولسهولة الوصول إليها، ولاغترار بعض الناس بها، أضف إلى ذلك عدم قبول بعض العامة للتقليد وهذا هو الداء العصراني الذي فتك في كثير ممن تنكب عن توجيه ربه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
، كل ذلك وغيره يؤكد ضرورةَ طرح هذه الآراء على مائدة البحث ووزنها بالميزان العلمي، ورحم الله الشيخ بكر أبو زيد حين قال: (لما كان في الشذوذ والترخص منابذة للشرع صان السالفون دينهم وعلمهم عن ذلك
…
لكن من الندرة بمكان أن ترى الجمع منها عند إمام، ومع جلالة القائلين بها فقد تنكبها العلماء وهجروها، ونابذوا القول بها أشد منابذة حتى أصبحت غير معتبرة في دواوين الإسلام.
أما في المعاصرة فترى فواقر الرخص، وبواقر الشذوذ يجتمع منها الكُثر في الشخص الواحد، وأجواء العصر المادي على أهبة الاستعداد باحتضان عالم الشقاق، فتحمل له العلم الخفّاق لنشر صيته في الآفاق، فيغتر بذلك أسير الحظ الزائل، ومازاد أن صار بوقاً ينفخ به العدو الصائل)
(3)
.
(1)
من الآية (18) من سورة الأنبياء، وينظر: إرسال الشواظ على من تتبع الشواذ للشمراني.
(2)
من الآية (43) من سورة النحل.
(3)
التعالم ص (112 - 113).
وكل ما ذكر من اطّراح للرأي الشاذ، والتحذير منه لايعني عدمَ احترام من صدر منه الشذوذ من أهل العلم، أو ترك بقية آرائه، بل كما قال الشاطبيّ عن زلة العالم:(لاينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنّع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقتضيه رتبته في الدين)
(1)
.
وما أحسن قولَ ابن عاصم في هذا المقام:
(ولايقال إنَّه تعمّدا
…
خلاف قصد الشرع فيما اعتمدَ
وواجبٌ في مشكلات الحُكم
…
تحسيننا الظنّ بأهل العلم)
(2)
واحترام العالم، وحسن الظن به، لايمنع من أن يرد القول الذي أخطأ به أو زلَّ فيه، وذلك مقتضى عدم العصمة لهم، والرد إلى الأدلة هو السلامة، قال القرطبي:(وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع، فهو أولى من الإصرار على غير الصواب)
(3)
.
وقد كان يكفي لإسقاط بعض الأقوال: إقامة الإجماع وتثبيتُه أو تبيينُ المخالفةِ للنص الصريح، كما قال ابن تيمية:(ما علمناه بالاضطرار وقدح فيه بعض الناس بالنظر والجدل لم يكن علينا أن نجيب عن المعارض جواباً مفصلاً يبين حله، بل يكفينا أن نعلم أنه فاسد لأنه عارض الضروري وما عارضه فهو فاسد)
(4)
، إلا إن إقامتهم لبعض الاستدلالات المعتبرة وظنهم ألا إجماع في بعض المسائل، استدعى الاستدلال و المناقشة، والجواب عن الاعتراضات.
(1)
الموافقات (5/ 136).
(2)
منظومة مرتقى الوصول لابن عاصم ص (60).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 92).
(4)
مجموع الفتاوى (5/ 302).
أهمية الموضوع: تظهر في النقاط الآتية:
أولاً: ازدياد الآراء الشاذة المعاصرة وتتابعها.
ثانياً: وجود من يروج لهذه الآراء وينافح عنها.
ثالثاً: الانفتاح الإعلامي الذي سهل الوصول إلى هذه الآراء و الاقتناع بها.
رابعاً: الحاجة إلى تبيين خطأ الآراء الشاذة وعدم جواز اتباعها.
خامساً: ما سيأتي في أهداف الموضوع يبين أهميته أيضاً.
أسباب اختيار الموضوع:
تظهر بواعثُ اختياري لهذا الموضوع -إضافة لما سبق في أهميته- في النقاط الآتية:
أولاً: المدافعة عن الفقه الإسلامي من كل رأي دخيل.
ثانياً: تحذير الناس من الانسياق وراء الرأي إذا تبين شذوذه.
ثالثاً: عدم وجود رسالة سابقة في هذا الموضوع.
رابعاً: كونه جامعاً بين التأصيل و التطبيق.
خامساً: اشتمال هذا الموضوع على عدد من المسائل التي تحتاج إلى دراسة وتحرير.
سادسا: ضرورة استقصاء الفروع الفقهية المتعلقة بالموضوع ودراستها وتحليلها.
أهداف الموضوع: يهدف البحث في هذا الموضوع إلى ما يأتي:
1 -
بيان حقيقة الرأي الشاذ وضابطه.
2 -
تبيين خطأ الرأي الشاذ بالحجج والأصول الشرعية.
(3)
جمع هذه الآراء في رسالة مما يسهل الوصول إليها وإلى الحجة في ردها.
(4)
خدمة العلم و العلماء، بتقريب هذه المسائل و تبيين أوجه ضعفها.
…
(5)
التحري والإنصاف، لعل بعض ماقيل إنه شاذ، يتبين خلافه.
(6)
النصح للأمة، ببيان خطأ هذه الأقوال إذا تبين شذوذها، خصوصاً في زمننا
…
الذي سهل فيه الوصول إليها.
(7)
بيان كمال هذا الدين وأنه محفوظ.
(8)
إظهار سعة الفقه الإسلامي وقدرته على معالجة جميع القضايا قديمها وحديثها، دقيقها وجليلها.
(9)
إبراز جهود الفقهاء في التصدي لكل رأي دخيل.
(10)
تصحيح مفهوم التيسير وأنه باتباع الشرع القويم.
(11)
إثراء المكتبة الفقهية بمعالجة موضوع يمس حياة الناس وتعاملاتهم المختلفة.
الدراسات السابقة:
أولاً: أهم الدراسات العلمية ذات الصلة بالموضوع:
1) الشذوذ في الآراء الفقهية - دراسة نقدية-، للدكتور/ عبدالله السديس، رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
2)
…
الأقوال الشاذة التي حكاها ابن رشد في بداية المجتهد -جمعاً ودراسة- للشيخ/ صالح الشمراني، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى.
3) الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في الطهارة والصلاة) -جمعاً
ودراسة-، للدكتور/ تركي بن سليمان الخضيري، رسالة دكتوراه من المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام.
4 -
الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في الزكاة والصيام والحج) -جمعا ودراسة-، للدكتور/ محمد بن عبدالله الطيار، رسالة دكتوراه من المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام.
5 -
الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في المعاملات وفقه الأسرة)، للدكتور/ عمر بن علي السديس، رسالة دكتوراه من المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام.
6 -
القول الشاذ وأثره في الفتيا، تأليف أ. د. أحمد بن علي المباركي، وهذا البحث أصله محاضرة ألقيت، ثم أضاف إليها وأكملها بعد ذلك.
ثانياً: الموازنة بينها وبين موضوع الرسالة.
الرسائل العلمية السابقة في الآراء الشاذة القديمة ولم تُخصص لدراسة الآراء الشاذة المعاصرة، وغالبها تأصيل أو نقد لآراء شاذة قديمة، و لتوضيح ذلك فهذه موازنة ومقارنة بين الرسائل السابقة و موضوع هذه الرسالة:
1/ الشذوذ في الآراء الفقهية - دراسة نقدية-، للدكتور/ عبدالله السديس، رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية، وأكثر هذه الرسالة
تأصيل، ومجموع الآراء التي درسها (15) رأياً فقط وهي قديمة أيضاً، ولم يذكر من المسائل التي سأبحثها إلا مسألة واحدة وهي (عدم وجوب زكاة عروض التجارة) وسبب بحثي لها وجود من ذهب إلى هذا الرأي من المعاصرين.
2/ الأقوال الشاذة التي حكاها ابن رشد في بداية المجتهد -جمعاً ودراسة- للدكتور/ صالح الشمراني، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى، وهذه الرسالة أيضاً ليست في المسائل الشاذة المعاصرة بل التي عند ابن رشد فقط، وأجتمع معه في مسألة قديمة قال ابن رشد بشذوذها ثم أظهرها بعض المعاصرين وهي:(صحة إمامة المرأة للرجال).
3/ الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في الطهارة والصلاة) -جمعاً ودراسة-، للدكتور/ تركي بن سليمان الخضيري، رسالة دكتوراة، وجميع الآراء في هذه الرسالة قديمة وليست معاصرة، ولم ينص في المقدمة أيضاً على بحث الآراء المعاصرة، وأجتمع معه في بعض المسائل القديمة التي قيل بشذوذها ثم أظهرها بعض المعاصرين وهي:(جعل المائعات كلها كالماء إذا وقعت فيها النجاسة وأنها لاتنجس إلا بالتغير)، (وجوب غسل يدي النائم قبل غمسهما في الإناء)، (جواز قراءة الجنب للقرآن)، (بطلان صلاة من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير)، (لا إعادة للصلاة لمتعمد تركها في وقتها)، (صحة صلاة التطوع من المضطجع القادر على القيام)، (صحة إمامة المرأة للرجال)، (جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المشقة مطلقا)، (وجوب صلاة الجمعة على المسافر)، (سقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد إذا وافقت يوم الجمعة)، (جواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة)، وسبب بحثي لها كما سبق وجود من ذهب إلى هذا الرأي من المعاصرين.
4/ الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في الزكاة والصيام والحج) -جمعا ودراسة-، للدكتور/ محمد بن عبدالله الطيار، رسالة دكتوراه، وهذه كسابقتها فجميع الآراء في هذه الرسالة قديمة وليست معاصرة، ولم ينص في المقدمة أيضاً على بحث المسائل المعاصرة، وأجتمع معه في بعض المسائل وهي:(عدم وجوب الزكاة في عروض التجارة)، (عدم وجوب الصيام على من رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته)، (وجوب الكفارة دون القضاء على من جامع في نهار رمضان متعمدا)، (عدم وجوب القضاء في الحقنة والسعوط للصائم)، (جواز دخول مكة دون إحرام)، وسبب بحثي لها كما سبق وجود من ذهب إلى هذا الرأي من المعاصرين.
5/ الآراء المحكوم عليها بالشذوذ (في المعاملات وفقه الأسرة)، للدكتور/ عمر بن علي السديس، رسالة دكتوراه. وهذه أيضا كالرسالتين السابقتين فجميع الآراء قديمة وليست معاصرة، ولم ينص في المقدمة أيضاً على بحث الآراء المعاصرة، ولا أجتمع معه في أي مسألة لأنه ليس في العبادات.
6/ القول الشاذ وأثره في الفتيا، تأليف أ. د. أحمد بن علي المباركي، وأكثر هذا البحث تأصيل، ومجموع الآراء التي درسها (8) آراء فقط وهي قديمة أيضاً، ولا أجتمع معه في أي مسألة.
ثالثاً: الإضافة العلمية لموضوع الرسالة (ما انفرد به عن الدراسات السابقة).
سيضاف في هذا البحث (27) رأياً لم يبحث في الرسائل السابقة.
ومن المعلوم أن بحث الآراء الشاذة المعاصرة أولى؛ لأن القديمة بعضها ميّت ولايوجد من يقول به، بخلاف الآراء المعاصرة التي
مازال من يقول بها ينافح عنها، أو لمن قال بها طلاب يتعصبون لها، فكان لابد من طرحها للبحث العلمي، إضافة إلى الآراء القديمة التي أحياها بعض المعاصرين فإنها تبحث أيضاً، كما سيأتي في الضابط.
وهذا سرد للآراء التي انفرد بها هذا البحث:
(1)
طهارة الخمر.
(2)
طهارة الدم الكثير.
(3)
جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
(4)
تحريم ختان الإناث.
(5)
تقييد جواز المسح على الخفين بوجود الحاجة.
(6)
جواز حلق اللحية.
(7)
وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية.
(8)
القول ببدعية النقاب.
(9)
جواز التصوير المجسم لما له نفس.
(10)
سنية وضع اليدين على الصدر في الصلاة.
(11)
بدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع.
(12)
وجوب متابعة الإمام إذا زاد في صلاته وعلم المأموم بالزيادة.
(13)
وجوب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو.
(14)
بدعية الذكر بالسبحة.
(15)
عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح.
(16)
مشروعية الاقتصار على خطبة واحدة في العيد.
(17)
تحريم الذهب المحلق.
(18)
عدم وجوب زكاة الأوراق النقدية.
(19)
تحريم صيام يوم السبت.
(20)
القول بأن محاذاة الميقات كون الميقات واقعاً بين ميقاتين على خط واحد.
(21)
عودة الحاج محرماً بعد حله إذا لم يطف قبل الغروب يوم النحر.
(22)
عدم وجوب الفدية في فعل المحظور أو ترك الواجب إلا في حلق الرأس والوطء قبل التحلل.
(23)
جواز الأضحية بغير بهيمة الأنعام.
(24)
قصر جهاد الكفار على الدفع فقط.
(25)
جواز قتل نساء وأطفال الكفار إذا قتلوا نساءنا وأطفالنا.
(26)
جواز تولي الكافر رئاسة الدولة.
(27)
جواز بناء الكنائس في بلاد المسلمين.
وأما
منهج البحث وطريقته
فهو في الآتي:
(1)
أعنون المبحث بالرأي المراد بحثه.
(2)
أمهّد للمبحث إن احتاج المقام إلى تمهيد.
(3)
أصوِّر المسألة المراد بحثها تصويراً دقيقاً قبل بيان حكمها، وأحرر محل الشذوذ.
(4)
أذكر من قال بهذا الرأي من المعاصرين.
(5)
أذكر وجه شذوذه، ومن حكم عليه بالشذوذ إن وجد.
(6)
أذكر أدلة الرأي المحكوم عليه بالشذوذ، وبيان وجه الاستدلال من
الأدلة النقلية، وذكر ما يرد على الأدلة من مناقشات، وما يجاب به عنها إن كانت.
(7)
أبين مدى صحة الحكم على الرأي بالشذوذ من عدمه وبيان سبب ذلك.
(8)
الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه من أقوال السلف الصالح.
(9)
توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه.
(10)
الترجيح، مع بيان سببه وذكر ثمرة الخلاف إن وجدت.
(11)
الاعتماد على أمات المصادر والمراجع الأصيلة في التحرير والتوثيق والتخريج والجمع.
(12)
التركيز على موضوع البحث وتجنب الاستطراد.
(13)
العناية بضرب الأمثلة؛ وخاصة الواقعية.
(14)
العناية بدراسة ما جد من القضايا مما له صلة واضحة بالبحث.
(15)
ترقيم الآيات، وبيان سورها.
(16)
تخريج الأحاديث وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها - إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما - فإن كانت كذلك فأكتفي حينئذٍ بتخريجها.
(17)
تخريج الآثار من مصادرها الأصيلة، والحكم عليها.
(18)
التعريف بالمصطلحات، وشرح الغريب الوارد في صلب الموضوع.
(19)
العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم.
(20)
الترجمة للأعلام غير المشهورين عند أول ورودٍ لهم.
(21)
خاتمة البحث عبارة عن ملخص للرسالة، يعطي فكرة واضحة عما تضمنته الرسالة، مع إبراز أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث.
(22)
أتبع الرسالة بالفهارس الفنية المتعارف عليها.
وهذه تقسيمات بحث "الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات":
انتظم هذا البحث في مقدمة وتمهيد وستة فصول وخاتمة وفهارس:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره وأهدافه ومنهج البحث وتقسيماته.
التمهيد وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: المراد بالآراء.
المطلب الثاني: المراد بالمعاصرة.
المطلب الثالث: المراد بالشذوذ.
المطلب الرابع: الألفاظ ذات الصلة.
المطلب الخامس: ضابط الحكم على الرأي بالشذوذ.
المطلب السادس: خطر الشذوذ وموقف المسلم من الشذوذات.
المطلب السابع: أسباب الشذوذ الفقهي عند المعاصرين.
الفصل الأول: الآراء في الطهارة، وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: جعل المائعات كلها كالماء إذا وقعت فيها النجاسة وأنها لاتنجس إلا بالتغير.
المبحث الثاني: وجوب غسل يدي النائم قبل غمسهما في الإناء.
المبحث الثالث: طهارة الخمر.
المبحث الرابع: القول بطهارة الدم الكثير.
المبحث الخامس: جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
المبحث السادس: تحريم ختان الإناث.
المبحث السابع: جواز قراءة القرآن للجنب.
المبحث الثامن: تقييد جواز المسح على الخفين بوجود الحاجة.
المبحث التاسع: جواز حلق اللحية.
المبحث العاشر: وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية.
الفصل الثاني: الآراء في الصلاة، وفيه سبعة عشر مبحثاً:
المبحث الأول: القول ببدعية النقاب.
المبحث الثاني: جواز التصوير المجسم لما له نفس.
المبحث الثالث: سنية وضع اليدين على الصدر في الصلاة.
المبحث الرابع: بدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع.
المبحث الخامس: بطلان صلاة من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.
المبحث السادس: وجوب متابعة الإمام إذا زاد في صلاته وعلم المأموم بالزيادة.
المبحث السابع: وجوب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو.
المبحث الثامن: لا إعادة للصلاة لمتعمد تركها في وقتها.
المبحث التاسع: بدعية الذكر بالسبحة.
المبحث العاشر: عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح.
المبحث الحادي عشر: صحة صلاة التطوع من المضطجع القادر على القيام
المبحث الثاني عشر: صحة إمامة المرأة للرجال.
المبحث الثالث عشر: جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المشقة مطلقاً.
المبحث الرابع عشر: وجوب صلاة الجمعة على المسافر.
المبحث الخامس عشر: سقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد إذا وافقت يوم الجمعة.
المبحث السادس عشر: مشروعية الاقتصار على خطبة واحدة في العيد.
المبحث السابع عشر: جواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة.
الفصل الثالث: الآراء في الزكاة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحريم الذهب المحلق.
المبحث الثاني: عدم وجوب زكاة عروض التجارة.
المبحث الثالث: عدم وجوب زكاة الأوراق النقدية.
الفصل الرابع: الآراء في الصيام، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: عدم وجوب الصيام على من رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته.
المبحث الثاني: الاعتماد على الحساب في دخول الشهر.
المبحث الثالث: وجوب الكفارة دون القضاء على من جامع في نهار رمضان متعمدا.
المبحث الرابع: عدم وجوب القضاء في الحقنة والسعوط للصائم.
المبحث الخامس: تحريم صيام يوم السبت.
الفصل الخامس: الآراء في الحج، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: جواز دخول مكة دون إحرام.
المبحث الثاني: القول بأن محاذاة الميقات كون الميقات واقعاً بين ميقاتين على خط واحد.
المبحث الثالث: عودة الحاج محرماً بعد حله إذا لم يطف قبل الغروب يوم النحر.
المبحث الرابع: عدم وجوب الفدية في فعل المحظور أو ترك الواجب إلا في حلق الرأس والوطء قبل التحلل.
المبحث الخامس: جواز الأضحية بغير بهيمة الأنعام.
الفصل السادس: الآراء في الجهاد، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: قصر جهاد الكفار على الدفع فقط.
المبحث الثاني: جواز قتل نساء وأطفال الكفار إذا قتلوا نساءنا وأطفالنا.
المبحث الثالث: جواز بناء الكنائس في بلاد المسلمين.
المبحث الرابع: جواز تولي الكافر رئاسة الدولة.
الخاتمة: وفيها خلاصة البحث وأهم ما في البحث من نتائج، وما يظهر خلاله من توصيات.
الفهارس، وهي:
فهرس الآيات،
…
فهرس الأحاديث،
…
فهرس الآثار.
فهرس الأعلام،
…
فهرس المصادر والمراجع،
…
فهرس الموضوعات.
وفي الختام، فالحمد لله على التمام، والحمدلله الذي يسّر وأعان على إكمال هذه الرسالة، وأسأله سبحانه أن يبارك فيها، ثم أتوجه بالشكر والثناء على كل من أسدى إليّ معروفاً وأخص منهم والديّ الكريمين، ومشايخي الأجلّاء، وجميع إخواني الذين شجعوا وأعانوا ولو بشطر كلمة فجزاهم الله خيراً جميعاً، وشكر الله لمشرف هذه الرسالة الشيخ د. سليمان الملحم وقد رأيت من دقته ونصحه الشيء الكثير -جزاه الله خيراً-، كما أشكر القائمين على كرسي الشيخ د. عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين لدراسات الإفتاء على دعمهم لي، والشكر موصول لجامعتنا العريقة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وكلياتها والعاملين بها والدارسين، أدام الله نفعها، وجعلها منارة خير وبركة على الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
التمهيد، وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: المراد بالآراء
المطلب الثاني: المراد بالمعاصرة
المطلب الثالث: المراد بالشذوذ
المطلب الرابع: الألفاظ ذات الصلة
المطلب الخامس: ضابط الحكم على الرأي بالشذوذ
المطلب السادس: خطر الشذوذ، وموقف المسلم من الشذوذات
المطلب السابع: أسباب الشذوذ الفقهي عند المعاصرين
(يأبى اللَّه العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطإ المرء في كثير صوابه).
ابن رجبالقواعد (1/ 4)
المطلب الأول: المراد بالآراء
(1)
:
الآراء في اللغة: جمع رأي و (الرأي: رأيُ القلب، ويُجمع على الآراء)
(2)
، (يقال: مَا أضلّ آراءهم وما أَضلَّ رأْيهم)
(3)
، و (تقول من رأي القلب: ارتأيت)
(4)
، وأما رؤية البصر فتقول: رأيته بعينيّ رؤية
(5)
، فالكلمة مادتها (تدل على نظر وإبصار بعين أو بصيرة)
(6)
.
و (العرب تفرّق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا - لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين - رأياً، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات؛ فلا يقال لمن رأى بقلبه أمراً غائباً عنه مما يحس به أنه رأيه، ولا يقال أيضاً للأمر
(1)
سيكون الكلام في هذه المقدمات على سبيل الاختصار والإيجاز فقد كُتب فيها مايفي بالمطلوب، ومن أراد التوسع فليرجع إلى: القول الشاذ وأثره في الفتيا للمباركي، الشذوذ في الآراء الفقهية للسديس، إرسال الشواظ على من تتبع الشواذ للشمراني، الفتوى الشاذة لوليد الحسين، مقدمة رسالة الآراء الشاذة في أصول الفقه للنملة، مقدمات الرسائل العلمية الثلاث في الآراء الفقهية المحكوم عليها بالشذوذ، وغيرها مما يتعلق بالمقدمات النظرية، ومقصود هذه الرسالة الأكبر هو الدراسة التطبيقة لبعض الآراء المعاصرة وعرضها على معيار الشذوذ.
(2)
العين (8/ 306)، وانظر: تهذيب اللغة (15/ 227).
(3)
تهذيب اللغة (15/ 227).
(4)
العين (8/ 307)، جاء في المغرب في ترتيب المعرب ص (179):("والرأي" ما ارتآه الإنسان واعتقده)، وقال الراغب في المفردات ص (374):(اعتقاد النّفس أحد النّقيضين عن غلبة الظن). وانظر: تاج العروس (38/ 109).
(5)
انظر: المرجع السابق، تهذيب اللغة (15/ 227)، لسان العرب (14/ 295).
(6)
مقاييس اللغة (2/ 472).
المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأي، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها)
(1)
.
والرأي في الاصطلاح: (القول الصادر عن اجتهاد ونظر في أمارة أو دلالة مستنبطة)
(2)
، و (وقيل: الرأي هو القياس؛ ولهذا سمي أصحاب أبي حنيفة أصحاب الرأي)
(3)
، فهو المقابل للنص ولهذا (يقال: أقلت هذا برأيك أم بالنص؟ فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر، وذلك يدل على أن الرأي لا يتناول القول بالنص جليًا كان أو خفيًا
…
[و] يسمى أصحاب القياس كأصحاب أبي حنيفة أصحاب الرأي، ويجعلونه مقابلًا لأصحاب الحديث)
(4)
.
(1)
إعلام الموقعين (1/ 53).
(2)
المعتمد في أصول الفقه (2/ 335 - 336).
(3)
رسالة في أصول الفقه للعكبري ص (125).
(4)
نهاية الوصول في دراية الأصول (7/ 3110).
المطلب الثاني: المراد بالمعاصرة:
المعاصرة في اللغة: مأخوذة من العصر وهو الدهر والحين
(1)
، (عاصرت فلاناً معاصرة وعِصاراً، أي: كنت أنا وهو في عصرٍ واحد، أو أدركت عصره)
(2)
.
والمقصود بالمعاصرة في هذا البحث، أي: الواقعة في الزمن الحاضر، وقد حدد بعضهم بداية المعاصرة من سنة (1250 هـ)
(3)
تقريباً، ومن أبرز معالمها: إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم في كثير من الديار الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية وهذا مما يُحزن، ومما يفرح طباعة أمات الكتب الفقهية، وكتب السنة وشروحها وغير ذلك
(4)
.
ومنهم من جعل بدايتها سنة (1355 هـ)
(5)
، ومن أبرز معالمها: الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي ونشوء المجامع الفقهية، والتجديد في أسلوب تدريس الفقه والتأليف فيه بقيام الجامعات الإسلامية، والانفتاح
(1)
انظر: العين (1/ 292)، تهذيب اللغة (2/ 211)، مقاييس اللغة (4/ 341).
(2)
التكملة والذيل والصلة للصغاني (3/ 117)، وانظر: تاج العروس (13/ 73)، قال الزبيدي:(ومنه قولهم: المعاصَرَة معاصَرَة، والمُعَاصِرُ لا يُنَاصِر)، وقال (1/ 93):(المعاصرة كما قيل حجاب)، يعني: عن رؤية الفضائل.
(3)
كما حدده د. عمر الأشقر في كتابه "تاريخ الفقه الإسلامي"، قال في ص (185):(الدور السادس: الفقه في العصر الحاضر، الدور الأخير يبدأ من النصف الثاني للقرن الثالث عشر الهجري، ويمتد إلى أيامنا هذه).
(4)
انظر: المرجع السابق.
(5)
جاء في فهرس المدخل الفقهي العام للزرقاء (1/ 654): (الدور الفقهي الثامن 1355 هـ-الآن).
على المذاهب والاهتمام بالفقه المقارن وغيرها
(1)
.
ومن الباحثين من حددها بعد ذلك بقليل، من الثمانينات في القرن الماضي، أي: بعد (1380 هـ)، وهي بداية الظهور الفعلي للمظاهر العلمية التي لها تأثير واضح في الفتيا المعاصرة، كبروز المؤسسات العلمية الشرعية من جامعات ومعاهد، وقيام المجامع الفقهية، وتنظيم المؤتمرات المتعلقة بالجوانب الشرعية، فهذه العوامل وغيرها أسهمت في صبغ هذه المرحلة بصبغة خاصة معاصرة
(2)
، ولن يخرج البحث عن نطاق هذه التحديدات وما قاربها، وأقدم رأي تمت دراسته هو لمحمد عبده (ت 1323)، على أنه لم ينفرد به، بل تابعه بعض من هو على قيد الحياة إلى كتابة هذه الأحرف.
(1)
انظر: المدخل الفقهي العام (1/ 247 - 256).
(2)
انظر: الفتيا المعاصرة للمزيني ص (35).
المطلب الثالث: المراد بالشذوذ:
الشاذ في اللغة: (يدل على الانفراد والمفارقة، شذّ الشيء يشذ شذوذاً)
(1)
، و (شذَّ الرجل من أصحابه، أي: انفرد عنهم. وكل شيء منفرد فهو شاذ)
(2)
.
وأما الشاذ في الاصطلاح
(3)
: فـ (هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ)
(4)
، هكذا قال ابن حزم، ثم ضبط مخالفة الحق بقوله:(فكل من أداه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن، إلى قول ما ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان، ومن خالفه فقد خالف الحق)
(5)
.
لكن قوله: (من أداه البرهان من النص
…
ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان)، لايسلّم به، والمنازعة هي في وجود ذلك في الواقع، فلا يوجد نص لا يتطرق إليه احتمال وتتنكب الأمة كلها عنه، هذا لا يمكن ولا يكون إلا لنسخه أو لضعف في الثبوت أو الدلالة فلم يعد نصّاً ملزماً، ولا تجتمع الأمة على مخالفة الحق، وضبطه لمخالفة الحق: بمخالفة النص أو الإجماع هو
(1)
مقاييس اللغة (3/ 180).
(2)
العين (6/ 215)، وانظر: تهذيب اللغة (11/ 186)، لسان العرب (3/ 495).
(3)
يأتي مصطلح الشاذ في القراءات، وفي الحديث، وفي اللغة، وكلها غير مرادة هنا، وإنما المقصود الشذوذ في الفقه.
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (5/ 87).
(5)
المرجع السابق (5/ 88).
الذي مشيت عليه في البحث، وهو أضبط من غيره كما سيأتي في المطلب الخامس.
ولايرد على قوله في التعريف: (مخالفة الحق) أنه غير مانع بدخول الآراء الضعيفة والمرجوحة وأنها مقابلة للحق؛ لأنه ضبط ذلك بمخالفة الإجماع أو النص، ولا يقال بأنه غير جامع بإيراد الشذوذ المذهبي
(1)
؛ فالأصل والسياق كله في الشذوذ العام ولذلك ذكر أن من خالف النص أو الإجماع فقد خالف الحق فهذا سياقه، وهو الأصل في حديث ابن حزم وغيره من أساطين الوفاق والخلاف أن حديثهم عن الشذوذ العام، لكنه قد يرد عليه أن تعريفه لفظي فيه إبدال لفظ بلفظ أشهر منه؛ لأن مخالفة الحق هو الباطل المرادف للشاذ
(2)
، وفي التعريف المختار خروج من ذلك.
وقد قيل بأن: (الشاذ: عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها، ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده وهو الشذوذ)
(3)
، لكن الخروج الأكبر من الإجماع هو الخروج عنه بعد انعقاده وانقراض أهله، كما أن الخروج عن الإجماع بعد الدخول فيه (هذا المعنى لو وجد=نوع من أنواع الشذوذ وليس حداً للشذوذ)
(4)
، فلا يُسلّم بهذا التعريف.
و (قيل: هو قول الواحد، وترك قول الأكثر)
(5)
، لكن القلة والكثرة ليست معياراً للشذوذ مالم يُخالف إجماعاً، فلو تفرد عالم بقول نصره
(1)
انظر: الآراء الشاذة في أصول الفقه (1/ 87).
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
المستصفى ص (147)، قال ابن حزم في الإحكام (5/ 87):(وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا).
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (5/ 87).
(5)
البحر المحيط (6/ 489).
بالدليل وبفهم سلفي له، فهو الحق ولو كان قائله واحداً، كما قال ابن القيم:(وأما قول ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله فليس بشاذ، ولو ذهب إليه الواحد من الأمة؛ فإن كثرة القائلين وقلتهم ليس بمعيار وميزان للحق يعير به ويوزن به، وهذه غير طريقة الراسخين في العلم وإنما هي طريقة عامية تليق بمن بضاعتهم من كتاب الله والسنة مزجاة، وأما أهل العلم الذين هم أهله فالشذوذ عندهم والمخالفة القبيحة هي الشذوذ عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومخالفتها، ولا اعتبار عندهم بغير ذلك ما لم يجمع المسلمون على قول واحد، ويعلم إجماعهم يقيناً فهذا الذي لا تحل مخالفته)
(1)
.
والتعريف المختار للرأي الفقهي الشاذ هو:
الاجتهاد المخالف للنص الصحيح الصريح أو الإجماع الثابت
(2)
.
فـ (الاجتهاد) يخرج القول الصادر عن النص أو الإجماع، و (النص) يخرج ما خالف الظاهر أو المجمل، ولم يخالف إجماعاً، و (الصحيح) يخرج ما خالف النص الضعيف في ثبوته، ولم يخالف إجماعاً، و (الإجماع الثابت) يخرج ما خالف الإجماع غير المتحقق، إذا ثبتت المخالفة.
ومخالفة الإجماع هي أكثر ماورد في البحث بل لايكاد يوجد غيرها، وقد ينضم معها مخالفة النص، فيكون الشذوذ من جهتين، ومما حرصت عليه في البحث أني لا أسلّم بأي مخالفة ترد على الإجماع حتى
(1)
الفروسية ص (300).
(2)
وهو الموافق لتعريف ابن حزم، وممن ارتضى هذا التعريف من الباحثين المعاصرين أ. د. وليد الحسين، في بحثه"الفتوى الشاذة" ص (18) حين قال:(والتعريف الذي أراه يبين حقيقة الشاذ ويسلم من الاعتراضات هو: مخالفة النص الصريح أو الإجماع) انتهى.
أتحقق من ثبوت المخالفة عمن قالها، ثم بعد الثبوت يُنظر في وجه قوله، ولا يكتفى بنقل قيل فيه: أنه خالف فلان، فكم من قول قيل بمخالفته للإجماع ثم يتبين بعد الوقوف عليه من مصدره الأعلى أنه لا يعارضه من كل وجه، وإهدار الإجماع ليس بأهون من إهدار القول الذي لم يثبت، وحمل القول المحكي على الإجماع إن كان له محمل صحيح أولى من حمله على مخالفة الإجماع.
وقد قال أبو العباس ابن تيمية: (والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه، ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله)
(1)
، وهذه العبارة تتأكد عندما يعود هذا المنقول على أصل من الأصول الشرعية بالبطلان
(2)
، فلا نترك الدليل الشرعي القائم لخلاف منقول لم نتحققه، و لايُعارَضُ المعلومُ بالموهوم، فليس كل ماينقل عن العلماء صحيحاً، وليس كل ماصح عنهم يكون صريحاً في المسألة المراد بحثها، وقد يُنسب إلى العالم بلازم قوله أو فعله أو سكوته مالا يلتزمه، فيقع الخطأ عليه والتتابع على ذلك الخطأ، فالوقوف على نص الأئمة أولى
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 246).
(2)
التثبت من صحة ودلالة المنقول عن العلماء يتأكد في مواطن منها: إذاكان المنقول مخالفاً لإجماع محكي، أو كان المنقول مخالفاً لأصول هذا العالم، أو كان هذا يخالف المشهور عنه، أو كان كلامه في غير سياق المسألة، أو نقله غير أصحابه عنه، أو كان هذا العالم من غير الأئمة الأربعة الذين لهم أصحاب يدفعون مالايصح عنه، أو كان هذا المنقول من غير تحرير العالم في كتاب قد ألفه، ونحو ذلك.
(3)
يقول ابن الملقن في الإعلام (1/ 654): (فاحذر التقليد في النقول فإنه مذموم)، ولمحمد عوامة رسالة في "التحذير من التوار على قول دون الرجوع إلى مصادره، قال في مقدمته ص (7): (
…
أركز على تحريفات حصلت لبعض الأئمة القدامى؛ لاطمئنان الباحث إلى نقول المتقدمين
…
).
ثم إن هناك معنى لطيفاً يستدعي التحقق من نسبة الأقوال إلى بعض الأئمة والعلماء غير الأئمة الأربعة المتبوعين، نبّه إليه ابن رجب في قوله:(مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة)
(1)
.
تنبيه: يطلق بعض الفقهاء الشاذ ويريدون به الشذوذ في المذهب، وليس الشذوذ العام بمخالفة الإجماع، نحو ما قال النووي:(قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيءٍ وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب، ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصاً له)
(2)
، فهذا شاذ بالنسبة إلى المذهب، ويعني مخالفة الراجح فيه، أو مخالفة الجمهور منهم، أو مخالفة نص الإمام، وكل ذلك مما لايدخل في البحث، و (قد يكون القول شاذاً بالنسبة لمذهب، ولكنه غير شاذ بالمعنى العام بل قد يكون رأياً صحيحاً ومعتبراً وذا دليل قوي في مذهب آخر)
(3)
، بل قد يطلق بعض العلماء الشذوذ على رأي ويتبين بعد البحث عدم شذوذه، كما سيأتي في البحث، ومن أسباب ذلك خفاء قول للسلف عن العالم الذي حكم على القول بالشذوذ فيظن أن المسألة إجماعية، أو كون العالم الذي حكم على القول بالشذوذ يرى أن مخالفة الجمهور شذوذ.
(1)
مجموع رسائل ابن رجب (2/ 226).
(2)
المجموع (1/ 47).
(3)
القول الشاذ وأثره في الفتيا ص (68).
المطلب الرابع: الألفاظ ذات الصلة
(1)
:
الرأي الشاذ إذا ثبت شذوذه بمخالفته للإجماع أو النص، فإنه غير معتبر ويكون وجوده كعدمه، وقد يصف بعض العلماء الرأي بغير الشذوذ ومراده أنه غير معتبر، وذلك يصدق على الشاذ، وإن وصف بألفاظ غير لفظ الشذوذ، ومن ذلك:
1.
الباطل والفاسد: قال الجويني: (وأما الباطل والفاسد: فهما في اللغة بمعنى العدم
…
فإذا أضيف الفساد أو البطلان إلى حاصل موجود فعلى معنى سقوط حكمه، ونفي الاعتداد به في المراد
…
كل واحد منهما يستعمل فيما لا يقع موقعه؛ فيكون كأنه لم يوجد)
(2)
.
- مثاله في البحث: قال ابن حزم (ت 456): (وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل)
(3)
، وقال ابن دقيق العيد في التصوير المجسم (ت 702): (وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور. ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على
(1)
لايخفى أن بعض هذه الألفاظ أعم أو أخص من معنى الشاذ، والسياق يحكم في كثير من الحالات على إرادة الشاذ أو غيره، ومن أرد التوسع في معرفة الفروق بين هذه الاصطلاحات ومصطلح الشاذ فيراجع مقدمة رسالة "الآراء الشاذة في أصول الفقه" للدكتور علي النملة.
(2)
الكافية في الجدل ص (44).
(3)
رسائل ابن حزم (3/ 210).
الكراهة
…
وهذا القول عندنا باطل قطعاً)
(1)
.
2.
المطّرح والساقط: لما تكلّم الإمام مسلم عن الرأي المطّرح في مقدمة الصحيح وذكر أن الإعراض عن القول المطّرح أولى؛ لإماتته، استدرك فقال:(غير أنا لمّا تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطإ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء= رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد؛ أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله)
(2)
.
- مثاله في البحث: قال أبو العباس القرطبي (ت 656) بعدما ذكر تحريم استعمال آنية الذهب والفضة: (وروي عن بعض السلف إباحة ذلك. وهو خلاف شاذٌّ مطرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب)
(3)
، وقال ابن العربي (ت 543) عن حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الآخر:(وشذَّ الشّافعيّ في ذلك فقال: من لم يصلِّ على النبي بعد التشهد الآخر، وقبل السّلام فصلاته فاسدة، وإن صلّى عليه قبل ذلك، لم يجزه. وهذا قول ساقط)
(4)
.
3.
المردود: قال ابن تيمية: (المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقًا)
(5)
، وقال ابن القيم: (ومعلوم أن المردود هو الباطل
(1)
إحكام الأحكام (1/ 371)، وقال صاحب عون المعبود (3/ 288)، عن قول الشوكاني في سقوط الجمعة والظهر عمن صلى العيد:(هذا قول باطل).
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 28).
(3)
المفهم (5/ 345)، وفي الحاوي للماوردي (8/ 387) قال عن قول:(وهذا قول شذ به عن الكافة فكان مطرحاً).
(4)
المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 159).
(5)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 434).
بعينه بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه أو لما منفعته قليلة جدا وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئا ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً)
(1)
.
- مثاله في البحث: قال الرملي (ت 957) عن قول السبكي في رد شهادة من رأى الهلال: (وما قاله السبكي مردود رده عليه جماعة من المتأخرين
…
وجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية)
(2)
.
4.
الخطأ والغلط: قال الجويني: (والخطأ هو: تخطي المقصود، وهكذا معنى الغَلَط، وهو: الباطل والفاسد. والباطل والفاسد والغلط: اسم لما قبح من الأفعال في الشريعة، وقد يوصف بالخطأ والغلط مالا يوصف بالقبح، لكن لا يوصف بالبطلان في الشريعة إلا ما قبح)
(3)
.
مثاله في البحث: قول السبكي (ت 756): (فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة
…
وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيراً، ولا سيما في الديار المصرية ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه، وذلك
(1)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 169) المطبوع مع عون المعبود.
(2)
نهاية المحتاج (3/ 153)، وسيأتي تفصيل قول السبكي في محله من كتاب الصيام، وإن احتمل قول الرملي الرد في المذهب، فقد قال صالح اللحيدان:(القول برد الشهادة لقول الحاسب قول مردود كفانا السلف الصالح مؤنة معاناة رده، وحكوا لنا الإجماع على ذلك، وما وجد من شذوذ بعد الإجماع فهو مردود لا يعول عليه). مجلة البحوث العلمية العدد (27) ص (110).
(3)
الكافية في الجدل ص (59).
خطأ بإجماع المسلمين)
(1)
، وقال النووي عن قول من قال بأن المُحرّم في آنية الذهب والفضة هو الشرب فقط دون الأكل وغيره:(وهذا الذي قاله غلط فاحش)
(2)
.
5.
…
وقد يوصف القول الشاذ بالمتروك أو المهجور أو المنكر أو أو لاوجه له أو لايعرج عليه: وقد جمعها ابن عبدالبر (ت 463) بقوله عمن قال بسقوط الجمعة والظهر عمن شهد العيد: (أما القول الأول: إن الجمعة تسقط بالعيد ولا تصلى ظهراً ولا جمعة= فقول بيّن الفساد وظاهر الخطأ، متروك مهجور لا يعرج عليه)، وقال: (وقد روي في هذا الباب عن ابن الزبير وعطاء قول منكر أنكره فقهاء الأمصار ولم يقل به أحد منهم
…
لا وجه فيه عند جماعة الفقهاء وهو عندهم خطأ إن كان على ظاهره
…
وعلى أي حال كان فهو عند جماعة العلماء خطأ وليس على الأصل المأخوذ به)
(3)
، ثمانية أوصاف جمعها تشنيعاً على القول!
6.
…
وقد يوصف القول الشاذ بالضلال أو البدعة بل الكفر، وهذا أشد مما سبق، ولا يخلو من مبالغة، وهو نادر، إلا إنه مهما يكن من وصف فإن المعتبر عند الباحث هو تحقق معيار الشذوذ بمخالفة الإجماع الثابت أو النص الصريح الصحيح، وقد وُجد في البحث
(1)
فتاوى السبكي (2/ 369)، وقال الماوردي في الحاوي (9/ 564) عن قولٍ للإصطخري:(وهذا الذي قاله خطأ؛ لأن النص يدفعه).
(2)
المجموع (1/ 249)، وقال ابن باز في فتاوى نور على الدرب (8/ 277):(قول من كتب في صفة صلاة صلى الله عليه وسلم: إن وضعهما على الصدر بعد الركوع بدعة= قول غلط، وهو قول أخينا في الله الشيخ ناصر الدين الألباني، قد غلط في هذا، وهو علامة جليل، مفيدة كتبه، لكن كل يغلط وله أغلاط معدودة).
(3)
الاستذكار (2/ 385).
ما وصف مجازفة بالكفر، ومع ذلك فقد خرج عن الشذوذ لعدم مخالفته للإجماع لكنه بقي مرجوحاً
(1)
.
(1)
انظر: المبحث الثامن من الفصل الثاني، في الكلام على مسألة:(لا إعادة للصلاة لمتعمد ترك أدائها في وقتها).
المطلب الخامس: ضابط الحكم على الرأي بالشذوذ:
قال القرافي: (كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح، لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى)
(1)
.
وقد حث القرافي بعد كلامه السابق على تتبع هذه المسائل بقوله: (فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به)
(2)
.
ومن خلال كلام القرافي السابق وكلام غيره من العلماء
(3)
، يتبين أن الرأي يوصف بالشذوذ في الحالات الآتية:
1.
إذا كان على خلاف النصوص الصحيحة الصريحة بلا حجة معتبرة.
2.
إذا كان قد سُبق بإجماع صحيح.
3.
إذا كان الرأي فيه انفراد ومخالفة لعامة العلماء مع ضعف المأخذ.
4.
إذا كان مخالفاً لأصول الشّريعة وقواعدها العامة.
لكنَّ ثالث ورابع الحالات لايسلَّم بكونهما ضابطاً مستقلاً للرأي الشاذ، ويمكن أن نردهما للضابطين الأولين، فالانفراد مع ضعف المأخذ
(1)
الفروق للقرافي (2/ 109).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر: القول الشاذ وأثره في الفتيا ص (77).
إما أن يكون مخالفاً للنص أو للإجماع، فيكتفى بهما، وسبق التنبيه على أن القلة والكثرة ليست معياراً للشذوذ مالم يُخالف إجماعاً، وكذلك مخالفة أصول الشريعة إما أن يكون هذا الأصل مؤيداً بالنص أو بالإجماع، فيكتفى بهما، وإن لم يكن كذلك فقد يجعله بعضهم ضابطاً لمعرفة الرأي الشاذ، وقد يكون كذلك متمسكاً لمن أخذ بالرأي الشاذ في مقابل النص أو الإجماع، كمن يتمسك بالتيسير في معارضة النص أو الإجماع.
ضابط الرأي الشاذ في هذه الرسالة:
يمكن أن تختصر الحالات السابقة بحالتين ترجع إليهما جميع الحالات وينضبط بهما الحكم على الرأي بأنه شاذ وهما محل اتفاق على النكير على من خالفهما، وهما:
1.
مخالفة النص الصريح الصحيح بلا حجة معتبرة
(1)
.
2.
مخالفة الإجماع الثابت.
الضابطان السابقان هما الأصل، وماحكم عليه العلماء بالشذوذ
(2)
، ثم وُجد من يقول به من المعاصرين، فإنه يبحث في موافقته لمعيار الشذوذ ويختبر على الضابطين، قال أبو العباس ابن تيمية:(فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً)
(3)
، وقال ابن
(1)
قال الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 339): (اعلم أن النسخ، قد يعلم بصريح النطق
…
وقد يعلم بالإجماع، وهو: أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر، فيستدل بذلك على أنه منسوخ؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ).
(2)
أغلب مافي الرسالة محكوم عليه بالشذوذ، وفيه مسائل قليلة لم أجد من حكم عليها بالشذوذ، لكني وجدتها مخالفة لإجماع محكي، ولا يخفى أنه لا يلزم التسليم بالحكم عليها بالشذوذ أو مخالفتها للإجماع، لكنها تدرس ليتبين مدى صحة الحكم عليها بالشذوذ أو مخالفة الإجماع.
(3)
الفتاوى الكبرى (6/ 96).
القيم: (فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً)
(1)
، بل حتى لو كان هذا في حكم القاضي فإنه ينقض كما قال الشاطبي:(ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع، مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر، ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين)
(2)
.
والذي يدخل في البحث من آراء المعاصرين:
- الرأي الجديد المخالف للإجماع أو النص الصريح أو المحكوم عليه بالشذوذ.
- الرأي القديم المحُكوم عليه بالشذوذ، إذا أحيا ذكره بعض المعاصرين باختياره له.
ومن الضوابط المهمة: أنه لا يُتعرض بهذه الدراسة لكل ساقط من القول، وإنما المعنيُّ بهذه الدراسة: أهل العلم وحملته ممن صدر عنهم ما يمكن أن يكون شذوذاً، واشتهر هذا القول إما: بشهرة صاحبه
(3)
، أو بالتأليف فيه والمنافحة عنه، أو بكثرة ترداده بين الناس وانتشاره.
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 223 - 224).
(2)
الموافقات (5/ 138).
(3)
بعض العلماء في زماننا الأصل في أقواله الشهرة كابن عثيمين والألباني -رحمهما الله-.
المطلب السادس: خطر الشذوذ، وموقف المسلم من الشذوذات:
أما خطر الشذوذ: فمما يبينه قول عمر رضي الله عنه لزياد بن حدير: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين)
(1)
، وقول ابن عباس رضي الله عنهما:(ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك ثم يمضي الأتباع)
(2)
، فيؤخذ منهما أن الشذوذ:
فيه من النسبة إلى دين الله ماليس منه، وفيه إرباك للناس وتذبذب، قال ابن القيم:(ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها)
(3)
، ومايكون في ذلك من تضييع الشريعة، وذهاب هيبة العلماء، وفساد ذمم الناس، وتعريض المفتي نفسه لسخط الله، وولوج الإفتاء من ليس أهلاً له
(4)
، قال الشاطبي: (ولهذا تُستعظم شرعاً زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى
(1)
أخرجه الدارمي (220) قال: أخبرنا محمد بن عيينة، أنبأنا علي هو ابن مسهر، عن أبي إسحاق، عن الشَّعبي، عن زياد بن حدير به، قال ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 423):(روى الإسماعيلي -أيضًا- من طرق جيدة عن الشَّعبي) فذكره، وقال (3/ 78): (فهي صحيحة من قول عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البيهقي في المدخل (835)، وابن عبدالبر في جامع في بيان العلم وفضله (1877)، من طريق حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد، عن أبي العالية عن ابن عباس به.
(3)
إعلام الموقعين (2/ 133).
(4)
انظر: الفتوى الشاذة للحسين ص (39 - 40).
الاقتداء، فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلاً؛ لأنه موضوع مناراً يهتدى به، فإن عُلم كون زلته زلة؛ صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسياً به، وتوهموا فيها رخصة علم بها، ولم يعلموها هم تحسيناً للظن به، وإن جهل كونها زلة؛ فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه)
(1)
، وقال معتذراً للعلماء:(وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة"، وذكر منها أمثلة، ثم قال: "فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آمادا متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه"، وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يتقلد، وقولاً يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل)
(2)
.
هذا في الزلة أو الشذوذ غير المقصود أما من تتبع الشذوذات والزلات فقد اجتمع فيه الشر، كما قال سليمان التيمي (ت 177):(لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشرَّ كله)
(3)
، قال ابن عبدالبر:(هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً)
(4)
، واتباع الشذوذات
(1)
الموافقات (4/ 88 - 89).
(2)
المرجع السابق (5/ 136).
(3)
أخرجه ابن الجعد في مسنده (1319)، وأبونعيم في الحلية (3/ 32)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1766)، بل جاء عن الأوزاعي أنه قال:(من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) أخرجه البيهقي في الكبرى (20918).
(4)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 927).
علامة على هوى وضلالة كما قال الدارمي (ت 280): (إن الذي يريد الشذوذ عن الحق، يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلّاتهم، والذي يؤم الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدل بهما على اتباع الرجل، وعلى ابتداعه)
(1)
.
و (لا يكون إماماً فِي العلم من أخذ بالشاذ من العلم)
(2)
، وفي ذلك قصة لطيفة فيها عبرة، ذكرها المازري (ت 536) عن نفسه، فقال:(وأذكر إذ كنت مراهقاً للبلوغ بين يدي أستاذي وإمامي، وكان أول يوم من شهر رمضان، وبات الناس على غير نية الصيام، فقلت: لا أقضي هذا اليوم على مذهب بعض أصحاب مالك في رواية شاذة، فأخذ بأذني أستاذي، فقال لي: إن قرأت العلم على هذا فلا تقرأه، إن اتبعت بنيات الطريق جاء مثل زنديق. بهذا اللفظ)
(3)
.
وموقف المسلم من الشذوذات
(4)
، يتلخص في الآتي:
1.
عدم اعتماد الرأي الشاذ
(5)
.
(1)
الرد على الجهمية ص (124).
(2)
قاله عبدالرحمن بن مهدي، كما أخرجه ابن أبي خيثمه في تاريخه (1/ 227)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1539) وغيرهما.
(3)
ثم قال المازري: (فأنت ترى أيمتنا الذين كانوا يخافون الله، يبالغون في النكير على المتساهل في الدين، والخروج عن مذهب مالك) انتهى، وهذه القصة وإن كانت في الخروج عن مذهب مالك إلا إنها في الخروج عن جميع المذاهب أولى، وبخاصة إذا كان الخروج بانتقاء الشاذ وتركيبه على الواقع كما في القصة، أورد هذه القصة البرزلي في فتاويه (1/ 87) نقلها عن أسئلة المازري، وفتاوى البرزلي جمع واختصار لفتاوى من قبله من مصادر كثيرة، وبعضها من فتاويه، وسماها:"جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكّام".
(4)
انظر: القول الشاذ وأثره في الفتيا ص (89)، تحت موضوع: المنهج الرشيد للتعامل مع الأقوال الشاذة.
(5)
قال الشاطبي في الموافقات (5/ 136 - 138): (زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له
…
[و] لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية)، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 133):(فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه، وكلاهما مفرط فيما أمر به).
2.
العدل في الحكم على صاحبه
(1)
.
3.
عدم إشاعته ونشره، إلا لبيان ضعفه إذا انتشر
(2)
.
(1)
قال ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 93): (الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين)، وقال الذهبي في السير (5/ 271):(الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه).
(2)
وقد سبق قول الإمام مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 27) عن القول المطّرح، وقال ابن تيمية في الفتاوى (32/ 137):(مثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين؛ لا على وجه القدح فيه ولا على وجه المتابعة له فيها فإن في ذلك ضرباً من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة).
المطلب السابع: أسباب الشذوذ الفقهي عند المعاصرين
.
أسباب الشذوذ غير أسباب الاختلاف، ومن أبرز أسباب الشذوذ عند المعاصرين:
1.
الجمود على الظواهر.
2.
المبالغة في سد الذرائع، والاحتياط، وعدم مراعاة المتغيرات.
3.
التوسع في اعتبار المصالح والمقاصد.
4.
الاستدلال بالخلاف الفقهي.
5.
تبرير الواقع المنحرف، والخضوع للضغوطات
(1)
.
6.
الضعف العلمي، و الاضطراب الكثير في الأصول الفقهية.
7.
عدم اعتبار الإجماع، أو الاضطراب في اعتباره، وهذا أهمها، ولئن كان الشذوذ في السابقين يقع كثيراً من غير قصد، فإنه في المعاصرين يقع كثيراً بقصد ومعرفة بالمخالفة، وأهم سبب وقفت عليه في الرسالة لذلك وتكرر فيها:
"عدم اعتبار الإجماع، أو الاضطراب في اعتباره"، ومن مظاهر ذلك الاعتداد بالفهم المباشر للنصوص ولو خالف فهم السلف قاطبة أو قلة الاهتمام بطلب فهمهم، ومن أسباب هذا الانحراف: التأثر بالمدرسة الظاهرية، أو العصرانية والتجديد.
(1)
انظر: أسباب الخطأ في فتاوى المعاصرين ص (324 - 326).
أما الظاهرية؛ فابن حزم من أشهرهم، وقد قال أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري:(مذهب ابن حزم في الإجماع مضطرب جداً)
(1)
، ومع أن شرطه في الإجماع عسير إلا أنه لم يستطع الوفاء به في الواقع، وسيأتي ذلك في ثنايا البحث، والمراد هنا الإشارة، وفي البحث آراء لظاهرية جديدة لم يعرفها ابن حزم مع معرفته بالنصوص التي استدلوا بها.
و الشوكاني له تأثر بالظاهرية، وهو يقول:(فأما الإجماع؛ فقد أوضحت في كثير من مؤلفاتي أنه ليس بدليل شرعي، على فرض إمكانه؛ لعدم ورود دليل يدل على حجيته)
(2)
، ولرأي الشوكاني سطوة على اختيارات بعض المعاصرين.
وأما المدرسة العصرانية أو التجديد؛ (فإنكارها للإجماع، أو تشكيكها في وقوعه يُعد من الملامح الرئيسية لها)
(3)
، فالقرضاوي مثلاً يقول:(حجية الإجماع ذاته ليست موضع إجماع! فلا يجوز أن نشهر هذا السيف؛ سيف الإجماع المزعوم في وجه كل مجتهد في قضية)
(4)
، ولا مانع عنده من إحداث فهم جديد للنص، أو قول جديد في مسألة خلافية لم يسبق إليه المجتهد ولو كانت المسألة قديمة
(5)
.
ويحسن في هذا المقام إيراد قول الجويني: (قد علمنا قطعاً انتشار
(1)
نواد الإمام ابن حزم "السفر الثاني" ص (132).
(2)
أدب الطلب ومنتهى الأدب ص (204)، وسيأتي في المبحث الرابع من الطهارة تحرير رأيه في الإجماع.
(3)
منهج البحث والفتوى للطرابلسي ص (383).
(4)
"الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، وهو منشور في موقعه الرسمي، وكلامه تحت عنوان:(معالم وضوابط لابد منها).
(5)
انظر: المرجع السابق، تحت عنوان:(موقعنا من الفقه الإسلامي) و (الإجتهاد الإنشائي)، ومن مقولاته:(يستطيع أهل الاجتهاد أن يفهموا النص فهماً جديداً لم ينقل عن السابقين).
احتجاج السّلف، في الحَث على موافقة الأمة واتباعها والزجر على مخالفتها
…
فإن تجويز خُلف الإجماع، وترك اتباع الأمة مما يعظم خطره؛ إذ على الإجماع ابتنى معظم أصول الشريعة)
(1)
، و (إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته، ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم، ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة، بل [يعدون] ذلك من عظام الأمور، وقبيح الارتكابات)
(2)
.
وعدم الاحتجاج بالإجماع زلة عظيمة، ولاتُعرف إلا عند أهل البدع، بل قال البزدوي:(ومن أنكر الإجماع فقد أبطل دينه كله؛ لأن مدار أصول الدين كلها ومرجعها إلى إجماع المسلمين)
(3)
، والكلام السابق له أطراف في ثنايا البحث وإشارات ستأتي، والله أعلم.
(1)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 27 - 28)
(2)
قواطع الأدلة (1/ 469).
(3)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 265)، قال علاء الدين البخاري شارحاً لكلمة البزدوي:(لأن مدار أصول الدين على الإجماع؛ إذ المعرفة بالقرآن، وأعداد الصلوات والركعات، وأوقات العبادات، ومقادير الزكوات وغيرها حصلت لنا بإجماع المسلمين على نقلها، فكان إنكار الإجماع مؤدياً إلى إبطالها). المرجع السابق (3/ 266).
الآراء المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: الآراء في الطهارة، وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: جعل المائعات كلها كالماء إذا وقعت فيها النجاسة وأنها لاتنجس إلا بالتغير
المبحث الثاني: وجوب غسل يدي النائم قبل غمسهما في الإناء
المبحث الثالث: طهارة الخمر
المبحث الرابع: طهارة الدم الكثير
المبحث الخامس: جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
المبحث السادس: تحريم ختان الإناث
المبحث السابع: جواز قراءة القرآن للجنب
المبحث الثامن: تقييد جواز المسح على الخفين بوجود الحاجة
المبحث التاسع: جواز حلق اللحية
المبحث العاشر: وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية
(ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه، وبدعناه= لقلّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه).
الذهبي رحمه الله
سير أعلام النبلاء (14/ 376)
الفصل الأول: الآراء في الطهارة
وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: جعل المائعات كلها كالماء إذا وقعت فيها النجاسة، وأنها لاتنجس إلا بالتغيُّر
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(ولايقال إنَّه تعمّدا
…
خلاف قصد الشرع فيما اعتمدَ
وواجبٌ في مشكلات الحُكم
…
تحسيننا الظنَّ بأهل العلم)
ابن عاصممنظومة مرتقى الوصول ص (60)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
المائعات في اللغة: جمع مائع، والمائع ضد الجامد، وأصل الكلمة من الميم والياء والعين، قال ابن فارس:(الميم والياء والعين كلمةٌ صحيحة تدلُّ على جريانِ شيءٍ واضطرابِ شيءٍ وحركتِه)
(1)
، والمائعات تشمل: المياهَ وغيرَها من السوائل؛ كالزيت واللبن والمرق
(2)
، ومن خصائص الماء: وصف الطهورية قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
(3)
، قال ابن المنذر:(وأجمعوا على أن الوضوء بالماء جائز)
(4)
، وقال الرصَّاع
(5)
: (الطهورية من خواص الماء، وقد حكى ابن العربي الإجماع على ذلك)
(6)
، وقد يوصف غير الماء بالطهارة ولايوصف بالطهورية، ثم إن الفقهاء يفرقون بين الماء وغيره من المائعات في جملة من الأحكام، ومنها:
1/ أن الوضوء والغسل لايصحان إلا بالماء، دون غيره من المائعات
(1)
مقاييس اللغة (5/ 232).
(2)
قال ابن حجر: (وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شيء) فتح الباري (9/ 670).
(3)
آية (48) من سورة الفرقان.
(4)
الإجماع ص (34).
(5)
أبوعبدالله محمد بن قاسم الأنصاري من فقهاء المالكية، نشأ واستقر وتوفي بتونس، ولي القضاء، واقتصر في أواخر أيامه على إمامة جامع الزيتونة والإفتاء والتدريس. عُرف بالرصاع؛ لأن أحد أجداده كان نجاراً يرصع المنابر، توفي سنة (894) هـ. انظر: الضوء اللامع للسخاوي (8/ 287)، الأعلام للزِّرِكْلي (7/ 5)، معجم أعلام الجزائر ص (430).
(6)
شرح حدود ابن عرفة ص (26).
- خلا النبيذ ففيه خلاف والجمهور لايرون جوازه
(1)
-، قال ابن قدامة:(فأما غير النبيذ من المائعات غير الماء، كالخل والدهن والمرق واللبن، فلا خلاف بين أهل العلم فيما نعلم أنه لا يجوز [بها] وضوء ولا غسل)
(2)
2/ إزالة الخبث عند الجمهور لايصح إلا بالماء، قال النووي:(رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق، فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم)
(3)
.
- وقد جمع هذا الاختصاصَ للماء في هاتين الصورتين الغزاليُّ بقوله: (والطَّهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما فى طهارة الحدث؛ فبالإجماع، وأما في طهارة الخبث؛ فعند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة)
(4)
.
(1)
قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص (17): (وأجمعوا أنه لا يجوز وضوء بشيء من المائعات وغيرها حاشا الماء والنبيذ)، قال ابن تيمية في نقده لمراتب الإجماع ص (288):(وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى - وهو مِن أَجَلِّ من يحكي ابنُ حزمٍ قولَه - أنه يجزئ الوضوء بالمعتصَر، كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصَمِّ، لكنَّ الأصَمَّ ليس مِمَّن يَعُدُّه ابنُ حزمٍ في الإجماع)، قال ابن هبيرة في اختلاف الأئمة العلماء (1/ 29) [وهذا الكتاب أصله شرح للجمع بين الصحيحين للحميدي ويسمى الإفصاح عن معاني الصحاح]:(أجمعوا على أنه لا يجوز التوضؤ بالنبيذ على الإطلاق إلا أبا حنيفة: فإن الرواية اختلفت عنه. فروي عنه: أنه لا يجوز ذلك كالجماعة، وهي اختيار أبي يوسف. وروي عنه: أنه يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ في السفر عند عدم الماء. وروي عنه: أنه يجوز الوضوء به، ويضيف التيمم، وهي اختيار محمد بن الحسن)، والقول بعدم الجواز والعدول إلى التيمم هي الرواية الأخيرة عن أبي حنيفة وهي المعتمدة، قال ابن نجيم عن هذا القول: (قوله الآخر وقد رجع إليه، وهو الصحيح وبه قال أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد وأكثر العلماء
…
فالمذهب المصحح المختار المعتمد عندنا هو عدم الجواز - أي: الوضوء بالنبيذ -) البحر الرائق (1/ 144).
(2)
المغني (1/ 39).
(3)
المجموع (1/ 92 - 93).
(4)
الوسيط (1/ 107 - 109)، قال الزَّرْكشيُّ: (المائع الجاري حكمه حكم الماء المطلق إلا في مسألتين: إحداهما:
الجرية إذا كانت قلتين فإنه لا أثر لها في دفع النجاسة في المائع، بل يحكم على جميعه بالنجاسة بخلاف الماء.
الثانية: المائع إذا تنجس وبلغ قلتين لا يعود طهورا بخلاف الماء ومن هذا أن المائع إذا تنجس لا يمكن تطهيره على الصحيح بخلاف الماء) المنثور في القواعد الفقهية (3/ 131).
3/ ومن الفروق -و هو المراد وفيه تحرير لمحل الشذوذ-:
أن العلماء يرون أن الماء يمكن تطهيره إذا وقعت فيه النجاسة
(1)
بخلاف غيره من المائعات، فإنها تنجس ولا يمكن تطهيرها بوقوع النجاسة فيها، قال ابن عبدالبر:(وأجمعوا أن المائعات كلها من الأطعمة والأشربة -ما خلا الماء- سواء، إذا وقعت فيها الميتة نجست المائع كله، ولم يجز أكله ولا شربه عند الجميع إلا فرقة شذت)
(2)
.
- فذكر أن العلماء مجمعون أن الماء له حكم خاص فهو الذي يمكن تطهيره خلافاً لبقية المائعات فإنها تنجس بوقوع النجاسة ولا يمكن تطهيرها، وهناك من المعاصرين من لايفرق بين الماء وغيره من المائعات، فلاتنجس عنده كلها إلا بالتغير بالنجس.
(1)
قال السرخسي: (وقد بينا أن طهارة البئر بنزح بعض الدلاء قول السلف من الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم -) المبسوط (1/ 90)، وقال الحطاب:(الماء إذا تغير بالنجاسة ثم زال تغيره فلا يخلو إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه أم لا فالأول طهور باتفاق) مواهب الجليل (1/ 84)، وقال الشيرازي في المهذب (1/ 21):(وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء آخر حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة)، قال النووي معلقاً:(بلا خلاف) المجموع (1/ 136)، وقال ابن قدامة:(وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهره، إن لم يبق فيه تغير) قال المرداوي معلقاً: (وهذا بلا نزاع إذا كان المتنجس بغير البول والعذرة، إلا ما قاله أبو بكر) الإنصاف (1/ 63)، وقول أبي بكر:(إذا انماعت النجاسة في الماء فهو نجس لا يطهر ولا يطهر) قال في المستوعب: (وهو محمول على أنه لا يطهر بنفسه إذا كان دون القلتين) نقلهما المرداوي في الإنصاف (1/ 63).
(2)
التمهيد (9/ 41).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
قال بهذا الرأي جماعة من المتقدمين ولم أقف عليه عند المعاصرين إلا عند:
ابن عثيمين (ت 1421)
(1)
رحمه الله.
(1)
انظر: الشرح الممتع (1/ 434) قال رحمه الله: (والصواب: أن الدُّهن المائع كالجامد؛ فتلقي النجاسة وما حولها، والباقي طاهر).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما في المطلب الرابع.
3/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (وقد شذ قوم فجعلوا المائع كله كالماء، ولا وجه للاشتغال بشذوذهم في ذلك ولا هم عند أهل العلم ممن يعد خلافاً، وسلك داود بن علي سبيلهم في ذلك إلا في السمن الجامد والذائب فإنه قال فيه بظاهر حديث هذا الباب)
(1)
.
- و ابن رشد الجد (ت 520) بقوله: (ظاهر هذه الرواية أن النجاسة اليسيرة لا تفسد الطعام الكثير ولا تنجسه، كما لا تفسد الماء الكثير ولا تنجسه، وهذا مما لا يقوله إلا داود القياسي
(2)
ومن شذ عن الجمهور وخالف الأصول)
(3)
.
(1)
التمهيد (9/ 40)، والظاهرية يخصون التفريق بين الجامد والمائع بالسمن ويخصون النجس بالفأرة، قال ابن حجر في الفتح (8/ 181):(وأما ذكر السمن والفأرة فلا عمل بمفهومها، وجمد ابن حزم على عادته فخص التفرقة بالفأرة، فلو وقع غير جنس الفأر من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير)، قال ابن حزم:(ولا يجوز أن يحكم لغير الفأر في غير السمن، ولا للفأر في غير السمن ولا لغير الفأرة في السمن بحكم الفأر في السمن، لأنه لا نص في غير الفأر في السمن) المحلى (1/ 147).
(2)
المقصود به شيخ الظاهرية، قال ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه (7/ 259):(القياسي: بكسر أوله ثم مثناة تحت مفتوحة تليها ألف ثم سين مهملة مكسورة: داود بن علي إمام أهل الظاهر قيل له: القياسي لنفيه القياس)، ومن ذلك تسمية القدرية وهم نفاة القدر.
(3)
البيان والتحصيل (1/ 37).
- و العيني (ت 855) بقوله: (وَقد شَذَّ قوم فجعلُوا المائِع كُله كالماء، ولا يعتَبر ذلك)
(1)
.
(1)
عمدة القاري (3/ 162).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بالتفريق بين الماء وغيره من المائعات: استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
1/ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال: «إن كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً، فلا تقربوه»
(1)
.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (278)، وأحمد (7601)، وأبوداود (3842)، وابن حبان (1393) وغيرهم من طريق معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به، قال الترمذي في جامعه (3/ 312):(هو حديث غير محفوظ)، ونقل عن البخاري قوله:(هذا خطأ أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة)، وقال أبوحاتم كما في العلل لابنه (4/ 393):(وهم، والصحيح: الزُّهْري، عن عُبَيدالله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس، عن ميمونة عن النبي)، فالصحيح أنه من حديث ميمونة، وقد اضطرب فيه معمر أيضاً، قال عبدالرزاق في مصنفه (1/ 84):(وقد كان معمر أيضا يذكره عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة، وكذلك أخبرناه ابن عيينة)، وممايؤكد خطأ معمر = أن سفيان بن عيينة يرويه أيضاً عن شيخهما الزهري، قال سفيان:(ما سمعت الزهري يحدثه إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته منه مراراً)، ذكره البخاري في صحيحه (7/ 97)، وحديث ميمونة أخرجه البخاري (235): أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:«ألقوها وما حولها وكلوه» . فأطلق الحكم ولم يفصل، وأشار البخاري بتبويبه إلى إعلال التفصيل فقال:(باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب) ثم ذكر الحديث، ثم أتبعه بفتوى للزهري -ومدار الحديث على الزهري- أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل» . قال ابن القيم في تهذيب السنن (10/ 320): (واحتجاجه بالحديث من غير تفصيل: دليلٌ على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتجَّ به، فحيثُ أفتى بحديث الإطلاق، واحتجَّ به: دلَّ على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعدم القرب من السمن المائع، فدل على تنجسه وعدم إمكانية تطهيره، وهذا نص في السمن السائل، ومخالفته مخالفة للنص الصريح.
ونوقش الاستدلال بالحديث:
- بعد التسليم في صحته، فالحديث ضعيف، أخطأ في سنده ومتنه معمر، قال ابن تيمية:(وأما معمر، فاضطرب فيه، في سنده ولفظه)
(1)
، والصواب أنه من حديث ميمونة، ومتنه ليس فيه تفصيل، كما روى البخاري عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:«ألقوها وما حولها وكلوه» .
(2)
، قال ابن القيم:(رواه الناسُ عن الزهري بهذا المتن والإسناد، ومتنه خرجه البخاريُّ في (صحيحه)، والترمذي، والنسائي. وأصحاب الزهري كالمجمعين على ذلك، وخالفهم معمرٌ في إسناده ومتنه)
(3)
.
(1)
نقد مراتب الإجماع ص (300).
(2)
أخرجه البخاري (5583)، قال ابن القيم:(ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع) إعلام الموقعين (4/ 306).
(3)
تهذيب السنن (10/ 318)، قال ابن تيمية:(والزهري أحفظ أهل زمانه، حتى يقال: إنه لا يعرف له غلط في حديث ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه. ويقال: إنه حفظ على الأمة تسعين سُنَّة لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتاباً من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام فلم يخطِ منه حرفاً. فلو لم يكن في الحديث إلا نسيان الزهري أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم بالرجال، مع كثرة الدلائل على نسيان معمر. وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمراً كثير الغلط على الزهري). مجموع الفتاوى (21/ 494 - 495).
- وعلى فرض صحته، فلايصح تعميم الحكم فيه على القليل والكثير، بل هو خاص بالقليل كالسمن المسؤول عنه، قال ابن تيمية:(فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة حتى يقال فيه: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً، فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل. فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح ولا ضعيف، ولا إجماع، ولا قياس صحيح)
(1)
.
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة:
- بأن الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أن إجماع العلماء الآتي ذكره على معناه يكفي
(2)
، بل قال الطوفي:(الإجماع أقوى أصول الإسلام، ولذلك قدم على النص والقياس)
(3)
، وقال القرافي:(وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس)
(4)
، وهذا التقديم باعتبار أن النص يقبل النسخ والتأويل بخلاف الإجماع، ولأن دلالة الإجماع قطعية بخلاف القياس
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 496).
(2)
قال الغزالي في المستصفى ص (80): (والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى)، وللطوفي عبارة أوسع وهي:(والإجماع دال على النص)، وقد شرحها بأن الإجماع لابد أن يكون مستنداً إلى نص أو قياس على نص. شرح مختصر الروضة (2/ 7).
(3)
المرجع السابق (3/ 139).
(4)
شرح تنقيح الفصول ص (337).
(5)
انظر: المرجع السابق.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
1.
قال ابن بطال (ت 449): (وأما السمن المائع، والزيت، والخل، والمُرْي
(1)
، والعسل وسائر المائعات تقع فيها الميتة، فلا خلاف أيضًا بين أئمة الفتوى أنه لا يؤكل منها شيء)
(2)
.
2.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (وأجمعوا أن المائعات كلها من الأطعمة والأشربة -ما خلا الماء- سواء، إذا وقعت فيها الميتة نجست المائع كله ولم يجز أكله و لا شربه عند الجميع إلا فرقة شذت)
(3)
.
3.
وقال ابن حزم (ت 456): (واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر، أو فأرة، فمات، أو ماتت فيه، وهو مائع أنه لا يؤكل)
(4)
.
4.
وقال البغوي (ت 516): (واتفق أهل العلم على أن الزيت إذا ماتت فيه فأرة، أو وقعت فيه نجاسة أخرى أنه ينجس، ولا يجوز أكله)
(5)
.
(1)
المري: بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتية، وفي النهاية بتشديد الراء، وجزم النووي بالأول، وهو إدام وكأنه منسوب إلى المرارة، وصفته: أن يجعل في الخمر الملح والسمك ويوضع في الشمس فيتغير عن طعم الخمر. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (4/ 138)، إرشاد الساري (8/ 269).
(2)
شرح صحيح البخاري (5/ 451).
(3)
التمهيد (9/ 41)،، وقد قال قبل ذلك (9/ 40):(أجمعوا أن السمن وما كان مثله إذا كان مائعا ذائبا فماتت فيه فأرة أو وقعت وهي ميتة أنه قد نجس كله، وسواء وقعت فيه ميتة أو حية فماتت يتنجس بذلك، قليلا كان أو كثيرا، هذا قول جمهور الفقهاء وجماعة العلماء، وقد شذ قوم فجعلوا المائع كله كالماء ولا وجه للاشتغال بشذوذهم في ذلك ولا هم عند أهل العلم ممن يعد خلافاً).
(4)
مراتب الإجماع ص (151).
(5)
شرح السنة (11/ 258).
5.
وقال ابن رشد الجد (ت 520): (الله تعالى خلق الماء طهوراً، فهو يحمل ما غلب عليه من النجاسات، بخلاف ما عداه من الأطعمة والأدم المائعات. والفرق بينهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء بير بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته»، وسئل عن الفارة تقع في السمن فقال: «انزعوها وما حولها فاطرحوه وإن كان مائعا فلا تقربوه»، وهذا ما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار)
(1)
.
ونوقشت حكاية الإجماع:
- بعدم التسليم بها، قال ابن تيمية (ت 728):(هذا فيه نزاع معروف، فمذهب طائفة أنه يُلقَى وما قرب منها ويؤكل، سواء كان جامداً أو مائعاً)
(2)
، ثم ذكر خلاف ابن عباس وماحكي عن ابن مسعود رضي الله عنهم، والزهري وإحدى الروايات عن أحمد ومالك، وأنهم يرون أن غير الماء كالماء في إمكان تطهيرها من النجاسات.
- فالظاهر أن الإجماع غير متحقق كما قرره ابن تيمية، وقد خالف في المسألة ابن عباس
(3)
رضي الله عنه وليس بصريح-، وابن مسعود رضي الله عنه
(1)
البيان والتحصيل (1/ 38).
(2)
نقد مراتب الإجماع ص (292).
(3)
قال ابن تيمية في الفتاوى (21/ 497): (وروى صالح بن أحمد في "مسائله" عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سُئِل عن فارة ماتت في سمن، قال: (تُؤخذ الفأرة وما حولَها). قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كلِّه، قال:(عضضتَ بِهَنِ أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت)[قال ابن حجر في الفتح (9/ 669): ورجاله رجال الصحيح]، ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جَرٍّ فيه زيت وقعَ فيه جروٌ، فقال:(خذه وما حوله، فالقِه وكُلْه» ولم أجد هذين الأثرين بعد بحث في المسند وفي مسائل صالح، قال محقق جامع المسائل لابن تيمية (3/ 340): (لم نجد النصوص المقتبسة منه [أي: مسائل صالح] في مطبوعته، فإنها ناقصة الأول والآخر)، وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (24407) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن جامد:(فأمر أن تلقى وما حولها ويؤكل بقيته) وهي صريحة في الجامد، ومانقله ابن تيمية عنه ليس صريحاً في المائع، والله أعلم.
ولايصح عنه-
(1)
، والزهري (ت 124)
(2)
، وهو القول الأصح عند الحنفية
(3)
.
- وقول عند المالكية
(4)
، ورواية عند الحنابلة
(5)
، وحكي عن أبي ثور (ت 240)
(6)
،
و هو رأي البخاري (ت 256)
(7)
، واختار هذا القول ابن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (24398) قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود، قال: سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن فماتت، فقال:(إنما حرم الله من الميتة لحمها ودمها). وفي سنده ضعف وانقطاع، فحمران بن أعين، شيعي ضعفه الأكثر، وقال ابن معين:(ليس بشئ). انظر: تهذيب التهذيب (3/ 25)، وأبوحرب (ت 108)، لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه (ت 32).
(2)
أخرج البخاري في صحيحه (5539) عن الزهري أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل» .
(3)
في حاشية ابن عابدين (1/ 185): (وحكم سائر المائعات كالماء في الأصح، حتى لو وقع بول في عصير عشر في عشر لم يفسد، ولو سال دم رجله مع العصير لا ينجس). وانظر: البحر الرائق (1/ 95).
(4)
قال ابن رشد في بداية المجتهد (3 - 4/ 18) - عن القول الذي ينجس المائعات بوقوع النجس مطلقاً -: (وهو المشهور، والذي عليه الجمهور، والثاني: مذهب من يعتبر في ذلك التغير، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك).
(5)
قال المرداوي في الإنصاف (1/ 67): (إذا لاقت النجاسة مائعا غير الماء تنجس، قليلا كان أو كثيرا على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب. ونقله الجماعة. وعنه حكمه حكم الماء، اختاره الشيخ تقي الدين. وعنه حكمه حكم الماء بشرط كون الماء أصلا له، كالخل التمري ونحوه؛ لأن الغالب فيه الماء).
(6)
قال الماوردي في الحاوي الكبير (15/ 157): (وحكي عن أبي ثور، أنه كالماء إذا بلغ قلتين لم ينجس، حتى يتغير).
(7)
ترجم البخاري في صحيحه: (باب مايقع من النجاسات في السمن والماء)، و (باب إذا وقعت الفأرة في السمن =الجامد أو الذائب) وروى بعدهما حديث ميمونة وفتوى الزهري وقد سبق بيانهما.
تيمية (ت 728)
(1)
.
- وعند التحقيق فإن قول الحنفية وماروي عن أحمد وأبي ثور ليس كقول الشيخ ابن عثيمين تماماً؛ لأنهم يفرقون في الماء بين القليل والكثير ويقيسون المائعات عليه، فالقليل عندهم ينجس بملاقاة النجاسة، بخلاف الكثير فلاينجس إلا بالتغير، أما الشيخ ابن عثيمين فإن الحكم عنده أن يلقى النجس وماحوله ولو كان المائع يسيراً مالم يتغير كله.
المسألة الثانية: أدلة من قال بأن غير الماء من المائعات كالماء:
استدل من يرى أن المائعات كلها كالماء وأنها لاتنجس إلا بالتغير بأدلة منها:
1/ قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(2)
.
وجه الاستدلال: أن المائعات؛ كالألبان، والزيت، والخلول، ونحوها من الطيبات التي أحلها الله لنا، فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث في طعم، أولون، أو ريح، كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبائث المحرمة
(3)
.
2/ ومن أدلتهم: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ميمونة رضي الله عنها حين سُئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألقوها وما حولها فاطرحوه،
(1)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 514): (والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء هو القول الراجح، بل هي أولى بعدم التنجيس من الماء)، وقد كان ابن تيمية يفتي برأي الجمهور ثم رجع عنه لما تبين له ضعف الحديث الذي يدل على ماذهبوا إليه فقال رحمه الله:(فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل) مجموع الفتاوى (21/ 516).
(2)
الآية (157) من سورة الأعراف.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 514).
وكلوا سمنكم»
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب جواباً عاماً مطلقاً ولم يستفصل هل كان السمن مائعاً أو جامداً؟ قليلاً أو كثيراً؟ وترك الاستفصال في حكاية الحال
(2)
مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن قوله: «وما حولها» يدل على أنه كان جامداً؛ لأنه لو كان مائعاً لم يكن لها حول، فلو نقل من أي جانب لخلفه غيره في الحال، فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله
(4)
.
وأجيب عن ذلك:
بأن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائباً، فيكون الحديث كالنص في السمن المائع عند وقوع الفأرة فيه
(5)
، والعبرة بالغالب، والنادرُ لاحكم له.
3/ ومن أدلتهم: القياس على الماء، فتغير الماء بالنجاسات أسرع وأظهر من تغير غيره من المائعات، واستحالة النجاسة في غير الماء أقوى من استحالتها في الماء
(6)
، وهذا من قياس الأولى.
(1)
أخرجه البخاري (235).
(2)
حكاية الحال هي و اقعة العين. انظر: شرح تنقيح الفصول ص (187).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 515)، (21/ 527).
(4)
انظر: فتح الباري (9/ 669).
(5)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 515)، (21/ 527).
(6)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 506 - 512).
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الماء له قوة يدفع بها النجس عن غيره فعن نفسه أولى
(1)
، كما جاء في الحديث:«إنَّ الماءَ طَهُورٌ، لا يُنَجِّسُهُ شيء»
(2)
.
وأجيب عن ذلك:
بأنَّ مفهوم الحديث لا عموم له، و لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس؛ فإن الهواء ونحوه لا يتنجس وليس بماء
(3)
.
4/ واستدلوا أيضاً: بأن هذا ما أفتى به الصحابة كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بعدم التسليم، فإن ماروي عن ابن عباس رضي الله عنه ليس بصريح في المائع
(4)
، وماروي عن ابن مسعود رضي الله عنه لايصح عنه
(5)
.
- و على فرض التسليم، فقد صح عن جمع من الصحابة القول بتنجس السمن المائع بوقوع النجس فيه أو التفريق بين الجامد والمائع، منهم: عائشة
(6)
،
(1)
انظر: المجموع (1/ 126)، المغني (1/ 23).
(2)
أخرجه أحمد (11257)، وأبوداود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326) وغيرهم من حديث أبي سعيد، وهو حديث بئر بضاعة، وقد صححه أحمد وابن معين وابن حزم، وأعله الدارقطني وابن القطان وغيرهما. انظر: التلخيص الحبير (1/ 125)
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 498).
(4)
وقد سبق بيان ذلك عند مناقشة الإجماع.
(5)
وقد سبق بيان ذلك عند مناقشة الإجماع.
(6)
أخرج ابن أبي شيبة (24401) عن عائشة: (إن كان جامداً فألقها وما حولها وكل ما بقي، وإن كان مائعاً فلا تأكله).
وابن عمر
(1)
، وعبدالله بن عمرو
(2)
، وأنس
(3)
رضي الله عنهم، وبهذا يفتي جمع من التابعين وجماهير العلماء.
- فهؤلاء الصحابة قولهم خلافُ قولِ ابنِ عباس رضي الله عنه
(4)
، وقول الصحابي إنما يكون حجةً على الصحيح إذا لم يوجد له مخالف، أما إذا وُجِدَ الخلاف فلايكون حجة بالاتفاق، ومن ثم فلا يلزم الأخذ بقول أحدهما إلا بدليل آخر يرجحه
(5)
، كما قال الشافعي في أقاويل الصحابة إذا اختلفت:(نَصِيرُ منها إلى ما وافق الكتابَ أو السنةَ أو الإجماعَ، أو كان أصحّ في القياس)
(6)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالظاهر أن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فإنه لم يخالف نصاً صحيحاً صريحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، وقد استند قائله إلى أدلة قوية له فيها سلف، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان التفريق بين المائع اليسير والكثير هنا له وجه، والله أعلم
(7)
.
(1)
أخرج ابن أبي شيبة (24397) عن صفية بنت أبي عبيد، أن جرّاً لآل ابن عمر فيه عشرون فرقاً من سمن أو زيادة، وقعت فيه فأرة فماتت:(فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به).
(2)
أخرج ابن أبي شيبة (24399) عن عبد الله بن عمرو، قال: في الزيت تقع فيه الفأرة فتموت: (فإنه لا يحل أكله لمسلم، ولا ليهودي ولا لنصراني).
(3)
أخرج ابن أبي شيبة (24400) عن أنس أنه سئل عن الفأرة تقع في السمن والزيت؟ قال: (إن كان جامداً أخذت وما حولها فألقي وأكل ما بقي، وإن كان ذائباً استصبحوها).
(4)
انظر: ماصح من آثار الصحابة لزكريا غلام (3/ 223 - 224)، فقد ذكر الآثار التي ذكرتها، ولم يذكر لابن عباس رضي الله عنه رأياً فيها.
(5)
انظر: روضة الناظر ص (166)، رفع الحاجب (4/ 513) قال الزَّرْكشيُّ:(اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر مجتهد). البحر المحيط (4/ 358).
(6)
الرسالة ص (597).
(7)
وبذلك أفتى مالك وأحمد -رحمهما الله-، قال مالك في الماء الكثير تقع فيه القطرة من البول أو الخمر:(إن ذلك لا ينجسه ولا يحرمه على من أراد أكله أو شربه أو الوضوء منه، والطعام والودك كذلك إلا أن يكون شيئا يسيراً). البيان والتحصيل (1/ 37)، وقال حرب: سألت أحمد، قلت: كلب ولغ في سمن أو زيت؟ قال: (إذا كان في آنية كبيرة مثل جب أو نحوه، رجوت ألّا يكون به بأس ويؤكل، وإن كان في آنية صغيرة فلا يعجبني) المغني (1/ 23).
المبحث الثاني: وجوب غسل يدي النائم قبل غمسهما في الإناء
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال الإمام مالك: (العلم الذي هو العلم معرفة السنن، والأمر المعروف الماضي المعمول به).
البيان والتحصيل (18/ 523)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الإناء لغة: مفرد و جمعه آنية، وجمع الجمع: أوانٍ، كسقاء وأسقية وأَساقٍ
(1)
، وهي ظرف من الظروف تحوي ما يوضع فيها، ومن استيقظ من نومه وأراد أن يستعمل ماءً في إناء
(2)
، فإنه يُشرع له أن يغسل يديه خارج الإناء بإكفاء الإناء، أو التناول منه بغير اليد، ولا يغمس يديه في الإناء قبل أن يغسلهما.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
وقد أجمع العلماء على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة؛ يستحب استعمالها ولايجب، مالم يتيقن فيهما نجساً
(3)
.
2.
و أجمعوا على نهي المستيقظ من نومه عن غمس اليد في الإناء
(1)
انظر: الصحاح (6/ 2274)، تحرير ألفاظ التنبيه ص (32)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (20).
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/ 264): (والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل؛ لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياساً، لكن في الاستحباب من غير كراهة؛ لعدم ورود النهي فيها عن ذلك
…
وخرج بذكر الإناء البِرَكُ والحِياضُ التي لا تَفْسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي، والله أعلم).
(3)
قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن غَسْل اليدين في ابتداء الوضوء سنةٌ؛ يستحب استعمالها، وهو بالخيار؛ إن شاء غسلهما مرة، وإن شاء غسلهما مرتين، وإن شاء ثلاثاً، أيَّ ذلك شاءَ فَعَل، وغَسْلُهما ثلاثاً أحبُّ إلي، وإن لم يفعل ذلك فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلهما فلا شيء عليه، ساهياً ترك ذلك أم عامداً، إذا كانتا نظيفتين، فإن أدخل يده الإناء وفي يده نجاسة، ولم يغير للماء طعماً ولا لوناً ولا ريحاً فالماء طاهر بحاله، والوضوءُ به جائز). الأوسط (1/ 374).
قبل غسلها
(1)
.
3.
واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على استحباب غسل اليدين عند القيام من نوم الليل ثلاثاً
(2)
.
4.
واختلف العلماء في وجوب غسل اليدين قبل غمسهما في الإناء
(3)
، والعلماء عامتهم على عدم الوجوب، وأوجبه آخرون، وحُكِمَ على قولهم بالشذوذ، وهذا هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال النووي في فوائد حديث النهي عن غمس اليدين في الإناء: (
…
النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها وهذا مجمع عليه، لكن الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم) شرح النووي على مسلم (3/ 180)، وهذا النهي لايختص بالماء فقط، قال النووي:(كراهة غطس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، سواء فيه إناء الماء، وإناء المائع، وسائر الأطعمة وغيرها من الرطبات) الإيجاز في شرح سنن أبي داود ص (395).
(2)
انظر: اختلاف الأئمة العلماء لابن هبيرة (1/ 41)، وهذا الكتاب أصله شرح للجمع بين الصحيحين للحميدي.
(3)
قال ابن قدامة: (وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم، بغير خلاف نعلمه، فأما عند القيام من نوم الليل، فاختلفت الرواية في وجوبه). المغني (1/ 73).
المطلب الثاني: القائلون بالوجوب من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
محمد بن إبراهيم (ت 1389)
(1)
، ومحمد بن عثيمين (ت 1421)
(2)
-رحمهما الله -.
(1)
قال رحمه الله: (فلا يحل إِدخالهما قبل غسلهما ثلاثًا، فإن أَدخلهما قبل ذلك فهو عاصٍ آثمٌ مخالفٌ لأَمر الرسول صلى الله عليه وسلم. فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 29).
(2)
قال رحمه الله: (يأثم من أجل مخالفته النهي؛ حيث غمسها قبل غسلها ثلاثاً). الشرح الممتع (1/ 51).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
أما وجه شذوذ القول بوجوب غسل يدي المستيقظ من النوم قبل غمسهما في الإناء؛ فهو نقل الاتفاق على الاستحباب، وحكم بعض العلماء عليه بالشذوذ، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- الجصاص
(1)
(ت 370) بقوله: (وقد اتفق الفقهاء على الندب، ومن ذكرنا قوله آنفاً
(2)
فهو شاذ)
(3)
.
- أما مانَقَله من اتفاق الفقهاء فهو صحيح، لكن الندب لايعارض الوجوب فكل من يرى الوجوب يرى الندب، لذلك نقل بعضهم الاتفاق على الاستحباب، لكنهم صرحوا بوجود الخلاف في الوجوب
(4)
، والأكثر على عدم الوجوب، أما الحكم بالشذوذ على من يرى الوجوب؛ فهذا لم أقف عليه عند غير الجصاص، وإن كان النووي قد قال عن القول بتنجيس الماء لمن غمس يديه في الإناء قبل غسلهما: (قول ضعيف
(1)
أبو بكر، أحمد بن علي الرازي، المعروف بالجصاص، انتهت إليه رئاسة الحنفية. وسئل العمل بالقضاء فامتنع، تفقه على أبي الحسن الكرخي، وله كتاب أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي، وشرح مختصر الطحاوي، وله كتاب في أصول الفقه، وغير ذلك، توفي سنة (370) هـ ببغداد. انظر: تاج التراجم لابن قُطلُوبغا ص (96)، الأعلام للزرِكْلي (1/ 171).
(2)
يقصد بذلك قوله: (ويروى عن الحسن البصري أنه قال: "من غمس يده في إناء قبل الغسل أهراق الماء"، وتابعه على ذلك من لا يعتد به). أحكام القرآن (2/ 442).
(3)
المصدر السابق، ويحتمل حكمه بالشذوذ على كل قول زائد على الندب أو هو حكم على قول الحسن خاصة.
(4)
انظر: الأوسط (1/ 374)، اختلاف الأئمة العلماء لابن هبيرة (1/ 41)، المجموع (1/ 350).
جداً)
(1)
، بل قال ابن القيم:(والقول بنجاسته من أشذ الشاذ)
(2)
، لكن هذا شيء ومانحن فيه شيء، فلايلزم من وجوب غسل اليدين التنجيسُ، ويلزم العكس.
(1)
قال في شرح مسلم (3/ 180): (وحكى أصحابنا عن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- أنه ينجس إن كان قام من نوم الليل، وحكوه أيضا عن إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري، وهو ضعيف جداً). والقول بالتنجيس يلزم منه القول بالتحريم، ومما يدل على لزومه قول البغوي:(وقال إسحاق: يجب غسل اليدين، سواء قام من نوم الليل، أو من نوم النهار، هو قول داود، ومحمد بن جرير، وقالوا: إذا أدخل اليد في الإناء قبل الغسل ينجس الماء). شرح السنة (1/ 408)، قال ابن القيم:(والقول بنجاسته من أشذ الشاذ، وكذا القول بصيرورته مستعملاً ضعيف). تهذيب السنن (1/ 84).
(2)
تهذيب السنن (1/ 84).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم الوجوب:
استدل من يرى عدم وجوب غسل الكفين للمستيقظ من النوم بأدلة منها:
1/ قول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
(1)
الآية.
وجه الاستدلال:
أن القيام من النوم داخل في عموم الآية
(2)
، وقد أمر الله بالوضوء
(1)
من الآية (6) من سورة المائدة، والآية ليس فيها إلا فروض الوضوء، وماعداها آداب وسنن كما ذكر القرطبي في تفسيره (6/ 83)، وقال ابن عبدالبر: (وأكثر أهل العلم
…
ذهبوا إلى أنه لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذكر الله في القرآن) الاستذكار (1/ 135)، فإن اعتُرض بالنية والتسمية والترتيب؟ فالجواب: أن النية يدل عليها: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} يعني: أردتم القيام للصلاة، كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وهذه هي النية، و أما الترتيب؛ فيدل عليه إدخال الممسوح؛ مسح الرأس بين المغسولات (غسل اليدين والرجلين)، وأما التسمية؛ فلاتجب عند الجمهور، خلافاّ لأحمد في رواية، وظاهر المذهب عدم الوجوب، كقول الجمهور وهو الذي استقرت عليه الرواية عن أحمد، ولايصح في الأمر بها حديث كما قال أحمد وغيره. انظر: المغني (1/ 76).
(2)
وصح عن زيد بن أسلم أن المراد بالقيام في الآية: إذا قمتم من المضاجع؛ يعني النوم، رواه مالك في موطئه (1/ 22) عن زيد بن أسلم، قال ابن كثير في تفسيره (3/ 43 - 44):(قال كثيرون من السلف: قوله: إذا قمتم إلى الصلاة معناه وأنتم محدثون، وقال آخرون: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب)، قال ابن جرير:(وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: إن الله عنى بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه). تفسير الطبري (10/ 19).
من غير غسل الكفين في أوله، والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به
(1)
.
2/ مما يؤكد ذلك ماجاء في صحيح مسلم عن عثمانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أتم الوضوء كما أمره الله تعالى، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن»
(2)
، فأحال على الآية وليس فيها غسل الكفين
(3)
، وحديث أبي أيوب وعقبة مرفوعاً:«من توضأ كما أُمر، وصلى كما أُمر، غفر له ما قدم من عمل»
(4)
، وحديث رفاعة بن رافع مرفوعاً -في قصة المسيء صلاته-:«إنها لا تتم صلاة لأحد، حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله تعالى، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين»
(5)
.
3/ واستُدلَّ على عدم الوجوب أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه بات عند خالته ميمونة، «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فتوضأ من شَنٍّ معلَّقٍ وضوءاً خفيفاً
…
» الحديث
(6)
، ترجم عليه أبوعوانة: (باب
(1)
انظر: المغني (1/ 73).
(2)
أخرجه مسلم (231)، وبوب عليه النسائي:(ثواب من توضأ كما أمر)، وبوب عليه ابن ماجه:(باب ما جاء في الوضوء على ما أمر الله تعالى).
(3)
انظر: إحكام الأحكام (1/ 67).
(4)
أخرجه أحمد (23595)، والدارمي (744)، وابن ماجه (1396)، والنسائي (144)، وابن حبان (1042).
(5)
أخرجه أبوداود (858)، والنسائي (1136)، والدارمي (1368)، وابن ماجه (460)، وابن الجارود (194)، والحاكم (881) وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين)، ولم يتعقبه الذهبي، قال البيهقي:(احتج أصحابنا في نفي وجوب التسمية بهذا الحديث) السنن الكبرى (1/ 73).
(6)
أخرجه البخاري (138)، ومسلم (763).
الدليل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمستيقظ من النوم غسل يديه على إباحة)
(1)
.
وجه الاستدلال: أنه لم يذكر غسل الكفين قبل الوضوء، ولقوله:«وضوءاً خفيفاً» أي: خففه بأن توضأ مرة مرة، وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته كما ذكر ابن حجر والنووي.
4/ وَمِن الأدلَّة على عدم الوجوب اتفاقُ الفقهاء على ذلك، قال الجصاص: (وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب
…
وقد اتفق الفقهاء على الندب)
(2)
، مع أنه نقل خلافاً عن الحسن، ولكنه لم يعتبر بهذه المخالفة؛ لشذوذها عنده؛ ولذا قال بعد قول الحسن:(وتابعه على ذلك من لا يعتد به).
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن هذا الاتفاق لايصح فإن الوجوب هو مذهب بعض الصحابة والتابعين والأئمة:
كأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم، والحسن البصري (ت 110)، وأحمد بن حنبل (ت 241) في رواية
(3)
، وإسحاق بن راهويه (ت 238)
(4)
، وداود بن علي
(1)
مستخرج أبي عوانة (1/ 222)، قال ابن حجر: (واستدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشن المعلق بعد قيامه من النوم
…
وتعقب بأن قوله: (أحدكم) يقتضي اختصاصه بغيره صلى الله عليه وسلم، وأجيب: بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز) فتح الباري (1/ 264).
(2)
أحكام القرآن (2/ 442).
(3)
قال ابن قدامة في المغني (1/ 73): (فأما عند القيام من نوم الليل، فاختلفت الرواية في وجوبه؛ فروي عن أحمد وجوبه، وهو الظاهر عنه، واختيار أبي بكر، وهو مذهب ابن عمر، وأبي هريرة، والحسن البصري).
(4)
إسحاق بنُ إبراهيم بنِ مخْلَد، المعروف بابن راهويه، قرين الإمام أحمد، ويحيى ابن معين، وقد حدثا عنه، وحدث عنه البخاري ومسلم، سئل عنه الإمام أحمد فقال:(مثل إسحاق يسأل عنه؟! إسحاق عندنا إمام)، قال أبوداود الخفاف:(أملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه ثم قرأها علينا فما زاد حرفا ولا نقص حرفاً) علق الذهبي على ذلك بقوله: (فهذا والله الحفظ)، مات سنة (238) هـ. انظر: طبقات الحنابلة (1/ 13). وانظر: سير أعلام النبلاء (11/ 385)، تهذيب التهذيب (1/ 216).
(ت 270)
(1)
، وابن حزم (ت 456)
(2)
.
وهذا تحقيق مانُسب إليهم؛ لئلا يهدر الإتفاق إلا بالخلاف الثابت:
- أما مذهب أبي هريرة رضي الله عنه؛ فيمكن معرفته بمارواه أحمد
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده» فقال قين الأشجعي: يا أبا هريرة، فكيف إذا جاء مهراسكم؟ قال:(أعوذ بالله من شرك يا قين)
(4)
، وهو ليس بصريح، لكن ممايؤكد اشتهار الوجوب عن أبي هريرة مارواه ابن
(1)
داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي، إمام أهل الظاهر، يسميه بعضهم: داود القياسي؛ لنفيه القياس كما سميت القدرية بذلك لنفيها القدر، وكان من المحبين للشافعي وكَتب ترجمة له، بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، واختُلف في مخالفته للإجماع هل يعتد به؟ قال الذهبي:(لا ريب أن كل مسألة انفرد بها، وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة له عضدها نص، وسبقه إليها صاحب أو تابع، فهي من مسائل الخلاف، فلا تهدر)، توفي سنة (270) هـ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 183)، سير أعلام النبلاء (13/ 97)، توضيح المشتبه (7/ 259).
(2)
انظر: شرح السنة (1/ 407)، المغني (1/ 73)، المحلى (1/ 203)، وقد نسب البغوي القول بالوجوب إلى ابن جرير الطبري، وتبعه على ذلك النووي. انظر: شرح السنة (1/ 408)، شرح النووي على مسلم (3/ 180).
(3)
المسند (8965) من طريق محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(4)
و المِهراس: (حجر منقور مستطيل عَظِيم هرس كالحوض يتَوَضَّأ مِنْهُ النَّاس لَا يقدر أحد على تحريكه) غريب الحديث
للقاسم بن سلام (4/ 185).
أبي شيبة
(1)
قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:(كان أصحاب عبد الله [بن مسعود] إذا ذكر عندهم حديث أبي هريرة قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس الذي بالمدينة؟).
- قال الجصاص: (والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه; لأنه كان معلوماً أن المهراس الذي كان بالمدينة، قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم ينكره أحد، ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه، فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه، ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب)
(2)
.
- وأما مذهب ابن عمر رضي الله عنه؛ فيمكن معرفته بمارواه ابن خزيمة
(3)
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه
لايدري أين باتت يده أو أين طافت يده» فقال له رجل: أرأيت إن كان حوضاً؟ قال: فحصبه ابن عمر وقال: (أخبرك عن رسول الله، وتقول أرأيت إن كان حوضاً).
- وهذا الأثر محتمل وليس فيه التصريح بالوجوب، وترجم عليه ابن
(1)
المصنف (1052).
(2)
أحكام القرآن (2/ 443).
(3)
أخرجه ابن خزيمة (146)، والدارقطني (129)، والبيهقي في الكبرى (209) من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عبدالله ابن وهب، عن ابن لهيعة وجابر بن إسماعيل الحضرمي، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله عن أبيه، قال ابن خزيمة:(ابن لهيعة ليس ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذا تفرد برواية، وإنما أخرجت هذا الخبر؛ لأن جابر بن إسماعيل معه في الإسناد)، وقال الدارقطني:(إسنادٌ حسن)، قال البيهقي:(كذا قال الشيخ؛ لأن جابر بن إسماعيل مع ابن لهيعة في إسناده).
خزيمة: (باب كراهة معارضة خبر النبي صلى الله عليه وسلم بالقياس والرأي، والدليل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم يجب قبوله إذا علم المرء به، وإن لم يدرك ذلك عقله ورأيه
…
).
- وأما مانُسب للحسن؛ فيمكن معرفته بمارواه ابن أبي شيبة
(1)
قال: حدثنا ابن إدريس عن هشام عن الحسن في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، أو الرجل يقوم من منامه فيدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، قال:(إن شاء توضأ، وإن شاء أهراقه) وهذا لايدل على الوجوب، وفي رواية هشام بن حسان عن الحسن كلام، وإن كان هشام من أثبت الناس في ابن سيرين، قال أبوداود:(إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء؛ لأنه كان يرسل، وكانوا يرون أنه أخذ كتب حوشب [بن مسلم])
(2)
.
- وهناك ماهو أصح من هذا وأصرح، وهو مارواه الأثرم
(3)
قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي [معاذ بن معاذ] حدثنا الأشعث [بن عبدالملك الحمراني] قال: (وكان الحسن يقول: من استيقظ من نومه فغمس يده في إنائه قبل أن يغسلها ثلاثاً =أهراق ذلك الماء، فإن توضأ به أو اغتسل فهو كمن لم يتوضأ، يعيد الوضوء والصلاة إن كان صلى
…
الخ)، وهذه الرواية أصرح في تجلية مذهب الحسن، وهو وجوب غسل اليدين للمستيقظ من النوم؛ فيلزم من إراقة الماء وفساده وجوب غسل اليد قبل غمسها،
(1)
المصنف (893).
(2)
سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني ص (284)، وانظر: تقريب التهذيب ص (572).
(3)
سنن الأثرم (79).
ولايلزم من وجوب غسل اليدين فساد الماء وإراقته، وإسناد هذا الأثر صحيح، وأشعث الحمراني أثبت من هشام بن حسان في الحسن، يقول عرعرة بن البرند الشامي: سألت عباد بن منصور، قلت: -يا أبا سلمة- تعرف الأشعث مولى آل حمران؟ قال: نعم، قلت: كان يقاعد الحسن؟ قال: نعم كثيراً، قلت: هشام بن حسان القردوسي؟ قال: ما رأيت عنده قط، قال عرعرة: فأخبرت بذاك جرير بن حازم بعد موت عباد، فقال لي جرير: قاعدت الحسن سبع سنين، ما رأيت هشاما عنده قط
(1)
.
- وأما مانُسب لأحمد؛ فهو واضح، وهو الأصح والأظهر عنه
(2)
، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن الرجل يستيقظ من نومه فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ فقال: أما بالنهار فليس به عندي بأس أن يدخل يده قبل أن يغسلها، وأما إذا قام من النوم بالليل فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؛ لأنه قال لا يدري أين باتت يده فالمبيت إنما هو بالليل
(3)
.
- قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: وهو بالنهار أيضاً لا يدري أين كانت يده. فقال: نعم، ولكن الحديث في المبيت بالليل، فأما بالنهار؛ فلا بأس به. قيل لأبي عبد الله: فما يصنع بذلك الماء؟ فقال:
(1)
الضعفاء الكبير للعقيلي (4/ 334)، وانظر: طبقات المدلسين ص (47).
(2)
انظر: المغني (1/ 73)، الإنصاف (1/ 130)، طبقات الحنابلة (2/ 77)، و عنه: إنه مستحب لاواجب وهو اختيار الخرقي وجماعة، قال المجد: وهو الصحيح، واختاره الموفق والشارح. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (1/ 64).
(3)
الإمام أحمد يخص الوجوب بالليل؛ لأن البيتوتة المذكورة في حديث الباب مختصة بالليل، وجمهور العلماء وإن كانوا لايوجبون ذلك بل يستحبونه إلا أنهم يجعلون الحديث في نوم الليل والنهار قال العراقي:(هو الذي عليه عامة العلماء، وأجابوا عن الحديث بأن ذلك خرج مخرج الغالب). طرح التثريب (2/ 43).
إن صب الماء أو أبدله فهو [أسهل
(1)
. قيل لأبي عبد الله: فلو ابتليت أنت بهذا فغمست يدك في الإناء وقد قمت من نوم الليل قبل أن تغسلها كيف كنت تصنع؟ قال: كنت أصب ذلك الماء
(2)
.
- وأما مانُسب إلى إسحاق؛ فيمكن معرفة مذهبه بما رواه الكوسج
(3)
، في سؤاله للإمام أحمد قال: قلت: إذا استيقظ فغمس يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال [أحمد]: أما أنا؛ فأعجب إلي أن يهريق ذلك الماء إذا كان من منام الليل، لا من النهار؛ فإن نوم النهار لايقال من منامه. قال [إسحاق]: هما سواء لايغمس يده في وضوءه حتى يغسلها
(4)
، وهذا غير صريح في الوجوب عن إسحاق بن راهويه، إلا أن بعض العلماء نقلوا الوجوب عنه، فلعلهم فهموا ذلك من عبارته السابقة أو غيرها.
- أما قول داود؛ فقد نقله عنه ابن حزم الظاهري
(5)
، وداود شيخ الظاهرية، فالظن الغالب أن ابن حزم لن يُخطئ في نقله عنه، وأما قول ابن حزم؛ فهذا ظاهر قد صرّح به في المحلّى بقوله: (وَفَرْضٌ على كل مستيقظ من نوم، قلَّ النوم أو كثر، نهاراً كان أو ليلاً،
(1)
العبارة في المطبوع [أسفل]!، وأظنه تصحيفاً والتصويبُ الذي أثبته في ظني أنسب للمعنى، والله أعلم.
(2)
سنن أبي بكر الأثرم ص (252).
(3)
في كتاب المسائل عن إمامي أهل الحديث أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه (1/ 212 - 213).
(4)
المصدر السابق، قال العراقي:(وقد خالف أحمدُ في ذلك صاحبَه إسحاقَ بنَ راهويه فقال: لا ينبغي لأحد استيقظ ليلاً أو نهاراً إلا أن يغسل يده قبل أن يدخلها الوضوء، قال: والقياس في نوم الليل أنه مثل نوم النهار. وما قاله إسحاق هو الذي عليه عامة العلماء وأجابوا عن الحديث بأن ذلك خرج مخرج الغالب). طرح التثريب (2/ 43)، والمقصود بما عليه عامة أهل العلم، هو التسوية بين نوم الليل والنهار، لا في حكم الوجوب، وهذا هو السياق.
(5)
انظر: المحلى (1/ 203).
قاعداً أو مضطجعاً أو قائماً، في صلاة أو في غير صلاة، كيفما نام، ألا يُدْخِل يده في وضوئه، في إناء كان وضوءُه، أو من نهر، أو غير ذلك، حتى يغسلها ثلاث مرات، ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات. فإن لم يفعل لم يُجْزِهِ الوضوء ولا تلك الصلاة)
(1)
.
- وخلاصة ماسبق أن نسبة القول بوجوب غسل الكفين للمستيقظ من النوم قبل غمسهما في الإناء لأبي هريرة أظهر من نسبته لابن عمر رضي الله عنهم، و الوجوب هو قول الحسن البصري، والصحيح عن الإمام أحمد، وهو قول داود وابن حزم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل من يرى وجوب غسل الكفين للمستيقظ من النوم قبل غمسهما في الإناء:
1/ حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده»
(2)
.
(1)
المحلى (1/ 200).
(2)
أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278)، وهذا لفظ مسلم، ولم يذكر البخاري التثليث في الغسل، واختلف الرواة عند مسلم عن أبي هريرة؛ فبعضهم يذكر التثليث وبعضهم لايذكره، وأيّا ماكان فإن التثليث إن لم يثبت من حديث أبي هريرة فهو ثابت من حديث ابن عمر رضي الله عنهم أخرجه ابن خزيمة (146)، والدارقطني (129)، والبيهقي (209)، وقال الدارقطني:(إسنادٌ حسن) قال البيهقي: (كذا قال الشيخ؛ لأن جابر بن إسماعيل مع ابن لهيعة في إسناده)، وهل يقصد الدارقطني بالحسن ماهو معروف بالاصطلاح المتأخر؟ فيه بحث. ويظهر أن الحديث لامطعن فيه وقد أثبته ابن خزيمة، ولم يتعقب البيهقي تحسين الدارقطني. وانظر: الإرشادات في تقوية الحديث بالشواهد والمتابعات ص (150) وفيه حقق الشيخ طارق بن عوض الله، أن معنى تحسين الدارقطني هو الغرابة أو النكارة كما هو صنيع بعض المتقدمين.
وجه الاستدلال:
- أنه نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها والنّهيُ يقتضي التحريمَ، وهذا النهي متضمن للأمر بالغَسْل خارجَ الإناء الذي هو غاية النهي
(1)
، ومقتضى الأمر الإيجابُ، ولا سيَّما أنّ غسل اليد مستحب مطلقاً، فلما خص به هذه الحال دل على وجوبه
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور منها:
- بأدلة القول الأول التي سبق ذكرها، فكلها صوارف عن الوجوب، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا استيقظ أراه أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه»
(3)
، فإن هذا الحديث مثل حديث النهي عن غمس اليد في الإناء قبل [غسلها] ثلاثاً كما ذكر أبو البركات ابن تيمية (ت 652) في المنتقى
(4)
، قال الشوكاني:(وإنما مثل المصنف محل النزاع بهذا الحديث؛ لأنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب الاستنثار عند الاستيقاظ، ولم يذهب إلى وجوبه أحد)
(5)
.
(1)
والأمر بالغسل هو صريح رواية البخاري (162): «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه» .
(2)
انظر: شرح عمدة الفقه لابن تيمية -كتاب الطهارة ص (174)، الشرح الممتع (1/ 51).
(3)
أخرجه البخاري (3295)، ومسلم (238)، ولفظ مسلم:«خياشيمه» بالجمع.
(4)
قال: (وأكثر العلماء حملوا هذا [يقصد الأمر بغسل اليدين] على الاستحباب، مثل ماروى أبوهريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه» متفق عليه). المنتقى ص (69).
(5)
نيل الأوطار (1/ 176)، قال ابن حزم في المحلى (1/ 203):(ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها. نعوذ بالله من ذلك. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أَحَقٌّ عليَّ أنْ أستنشق؟ قال نعم، قلت كم؟ قال ثلاثا، قلت عَمَّنْ؟ قال عن عثمان).
- ثم إن الأمر -وإن كان ظاهره الوجوب- إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل، وقد دلت الأدلة السابقة، وقامت القرينة المتصلة الآتي ذكرها على صرف الأمر إلى الاستحباب، فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي الشك. وهو قوله:«فإنه لا يدري أين باتت يده» ، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم، إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجوداً، والأصل الطهارة في اليد، فلتستصحب
(1)
.
- ومن القرائن الصارفة قوله: «حتى يغسلها ثلاثاً» فالتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على الندبية
(2)
، إذِ النَّجاسة المتيقنة لا يجب فيها العدد عدا الاستنجاء، وولوغ الكلب
(3)
، وهذه الأمور إذا ضُمت إليها البراءة الأصلية لم يبق الحديث منتهضاً للوجوب ولا لتحريم الترك
(4)
.
(1)
انظر: إحكام الأحكام لابن دقيق (1/ 69)، قال ابن قدامة في المغني (1/ 73):(وطريان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها، كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث، فيدل ذلك على أنه أراد الندب) قال النووي في شرحه على مسلم (3/ 182): (مذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الاناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار أو شك في نجاستها من غير نوم، وهذا مذهب جمهور العلماء)، قال الشوكاني:(قوله «لا يدري أين باتت يده» ليس تشكيكاً في العلة بل تعليلاً بالشك وأنه يستلزم ما ذكر). نيل الأوطار (1/ 175).
(2)
انظر: فتح الباري (1/ 264)، شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 129).
(3)
انظر: المغني (1/ 40)، الإنصاف (1/ 313). والمذهب في غسل النجاسات غير التي في الأرض وغير الكلب ثلاث روايات: إحداهن: يجب غسلها سبعاً. وهي المذهب. وعليها جماهير الأصحاب، واختارها الخرقي، والرواية الثانية: يجب غسلها ثلاثاً، اختارها ابن قدامة في العمدة، والثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد، اختاره ابن قدامة في المغني، وابن تيمية.
(4)
نيل الأوطار (1/ 175).
ويمكن مناقشة الوجهين الأخيرين:
- بأنهما مبنيان على أن العلة في الأمر بغسل اليدين هو احتمال تنجسهما، قال ابن القيم: (وهو ضعيف
…
؛ لأن النهي عام للمستنجي والمستجمر والصحيح وصاحب البثرات، فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمر وصاحب البثور وهذا لم يقله أحد)
(1)
.
- ثم صحح ابن القيم متابعاً شيخه ابن تيمية
(2)
أن العلة
(3)
في النهي: هي خشية مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه، وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم، و اليد إذا باتت ملابسة للشيطان لم يدرِ صاحبها أين باتت
(4)
.
(1)
تهذيب السنن (1/ 85).
(2)
قال ابن تيمية رحمه الله: (فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها= كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها، [ثم ذكر حديث الأمر بالاستنثار وغسل اليدين ثلاثاً للمستيقظ، ثم قال:] فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل). مجموع الفتاوى (21/ 12).
(3)
ذهب بعض العلماء إلى أن العلة في النهي تعبدية ولايعقل معناها. انظر: مجموع الفتاوى (21/ 44)، قال ابن القيم:(ويرد هذا القول أنه معلل في الحديث بقوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده» تهذيب السنن (1/ 84).
(4)
انظر المصدر السابق، قال ابن القيم:(وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سر يعرفه من عرف أحكام الأرواح واقتران الشياطين بالمحال التي تلابسهاٍ، فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث، فإذا نام العبد لم ير في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه فيستوطنه في المبيت، وأما ملابسته ليده؛ فلأنها أعم الجوارح كسباً وتصرفاً ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها، ولهذا سميت جارحة؛ لأنه يجترح بها أي: يكسب، وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء وهي كما ترى وضوحاً وبياناً، وحسبك شهادة النص لها بالاعتبار).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فإنه لم يخالف نصاً صحيحاً صريحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان القول بعدم الوجوب أقوى، وهو قول الجمهور؛ لقوة ما استدلوا به، ولما ورد على القول بالوجوب من مناقشات.
لكن القول بشذوذ القول بالوجوب قول بعيد، كيف وهو رأي الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، واختاره الحسنُ البصريُّ، ومِنْ بَعْده الإمامُ أحمدُ، فهو لم يخالف نصاً صريحاً، ولا إجماعاً صحيحاً، والله أعلم.
المبحث الثالث: طهارة الخمر
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال بعضهم: (الأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة)، علّق على ذلك الذهبي بقوله:(هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتا سالماً من علة، وبأن لا يكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثا صحيحاً معارضاً للآخر، أما من أخذ بحديث صحيح وقد تنكبه سائر أئمة الاجتهاد، فلا).
سير أعلام النبلاء (16/ 405)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الخمر في اللغة: مركبة من الخاء والميم والراء، و أصل هذا التركيب يدل على التغطية، والمخالطة
(1)
، فالتخمير: التغطية، والاختمار: الإدراك، والمخامرة: المخالطة
(2)
، و تسمية الشراب المسكر بالخمر؛ لأنه يغطي ويستر العقل، أو يخالطه
(3)
.
قال ابن سيده: (والخَمْرُ: مَا أسكر من عَصيرِ العِنَب)، ثم قال:(حَقِيقَة الْخمر إِنَّمَا هِيَ للعِنب دون سَائِر الْأَشْيَاء)
(4)
، وقال الفيروزآبادي: (الخمر: ما أسكر من عصير العنب، أو عام
…
، والعموم أصح؛ لأنها حرمت، وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر)
(5)
،
(1)
انظر: مقاييس اللغة (2/ 215).
(2)
انظر: لسان العرب (4/ 255)، ومقاييس اللغة (2/ 215)، قال ابن عبدالبر:(والثلاثة الأوجه كلها موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار، وهي مخالطة للعقل وربما غلبت عليه وغطته). التمهيد (1/ 264).
(3)
انظر: القاموس المحيط ص (387)، المعجم الوسيط (1/ 255).
(4)
المحكم والمحيط الأعظم (5/ 185)، قال ابن عبدالبر:(ما يعصر من العنب يسمى خمراً في لسان العرب، لكن الاسم الشرعي لا يقع عليها إلا أن تغلى وترمى بالزبد ويسكر كثيرها أو قليلها، وفي اللغة قد يسمى العنب خمراً لكن الحكم يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي) التمهيد (4/ 141)، ويؤيد ماذكره ابن عبدالبر من أن العنب قد يسمى خمراّ في اللغة قوله تعالى في سورة يوسف:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ، قال الضحاك:(يعني: عنباً. قال: وأهل عمان يسمون العنب خمراً) تفسير ابن كثير (4/ 388)، قال ابن القاسم:(وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها)، قال ابن الجوزي: (وفي تسمية العنب خمراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سماه باسم ما يؤول إِليه
…
وهذا قول أكثر المفسرين). زاد المسير (2/ 438)، وهو الذي نقل قول ابن القاسم أيضاً.
(5)
القاموس المحيط ص (387).
ولايظهر تعارض بين النقلين، فالخصوص هي الحقيقة اللغوية، والعموم هي الحقيقة الشرعية، وهذا ظاهر من تعليل صاحب القاموس
(1)
.
أما الخمر في الاصطلاح:
- فهناك معنى متفق عليه عند الفقهاء، ومعنى اختلفوا فيه، قال النووي:(الخمر يطلق على عصير العنب المشتد إطلاقاً حقيقياً إجماعاً، واختلفوا هل يطلق على غيره حقيقة أو مجازاً)
(2)
، فعصير العنب المسكر يسمى خمراً عند الجميع، أما غيره من الأنبذة ونحوها إذا كانت مسكرة فهل تُسمّى خمراً؟ اختلفوا في ذلك مع اتفاقهم جميعاً على تحريم كل مسكر
(3)
.
- فهي عند جماهير العلماء
(4)
: (اسمٌ لكلِّ مُسكرٍ خَامَرَ العقلَ، أي:
(1)
نقل بعضهم اتفاق أهل اللغة على أن الخمر ماكان من العنب، قال الزيلعي: (الخمر حقيقة: اسم للنيء من ماء العنب المسكر باتفاق أهل اللغة
…
، وتسمية غيرها خمراً مجاز). تبيين الحقائق (6/ 44)، قال الخطابي:(زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً عرب فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه) فتح الباري (10/ 48) وقد تتابع عدد من الشراح على نقل هذا النص، ولم أجده في معالم السنن، ووجدت تعليقاً له بمعناه، حيث قال معلقاً على أثر عمر رضي الله عنه:(نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمرُ ما خامر العقل)، قال الخطابي:(فيه البيان الواضح أن قول من زعم من أهل الكلام أن الخمر إنما هو عصير العنب النيء الشديد منه وإن ما عدا ذلك فليس بخمر باطل). معالم السنن (4/ 262).
(2)
المجموع (20/ 118)، قال ابن عبدالبر:(وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر فيما بلغنا وصح عندنا أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر). التمهيد (1/ 245).
(3)
قال الشافعي: (السكر محرم عند جميع أهل الإسلام) الأم (6/ 223)، وقال ابن تيمية:(فإن كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين) مجموع الفتاوى (34/ 218).
(4)
قال مالك: (ما أسكر من الأشربة كلها فهو خمر) المدونة (4/ 523)، وقال الشيرازي:(واسم الخمر يقع على كل مسكر) المهذب (3/ 370)، قال أبو داود:(سمعت أحمد غير مرة، يقول: كل مسكر خمر) مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (346).
غطاه)
(1)
، قال ابن عبدالبر:(قال أهل المدينة، وسائر أهل الحجاز، وعامة أهل الحديث وأئمتهم: إن كل مسكر خمر، حكمه حكم خمر العنب في التحريمِ، والحدِّ على مَنْ شرب شيئاً من ذلك كله)
(2)
.
- وذهب الحنفية
(3)
، وبعض المالكية
(4)
، و أكثر الشافعية
(5)
، إلى أن الخمر هو:(عصير العنب إذا صار مسكراً)، ويطلق الخمر على غيره مجازاً لا حقيقة.
- ومحل النزاع: إنما هو في النبيذِ
(6)
ونحوه إذا غلى واشتد، وشُرب منه القدرُ الذي لا يُسكر
(7)
، فهل يحرم ويجري عليه أحكام الخمر؟ وماذهب إليه الجمهور هو الصحيح، ومما يدل على ذلك: ماجاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم
(1)
المصباح المنير (1/ 181).
(2)
التمهيد (1/ 245).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (5/ 112)، الهداية في شرح البداية (4/ 393). قال ابن عابدين:(الخمر حقيقة تطلق على ما ذكرنا، وغيره كل واحد له اسم مثل المثلث والباذق والمنصف ونحوها وإطلاق الخمر عليها مجازا وعليه يحمل الحديث [حديث: "كل مسكر خمر"ونحوه]). رد المحتار (6/ 448)، وأبوحنيفة قيد عصير العنب الذي يسمى خمراً بوصف الغليان والشدة و قذف الزبد، وقذفُ الزبد تفرد بذكره أبوحنيفة، وخالفه الصاحبانِ و جمهورُ العلماء؛ فلم يذكروا إلا الغليان والشدة، والتقييد بوصف السكر أقرب.
(4)
انظر: حاشية الدسوقي (4/ 352).
(5)
قال الشافعي في الأم (6/ 223): (والخمر: العنب الذي لا يخالطه ماء ولا يطبخ بنار ويعتق حتى يسكر)، وقال الهيتمي:(وحقيقة الخمر عند أكثر أصحابنا المسكر من عصير العنب) تحفة المحتاج (9/ 166)، وفي الإقناع للشربيني (2/ 530):(ونسب الرافعي إلى الأكثر أنه لا يقع عليها [أي: المسكرة من غير العنب] إلا مجازاً، أما في التحريم والحد فكالخمر).
(6)
النبيذ: هو نبيذ التمر والزبيب وغيرهما، سمي بذلك لأنه ينبذ فيه ويترك حتى يشتد. انظر: تحرير ألفاظ التنبيه ص (46)، المصباح المنير (2/ 590).
(7)
انظر: حاشية العدوي على شرح الخرشي (8/ 108)، وذكر أن هذا هو محل النزاع بينهم وبين الحنفية، مع أنه وافقهم في تعريف الخمر.
حُرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت، فإذا مناد ينادي:(ألا إن الخمر قد حرمت)، قال: فَجَرَتْ في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها
(1)
.
- وفي رواية للبخاري قال أنس رضي الله عنه: إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دجانة، وسهيلَ بن البيضاءِ خليط بسرٍ وتمرٍ؛ إذ حرمت الخمر، فقذفتها، وأنا ساقيهم وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذ الخمر
(2)
.
- قال ابن عبدالبر: (في هذا الحديث دليل واضح على أن نبيد التمر إذا أسكر خمر، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر، بل لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره)
(3)
.
- قال ابن حجر: ("وإنا نعدها يومئذ الخمر" وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر، سواء كان من العنب، أو من نقيع الزبيب، أو التمر، أو العسل، أو غيرها)
(4)
.
- وماجاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمرُ ما خامر العقل)
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980)، وسيأتي الاستدلال بهذا الحديث على طهارة الخمر أيضاً.
(2)
صحيح البخاري (5600).
(3)
التمهيد (1/ 234)، وانظر: تفسير القرطبي (6/ 294).
(4)
فتح الباري (10/ 39).
(5)
أخرجه البخاري (5588)، ومسلم (3032).
- قال ابن عبدالبر: (وحسبك به [أي: عمر] عالماً باللسان والشرع
…
وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر؛ يخطب به عمر بالمدينة على المنبر، بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان، ولم يفهموا من الخمر إلا المعنى الذي ذكرنا)
(1)
.
وأعلى من ذلك كلِّه وأفصحُ، قولُ مَنْ أُوتِيَ جوامعَ الكلم صلى الله عليه وسلم:«كل مسكر خمر»
(2)
.
- قال ابن عثيمين: (والعجبُ ممن قال: إِنَّ الخمر لا يكون إِلا من نبيذ العنب، وقد قال أفصح العرب وأعلمهم: «كلُّ مسكرٍ خَمْر، وكلُّ مُسْكرٍ حرام»، مع أنَّه لو وُجِدَ ذلك في "القاموس المحيط" مثلاً ومؤلِّفه فارسيٌّ لسُلِّمَ به)
(3)
، قال ابن تيمية:(والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر)
(4)
.
- ثم إنه لا يمتنع أن يكون الخمر في اللغة يطلق على عصير العنب المسكر خاصة، ويطلق في الشرع على كل مسكر، وهو في كُلٍّ
(1)
التمهيد (1/ 251)، وقد نقلها القرطبي في تفسيره بلا عزو (6/ 294).
(2)
أخرجه مسلم (2003)، وقد طعن في ذلك بعض الحنفية! فقال السرخسي في المبسوط (24/ 16):(لا يكاد يصح)، وقال المرغيناني في الهداية (4/ 393):(طعن فيه يحيى بن معين رحمه الله، أما قول السرخسي فهذا مردود، فالسرخسي مع جلالة قدره إلا أنه ليس من أهل الصنعة الحديثية [انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/ 28]، وعلى فرض أنه من أهل الحديث فلا يعارض قوله بما أخرجه مسلم مصححاً له إلا ببينة، وأما نسبة ذلك لابن معين، فقد أجاب عنه بعض الحنفية فقال الزيلعي [وهو من أكثرهم اطلاعاً كما وصفه ابن حجر]: (لم أجده في شيء من كتب الحديث) نصب الراية (4/ 295)، وقال نحواً من ذلك ابن الهمام، وذكر ذلك ابن رجب ورده فقال:(وأمَّا ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معينٍ من طعنه فيه، فلا يثبت ذلك عنه). جامع العلوم والحكم (3/ 1227).
(3)
الشرح الممتع (1/ 428).
(4)
مجموع الفتاوى (19/ 281).
منهما حقيقة، كغيره من الألفاظ التي نقلت الشريعة حقائقها، كالصلاة والزكاة والصيام
(1)
.
والخلاف حقيقي له آثارُ وثمارٌ، من أهمها:
- أن كل شراب مسكر، فحكم قليله ولو لم يسكر كحكم كثيره، على حد قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أسكر كثيره فقليله حرام»
(2)
، وأخذ بذلك الجمهور خلافاً للحنفية، فبعض الأشربة عندهم لايحرم منها إلا القدح الأخير المسكر
(3)
، (والخلاف إنما هو عند قصد التقوي، أما عند قصد التلهي فحرام إجماعاً)
(4)
، ثم إن محمدَ بنَ الحسن قد خالف أباحنيفة في ذلك، وقوله هو المفتى به عند الحنفية، قال
(1)
انظر: روح المعاني (1/ 507) وقد نبهت هذا التنبيه مع وضوحه؛ لأن الحنفية يستدلون بإجماع أهل اللغة على الحقيقة الشرعية، ولا يُسلَّم بالإجماع، وعلى فرض التسليم فلا يلزم أن تطابق الحقيقة الشرعية الحقيقة اللغوية.
(2)
رواه بهذا اللفظ جمع من الصحابة، منهم: عبدالله بن عمر عند أحمد (5648) وابن ماجه (3392)، و عبدالله ابن عمرو عند أحمد (6558) والنسائي (5607) وابن ماجه (3394)، و أنس عند أحمد (12099)، و جابر بن عبدالله عند أحمد (14703) وأبي داود (3681) والترمذي (1865) وابن ماجه (3393)، وجاء معناه عن سعد بن أبي وقاص، وعلي، وعائشة، وابن عمر، وخوات بن جبير، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهو حديث ثابت صحيح، بل عده الكتاني في نظم المتناثر ص (154) من الأحاديث المتواترة.
(3)
قال ابن رشد: (أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها، أعني: التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز، وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين) بداية المجتهد (3/ 23)، وقد أظهر قولَ الحنفية مروّجاً له في الإعلام المعاصر د. سعد الدين الهلالي، ورد عليه العلماء في مصر وغيرها، وقال الشيخ مصطفى العدوي:(هذا الرأي المذكور رأي شاذٌ جدّاً).
(4)
ملتقى الأبحر (4/ 250)، قال ابن عابدين:(فالحرمة عند قصد اللهو ليست محل الخلاف بل متفق عليها) رد المحتار على الدر المختار (6/ 455).
في تكملة رد المحتار: (والقدح الأخير المسكر هو المحرم، أي: على قول الإمام، دون ما قبله، وإن كان المفتى به قول محمد [بن الحسن]، أن ما أسكر كثيره فقليله حرام)
(1)
، وقال غير واحد من الحنفية:(الفتوى في زماننا بقول محمد؛ لغلبة الفساد)
(2)
.
- وهناك ثمرة ظاهرة وهي في اليمين كما لوحلف ألا يشرب خمراً، فشرب نبيذَ تمرٍ قد اشتد
(3)
، ومن ذلك أيضاً: ماذكره المرغيناني الحنفي: (أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر
(4)
، حتى لا يكفر مستحلها
(5)
، ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية،
(1)
قرة عيون الأخيار لتكملة رد المحتار (8/ 432)، وانظر: الدر المختار (6/ 454).
(2)
اللباب في شرح الكتب (3/ 215).
(3)
انظر: النوادر والزيادات لابن أبي زيد (4/ 86)، ونهاية المحتاج (8/ 201)، والإنصاف للمرداوي (10/ 228).
(4)
قال الدسوقي: (وحاصل الفقه أن الخمر، وهو ما اتخذ من عصير العنب ودخلته الشدة المطربة شربه من الكبائر وموجب للحد ولرد الشهادة إجماعاً، لا فرق بين شرب كثيره وقليله الذي لا يسكر؛ وأما النبيذ وهو ما اتخذ من ماء الزبيب أو البلح ودخلته الشدة المطربة فشرب القدر المسكر منه كبيرة وموجب للحد وترد به الشهادة إجماعاً، وأما شرب القدر الذي لا يسكر منه لقلته؛ فقال مالك: إنه كبيرة وموجب للحد ولرد الشهادة، وقال الشافعي: إنه صغيرة فلا يوجب حدا ولا ترد به الشهادة، وعند أبي حنيفة لا إثم في شربه بل هو جائز فلا حد فيه ولا ترد به الشهادة، فإذا كان لا يسكر الشخص إلا أربعة أقداح فلا يحرم عنده إلا القدح الرابع) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 352).
(5)
عدم تكفير مستحل المسكر (من غير عصير العنب) هو قول عامة العلماء، جاء في الموسوعة الكويتية (5/ 23):(الخمر التي يكفر مستحلها هي ما اتخذ من عصير العنب، أما ما أسكر من غير عصير العنب النيء؛ فلا يكفر مستحله، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر الثابتة بدليل قطعي)، قال ابن حزم في المحلى (6/ 193):(مستحل النبيذ المسكر وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه لا يكفر من جهل ذلك ولم تقم عليه الحجة به، فإذا ثبت ذلك عنده، وصح لديه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ذلك فأصر على استحلال مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر ولا بد، ولا يكفر جاهل أبدا حتى يبلغه الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغه وثبت عنده فحينئذ يكفر إن اعتقد مخالفته عليه السلام، ويفسق إن عمل بخلافه غير معتقد لجواز ذلك).
وحرمة الخمر قطعية، ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر
(1)
، ويجب بشرب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة روايةً واحدةً، ويجوز بيعها، ويضمن متلفها عند أبي حنيفة
…
بخلاف الخمر)
(2)
.
إذا تبين واتضح معنى الخمر فهذا هو تحرير محل الشذوذ في مسألتنا:
1.
فقد نُقل الإجماع على طهارة الجامد من المسكرات كالحشيش
(3)
، وخالف الحنابلة على الصحيح من المذهب وقالوا: بنجاستها
(4)
، وهو اختيار ابن تيمية
(5)
.
2.
و النبيذ ليس بخمر عند الجميع مالم يشتد ويصبح مسكراً، وهو
(1)
قال ابن عبدالبر: (واختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة، فقال العراقيون: إنما الحرام منها السكر وهو فعل الشارب، وأما النبيذ في نفسه؛ فليس بحرام ولا نجس) التمهيد (1/ 254).
(2)
الهداية شرح البداية (4/ 395).
(3)
قال ابن حجر الهيتمي: (وقد حكى الشيخُ تقي الدين ابن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماعَ على أنها ليست نجسة) الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 231)، وقال القرافي في الفروق (1/ 218):(من صلى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعاً)، والقرافي يُفرق بين قاعدة المسكرات، وقاعدة المرقدات، وقاعدة المفسدات، وقال:(هذه القواعد الثلاث قواعد تلتبس على كثير من الفقهاء)، وجعل الحشيشة من المفسدات، وقد نوزع في ذلك، قال الهيتمي: (الحشيشة
…
مسكرة بالاتفاق
…
وهذا الخطأ [عدم جعل الحشيشة من المسكرات] حصل أيضا للقرافي) الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 231).
(4)
قال المرداوي: (الحشيشة المسكرة نجسة على الصحيح، اختاره الشيخ تقي الدين. وقيل: طاهرة، قدمه في الرعاية، والحواشي. وقيل: نجسة إن أميعت، وإلا فلا). الإنصاف (1/ 320 - 321).
(5)
قال رحمه الله: (والحشيشة المسكرة حرام ومن استحل السكر منها فقد كفر؛ بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول والحشيشة كالعذرة). مجموع الفتاوى (34/ 204).
قبل أن يصبح مسكراً طاهر بإجماع العلماء
(1)
.
3.
واتفق العلماء على طهارة الخمر إذا تخللت بنفسها
(2)
.
4.
ومابين النبيذ غير المشتد والخمر المتخلل بنفسه هو الخمر المسكر، وعامة العلماء على نجاسته وعدم طهارته
(3)
، بل حكى غير واحدٍ من العلماء الإجماع على ذلك، ونُسب لبعض العلماء القول بطهارته، وقال به بعض المعاصرين، وحُكم على قولهم بالشذوذ، وهذا هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: المجموع (2/ 564).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 601).
(3)
وهذا يشمل الخمر، و كذلك النبيذ المسكر ونحوه على تفريق الحنفية، وغيرُ الخمرِ نجاستها عند الحنفية مخففة على قول ومغلظة على القول الآخر، أما الخمر فنجاستها مغلظة. انظر: الهداية شرح البداية (4/ 395).
المطلب الثاني: القائلون بطهارة الخمر من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420)
(1)
، و سيد سابق (ت 1420)
(2)
، و ابن عثيمين (ت 1421)
(3)
، وغيرهم
(4)
.
(1)
قال في السلسلة الصحيحة (5/ 460): (الخمر طاهرة مع تحريمها)، وفي تمام المنة ص (54) قال:(وهو الراجح)، والعجيب أن الشيخ في السلسلة الصحيحة قال:(وقد قال كثير من الأئمة المتقدمين بطهارتها)، والحقيقة أنهم قلة قليلة لم يسمِّ منهم سوى ثلاثة في مقابل عامة العلماء، وإن كان الحق لايرتبط بالكثرة.
(2)
قال في فقه السنة (1/ 29): (فتحريم الخمر، والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستها، بل لابد من دليل آخر عليه، وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه).
(3)
قال في الشرح الممتع (1/ 429): (جمهور العلماء ومنهم الأئمَّة الأربعة، واختاره شيخ الإِسلام، أنَّها [الخمر] نجسة
…
والصحيح أنها ليست نجسة). وهذه من المسائل التي خالف فيها ابنَ تيمية، وشيخَه السعدي.
(4)
وممن قال بذلك أيضاً: بخيت المطيعي، ورشيد رضا، وأحمد شاكر، وعلي الطنطاوي، و وهبة الزحيلي. انظر: الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (306).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما في المطلب الرابع في أدلة القول الأول.
3/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن حزم (ت 456) بقوله: (وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل)
(1)
. والفاسد من الألفاظ المرادفة للشاذ
(2)
.
- و ابن رشد بقوله: (اتفق المسلمون على نجاسة الخمر إلا خلاف شاذ)، نقل ذلك الشيخ عبدالرحمن القاسم في حاشية الروض
(3)
، ولم أجد هذا النص عند ابن رشد الجد، ولا الحفيد، لكنني وجدت معناه عند الجد (ت 520) حيث يقول: (فلا خلاف بين أحد من المسلمين أعلمه في أن الخمرة نجسة
…
إلا ما ذهب إليه ابن لبابة في أن نجاستها مختلف فيه
…
وقوله خطأ صراح، بل لا
(1)
رسائل ابن حزم (3/ 210).
(2)
قال الجويني: (فإذا أضيف الفساد أو البطلان إلى حاصل موجود فعلى معنى سقوط حكمه ونفي الاعتداد به في المراد
…
كل واحد منهما يستعمل فيما لا يقع موقعه؛ فيكون كأنه لم يوجد). الكافية في الجدل ص (44).
(3)
(1/ 350).
اختلاف في أنها نجسة تنجس الثياب والماء والطعام)
(1)
، والشاهد قوله:(خطأ صراح)، والخطأ مما يرادف الشاذ.
- و النووي (ت 676) بقوله: (واعلم أنه لا فرق في نجاسة الخمر بين الخمر المحترمة وغيرها، وكذا لو استحال باطن حبات العنب خمراً فإنه نجس، وحكى إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وجهاً ضعيفاً أن الخمر المحترمة طاهرة، ووجهاً أن باطن حبات العنب المستحيل طاهر، وهما شاذان والصواب النجاسة)
(2)
.
(1)
المقدمات الممهدات (1/ 443)، أما الحفيد (ت 595) فإنه يقول:(وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين) بداية المجتهد (1/ 83).
(2)
المجموع (2/ 564)، والذي يظهر أن المقصود بالشذوذ هنا الشذوذ المذهبي، لكن نَقلَ النوويّ للإجماع على نجاسته قد يدل على إرادته للشذوذ الفقهي العام، والله أعلم.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بنجاسة الخمر:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
(1)
.
وجه الاستدلال:
- أن قوله: {رِجْسٌ} نصٌّ في المسألة
(2)
لا يعدل عنه، قال العيني في بيان النجاسة المغلظة عند الحنفية إنها هي التي:("ثبتت بدليل مقطوع فيه" أي: بنص وارد فيه بلا معارضة نص آخر كالخمر مثلاً، فإن نجاسته بنص القرآن لقوله {رِجْسٌ} أي: نجس ولم يعارضه نص آخر)
(3)
، وقال ابن العربي في قوله:{رِجْسٌ} قال: (وهو النجس) ثم قال: (ولا خلاف في ذلك بين الناس، إلا ما يؤثر عن ربيعة)
(4)
.
(1)
الآية (90) من سورة المائدة.
(2)
النص في اللغة بمعنى الظهور، ومنه سميت منصة العروس التي تجلس عليها؛ لظهورها عليها، والنص في الاصطلاح: ما يفيد بنفسه من غير احتمال، والاحتمال الذي لادليل عليه لايخرج النص عن دلالته، وهذا هو الأصل في إطلاق النص في مقابلة الظاهر والمجمل، وقد يطلق النص على مايقابل الأدلة العقلية كما يقال: لا اجتهاد مع النص. انظر: روضة الناظر: (1/ 506 - 508).
(3)
البناية شرح الهداية (1/ 727).
(4)
أحكام القرآن (2/ 163).
ونوقش هذا الاستدلال:
بعدم التسليم فليس في الآية دلالةٌ ظاهرةٌ بَلْهَ كونِها نصّاً في المسألة؛ لأن الرجس عند أهل اللغة: القذر
(1)
، ولا يلزم من ذلك النجاسة
(2)
، ثم إن في الآية ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس؛ لاقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، وهي طاهرة بالإجماع
(3)
.
وأجيب عن ذلك:
- بأنَّ المرادَ الحقيقةُ الشرعيةُ وليستِ اللغويةَ
(4)
؛ فالله تعالى سمَّى الخمر رجساً كما سمّى النجاساتِ من الميتةِ، والدم المسفوحِ، ولحمِ الخنزيرِ رجساً
(5)
، ولايضر قرن الخمر بالأشياء الطاهرة؛ لأن دلالة الاقتران ضعيفة
(6)
، فيخرج الطاهر منها بدلالة الإجماع، ويبقى الخمر على مقتضى الكلام
(7)
.
- و أيّاً ماكان فقد قال ابن حجر: (والتمسك بعموم الأمر باجتنابها
(1)
قال في اللسان (6/ 94): (الرجس: القذر).
(2)
انظر: المجموع (2/ 564).
(3)
انظر: السيل الجرار ص (25)، هكذا قال الشوكاني:(بالإجماع) مع أن ابن حزم يرى نجاستها وبطلان صلاة من حمل شيئاً منها.
(4)
انظر: البناية شرح الهداية (1/ 727)
(5)
كما في قوله تعالى في سورة الأنعام آية (145): {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} ، انظر: المقدمات الممهدات (1/ 442).
(6)
المقصود أن من منع نجاسة الخمر، علل ذلك بقرنها بأشياء طاهرة فدل على طهارة الجميع، و دلالة الاقترانِ ضعيفة عند الجمهور، فهي لا تقوى على إثباتِ الأحكامِ وحدها، وإن كان لا بأس من التَّقَوِّيَ بها إذا قامت القرائنُ الدالةُ على ذلك. انظر:"دلالة الاقتران ووجه الاحتجاج بها عند الأصوليين" ص (69).
(7)
انظر: المجموع (2/ 564).
كافٍ في القول بنجاستها)
(1)
، بل إن لفظ الرجس أبلغ من لفظ النجس؛ إذ إن الرجس أصلها من الرَجس -بفتح الراء-، وهو: شدَّةُ الصوت، قال الرازي:(يقال: سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد، فكان الرجس هو العمل الذي يكون قويَّ الدرجة كامل الرتبة في القبح)
(2)
.
وأجيب عن الجواب:
بعدم التسليم في دلالة الرجس على النجس في الحقيقة الشرعية، فروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} قال: سَخَطٌ
(3)
، قال ابن تيمية:(وبالجملة لفظ (الرجس) أصله القذر، ويراد به الشرك، كقوله:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} ويراد به الخبائث المحرمة كالمطعومات والمشروبات، كقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ
(1)
فتح الباري (10/ 39)، فالأمر باجتنابها، وإراقتها، وكسر دنانها، وشق ظروفها، وغسل أوانيها، واستخباث الشرع لها مما لم يرد مثله ولا قريباً منه في البول بل ولا الغائط، ألا يكفي في الدلالة على نجاسة الخمر؟!.
(2)
تفسير الرازي (12/ 423).
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره (10/ 565) من طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس منقطعة؛ فإنه يروي عن ابن عباس من كتاب ولم يلقه، قال الخليلي في الإرشاد (1/ 394):(وأجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس)، قال أبوجعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص (75):(والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة وهذا القول لا يوجب طعنا؛ لأنه أخذه عن رجلين ثقتين وهو في نفسه ثقة صدوق وحدثني أحمد بن محمد الأزدي، قال: سمعت علي بن الحسين، يقول: سمعت الحسين بن عبد الرحمن بن فهم، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول بمصر: "كتاب التأويل عن معاوية بن صالح لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف به ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلاً").
لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا}، وقوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} )
(1)
، وفي السنة مثل ذلك، قال ابن الأثير:(الرجس: القذر، وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والكفر)
(2)
، ولابْنِ عطيَّةَ كلامٌ جميلٌ، حيث يقول في معنى الرجس: (كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب
…
وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس، والرجز العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين)
(3)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على نجاسة الخمر غير واحد من العلماء:
1.
قال الماوردي (ت 450): (فأما الخمر فنجس بالاستحالة
(4)
، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم
(5)
.
2.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر فيما بلغنا وصح عندنا أن عصير العنب إذا رمى بالزبد، وهدأ، وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر، وأنه ما دام على حاله تلك حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير، رجس نجس
(1)
منهاج السنة (7/ 81).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 200).
(3)
تفسير ابن عطية (2/ 233)، وفرَّق أيضاً ابن درَيْد بين الرِّجْس والرِّجْزِ والرِّكْسِ، فجعل الرِّجْسَ: الشرَّ، والرِّجْزَ: العذابَ، والرِّكْسَ: العَذِرةَ والنَّتْن، ثم قال:(والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ). انظر: اللباب في علوم الكتاب (7/ 506).
(4)
يعني: أن الخمر استحالت عن شيء طاهر؛ كالعنب وغيره فأصبحت خمراً، وهذه هي النكتة في تفريق بعض العلماء بين الخمر وغيره، إذا استحال إلى شيء طاهر، فإذا انقلبت الخمر إلى خل فقد عادت إلى الأصل فطهرت، بخلاف غيرها، وقد رد ذلك أبو العباس ابن تيمية، وأنه لا فرق؛ فالاستحالة إلى الطاهر تطهرها كلها. انظر: مجموع الفتاوى (20/ 225).
(5)
الحاوي الكبير (2/ 259).
كالبول إلا ما روي عن ربيعة في نُقَطٍ من الخمر شيء لم أَرَ لذكره وجهاً؛ لأنه خلاف إجماعهم)
(1)
.
3.
وقال ابن حزم (ت 456): (وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة، وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل)
(2)
.
4.
وقال ابن رشد الجد (ت 520): (فلا خلاف بين أحد من المسلمين أعلمه في أن الخمرة نجسة)
(3)
5.
وقال ابن العربي (ت 543) بعد ذكره لمعنى {رِجْسٌ} قال: (وهو النجس) ثم قال: (ولا خلاف في ذلك بين الناس، إلا ما يُؤثَرُ عن ربيعة أنه قال: إنها محرمة، وهي طاهرة، كالحرير عند مالك محرم، مع أنه طاهر)
(4)
.
6.
وقال النووي (ت 676): (الخمر نجسة عندنا
…
ونقل الشيخ أبو حامد
(5)
الإجماع على نجاستها)
(6)
.
7.
وقال العيني (ت 855): (انعقد الإجماع على نجاستها، وداودُ لا يُعْتَبر خلافه في الإجماع، ولا يصح ذلك عن شريعة)
(7)
.
(1)
التمهيد (1/ 245)، وقال في (1/ 336): (
…
النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط والمذي والخمر).
(2)
رسائل ابن حزم (3/ 210).
(3)
المقدمات الممهدات (1/ 443).
(4)
أحكام القرآن (2/ 164).
(5)
المقصود بأبي حامد عند الشافعية عند الإطلاق الإسفراييني، وليس الغزالي، قال النووي:(تكرر فى كتب المذهب)، أما إذا قيل: القاضي أبو حامد فهو المروذي، قال النووي:(فغلب في الأول [الإسفراييني] استعمال الشيخ، وفي الثاني القاضي). تهذيب الأسماء واللغات (2/ 208 - 211).
(6)
المجموع (2/ 563).
(7)
البناية شرح الهداية (1/ 447).
8.
وقال ابن مفلح (ت 884): (وهي نجسة إجماعاً، لكن خالف فيه الليث، وربيعة، وداود، وحكاه القرطبي عن المزني، فقالوا بطهارتها)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بعدم التسليم بالإجماع بل الخلاف حاصل
(2)
، بمخالفة الحسنِ البصريِّ
(3)
(ت 110)، و ربيعةَ
(4)
(ت 163)، والليثِ بن سعدٍ
(5)
(ت 175)
(6)
، والمزنيِّ
(7)
(ت 264)
(8)
، وداودَ الظاهري (ت 270)
(9)
، ومن
(1)
المبدع (1/ 209).
(2)
انظر: الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (304).
(3)
قال الشربيني: (ونقله بعضهم عن الحسن). مغني المحتاج (1/ 225)، وانظر: الحاوي الكبير (2/ 259).
(4)
ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ التيمي، المعروف بربيعة الرأي؛ لأنه كان يُعرف بالرأي والقياس، سمع أنس بن مالك، والسائب بن يزيد الصحابيين، وهو شيخ مالك بن أنس، قال مالك:(ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة)، قال النووي:(اتفق العلماء من المحدثين وغيرهم على توثيقه وجلالته وعظم مرتبته فى العلم والفهم)، توفي سنة (136) هـ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 189)، وفيات الأعيان (2/ 288)، سير أعلام النبلاء (6/ 89).
(5)
قال القرطبي في تفسيره (6/ 288): (فَهِمَ الجمهورُ من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكمَ بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة، والليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة).
(6)
الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي، إمام أهل مصر فى زمانه، مجمع على جلالته وإمامته وعلو مرتبته فى الفقه والحديث، قال الشافعي وغيره:(كان الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أنه ضيعه أصحابه) يعني: لم يقوموا به، توفي سنة (175) هـ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 73)، سير أعلام النبلاء (8/ 136).
(7)
أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، تلميذ الشافعي، ولد في السنة التي مات فيها الليث بن سعد، وهو قليل الرواية ولكنه كان رأساً في الفقه، ناصر مذهب الشافعي، قال الجويني:(وإذا تفرد المزني برأي فهو صاحب مذهب، وإذا خَرَّج للشافعى قولاً فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو ملتحق بالمذهب لا محالة)، توفي سنة (264) هـ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 285)، سير أعلام النبلاء (12/ 492)، طبقات الشافعية للسبكي (2/ 93).
(8)
انظر: تفسير القرطبي (6/ 288).
(9)
قال النووي: (الخمر نجسة عندنا، وعند مالك، وأبي حنيفة، وأحمد وسائر العلماء، إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن ربيعة شيخ مالك، وداود أنهما قالا: هي طاهرة). المجموع (2/ 563).
المتأخرين: الصنعاني (ت 1182)
(1)
، والشوكاني (ت 1250)
(2)
.
ويمكن أن يجاب عن ذلك:
- بعدم التسليم بالخلاف بل الإجماع قائم لم يُخرم، ويمكن مناقشة هذه النسبة إليهم بأمور، وبين يَدَيْ الجواب أقدم بهذه العبارة المهمة لأبي العباس ابن تيمية، حيث يقول:(والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه، ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله)
(3)
، وهذه العبارة تتأكد عندما يعود هذا المنقول على أصل من الأصول الشرعية بالبطلان
(4)
، فلا نترك الدليل الشرعي القائم لخلاف منقول لم نتحققه، و لايُعارَضُ المعلومُ بالموهوم، فليس كل ماينقل عن العلماء صحيحاً، وليس كل ماصح عنهم يكون صريحاً في المسألة المراد بحثها، فالوقوف على نص الأئمة أولى.
- ثم إن هناك معنى لطيف يستدعي التحقق من نسبة الأقوال إلى بعض الأئمة والعلماء غير الأئمة الأربعة المتبوعين، نبّه إليه ابن رجب في قوله: (مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما
(1)
قال في سبل السلام (2/ 4): (الأدلة على نجاسة الخمر غير ناهضة).
(2)
قال في السيل الجرار ص (25): (ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به).
(3)
مجموع الفتاوى (1/ 246).
(4)
التثبت من صحة ودلالة المنقول عن العلماء يتأكد في مواطن منها: إذاكان المنقول مخالفاً لإجماع محكي، أو كان المنقول مخالفاً لأصول هذا العالم، أو كان هذا يخالف المشهور عنه، أو كان كلامه في غير سياق المسألة، أو نقله غير أصحابه عنه، أو كان هذا العالم من غير الأئمة الأربعة الذين لهم أصحاب يدفعون مالايصح عنه، أو كان هذا المنقول من غير تحرير العالم في كتاب قد ألفه، ونحو ذلك.
نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة)
(1)
، وبعد هذه المقدمة فهذه هي مناقشة مانُسب إليهم:
- أما مانُسب للحسن البصري؛ فإنه بعيد، ولم أقف على نسبة هذا القول للحسن البصري إلا عند بعض الشافعية
(2)
، فأين الأئمة الذين لهم عناية بالوفاق والخلاف عن هذا القول، كابن المنذر (ت 319)، والطحاوي (ت 321)، وابن عبدالبر (463)، وابن حزم (ت 456)، بل حتى النووي (ت 676) من الشافعية، كلهم لم يذكروا هذا القول، و من نسب ذلك إليه من الشافعية فإن بينه وبين الحسن البصري مفاوز.
- وأما مانُسب لربيعة؛ فإنه غير دقيق، وربيعة أشهر من ينسب له القول بالمخالفة، فأكثر من ذكر الخلاف يذكر مخالفة ربيعة للإجماع، كالطحاوي وابن عبدالبر وابن حزم والقرطبي والنووي، فهو أشهر من ينسب له القول بالمخالفة، بل يكاد ينحصر فيه، لكن إطلاق القول بأنه يرى طهارة الخمر محل نظر!.
-
…
والظاهر أنه يرى نجاستها لكنه يتسامح في اليسير منها، كما قال ابن عبدالبر - وهو من أعلم الناس بالخلاف-
(3)
: (وقد أجمع
(1)
مجموع رسائل ابن رجب (2/ 226).
(2)
قال الشربيني: (ونقله بعضهم عن الحسن). مغني المحتاج (1/ 225)، وانظر: الحاوي الكبير (2/ 259).
(3)
قال الذهبي: (قال شيخنا أبو عبداللَّه محمد بن أبي الفتح، ومن خطّه نقلتُ: كان أبو عُمَر ابن عبد البر أعلم من بالأندلس فِي السُّنّن والآثار واختلاف علماء الأمصار) تاريخ الإسلام (10/ 199)، وانظر: السير (18/ 160).
علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر -فيما بلغنا وصح عندنا-، أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر، وأنه ما دام على حاله تلك حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير، رجس نجس كالبول إلا ما روي عن ربيعة في نقط من الخمر شيء لم أر لذكره وجهاً؛ لأنه خلاف إجماعهم، وقد جاء عنه في مثل رؤوس الإبر من نقط البول نحو ذلك)
(1)
، فهو لا يخالف في نجاستها، وإنما يخفف في اليسير منها كما يخفف في اليسير من البول، وكما يخفف غيره في اليسير من سائر النجاسات
(2)
.
- وأما مانُسب لليث بن سعد؛ فإن الطحاوي وهو أسبق من نقل عنه، نقل عنه مايدل على نجاستها عنده، فقال الطحاوي:(وقال مالك في الخمر يصيب ثوب الرجل فيصلي فيه وهو لا يعلم: أنه يعيد ما دام في الوقت، وهو قول الأوزاعي، وقال الليث: في أحد قوليه يعيد، وفي الآخر لا يعيد)
(3)
.
- فسياق الكلام هو في الخمر يصيب الرجل ولا يعلم به إلا بعد الصلاة، فقال في أحد قوليه: يعيد، وهذا القول يدل على نجاسة الخمر عنده، والقول الآخر: لا يعيد، وهذا القول لايلزم منه
(1)
التمهيد (1/ 245).
(2)
قال ابن تيمية: (جمهور العلماء يعفون عن ظهور يسير العورة وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز عنها) مجموع الفتاوى (21/ 213)، وفي تقدير اليسير و مايشق الاحتراز عنه خلاف، فالحنفية يعفى عندهم عن يسير كل نجاسة، وفي بقية المذاهب تقييدات، مع اتفاقهم جميعاً على العفو عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء، وعلى عدم العفو عن النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم.
(3)
مختصر اختلاف العلماء (1/ 123).
طهارة الخمر؛ كما قال الخطابي تعليقاً على الحديث الذي فيه خلع النبي صلى الله عليه وسلم لحذائه المتقذر في الصلاة
(1)
: (فيه من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه)
(2)
، فلعل من نسب إليه القول بطهارتها ظن أن حكمه بعدم الإعادة يدل على الطهارة.
- و أما مانُسب للمزني (ت 264)؛ فإني لم أقف على من ينقل عنه هذا الخلاف إلا القرطبي (ت 671)، ونحتاج إلى معرفةٍ بماقاله؛ لنرى دلالته على مانحن بصدده؛ لأن الشافعية عندهم وجه شاذ بطهارة الخمر المحترمة
(3)
، فقد يكون هذا مراد المزني إن صح النقل عنه، قال النووي: (لا فرق في نجاسة الخمر بين الخمر المحترمة وغيرها، وكذا لو استحال باطن حبات العنب خمرا فإنه نجس، وحكى إمام الحرمين، والغزالي وغيرهما وجهاً ضعيفاً؛ أن الخمر المحترمة طاهرة، ووجهاً أن باطن حبات العنب المستحيل طاهر، وهما شاذان
(1)
أخرجه أحمد (11153)، وأبوداود (650)، وابن خزيمة (786)، وابن حبان (2185)، والحاكم (955)، وقال:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، ولم يتعقبه الذهبي.
(2)
معالم السنن (1/ 181).
(3)
قال السيوطي في الأشباه والنظائر ص 48: (هي التي عصرت بقصد الخلية، أو لا بقصد الخمرية
…
فلو عصرت بلا قصد، فمحترمة على الثانية)، وذكرت الخمر المحترمة عند الحنابلة أيضاً، قال في الإنصاف (6/ 124):(الصحيح: أن لنا خمرا محترمة. وهي خمرة الخلَّال)، قال ابن مفلح في المبدع (5/ 17):(والأشهر أن لنا خمراً محترمة وهي التي عصرت من غير قصد الخمرية، أو بقصد الخلية)، وفسرها ابن عثيمين بقوله:(هي خمر الذمي الذي يعيش في بلاد المسلمين بالجزية فخمره محترمة، بمعنى أنه لا يحل لنا أن نريق خمره التي يشربها لكن بدون إعلان)، قال: (وذكروا أيضاً: أن من المحترم من الخمر خمر الخلاَّل الذي يبيع الخل، فلو أنه في يوم من الأيام تخمر الخل إما لشدة الحر أو لسبب آخر فإن خمره محترم؛ وعللوا ذلك بأنه لو كان غير محترم للزم على الخلاَّل ضرر عظيم؛ لأن هذا ماله فيتضرر بهذا
…
ففيما قاله الأصحاب-رحمهم الله في هذه المسألة نظر). الشرح الممتع (10/ 227).
والصواب النجاسة)
(1)
، أو يكون قصده النبيذ، قال في روضة الطالبين:(وفي النبيذ وجه شاذ مذكور في "البيان" أنه طاهر)
(2)
.
- وأيّاً ماكان فحمل كلامه على مايوافق الإجماع أولى من حمله على مخالفته بلا برهان، ثم إن الشافعية ليس عندهم قول ولا وجه بالطهارة مطلقاً، ولم يحكوا في الأوجه الشاذة أيضاً قولاً للمزني، وهو صاحبهم وهم أعلم به، والله أعلم.
- أما مانُسب لداود الظاهري؛ فإنه بعيد، يخالف أصوله الظاهرية، فابن حزم الظاهري مثلاً لايرى نجاسة الخمر فقط، بل نجاسة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام؛ لظاهر قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(3)
، قال:(فمن صلى حاملاً شيئاً منها بطلت صلاته)
(4)
، بل إن ابن حزم لا يعلم أن أحداً يخالف في نجاسة الخمر، وشنع على ربيعة بمانسب إليه من طهارتها فقال:(وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه؛ فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة، وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل)
(5)
، فهذا ابن حزم لايعرف قول دواد إمام الظاهرية!.
- والخلاصة: أن مانقل عن الحسن، والليث، والمزني، وداود، فإنه لايصح
(6)
، ومانُقل عن ربيعة -وهو أشهر من عُرف بالمخالفة- فإنه غير دقيق، بل هو يرى نجاسة الخمر لكنه يتسامح في القطرة
(1)
المجموع (2/ 564).
(2)
روضة الطالبين (1/ 13).
(3)
الآية (90) من سورة المائدة.
(4)
المحلى (1/ 189).
(5)
رسائل ابن حزم (3/ 210).
(6)
كما سبق مناقشة ذلك بعد نسبة الأقوال إليهم.
والقطرتين من باب العفو عن يسير النجاسة
(1)
، والله أعلم.
- وعلى فرض التسليم بوجود الخلاف، فإن هذا الخلاف حادث والإجماع سابق له؛ إذ هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم ولاعبرة بالخلاف بعدهم، قال الماوردي: (وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم
(2)
، ولايعرف عن الصحابة قول صحيح ولاضعيف بطهارة الخمر، بل المنقول عنهم خلاف ذلك
(3)
، وهذا هو الأقوى.
- فإن امتنع ذلك فهو إجماع من بعدهم
(4)
، من القرن الرابع إلى القرن الثاني عشر، فقد أطبق الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم على القول بنجاسة الخمر.
(1)
انظر: التمهيد (1/ 245).
(2)
الحاوي الكبير (2/ 260)، ونص أيضاً بعد ذلك بأن هذا إجماع الصحابة والتابعين. وانظر: تحفة المحتاج (1/ 288).
(3)
فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: إن النساء يمتشطن بالخمر، فقال ابن عمر:(ألقى الله في رءوسهن الحاصَّة) أخرجه عبدالرزاق (17094)، وابن أبي شيبة (24074) والحاصة: هي العلة التي تحص الشعر وتذهبه. لسان العرب (7/ 13)، وروي عن حذيفة أنه قال:(لاطيبهن الله) وروي عن عائشة أنها نهت عن ذلك أشد النهي. أخرجهما عبدالرزاق وابن أبي شيبة. وورد ماهو أصرح من ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه قد بلغه أن خالداً دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر، فكتب إليه:(بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن اللَّه قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر إلا أن تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا). فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. وهذا الأثر رواه الطبري في تاريخه (4/ 66) وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 264) من طريق السَّرِيّ بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن أبي عثمان والربيع وأبي حارثة به، ولايصح، لكن ضعفه ليس بشديد؛ فإن شعيب بن إبراهيم فيه جهالة، كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 275)، وسيف بن عمر: ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ، كما قال ابن حجر في تقريب التهذيب ص (262)، والله أعلم.
(4)
انظر: حاشيتي قلويبي وعميرة على شرح السيوطي للمنهاج (1/ 80).
المسألة الثانية: أدلة القائلين بطهارة الخمر:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ البراءة الأصلية، فالأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا، ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس
(1)
.
ونوقش هذا الدليل بأمور:
- أن البراءة الأصلية إنما يستقيم الاستدلال بها عند عدم المعارض الراجح، أَمَا وقد قام الإجماع على نجاسته فلا براءة.
- ثم إن ماورد في الخمر من تسميتها رجساً، والأمر باجتنابها، وإراقتها، وكسر دنانها
(2)
، وشق ظروفها
(3)
، وغسل أوانيها،
(1)
انظر: تفسير القرطبي (6/ 288)، الدراري المضية (1/ 23)، السيل الجرار ص (26)، الشرح الممتع (1/ 431).
(2)
أخرجه الترمذي (1293) عن أبي طلحة رضي الله عنه أنه قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري، قال:«أهرق الخمر، واكسر الدنان» .
(3)
أخرجه أحمد (5390) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت معه، فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت له، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بأزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمُدية [وهي: الشفرة] قال: وما عرفت المُدية إلا يومئذ، فأمر بالزِّقاق فشقت، ثم قال:«لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها» . والزِّقاق جمع زِّق بالكسر: وهو الظرف. انظر: المصباح المنير (1/ 254)، وفي لسان العرب (10/ 143) والزِّقّ: السِّقاءُ.
فائدة: ترجم البخاري في صحيحه: (باب: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر، أو تخرق الزقاق
…
) وهو يشير بذلك إلى الحديثين الأخيرين في الحاشية، وهما ليسا على شرطه، ثم أسند حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيراناً توقد يوم خيبر، قال:«على ما توقد هذه النيران؟» ، قالوا على الحمر الإنسية، قال:«اكسروها، وأهرقوها» ، قالوا: ألا نهريقها، ونغسلها، قال:«اغسلوا» ، قال ابن حجر عن تبويب البخاري: (لم يبين الحكم؛ لأن المعتمد فيه التفصيل فإن كانت الأوعية بحيث يراق ما فيها وإذا غسلت طهرت وانتفع بها لم يجز إتلافها وإلا جاز
…
فأشار المصنف إلى أن الحديثين إن ثبتا فإنما أمر بكسر الدنان وشق الزقاق عقوبة لأصحابها وإلا فالانتفاع بها بعد تطهيرها ممكن كما دل عليه حديث سلمة أول أحاديث الباب)، ورجح أن ذلك عقوبة = ابنُ تيمية وابنُ القيم، ولايقول بعدم طهارة الظروف بالغسل ووجوب شقها إلا بعض المالكية، خلافاً للجمهور.
واستخباث الشرع لها، ولعن عشرة فيها، مما لم يرد مثله ولا قريباً منه في البول، بل ولا الغائط، يكفي في الدلالة على نجاسة الخمر.
- قال القرطبي: (ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكمٍ إلا حتى نجد فيه نصّاً لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟! وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة)
(1)
.
- أما قولهم: (لايلزم من التحريم النجاسة، ويلزم من النجاسة التحريم)
(2)
فالجواب عنه: أن هذا الاعتراض إنما يستقيم لوكان العلماء المعترض عليهم يذكرونه في سياق الاستدلال، وهم إنما يذكرونه في سياق التعريف والحد أصالة
(3)
، على أنه لايسلم
(1)
تفسير القرطبي (6/ 289).
(2)
ذكرها القرطبي وأجاب عنها، وأشار إليها الصنعاني، ثم قررها الشوكاني وابن عثيمين للرد على من يقول بنجاسة الخمر، وأنه لايلزم من التحريم النجاسة. انظر: تفسير القرطبي (6/ 289)، سبل السلام (2/ 4)، السيل الجرار ص (26)، الشرح الممتع (1/ 431).
(3)
وهذا رأيته عند الشافعية والحنابلة فقط، وإن كان بعضهم يضبطه بالعد لا بالحد وهو أضبط، لكن قال الشربيني الشافعي في تعريف النجاسة:(عرفها بعضهم: بكل عين حَرُمَ تَنَاولُها مطلقاً في حالة الاختيار مع سهولة تمييزها وإمكان تناولها، لا لحرمتها ولا لاستقذارها، ولا لضررها في بدن أو عقل) مغني المحتاج (1/ 225)، وعرفها بعض الحنابلة بأنها (كل عين حرم تناولها لذاتها مع إمكان التناول). فأخرج ما لا يمكن تناوله لتعذره؛ وأخرج مالايمكن تناوله لالذاته بل لحرمته كصيد الحرم والإحرام، ووأخرج مالايمكن تناوله لاستقذاره كالبصاق والمخاط، وأخرج مالايمكن تناوله لضرره كالسميات والبنج. انظر: مطالب أولي النهى (1/ 27).
بتعريفهم بل كما قال ابن تيمية: (ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس لم يتيسر، وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة والأنواع النجسة)
(1)
.
- ومع ذلك فإن التحريم الذي يذكرونه ليس مطلقاً، وإلا لقيل: بنجاسة الأم؛ لأن الله قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
(2)
ولا قائل بذلك، فليس مرادهم التحريم المطلق، بل مرادهم تحريم التناول (أي: الأكل) مع إمكانه، لا لحرمته كصيد المحرم، ولا لاستقذاره كالبصاق، ولا لضرره كالسم
(3)
، فهذه هي النجاسة عندهم، ومع هذه القيود فلايستقيم الإلزام بجزء الكلام، وتركُ قيوده المؤثرة.
2/ ومن أدلتهم أيضاً على طهارة الخمر: مارواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل علمْتَ أن الله قد حرمها؟» قال: لا، فسارّ إنساناً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بِمَ سارَرْته؟» ، فقال: أمرتُه ببيعها، فقال:«إن الذي حرم شربها حرم بيعها» ، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها
(4)
.
وكذلك سفك المسلمين لها وإراقتها بعد تحريمها ولم يؤمروا بغسل أوانيهم بعدها، قال ابن عثيمين:(ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر)
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 587).
(2)
من الآية (23) من سورة النساء.
(3)
انظر: المطلع على ألفاظ المقنع ص (18).
(4)
أخرجه مسلم (1578).
(5)
الشرح الممتع (1/ 430).
ونوقش هذا الاستدلال، بأمور:
- بعدم التسليم فإنه ورد الأمر بغسل أواني الخمر وهو أصرح من عدم الأمر؛ كما في حديث أبي ثعلبةَ الخُشَنيِّ رضي الله عنه المُخرَّجِ في الصحيحين قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض أهل الكتاب، فنأكل في آنيتهم
…
؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَّا ما ذكرتَ أنك بأرضِ أهلِ كتاب، فلا تأكلوا في آنيتهم إلا ألّا تجدوا بُدًّا، فإن لم تجدوا بُدًّا فاغسلوها وكلوا
…
الحديث»
(1)
، وقد أتى الأمر بعد الالتباس والسؤال، ولو لم يستشكلوا فإن الأمر غير وارد؛ لأنهم سيغسلون الآنية بعد استعمالها بداهة.
- وقد جاء عند أحمد وأبي داود زيادةٌ مُفسِّرة: (إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزيرَ ويشربون في آنيتهم الخمر)
(2)
، قال البيهقي:(وفي هذا دلالة على أن الأمر بالغسل، إنما وقع عند العلم بنجاستها)
(3)
، وهذه الزيادة وإن كان قد أعرض عنها الشيخان وهذا مظنة إعلال، إلا أنه يجب المصير إليها عندَ
(1)
أخرجه البخاري (5496)، ومسلم (1930) وهذا لفظ البخاري، وقوله:«إلا أن لا تجدوا بُدًّا» يوضحه الرواية الأخرى وهي في الصحيحين أيضاً: «إن وجدتم غير آنيتهم، فلا تأكلوا فيها» .
(2)
أخرجه أحمد (17737) من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة [عبدالله بن زيد الجرمي، وهو ثقةٌ كثير الإرسال كما ذكر ابنُ حجر]، عن أبي ثعلبة به، و أخرجه أبو داود (3839) قال: حدثنا نصر بن عاصم، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زبر، عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة به، ولاتخلو هذه الزيادة من ضعف؛ فإسناد أحمد فيه انقطاع، قال الترمذي:(وأبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، إنما رواه عن أبي أسماء [الرحبي وهو ثقة]، عن أبي ثعلبة)، وإسناد أبي داود فيه ضعف، فنصرُ بنُ عاصم الأنطاكي لين الحديث كما قال ابن حجر في التقريب ص (560)، وهذه العبارة لاتفيد ضعفاً شديداً، ولذا ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 217).
(3)
السنن الكبرى (10/ 18).
كلِّ منْ لايرى نجاسة بدن الكافر وهم الجمهور
(1)
، وإلا كان معارضاً لنصوص جواز استعمال آنية المشركين، قال النووي:(المراد النهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود، وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار وكونها معتادة للنجاسة)
(2)
قال ابن حجر: (والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها)
(3)
.
- يوضح ذلك أن الحُمر الأهلية إنما أمرهم بغسل أوانيها بعد سؤالهم، واستشكالهم، كما في حديث سلمةَ بنِ الأَكْوعِ في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيراناً توقد يوم خيبر، قال:«على ما توقد هذه النيران؟» ، قالوا على الحمر الإنسية، قال:«اكسروها، وأهرقوها» ، قالوا: ألا نهريقها، ونغسلها؟ قال:«اغسلوا»
(4)
، ولم يؤمروا في غير هذا الحديث بغسلها، بل أُمروا بإكفاء القدور كما في حديث ابن أبي أوفى
(5)
، وورد أيضاً أنهم امتثلوا هم بإكفائها دون أمْر، لما علموا تحريمها، كما في حديث
(1)
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فليس المراد نجاسة البدن، قال النووي:(فليس المراد نجاسة الأعيان والأبدان، بل نجاسة المعنى والاعتقاد؛ ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير الكافر في المسجد، وقد أباح الله تعالى طعام أهل الكتاب) المجموع (2/ 562)، قال ابن كثير:(الجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم) تفسير ابن كثير (4/ 131)، قال ابن الجوزي:(لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح) زاد المسير (2/ 284).
(2)
شرح النووي على مسلم (13/ 80).
(3)
فتح الباري (9/ 606).
(4)
أخرجه البخاري (2477)، ومسلم (1802) وهذا لفظ البخاري.
(5)
أخرجه البخاري (3155)، ومسلم (1937).
أنس
(1)
، فما يُورَدُ على عدم الأمر بغسل آنية الخمر يُورَدُ هنا.
- وعلى فرض التسليم بأنهم لم يؤمروا بغسل أواني الخمر؛ فإن ذلك للعلم به بداهة حتى في الطاهرات، كاللبن إذا وضع في إناء فإنه يُغسل بعد شربه إذا أردنا شرب شيء آخر فيه، ثم إنه يلزم من استدلالهم = جوازُ شرب الماءِ في الإناء الذي شُرب به خمر ولو لم يُغسل، وهذا باطل قطعاً
(2)
.
3/ ومن أدلتهم أيضاً على طهارة الخمر: حديث أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي: ألا إنَّ الخمر قد حرمت» ، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة
(3)
.
وجه الاستدلال:
كماقال القرطبي: (استدل سعيد بن الحداد القروي
(4)
على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضي الله عنه، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق)
(5)
، قال ابن عثيمين: (وطُرقات المسلمين لا يجوز أن
(1)
أخرجه البخاري (2991)، ومسلم (1940).
(2)
انظر: شرح كتاب الطهارة من زاد المستقنع للشنقيطي ص (359).
(3)
أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980).
(4)
سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغرب، شيخ المالكية، صاحب سحنون، قال الذهبي في السير: (وهو أحد المجتهدين، وكان بحرا في الفروع، ورأسا في لسان العرب، بصيراً بالسنن، وكان يذم التقليد، ويقول: هو من نقص العقول، أو دناءة الهمم
…
وكان من رؤوس السنة)، مات سنة (302) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 205).
(5)
تفسير القرطبي (6/ 288)، وسعيد بن الحداد (ت 302) هو أول من استدل بذلك فيما وقفت عليه، ولم أذكره في نسبة الأقوال؛ لأني لم أرَ أحداً نسبه إليه، حتى القرطبي في نسبة الأقوال لم ينسبه إليه، وهذا محتمل؛ لأنه لايلزم من الاستدلال التزام القول؛ لأنه قد يستدل ثم يجيب، أو لعله من بعض هؤلاء الذين عناهم القرطبي بقوله:(وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة). تفسير القرطبي (6/ 288).
تكون مكاناً لإِراقة النَّجاسة)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور
(2)
:
- أما قياسها على التخلي في الطريق؛ فقياس مع الفارق؛ لأن التخلي لو لم يُنه عنه لاستمر الناس في فعله وتكرر، أما إراقة الخمر فهو مرة واحدة يوم حُرّم، والتخلي في الطرق فيه من خوارم المروءة، وتكشف العورات، والأذية بالنجس والريح ماليس في الخمر.
- ثم إنه لايلزم من إراقتها أن تكون مؤذية، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها.
- يُضاف إلى ذلك أن الإراقة يحتمل أنها لم تكن في أي سكة، بل في السكك التي لها منفذ وانحدار إلى وادٍ بعيدٍ عن طرق الناس، ويؤيد ذلك ماورد في حديث جابر بسند جيد
(3)
في قصة صب الخمر قال: (فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي)
(4)
.
- ولو سلمنا بهذا الاستدلال، فيمكن حمل فعل الصحابة رضي الله عنهم على الضرورة؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيه، إذ
(1)
الشرح الممتع (1/ 429).
(2)
انظر: تفسير القرطبي (6/ 288)، فتح الباري (5/ 112) فتح الباري (10/ 39)، مجلة البحوث الإسلامية (38/ 81).
(3)
قاله ابن حجر في فتح الباري (10/ 39).
(4)
أخرجه ابن زنجويه في الأموال (428) من حديث جابر.
الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور.
- ثم إن مفسدة إراقتها يسيرة محتملة لمصلحة راجحة، من إشاعة لتحريمها، وإخراج لها من نفوس قد تعلقت بها وألفتها، قال المهلب:(إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق)
(1)
.
- و الخمر بعد إراقتها لاتمكث بل تختلط بالتربة، وتضربها الريح، وتشربها الأرض، وتُيَبِّسها الشمس، فتستحيل ولاتؤثر فيمن وطئها؛ كما (كانت الكلاب تبول، وتقبل وتدبر في المسجد، في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)
(2)
.
- وعلى فرض أنها تبقى و لا يشق الاحتراز منها ثم وطئها المار عليها، فإنه ماوطئه يطهره ما بعده، كما في ذيل المرأة يطهره مابعده، والنعل يطهرها التراب، والطريق القذرة يطهر ماعلق منها الطريق الطيبة بعدها.
- وبعد هذه الاحتمالات التي تُضعف الاستدلال، فهنا احتمال ضعيف أيضاً، وهو ماذكره ابن التّين: (هذا الذي في الحديث
(1)
فتح الباري (5/ 112).
(2)
أخرجه البخاري (174) من حديث ابن عمر، وقد بوب عليه أبوداود:(باب في طهور الأرض إذا يبست)، قال ابن تيمية في الفتاوى (21/ 322):(ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة) ثم استدل بحديث ابن عمر وغيره، قال ابن القيم: (وهذا كقول أبي حنيفة: إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس
…
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك، وهو قوله: كانت الكلاب
…
) إغاثة اللهفان (1/ 155)، وقد تأول بعضهم الحديث بأنها كانت تبول خارج المسجد، وقوله:(فلم يكونوا يرشون) يرده.
كان في أول الإسلام قبل أن ترتب الأشياء وتنظف، فأما الآن فلا ينبغي صب النجاسات في الطرق خوفاً أن يؤذي المسلمين)
(1)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بطهارة الخمر إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع الصحيح، ولم يثبت بعد البحث مخالف يصح أن يُخرم به الإجماع، ولو ثبت المخالف فإنه محجوج بإجماع الصحابة قبله
(2)
، ولايعرف عن الصحابة قول صحيح ولاضعيف بطهارة الخمر، فإن امتنع ذلك فهو إجماع من بعدهم، من القرن الرابع إلى القرن الثانيَ عشرَ، وقد أطبق الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم على القول بنجاسة الخمر، والله أعلم.
مسألة في حكم الكحول
(3)
:
- الكحول: سائل عديم اللون، له رائحة خاصة، يُنتج من تخمر السكر والنشاء وغيرهما، وهو روح الخمر وخلاصته
(4)
، يدخل في صناعة الخمور، وفي تحضير الأدوية والعطور والصِّبغ، ويستعمل مادّةً مذيبة
(5)
، وهو لفظ معرَّب، مع أن أصلها عربي وهو الغَوْل: أي: ما يغتال العقل بالسكر
(6)
، وقد قال تعالى عن خمر الآخرة:
(1)
نقله العيني في عمدة القاري (13/ 11).
(2)
قال الماوردي: (فأما الخمر؛ فنجس بالاستحالة وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم الحاوي الكبير (2/ 260).
(3)
هذه المسألة أشبه بالنوازل، لكن كثيراً ممن يبحث مسألة نجاسة الخمر، يتعرض لها، فهي غير مقصودة بالبحث ولذا سيكون الكلام عليها مختصراً.
(4)
انظر: المعجم الوسيط (2/ 778)، معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1912).
(5)
انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1912).
(6)
انظر: معجم لغة الفقهاء ص (378)، ولما ترجمت الكتب العربية وليس عندهم حرف الغين حرفت إلى كاف، فقالوا: كول، ثم أضاف إليها الأتراك حرف الحاء فقالوا: كحول، ويسمى بالإيطالية: سبيرتو. انظر: الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (312).
{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}
(1)
، وحُكْمُ هذهِ الكحولِ الموجودة في بعض الأطعمة لحفظها، وفي بعض الأدوية والمعقمات، وفي بعض الأطياب والعطورات، مبنيٌ على مقدمتين: الأولى: هل تدخل الكحول في مسمى الخمر فتأخذ حكمه؟، والأُخْرى: هل النسبة الموجودة من الكحول مسكرة؟
- وفي كلٍّ من المقدمتين لابد من نظر مختص بهذه المركبات؛ لإظهار التوصيف الدقيق لها، حتى يحكم العالِم فيها، أما إعطاء حكم عام لها، ففيه صعوبة وحرج؛ لتعدد الاستعمال، واختلاف التراكيب، واختلاف النسب، والله أعلم.
(1)
الآية (47) من سورة الصافات، قال ابن كثير في تفسيره (7/ 10):(نزَّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن (وهو الغول) وذهابها بالعقل جملة)، وقال البغوي في تفسيره (4/ 31):(وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد، منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول، ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة)، ومن لطيف الاستدلال على نجاسة الخمر، مفهوم المخالفة في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} قال الشنقيطي: (لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، وكقوله: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ}) أضواء البيان (1/ 426).
المبحث الرابع: طهارة الدم الكثير
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام).
ابن تيمية رحمه الله
مجموع الفتاوى (21/ 291)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
المقصود بالدم الكثير: الدم الجاري في أصل خلقته؛ لأن الله تعالى شرط فى نجاسته أن يكون مسفوحًا، فقال تعالى:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}
(1)
، وكنّى بالمسفوح عن الكثير الجاري
(2)
، أو الذي من شأنه أن يسيل
(3)
؛ فالقليل ليس من شأنه أن يسيل، قال ابن عبدالبر:(ومعنى المسفوح: الجاري الكثير)
(4)
.
فخرج بقيد المسفوحِ الجامدُ المنصوص عليه كالكبد و الطحال، و اليسيرُ كالذي بين اللحم وفي العروق، وهذا هو مفهوم هذه الآية {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود
(5)
، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:(كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا نُنْكره)
(6)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
فقد أجمع العلماء على طهارة الكبد والطحال
(7)
، وعلى طهارة
(1)
من الآية (145) من سورة الأنعام، قال ابن فارس:(السين والفاء والحاء أصل واحد يدل على إراقة شيء. يقال سفح الدم، إذا صبه. وسفح الدم: هراقه. والسِفَاح: صب الماء بلا عقد نكاح) مقاييس اللغة (3/ 81).
(2)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 339).
(3)
انظر: دفع الإلباس للأقفهسي ص (118)، قال:(المسفوح هو الذي يسيل كذا قال أكثرهم، والصواب أن المسفوح هو الذي من شأنه أن يسيل).
(4)
الاستذكار (1/ 231)، وانظر: طلبة الطلبة ص (9).
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/ 193).
(6)
ذكره القرطبي بلا إسناد (2/ 222)، وروى الطبري بسنده نحوه (12/ 194).
(7)
وممن نقل الإجماع ابن جرير في تفسيره (8/ 54)، والقرطبي في تفسيره (2/ 22)، والنووي في المجموع (2/ 560).
المسك
(1)
مع أن أصله الدم
(2)
.
2.
وحُكي الإجماع على نجاسة الدم الكثير
(3)
، وعلى العفو عن يسير الدم
(4)
، وعلى جواز الصلاة في الدم المستمر الذي لايقف
(5)
.
3.
واختلفوا في دم السمك
(6)
،
(1)
وممن نقل الإجماع الباجي في المنتقى (1/ 61)، والنووي في المجموع (2/ 573)، وابن حجر في الفتح (9/ 661)، وقد روي عن بعض السلف كراهية المسك وأنه ميتة ودم، قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 297):(ولا نعلم تصح كراهية ذلك إلا عن عطاء)، وقال ابن حجر في الفتح (4/ 324):(ثم انقرض هذا الخلاف، واستقر الإجماع على طهارة المسك وجواز بيعه)، ومن لطائف الاستدلال أن البخاري بوَّب في كتاب الذبائح والصيد (باب المسك) ثم أورد حديث:«مامن مكلوم يكلم في الله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح مسك» ، وحديث: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير
…
» الحديث، وقد ذكر ابن المنيّر وجه استشهاد البخاري بهما على طهارة المسك = بوقوع تشبيه دم الشهيد به؛ لأنه في سياق التكريم والتعظيم فلو كان نجساً لكان من الخبائث، ولم يحسن التمثيل به. انظر: المتواري على أبواب البخاري ص (209)، فتح الباري (9/ 661).
(2)
المسك: دم يجتمع في سرة الغزال في وقت معلوم من السنة، فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه. فتح الباري (9/ 660)، وانظر: غريب الحديث للحربي (2/ 568).
(3)
وممن نقل الإجماع الإمام أحمد، وابن عبدالبر، وابن حزم، وابن رشد الحفيد، والقرطبي، والنووي، والقرافي، وابن حجر العسقلاني، والعيني، وابن نجيم، وابن حجر الهيتمي، وسيأتي توثيق ذلك وتفصيله بإذن الله، وهي مسألة البحث.
(4)
ولا يلزم من العفْوِ والتجاوزِ عن يسيره =الطهارةُ، وممن نقل الإجماع على العفو عن يسير الدم ابن جرير في تفسيره (8/ 54)، وابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 331)، وابن تيمية في الفتاوى (21/ 524)، قال البيهقي:(وكان الحسن البصري يقول: (قليله وكثيره سواء) ومذهب سائر الفقهاء بخلافه في الفرق بين كثير الدم ويسيره) السنن الكبرى (2/ 568)، ولا يفرق ابن حزم بين الدم المسفوح وغيره فالدم عنده سواء، انظر: المحلى (1/ 117).
(5)
قال ابن تيمية: (إن كان الجرح لا يرقأ مثل ما أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه يصلي باتفاقهم) مجموع الفتاوى (21/ 223).
(6)
فإنه طاهر عند الحنفية، وهو الصحيح عند الحنابلة، وقول عند مالك، ووجه عند الشافعية، خلافاً لمالك في أحد قوليه، ووجه عند الشافعية، فإنه نجس، انظر: المبسوط (1/ 87)، حاشية ابن عابدين (1/ 322)، المدونة (1/ 128)، بداية المجتهد (1/ 76)، المهذب (1/ 92)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 421)، الإنصاف (1/ 327).
وعلقة
(1)
الآدمي
(2)
، ودم الشهيد
(3)
.
والمسألة المراد بحثها وتصحيح نسبتها إلى الشذوذ من عدمه، هي:
القول بطهارة الدم الكثير السائل في أصله غير دم السمك و الشهيد.
(1)
قال النووي: (العلقة: هي المني إذا استحال في الرحم فصار دماً عبيطاً) المجموع (2/ 559)، والعبيط: الدم الطري، انظر: مقاييس اللغة (4/ 212)، لسان العرب (7/ 347).
(2)
فمذهب الحنفية، والمالكية، و الصحيح عند الحنابلة أنها نجسة، وخالف الشافعية على الصحيح عندهم في علقة الآدمي وأنها طاهرة. انظر: المبسوط (1/ 81)، بدائع الصنائع (1/ 61)، التاج والإكليل (1/ 148)، الحاوي الكبير (2/ 253)، المجموع (2/ 559)، المغني (2/ 70)، الإنصاف (1/ 328).
(3)
فعند الحنفية والحنابلة أنه طاهر، وقيده الحنفية وبعض الحنابلة بأنه مادام الدم عليه، خلافاً لمالك؛ فإن الدم عنده كله سواء، وكذلك عند الشافعية أنه نجس، لكنه لايغسل عند الجميع، انظر: البحر الرائق (1/ 241)، حاشية ابن عابدين (1/ 211)، المدونة (1/ 128)، التاج والإكليل (1/ 151)، فتح الوهاب (1/ 115)، حاشية البجيرمي على شرح المنهاج (1/ 488)، الإنصاف (1/ 328)، المبدع (1/ 214).
المطلب الثاني: القائلون بطهارة الدم الكثير من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
- الألباني
(1)
(ت 1420)، و قوَّى هذا القول ابن عثيمين (ت 1421)
(2)
.
- وقد سبقهما إلى هذا القول الشوكاني
(3)
(ت 1250)، وتبعه: صديق حسن خان
(4)
(ت 1307)
(5)
، ولم أقف بعد البحث على قائل معتبر
(1)
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 605)، تمام المنة ص (52)، والنجس من الدماء عند الشيخ الألباني هو دم الحيض فقط.
(2)
انظر: الشرح الممتع (1/ 441) حيث قوّى الشيخ أن دم الآدمي طاهر مالم يخرج من السبيلين، والشرح الممتع من آخر ما راجعه الشيخ وخاصة كتاب الطهارة وذلك عام (1420)، وهذا يقوي أن هذا هو آخر أقواله؛ لأن له في الفتاوى ميل إلى وجوب تطهير الدم الخارج من الآدمي، والشيخ يخص نجاسة الدم بالخارج من البهيمة عند الذبح أو ماخرج من عرق البهيمة وهي حية، ويفسر المسفوح بذلك، إلا أنه في فتاويه مال إلى نجاسة الدم الخارج من جرح الإنسان حين قال: (الدم المسفوح لم نعلم قائلاً بطهارته
…
ولو رجعتم إلى الكتاب والسنة لوجدتم فيهما ما يدل على نجاسة الدم المسفوح ودم الحيض ودم الجرح) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 260 - 268) وأوجب تطهير الدم الخارج من الإنسان احتياطا، ولخص رأيه في آخر بحثه للمسألة (11/ 266)، وخلص فيه إلى: 1/ نجاسة الدم السائل من حيوانٍ ميتتُه نجسة، ودم الحيض. 2/ وجوب تطهير الدم السائل من بني آدم إلا مايشق التحرز منه، وهذا هو الأحوط والأسلم من الشبهة. 3/ طهارة دم السمك، وكذلك الذباب، والبعوض وشبههما. 4/ طهارة الدم الباقي بعد خروج النفس من حيوان مذكى، كدم القلب والكبد والطحال.
(3)
انظر: الدراري المضية (1/ 32)، السيل الجرار ص (31)، وليس بنجس عنده من الدماء إلا دم الحيض فقط.
(4)
انظر: الروضة الندية (1/ 115) وكلام الشيخ صديق هنا مطابق تماماً لكلام الشوكاني في الدراري المضية، ولم يختلف عنه حرفاً واحداً!، يقول صاحب كتاب رفع الشك وإثبات اليقين ص (71):(والعجيب أن الألباني يصف صديق خان بالمحقق، وكتبه نسخة أخرى لكتب الشوكاني، وينقل من غير عزو وبدون تصرف).
(5)
محمد صديق خان بن حسن البخاري القنوجي، أمير بهوبال، نشأ في قنوج بالهند، وتعلم في دهلي، ثم سافر إلى بهوبال طلباً للمعيشة، ثم مكن الله له فيها بعد زواجه من ملكة بهوبال، له مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية والهندية، وكان كثير النقل عن القاضي الشوكاني، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية وأمثالهم، شديد التمسك بمختاراتهم، توفي سنة (1307) هـ. انظر: الأعلام للزّرِكْلي (6/ 167 - 168)، الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام (8/ 1246 - 1250).
سبق الشوكاني إلى هذا القول، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين، قال النووي:(ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف)
(1)
.
(1)
المجموع (2/ 557)، الذي نقل عن صاحب الحاوي هو النووي، ولم أقف عليه في الحاوي للماوردي.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي في المطلب الرابع؛ ومخالفة الإجماع الصحيح من أقوى وأظهر معايير الشذوذ، قال ابن تيمية عن أحد الأقوال:(قول شاذ مخالف للإجماع)
(1)
.
2/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن الملقن (ت 804) بقوله: (نجاسة الدم
(2)
وهو إجماع إلا من شذ)
(3)
.
- وابن جبرين (ت 1430) بقوله: (وقد نازع بعض الناس في نجاسة الدم
…
وأنت ترى أن هذا قول شاذ)
(4)
.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 477)، وقال في الصفدية (1/ 198):(وخلاف ابن حزم شاذ مسبوق بالإجماع)، ولغيره من العلماء مثل هذا التعبير، فقد قال الماوردي مثلاً:(والاختلاف فيهما شاذ حدث بعد تقدم الإجماع فكان مطرحاً) الحاوي الكبير (12/ 348).
(2)
أي من فوائد حديث عائشة في المستحاضة، وفيه:«فاغسلي عنك الدم» رواه البخاري (228)، ومسلم (333).
(3)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/ 183).
(4)
يعني القول بالطهارة، حاشية (1)، من شرح الزَّرْكشيُّ (2/ 41) بتحقيق الشيخ ابن جبرين.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بنجاسة الدم:
استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن الرجس هو: النجس
(2)
، وقد قام الإجماع على تقييد الدم المحرم النجس بالمسفوح، وليس مطلق الدم
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن الرجس دلالته أعم من النجاسة فقط، فهي تعم النجس
(1)
من الآية (145) في سورة الأنعام.
(2)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 61)، المقدمات الممهدات (1/ 442)، مغني المحتاج (1/ 232)، الكافي (1/ 157).
(3)
قال ابن جرير في تفسيره (9/ 493): (وأما الدم، فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح؛ لأن الله جل ثناؤه قال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير منسفح؛ فإن ذلك غير حرام؛ لإجماع الجميع على ذلك)، ونقل الإجماع على هذا التقييد أيضاً ابن العربي في تفسيره (1/ 79)، والقرطبي في تفسيره (2/ 222)، وخالف في ذلك ابن حزم فإن مطلق الدم عنده محرم نجس؛ لإطلاق آية المائدة وهي من آخر مانزل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} ، أما آية الأنعام؛ فهي مكية. انظر: المحلى (6/ 56)، لكن ابن حزم (ت 456) محجوج بالإجماع قبله في التفريق بين المسفوح وغيره، كما نقله ابن جرير (ت 310) وغيره.
والقذر
(1)
، ثم إن المقصود بها النجاسة المعنوية، لأن الآية لم تُسق لبيان الطهارة والنجاسة، بل لبيان ما يحل ويحرم {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(2)
.
- وعلى فرض التسليم بأن الرجس يعني النجس، فإن قوله سبحانه:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ}
(3)
، يعود لأقرب مذكور وهو لحم الخنزير لا لجميع المذكورات؛ لإفراد الضمير
(4)
.
وأجيب عن ذلك:
- بالتسليم بعموم دلالة الرجس على النجس و القذر
(5)
، ولكن إجماع الأمة عيَّن أحد هذه المعاني المحتملة، فنقل دلالة الرجس على النجس من الظن إلى القطع
(6)
، قال ابن عبدالبر:(ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس)
(7)
.
- ولايسلم بأن المقصود النجاسة المعنوية فهذا تأويل بالمعنى المجازي، والصحيح أنها نجاسة حسية؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة
(8)
، والمجاز خلاف الأصل، لايصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة
(9)
.
(1)
انظر: السيل الجرار ص (31)، والعجيب أن الشوكاني قرر عموم المعنى هنا، وجزم في الدراري المضية (1/ 32) بنجاسة لحم الخنزير بناء على دلالة (رجس) نفسها!
(2)
من الآية (145) من سورة الأنعام، وانظر: السيل الجرار ص (30)، الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (172).
(3)
من الآية (145) من سورة الأنعام.
(4)
انظر: الدراري المضية (1/ 32)، السلسلة الصحيحة (1/ 607)
(5)
ولاتلازم بين القذر و النجس، فالبصاق قذر لكنه ليس بنجس.
(6)
انظر: تحذير النبلاء من مخالفة الإجماع والقول بطهارة الدماء ص (22).
(7)
الاستذكار (1/ 331).
(8)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (63)، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (59).
(9)
كوصف المرض في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فليس المراد بالمرض هنا المرض الحسي بإجماع المفسرين. انظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (9).
- وإرجاع الضمير إلى أقرب مذكور هذا هو الأصل، لكنه ليس بمطرد، فقد يتقدم الضمير على مايفسره
(1)
، و قد يعود الضمير للمضاف إذا كان الأقرب هو المضاف إليه
(2)
، وقد يعود لماهو أبعد إذا كان البعيد هو المتحدث عنه، أو كان فيه توحيداً لمرجع الضمائر
(3)
، ونحوهما من الأدلة الصارفة عن الأصل
(4)
.
- إذا تقرر هذا؛ فإن المتحدث عنه في الآية هو الطعام المحرم،
(1)
كما في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} ، وهذا مما يخالف الأصل مراعاة للمناسبة، انظر: الإتقان في علوم القرآن (3/ 339).
(2)
كما في قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فإن الضمير يعود إلى لحم الخنزير، وخالف ابن حزم اضطراراً حتى لايخالف الإجماع على تحريم شحم الخنزير، ولايقع في القياس، فأعاد الضمير للخنزير ليعم التحريم جميع أجزاء الخنزير بلا قياس، قال ابن كثير في تفسيره (3/ 13): (اللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا}
…
أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد)، وانظر: العذب النمير (2/ 366).
(3)
كما في قوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} قال الزمخشري في الكشاف (3/ 62): (والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة، لما يؤدي إليه من تنافر النظم)، قال الزَّرْكشيُّ في البرهان (4/ 35):(إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (15/ 112)، أضواء البيان (3/ 394) أصول في التفسير لابن عثيمين ص (57)، وقواعد الضمائر ثلاث: إعادة الضمير إلى [المُتحدِّث] عنه أولى من إعادته إلى غيره، وتوحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها، والأصل إعادة الضمير إلى أقرب مذكور، وعند التنازع في هذه القواعد فالمقدم منها قاعدة المتحدث عنه ثم توحيد مرجع الضمائر ثم الإعادة لأقرب مذكور؛ لأن الأولى والثانية فيها مراعاة للمعنى أكثر من اللفظ، وقد قال الزَّرْكشيُّ في البرهان (1/ 317):(ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز). وانظر في تفصيل القواعد الثلاث: قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين الجيزاني (2/ 603 - 630).
وإفراد الضمير باعتبار {مُحَرَّمًا} المذكورة في أول الآية، أو باعتبار الطعام المدلول عليه بقوله:{يَطْعَمُهُ} ، أو باعتبار الكائن المدلول عليه بقوله:{يَكُونَ} ، أو باعتبار المذكور، فيكون المعنى: فإن ذلك المحرم أو المطعوم أو الكائن أو المذكور رجس، وعوده على قوله {مُحَرَّمًا} فيه إشارة إلى علة التحريم
(1)
.
- مما يؤيد ذلك أن الميتة والدم ولحم الخنزير اشتركت في التحريم - وهو قبل الوصف بالرجسية-، وفي استثناء المضطر وهو بعد الوصف بالرجسية، فمناسبة اشتراكها بوصف الرجسية ظاهر
(2)
، ومن قصر الضمير على لحم الخنزير فقصره قاصر؛ لأنه يؤدي إلى تشتيت الضمائر وإلى القصور في البيان القرآني حيث يكون ذاكراً للجميع حكماً واحداً يعلل لواحد منها فقط
(3)
.
- قال العيني: (التحقيق في هذا الباب أن يكون التقدير في الضمير: فإن كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس، أي: نجس، فيكون هذا تعليلاً لقوله: {مُحَرَّمًا} فبين بذلك أن هذه الأشياء حرام؛ لأنها نجسة)
(4)
، قال ابن تيمية:(الحكم بنجاسة الدم ونجاسة ذبائح المشركين إنما علم لما حرمت الميتة والدم ولحم الخنزير)
(5)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (8 أ/ 138)، رفع الشك وإثبات اليقين ص (72 - 87)، قال الشيخ ابن عثيمين في قوله تعالى:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} : (أي: فإن ذلك الشيء المحرم رجس، وعلى هذا يكون في الآية الكريمة بيان الحكم وعلته في هذه الأشياء الثلاثة: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 264).
(2)
انظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (88).
(3)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 264).
(4)
البناية شرح الهداية (1/ 418).
(5)
شرح العمدة من كتاب الصلاة ص (409).
2/ الدليل الثاني الإجماع. وقد نقل الإجماع على نجاسة الدم الكثير غير واحد من العلماء:
1.
قال الإمام أحمد (ت 241): (الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه)
(1)
يعني في نجاسته.
2.
و قال الطحاوي (ت 321): (الأصل المتفق عليه أن دماء الأنعام المأكولة لحومها نجسة، وأن وقوعها في المياه يفسدها، وإن أصابت الثياب نجستها، كدماء بني آدم في ذلك)
(2)
.
3.
و قال ابن عبدالبر (ت 463): (ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس)
(3)
، وقال:(وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس)
(4)
.
4.
و قال ابن حزم (ت 456): (واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان، حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه نجس)
(5)
.
5.
وقال السمرقندي (ت 540): (كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يتعلق بخروجه وجوب الوضوء أو الغسل فهو نجس، نحو: الغائط، والبول، والدم
…
ولا خلاف في هذه الجملة)
(6)
6.
و قال ابن العربي: (ت 543): (اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لايؤكل ولا ينتفع به)
(7)
.
(1)
نقله ابن تيمية في شرح العمدة من كتاب الطهارة (1/ 105)، وابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 151).
(2)
شرح مشكل الآثار (10/ 108).
(3)
الاستذكار (1/ 331).
(4)
التمهيد (22/ 230).
(5)
مراتب الإجماع ص (19)، ولم يتعقبه ابن تيمية في نقد مراتب الإجماع بشيء.
(6)
تحفة الفقهاء (1/ 49).
(7)
أحكام القرآن (1/ 79).
7.
و قال ابن رشد (ت 595): (اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس)
(1)
.
8.
و قال ابن قدامة (ت 620): (ما خرج من السبيلين، كالبول، والغائط، والمذي، والودي، والدم، وغيره، فهذا لا نعلم في نجاسته خلافاً، إلا أشياء يسيرة)
(2)
.
9.
و قال القرطبي (ت 671): (اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لايؤكل ولا ينتفع به)
(3)
.
10.
و قال النووي (ت 676) في المجموع: (الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين، أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف)
(4)
، وقال في شرحه لمسلم:(الدم نجس وهو بإجماع المسلمين)
(5)
.
11.
و قال القرافي (ت 684): (والدم المسفوح نجسٌ إجماعاً)
(6)
.
12.
و قال ابن تيمية (ت 728): (أما المذي؛ فيعفى عنه [أي: يسيره] في أقوى الروايتين؛ لأن البلوى تعم به ويشق التحرز منه، فهو كالدم بل أولى؛ للاختلاف في نجاسته، والاجتزاء عنه بنضحه)
(7)
، فيفهم
(1)
بداية المجتهد (1/ 86)، وانظر:(1/ 83).
(2)
المغني (2/ 64) وقد جعل في الشرح الكبير (1/ 308) مكان قوله: (إلا أشياء يسيرة) هذه العبارة: (إلا ما ذكرنا في المذي) وكأنها توضيح لها، وسياق كلام ابن قدامة في الدم الخارج من السبيلين، ولكنه ذكر بعد ذلك الدم الخارج من غير السبيلين، ولم يذكر فيه خلافاً. انظر: المغني (2/ 67).
(3)
تفسير القرطبي (2/ 221).
(4)
المجموع (2/ 557).
(5)
شرح النووي على مسلم (3/ 200).
(6)
الذخيرة (1/ 185).
(7)
شرح عمدة الفقه من كتاب الطهارة (1/ 105).
من تعليله بالعفو عن يسير المذي أنه أولى من الدم؛ للاختلاف في نجاسة المذي بخلاف الدم.
13.
و قال عبد الرحمن بن محمد بن عسكر المالكي (ت 732): (ولا خلاف في نجاسة الدم المسفوح)
(1)
.
14.
وقال الخازن (ت 741): (اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لايؤكل ولا ينتفع به)
(2)
.
15.
و قال ابن عادل الحنبلي (ت 775): (اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لايؤكل ولا ينتفع به)
(3)
.
16.
و قال ابن الملقن (ت 804): (نجاسة الدم وهو إجماع إلا من شذ)
(4)
.
17.
و قال ابن حجر (ت 852): (والدم نجسٌ اتفاقاً)
(5)
.
18.
وقال العيني (ت 855): (ونجاسته مجمع عليها بلا خلاف وهو حجة قطعية. والمرادُ من الدمِ الدمُ المسفوح)
(6)
.
19.
و قال ابن نجيم (ت 970): (إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع)
(7)
.
(1)
إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك ص (4).
(2)
تفسير الخازن (1/ 103).
(3)
اللباب في علوم الكتاب (3/ 172)، ويُلحظ أن عبارته مثل عبارة الخازن، و القرطبي، وابن العربي، ولعلها نُقلت من ابن العربي، ولا يضر ذلك، بل يدل على اشتهار الإجماع، و استقراره، وعدم معرفة المخالف.
(4)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/ 183).
(5)
فتح الباري (1/ 352).
(6)
البناية (1/ 727)، وانظر:(1/ 201)، (1/ 702).
(7)
البحر الرائق (1/ 21)، ويحتمل أنه ينقل ذلك عن السراج الهندي عمر بن إسحاق أحد شارحي الهداية، وانظر: حاشية ابن عابدين (1/ 113).
20.
و قال الهيتمي (ت 974) عند بيان النووي للنجاسات فقال: (ودم) قال الهيتمي معلقاً: (إجماعاً)
(1)
.
21.
وقال الخرشي (ت 1101): (والدم قسمان مسفوح، وهو الجاري نجس إجماعاً)
(2)
22.
و قال الرهوني (ت 1230): (أما الدم المسفوح، أي: الجاري فنجس إجماعاً)
(3)
، والرهوني وفاته قبل وفاة الشوكاني -رحمهما الله- بعشرين عاماً، وهذا يدل على أن الإجماع لم يزل ينقله العلماء من القرن الثالث و حتى القرن الثالث عشر دون معرفة مخالف معتبر قبل الشوكاني، وأختم هذه الإجماعات بالنقل عن هاتين الموسوعتين المعاصرتين:
23.
ففي الموسوعة الفقهية الكويتية: (اتفق الفقهاء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل، ولا ينتفع به)
(4)
.
24.
وفي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: (أجمع الفقهاء على نجاسة الأنواع التالية:
…
الدم: دم الآدمي غير الشهيد، ودم الحيوان غير المائي، الذي انفصل منه حياً أو ميتاً، إذا كان مسفوحاً (جارياً) كثيراً)
(5)
.
- فالإجماع على نجاسة الدم مشهور، منقول على ألسنة الأكابر، ومنهم من كان يتشدد في نقل الإجماع ويحتاط له؛ كالإمام أحمد، وابن تيمية.
(1)
تحفة المحتاج في شرح المنهاج (1/ 293).
(2)
شرح مختصر خليل للخرشي (1/ 87).
(3)
حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 72).
(4)
(21/ 25).
(5)
الفقه الإسلامي وأدلته (1/ 302 - 303).
- كما أن الأزمنة التي نقل فيها مختلفة، ومع ذلك لم يخرج في أي عصر من العصور من يَرُد على ناقل هذا الإجماع أو يخطئه، ولم يثبت ولو عن واحد من أهل العلم طيلة هذا الزمان القول بخلافه
(1)
.
و نوقش هذا الدليل:
- بعدم التسليم، فقد عورض الإجماع بالاختلاف في دم الشهيد، والسمك، ودم مالانفس له سائلة
(2)
، وبما ثبت عن بعض السلف مما ينافي إطلاق الإجماع، كقصة الصحابي الذي رماه المشرك وهو قائم يصلي، فاستمر في صلاته، وجرحه يسيل
(3)
.
- وجاء في الفروع لابن مفلح رواية عن أحمد بطهارة الدم
(4)
.
ويمكن الجواب عن ذلك بأمور:
- إذا ثبت الإجماع على نجاسة نوع من أنواع الدم فلا يؤثر فيه وجود الخلاف في نوع آخر، ومن نقل الإجماع على نجاسة الدم المسفوح نقل الخلاف في دم الشهيد و نحوه، ومن ذلك قول ابن
(1)
انظر: تحذير النبلاء من مخالفة الإجماع والقول بطهارة الدماء ص (9).
(2)
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 607)، الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (176)، وقد وهم في إيراد الكبد في المختلف فيه، وأورد أيضاً دم مالانفس له سائلة، وهو مندرج في حكم الدم اليسير؛ لأنه غير منسفح ولايسيل، مع أن ابن قدامة قال:(وليس المنسوب إلى البراغيث دماً إنما هو بولها في الظاهر) المغني (2/ 61).
(3)
انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 606).
(4)
الفروع (1/ 343)، وهذه الرواية سيأتي أنها خطأ على أحمد سببه خطأ في المطبوع تبين بالرجوع للمخطوط، وتأيد بعدم التفريع عليها في الكتب التي اعتنت بالفروع، وبنفي الخلاف في نجاسة الدم الذي نقله أحمد، وقد أشكل هذا الخطأ على بعض المعاصرين كما في شرح العمدة للجبرين (1/ 29)، وقال:(فإن ثبت هذا عنه فلعله كان قبل أن يعلم إجماع الأمة على نجاسته، فلما علم بذلك رجع عنه)، وسيأتي أنه لاحاجة لذلك؛ لثبوت الخطأ.
حزم: (واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان، حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه نجس)
(1)
.
- ومن اسثنى دم السمك والشهيد فرآى طهارتهما وهم الحنفية والحنابلة
(2)
، نصوا على نجاسة الدم المسفوح، واستثناؤهم ما استثنوه دليل على العموم فيما سواه
(3)
.
- وهذا التخصيص والاستثناء ليس بغريب إذا اقتضاه الدليل، وله نظائر كما خُصت ميتة البحر من تحريم الميتة، وكما خص بول الغلام من وجوب الغسل
(4)
.
- أما ماثبت عن بعض السلف مما يظنُّ منافاته للإجماع، فلم يستدل بهذه الآثار أحد من العلماء المتقدمين على خرم الإجماع، وجميعُ ماجاء مما يُظن معارضته للإجماع فهو إن صح دائر بين أمرين: إما أن يكون يسيراً مما يُعفى عنه للمشقة، أو يكون كثيراً و لا يمكن التحرز منه للضرورة
(5)
، وهاتان الصورتان مما حُكي
(1)
مراتب الإجماع ص (19).
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 211)(1/ 322)، الإنصاف (1/ 327 - 328).
(3)
قال ابن عثيمين: (فهذه أقوال أهل العلم من أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم، صريحة في القول بنجاسة الدم، واستثناؤهم ما استثنوه دليل على العموم فيما سواه) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 263).
(4)
قال ابن القيم: (وما خص سبحانه شيئا إلا بمخصص، ولكنه قد يكون ظاهرا وقد يكون خفياً) إعلام الموقعين (2/ 115)، وقال في بدائع الفوائد (3/ 141): (وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح، لا تفرق بين متماثلين البتة، ولا تسوي بين مختلفين
…
ولا يلزمه الأقوال المستندة إلى آراء الناس وظنونهم واجتهاداتهم، ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات وإباحة الشيء وتحريم [نظيره] وأمثال ذلك ما فيها).
(5)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 266).
الإجماع على العفو عنهما، وهذا الجواب عن هذه الآثار بإجمال، و سيأتي تفصيل الجواب عند ذكرها بإذن الله.
- وأما الرواية التي في الفروع عن أحمد، فهي خطأ في المطبوع يتبين ذلك بالرجوع إلى المخطوط
(1)
، فالعبارة التي في المطبوع:(وعنه: طهارة قيح، ومدّة وصديد، ودم. وعرق المأكول طاهر)
(2)
، والظاهر أن قوله:(ودم) تابعة لما بعده، فتكون العبارة:(ودم عرق المأكول طاهر)، كما هي واضحة جداً هكذا في المخطوطين.
- وهذه العبارة موجودة ومطروقة أيضاً في كتب المذهب الأخرى، قال في الإقناع:(ودم عرق مأكول بعد ما يخرج بالذبح وما في خلال لحمه طاهر ولو ظهرت حمرته نصاً)
(3)
، وفي الإنصاف:(دم عرق المأكول طاهر، على الصحيح من المذهب، ولو ظهرت حمرته)
(4)
، ويقصدون به:(الدم الذي يبقى في اللحم وعروقه طاهر، ولو غلبت حمرته في القدر، لأنه لا يمكن التحرز)
(5)
.
(1)
رجعت لمخطوطين موجودين على شبكة الألوكة لكتاب الفروع، الأول مصور من المكتبة الأزهرية:
|
والثاني مصور من مكتبة عنيزة الوطنية:
|
(2)
الفروع (1/ 343 - 345) طبعة التركي.
(3)
الإقناع (1/ 62)، وانظر: كشاف القناع (1/ 191).
(4)
الإنصاف (2/ 322).
(5)
المبدع (1/ 214)، وانظر: الروض المربع ص (52).
- ومما يؤكد ذلك: أن هذه الرواية الخاطئة لم يعلق عليها ابن قندس في حواشي الفروع، ولا المرداودي في تصحيح الفروع، مع أهميتها لو كانت صحيحة، ولم تذكر في بقية كتب المذهب، وهي مخالفة للنقل عن أحمد أنه لاخلاف في نجاسة الدم، والله أعلم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بطهارة الدم:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ البراءة الأصلية
(1)
، فالأصل في الأشياء الطهارة، ولم يأتِ دليل يعتمد عليه في نجاسة هذا الدم
(2)
، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل دمٍ من الدماء إلا دم الحيض
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن الاستدلال بالبراءة الأصلية إنما يتم عند عدم الدليل، فهو آخر مدار الفتوى
(4)
، قال الشوكاني:(فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلاً على هذا؛ لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل)
(5)
.
- وقد قام دليل الكتاب والإجماع على نجاسة الدم المسفوح، فمن يتمسك بالبراءة الأصلية هنا على قسمين: 1/ من لايرى انعقاد الإجماع؛ كالشوكاني، وهذا مناقشته في أصل الاستدلال
(1)
انظر: الدراري المضية (1/ 32)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 607)، الشرح الممتع (1/ 441).
(2)
انظر: الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (177).
(3)
آراء الشيخ الألباني في العبادات (1/ 348).
(4)
انظر: تحذير النبلاء ص (20).
(5)
إرشاد الفحول (2/ 175).
بالإجماع. 2/ من يرى إمكان انعقاد الإجماع، ولكنه يعتقد أن الإجماع المحكي مخروم؛ كالألباني، والجواب عنه يكون عند ذكر الآثار التي استدل بها، أو يُظن خرمها للإجماع.
- أما الأمر بغسل دم الحيض فهو دليل على نجاسة كل دم:
أ) أما حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال:«لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي»
(1)
، فقوله:«اغسلي عنك الدم» عام في كل دم، قال ابن حزم:(وهذا عموم منه صلى الله عليه وسلم لنوع الدم، ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائماً بنفسه غير مردود بضمير إلى السؤال)
(2)
، وقد استُدرك ذلك بأن اللام هنا للعهد الذكري
(3)
.
ب) وأما حديث أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، كيف تصنع به؟ قال:«تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه»
(4)
، فيقاس عليه غيره، قال الشافعي:(وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس، وكذا كل دم غيره)
(5)
، قال ابن عبدالبر:(وحكم كل دم كدم الحيض)
(6)
، ونوقش: بأن
(1)
أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333).
(2)
المحلى (1/ 115).
(3)
انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 609).
(4)
أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291).
(5)
الأم (1/ 85).
(6)
التمهيد (22/ 230).
بينهما فرقاً؛ فدم الحيض دم طبيعة، بخلاف غيره؛ ولأن مخرجه مخرج البول فيعطى حكمه، كما أن صفاته مختلفة عن غيره
(1)
.
2/ ومن الآثار التي يُستدل بها أو يُظن خرقها للإجماع:
قول الحسن البصري رحمه الله: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم)
(2)
.
وجه الاستدلال: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بغسله، ولم يرد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحرزون منه تحرزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلي عن ثيابهم التي أصابها الدم متى وجدوا غيرها، ممايدل على طهارته
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أن الأثر ليس فيه ذكر للدم، فلا يلزم من وجود الجرح وجود الدم، وعلى فرض وجود الدم فإنه يسير
(4)
، أو أن الدم لم يتوقف
(5)
؛ فيصلي على حاله للضرورة؛ كالمستحاضة، ومن به سلس البول؛ لأن حمل المجمل على مايوافق الإجماع أولى من حمله على مايعارضه،
(1)
الشرح الممتع (1/ 442)، ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن الجامع هو كونه دماً خارجاً من حيوان، أما كونه خارجاً من السبيل فهو وصف غير مؤثر؛ كالبول إذا خرج من غير مخرجه المعتاد.
(2)
علَّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب: الوضوء، باب (34): من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر.
(3)
انظر: الشرح الممتع (1/ 441)، والشيخُ ابن عثيمين رحمه الله أول من رأيته يستدل بهذا الأثر على طهارة الدم ولم يذكره الشوكاني ولا الألباني، والأثر في صحيح البخاري ولم يستدل به أحد قبل الشيخ على طهارة الدم، والله أعلم.
(4)
وعلى ذلك استدل بالأثر ابن القيم، انظر: إغاثة اللهفان (1/ 154).
(5)
وعلى ذلك استدل بالأثر ابن تيمية، انظر: مجموع الفتاوى (21/ 221).
كما أن المجمل يزول إجماله بالإجماع
(1)
، فالجادة أن يكون الإجماع مبيناً للإجمال، وليس العكس.
- ثم إنَّ هذا الإجمال في أثر الحسن مُفسَّرٌ عند ابن أبي شيبة، وذكره ابن حجر في "تغليق التعليق" بعد الأثر مباشرة، وهو قول الحسن:(ما في نضحات من دم ما يفسد على رجل صلاته)
(2)
، وهذا يوضح أن المقصود به الدم اليسير، وأن السياق في نقض الطهارة وليس في نجاسة الدم.
- وممايدل على الأمرين وهو أوضح= مارواه ابن أبي شيبة أيضاً من طريق هشيم، عن يونس، عن الحسن:(أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلاً)
(3)
، وقد أورد ابن حجر في "تغليق التعليق"
(4)
هذين الأثرين بعد الأثر الذي علَّقه البخاري، إشارة إلى أن المقصود هو أحد هذين الأثرين، والله أعلم.
- و المراد من أثر الحسن هو الاستدلال على عدم نقض الطهارة بذلك الدم اليسير الخارج من البدن، وبهذا الفهم ترجم له البخاري:(باب مَنْ لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر)، والأثر في البخاري يقرؤه العلماء على مرِّ العصور قبل عصرنا الحاضر، ولم يستدل به أحد منهم على طهارة الدم.
- ثم إن القول بأن هذا الأثر يفيد طهارة الدم يلزم منه نسبة القول بطهارة
(1)
قال القاضي أبو يعلى في العدة (1/ 128): (وقد يقع بيان المجمل بالإجماع)، وانظر: الفصول في الأصول (2/ 42)، البحر المحيط (5/ 103).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (3956) من طريق هشيم (بن بشير)، قال: أخبرنا يونس (بن عبيد بن دينار)، عن الحسن، وإسناده صحيح، وقد صرَّح هشيم بالتحديث، وانظر: تغليق التعليق (2/ 117).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (1459).
(4)
(2/ 117).
الدم إلى الحسن البصري رحمه الله وهذا ليس من التحقيق؛ لأن مذهبه مشهور معروف في نجاسة الدم، بل وتشديده حتى في اليسير
(1)
.
- وأقرب شاهد على ذلك ما أورده البخاري بعد الأثر السابق بثلاثة آثار، وهو قول الحسن فيمن يحتجم:(ليس عليه إلا غسل محاجمه)
(2)
، فأوجب غسل المحاجم من أثر الدم، ولايتساهل الحسن حتى في القطرة من الدم كما روى ابن أبي شيبة عن الحسن في الجب
(3)
يقطر فيه القطر من الخمر أو الدم قال: (يهراق)
(4)
،
(1)
ولا يعارض هذا ماسبق من تجويزه للصلاة في الجروح مع الدم اليسير؛ لأنه يشق التحرز من دم الجروح مع استمرارها، قال الباجي:(فإن اتصل خروجه فعلى المجروح أن يصلي على حاله، ولا تبطل بذلك صلاته؛ لأنه نجاسة لا يمكنه التوقي منها وليس عليه غسلها إلا إذا كثرت وتفاحشت). المنتقى (1/ 86).
(2)
علَّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب: الوضوء، باب (34): من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر، ووصله ابن أبي شيبة (474) من طريق عبد الأعلى السامي عن يونس عن الحسن به، وهو صحيح، قال أبوداود:(سمعت أحمد قيل له: عبد الأعلى السامي؟ قال: ما كان من حفظه ففيه تخليط، وما كان من كتاب فلا بأس به، وكان يحفظ حديث يونس مثل سورة من القرآن). سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص (346).
(3)
الجب: البئر، وهذا قد يكون تصحيفاً؛ لأن البئر لا تهراق، ولعل صوابها: الحُبُّ كما هي مثبتة في طبعة د. الشثري، قال في اللسان (1/ 295):(والحُبُّ: الجرّةُ الضخمة)، وممايبين ذلك= هذا النقل:(قال حرب: سألت أحمد عن كلب ولغ في سمن أو زيت؟ قال: إذا كان في آنية كبيرة، مثل حُبٍّ أو نحوه، رجوت ألا يكون به بأس، يؤكل). المغني (9/ 426).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (1772) من طريق يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن به، وسنده صحيح لكنَّ فيه انقطاعاً، فهشام وإن كان ثقة إلا أن في روايته عن الحسن وعطاء مقالاً؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما، بل قال إسماعيل بن علية:(كنا لا نعد هشام بن حسان فِي الحسن شيئاً)، وسبب ذلك كما قال ابن المديني:(كان يحيى بن سعِيد وكبار أصحابنا يثبتون هشام بن حسان، وكان يحيى يضعف حديثه عن عطاء، وكان الناس يرون أنه أخذ حديث الحسن عَنْ حوشب)، لكن هذا الانقطاع لايضر كثيراً؛ لأنه عُرف الواسطة وهو حوشب بن مسلم الثقفي وهو ثقة، وقد روى البخاري لهشام عن الحسن حديثاً واحداً، وروى مسلم له ثلاثة أحاديث. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 200)، تهذيب الكمال (30/ 185 - 187)، تقريب التهذيب ص (572).
قال ابن المنذر، والبيهقي، وابن قدامة:(وكان الحسن يقول: قليل الدم وكثيره سواء)
(1)
، علّق البيهقي على ذلك بقوله:(ومذهب سائر الفقهاء بخلافه، في الفرق بين كثير الدم ويسيره)
(2)
، فهذا هو مذهب الحسن في نجاسة الدم. والتشديدُ فيه مشهور عند الفقهاء.
3/ ومن الآثار التي يُستدل بها أو يُظنُّ خرقها للإجماع: ماروي عن جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرُمي رجل بسهم، فنزفه
(3)
الدم، فركع، وسجد ومضى في صلاته»
(4)
.
وجه الاستدلال:
أنه يُستبعد عادة ألا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفي ذلك عليه فما هو بخافٍ على الله الذي لا تخفى
(1)
الأوسط (2/ 154)، السنن الكبرى (2/ 268)، المغني (2/ 59).
(2)
السنن الكبرى (2/ 268)
(3)
نزفه الدم وأنزفه: إذا سال منه كثيراً حتى يضعفه. فتح الباري (1/ 181).
(4)
علَّقه البخاري بصيغة التمريض في كتاب: الوضوء، باب (34): من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر، ووصله غيره بسند فيه ضعف، فقد أخرجه أحمد (14704)، وأبوداود (198)، وابن خزيمة (36)، وابن حبان (1096)، والحاكم (557)، والدارقطني (869)، والبيهقي في السنن الصغير (40) وغيرهم، ومدار الإسناد عندهم جميعهم على محمد بن إسحاق عن صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر بن عبدالله به، في قصة الرجلين اللذين كانا يحرسان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فاضطجع أحدهما وقام الآخر يصلي حتى رمي بثلاثة أسهم فنزعها وأتم صلاته، قال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بأحاديث محمد بن إسحاق، فأما عقيل بن جابر بن عبد الله الأنصاري فإنه أحسن حالاً من أخويه محمد وعبد الرحمن)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 357)، قلت: وقد أُعلَّ هذا الحديث بضعف ابن إسحاق وجهالة عقيل بن جابر، وأشار لذلك ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 116)، والحديث له شاهد عند البيهقي في الدلائل (3/ 377) وهذا الشاهد لا يفرح به؛ لأن في سنده الواقدي وهو متروك، و (الرجلان الحارسان هما: عمار بن ياسر وعباد بن بشر، وعباد هو الجريح، وقيل عمارة ابن حزم والأول أثبت إن شاء الله تعالى) كما في غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوال (1/ 438)، وانظر: سيرة ابن هشام (2/ 208).
عليه خافية، فلو كان الدم الكثير ناقضاً أو نجساً لأوحى الله بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن الأثر ضعيف
(2)
؛ ففي سنده عقيل بن جابر، وهو مجهول، قال أبوحاتم:(لا أعرفه)
(3)
، ومحمد بن إسحاق مختلف فيه
(4)
، وتفرده في مثل هذا لايُحتمل.
(1)
انظر: تمام المنة ص (51)، و السلسلة الصحيحة (1/ 606)، وأول من رأيته يستدل بهذا الأثر على طهارة الدم هو الشيخ الشوكاني في فتاويه (5/ 2551)، ثم الألباني -رحمهما الله-.
(2)
قال شعيب الأرنؤوط: (إسناده ضعيف، عقيل بن جابر لم يوثقه غير المؤلف (أي: ابن حبان)، ولم يرو عنه غير صدقة بن يسار، وباقي رجاله ثقات) صحيح ابن حبان (3/ 376)، وقال مشهور آل سلمان: (والحق أن إسناده ضعيف، فعقيل لم يوثقه غير ابن حبان، بذكره له في "الثقات"
…
، ولم يرو عنه غير صدقة
…
ولعله من أجله علقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض)، كما في تحقيقه للموافقات (2/ 369).
(3)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 218)، وقال عنه الذهبي:(فيه جهالة)، وقال عنه ابن حجر:(مقبول)، انظر: ميزان الاعتدال (3/ 88)، المغني في الضعفاء (2/ 438)، تقريب التهذيب ص (369)، وقول ابن حجر:(مقبول) هذا ليس توثيقاً وإنما يقصد باصطلاحه كما نص عليه في المقدمة: (مقبول حيث يتابع، وإلا فليّن الحديث)، فحديثه مقبول في الشواهد والمتابعات، ولا يُقبل تفرده.
(4)
اختُلف في محمد بن إسحاق بن يسار اختلافاً كثيراً، ومما هو كالإجماع أنه إمام حجة في المغازي والسير، وهو دون ذلك في الأحكام، فمنهم من وثقه مطلقاً، ومنهم من طعن فيه طعناً شديداً، ومنهم من توسط وجعل حديثه صالحاً يُعتبر به، قال الذهبي في السير (7/ 41):(فله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكراً، هذا الذي عندي في حاله) وقال في ميزان الاعتدال (3/ 475): (فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئا)، وقال ابن حجر في القول المسدد ص (44):(فإن الأئمة قبلوا حديثه، وأكثر ما عيب فيه التدليس والرواية عن المجهولين، وأما هو في نفسه؛ فصدوق وهو حجة في المغازي عند الجمهور)، ويمكن تقسيم حديث محمد بن إسحاق أقساماً: فمارواه في السير مصرحاً بالتحديث فهو أصحها، ومارواه في الأحكام فإن صرح بالتحديث فحديثه حسن وقد ينحط إذا خالف أو تفرد، ومالم يصرح فيه بالتحديث فهو ضعيف. انظر: القراءة خلف الإمام للبخاري ص (181)، ميزان الاعتدال (3/ 468)، تهذيب التهذيب (30/ 38)، من تكلم فيه وهو مُوثَّق ص (159)، شرح علل الترمذي (1/ 143)، المدلسين للعراقي ص (81).
- ولايُعترض على ذلك بأن ابن حبان وثَّق عقيل بن جابر بذكره في الثقات
(1)
، فإن الذكر المجرد للرجل في كتاب الثقات لايفيد توثيقاً على الصحيح؛ لأن العدل عند ابن حبان يدخل فيه من لم يُعلم بجرح
(2)
، فمجهول الحال على ذلك= عدل!، قال ابن حجر:(وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه؛ فإنه يذكر خلقاً ممن ينص عليهم أبو حاتم، وَغيره على أنهم مجهولون)
(3)
.
- ومع ضعف السند، ففي المتن نكارة، فكيف يُقرُّه النبي صلى الله عليه وسلم على تعريض نفسه للهلكة وإتمام صلاته؟ هذا معارض للنصوص
(4)
، فقد أمر الله بحمل السلاح وتغيير هيئة الائتمام والصلاة؛ حذراً ودفاعاً، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسودين في الصلاة: الحية
(1)
الثقات (5/ 272).
(2)
انظر: الثقات (1/ 13)
(3)
لسان الميزان (1/ 208 - 209)، وأما تحسين الألباني له، فإنه مخالف لمنهجه في عدم قبول توثيق ابن حبان، حيث قال في السلسلة الصحيحة (1/ 677):(ومن المعلوم أن توثيقه غير معتمد عند المحققين من العلماء والنقاد)، و قد قوّى توثيق ابن حبان عنده من أثبت الحديث كابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، فإنه يؤخذ من ذلك توثيق عقيل، ولكن ذلك في الحقيقة غير لازم؛ لتساهل من ذُكر وروايتهم عن المجهولين والضعفاء، ولذا لم يعتبر الذهبي، وابن حجر وغيرهما إخراج الحديث عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وتصحيحهم رافعاً لجهالة عقيل، والله أعلم.
(4)
انظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (57).
والعقرب
(1)
، واتفق الفقهاء على وجوب قطع الصلاة؛ لإنقاذ غريق ونحوه
(2)
، ولو كانت الصلاة فرضاً في الجميع، فكيف يقره النبي صلى الله عليه وسلم على إتمام نفله، وتعريض نفسه وغيره للهلكة والقتل، والحراسةُ واجبة عليه؟!
-
…
وعلى فرض التسليم بثبوت الأثر فإن دلالة الأثر إنما هي في عدم نقض الطهارة بذلك الدم الخارج من البدن، وبهذا الفهم ترجم جميع من أخرج الحديث أو ذكره.
- وهذا البيان لتراجمهم: قال البخاري: (باب من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر)، وقال أبوداود:(باب الوضوء من الدم)، وقال ابن خزيمة:(باب ذكر الخبر الدال على أن خروج الدم من غير مخرج الحدث لا يوجب الوضوء)، وقال ابن حبان:(باب نواقض الوضوء)، وقال الدارقطني:(باب جواز الصلاة مع خروج الدم السائل من البدن)
(3)
، وقال البيهقي:(باب مايوجب الوضوء)، فهذا هو فقه من أخرج الأثر من أهل الحديث، وهكذا فقهاء المذاهب قبل عصرنا، فلم أقف على أحد منهم استنبط منه طهارة الدم.
- وهذه أيضاً تخريجات فقهية مختصرة أسوقها تنزُّلاً بأن الأثر ثابت، فيقال: إن هذه النجاسة معفوٌ عنها؛ لأمور منها: الضرورة؛ كالعفو
(1)
أخرجه أحمد (7178)، وأبوداود (921)، والترمذي (390)، وقال: حسن صحيح، والنسائي (1202)، وابن ماجه (1245) وغيرهم، من حديث أبي هريرة وهو صحيح.
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 51)، حاشية الدسوقي (1/ 289)، كشاف القناع (1/ 380)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 254)، الموسوعة الكويتية (31/ 183).
(3)
وهذا محمول على الضرورة، وقد ذكر بعد هذا الحديث صلاة عمر وهو مطعون، وسوف يأتي بإذن الله.
عن النجاسة ولو كثرت في صلاة الخوف
(1)
؛ ولأنها نجاسة طارئة وليست مبتدأة
(2)
؛ ولأن زمنها يسير فيعفى عنها كيسير النجاسة
(3)
؛ ولأنه يُخفف في صلاة النافلة مالا يخفف في فرضها
(4)
؛ وأخيراً، فإنه يحتمل أن هذا الصحابي رضي الله عنه لايرى وجوب غسل النجاسة عن الثوب
(5)
، والله أعلم.
4/ ومن الآثار التي يُستدل بها أو يُظنُّ خرقها للإجماع:
ماروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أنه صلَّى وعلى بطنه فرثٌ، ودمٌ، من جزورٍ نَحَرها، و لم يتوضأ)
(6)
.
وجه الاستدلال:
أن ابن مسعود رضي الله عنه صلّى وعلى بطنه دم من الجزور التي نحرها، فهذا يدل على طهارة دم الحيوان مأكول اللحم، كما أن حديث
(1)
وقد نُقل الاتفاق على ذلك، انظر: أحكام المجاهد في سبيل الله بالنفس (1/ 199).
(2)
قال ابن حجر: (وإليه ميل المصنف، وعليه يتخرج صنيع الصحابي الذي استمر في الصلاة بعد أن سالت منه الدماء برمي من رماه) فتح الباري (1/ 348)، ويقصد بالمصنف: البخاري، وذلك في ترجمته:(بابٌ إذا أُلقي على ظهر المصلِّي قذرٌ أو جيفةٌ، لم تفسد عليه صلاته) ثم ذكر حديثاً فيه إلقاء سلى الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي.
(3)
قال ابن قدامة: (النجاسة يعفى عن يسيرها، فعفي عن يسير زمنها، ككشف العورة) المغني (2/ 50).
(4)
وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله واحداً وثلاثين فرقاً بين الفريضة والنافلة، منها مايتعلق بالتخفيف في النافلة. انظر: الشرح الممتع (4/ 129).
(5)
قال ابن المنذر: (وأسقطت طائفة غسل النجاسات عن الثياب) الأوسط (2/ 154)، وانظر: فتح الباري (1/ 348)، لكن ابن عبدالبر قال:(وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن، وألا يصلى بشيء منها في الأرض ولا في الثياب) الاستذكار (1/ 331).
(6)
أخرجه عبدالرزاق في المصنف (495)، وابن أبي شيبة (3954) ولفظه:(فلم يعد الصلاة)، ورواه غيرهما من طريق ابن سيرين عن يحيى الجزار به، ورجاله ثقات، ولكن ابن سيرين أنكر وأمسك عن هذا الحديث بعدُ ولم يعجبه. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 344)، الضعفاء للعقيلي (4/ 369).
الأنصاري الذي رُمي بالسهام يدل على طهارة دم الإنسان
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أن هذا الأثر في ثبوته نظر؛ فيحيى الجزار وإن كان ثقة و روى له مسلم
(2)
، إلا أن روايته عن ابن مسعود فيها انقطاع
(3)
، وقد أمسك ابن سيرين عن التحديث بهذا الأثر، كماروى ابن أبي شيبة، قال:(حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس، عن ابن سيرين، أنه أمسك عن هذا الحديث بعدُ ولم يعجبه)
(4)
، وقال ابن سيرين أيضاً:(أُنكر هذا)
(5)
، ممايدل على إعلاله له
(6)
.
- ممايؤيد ذلك أن إبراهيم النخعي (و كان بصيراً بعلم ابن مسعود)
(7)
كما قال الذهبي، (ولم يكن يخرج عن قول عبدالله وأصحابه)
(8)
(1)
انظر: تمام المنة ص (52)، و السلسلة الصحيحة (1/ 606)، وأول من رأيته يستدل بهذا الأثر على طهارة الدم هو الشيخ الألباني رحمه الله.
(2)
قال ابن حجر: (صدوق رُمي بالغلو في التشيع)، وتعقبه الشيخان: بشار عواد، و شعيب الأرنؤوط فقالا: (بل ثقة، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وابن سعد
…
وإنما ذكره بعضهم في الضعفاء لتشيُّعه) "تحرير تقريب التهذيب"(4/ 80).
(3)
قال حسين سليم أسد عن حديث يرويه الجزار عن ابن مسعود: (إسناده ضعيف لانقطاعه، يحيى بن الجزار لم يسمع عبد الله بن مسعود) كما في تحقيقه لموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (4/ 392)، وقال شعيب الأرنؤوط عن الحديث نفسه:(رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن فيه انقطاعاً بين يحيى بن الجزار وبين عبد الله بن مسعود) كما في تحقيقه لصحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (13/ 456).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (1/ 344).
(5)
الضعفاء الكبير للعقيلي (4/ 396).
(6)
وقد وقفت على مايدل على انقطاعه وإعلاله وهو مارواه عبدالله بن أحمد، عن أبيه قال: حدثنا روح، قال: حدثنا أشعث، عن محمد (بن سيرين)، عن زبان يحيى بن الجزار، عن أبيه، أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصاب بطنه من فرثها ودمها فصلى ولم يتوضأ. العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله (3/ 44)، فقد ذكر يحيى الواسطة بينه وبين ابن مسعود وهو والده، ووالده لايعرف حاله ولم أقف له على ترجمة له.
(7)
سير أعلام النبلاء (4/ 521).
(8)
الفتاوى الكبرى (6/ 146).
كما قال ابن تيمية
(1)
، روى عنه ابن أبي شيبة أنه قال:(إذا توضأ الرجل ثم ذبح شاة لم يقطع ذلك طهوره، وإن أصابه دم غسله، وإن لم يصبه دم فلا شيء عليه)
(2)
، وهذا موافق للإجماع؛ إذ (الأصل المتفق عليه أنَّ دماءَ الأنعام المأكولة لحومها نجسةٌ
…
كدماء بني آدم في ذلك)
(3)
.
- وعلى فرض التسليم بثبوته فإن سياقه في عدم الوضوء من مس اللحم أو الدم، وهذا لفظ عبدالرزاق (459) وهو اللفظ الذي استدل به الشيخ الألباني
(4)
عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أنه صلَّى وعلى بطنه فرث ودم من جزورٍ نحرها، ولم يتوضأ)، ولذا أورده عبدالرزاق في باب:(مس اللحم النيئ والدم)، وذكره ابن المنذر
(1)
وذكر الأعمش عن النخعي: (إنه كان لا يعدل بقول عمر وعبد الله بن مسعود إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه؛ لأنه كان ألطف)، ومن اللطيف هنا أن ابن مسعود كان يسير على خطى عمر الفاروق رضي الله عنهما ولا يكاد يخالفه، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:(لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك عمر وادياً وشعباً لسلكت وادي عمر وشعبه) قال ابن جرير: (لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله). انظر: العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله (2/ 91)، إعلام الموقعين (1/ 16).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2092) من طريق مصعب بن المقدام، عن زائدة بن قدامة، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي وسنده قوي، إلا أن المغيرة بن مقسم معدود في المدلسين، وخاصة عن النخعي، وهذا هو قول الإمام أحمد ومحمد بن الفضل، وقد ردَّ ذلك أبوداود فقال:(مغيرة لا يدلس، سمع مغيرة من إبراهيم مئة وثمانين حديثاً)، وقال علي بن المديني:(ومغيرة كان أعلم الناس بإبراهيم، ما سمع منه وما لم يسمع، لم يكن أحد أعلم به منه حمل عنه وعن أصحابه)، ويؤيد ذلك أن البخاري ومسلماً أخرجا من روايته عن النخعي من غير تصريح بالسماع في عشرة مواضع وقد تزيد. انظر: سؤالات الآجري لأبي داود ص (127)، المعرفة والتاريخ (3/ 14)، تهذيب الكمال (28/ 397)، تحرير تقريب التهذيب (3/ 411).
(3)
شرح مشكل الآثار (10/ 106).
(4)
انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 606) و تمام المنة ص (52).
في الأوسط في: (الأشياء التي اختُلف في وجوب الطهارة منها).
- وهذه أيضاً بعض التخريجات الفقهية: وهو أن هذا الدم كان يسيراً ويدل عليه أن الراوي لم يقل (ولم يغسله)، وإنما قال:(ولم يتوضأ) فيحمل على أن الدم كان يسيراً، وإنما ذكر الدم والفرث تأكيداً لمسه للحم والدم وأن ذلك لا ينقض الوضوء
(1)
، ويؤكد هذا أن ابن أبي شيبة ذكر بعده بعض الآثار التي فيها الصلاة في الدم اليسير
(2)
، قال الطحاوي:(وأما ما روي فيه عن ابن مسعود من حديث يحيى بن الجزار؛ فقد يحتمل أن يكون ذلك لم يكن له من المقدار ما يفسد به الصلاة؛ إذ كان قليلُ الدم في ذلك خلافَ كثيره عند كثير من أهل العلم)
(3)
.
- أو يقال: إنه لم يعلم بالدم، أو أنه لم يعلم به إلا بعد انقضاء الصلاة، كما يدل عليه لفظ ابن أبي شيبة:(فلم يعد الصلاة) ممايشعر بعدم علمه إلا بعد أن صلى
(4)
، وعلى أسوأ الاحتمالات وأضعفها يقال: إن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه التجاوز عن النجاسة في الثياب كما قال ابن المنذر: (وأسقطت طائفة غسل النجاسات عن الثياب، وروينا عن ابن مسعود أنه نحر جزوراً فأصابه من قرشها ودمها فصلى)
(5)
.
(1)
انظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (62).
(2)
وبوّب عليه: (في الرجل يصلي وفي ثوبه أو جسده دم) ثم ذكر آثاراً تدل على العفو عن يسير الدم، والعفو عن الدم إذا لم يعلم به إلا بعد الصلاة، وهناك مايحتمل أن يكون مذهباً لبعضهم بالعفو عن النجس في الثوب.
(3)
شرح مشكل الآثار (10/ 108).
(4)
انظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (62).
(5)
الأوسط (2/ 154)، وسبق نقل الإجماع على خلافه عن ابن عبدالبر، وقوله:(قرشها) لعلها صحفت من (فرثها).
- هذه هي الآثار التي استدل بها: الشوكاني ثم الألباني والعثيمين رحمهم الله، وفي الجواب عنها مايشبه القواعد للرد على مايماثلها ممايخالف الإجماع ولم نتحقق صحته، وأختم بأثر لم يوردوه، واستدل به بعض من جاء بعدهم
(1)
وهو:
(أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن صلى الفجر وجرحه يثعب
(2)
دماً)
(3)
.
- ويكفي في الجواب عنه قول ابن تيمية رحمه الله: (إن كان الجرح لا يرقأ مثل ما أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه يصلي باتفاقهم؛ سواء قيل: إنه ينقض الوضوء؛ أو قيل: لا ينقض سواء كان كثيراً أو قليلاً)
(4)
.
- قال ابن عبدالبر: (حديث عمر هذا هو أصل هذا الباب عند العلماء فيمن لا يرقأ دمه ولا ينقطع رعافه، أنه لا بد له من الصلاة في وقتها إذا أيقن أنه لا ينقطع قبل خروج الوقت)
(5)
.
5/ ومن الأدلة العقلية التي استُدلَّ بها على طهارة الدم:
القياس على طهارة جزء البدن من الآدمي لو قُطع، مع كونه يحمل دماً، والقياس كذلك على دم السمك الذي عُلِّلَت طهارته بطهارة ميتته وكذلك الآدمي
(6)
.
(1)
انظر: الجامع لبيان النجاسات وأحكامها ص (178)، آراء الشيخ الألباني في العبادات (1/ 384).
(2)
يثعب: ينفجر. الاستذكار (1/ 234).
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (51)، والدارقطني (870) وغيرهما.
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 223).
(5)
الاستذكار (1/ 234).
(6)
انظر: الشرح الممتع (1/ 441 - 442).
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن القياس في الصورتين فاسد الاعتبار؛ لمخالفته الإجماع، فاعتبار القياس مع النص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد، و وضعٌ له في غير موضعه
(1)
، وهذه المناقشة هي الأصل وهي الأقوى.
- ثم إن الدم الذي في الجزء المنفصل لايؤثر مادام لم ينفصل فإذا انفصل فهو نجس، كأي نجس مستقر في معدنه مالم ينفصل، وأما القياس في السمك فهو رد للمختلف على المختلف، وقد سبق الإشارة للخلاف في طهارة دم السمك، وهو قياس مع الفارق؛ لأن السمك مأكول في كل أحوال، والآدمي غير مأكول في أي جزء أو حال من أحواله
(2)
.
سبب الخلاف:
- يظهر والله أعلم أن سبب الخلاف في هذه المسألة أن الشوكاني رحمه الله يخالف في حجية الإجماع، ولذا تراه في ذكره لمسألة الدم لم يعْرِض للإجماع لا من قريب ولا من بعيد، لا في استدلال ولا في نقاش و رد
(3)
، وقد صرح الشوكاني بعدم احتجاجه بالإجماع
(1)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 467).
(2)
انظر: تحذير النبلاء ص (54).
(3)
انظر: الدراري المضية (1/ 32)، السيل الجرار ص (31)، لكنه قال في نيل الأوطار (1/ 58):(واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي)، ويظهر أن هذا الاستدلال تبعي وليس أصلياً، ومما يدل على ذلك قوله في السيل الجرار ص (31):(وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس، بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله، وبقرصه، وبحته، وبحكه، وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له أثر فأفاد ذلك أنه نجس، فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجساً). ثم إن النووي نقل الإجماع على نجاسة الدم، لكنه لم يخصه بالحيض. انظر: المجموع (2/ 557)، شرح النووي على مسلم (3/ 200).
في بعض كتبه، ومن أصرحها قوله:(فأما الإجماع؛ فقد أوضحت في كثير من مؤلفاتي أنه ليس بدليل شرعي، على فرض إمكانه)
(1)
.
- ومما ذكره في مؤلفاته أيضاً قوله: (لا يخفى على المنصف ما ورد على إجماع الأمة من الإيرادات التي لا يكاد ينتهض معها للحجية بعد تسليم إمكانه ووقوعه)
(2)
.
- ولاشك في أن عدم الاحتجاج بالإجماع مطلقاً زلة عظيمة، ولاتُعرف إلا عند أهل البدع، بل قال البزدوي
(3)
(ت 428): (ومن أنكر الإجماع فقد أبطل دينه كله؛ لأن مدار أصول الدين كلها ومرجعها إلى إجماع المسلمين)
(4)
.
- والقول بعدم حجية الإجماع من أقوال المبتدعة، (ولم يخالف فيه غير النظَّام
(5)
(1)
أدب الطلب ومنتهى الأدب ص (204).
(2)
نيل الأوطار (1/ 426).
(3)
أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين البزدوي، المعروف عند الحنفية بفخر الإسلام، ونسبته إلى بزدة، وهي: قلعة حصينة على ستة فراسخ من نسف، من تصانيفه المبسوط، وشرح الجامع الكبير والجامع الصغير، توفي سنة (482) هـ، انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 372)، سير أعلام النبلاء (18/ 602).
(4)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 265)، قال علاء الدين البخاري شارحاً لكلمة البزدوي:(من أنكر الإجماع، أي: أنكر كونه حجة، فقد أبطل دينه؛ لأن مدار أصول الدين على الإجماع؛ إذ المعرفة بالقرآن، وأعداد الصلوات والركعات، وأوقات العبادات، ومقادير الزكوات وغيرها حصلت لنا بإجماع المسلمين على نقلها، فكان إنكار الإجماع مؤدياً إلى إبطالها). المرجع السابق (3/ 266).
(5)
إبراهيم بن سيار الضبعي البصري، شيخ المعتزلة، تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ، وكان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، قال الذهبي:(لم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم، وقد كفره جماعة)، قال السبكي: (وكان يظهر الاعتزال
…
لكنه كان زنديقاً وإنما أنكر الإجماع لقصده الطعن في الشريعة، وكذلك أنكر الخبر المتواتر
…
وأنكر القياس
…
وكل ذلك زندقة لعنه الله وله كتاب: نصر التثليث على التوحيد)، مات سنة بضع وعشرين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 542)، الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 353).
والإمامية)
(1)
، قال الجويني (ت 478):(وأول من باح برده النظّام ثم تابعه طوائف من الروافض)
(2)
، وهل للزيدية تأثير في ذلك على الشوكاني؟ محتمل
(3)
.
- وقد كفّر طائفة مِن العلماء مَن لم يحتج بالإجماع مطلقاً، بل إن ابن حزم (ت 456) قال في مراتب الإجماع:(ومن شرط الإجماع الصحيح أن يكفر من خالفه بلا اختلاف بين أحد من المسلمين)
(4)
، و تعقبه ابن تيمية في إطلاقه عدم الخلاف
(5)
، لكنه قال في فتاويه:(التحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه)
(6)
، وهذا الكلام حتى ولو كان في
(1)
البحر المحيط (6/ 384).
(2)
البرهان في أصول الفقه (1/ 261).
(3)
في كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 241): «وقال بعضهم) وهم الزيدية والإمامية من الروافض: لا يصح الإجماع إلا من عترة الرسول عليه السلام، إلا أن الصنعاني نقل عن المقبلي أنه قال:(المشهور الذي لا يجهله إلا مقلد في النقل لا يصح تقليده أن الشيعة يقولون بحجية إجماع الأمة وحجة إجماع أهل البيت، فالرافضة لدخول المعصوم في الموضعين، وأما الزيدية فلا يقولون بالعصمة في الإمام ولا باشتراطها والنقل عنهم باشتراط ذلك باطل، ولكن يقولون بإجماع الأمة بمثل أدلة غيرهم وبإجماع أهل البيت)، كما في إجابة السائل شرح بغية الآمل ص (155).
(4)
مراتب الإجماع ص (10).
(5)
فقال في نقد مراتب الإجماع ص (286): (لعله لم يبلغه الخلاف في ذلك، مع أن الخلاف في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة، والنَّظَّامُ نفسه المخالف في كون الإجماع حجة لا يكفره ابن حزم، والناس أيضا. فمن كفَّر مخالفَ الإجماع إنما يكفره إذا بلغه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرا من الناس، وكثير من موارد النزاع بين المتأخرين يَدَّعي أحدهما الإجماع في ذلك، إما؛ أنه ظني ليس بقطعي، وإما؛ أنه لم يبلغ الآخر، وإما؛ لاعتقاده انتفاء شروط الإجماع).
(6)
مجموع الفتاوى (19/ 270)، وقال الطوفي:(المختار أن منكر حكم الإجماع إن كان عامياً كفر مطلقاً، ظنياً كان الإجماع أو قطعياً، إذا كان قد اشتهر الإجماع عليه، وعلمه المنكر، واعتقد تحريم إنكاره، وإن كان عالماً، يفرق بين أنواع الإجماع، ويتصرف في الأدلة، لم يكفر إلا بإنكار مثل الأركان الخمسة، والصلوات الخمس، لجواز أن يقوم الدليل عنده على عدم وجوب ما أنكره). شرح مختصر الروضة (3/ 137).
مسألة واحدة من القطعيات؛ أما الظنيات فإن العلماء اتفقوا على أن إنكار حكم الإِجماع الظني غير مُوجب كفراً
(1)
.
- وبعد: فإن الشوكاني رحمه الله وإن كان في ظاهر كلامه ومجموعه الذي سبق نقله ينكر حجية الإجماع مطلقاً، إلا أن له كلاماً مقيداً، يظهر فيه احتجاجه بإجماع الصحابة فقط
(2)
، ومن أصرحها قوله في الإرشاد:(إجماع الصحابة حجة بلا خلاف)
(3)
، وقوله في النيل:(لا حجة في أفعال الصحابة وأقوالهم إلا أن يصح إجماعهم على أمر)
(4)
، مع أنه في المناسك لايبطل حج من تعمد الجماع و لوقبل التحلل، ولا يلزمه بفدية، والحجة فيه إجماع الصحابة، وسيأتي الإشارة لذلك في كتاب الحج.
(1)
انظر: التحبير شرح التحرير (4/ 1682)، قال الطوفي:(مأخذ الخلاف في تكفير منكر حكم الإجماع هو أن الإجماع ظني أو قطعي؟ فمن قال: إنه ظني، قال: لا يكفر) شرح مختصر الروضة (3/ 138).
(2)
وهذا القول نُسب لداود الظاهري، وابن حبان، وأحد قولي الإمام أحمد، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/ 341):(لكن المعلوم منه الإجماع هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك؛ فتعذر العلم به غالباً)، وقال في الواسطية ص (128):(والإجماع الذي ينضبط، هو: ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمة). وانظر: البحر المحيط (6/ 438).
(3)
إرشاد الفحول (1/ 217)، وهو في ذلك متابع لما في البحر المحيط الذي نهل واغترف منه، لكنه خالفه في إجماع من بعد الصحابة؛ حيث قال في البحر:(وهكذا إجماع غيرهم من العلماء في سائر الأعصار خلافاً لداود الظاهري حيث قال: إجماع اللازم يختص بعصر الصحابة، فأما إجماع من بعدهم فليس بحجة)، ولم يذكر الشوكاني أن إجماع غير الصحابة كإجماعهم، بل ذكر قول داود في قصر الإجماع اللازم على الصحابة وما ينصر هذا القول.
(4)
نيل الأوطار (5/ 318).
- وهل قوله في الإرشاد: (بلا خلاف) استدلال منه بالإجماع مع أنه لايحتج به؟! وهذا عجيب، ومن العجيب أيضاً أن الشوكاني لم يستطع الطعن في الإجماع على نجاسة الدم كما طعن في الإجماع على وجوب الزكاة في العروض بمخالفة الظاهرية وإنما أعرض عن ذكره
(1)
.
- ثم إني وقفت على رسالة علمية بعنوان: "الإجماع عند الإمام الشوكاني" مما قال في خاتمتها عن الإجماع: (المخالفون في ذلك إما أهل بدع وضلال، وإما علماء زلوا في هذه المسألة عن سبق نظر، ومن هؤلاء الشوكاني)، ثم قال:(أخطأ الشوكاني خطأً بيّناً في رده الإجماع)، ثم قال عن إيراده للإجماع في بعض المسائل أنه:(من باب الاحتجاج على الخصم بما يعتقد صحته لا غير، يعني: من باب التقرير لا الإقرار)
(2)
.
- أما من تبع الشوكاني في طهارة الدم الكثير من العلماء المعاصرين؛ فإما أن يوافقوه في أصله بعدم الاحتجاج بإجماع من بعد الصحابة، وإما أن يسلموا بالإجماع المستقر قبل الشوكاني.
- أما الألباني فوقف على إجماع فيه إطلاق بنجاسة جميع الدماء؛ فطعن في إطلاقه
(3)
، وأما العثيمين فكان يقرر الإجماع
(1)
قال في الدراري المضية (2/ 160): (وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة، وهذا النقل ليس بصحيح، فأول من يخالف في ذلك الظاهرية، وهم فرقة من فرق الإسلام)، وانظر: رفع الشك وإثبات اليقين ص (93).
(2)
الإجماع عند الإمام الشوكاني لعارف المرادي ص (392 - 393).
(3)
قال في الصحيحة (1/ 605) بعد أن ذكر نجاسة دم الحيض: (أما سائر الدماء فلا أعلم نجاستها، اللهم إلا ما ذكره القرطبي في تفسيره من اتفاق العلماء على نجاسة الدم. هكذا قال " الدم " فأطلقه، وفيه نظر من وجهين).
ومايقتضيه
(1)
، ثم قوَّى في الشرح الممتع
(2)
القول بطهارة دم الآدمي مالم يخرج من السبيلين واستدل على ذلك بما لم يستدل به من قبله.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته
(3)
، فالذي يظهر أن نسبة القول بطهارة الدم الكثير إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع الصحيح، ولم يثبت بعد البحث مخالف يصح أن يُخرم به الإجماعات المتتابعة عبر العصور والطبقات المتوالية، ولا يعرف من قرَّر هذا القول قبل الشوكاني، (وكفى خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده)
(4)
، والله أعلم.
(1)
قال في مجموع الفتاوى والرسائل (11/ 263): (فهذه أقوال أهل العلم من أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم صريحة في القول بنجاسة الدم).
(2)
(1/ 441).
(3)
وقد ذكرت في بداية هذا المبحث أن المسألة المراد بحثها وتصحيح نسبتها إلى الشذوذ من عدمه، هي:
القول بطهارة الدم الكثير السائل في أصله غير دم السمك و الشهيد.
(4)
هذه عبارة ابن جرير الطبري في تفسيره (8/ 721)، وهي ليست لهذه المسألة ولكنها مناسبة للسياق.
(من أراد الإِنصاف فليتوهم نَفسه مكان خصمه فإِنه يلوح لهُ وَجه تعسّفه).
ابن حزم الأخلاق والسير (ص 82)
المبحث الخامس: جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(إذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدّ بأمور:
…
الثالث: أن يخالف الإجماع، فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون صحيحاً غير منسوخ، وتجمع الأمة على خلافه).
الخطيب البغداديرحمه الله
الفقيه والمتفقه (1/ 354)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الآنية لغة: جمع إناء، وجمع الجمع: أوانٍ، كسقاء وأسقية وأَساقٍ
(1)
، (والإناء والآنية: الوعاء والأوعية وزناً ومعنى)
(2)
، وهي ظرف من الظروف التي تحوي مايوضع فيها
(3)
، ولا يخرج الاستعمال الفقهي للآنية عن الاستعمال اللغوي
(4)
.
قال ابن حجر: (وقد نقل الشيخ الموفق
(5)
الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه)
(6)
، قال ابن القيم: (وهذا التحريم
(7)
لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يدهن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم)
(8)
.
(1)
انظر: الصحاح (6/ 2274)، تحرير ألفاظ التنبيه ص (32)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (20).
(2)
المصباح المنير (1/ 28).
(3)
في كشاف القناع (1/ 50): (الآنية لغة وعرفا (الأوعية) وهي ظروف الماء ونحوها).
(4)
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 117).
(5)
أي: الموفق ابن قدامة وهو ينقل عنه في الفتح في مواضع منها قوله (1/ 270): (قال الشيخ الموفق في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافاً) أي: التيمن في الوضوء، وقال ابن حجر (7/ 150):(وقال ابن قدامة في المغني: ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام).
(6)
فتح الباري (3/ 457).
(7)
في حديث النهي عن الأكل والشرب في آنية وصحاف الذهب والفضة، وسيأتي بإذن الله.
(8)
إعلام الموقعين (1/ 158).
والمقصود بالاستعمال: الانتفاع بالإناء فيما يستعمل فيه
(1)
، واستعمال كل شيء بحسبه
(2)
، ومن الاستعمال: الوضوء والغسل من الطست أو الإبريق
(3)
.
- و الأكل بالملعقة، والتجمر بالمجمرة، والاكتحال بالميل
(4)
، والبول في الإناء
(5)
، والشرب بكوب الشاي والقهوة
(6)
، فمباشرة كل ذلك فيما صنع له يسمى استعمالاً.
- وتحريم الاستعمال يستوي فيه الرجل والمرأة، قال النووي:
(1)
انظر: الشرح الممتع (1/ 72)، وذكر الشيخ الفرق بين الاتخاذ والاستعمال، فالاستعمال ماذكر، والاتخاذ: أن يقتنيه فقط، إما للزينة، أو لاستعماله في حالة الضرورة، أو للبيع فيه والشراء، وما أشبه ذلك.
(2)
فتح الباري (3/ 457).
(3)
حاشية ابن عابدين (6/ 341).
(4)
جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 300): (ويباح الاكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجة، ويباحان لها)، ونقل ذلك عنه في مستدرك مجموع الفتاوى (3/ 20)، ولعل هذا من التداوي، وأصله حديث عرفجة في اتخاذه سنّاً من ذهب، وقد قال ابن القيم في خصائص الذهب:(ويجلو العين ويقويها، وينفع من كثير من أمراضها) زاد المعاد (4/ 284)، وقد ذكر ابن مفلح ذلك ثم قال:(وإن اتخذ منه ميل واكتحل به= قوّى العين وجلّاها) الآداب الشرعية (3/ 23)، وقد صرح ابن مفلح أن ذلك رخصة للتداوي، نقل ذلك في فصل عقده في التداوي بالنجس والمحرم وفيه:(وقال الشيخ وجيه الدين من أصحابنا في شرح الهداية: الميل للاكتحال ذهبا وفضة على سبيل المداواة مباح لحصول المداواة لا لشرف الأعضاء رخصة، ويعتمد فيه على قول الثقات من أهل الخبرة في هذا الشأن)(2/ 464)، ومثل ذلك مستثنى عند الشافعية أيضاً، كما قال الرملي:(فإن دعت ضرورة إلى استعماله؛ كمرود منهما لجلاء عينه جاز) نهاية المحتاج (1/ 102).
(5)
شرح النووي على مسلم (14/ 29).
(6)
وقد ألحقوا بالاستعمال أيضاً: القنديل، والكرسي، والسرير، والخفين، والنعلين، والأبواب، والرفوف، والدواة، والقلم، انظر: حاشية ابن عابدين (6/ 341)، الإقناع (1/ 12)، حاشية الروض المربع (1/ 104)، مجموع فتاوى ابن باز (19/ 73)، وقد قال ابن باز فيها:(وأما الأقلام من الذهب والفضة؛ فلا يجوز استعمالها للرجال والنساء جميعا؛ لأنها ليست من الحلية، وإنما هي أشبه بأواني الذهب والفضة). قلت: لأن الأواني ظروف، والقلم ظرف للحبر.
(بلاخلاف)
(1)
، ومما ينبغي أن يعلم أن باب الآنية والاستعمال غير باب التحلي واللباس كما قال ابن تيمية:(والرخصة في اللباس أوسع من الآنية)
(2)
؛ ولذا أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب كما قال النووي
(3)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
اتفق العلماء على أن كل إناء ما لم يكن فضةً، ولا ذهبًا، ولا صفرًا، ولا رصاصًا، ولا نحاسًا، ولا مغصوبًا، ولا إناءَ كتابيٍّ، ولا جلدَ ميتةٍ، ولا جلدَ ما لا يُؤكلُ لحمُه وإن ذُكِّيَ، فإن الوضوءَ منه والأكلَ والشربَ جائزٌ كلُّ ذلك
(4)
، و إن كان ثميناً بسبب صنعته
(5)
.
2.
ونُقل الإجماع على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل
(1)
شرح مسلم (14/ 30).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 353)، وقال ابن القيم في الزاد (4/ 320):(وباب الآنية أضيق من باب اللباس والتحلي)، وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي:(الأبواب ثلاثة بالنسبة إلى الذهب والفضة: فباب الآنية أضيقها؛ فلايباح للذكر ولا الأنثى، ويليه باب اللباس؛ فيباح للأنثى دون الذكر، وأوسعها باب السلاح؛ فيباح في السلاح مالايباح في غيره) شرح عمدة الأحكام ص (799)، هكذا قال رحمه الله، وفي بعض ماقاله نزاع، ففي اللباس يجوز التختم بالفضة للرجال، واستظهر ابن تيمية جواز الذهب اليسير في اللباس والسلاح، وفي المسألة خلاف كما قال ابن تيمية:(وتنازع العلماء في يسير الذهب في اللباس والسلاح).
(3)
المجموع (6/ 40)، وقد ذكر أنواع الحلي ثم قال:(وأما لبسها نعال الفضة والذهب ففيه وجهان).
(4)
مراتب الإجماع ص (23)، قال ابن تيمية مستدركاً في نقده لمراتب الإجماع ص (289):(الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه فيها قولان للشافعي. وفي مذهب مالك قولان).
(5)
كالزجاج المخروط، ويقابل الثمين لصنعته= الثمين لجوهره وذاته؛ كالياقوت والعقيق. انظر: المجموع (1/ 252).
والشرب، وغيرهما من الاستعمالات
(1)
، وحُكي عن الشافعي في القديم القول بالكراهة فقط
(2)
، وحكي عن معاوية بن قرة
(3)
القول بجواز الشرب بالفضة
(4)
، وحكي عن داود تخصيص التحريم بالشرب دون الأكل
(5)
، وخص بعض المعاصرين التحريم بالأكل والشرب دون سائر الاستعمالات، وهذا الرأي هو المراد بحثه وتصحيح نسبته للشذوذ من عدمه
(6)
.
(1)
انظر: التمهيد (16/ 108)، المغني (1/ 56)، مجموع الفتاوى (21/ 84).
(2)
انظر: المجموع (1/ 249).
(3)
معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزني والد القاضي إياس، من فقهاء التابعين ودهاة أهل البصرة، لقي كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روى له البخاري ومسلم، وحديثه عن ابن عمر وبلال مرسل، توفي سنة (113) هـ. انظر: مشاهير علماء الأمصار (1/ 149)، سير أعلام النبلاء (5/ 153)، جامع التحصيل ص (282).
(4)
انظر: المغني (9/ 173)، فتح الباري (10/ 94).
(5)
انظر: المجموع للنووي (1/ 249).
(6)
واختلف العلماء في حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة، واختلفوا في استعمال الآنية المضببة أو المطلية بالفضة أو الذهب، و الأواني النفيسة لذاتها، و آنية أهل الكتاب والمشركين، وليس هذا هو محل بحثها.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
- محمد رشيد رضا (ت 1354)
(1)
، و سيد سابق (ت 1420)
(2)
، و ابن عثيمين (ت 1421)
(3)
.
- وقد سبقهما إلى هذا القول من المتأخرين الصنعاني
(4)
(ت 1182)، والشوكاني
(5)
(ت 1250)، ولم أقف بعد البحث على قائل معتبر سبقهما إلى القول بجواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
(1)
انظر: مجلة المنار (24/ 331 - 343) قال: (ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بيان تحريم كل استعمال لصرَّح به، وهو إنما صرَّح ببعض الاستعمال فصدق على الباقي قوله:«وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» .
(2)
قال في فقه السنة (3/ 490): (وألحق جماعة من الفقهاء أنواع الاستعمال الأخرى كالتطيب والتكحل من أواني الذهب والفضة بالأكل والشرب. ولم يسلم بذلك المحققون. وفي حديث أحمد، وأبي داود: «عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً»، ما يؤكد ما ذهب إليه المحققون).
(3)
انظر: الشرح الممتع (1/ 75) قال: (والصحيح: أن الاتخاذ والاستعمال في غير الأكل والشرب ليس بحرام).
(4)
انظر: سبل السلام (1/ 40) قال: (والحق ما ذهب إليه القائل بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما).
(5)
انظر: نيل الأوطار (1/ 91) قال: (ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب، وأما سائر الاستعمالات؛ فلا، والقياس على الأكل والشرب قياس مع فارق).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- القرطبي
(1)
(ت 656) بقوله بعدما ذكر تحريم استعمال آنية الذهب والفضة: (وروي عن بعض السلف إباحة ذلك. وهو خلاف شاذٌّ مطرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب)
(2)
.
- وقد نقل ابن حجر (ت 852) كلاماً للقرطبي بقوله: (قال القرطبي وغيره) ثم نقل كلاماً للقرطبي قبل ذلك في شرح الحديث ثم قال: (وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم: من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم: من قصره على الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل)
(3)
.
(1)
أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي المالكي، ويعرف بابن المزين، فقيه محدث، ولد بقرطبة ونزل في مصر، وهو شيخ القرطبي صاحب التفسير المتوفى سنة (671) هـ من تصانيفه: المفهم في شرح مسلم، وهو من أجل كتبه، توفي سنة (624) هـ. انظر: نفح الطيب (2/ 615)، الديباج المذهب (1/ 240).
(2)
المفهم (5/ 345).
(3)
فتح الباري (10/ 98)، وهذا يحتمل أنه من كلام القرطبي أو من كلام ابن حجر أو من غيرهما، والاحتمال الأقرب عندي أن الحكم بالشذوذ أخذه ابن حجر من القرطبي، وتفصيل هذا القول من شرح ابن حجر، والله أعلم.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وآنية الذهب والفضة» ، وقال:«هو لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة»
(1)
، وماجاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن
(1)
رواه بهذا اللفظ أحمد (23269)، ورواه بنحوه ابن حزم في المحلى (1/ 208) كلاهما من طريق وكيع عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن حذيفة به، والشاهد فيه هو قوله:«وآنية الذهب والفضة» دون تقييد ذلك بالشرب، وقد خالف فيه وكيعٌ عامةَ أصحاب شعبة الذين رووه بلفظ النهي عن:«الشرب في آنية الذهب والفضة» ، ومنهم: محمد بن جعفر (غندر)، وحفص بن عمر، ومعاذ بن معاذ، وبهز بن أسد، وأبوداود الطيالسي، وابن أبي عدي، وعفان بن مسلم، و وهب بن جرير، و أبوعامر العقدي، فهؤلاء تسعة يروونه عن شعبة بلفظ الشرب، ولم أجد من وافق وكيعاً إلا سليمان بن حرب، وقد قال ابن حجر عن روايته:(هذا اللفظ مختصر)، ولعل سبب ذلك كما قال الخطيب في تاريخه (9/ 37):(كان سليمان يروي الحديث على المعنى فتتغير ألفاظه في روايته)، وأيّاً ماكان فقد قال عبدالله بن المبارك:(إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم فيما بينهم)؛ لأنه كان من أثبت الناس في حديث شعبة، كما قال العجلي في ثقاته ص (402)، وممايدل على ضعف مارواه وكيع= أن الحديث رواه عن حذيفة رضي الله عنه عبدالله بن عكيم في مسلم (2067) بتقييد النهي بالشرب ولم يخُتلف عليه في ذلك، ورواه عن حذيفة كذلك ابن أبي ليلى، وعنه مجاهد والحكم ويزيد بن أبي زياد، ثم رواه عن هؤلاء الثلاثة تسعة عشر رجلاً كلهم لم يختلفوا في ذكر الشرب، كما في البخاري (5426)، ومسلم (2067)، وابن أبي شيبة (24137)، وأحمد (23357)، والطيالسي (430)، وأبي داود (3723)، والترمذي (1878)، والنسائي (5301)، وابن ماجه (3414)، وابن حبان (5339) وغيرها، فالمحفوظ بقيد الشرب، ومما يغني عن هذا البيان أن التقييد بالشرب متفق عليه في البخاري ومسلم، وهذا هو أعلى درجات الصحة، وقد جاء في حديث حذيفة في الصحيحين: النهي عن الأكل في صحاف الذهب والفضة كذلك، والله أعلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: «ونهانا عن آنية الفضة»
(1)
.
وجه الاستدلال: أن في الخبرين نهياً عاماً عن آنية الذهب والفضة جملة، فهما زائدان حكماً وشرعاً على الأخبار التي فيها النهي عن الشرب فقط أو الأكل والشرب فقط، والزيادة في الحكم لا يحل خلافها
(2)
.
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال:
- أن اللفظ الأصح في الحديثين فيه تخصيص النهي بالشرب والأكل، وهو اللفظ المتفق عليه في كلا الحديثين، وهذا في الصنعة الحديثية
(3)
؛ وسلوك الترجيح بين الروايات عند اتحاد
(1)
هذا اللفظ أخرجه البخاري (1239)، واللفظ المتفق عليه فيه النهي عن الشرب بالفضة كما أخرجه البخاري (6235)، ومسلم (2066).
(2)
انظر: المحلى (1/ 209)، وقد قال عن لفظ (الشرب): (فكانت هذه اللفظة ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصانا عظيما، ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث
…
، فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى، والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني، فهو الذي لا يجب الأخذ به) إحكام الأحكام (2/ 92).
(3)
مذهب ابن حزم في زيادة الثقة: أن الحكم للمعنى الأعم مطلقاً، قال في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 90):(وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها، أو شاركه فيها غيره، مثله أو دونه أو فوقه، فالأخذ بتلك الزيادة فرض)، وقال (2/ 91):(وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله ولا فرق، فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى، فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة؛ لأن زيادة المعنى هو العموم وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد، والشرع الوارد، والأمر الحادث)، قلت: وهذا يحتاج إلى تحرير، فالمشهور في مبحث زيادة الثقة هو الزيادة اللفظية من أحد الرواة، أو وصل المرسل، أو رفع الموقوف، ثم إن قبول زيادة الثقة مطلقاً قال عنه ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 688):(فيه نظر كثير؛ لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة، تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها؛ لحفظهم أو لكثرتهم).
المخرج هو الأصوب عند أهل الفن
(1)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
1.
قال ابن عبدالبر (ت 463): (واختلف العلماء في الشرب في الإناء المفضض، بعد إجماعهم على تحريم استعمال إناء الفضة والذهب في شرب أو غيره)
(2)
، وقال:(واختلف العلماء في جواز اتخاذ أواني الفضة، بعد إجماعهم على أنه لا يجوز استعمالها لشرب ولا غيره)
(3)
.
2.
وقال ابن هبيرة (ت 560): (اتفقوا على أن استعمال أواني الذهب والفضة من المأكول والمشروب والطيب وغيره منهي عنه)
(4)
.
3.
وقال النووي (ت 676): (الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب، وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة، والأكل بملعقة
(1)
قال ابن حجر في نزهة النظر ص (69): (والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين؛ كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة)، قلت: وقد سلك ابن حزم الترجيح في حديث كفارة المجامع في نهار رمضان؛ حيث ورد في بعض رواياته العموم في سبب الكفارة «أن رجلاً أفطر في نهار رمضان» فأخذ ابن حزم بالرواية الأخص في المعنى وهو الجماع، وقال:(لأنه خبر واحد عن رجل واحد، في قصة واحدة بلا شك) المحلى (4/ 316)، فيلزمه ذلك.
(2)
التمهيد (16/ 108).
(3)
الاستذكار (8/ 351).
(4)
اختلاف الأئمة العلماء (1/ 32)، و المقصود بالاتفاق هنا اتفاق الأربعة.
من أحدهما والتجمر بمجمرة منهما والبول في الإناء منهما وجميع وجوه الاستعمال
…
ويستوي فى التحريم الرجل والمرأة بلاخلاف)
(1)
.
- وهذه الإجماعات صريحة في تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، ومن الإجماعات العامة في تحريم الاستعمال دون التنصيص على الأكل والشرب:
1.
قال ابن عبدالبر (ت 463): (والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب كما لا يجيزون ذلك من الفضة)
(2)
.
2.
وقال ابن قدامة (ت 620): (ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً)
(3)
.
3.
وقال ابن تيمية (ت 728): (
…
آنية الذهب والفضة فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام على الزوجين: الذكر والأنثى)
(4)
.
4.
وقال ابن مفلح صاحب المبدع
(5)
(ت 884) عن استعمال آنية الذهب والفضة: (هذا مما اتُفق على تحريمه)
(6)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (14/ 29)، وانظر: المجموع (1/ 250).
(2)
التمهيد (16/ 105).
(3)
المغني (1/ 55 - 56).
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 84).
(5)
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح (برهان الدين)، وجده الأعلى صاحب الفروع (ت 763) محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج (شمس الدين)، وهذا هو تلميذ ابن تيمية المعتني باختياراته، ولشمس الدين ابنٌ اسمه إبراهيم بن محمد (ت 803) وله شرح على المقنع ويلقب (برهان الدين)، فاجتمع مع صاحب المبدع في الاسم الأول والثاني واللقب، ولكليهما شرح على المقنع. انظر: المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/ 580).
(6)
المبدع في شرح المقنع (1/ 46).
5.
وقال الشربيني (ت 977) عن آنية الذهب والفضة: «فيحرم) استعماله على الرجل والمرأة والخنثى بالإجماع)
(1)
.
6.
وقال الرملي (ت 1004): «فمن المحرم الإناء) من ذهب وفضة بالإجماع للذكر وغيره
…
ومنه الميل للمرأة وغيرها فيحرم عليهما)
(2)
.
7.
وقال الدسوقي (ت 1230) عن إناء الذهب والفضة: (والحاصل أن اقتناءه إن كان بقصد الاستعمال فحرام باتفاق)
(3)
، ونقله الصاوي (ت 1241) أيضاً
(4)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن الإجماع المحكي لايتم مع مخالفة معاوية وداود والشافعي وبعض أصحابه، على أنه لا يخفى على المنصف ما في حجية الإجماع من النزاع والإشكالات التي لا مخلص منها
(5)
.
ويجاب عن ذلك:
- أن مخالفة معاوية وداود مما يقر مجوّز الاستعمال بعدم صحتها لمخالفتها النص؛ فكيف يعترض بها، وهو لايسلّم كذلك بما نسب للشافعي من الكراهة، بل هذا عنده على التحريم، ومع ذلك فإن
(1)
مغني المحتاج (1/ 136).
(2)
نهاية المحتاج (3/ 89)، يحتمل هذا النص أنه أراد الاتخاذ أو الاستعمال، لكن نقله للإجماع وذكره للمثال (الميل) يدل على أن مراده الاستعمال؛ لأن الاتخاذ فيه خلاف.
(3)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 64).
(4)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 61)، نقل النص الذي نقله الدسوقي، وقالا بعد ذلك:(هذا محصل ما ذكره أبو الحسن على المدونة).
(5)
انظر: نيل الأوطار (1/ 91).
الإجماع قائم لم يُخرم، ويمكن مناقشة مانسب لمعاوية والشافعي وداود بأمور:
- أما مانسب للتابعي معاوية بن قرة
(1)
؛ فوجدته مسنداً عند ابن أبي شيبة عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بن الحجاج أنه قال: سألت معاوية بن قرة، قلت: آتي الضَّبَّانيَّة
(2)
فيه فأوتي بقدح من فضة أشرب فيه؟ قال: (لا بأس)
(3)
، وقد ترجم عليه ابن أبي شيبة:(في الشرب من الإناء ا لمُفضَّضِ، من رخَّص فيه)، وأورد آثاراً كلها في الشرب في الإناء المُفضَّض أو المُضبّب بفضة، والمقصود بالمُفضَّض، أي: المُموّه أو المُرصَّع بالفضّة
(4)
، وليس هذا بخارم للإجماع، لأن الخلاف في الإناء المضبب بفضة محفوظ
(5)
، قال ابن عبدالبر: (واختلف العلماء في الشرب في الإناء المفضض،
(1)
نسب إليه بعضهم جواز الشرب بآنية الذهب والفضة مطلقاً، كما يفهم من نسبة ابن حجر إليه في الفتح (10/ 94) والشوكاني في نيل الأوطار (1/ 90)، وبعضهم ذكر أنه حمل النهي على التنزيه، كما ذكر المناوي في فيض القدير (6/ 317)، وبعضهم حكى قوله على الترخيص بالشرب من قدح فضة، كما في المغني (9/ 173).
(2)
(الضَّبَّانيَّة) هكذا هي في طبعة الرشد بتحقيق كمال الحوت، وفي طبعة محمد عوامة (24628):(آتي (الصَّيارف) فأوتى بقدح من فضة
…
)، وفي طبعة الفاروق بتحقيق أسامة بن إبراهيم (24612):(آتي (الصيارفة) فيه فأوتي بقدح من فضة
…
)، ولم يتبين لي معنى (الضبّانية) إلا أن يكون ذلك نسبة إلى من يصلحون الأواني بالتضبيب، (والضَّبُّ والتَّضْبيبُ: تغْطِيَة الشيء، و دخول بعضه في بعض) لسان العرب (1/ 540) وهذه اللفظة يرجحها ترجمة ابن أبي شيبة لهذا الأثر:(في الشرب من الإناء المفضض، ومن رخص فيه)، وأما (الصيارف) و (الصيارفة)؛ فهما جمع للصراف و الصيرف والصيرفي، أي: النقّاد، والصرف: بيع الذهب بالفضة. انظر: لسان العرب (9/ 190).
(3)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (24150) وسنده صحيح.
(4)
انظر: لسان العرب (7/ 208)، عمدة القاري (21/ 58).
(5)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 104) فقد ذكر فيه آثاراً لمن رخص بالشرب في الإناء المفضض، ثم آثارا لمن كرهه.
بعد إجماعهم على تحريم استعمال إناء الفضة والذهب في شرب أو غيره)
(1)
.
- وعلى فرض التسليم بأن مراده إناء الفضة، فيعتذر له بأن النهي لم يبلغه
(2)
، (ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب)
(3)
، ومخالفته للنص الصريح لايعكر على الإجماع؛ لشذوذه وعدم معرفة من سبقه من الصحابة، ثم إن من يرى جواز الاستعمال من المتأخرين لا يقول بهذا القول فلا يعد سلفاً له.
- وأما مانقل عن الشافعي في القديم
(4)
من القول بأن النهي محمول على التنزيه وليس على التحريم؛ فهذا أنكره أكثر الخراسانيين من الشافعية
(5)
، و قد اتفقوا على ضعف قوله القديم
(6)
، وعلى فرض
(1)
التمهيد (16/ 108).
(2)
انظر: فتح الباري (10/ 94).
(3)
نيل الأوطار (1/ 91).
(4)
انظر: المجموع (1/ 249)، فتح الباري (10/ 94)، المغني (9/ 174)، قال العمراني في البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 81):(قال في القديم: "يكره كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأنه إنما نهى عن ذلك، لما يلحق من ذلك من السرف والخيلاء وإغاظة الفقراء، وهذا لا يوجب التحريم"). وانظر: المهذب (1/ 29).
(5)
انظر: المجموع (1/ 249)، والخراسانيون في مقابل العراقيين من المدرسة الشافعية؛ وذلك أن الشافعي له تلامذة نشروا علمه في خراسان والعراق، وكان لكل طريقته في تناول مذهب الشافعي وتأصيله، إلى أن تلاشت الطريقتان في عهد الرافعي، ومن بعده النووي، وإذا أطلق لفظ (العراقيون) في مقابلة الخراسانيين، فالمراد به الشافعية من أهل العراق، وأما إذا أطلق في مقابلة مذهب مالك أو الشافعي أو أحمد وغيرهم، فالمراد بالعراقيين هنا أصحاب أبي حنيفة. انظر: المجموع (1/ 69) المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية ص (34)، مقدمة نهاية المطلب ص (136).
(6)
قال الشربيني في حاشيته على الغرر البهية (1/ 74): (في شرح المنهاج للدميري: وعن القديم يكره كراهة تنزيه، لكنهم اتفقوا على ضعفه)، وقال النووي في المجموع (1/ 149):(ومن أثبت القديم فهو معترف بضعفه في النقل والدليل)، وقال ابن دقيق في إحكام الأحكام (2/ 297):(ولا اعتداد به لورود الوعيد عليه بالنار).
التسليم به فإن قوله في الجديد هو التحريم
(1)
، وهو الصحيح المعتبر، فلا يعكر القديم على الإجماع، كما قال النووي:(والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصولين أن المجتهد إذا قال قولاً ثم رجع عنه لايبقي قولاً له ولاينسب إليه، قالوا: وإنما يذكر القديم وينسب إلى الشافعي مجازاً، وباسم ما كان عليه، لا أنه قول له الآن، فحصل مما ذكرناه أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب، وإناء الفضة)
(2)
.
- وأما مانُسب لداود الظاهري
(3)
من القول بأن المحرم هو الشرب
(1)
قال في الأم (1/ 23): (
…
آنية الذهب والفضة فإني أكره الوضوء فيهما
…
فإن توضأ أحد فيها أو شرب كرهت ذلك له ولم آمره يعيد الوضوء ولم أزعم أن الماء الذي شرب ولا الطعام الذي أكل فيها محرم عليه وكان الفعل من الشرب فيها معصية)، وقد فهم أصحاب الشافعي من قوله:(أكره) = التحريم، انظر: المهذب (1/ 29) وغيره، وهذا الذي صرح به الشافعي في آخر النقل بقوله:(معصية)، وإطلاق لفظ الكراهة مراداً به التحريم كثير في كلام السلف الذين أثّر فيهم القرآن وأسلوبه، كما قال الله بعد أن ذكر بعض المحرمات كعقوق الوالدين، والتبذير، والقتل بغير حق، وقربان الزنا، وغيرها:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} ، قال ابن القيم:(السلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله، ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركه أرجح من فعله). إعلام الموقعين (1/ 34).
(2)
شرح النووي على مسلم (14/ 30).
(3)
قال النووي في المجموع (9/ 243): (وحكى أصحابنا عن داود أنه قال: إنما يحرم الشرب دون الأكل والطهارة وغيرهما)، وممن نقل هذا القول عن داود من الشافعية أبوحامد الغزالي في الوسيط (1/ 240)، وأبوبكر القفال في حلية العلماء (1/ 101)، والعمراني في البيان (1/ 80) وغيرهم، ولاعجب في نقل الشافعية عن داود فإنه كان شافعياً قبل أن يستقل بأصوله الظاهرية، وهو مذكور في طبقات الشافعية، وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه، بل قال السبكي في طبقات الشافعية (1/ 343):(وَأول من بلغني صنف في مناقب الشافعي الإمام داود بن علي الأصفهاني إمام أهل الظاهر). و انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 284)، طبقات الشافعيين لابن كثير ص (172)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 77).
فقط؛ فهذا كما قال النووي: (غلط فاحش)
(1)
؛ لمخالفته للنص الصريح، (ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب)
(2)
، ومخالفته للنص الصريح لايعكر على الإجماع؛ لشذوذه وعدم معرفة من سبقه من الصحابة، (وإجماع من قبل داود حجة عليه)
(3)
، ثم إن من يرى جواز الاستعمال من المتأخرين لا يقول بهذا القول فلا يعد سلفاً له، وعلى فرض أن النص لم يرد إلا في الشرب كقوله صلى الله عليه وسلم:«الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
(4)
، حيث لم يذكر الأكل في حديث أم سلمة هذا، وكذلك حديث البراء رضي الله عنه وقد سبق ذكره، فجوابه:
- أن النهي عن الأكل ثبت من حديث حذيفة في الصحيحين
(5)
، ومن حديث أنس بن مالك
(6)
، ومن حديث علي بن أبي
(1)
المجموع (1/ 249)، والغلط مرادف للفاسد والباطل، وهي من الألفاظ التي يعبر بها عن الرأي الشاذ فكيف إذا وصف الغلط بالفحش أو الوضوح، كما سبق في التمهيد، وانظر: الآراء الشاذة في أصول الفقه (1/ 94).
(2)
نيل الأوطار (1/ 91).
(3)
المجموع (1/ 249).
(4)
أخرجه البخاري (5634)، ومسلم (2065) من حديث أم سلمة، وفي رواية عند مسلم: «أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب
…
» وقد أشار الإمام مسلم إلى إعلالها بتفرد علي بن مسهر؛ ولذا قال البيهقي في الكبرى (1/ 42): (وذكر الأكل والذهب غير محفوظ في غير رواية علي بن مسهر)، وقد جاء ذكر الذهب في حديث أم سلمة من غير طريق علي بن مسهر عند مسلم (2065)، قال البيهقي: (وفي هذا ذكر الذهب دون الأكل، وقد روينا ذكر الأكل في حديث حذيفة بن اليمان، ثم في حديث علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
(5)
ولفظه: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» أخرجه البخاري (5426)، ومسلم (2067).
(6)
ولفظه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة» أخرجه ابن طهمان في مشيخته (55)، والنسائي في الكبرى (6598)، وابن المنذر في الأوسط (247)، والطبراني في المعجم الأوسط (8019)، والبيهقي في الكبرى (106)، كلهم من طريق إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج الباهلي، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك به، وإسناده صحيح، ولم يتعقب البيهقي هذا الحديث بشيء، وقد قال في دلائل النبوة (1/ 47):(وعادتي في كتبي المصنّفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح).
طالب
(1)
رضي الله عنهم.
- وعلى فرض عدم ثبوت الأكل، فإن التنصيص على الشرب تنبيه على الأكل، فالأكل أولى؛ لأنه أطول مدة وأبلغ في السرف، بل فيه تنبيه على جميع الاستعمالات؛ لأنها في معناه؛ كما قال الله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}
(2)
، وجميع أنواع الاستيلاء في معنى الأكل بالإجماع، وإنما نبه بالأكل في الربا؛ لكونه الغالب، كما نبه بالشرب في الآنية لكونه الغالب
(3)
.
- والجواب السابق كله (على قول من يعتد بقول داود في الإجماع والخلاف وإلا فالمحققون يقولون: لايعتد به؛ لإخلاله بالقياس وهو أحد شروط المجتهد الذي يعتد به)
(4)
، هذا كلام النووي والمسألة فيها خلاف، ومن أعدل الأقوال في خلاف داود ماقاله الذهبي موافقاً لشيخه ابن تيمية: (لا ريب أن كل مسألة انفرد بها،
(1)
ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن آنية الذهب والفضة أن يشرب فيها، وأن يؤكل فيها، ونهى عن القسي والميثرة، وعن ثياب الحرير وخاتم الذهب» رواه الدارقطني في سننه (97)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (105)، قال ابن الملقن في البدر المنير (1/ 627):(رواه الدارقطني، بإسناد جيد).
(2)
من الآية (130) من سورة آل عمران.
(3)
انظر: المجموع (1/ 249).
(4)
شرح النووي على مسلم (14/ 29)، و نحو هذا القول في داود مانقله ابن حجر في لسان الميزان (2/ 242) بقوله:(وقد ذكره ابن أبي حاتم فأجاد في ترجمته فإنه قال: روى عن إسحاق الحنظلي وجماعة من المحدثين، وتفقه للشافعي -رحمه الله تعالى- ثم ترك ذلك، ونفى القياس وألف في الفقه على ذلك كتبا شذ فيه عن السلف، وابتدع طريقةً هجره أكثر أهل العلم عليها، وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده إلا أن رأيه أضعف الآراء وأبعدها من طريق الفقه وأكثرها شذوذاً).
وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة له عضدها نص، وسبقه إليها صاحب أو تابع، فهي من مسائل الخلاف، فلا تهدر)
(1)
، وقد شنّع ابن تيمية على الظاهرية في بعض أصولهم، فقال: (ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر
…
وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب لكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا، فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف، فما زال السلف يحتجون بمثل هذا وهذا)
(2)
.
- والخلاصة: أن مانقل عن معاوية بن قرة الظاهر أن المراد به الآنية المضببة بفضة، وإن كان مراده جواز الشرب من آنية الفضة فهذا قول شاذ معارض للنص الصريح فلايعتد به، وما نقل عن الشافعي فقد رجع عنه، والعبرة بما استقر عليه رأيه، ومانسب إلى داود فمخالف للنص الصريح، ومع شذوذه فالإجماع سابق له، والله أعلم.
- تنبيه: نسب بعضهم إلى أبي الحسن التميمي الحنبلي كراهة استعمالهما في غير الأكل والشرب، وهذا وهم، فقوله المنقول في الاتخاذ لا في الاستعمال
(3)
.
(1)
سير أعلام النبلاء (13/ 107)، وقرر نحو ذلك ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 178) بقوله:(كذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ، وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف)، فالخلاصة: أن ماقبل الظاهرية من إجماع فهو إجماع باقٍ لايخرمه مخالفة الظاهرية، و كل قول ليس لهم فيه سلف، أو كان سبب خلافهم اعتمادهم على أصل مبتدع فهو هدر، والله أعلم.
(2)
مجموع الفتاوى (21/ 207).
(3)
انظر: موسوعة أحكام الطهارة للدبيان (1/ 432)، وهذا قول التميمي من الفروع (1/ 103) -وهو مصدر الدبيان-: (وحكى ابن عقيل
…
أن أبا الحسن التميمي قال: إذا اتخذ مسعطاً، أو قنديلاً
…
ذهباً أو فضة كره ولم يحرم).
3/ أما الدليل الثالث، فهو القياس على الأكل والشرب: فغير الأكل والشرب فيه المعنى نفسُه من الهيئة والحالة المنافية للعبودية
(1)
، والتشبه بالكافرين
(2)
؛ وذكر الأكل والشرب في الحديث خرج مخرج الغالب، وما كان كذلك لا يتقيد الحكم به
(3)
، وليس له مفهوم مخالفة، كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
(4)
، والرهن في الحضر كالسفر، لكن تَعَذُّر الكاتب يكون غالباً في السفر، ثم إن التحريم إذا كان في الأكل والشرب وهما من العادات فتحريمهما في العبادات كالوضوء أولى
(5)
.
(1)
قال ابن القيم في زاد المعاد (4/ 321 - 322): (قيل: علة التحريم تضييق النقود، فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم، وقيل: العلة الفخر والخيلاء. وقيل: العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها. وهذه العلل فيها ما فيها، فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد، والفخر والخيلاء حرام بأي شيء كان، وكسر قلوب المساكين لا ضابط له، فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات، وكل هذه علل منتقضة، إذ توجد العلة، ويتخلف معلولها.
فالصواب أن العلة والله أعلم ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة، والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة، ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها للكفار في الدنيا، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا، وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته، ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة).
(2)
انظر: البيان والتحصيل (18/ 540)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 316) وسيأتي نص كلامهما قريباً.
(3)
انظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 47)، كشاف القناع (1/ 51).
(4)
من الآية (283) من سورة البقرة، قال الشنقيطي:(قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} لا مفهوم مخالفة له; لأنه جرى على الأمر الغالب؛ إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر، وإنما يتعذر غالباً في السفر، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة). أضواء البيان (1/ 185).
(5)
قال في المغني (1/ 56): (بل إذا حرم في غير العبادة ففيها أولى).
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن القياس على الأكل والشرب قياس مع الفارق؛ فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بآنية من فضة، وذلك مناط معتبر
(1)
، ولهذا لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد رجل خاتماً من ذهب قال:«ما لَكَ وَلِحُلِيِّ أهل الجنة؟»
(2)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
بأن هذا التعليل غريب
(3)
، ولا يُسلم به، فحديث «ما لَكَ وَلِحُلِيِّ أهل الجنة؟» ضعيف، ولايُعرف النهي عن التشبه بأهل الجنة، وكم من الطيبات التي أباحها الله للمؤمنين في الدنيا وأثبتها بأسمائها في نعيم أهل الجنة كالماء واللبن و العسل ونحوها
(4)
، وتمدح المرأة الملازمة لخدرها مع تشبهها بنساء الجنة المقصورات في الخيام!
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز استعمال آنية الذهب و الفضة في غير الأكل والشرب:
استدل من يرى تخصيص النهي الوارد بالأكل والشرب بأدلة منها:
(1)
انظر: نيل الأوطار (1/ 91).
(2)
أخرجه أحمد بهذا اللفظ (23034)، و أخرجه بنحوه الترمذي (1785)، وهو عند أبي داود (4223)، والنسائي في الكبرى (9442)، وابن حبان (5488)، لكن دون ذكر الذهب عند أبي دواد والنسائي وابن حبان، ومداره عند الجميع على أبي طيبة عبدالله بن مسلم المروزي عن عبدالله بن بريدة عن أبيه به، و أبوطيبة فيه ضعف، قال أبو حاتم فيما نقله عنه ابنه في الجرح والتعديل (5/ 165):(يكتب حديثه ولا يحتج به)؛ ولذا قال النسائي: (هذا حديث منكر)، وقال الترمذي:(هذا حديث غريب).
(3)
ولم أقف على أحد سبق الشوكاني إلى هذا التعليل، والتشبه المنهي عنه بالكفار والأعاجم والنساء والبهائم وأهل النار، على أن الشيخ قد استدل بعد ذلك بحديثٍ فيه جواز استعمال الفضة واللعب بها مع أنها حلية أهل الجنة.
(4)
انظر: التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي ص (162).
1/ حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة»
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبلغ الناس نهى عن شيء مخصوص، وهو الأكل والشرب، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بيان تحريم كل استعمال لصرَّح به
(2)
، وقال: لا تستعملوا، فلا نستدل بالأخص على الأعم، بل لا بد أن يكون أعم من المدلول أو مساوياً له
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن جميع أنواع الاستعمالات للآنية في معنى الأكل والشرب بالإجماع؛ وإنما خص الأكل والشرب في الحديث لأن هذا هو الأغلب في استعمال الآنية فلامفهوم له
(4)
؛ كقوله تعالى في المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
(5)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار»
(6)
، فتخصيص ذكر الحجر والأحجار؛ لأنهما الغالب؛ إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في حجر الزوج وتربيته،
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (5426)، ومسلم (2067).
(2)
انظر: سبل السلام (1/ 40)، السيل الجرار ص (734)، فقه السنة (3/ 491)، الشرح الممتع (1/ 75 - 76).
(3)
انظر: الشرح الممتع (10/ 226).
(4)
انظر: المجموع (1/ 249)، المبدع في شرح المقنع (1/ 47).
(5)
من الآية (23) من سورة النساء.
(6)
أخرجه مسلم (262) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال النووي:(وأما نصه صلى الله عليه وسلم على الأحجار فقد تعلق به بعض أهل الظاهر، وقالوا: الحجر متعين لا يجزئ غيره، وذهب العلماء كافة من الطوائف كلها إلى أن الحجر ليس متعيناً، بل تقوم الخرق والخشب وغير ذلك مقامه، وأن المعني فيه كونه مزيلاً، وهذا يحصل بغير الحجر، وإنما قال صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أحجار» لكونها الغالب المتيسر فلا يكون له مفهوم) شرح النووي على مسلم (3/ 157).
وأن الاستنجاء لا يكون غالباً إلا بالحجارة
(1)
.
وأجيب عن هذه المناقشة:
بأن مظهر الترف في الأكل والشرب أبلغ منه في غير ذلك، وهذه علة تقتضي تخصيص الحكم بالأكل والشرب، فالأواني الظاهرة في الأكل والشرب ليست مثل من يستعملها في حاجات تخفى على كثير من الناس
(2)
.
ويمكن الجواب عن هذا الجواب:
- بأنه لايسلم بأن العلة هي مظهر الترف الذي يكسر قلوب الفقراء، وهذه العلة منتقضة، (فكسر قلوب المساكين لا ضابط له؛ فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات)
(3)
، والأقرب إلى النص في التعليل هو منع التشبه بالكافرين:«فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة»
(4)
، قال ابن رشد الجد:(إنما جاء النهي عن الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب من جهة التشبه بالأعاجم)
(5)
.
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 100).
(2)
انظر: الشرح الممتع (1/ 76 - 77).
(3)
زاد المعاد (4/ 322).
(4)
متفق عليه، رواه البخاري (5633)، ومسلم (2067) من حديث حذيفة رضي الله عنه، قال ابن حجر في الفتح (10/ 95):«لهم» أي: هم [الكفار] الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين، وكذا قوله «ولكم في الآخرة» أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا).
(5)
البيان والتحصيل (18/ 540)، ونقله ابن تيمية عن العلماء بقوله في الاقتضاء (1/ 316):(كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار)، والاستعمال فرع الاتخاذ.
- أما القول: (بأن الدليل لابد أن يكون أعم من المدلول أو مساوياً له)
(1)
، فجوابه: أن ذلك لايسلم به، وقد قال ابن تيمية:(ليس من ضرورة الدليل أن يكون أعم أو أخص، بل لا بد في الدليل من أن يكون ملزوماً للحكم)
(2)
، وعلى فرض التسليم بذلك فإن القياس فيه تعميم للعلة، وهي مستنبطة من النص.
2/ الدليل الثاني حديث عثمان بن عبدالله بن موهب، قال:
(كان عند أم سلمة أم المؤمنين جُلجُل
(3)
من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب إنساناً عين أو اشتكى بعث بإناء فخضخض
(4)
فيه، ثم شربه، وتوضأ منه
…
)
(5)
.
(1)
انظر: الشرح الممتع (10/ 226).
(2)
الرد على المنطقيين ص (348)، وقال في النبوات (2/ 747):(الملزوم حيث تحقّق= تحقّق اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم؛ فحيث تحقّق الدليل، تحقّق المدلول عليه).
(3)
الجُلْجُل: (الجرس الصغير، وصوتُه الجَلْجَلة). لسان العرب (11/ 122)، وروي في الحديث:«الملائكة لا تصحب رفقة فيها جلجل» ، والمقصود بالجلجل هنا:(شبه الجرس، وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته). فتح الباري (10/ 353).
(4)
يقال: خضخض الماء ونحوه، إذا حرّكه. انظر: لسان العرب (7/ 144).
(5)
رواه بهذا اللفظ الطبري في تهذيب الآثار -مسند الزبير بن العوام- (916)، وبنحو هذا اللفظ أيضاً رواه إسحاق ابن راهويه في مسنده (1958)، والبيهقي في الدلائل (1/ 236)، وهو في البخاري بلفظ آخر (5896) وسيأتي، كلهم يروونه من طريق إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن عثمان بن عبدالله بن مَوْهَب به، وذكر الفضة تفرد به إسرائيل؛ فالأثر مداره على عثمان بن عبدالله بن مَوْهَب ويرويه عنه غير إسرائيل: 1 - سلّام بن أبي مطيع في البخاري (5897). 2 - نصير بن أبي الأشعث في البخاري (5898). 3 - شيبان بن عبد الرحمن عند أحمد (26535). 4 - أبوحمزة السكري عند البيهقي في الدلائل (1/ 235). 5 - منصور بن دينار عند الطبراني في المعجم الكبير (23/ 332)، وهؤلاء الخمسة وهم ثقات أثبات عدا الأخير ففيه كلام، ليس للفضة ذكرٌ في حديثهم، فأقل مايقال: إن هذا اجتهاد من إسرائيل لم يوافق عليه ولايصح نسبته لأم سلمة رضي الله عنها، على أنه قد اختلف فيه أيضاً على إسرائيل؛ فلفظ الفضة لم يذكرها المصعب بن مقدام عنه، وذكرها بعضهم عنه بلفظ (قُصة) وهو المثبت في البخاري، وذكرها غيرهما عنه بلفظ الفضة، والله أعلم.
وجه الاستدلال:
أن أم سلمة وهي راوية حديث النهي عن الشرب بالفضة، كان عندها جلجل من فضة فيه شعر للنبي صلى الله عليه وسلم يستشفي به الناس، وهذا استعمال في غير الأكل والشرب
(1)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- أن ذكر الفضة في هذا الأثر ليس بموقوف على الصحابي، بل مقطوع على التابعي، أو من بعده وهو إسرائيل بن يونس، وهو ظاهر صنيع البخاري.
- ممايوضح ذلك رواية البخاري للأثر، يقول عثمان بن عبدالله بن موهب: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء - وقبض إسرائيل ثلاث أصابع - من قُصَّةٍ
(2)
، فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَهُ
(3)
، فاطلعت في الجلجل، فرأيت شَعَرَاتٍ حُمْرًا)
(4)
.
(1)
انظر: نيل الأوطار (1/ 91)، الشرح الممتع (1/ 76).
(2)
هذا اللفظ الذي هو الشاهد ورد بلفظ: (قُصَّة) وهو المثبت في المطبوع من البخاري في النسخ التي وقفت عليها، وقد نقل ابن حجر عن ابن دحية قوله:(وقع لأكثر الرواة بالقاف والمهملة، والصحيح عند المحققين بالفاء والمعجمة)، وقال ابن حجر في الفتح (10/ 353): (من فضة إن كان بالفاء والمعجمة فهو بيان لجنس القدح
…
وإن كان بالقاف والمهملة فهو من صفة الشعر على ما في التركيب من قلق العبارة، ولهذا قال الكرماني: عليك بتوجيهه، ويظهر أن من سببية، أي: أرسلوني بقدح من ماء بسبب قصة فيها شعر)، وقال ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 448):(والقصة: الجص يُقَال: قصَص فلان داره اذا جصصها)، وانظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 277).
(3)
مِخْضَبه: هو من جملة الأواني، كما أرسل أهل عثمان معه قدحاً. انظر: فتح الباري (10/ 353).
(4)
أخرجه البخاري (5896) وهذا هو نص البخاري، وذكره الشوكاني والعثيمين بالمعنى معزواً للبخاري، وأقرب لفظ لما استدلوا به ذكرته في محل الاستدلال.
- فيحتمل في موضع شاهد هذا الأثر أنه بلفظ (القصّة) أو لفظ (الفضة)، ويحتمل أن هذا وصف للقدح الذي جاء به عثمان، أو هو وصف لجلجل أم سلمة، ويحتمل أنه من فضة خالصة، أو هو مموه ومضبب بالفضة، ويحتمل أن الترخيص في الإناء الصغير دون الكبير، ويحتمل أن هذا من قبيل الاستعمال، أو أنه من قبيل الحفظ والاتخاذ
(1)
، والاحتمالات تضعف الاستدلال، وعلى كل حال واحتمال ليس هو من الموقوف على أم سلمة رضي الله عنها حتى يمكن أن يُعارض به ماروته.
- يوضح ذلك كماسبق في تخريج الحديث: أن الحديث مداره على عثمان بن عبدالله بن موهب، ويرويه عنه خمسة من الرواة كلهم ليس في روايتهم ذكر للفضة إطلاقاً، وتفرد بذكر الفضة: إسرائيل بن يونس، وقد اختلف أيضاً فيها عليه: فرواية المصعب بن قدام عنه ليس فيها ذكر للفضة، وذكرها بعضهم عنه بلفظ (قُصة) كما في البخاري، وذكرها غيرهم عنه بلفظ الفضة، وعلى فرض ثبوت لفظ (الفضة) عنه فهذا من اجتهاده، ويدل عليه قول البخاري:(وقبض إسرائيل ثلاث أصابع) إذا كان هذا وصفاً لمقدار الفضة.
- وعلى فرض ثبوته من إقرار أم سلمة رضي الله عنها أو فعلها، فالفعل والإقرار أضعف دلالة من القول؛ لاحتماله، إضافة إلى أن قول الصحابي عند الشوكاني
(2)
ليس بحجة بَلْهَ فعله
(1)
انظر: فتح الباري (10/ 352)، عمدة القاري (22/ 49)، شرح القسطلاني (8/ 465).
(2)
وهو أول من وقفت عليه يستشهد بهذا الأثر على تجويز الاستعمال، ونص كلامه كما في النيل (1/ 91): (والحاصل أن الأصل الحل
…
وقد أيد هذا الأصل حديث «ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً» . أخرجه أحمد وأبو داود ويشهد له ما سلف "أن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله فخضخضت").
وإقراره
(1)
، فكيف إذا كان هذا النص المحتمل تفرد به هذا الصحابي، أو كان مخالفاً للمرفوع؟، قال الشوكاني:(قول الصحابي ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا عارض المرفوع)؟!
(2)
.
- ثم إن هذا الأثر في البخاري تحت نظر العلماء، ولم يستدلوا به على تجويز استعمال الفضة، وقد ساقه البخاري في موضع واحد من ثلاثة طرق أحدها طريق إسرائيل الذي تفرد بالزيادة، وترجم له:(باب ما يذكر في الشيب) ولم يبوّب على المعنى الذي زاده إسرائيل، وجعله الطبري في أحاديث تغيير الشيب والخضاب، وبوّب عليه البيهقي في الدلائل:(باب ذكر شيب صلى الله عليه وسلم وما ورد في خضابه)، ولم أقف على أحد استدل به على جواز استعمال الفضة في غير الأكل والشرب مطلقاً قبل الشوكاني.
3/ واستدلوا أيضاً: بالبراءة الأصلية، و أن الأصل الحل فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم
(3)
، ويؤيد هذا الأصل حديث:«ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها»
(4)
، ولو كانت محرمة في كل
(1)
قال في إرشاد الفحول (2/ 188) عن قول الصحابي: (والحق: أنه ليس بحجة)، وقال في النيل (6/ 108):(قول الصحابي وفعله ليس بحجة).
(2)
نيل الأوطار (5/ 111).
(3)
هذا تعبير الشوكاني في النيل، والعبرة في مقام التقرير هو صحة الدليل لا تسليم الخصم، وفي المناظرة والمحاجة ينُظر في تسليم الخصم للدليل، ولا يلزم من تسليم الخصم صحة الدليل.
(4)
لفظ الحديث: «من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار، فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار، فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار، فليسوره سوارا من ذهب، ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها» أخرجه أحمد (8910)، وأبوداود (4236)، والبيهقي (7553)، من طريق عبد العزيز بن محمد، عن أَسيد بن أبي أسيد البراد، عن نافع بن عباس أو (عياش) عن أبي هريرة به، ولم يتعقبه البيهقي، وقد جاء عند أحمد (19718) من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أَسيد بن أبي أسيد عن ابن أبي موسى، عن أبيه، أو عن ابن أبي قتادة، عن أبيه به، فمدار الحديث على أَسيد، وتفرده لا يحتمل، قال الدارقطني عن أسيد بن أبي أسيد البراد:(يعتبر به). سؤالات البرقاني ص (17)، ويقصد أنه لايحتج به، وإنما يعتبر بحديثه في الشواهد والمتابعات، وفي إسناد الحديث اضطراب أيضاً؛ فمرة يجعله من حديث أبي هريرة ومرة يشك في إسناده إلى أبي قتادة أو أبي موسى، ومرة يجزم بأنه من حديث أبي قتادة، قال عمرو بن عبدالمنعم سليم في كتابه آداب الخطبة والزفاف ص (233) عن هذا الحديث:(السند مردود بأكثر من علة: من التفرد بمتن منكر، والجهالة، والاضطراب)، وللحديث شاهد مسلسل بضعفاء لايعتبر بهم، رواه الطبراني في المعجم الكبير (5811) من طريق محمد بن سنان القزاز، عن إسحاق بن إدريس، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به، القزاز وإسحاق متهمان بالكذب، وعبدالرحمن بن زيد متفق على ضعفه.
استعمال؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسيرها كما أمر بهتك الصور
(1)
.
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن الاستدلال بالبراءة الأصلية إنما يتم عند عدم الدليل، فهو آخر مدار الفتوى، (فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلاً على هذا؛ لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل)
(2)
، وقد قام دليل الإجماع وغيره.
- وأما الحديث؛ فضعيف، لتفرد أَسِيدِ البرَّاد، وتحريم الذهب المحلق في أوله منكر، وعلى فرض ثبوته فقد أشار ابن شاهين
(3)
، والبيهقي إلى نسخه.
(1)
انظر: نيل الأوطار (1/ 91)، فقه السنة (3/ 490)، الشرح الممتع (1/ 75 - 76).
(2)
كما قال الشوكاني في إرشاد الفحول (2/ 175).
(3)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص (446)، و عنده في ص (443) رواية للحديث السابق في اللعب بالفضة من طريق أبي عامر عن زهير بن محمد التيمي، عن نافع بن عباس، عن أبي هريرة به. ولم أقف على أن نافعاً من شيوخ زهير، ولم يصرح زهير بالتحديث عنه، وأَسيد من شيوخ زهير، فلا يبعد أن يكون هذا هو حديث أَسيد وهو أشبه؛ حيث أخرجه أحمد (8416) عن أبي عامر قال: حدثنا زهير، عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع بن عياش، عن أبي هريرة، على أن زهيراً له أغاليط كما قال الدارمي، وله مناكير يحذر منها كما قال الذهبي. انظر: تاريخ الإسلام (4/ 367)، السنن الكبرى (4/ 238).
- ثم قوله: «فالْعبوا بها» سياقه في النساء
(1)
، ومعنى الحديث: أن الذهب كان حراماً على النساء، وقال لهم ترخيصاً:«العبوا بالفضة» ، أي: حلّوا نساءكم منها بما شئتم، ثم نسخ تحريم الذهب على النساء؛ ولذا قال في أوله:«من أحب أن يحلق حبيبه» فدلّ ذلك على أن المراد بقوله: «فالعبوا بها» ، أي: حلوا بها أحبابكم كيف شئتم; لارتباط آخر الكلام بأوله
(2)
، وهو في بابِ اللبس والتحلي وليس الاستعمال، وبابُ التحلي أوسع، وأما عدم الأمر بتكسيرها؛ فلأن حرمتها ليست لعينها؛ كحرمة الخمر، وإنما لوصفها حال كونها آنية مستعملة، ويمكن حفظ المال وتحلي النساء فيها، والله أعلم.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بجواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع الصحيح، ولم يثبت بعد البحث قول معتبر يصح أن تُخرم به الإجماعات المنقولة عن علماء الأمة
(3)
، ولايعرف من قرَّر هذا القول قبل الصنعاني، والله أعلم.
(1)
انظر: النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر (1/ 141).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 355)، وقال:(ومن استدل بهذا الحديث على جواز لبس الرجال للفضة فقد غلط).
(3)
وأما قول ابن حجر في الفتح (10/ 97): (وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب) انتهى، أما قصر التحريم على الشرب؛ فهو منسوب لداود، وسبق مناقشته، وأما قصر التحريم على الأكل والشرب أو إباحة ذلك مطلقاً؛ فهذه دعوى تحتاج إلى إثبات، فلو سُمي أحد لنُظر في قوله وثبوته عنه ودلالته، أما وقد أُبهم فلا يشتغل بالنسبة إلى مجهول، ولا يصح أن يستند إليه، كما قال العيني في مسألة أخرى:(وَمن هم هؤلاء الجماعة المبهمة حتَّى يكون سنداً لدعواه) عمدة القاري (22/ 49).
(يرحم الله السَّلف الصالح فإنَّهم بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبًا بشيء، فإياك أن تلعب بدينك).
أبو العباس القرطبي رحمه الله المفهم (6/ 208)
المبحث السادس: تحريم ختان الإناث
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية).
ابن حجر رحمه الله
فتح الباري (1/ 397)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الخِتان لغة: مصدر خَتَنَ يختِنُ خَتْناً فهو مختون
(1)
، (والخَتْنُ: القَطْعُ)
(2)
، (وقد يؤنث بالهاء فيقال: خِتانة، فالغلام مختون والجارية مختونة)
(3)
، وختانة الجارية يطلق عليها أيضاً: الخفض، فيقال: جارية مخفوضة، أي: مختونة
(4)
، و الإعذار: الختان، ويطلق أيضاً على وليمة الختان
(5)
، وقيل: يسمى ختان الرجل إعذاراً، وختان المرأة خفضاً
(6)
.
أما الختان في الاصطلاح؛ فهو في الغلام: قطع الجلدة الساترة للحشفة؛ بحيث تنكشف جميع الحشفة
(7)
، وفي الجارية: قطع بعض جلدة عالية مشرفة على الفَرج، تشبه عرف الديك، أو هو: إزالة ما بالفرج من الزيادة
(8)
.
(1)
انظر: كتاب العين (4/ 238)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (320).
(2)
القاموس المحيط ص (1193)، أما (الخَتَن) بالتحريك فهو: الصهر، أو كل مَن كان من قِبَلِ المرأة كالأب والأخ.
(3)
المصباح المنير (1/ 164)، وانظر: المخصص لابن سيده (5/ 106).
(4)
انظر: المُغرب ص (149)، قال ابن سيدة في المخصص (5/ 106):(والأعرف في النساء الخفض).
(5)
انظر: لسان العرب (4/ 551)، في فقه اللغة ص (182): (طعام الضيف القرى. طعام الدعوة المأدبة. طعام الزائر التحفة
…
طعام العرس الوليمة
…
وعند حلق شعر المولود العقيقة. طعام الختان العذيرة
…
طعام القادم من سفر النقيعة).
(6)
انظر: طرح التثريب (2/ 75).
(7)
الحشفة: ما تحت الجلدة المقطوعة من الذكر في الختان، وهي رأس الذكر، وتسمى الكَمَرة. انظر: المصباح المنير (1/ 137)(2/ 541)، المطلع ص (44).
(8)
انظر: الفواكه الدواني (1/ 394)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (29)، المبدع في شرح المقنع (1/ 83)، يقول د. أحمد موافي في كتابه:"ختان الأنثى بين المشروعية والحظر" ص (28): (ختان الإناث في الاصطلاح الفقهي لاتُمسّ فيه أشفار فرج المرأة؛ لاالشفران الصغيران، ولا الشفران الكبيران، لامن قريب ولا من بعيد. كذلك فإنه لامساس فيه بسائر الفرج سوى هذه الجلدة (اللحمة) التي تسمى (البظر) وتشبه عرف الديك، إذا كانت مستعلية (زائدة)، (ناتئة) عن الشفرين الكبيرين؛ فإنه يؤخذ منها هذا القدر الزائد فحسب، ويبقى قدرها الآخر مرتفعاً إلى تمام الشُّفرين من غير خروج عليهما، فلا استئصال للبظر في ختان الإناث في الاصطلاح الفقهي).
- وقد جاء في الحديث المتفق عليه: «الفطرة خمس» وذكر منها: «الختان»
(1)
، ومعنى الفطرة هنا عند أكثر العلماء: أنها من سنن الأنبياء عليهم السلام
(2)
، ولايختص ذلك بالرجل كما لايختص نتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار به، قال الإمام مالك:(من الفطرة ختان الرجال والنساء)
(3)
، (وأجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اخْتَتَن)
(4)
، وقد جاء في الصحيحين مرفوعاً:«اختتن إبراهيم النبي عليه السلام، وهو ابن ثمانين سنة بالقَدُوم»
(5)
، وهذا الاختتان من الكلمات التي ابتلاه الله بهن
(6)
.
(1)
رواه البخاري (5891)، ومسلم (257)، وفي رواية لهما «أو خمس من الفطرة» وهي مفسرة لرواية الحصر، قال ابن دقيق:(وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضاً: «عشر من الفطرة»، وذلك أصرح في عدم الحصر، وأنص على ذلك). إحكام الأحكام (1/ 124).
(2)
انظر: معالم السنن (1/ 31)، شرح النووي على مسلم (3/ 148).
(3)
الاستذكار (8/ 388)، وانظر: التمهيد (21/ 61).
(4)
التمهيد (21/ 59)، تفسير القرطبي (2/ 98).
(5)
أخرجه البخاري (6298)، ومسلم (2370) قال النووي في شرحه لمسلم (15/ 122): (رواة مسلم متفقون على تخفيف «القَدُوم» ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه
…
فمن رواه بالتشديد أراد القرية [بالشام] ومن رواه بالتخفيف يحتمل القرية والآلة [آلة النجار]، والأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الآلة)، قال ابن حجر في الفتح (6/ 390):(والراجح أن المراد في الحديث الآلة).
(6)
قال الشنقيطي في الأضواء (7/ 469): (الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف) وقد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنه: (ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء) أخرجه عبدالرزاق في التفسير (116)، ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (2/ 499)، وغيرهما، قال ابن القيم:(والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخصال، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن الختان). تحفة المودود ص (161).
- ومن الأدلة الخاصة على ختان الإناث ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم عطية: «إذا خفضت فأشمِّي ولا تَنْهِكي، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج»
(1)
، وقد شبه القطع اليسير بإشمام الرائحة، وقوله «لاتَنْهِكي» أي: لا تبالغي في استقصاء الختان، والمعنى: اقطعي بعض البظر أو النواة ولا تستأصليها
(2)
.
- قال ابن تيمية: (المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة
(3)
، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها؛ فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة
…
وإذا حصلت المبالغة في
(1)
هذا اللفظ أخرجه الطبراني في الأوسط (2253)، والبيهقي في الكبرى (17562)، وغيرهما عن أنس بن مالك وفي سنده زائدة بن أبي الرقاد وهو منكر الحديث، ذكره ابن حجر في التقريب ص (213)، وأخرجه بنحوه أبوداود (5271) ومن طريقه البيهقي (17560) من حديث أم عطية، وفي سنده محمد بن حسان، قيل: إنه محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة الكذاب، وقال أبوداود:(ومحمد بن حسان مجهول، وهذا الحديث ضعيف)، وأخرجه بنحوه الحاكم في المستدرك (6236) والبيهقي في الكبرى (17561) من حديث الضحاك بن قيس، وفي سنده العلاء بن هلال، فيه لين كما ذكر ابن حجر في التقريب ص (436)، وروي الحديث من أوجه وطرق أخرى (انظر هذه الطرق في: البدر المنير (8/ 745)، التلخيص الحبير (4/ 225) السلسلة الصحيحة (2/ 344) وقد صحح الألباني الحديث بطرقه وشواهده) ولكن الطرق كلها لاتسلم من علة، وقد ضعف طرقه ابن القطان و ابن الملقن بقوله:(طرقه كلها ضعيفة، وقد صرح ابن القطان الحافظ في كتابه أحكام النظر أيضاً بأنه لا يصح منها شيء) البدر المنير (8/ 748)، ولذا قال شارح سنن أبي داود تعليقاً على قول أبي داود:(هذا الحديث ضعيف) قال الشارح: (والأمر كما قال أبو داود، وحديث ختان المرأة روي من أوجه كثيرة، وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة لا يصح الاحتجاج بها) عون المعبود (14/ 126).
(2)
انظر: النهاية لابن الأثير (2/ 503)، (5/ 137)، لسان العرب (12/ 326).
(3)
(القلفة: الجليدة التي يقطعها الخاتن من غلاف رأس الذكر، ومن ذلك الأغلف والأقلف للذي لم يختن). المُغرب في ترتيب المُعرِب ص (343).
الختان ضعفت الشهوة؛ فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال)
(1)
.
- ومما هو مهمٌ في فهم المسألة: أن قضية ختان الإناث لم تكن محل إشكال عند المسلمين إلا في القرن الرابع عشر، فقد حصل فيها نقاشات كثيرة، وبخاصة في الديار المصرية، وأول قانون صدر ضد ختانهن كان سنة (1365 هـ)، من إدارة المستعمرات الإنجليزية في السودان.
- وفي سنة (1370) نشرت مجلة (الدكتور) في مصر ملحقاً خاصاً عن أضرار ختان الإناث، وفي نفس السنة بدأت مجلة (لواء الإسلام) بنشر فتاوى العلماء والرد على هذا الملحق
(2)
، وفي سنة (1378) صدر قرار بمنع الختان في وحدات وزارة الصحة في مصر، ولم يتوقف الناس عن ختان الإناث؛ لأنه لم يمنع إلا في المستشفيات الحكومية، ثم تتابعت الحملات وانعقدت المؤتمرات لمحاربته، ومنظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة لها دور في ذلك، وقد جعلت ختان الإناث من تشويه الأعضاء التناسلية! وفي سنة (1402) أصدرت بياناً صرحت فيه بمحاربة هذه الممارسة، وكلما أثيرت حملة خرج من يرد عليها من الشرعيين والأطباء وتدرج ذلك في مراحل، ومن المراحل المهمة سنة (1415) حيث عرضت القناة الأمريكية (سي إن إن) تصويراً فيه عمليّة ختان لفتاة على يد أحد الحلاقين، وتم فيه التركيز على الرعب والصراخ الهستيري الذي أصابها، وقد أثار ذلك ضجّة للرأي العام المصري والعالمي
(3)
، وفي سنة (1430) أقرّ البرلمان
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 114).
(2)
انظر: جراحات الذكورة والأنوثة في ضوء الطب والفقه ص (169)، المنار المنيف في فتاوى كبار علماء الأزهر ص (500).
(3)
انظر: ختان الذكور والإناث ص (487)، جراحات الذكورة والأنوثة ص (174)، ولتهدئة الرأي العام قام وزير الصحة بزيارة شيخ الأزهر جاد الحق علي لطلب الدعم، فأصدر فتواه بمشروعية ختان الإناث. انظر: المرجع السابق.
المصري بقانون يجرم ختان الإناث، وفي سنة (1434) دعت الأمم المتحدة ثلاثاً وتسعين، ومائة (193) دولة إلى حظر ختان الإناث، وعُقدت كذلك في لندن قمة دولية لمكافحة ختان الإناث.
- وقد قال أحد علماء مصر عن هذه الحملات: (إنها حملات باغية)
(1)
، بل إن هناك مايسمى باليوم العالمي لرفض ختان الإناث، وفي مصر هناك يوم أسموه:(اليوم الوطني لمناهضة ختان الإناث)، وقد شاركت دار الإفتاء المصرية بفعاليات هذا اليوم في تاريخ (14/ 8/ 1434 هـ)، وأكدت فيه تحريم ختان الإناث
(2)
، وأخيراً ففي تاريخ (20/ 8/ 1435 هـ) نُشر هذا الخبر:(مصر تؤكد للأمم المتحدة الْتزامها بمكافحة ختان الإناث)
(3)
.
وبعد: فهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع، حتى تتضح المسألة المراد بحثها:
1.
اتفق العلماء على مشروعية الختان للرجال
(4)
، واتفقوا على مشروعيته للإناث
(5)
.
(1)
في فتوى مرئية للشيخ مصطفى العدوي موجودة في الشبكة.
(2)
وهذا منشور في موقعها الرسمي، وفي عدد من الصحف المصرية.
(3)
نشر هذا الخبر في عدد من الصحف المصرية؛ كصحيفة محيط الإلكترونية. ومما جاء في الخبر على لسان المندوب الدائم لمصر لدى الأمم المتحدة: (الحكومة المصرية تبدي إرادة سياسية قوية على الطريق الصحيح في هذا الصدد).
(4)
انظر في نقل الاتفاق: التمهيد (21/ 59)، اختلاف الأئمة العلماء (1/ 342)، مجموع الفتاوى (21/ 114)، وعبّر ابن حزم عن ذلك بالإصابة، انظر: مراتب الإجماع ص (157).
(5)
انظر في نقل الاتفاق: اختلاف الأئمة العلماء (1/ 342)، مجموع الفتاوى (21/ 114)، تحفة المودود ص (193)، فتح الباري لابن رجب (1/ 373)، وعبّر ابن حزم عن ذلك بالإباحة، انظر: مراتب الإجماع ص (157).
2.
وصرّح عامة الفقهاء على أن ختانها المشروع يكون بقطع جزء يسير من بظرها
(1)
.
3.
ولم يختلف الفقهاء في حرمة استئصال غالب أو كل الأعضاء التناسلية للمرأة، وأن ذلك لايسمى (ختاناً) وإنما هو (جناية)، توجب القصاص أو الدية
(2)
.
4.
ثم اختلفوا في وجوبهما
(3)
، ولم يخالف أحد في مشروعية الختان للذكور والإناث، وخالف بعض المعاصرين في مشروعية الختان للإناث؛ فحرمه أو قال بعدم مشروعيته، وهذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: البناية شرح الهداية (1/ 333)، شرح مختصر خليل للخرشي (3/ 48)، الحاوي الكبير (13/ 433)، شرح الزَّرْكشيُّ على الخرقي (1/ 280)، فهو قطعٌ لبعض الجلدة، وخفض للجزء المرتفع وليس إنهاكاً، بحيث يبقى مابعد القطع أشمّاً، يعني: مرتفعاً، يقول الشيخ عبدالله رمضان في كتابه:"خلاصة الرد على القرضاوي والجديع"(3/ 127): (اتفقت تصريحات عامة فقهاء الإسلام على أهمية عدم استئصال البظر؛ وذلك بأن يكون الختان بقطع جزء يسير منه، بحيث يصير أصله مرتفعاً بعد القطع).
(2)
انظر: مجمع الأنهر (2/ 641)، حاشية الدسوقي (4/ 237)، الحاوي الكبير (12/ 89)، المغني (8/ 469)، يقول د. أحمد موافي في كتابه:"ختان الإناث" ص (158) عن استئصال غالب أو كل الأعضاء التناسلية الخارجية للمرأة: (فهذان النوعان لايخالف أحد من فقهاء الإسلام في حرمتهما ووجوب عقوبة فاعلهما)، وقال عن حكمهما في ص (167):(محرمين حرمة قاطعة باتفاق)، والعقوبة تكون بالقصاص إذا أمكن؛ بأن يكون الجاني امرأة وبلغت بالجناية المتعمدة عظماً وإلا ففي الجناية الدية، وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 92 - 93):(اتفق الفقهاء على أن في الذكر أو الحشفة دية كاملة، وفي شفر فرج المرأة نصف الدية، وفي الشفرين دية كاملة).
(3)
انظر: اختلاف الأئمة العلماء (1/ 342)، تحفة المودود ص (193)، فتح الباري لابن رجب (1/ 373).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
- محمود شلتوت
(1)
(ت 1383)
(2)
، ود. محمد سيد طنطاوي
(3)
(ت 1431)
(4)
، أفتيا بعدم المشروعية.
(1)
ولد سنة (1310)، وكان عضواً في هيئة كبار العلماء، والمجمع اللغوي، والمؤتمر الإسلامي، وتولى مشيخة الأزهر سنة (1377)، وتوفي سنة (1383). انظر: المنار المنيف في فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف ص (599).
(2)
له فتويان في المسألة: فتوى بالمشروعية حيث قال: (ختانها مَكرُمَة، وليس واجباً ولا سُنّة) نقل هذه الفتوى أبوبكر عبدالرزاق في كتابه: "الختان .. رأي الدين والعلم" ص (89) ونقلها د. سامي عوض في كتابه: "ختان الذكور والإناث" ص (665)، و له فتوى بعدم المشروعية حيث قال في كتابه الفتاوى ص (285 - 286): (وقد خرجنا من استعراض المرويات في مسألة الختان على أنه ليس فيها ما يصلح أن يكون دليلاً على السُنّة الفقهيّة فضلاً عن الوجود الفقهي
…
والذي أراه أن حكم الشرع في الختان لايخضع لنص منقول
…
ومن هنا يتبيّن أن ختان الأنثى ليس لدينا مايدعو إليه، وإلى تحتمه، لاشرعاً، ولاخلقاً، ولاطباً)، ولعله أول من أشار إلى إنكار المشروعية.
(3)
ولد سنة (1346)، تخرج في كلية أصول الدين، وحصل على الدكتوراه في التفسير والحديث، وعيّن مفتياً للديار المصرية سنة (1406)، ثم عين شيخاً للأزهر سنة (1417)، وتوفي سنة (1431). انظر: المنار المنيف ص (596).
(4)
له فتويان في المسألة: فتوى بالمشروعية منشورة في الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، المجلد الحادي والعشرين ص (7865) عام (1407) هـ، ومما قال فيها: (الفقهاء اتفقوا على أن الختان في حق الرجال، والخفاض في حق النساء أمر مشروع، ثم اختلفوا في وجوبه
…
الختان للرجال والنساء من صفات الفطرة التي دعا إليها الإسلام وحث على الالتزام بها)، وله فتوى أخرى بعدم المشروعية جاء ذلك في رسالة له بعث بها وهو مفتي الجمهورية، إلى وزير الصحة د. علي عبدالفتاح، يرد بها على رسالة وردته منهم ونشرت هذه الرسالة في صحيفة الأخبار بتاريخ (22/ 5/ 1415 هـ) ونقلها بنصها د. محمد فياض في كتابه:"البتر التناسلي للاناث" ص (114) ومما قال فيها: (بالنسبة للنساء فلايوجد نص شرعي صحيح يحتج به على ختانهن، والذي أراه أنه عادة انتشرت في مصر وتوشك أن تنقرض وتزول بين جميع الطبقات، ولاسيما طبقات المثقفين، ومن الأدلة أنها عادة ولا يوجد نص شرعي يدعو إليها: أننا نجد معظم الدول الإسلامية الزاخرة بالفقهاء قد تركت ختان الإناث) انتهى، ونقل هذه الفتوى أيضاً د. سامي عوض في كتابه:"ختان الذكور والإناث" ص (667).
-
…
د. علي جمعة
(1)
، وغيره
(2)
، أفتيا بالتحريم أو المنع.
(1)
له ثلاث فتاوى في المسألة: فتوى بالمشروعية يقول فيها: (اتفق الفقهاء على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق النساء مشروع
…
الختان للرجال والنساء من صفات الفطرة التي دعا إليها الإسلام وحث على الالتزام بها) "فتاوي النساء" ص (459) وص (462) نقلاً عن كتاب: "الرد على المفتي" لعبدالله رمضان ص (521)، وفتوى بالجواز في كتابه:"الدين والحياة" ص (83)، قال فيها عن ختان الإناث: (جائز
…
ختان الإناث ليس فرضاً ولكنه مباح)، وفتوى بالتحريم ومما قال فيها:(اتفق الأطباء جميعهم في كل أنحاء العالم على كون هذه العادة ضارة وسيئة يجب علينا التخلص منها؛ لأنها عادة قديمة وحرام)!. "فتاوى البيت المسلم" ص (76) نقلاً عن كتاب: "الرد على المفتي" ص (522)، ومن الغرائب أن للدكتور علي كلمة قوية في حكم ختان الإناث، وهي قوله:(سنة، مكرمة، مستحبة). "الكلم الطيب" ص (202) ومابعدها نقلاً عن: "المنار المنيف في فتاوى علماء الأزهر الشريف" ص (530)، وله كلمة أقوى بالمنع وهي قوله:(فقد وجب القول بمنعه، وتحريمه، وتجريمه). ذكرها في مقاله المنشور في صحيفة الأهرام بعنوان: "ختان الإناث" بتاريخ (30/ 7/ 1428 هـ).
(2)
كالقرضاوي وله ثلاث فتاوى في المسألة: فتوى بالمشروعية في كتابه: "من هدي الإسلام .. فتاوى معاصرة"(1/ 468) ومما قال فيها: (ولعل أوسط الأقوال وأعدلها وأرجحها، وأقربها إلى الواقع وإلى العدل في هذه الناحية هو الختان الخفيف، كما جاء في بعض الأحاديث
…
من رأى أن ذلك أحفظ لبناته فليفعل وأنا أؤيد هذا، وخاصة في عصرنا الحاضر، ومن تركه فلاجناح عليه؛ لأنه ليس أكثر من مكرمة للنساء)، و فتوى بالجواز منشورة في موقعه الرسمي، ومما قال فيها:(الذي أراه وأرجحه هنا: أن الختان للبنات ليس بواجب ولا سنة، وإنما هو أمر جائز مباح، والمباحات يمكن أن تمنع إذا ترتب على استعمالها ضرر)، وله رأي ثالث منشور في موقعه الرسمي سنة (1427 هـ) ـ يميل فيه إلى المنع، ومهَّد له بقوله:(وقد يكون لنا العذر في مخالفة مَن سبقنا من العلماء؛ لأن عصرهم لم يعطهم من المعلومات والإحصاءات ما أعطانا عصرنا) ثم قال بعد ذلك: (إذا كان ختان الذكور مستثنًى من الأصل العام الناهي عن تغيير خلق الله، لما ورد فيه من نصوص صحيحة صريحة، قوَّاها وثبَّتها الإجماع النظري والعملي، فلا يوجد في ختان الإناث مثل ذلك ولا قريب منه. فيبقى على الأصل في منع إيلام الإنسان في بدنه لغير حاجة، فكيف إذا كان من وراء هذا الإيلام ضرر مؤكَّد، وفق ما يقوله أهل العلم والطب في عصرنا)؟!.
- والتحريم هو قول دار الإفتاء المصرية مؤخراً
(1)
.
ولم أقف بعد البحث على قائل سبقهم إلى القول بعدم مشروعية ختان الإناث أو تحريمه.
(1)
جاء في بحث لجنة الإفتاء المصرية حول ختان الإناث، وهو في موقعها الرسمي بتاريخ (6/ 1/ 1429 هـ)، ومما جاء فيه: (تحريم ختان الإناث في هذا العصر هو القول الصواب
…
يجب أن تُطبِق كلمة العلماء الشرعيين على تحريم هذه الفعلة، حيث إننا نصحنا الأطباء بالبحث منذ أكثر من خمسين سنة
…
)، والحروف الأخيرة من قوله: (يجب أن تُطبِقَ
…
الخ)، هي للدكتور علي جمعة في مقال له منشور في صحيفة الأهرام بتاريخ (30/ 7/ 1428 هـ)، بعنوان:(ختان الإناث)، ومواضع من هذا المقال موجودة بحروفها في بحث لجنة الإفتاء، وقد شاركت دار الإفتاء المصرية بفعاليات "اليوم الوطني لمناهضة ختان الإناث" في تاريخ (14/ 8/ 1434 هـ)، وأكدت فيه تحريم ختان الإناث.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما في المطلب الرابع.
3/ ولم أقف على من نصّ بأن هذا الرأي شاذ
(1)
.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بمشروعية ختان الإناث:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس» وذكر منها: «الختان»
(2)
، وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب
(1)
للشافعية وجه باستحباب ختان الإناث، حكم عليه النووي بالشذوذ؛ لأنه واجب عندهم. انظر: المجموع (1/ 300 - 301)، فإذا كان الاستحباب عندهم وجه شاذ فكيف بالإباحة فضلاً عن التحريم؟! وعلى كل حال هو شذوذ مذهبي وليس بشذوذ عام، ووقفت على بعض الكلمات للمعاصرين في شناعة الرأي بتحريم ختان الإناث ووصفه بماهو أشد من الشذوذ؛ كقول الشيخ أبي إسحاق الحويني في مقطع مرئي منشور في الشبكة:(هذه الفتوى ليست فتوى شرعية، هذه فتوى سياسية)، هكذا قال، ولعل هذا يمكن ربطه بما سبق من تجريم ختان الإناث الرسمي في مصر.
(2)
رواه البخاري (5891)، ومسلم (257)، وفي رواية لهما «أو خمس من الفطرة» .
الغسل»
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الختان من السنن، والأصل اشتراك النساء مع الرجال في التشريع إلا لمخصص
(2)
، وفي حديث عائشة نص على ختان الرجل والمرأة:«ومس الختان الختان»
(3)
، فلو كان محرماً أو مكروهاً لنبّه عليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز.
وقد نوقش هذا الاستدلال:
بأن الختان لايطلق في اللغة على الأنثى فيحمل على ختان الرجل، وأما لفظ:«الختانان» فقد خرج مخرج الغالب، وهو مسوق لحكم الغسل، لا مشروعية الختان فلا دلالة فيه؛ لأن الدليل إذا سيق لمعنى فلا يصرف إلى غيره
(4)
.
ويمكن الجواب عن ذلك بأمور:
- و قبل تفصيل الجواب عن المناقشة، فإنه يلحظ على هذه المناقشة أن فيها تأويلاً للنص، وصرفاً عن الظاهر، وإبطالاً للحقيقة،
(1)
أخرجه مسلم (349)، وبوّب عليه البخاري:(باب: إذا الْتقى الختانان)، وهناك أحاديث أخرى لا تخلو من ضعف.
(2)
قال الإمام مالك: (من الفطرة ختان الرجال والنساء) الاستذكار (8/ 388)، ولذا اشتركت المرأة مع الرجل في مشروعية الاستحداد ونتف الآباط وتقليم الأظفار، و حديثهما واحد.
(3)
قال ابن رجب في الفتح (1/ 372): (استند بهِ الإمام أحمد على أن المرأة تختتن كالرجل، وختان المرأة مشروع بغير خلاف)، وجاء عن الإمام أحمد قوله عن الحديث:«الختانان» ولا يكون واحد إنما هو اثنين)، وقال:(وفي هذا بيان] أن [النساء كن يختتن). "الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل" ص (148 - 149).
(4)
انظر: جراحات الذكورة والأنوثة ص (240)، الرد على المفتي ص (531)، بحث دار الإفتاء المصرية حول ختان الإناث المنشور في موقعها الرسمي.
وإهمالاً لبعض الكلام، وكل هذا خلاف الأصل
(1)
، إضافة إلى أن فيه فهماً حادثاً للنص لم أقف على من سبق إليه.
- أما كون الختان في اللغة لا يطلق على الأنثى فهذا خطأ؛ لأن أصل الختن: القطع
(2)
، وهو حاصل في الذكر والأنثى، قال في اللسان: (خَتَنَ الغلام والجارية يختنهما
…
)
(3)
.
- وأما لفظ: «الختانان» فلايسلّم به؛ لأن اللفظ الذي أثبته الإمام مسلم هو: «
…
ومس الختان الختان» فقط، وهذا اللفظ لايصح معه دعوى التغليب
(4)
.
- وعلى فرض التسليم باللفظ الآخر: «الختانان» ، فإن ذلك لاينفي ختان الأنثى؛ فإن المقصود بذلك اللفظ: ختان الذكر وختان الأنثى، ولفظ مسلم يفسر هذا المقصود، وتفسير السنة بالسنة أولى، ثم إن هذا هو الحقيقة في اللفظ وهي مقدمة على غيره.
- و على فرض التسليم أيضاً، بأن اللفظ ليس للتثنية الحقيقية بل فيه تغليب فإن العلماء لم ينفوا ختان الأنثى، وإنما قالوا: يسمى خفاضاً؛ كما قال العيني عن لفظ الختانين: (يعني: ختان الرجل، وختان المرأة، وقال بعضهم: المراد بهذه التثنية ختان الرجل، وخفاض المرأة، وإنما ثنيا بلفظ واحد تغليباً)
(5)
.
(1)
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1/ 292): (دليل المدعي للحقيقة والظاهر قائم فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (7/ 132)، القاموس المحيط ص (1193).
(3)
لسان العرب (13/ 173)، وانظر: تهذيب اللغة (7/ 132)، وقد قال ابن سيده:(والأعرف في النساء الخفض). المخصص (5/ 106).
(4)
لأن التغليب يكون فيما ثُنّي لفظه، وإن افترقا في المعنى. انظر: اللمحة في شرح الملحة (1/ 186).
(5)
عمدة القاري (2/ 246)، وانظر: فتح الباري (1/ 395).
- وأما السياق؛ فهو وإن كان للغسل إلا أنه نصَّ على الختان
(1)
، وهذا في أقل أحواله يدل على الجواز، ثم إن حديث الفطرة سيق لبيان مشروعية الختان.
- ثم إن قاعدة: الدليل إذا سيق لمعنى فلايستدل به في غيره
(2)
؛ ليست مطلقة وإلا لأبطلنا بذلك دلالة الإشارة وماهو أظهر منها، و دلالة السياق إنما يحسن الاستدلال بها عند التعارض مع نص آخر هو أخص في المسألة، و هنا لا يوجد نص يعارض به مشروعية ختان الإناث، و يهمل بعض كلام النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
من أجله، كيف والدليل الآخر «خمس من الفطرة» يؤيد دلالة «الختانان» المذكورة ولا يعارضها؟!
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على مشروعية ختان الإناث، وجوازه غير واحدٍ من العلماء:
1.
قال ابن حزم (ت 456): (واتفقوا أن من ختن ابنه فقد أصاب، واتفقوا على إباحة الختان للنساء)
(4)
.
(1)
ويلزم من نصه عليه = جوازه؛ ولازم الحق حق.
(2)
قال القرافي في الذخيرة (3/ 77): (الكلام إذا سيق لمعنى لا يحتج به في غيره وهذه قاعدة أصولية)، وهذه القاعدة الكلام عنها قليل في كتب أصول الفقه، وإنما لها بعض الإشارات في كلام بعض العلماء عند تعارض الأدلة، فيقدمون الدليل الذي سيق لمعنى مقصود على الدليل الذي لم يسق لذلك المعنى، كتقديم الجمهور دليل تحريم صيد المدينة، على حديث:«-يا أباعمير- ما فعل النُّغير» خلافاً للحنفية، قال ابن رجب في الفتح (6/ 156):(فلا تُرد أحاديث تحريم صيد المدينة بما يستنبط من حَدِيْث النغير). وانظر: الفروق للقرافي (3/ 160)، "الاستدلال بالدليل في غير ماسيق له"، للدكتور: عبدالرحمن الشعلان، مجلة الجمعية الفقهية (العدد 4، ص 17).
(3)
وإعمال الكلام أولى من إهماله من القواعد الظاهرة، وهي أقوى من قاعدة السياق.
(4)
مراتب الإجماع ص (157) ولم يتعقبه ابن تيمية.
2.
قال ابن هبيرة (ت 560): (اتفقوا على أن الختان في حق الرجال، والخفاض في حق الأنثى مشروع، ثم اختلفوا في وجوبه)
(1)
.
3.
وقال ابن القيم (ت 751): (لا خلاف في استحبابه للأنثى، واختُلف في وجوبه)
(2)
.
4.
قال ابن رجب (ت 795): (وختان المرأة مشروع بغير خلاف، وفي وجوبه عن أحمد روايتان)
(3)
.
5.
وقال الشيخ علَّام نصّار
(4)
(ت 1386): (واتفقت كلمة فقهاء المسلمين وأئمّتهم على مشروعيّته مع اختلافهم في كونه واجباً أو سُنّة)
(5)
.
6.
وقال الشيخ جاد الحق
(6)
(ت 1416): (الفقهاء اتفقوا على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق الإناث مشروع)، وقال أيضاً:(اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنه أمر محمود، ولم ينقل عن أحد من فقهاء المسلمين فيما طالعنا من كتبهم التي بين أيدينا القول بمنع الختان للرجال أو للنساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى)
(7)
.
(1)
اختلاف الأئمة العلماء (1/ 342)، ومعلوم أن الاتفاق هنا هو اتفاق الأئمة الأربعة.
(2)
تحفة المودود ص (193).
(3)
فتح الباري (1/ 373).
(4)
ولد سنة (1308)، عين قاضياً شرعياً، ثم أصبح رئيساً للتفتيش القضائي الشرعي، وتم اختياره مفتياً للديار المصرية سنة (1369)، وتوفي سنة (1386) هـ. انظر: المنار المنيف في فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف ص (588).
(5)
الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد السادس، ص (1985).
(6)
جاد الحق علي جاد الحق، تخرج في كلية الشريعة سنة (1362)، وعين مفتياّ للديار المصرية سنة (1398)، وشغل منصب وزير الأوقاف، وتولى مشيخة الأزهر إلى أن توفي سنة (1416) هـ. انظر: المنار المنيف ص (583).
(7)
الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد التاسع، ص (3121 - 3123).
7.
وقال د. محمد سيد طنطاوي (ت 1431): (الفقهاء اتفقوا على أن الختان في حق الرجال، والخفاض في حق النساء أمر مشروع، ثم اختلفوا في وجوبه)
(1)
، ثم رأى د. محمد سيد طنطاوي بعد ذلك عدم المشروعية.
8.
وقال د. علي جمعة: (اتفق الفقهاء على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق النساء مشروع)
(2)
، ثم رأى د. علي جمعة بعد ذلك التحريم.
- تنبيه: لايرد على الإجماع قول ابن الحاج: (واختُلف في حقهن هل يخفضن مطلقاً، أو يفرق بين أهل المشرق وأهل المغرب، فأهل المشرق يؤمرون به؛ لوجود الفضلة عندهن من أصل الخلقة، وأهل المغرب لا يؤمرون به؛ لعدمها عندهن، وذلك راجع إلى مقتضى التعليل فيمن ولد مختوناً، فكذلك هنا سواء بسواء)
(3)
، فهذه مسألة أخرى خلافية وهي؛ كختان من ولد مختوناً، وهذه في خفاض من ولدت مخفوضة ليس فيها شيء زائد، وقد قال الجويني:(لو ولد مختوناً بلا قلفة فلا ختان لا إيجاباً ولا استحباباً)
(4)
.
(1)
الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد الحادي والعشرون، ص (7865).
(2)
فتاوى النساء، للدكتور علي جمعة ص (459)، نقلاً عن:"الرد على المفتي" لعبدالله رمضان موسى ص (521).
(3)
المدخل (3/ 296)، وجاء في حاشية العدوي (1/ 596):(وقال ابن عمر: الخفاض أخذ شيء من الناتئ بين الشفرتين، قال في التحقيق: وهو في نساء المشرق لا نساء المغرب). والمقصود بابن عمر هنا: يوسف بن عمر الفاسي، كما في مقدمة الحاشية.
(4)
المجموع (1/ 307).
المسألة الثانية: أدلة القائلين بتحريم ختان الإناث أو عدم مشروعيته: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ أنه لايصح في ختان الإناث دليل، كما قال ابن المنذر:(ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سنة تتبع)
(1)
، وقال ابن عبدالبر:(والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال)
(2)
، فلا يثبت دليل على مشروعيته، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن بناته
(3)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- أما دعوى عدم الدليل فالجواب عنها في الدليل الأول والثاني من أدلة القائلين بمشروعية ختان الإناث وقد سبقا وفيه حديثان متفق عليهما
(4)
، وفيه نقل للاتفاق على المشروعية، مما يقوي دلالة الحديثين، و يرفع درجتهما من الظن إلى القطع.
- و أما قول ابن المنذر: (ليس في الختان خبر يرجع إليه
…
) فليس هذا سياقه ولا نصه، وسياقه الصحيح في وقت الختان وليس في مشروعيته
(5)
، وليس هذا نص كلام ابن المنذر، بل هو منقول
(1)
أول من وقفت عليه نقل كلام ابن المنذر بهذا اللفظ هو ابن التركماني (ت 750) في الجوهر النقي (8/ 326).
(2)
التمهيد (21/ 59).
(3)
انظر: الفتاوى لمحمود شلتوت ص (285 - 286)، بحث دار الإفتاء المصرية حول ختان الإناث المنشور في موقعها الرسمي، ومقال د. علي جمعة بعنوان:"ختان الإناث" المنشور بتاريخ (30/ 7/ 1428 هـ) في صحيفة الأهرام.
(4)
ولم يُذكر في الأدلة ماهو ضعيف أو مختلف في صحته كحديث: «الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء» أخرجه أحمد (20719) وغيره، وفي سنده الحجاج بن أرطاة، فيه ضعف، وحديثه مما يعتبر به في الشواهد، وله طريق أخرى من غير طريق الحجاج عند البيهقي (17565)، قال البيهقي عقبه:(هذا إسناد ضعيف، والمحفوظ موقوف). يعني: عن ابن عباس رضي الله عنه.
(5)
انظر: المجموع (1/ 309)، تحفة المودود ص (185)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/ 161)، فقد جعلوا كلام ابن المنذر في توقيت الختان وليس في مشروعيته.
بالمعنى، ونص كلامه يدل على عكس ما سيق لأجله هنا، وهذا هو نص كلامه من كتابه:(ليس في باب الختان نهي ثبت، ولا لوقته خبر يرجع إليه، ولا سنة تتبع، وتستعمل الأشياء على إباحة، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة)
(1)
.
- و أما قول ابن عبدالبر: (والذي أجمع المسلمون عليه
…
)، فله تتمة تبين أن الكلام له علاقة بكلام سابق وليس هو كلام مطلق، وكلامه بتمامه:(والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا)
(2)
، فالكلام له ارتباط بكلام سابق، ويحتمل رجوع الضمير إلى قوله:(وأجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن)؛ لأنه أقرب مذكور ذُكر فيه الإجماع، أو إلى قوله:(قص الشارب، والختان، من ملة إبراهيم لا يختلفون في ذلك)
(3)
؛ لأنه أقرب مذكور ذكر فيه نفي الخلاف، وفيه وصف يمكن تحققه في الرجال يقيناً، وهو: أن الختان من ملة إبراهيم للرجال بالإجماع.
- ثم إن قول ابن عبدالبر ولو افترضنا إطلاقه فلا يلزم منه عدم وجود اتفاق في مشروعية ختان الأناث؛ لأنه لم ينفه، وقد أثبته غيره من العلماء، بل لايبعد أن نقول: إن ابن عبدالبر لايعلم خلافاً في استحباب ختان الإناث؛ حيث لم يذكر خلافاً على استحبابه في موسوعتيه: "التمهيد" و" الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء
(1)
الإشراف (4/ 424)، وانظر: الإقناع (1/ 381)، و
من المهم الرجوع إلى كلام الشخص حتى يتبين المعنى ولا ينسب إليه مالم يرده
، فكيف يقال: إن ابن المنذر ينفي أحاديث الختان نوأحاديثه في الصحيحين؟! ثم إن هذا الاستشهاد بكلام ابن المنذر يلزم أيضاً في نفي مشروعية ختان الذكور.
(2)
التمهيد (21/ 59).
(3)
المرجع السابق (21/ 58).
الأمصار"
(1)
، بل نص على استحبابه عن جماعة العلماء بقوله:(ورأى مالك والشافعي وأبو حنيفة للكبير أن يختتن إذا أسلم، واستحبوه للنساء)
(2)
.
- أما القول بأنه صلى الله عليه وسلم لم يختن بناته، والاستدلال بذلك على عدم المشروعية، فهذا غريب، وليس من شرط السنة أن يجتمع الفعل مع القول، بل قد تثبت السنة بالإقرار ولو لم يرد فعل منه صلى الله عليه وسلم، فكيف بما ثبت بالقول وهو أقوى وأصرح؟! وكيف إذا أضيف إليه اتفاق العلماء على المشروعية؟! وهذا القول يلزم منه إبطال السنن التي لم تثبت إلا بالقول، ومن اللوازم القريبة أن يُبطل مشروعية ختان الذكر
(3)
!
- ومن المسالك الأصولية في إثبات الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم ماذكره الزركشي من أنه إذا قام الإجماع على أن إحدى صورتي الفعل أفضل من الأخرى، ف (العلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لا يواظب على ترك الأفضل، فثبت إتيانه به)
(4)
.
- أما عدم النقل؛ فلأن ختان الأنثى إخفاؤه أولى، بل قال ابن الحاج: (والسنة في ختان الذكر إظهاره، وفي ختان النساء
(1)
انظر: التمهيد (21/ 61)، الاستذكار (3/ 388).
(2)
الاستذكار (8/ 338).
(3)
لعدم ثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، أما حديث:«أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام» أخرجه الطبراني في الأوسط (6708)، والبيهقي في الكبرى (17563)، وقال الطبراني:(لم يقل في هذا الحديث أحد من الرواة: «وختنهما لسبعة أيام»، إلا زهير بن محمد)، وزهير بن محمد التميمي قال عنه الذهبي:(ثقة يغرب، و يأتي بما ينكر)، وقد قال العراقي عن هذا الحديث:(وإسناده ضعيف)، وقال ابن المنذر:(ليس في باب الختان نهي ثبت، ولا لوقته خبر يرجع إليه). انظر: الإشراف (4/ 424)، الكاشف للذهبي (1/ 408)، تخريج أحاديث الإحياء ص (494).
(4)
البحر المحيط (6/ 41)، وانظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر (1/ 478).
إخفاؤه)
(1)
، وقد تقصر الحجة عن السنية إلا أن هذا هو العرف كما قال السخاوي:(فالمعنى عليه والعرف يشهد له)
(2)
.
2/ ومما استدلوا به أيضاً: أن في ختان الإناث ضرراً عند الأطباء، والضرر يزال، وقد ربط العلماء الحكم في عدد من المسائل بالأطباء؛ كقول الشافعي في الوضوء:(ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب)
(3)
، ويؤيد المنع النهي عن تغيير خلق الله
(4)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- تمهيداً للمناقشة: سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن الختان الفرعوني
(5)
فقالت: (هذا الختان لا يجوز بصفته المذكورة؛ لما فيه من الضرر البالغ بالمرأة)
(6)
، وذكر بعض العلماء أن الختان المشروع إنما هو لمن وجد عندها فضلة في بظرها؛ كأهل المشرق
(1)
المدخل (3/ 296)، وقد نقله ابن حجر في الفتح (10/ 343) ولم يتعقبه، ونقله ابن حجر الهيتمي ثم قال:(كذا نقله جمع منا عنه وسكتوا عليه وفيه نظر؛ لأن مثل هذا إنما يثبت بدليل ورد عنه صلى الله عليه وسلم فإن أريد أن ذلك أمر استحساني لم يناسبه الجزم بسنيته). تحفة المحتاج (9/ 200).
(2)
المقاصد الحسنة ص (72).
(3)
الأم (1/ 16)
(4)
انظر: "الحكم الشرعي في ختان الإناث" للقرضاوي، وهو منشور في موقعه الرسمي، مقال د. علي جمعة بعنوان:"ختان الإناث" المنشور بتاريخ (30/ 7/ 1428 هـ) صحيفة الأهرام.
(5)
ومما جاء في السؤال: (نحن مسلمات صوماليات نعيش في كندا، ونعاني معاناة شديدة من أمر يطبق علينا بحكم العادة والتقليد، وهو الختان الفرعوني الذي تأخذ فيه الخاتنة البظر كله مع جزء من الشفرين الصغيرين، ومعظم الشفرين الكبيرين، وهو بمعنى إزالة كل الأعضاء التناسلية الظاهرة للمرأة، مما يؤدي إلى تشويه كامل للفرج، وبعدها يتم خياطة الفتحة كاملة، وهو ما يعرف باسم (الرتق) الذي يلحق آلاماً مبرحة للمرأة ليلة زفافها وعند ولادتها، وفي كثير من الأحيان يحتاج الأمر إلى إجراء عملية جراحية، ويؤدي كذلك إلى البرود الجنسي، ويتسبب في مضاعفات طبية تفقد فيها المرأة حياتها أو صحتها أو قدرتها على الإنجاب).
(6)
فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية (4/ 44).
وليس مطلقاً
(1)
، وليس في هذين النقاش ولا إشكال فيهما، وتحريم ختان الأنثى مطلقاً خوفاً من الختان الفرعوني، كتحريم ختن الذكر المشروع خوفاً من الخصي الممنوع.
- فالختان ليس على درجة واحدة؛ فمنه ما هو ممنوع عند الجميع ولايُختلف فيه كإزالة الأعضاء التناسلية أو أغلبها
(2)
فهذا من الجنايات، أما الختان المشروع بقطع جزء يسير من البظر؛ فهذا الذي يُناقش في منعه، والخلط بينها سبب للخلاف، كما تقول د. آمال البشير:(بناء على هذا الدمج المتعمد للختان الشرعي للأنثى مع الختان الفرعوني بدرجاته المختلفة، جُندت كل جهود المنظمات العالمية لمحاربته، وللضغط المستمر على من يدافع عنه)
(3)
.
(1)
انظر: المدخل (3/ 296)، و حاشية العدوي (1/ 596).
(2)
يقسم بعضهم ختان الإناث ثلاثة أقسام: بسيط، ومتوسط، ومعقّد، فأما البسيط؛ فيتم إزالة جزء من البظر، أو كله، وأما المتوسط؛ فيزال فيه البظر والشفران الصغيران مع جزء بسيط من الشفرين الكبيرين، وأما المعقّد؛ فيزال فيه البظر والشفران الصغيران والكبيران، وهذا النوع يشوّه الفرج تشويهاً كاملاً، ويسميه بعضهم:"الختان الفرعوني"، كما في الموسوعة الطبية الفقهية ص (422) نقلاً عن جراحات الذكورة والأنوثة ص (188)، قلت: وختان السنة هو أحد قسمي الختان البسيط الذي يزال فيه جزء من البظر؛ كما قال النووي في شرح مسلم (3/ 148): (وفي المرأة يجب قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج)، ووضّح ذلك في المجموع (1/ 302) بقوله: (والواجب في المرأة قطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة
…
ويستحب أن يقتصر في المرأة على شيء يسير، ولا يبالغ في القطع)، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية (4/ 43):(ويكون ختان الأنثى بقطع جزء من الجلدة التي كعرف الديك فوق مخرج البول، المسماة بالبظر، ولا يجوز قطعها كلها).
(3)
والدكتورة آمال متخصصة في طب المجتمع، ومما قالته أيضاً:(إن الختان الشرعي للأنثى (Prepucectomy) لم يكن ممنوعاً من منظمة الصحة العالمية (WHO)
…
و
…
في السنوات الأخيرة أدمج هذا الختان مع النوع الأول (Type I) لتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى (FGM) بحجة أن ممارسة المسلمين له غير صحيحة). انظر: مقال "الحرب على ختان الإناث حرب على الإسلام" للدكتورة آمال البشير في صحيفة محيط الإلكترونية بتاريخ (25/ 12/ 1432) هـ.
- أما الضرر الطبي؛ فإنه ليس بحقيقة علمية حتى يُترك من أجله اتفاق العلماء، يؤكد ذلك: تصريح عدد من الأطباء بفائدة ختان الإناث، و عدم ضرره، وهذا عكسٌ للدعوى
(1)
.
- ومما يؤيد ذلك استمرار الختان على مر العصور دون ذكر لهذا الضرر إلا في القرن الرابع عشر، وهذا الاستقراء يقويه تصريحُ العلماء على جوازه واتفاقُهم عليه؛ فلا نترك المعلوم للضرر الموهوم.
- ولو أخذنا بكل ما يقال: أن فيه ضرراً دون تبيّن وتثبت للزمنا تحريم ختان الذكور أيضاً فإن هناك من يدعي وجود الضرر فيه
(2)
، وجوابهم عنه هو الجواب هنا.
- ومن جهة أخرى فإن هناك أضراراً ذكروها في ختان الإناث ليس مرجعها إلى الختان نفسهِ، وإنما إلى قيام شخص غير مؤهل بالختان، أو الختان بآلة غير صحية
(3)
، وهذا غير مقبول في كل
(1)
ومن هؤلاء الأطباء: أ. د. محمد حسن الحفناوي أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية، و أ. د. صادق محمد صادق [في بحث لهما منشور في مجلة أكتوبر العدد (938) وقد أكدا فيه أهمية ختان الأنثى]، و د. محمد عبد الله خليفة، و د. حاتم سعد إسماعيل، و د. محمد علي البار، و د. منير فوزي، و د. إيزل بيكر براون أستاذ أمراض النساء والولادة بإنجلترا، والطبيبة الأمريكية أي بي لوري [كمانشر في صحيفة محيط في مقال بعنوان (ختان الإناث بين الدين والسياسة)، ولبعض هؤلاء الأطباء مقالات أو بحوث منشورة تخص ختان الإناث]، وغيرهم من الأطباء. انظر: خلاصة الرد على القرضاوي والجديع (3/ 149)، ختان الإناث بين المشروعية والحظر ص (122)، وانظر في ضوابط ختان الأنثى الطبية والصحية: جراحات الذكورة والأنوثة في ضوء الطب والفقه ص (260).
(2)
يقول د. سامي عوض الذيب وهو نصراني في كتابه "ختان الذكور والإناث"ص (263): (وبموازاة التيّار الرافض لختان الإناث بين المسلمين، هناك تيّار آخر يرفض أيضاً ختان الذكور لنفس الأسباب، ولكن هذا التيّار ما زال ضعيفاً وينقصه العون المادّي والمعنوي الذي تتيحه الدول الغربيّة والمنظّمات الدوليّة وغير الحكوميّة لمعارضي ختان الإناث).
(3)
انظر: جراحات الذكورة والأنوثة ص (194).
عملية جراحية ولا اختصاص له بالختان فقط.
- أما الاحتجاج بربط العلماء لمسائل فقهية بالأطباء، فهذا مقلوب عليهم، فأين ربط العلماء للختان المشروع بالأطباء؟! ثم فرق بين الفرع الفقهي المنصوص عليه وغير المنصوص عليه، فالذي يرجع فيه إلى الطب هو غير المنصوص عليه، أو النوازل إن احتيج فيها إلى رأيهم، أو قضايا الأعيان والأشخاص كما سيأتي في فتوى لابن تيمية.
- وأما الاحتجاج بالنهي عن تغيير خلق الله، فهذا غريب؛ لأن كل ما أذن الشارع به فهو مخصوص من النهي، ويدخل في ذلك الختان، وتقليم الأظافر، والاستحداد ونحوها، بل يدخل ما هو أبعد من ذلك؛ من قطعٍ ليد سارق، وقصاصٍ في جناية.
- وبعد: فإنه لوثبت الضرر في عملية الختان على شخص مخصوص من ذكر أو أنثى فإنه يمنع من الختان؛ لخصوص حاله، كما قرّر ابن تيمية عن ختان مسلم بالغ عاقل يصوم ويصلي وهو غير مختون، فقال: (إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة
…
ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات)
(1)
، فهي فتوى خاصة لحالة خاصة نقل الاتفاق على مشروعية ما سواها.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بتحريم ختان الإناث أو عدم مشروعيته إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته للنص
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 113).
والإجماع، ولا يعرف من قرَّر القول بعدم المشروعية قبل محمود شلتوت، و د. محمد سيد طنطاوي، ولا من صرّح بالتحريم أو المنع قبل د. علي جمعة، و د. يوسف القرضاوي؛ وكفى خطأً بقولهم خروجهم عن أقوال أهل العلم لو لم يكن على خطئهم دلالة سواه، كيف وظاهر السنة ينبئ عن فساده
(1)
؟! والله أعلم.
(1)
انظر: تفسير الطبري (8/ 721) فهذه العبارة من قوله: (وكفى خطأ
…
) للطبري، مع تصرف يسير.
(أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم؛ لأن العلم نور، فإِذا أطفأ مصابيحهم خبطهم فِي الظُلَم كيف شاء).
ابن الجوزي رحمه الله
تلبيس إبليس (ص 283)
المبحث السابع: جوازُ قراءةِ الجُنُبِ القرآنَ
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورة المسألة، وتحرير محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال عبد الرحمن بن مهدي: (لا يكون إماماً فِي العلم من أخذ بالشاذ من العلم).
أخرجه ابن أبي خيثمه في تاريخه (1/ 227)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الجُنُب لغة: صفة على وزن (فُعُل)، وأصلها من الجَنابة ضد القرابة، فالجُنب بالضم: البعيد، أما الجَنْب بالفتح فهو: القريب
(1)
، كما قال الله:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}
(2)
، وقال:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}
(3)
، ويطلق الجُنُب على المفرد والمثنى والجمع مذكراً أو مؤنثاً
(4)
، ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}
(5)
، ووُصف الجنب قبل الطهارة بذلك؛ لابتعاده عن الصلاة وعن المسجد ونحوهما مما تشترط له الطهارة
(6)
، وقد يقال: جُنُبَان وأجنابٌ وجُنُبُون وجُنُبَاتٌ
(7)
، كما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها:«كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان»
(8)
.
(1)
انظر: تفسير الرازي (10/ 77)، لسان العرب (1/ 275 - 277).
(2)
من الآية (36) من سورة النساء، فالجار ذي القربى: قريب الرحم، والجار الجُنب: الغريبُ البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة، والصاحب بالجَنْب: الملازم القريب كالرفيق في السفر أو الزوجة أو الجليس في الحضر ونحوهم. انظر: تفسير الطبري (8/ 335 - 346)، تفسير ابن كثير (2/ 298 - 300)، الكليات ص (355).
(3)
الآية (11) من سورة القصص، أي: أبصرته من مكان بعيد اختلاساً وهم لا يشعرون أنها أخته وأنها ترقبه. تفسير الطبري (19/ 532)، تفسير الجلالين ص (507).
(4)
انظر: تهذيب اللغة (11/ 81)، لسان العرب (1/ 279).
(5)
من الآية (6) من سورة المائدة.
(6)
انظر: مقاييس اللغة (1/ 483)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 302)
(7)
انظر: تهذيب اللغة (11/ 81)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (47)، لسان العرب (1/ 279).
(8)
أخرجه مسلم (321).
أما الجُنُب في الاصطلاح فهو: غير الطاهر؛ من إنزال منيٍّ أو مجاوزة ختان
(1)
.
وهذا هو قول جمهور الأمة في تعريف الجنب
(2)
، وروي عن بعض الصحابة وغيرهم أنه لا غسل إلا على من أنزل، دون من جاوز الختان بلا إنزال
(3)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
اتفق العلماء على أن ذكر الله بطهارة تامة أفضل
(4)
.
2.
واتفقوا على جواز قراءة المحدث حدثاً أصغر القرآن
(5)
.
(1)
انظر: تفسير ابن عطية (2/ 57)، تفسير القرطبي (5/ 205)، أما إنزال المني فهو موجب للغسل بالإجماع، وتقييد الإنزال بالشهوة هو قول الجمهور خلافاً للشافعية؛ فإنزال المني موجب للغسل عندهم ولو كان بلا شهوة، والمقصود بمجاوزة الختان: الجماع ولو لم يحصل إنزال. انظر: الهداية للمرغيناني (1/ 19)، الشرح الكبير للدردير (1/ 127)، المجموع (2/ 139)، المغني (1/ 146).
(2)
انظر: البحر الرائق (1/ 56)، شرح خليل للخرشي (1/ 174)، المجموع (2/ 155)، المطلع على ألفاظ المقنع ص (47).
(3)
قال ابن رجب في الفتح (1/ 375): (وقد كان قوم من الأنصار قديماً يقولون: إن الماء من الماء، ثم استقرّ الأمر على أنه إذا الْتقى الختانان وجب الغسل، ورجع أكثر من كان يخالف في ذلك عنه)، وحُكي الإجماع بعد الصحابة على وجوب الغسل من الإيلاج وإن لم ينزل، لكن الإمام البخاري أثبت الخلاف بقوله في الصحيح:(الغسل أحوط، وذاك الآخر، وإنما بينّا؛ لاختلافهم)، قال ابن حجر في الفتح (1/ 399) بعد أن ذكر الخلاف بعد الصحابة:(عُرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين وَمنْ بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب).
(4)
انظر: نتاج الفكر في أحكام الذكر ص (129)، وأصل هذه المسألة ما أخرجه البخاري (337) عن أبي الجهيم قال:«أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام» ، وأورده مسلم تعليقاً، قال النووي في شرحه على مسلم (4/ 63):(ذكرنا أنَّ في صحيح مسلم أربعة عشر أو اثني عشر حديثاً منقطعة هكذا).
(5)
انظر: الاستذكار (2/ 104)، المجموع (2/ 163)، مجموع الفتاوى (21/ 461).
3.
واتفقوا على جواز ذكر الله سوى قراءةِ القرآنِ من الجُنُب
(1)
.
4.
و يجوز للجنب عندهم جميعهم تلاوة ما لا يقصد به القرآن كالأدعية و الأذكار
(2)
.
5.
وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز قراءة الجنب للقرآن الكريم، وهو مذهب الأئمة الأربعة
(3)
، وحُكي إجماعاً
(4)
، ونُسب لبعض العلماء القول بجواز قراءة الجنب للقرآن منهم: ابن عباس رضي الله عنه
(5)
، وعكرمة مولى ابن عباس
(6)
،
(1)
انظر: شرح السنة (2/ 44)، المغني (1/ 106)، المجموع (2/ 164).
(2)
عند الحنفية كما في تحفة الفقهاء (1/ 32): (إذا قرأ القرآن على قصد الدعاء لا على قصد القرآن فلا بأس به)، وعند المالكية؛ كما في الشرح الكبير (1/ 138) أنه يجوز:(اليسير الذي الشأن أن يتعوذ به فيشمل آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين (ونحوه) أي: نحو التعوذ كرقيا، واستدلال على حكم)، وعند الشافعية والحنابلة يجوز تلاوة مالم يقصد به القرآن. انظر: المجموع (2/ 162)، المغني (1/ 106)، وفي الموسوعة الفقهية الكويتية (16/ 54):(ويجوز عند الجميع تلاوة ما لم يقصد به القرآن؛ كالأدعية، والذكر البحت).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 37)، التاج والإكليل (1/ 462)، المهذب (1/ 63)، الإنصاف (1/ 243)، وجاء في التاج والإكليل:(قال مالك: لا يقرأ الجنب القرآن إلا الآية والآيتين عند أخذه مضجعه، أو يتعوذ لارتياع ونحوه لا على جهة التلاوة، فأما الحائض فلها أن تقرأ؛ لأنها لا تملك طهرها)، وفي رواية عن أحمد أنه يجوز للجنب قراءة الآية ونحوها، وفي قول للحنفية، ورواية عن أحمد هي المذهب جواز قراءة بعض الآية. انظر: رد المحتار (1/ 172)، الإنصاف (1/ 243).
(4)
انظر: الحاوي الكبير (1/ 148) ففيه حكاية الإجماع، وقال ابن رجب في الفتح (2/ 47): (هذا مروي عن أكثر الصحابة
…
وهو قول أكثر التابعين).
(5)
انظر: صحيح البخاري (1/ 68)، الأوسط (2/ 98)، المجموع (2/ 158)، المغني (1/ 106).
(6)
عكرمة مولى ابن عباس المدني وأصله من البربر، ثقة ثبت عالم بالتفسير، قال الذهبي في الميزان (3/ 93):(أحد أوعية العلم، تُكلِّم فيه لرأيه لا لحفظه فاتهم برأي الخوارج، وقد وثقه جماعة، واعتمده البخاري، وأما مسلم فتجنّبه، وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وأعرض عنه مالك وتحايده إلا في حديث أو حديثين)، وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/ 9):(سئل أبي عن عكرمة وسعيد ابن جبير أيهما أعلم بالتفسير؟ فقال: أصحاب ابن عباس عيال على عكرمة)، توفي سنة (105) هـ. وانظر: سير أعلام النبلاء (5/ 34).
وسعيد بن جبير
(1)
، وهو من أصحاب ابن عباس، وسعيد بن المسيب
(2)
، وربيعة، والبخاري، وداود، وابن جرير
(3)
، وهو اختيار ابن المنذر، وابن حزم
(4)
، ورجحه بعض المعاصرين، وحُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
سعيد بن جبير بن هشام الكوفي، أحد الأعلام، قال الذهبي في السير (4/ 322):(روى عن ابن عبّاس فأكثر وجوّد)، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول أليس فيكم ابن أم الدهماء يعنيه، وقال ميمون بن مهران:(لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه)، قتله الحجاج سنة (95) هـ، ومات الحجاج في نفس السنة بعده بأيام. وانظر: طبقات الحفاظ للسيوطي ص (38).
(2)
سعيد بن المسيَّب بن حزن القرشي، سيد التابعين، كان رأساً في العلم والعمل، وهو من أثبت الناس في أبي هريرة وكان زوج ابنته، وروى عن جمع من الصحابة منهم: ابن عباس، واتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، توفي سنة (94) هـ. انظر: تهذيب الكمال (11/ 66)، سير أعلام النبلاء (4/ 217)، تقريب التهذيب ص (241).
(3)
انظر: معالم السنن (1/ 77)، الأوسط لابن المنذر (2/ 98)، المجموع شرح المهذب (2/ 158)، المغني لابن قدامة (1/ 106)، فتح الباري لابن رجب (2/ 46)، فتح الباري لابن حجر (1/ 408).
(4)
انظر: الأوسط (2/ 100)، المحلى بالآثار (1/ 96) وقال ابن حزم:(وهو قول داود وجميع أصحابنا).
المطلب الثاني: القائلون [بجوازِ] قراءةِ الجُنُبِ القرآنَ من المعاصرين: أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420) لكن مع الكراهة
(1)
.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما ومناقشتهما في المطلب الرابع في أدلة القول الأول.
3/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن عبد البر (ت 463) بقوله: (وقد شذَّ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب)
(2)
، وقوله:(وقد شذت فرق فأجازت قراءته جنباً، وهي محجوجة بالسنة وأقاويل علماء الأمة)
(3)
. ولم أقف على من تابع أبي عمر على ذلك.
(1)
قال في السلسلة الضعيفة (6/ 8): (نرى أنه يكره للجنب أن يقرأ القرآن
…
أما تحريم القراءة فلا دليل عليه)، وقال في إرواء الغليل (2/ 245):(وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنى كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر»، أو قال: «على طهارة». صريح فى كراهة قراءة الجنب؛ لأن الحديث ورد فى السلام كما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح؛ فالقرآن أولى من السلام كما هو ظاهر، والكراهة لا تنافي الجواز كما هو معروف). وانظر: تمام المنة ص (117).
(2)
الاستذكار (2/ 474).
(3)
الاستذكار (2/ 104).
- فالحكم بالشذوذ على من يرى الجواز، لم أقف عليه عند غيره، و (ابن عبدالبر ممن لا يعتبر مخالفة الشاذ، وهو من أطواد الأصول والفروع)
(1)
، وهو وإن لم يسمه إجماعاً، إلا إن له نظراً في مخالفة الجمهور، وأوضّح ذلك في نقطتين؛ لأهميته:
- الحافظ ابن عبدالبر له نصوص عديدة في الاحتجاج بقول الجمهور ومن ذلك: قوله في فرضية الجلسة الأخيرة في الصلاة رداً على من قال بعدم فرضيتها: (والجمهور حجة على من شذ منهم؛ لأنه لا يجوز على جميعهم جهل ما علمه الشاذ المنفرد)
(2)
، وقوله في تأخير صلاة الخوف إلى الأمن والاستطاعة:(وهذا قول جماعة من فقهاء أهل الشام شذوا عن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم)
(3)
وقوله في زكاة الفطر: (والقول بوجوبها من جهة اتباع المؤمنين؛ لأنهم الأكثر والجمهور الذين هم حجة على من شذ عنهم)
(4)
، وقوله في المنع من الجمع بين الأختين ونحوها بالنكاح أو ملك اليمين:(فكذلك هو عند الجمهور وهم الحجة المحجوج بها على من خالفهم وشذ عنهم)
(5)
، وقال في جواز الأخذ من الزوجة في حال الخلع ونحوه:(وعليه جماعة العلماء إلا من شذ عنهم ممن هو محجوج بهم وهم حجة عليه؛ لأنهم لا يجوز عليهم الإطباق والاجتماع على تحريف الكتاب وجهل تأويله وينفرد بغير ذلك واحد غيرهم)
(6)
.
(1)
الصوارم الأسنة في الذب عن السنة لابن أبي مدين الشنقيطي ص (92).
(2)
الاستذكار (1/ 524).
(3)
الاستذكار (2/ 408).
(4)
الاستذكار (3/ 266).
(5)
الاستذكار (5/ 487).
(6)
الاستذكار (6/ 77).
- ولا يلزم من ذلك أن يكون إجماعاً عنده، وعليه فلا يصح إطلاق التساهل عليه في نقل الإجماع لأنه لا يحكيه إجماعاً فهو أعرف بالخلاف، ومما يدل على ذلك أنه يتحرز ويعتبر بالخلاف وينبه عليه كما سبق، وأوضح منه قوله: (ذكر ابن خواز بنداد أن إجماع الصحابة انعقد على إيجاب الغسل من التقاء الختانين، وليس ذلك عندنا كذلك
(1)
، ولكنا نقول إن الاختلاف في هذا ضعيف، وأن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين، ومجاوزة الختان الختان، وهو الحق إن شاء الله)
(2)
، وعدم اعتداده بالقول له مآخذ
(3)
.
(1)
نفى الإجماع هنا.
(2)
التمهيد (23/ 113).
(3)
انظر: سلسلة مباحث في الإجماع والشذوذ للهاشمي، منشورة في الملتقى الفقهي على الشبكة.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بتحريم قراءة القرآن للجُنب:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «
…
لم يكن يحجبه عن القرآن شيء، ليس الجنابة»
(1)
،
(1)
أخرجه أحمد (627)، وأبوداود (229)، والترمذي (146)، وقال:(حسن صحيح)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، وابن خزيمة (208)، وابن حبان (799)، والحاكم (541)، وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد، والشيخان لم يحتجا بعبد الله بن سلِمة، فمدار الحديث عليه) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه غيرهم وألفاظهم متقاربة، ومدار الحديث عندهم جميعهم على عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلِمة عن علي به، والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 408)، ولكن قال النووي بعد أن ذكر تصحيح الترمذي في خلاصة الأحكام (1/ 207):(وخالفه الأكثرون؛ فضعفوه)، وقال في المجموع (2/ 159):(وقال غيره من الحفاظ المحققين هو حديث ضعيف)، وقد حكى الخطابي في معالم السنن (1/ 76) عن الإمام أحمد أنه:(كان يوهن حديث علي هذا، ويضعّف أمر عبد الله بن سلِمة)، وقال الشافعي:(أهل الحديث لا يثبتونه)، انظر: الخلاصة للنووي (1/ 207)، وقال البزار في مسنده (2/ 286):(وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن علي، ولا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، وكان عمرو بن مرة، يحدث عن عبد الله بن سلِمة، فيقول: يعرف في حديثه وينكر)، وقال ابن المنذر في الأوسط (2/ 100):(لا يثبت إسناده لأن عبد الله بن سلِمة تفرّد به وقد تكلم فيه عمرو بن مرة قال: "سمعت عبد الله بن سلمة وإنا لنعرف ونُنكر" فإذا كان هو الناقل بخبره فجرحه= بطل الاحتجاج به)، فتفرُّد عبدالله بن سلمة المرادي بمثل هذا الحديث لا يقبل؛ لضعفٍ في حفظه كما سبق الإشارة إليه عن أئمة هذا الفن، وقد قال البخاري عنه في التاريخ الكبير (5/ 99):(لا يُتابَع في حديثه)، وقال ابن كثير في تفسيره (5/ 125):(عبد الله بن سلِمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه) وقال ابن حجر في التقريب ص (306): (صدوق تغيّر حفظه).
أي: غير الجنابة
(1)
، وحديث علي أيضاً عندما توضأ ثم قال:«هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب فأما الجنب؛ فلا ولا آية»
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في حال الجنابة يدل على منع الجنب من قراءة القرآن، وقد صرّح بالمنع بقوله في الحديث الآخر: «
…
فأما الجنب فلا ولا آية».
وقد نوقش هذا الاستدلال، بأمرين:
- أن الحديث الأول ضعيف قال ابن المنذر: (لا يثبت إسناده)
(3)
، والحديث الآخر لا يثبت إلا موقوفاً، قال الدارقطني:(هو صحيح عن علي)
(4)
.
- ولو ثبت مرفوعاً فإنه لايدل على تحريم القراءة؛ لأنه فعلٌ مجرد غاية دلالته طلب الكمال، كما تطهّر صلى الله عليه وسلم؛ ليرد السلام؛ لأنه كره أن
(1)
انظر: معالم السنن (1/ 76)، قال ابن رجب عن هذا الحديث في الفتح (2/ 48):(أقوى ما في الجنب).
(2)
أخرجه أحمد (872)، وأبويعلى في مسنده (365) من طريق عائذ بن حبيب (صدوق رُمي بالتشيع) عن عامر بن السِّمط عن أبي الغريف عن علي بما يحتمل الرفع، ومع عدم صراحة الرفع، فقد صرح من هو أحفظ وأوثق من عائذ بوقفه على عليّ، وهو يزيد بن هارون (حافظ متقن) عند الدارقطني (425)، ولذا قال الدارقطني:(هو صحيح عن علي) أي: موقوف، وأخرجه موقوفاً عبدالرزاق (1306)، وابن أبي شيبة (1086)، وابن المنذر (619)، والبيهقي (417).
(3)
الأوسط (2/ 100)، وانظر: تخريج الحديث ففيه بيان سبب ضعفه.
(4)
سنن الدارقطني (1/ 212).
يذكر الله إلا على طهارة
(1)
.
- ثم هو معارض بما هو أصح منه، وهو ماثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه»
(2)
.
- والجمع بينهما ممكن وهو أولى من الترجيح كما قال ابن جرير الطبري:
(الصواب أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من «ذكر الله على كل أحيانه» وأنه «كان يقرأ ما لم يكن جنباً»: أن قراءته طاهراً اختيارٌ منه لأفضل الحالتين، والحالة الأخرى أراد تعليم الأمة، وأن ذلك جائز لهم، غير محظور عليهم ذكر الله وقراءة القرآن)
(3)
.
2/ واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنه «لا تقرأ الحائضُ ولا الجُنُبُ شيئاً من القرآن»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد (19034) وأبوداود (17) وغيرهما، وانظر: الأوسط (2/ 100)، المحلى (1/ 95)، فتح الباري (1/ 409).
(2)
أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به في موضعين، وأخرجه مسلم موصولاً (373).
(3)
نقله عنه ابن بطال في شرحه للبخاري (1/ 423)، والعيني في عمدة القاري (3/ 275) وعزاه العيني لكتاب التهذيب.
(4)
أخرجه الترمذي (131)، وابن ماجه (596) وغيرهما، من طريق إسماعيل بن عيّاش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر به، قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 325):(وهذا حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش، ورواية إسماعيل عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها أهل العلم بالحديث)، فرواية إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام منكرة، قال البخاري:(إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشأم) رواه الترمذي عن البخاري في جامعه (1/ 236)، وهذا الحديث رواه إسماعيل عن موسى بن عقبة وهو مدني فيكون ضعيفاً؛ ولذا قال ابن تيمية في الفتاوى (26/ 191) عن الحديث:(حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث).
وقد نوقش هذا الاستدلال:
- بأن الحديث ضعيف، فقد قال عنه ابن تيمية:(حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث)
(1)
، وقال ابن القيم:(حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث)
(2)
.
3/ واستدلوا بالإجماع: فتحريم القراءة على الجنب كان مشهوراً عند الصحابة؛ لا يخفى على رجالهم ولاعلى نسائهم، كما جاء في قصة ابن رواحة مع زوجته
(3)
،
(1)
مجموع الفتاوى (26/ 191).
(2)
إعلام الموقعين (3/ 25).
(3)
هذا الخبر لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة والمسانيد المشهورة، وقد قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق (3/ 276) عن حديث أخرجه الدارقطني فقط:(كيف يكون هذا الحديث صحيحًا سالمًا من الشُّذوذ والعِلَّة ولم يخرِّجه أحدٌ من أئمة " الكتب الستة "، ولا المسانيد المشهورة وهم محتاجون إليه أشدّ حاجة؟! والدارقطني إنَّما جمع في كتابه "السُّنن" غرائب الأحاديث)، والخبر أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (82)، من طريق يحيى ابن أيوب المصري، عن عمارة بن غزية، عن قدامة بن إبراهيم أنه حدثه أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (وقع بجارية له، فقالت له امرأته: فعلتها؟ قال: أما أنا فأقرأ القرآن، فقالت: أما أنت فلا تقرأ القرآن وأنت جنب، فقال: أنا أقرأ لك، فقال: شهدتُ بأنَّ وعدَ الله حقٌّ
…
وأنَّ النار مثوى الكافرينَا
وأنَّ العرش فوق الماءِ طَافٍ
…
وفوق العرش ربُّ العالمينا
وتحملهُ ملائكةٌ كرامٌ
…
ملائكةُ الإله مُسَوِّمِينَا فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر). ويحيى بن أيوب فيه ضعف، والسند فيه انقطاع، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الإشراف في منازل الأشراف (239) من طريق عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن سلمان عن يزيد بن الهاد بمضمون القصة، وعبدالرحمن بن سلمان فيه ضعف، والسند منقطع بين ابن الهاد وابن رواحة، وأخرجها ابن أبي شيبة (26024) من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، عن نافع، بمضمون القصة مع اختلاف تام في الأبيات، وفيها انقطاع بين حماد ونافع، وبين نافع وابن رواحة، وأخرجه الدارقطني (432) من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة بضمون القصة، مع اختلاف تام في الأبيات، وفيه أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك، وزمعة بن صالح ضعيف، وسلمة فيه ضعف، وقد قال ابن عبدالبر في الاستيعاب (3/ 900) عن القصة (رويناها من وجوه صحاح)، ولعل توجيه قوله أن صحة السند لايلزم منه السلامة من الانقطاع وعدم نكارة المتن؛ ولذا قال الذهبي في العلو ص (49) معلقاً على قول ابن عبدالبر: (قلت: روي من وجوه مرسلة
…
فهو منقطع)، وقال النووي في المجموع (2/ 159):(إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع)، ونقل مغلطاي في شرح ابن ماجه ص (758) عن عبدالحق قوله في الخبر:(ولا يروى من وجه صحيح يحتج به؛ لأنه منقطع وضعيف)، وقد حكم محمد رشيد رضا عليها بالوضع كما في مجلة المنار (14/ 103)، وقال مشهور آل سلمان في تحقيقه لخلافيات البيهقي-كتاب الطهارة- (2/ 36):(القصة ضعيفة جداً، ومتنها منكر)، وقد أخرج البخاري (1155) الأبيات التي أخرجها الدارقطني في القصة دون القصة.
فكان إجماعاً
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- أما قصة ابن رواحة رضي الله عنه مع زوجته؛ ففي أسانيدها ضعف، وفي حكاية أبياتها اضطراب، وفي القصة نكارة فالصحابة أجلّ من أن يُوهموا غيرهم أن الله قال شيئاً لم يقله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يضحك من افتراء الكذب على الله أو شبهه، ثم كيف لا تفرق زوجته بين كلام الله الذي وقع به الإعجاز، و بين الشعر.
- وأما الإجماع، فلم أقف على حكايته إلا عند الماوردي تعليقاً منه على قصة ابن رواحة، قال النووي: (واحتج أصحابنا أيضاً بقصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
…
والدلالة فيه
…
أن هذا كان مشهوراً عندهم؛ يعرفه رجالهم ونساؤهم؛ ولكن إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع)
(2)
، وقد خالف ابن عباس رضي الله عنه، فلا إجماع.
- وقد صرّح جماعة من العلماء بعدم ثبوت شيء مرفوع في المنع من قراءة الجنب للقرآن ومنهم: ابن المنذر وابن حزم
(3)
، ومن
(1)
انظر: الحاوي الكبير (1/ 148).
(2)
المجموع (2/ 159)، وانظر: الحاوي الكبير (1/ 148) ففيه حكاية الإجماع.
(3)
انظر: الأوسط (2/ 100)، وقال ابن حزم في المحلى (1/ 95):(وقد جاءت آثار في نهي الجنب ومن ليس على طهر عن أن يقرأ شيئا من القرآن، ولا يصح منها شيء، وقد بينا ضعف أسانيدها في غير موضع).
المعاصرين: الألباني
(1)
، قال ابن رجب: (وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة، إلا أن أسانيدها غير
قوية)
(2)
.
- ومما يدلُّ على عدم ثبوت إجماع في المسألة أن القول بجواز قراءة الجنب للقرآن صحَّ عن ابن عباس
(3)
رضي الله عنه، وهو قول جمعٍ من أصحابه
(4)
، واختاره جمعٌ من العلماء بعدهم، وقد سبق ذكرهم في تحرير محل الشذوذ.
4/ ومن أدلة المنع ما صحَّ عن عمر: رضي الله عنه (لا يقرأ الجنب القرآن)
(5)
، وصحَّ عن علي أيضاً منع الجنب من قراءة القرآن
(6)
، قال ابن
(1)
انظر: السلسلة الضعيفة (6/ 8).
(2)
فتح الباري (2/ 48).
(3)
جزم بذلك البخاري فقال في صحيحه (1/ 68) معلِّقاً غير مُسنِد: (ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً)، وقد وصله ابن المنذر في الأوسط (624) بلفظ:(أنه كان يقرأ ورده وهو جنب)، قال ابن حجر في تغليق التعليق:(2/ 172): (وإسناده صحيح)، قال ابن رجب في الفتح (2/ 45):(أما ابن عباس؛ فقد حكى عنه جواز القرآن للجنب غير واحد)، و لمعرفة الروايات عن ابن عباس انظر: الأوسط (2/ 98)، و المحلى (1/ 96).
(4)
كعكرمة وسعيد بن جبير وابن المسيب، وقد أخرج ابن حزم في المحلى (1/ 96) بسنده إلى حماد بن أبي سليمان، قال:(سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ؟ فلم ير به بأساً وقال: أليس في جوفه القرآن)؟!، وانظر: الأوسط (2/ 99)، واكتفيت بإثبات قول ابن عباس فقط؛ لأن المقصود عدم صحة الإجماع، وقد تحقق بمخالفة ابن عباس رضي الله عنه.
(5)
أخرجه عبدالرزاق (1307)، وابن أبي شيبة (1080) وغيرهما، من طريق الأعمش عن شقيق بن سلمة عن عبيدة السلماني عن عمر به، وصححه البيهقي وابن كثير وابن حجر. انظر: معرفة السنن والآثار (1/ 325)، مسند الفاروق لابن كثير (1/ 128)، التلخيص الحبير (1/ 374).
(6)
سبق ترجيح وقف حديث علي رضي الله عنه في منع الجنب من قراءة القرآن وقوله: (
…
فأما الجنب؛ فلا ولا آية)، قال الدارقطني في سننه (1/ 212):(هو صحيح عن علي)، ومدار الحديث على عامر بن السِّمط، وقد تفرّد برفعه عنه عائذ بن حبيب، ومع أن سياق حديثه ليس بصريح في الرفع إلا أن تسعةً من الرواة عن عامر بن السمط كلهم صرحوا بوقفه وهم: الثوري عند عبدالرزاق، ومروان بن معاوية ومحمد بن فضيل وأبو معاوية عند القاسم ابن سلام في "فضائل القرآن" ص (97)، وشريك عند ابن أبي شيبة (1086)، وخالد بن عبدالله وإسحاق بن إبراهيم عند ابن المنذر في الأوسط (619)(620)، ويزيد بن هارون عند الدارقطني (425)، والحسن بن حي عند البيهقي (417)؛ ولذلك قال الألباني في الإرواء (2/ 243):(لو كان صريحاً فى الرفع فهو شاذ أو منكر؛ لأن عائذ بن حبيب وإن كان ثقة فقد قال فيه ابن عدي: "روى أحاديث أنكرت عليه"، قلت: ولعل هذا منها، فقد رواه من هو أوثق منه وأحفظ موقوفاً على علي).
رجب: (وهذا مروي عن أكثر الصحابة
…
والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة)
(1)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن قول الصحابي إنما يكون حجة على الصحيح إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة
(2)
، أما إذا اختلفوا؛ فلا يكون حجة بالاتفاق
(3)
.
- وقد خالف في هذه المسألة ابن عباس، ومِنْ ثمَّ فلا يلزم الأخذ بقول أحدهما إلا بدليل آخر يرجحه
(4)
، كما قال الشافعي في أقاويل الصحابة إذا اختلفت:(نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس)
(5)
.
(1)
فتح الباري (2/ 47 - 49)، قال محمد رشيد رضا:(وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب). مجلة المنار (14/ 103).
(2)
قال ابن القيم في تحفة المودود ص (179): (وقد احتج الأئمة الأربعة وغيرهم بأقوال الصحابة، وصرحوا بأنها حجة، وبالغ الشافعي في ذلك وجعل مخالفتها بدعة)، وهذا عند الجمهور حتى ولو لم ينتشر، فإن انتشر فهو الإجماع السكوتي. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 14).
(3)
قال ابن تيمية في الفتاوى (20/ 14): (وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء)، وانظر: البحر المحيط (4/ 358).
(4)
انظر: رفع الحاجب (4/ 513)، روضة الناظر ص (166).
(5)
الرسالة ص (597).
وأجيب عن ذلك:
- بأن من خالف ابن عباس أكثر، وفيهم إمامان: عمر، و علي رضي الله عنهم، ومعهم ظاهر الخبر، كما ذكر البيهقي
(1)
، وكما قال ابن القيم عن أقوال الخلفاء الراشدين:(وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب)
(2)
.
ويمكن مناقشة هذا الجواب:
- بأنه لاشك في تقوية قول الصحابي بالكثرة، أو باعتماده على حديث فيه ضعف، أو بكون القائل أحد الخلفاء الأربعة
(3)
، فهذا من القرائن والمرجحات، لكنه ليس بدليل مستقل، إذا عُلم ذلك فإنه ينبغي المقارنة بين القرائن التي عند الفريقين ثم الترجيح بعد ذلك.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز قراءة الجنب للقرآن:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل
(1)
السنن الكبرى (1/ 144).
(2)
إعلام الموقعين (4/ 91)، قال ابن رجب: (ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً، ولم يُخالفه منهم أحدٌ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة، فهل يقدم قولُه على قول غيره؟ فيه قولان أيضاً للعلماء، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة
…
و كلام أكثر السّلف يدلُّ على ذلك، خصوصاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه
…
وقال وكيع: إذا اجتمع عمر وعليّ على شيء= فهو الأمر). جامع العلوم والحكم (2/ 776 - 777).
(3)
هذا النقاش بين من يحتج بقول الصحابي وهم جمهور العلماء، وليس الكلام مع من لا يحتج به كابن حزم حيث يكرر كثيراً في المحلى:(لاحجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرر بطلان ذلك أيضاً في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 59)، وممن صرح بعدم حجية قول الصحابي الشوكاني في إرشاد الفحول (2/ 188) وفي غيره.
أحيانه»
(1)
.
وجه الاستدلال:
أنه (بعمومه يشمل حالة الجنابة وغيرها؛ كما أن الذكر يشمل القرآن وغيره)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمرين:
- (أن ذكر الله إذا أُطلق لا يراد به القرآن)
(3)
.
- وعلى فرض عمومه فهو مخصوص بأحاديث منع الجنب من قراءة القرآن
(4)
.
ويجاب عن هذه المناقشة بأمور:
- أن إخراج القرآن عن معنى الذكر عند الإطلاق تحكّم؛ وفيه تخصيص للمعنى الشرعي بالعرف
(5)
، ولا يُجوز تخصيص المعنى الشرعي بالعرف الحادث بعده
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به في موضعين، وأخرجه مسلم موصولاً (373).
(2)
تمام المنة ص (109)، قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 100):(قال بعضهم: الذكر قد يكون بقراءة القرآن وغيره، فكل ما وقع عليه اسم ذكر الله فغير جائز أن يمنع منه أحداً، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من ذكر الله على كل أحيانه).
(3)
قاله ابن رجب في الفتح (2/ 45)، وانظر: المجموع (2/ 159)، وقد روى عبدالرزاق (1302) عن معمر، قال:(سألت الزهري عن الحائض والجنب أيذكران الله؟ قال: نعم، قلت: أفيقرآن القرآن؟ قال: لا).
(4)
انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (3/ 82)، البحر الرائق (1/ 209)، سبل السلام (1/ 102).
(5)
قال ابن حجر في الفتح (1/ 408): (الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف).
(6)
قال الزَّرْكشيُّ في البحر المحيط (4/ 522): (العادة الطارئة بعد العام لا أثر لها، ولا ينزل اللفظ السابق عليها قطعاً)، ومن القواعد أن:(العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر اللاحق)، ولذلك قالوا:(لا عبرة بالعرف الطارئ). الوجيز للبورنو ص (297).
- ثم إن هذا التخصيص مخالف للتنصيص الخاص الدال على أن الذكر هو القرآن؛ كما قال الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
(1)
، وقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(2)
، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}
(3)
.
- ولعل الذكر في الشرع يطلق ويراد به القرآن كما في الآيات السابقة، وقد يراد به الأدعية والأذكار، وقد يراد به جميعها، وتحديد المراد يعرف من السياق والقرائن.
- أما تخصيص عموم «على كل أحيانه» بغير حالة الجنابة، بالأحاديث التي فيها المنع من قراءة الجنب للقرآن، فهذا ممتنع أيضاً؛ لضعف الأحاديث المخصصة، وقد سبق بيانها.
2/ واستدلوا للإباحة بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وفيه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
(4)
…
الحديث
(5)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الكفرة من الروم كتاباً فيه من القرآن ليقرأوه، والكافر يغلب عليه أن يكون جنباً،
(1)
من الآية (23) من سورة الزُّمَر، وقد ورد الذكر اسماً للقرآن في (29) موضعاً فيه. انظر: أسماء القرآن للدهيشي ص (83).
(2)
الآية (9) من سورة الحِجر.
(3)
الآية (41) من سورة فُصِّلَت.
(4)
من الآية (64) من سورة آل عمران.
(5)
متفق عليه، أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).
وإن لم يكن جنباً، فالمسلم الجنب أولى من الكافر بجواز قراءة القرآن.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن الكتاب اشتمل على شيء غير الآية، فأشبه كتب التفسير أو الفقه التي فيها بعض الآيات؛ لو قرأها الجنب فإنه لايمنع منها؛ لأنه لم يقصد التلاوة.
- ثم إن كتابة الآية ونحوها للكفار جائزة؛ لمصلحة وضرورة التبليغ.
- وعلى فرض التسليم بالاستدلال، فإنما يُجوّز للجنب الآية ونحوها كما في الكتاب
(1)
.
3/ واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي حاجّة: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»
(2)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن إلا الطواف، والحاج يقرأ القرآن، ولم تمنع منه الحائض، فكذلك الجنب؛ لأن حدثه أخف
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «افعلي ما يفعل الحاج
…
» لا دلالة فيه؛ لأنه ليس
(1)
كما هو رواية عن أحمد تجويز قراءة الآية ونحوها للجنب، وفي كتاب هرقل بعض آية، وهذا يجوز قراءته للجنب عند بعض الحنفية، وهو المذهب عن الحنابلة. انظر: رد المحتار (1/ 172)، الإنصاف (1/ 243).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
(3)
استدل بهما البخاري في باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ثم ذكر مايدل على قراءة الحائض والجنب للقرآن، وانظر في وجه الاستدلال بالحديثين: فتح الباري لابن حجر (1/ 407 - 408)، ووجه كون حدث الحيض أشد من حدث الجنب: أنه يمنع ما يمنع منه حدث الجنابة وزيادة، وهي الوطء والصوم، وقيل بأن الحائض أولى بالترخيص؛ لطول مدته؛ ولأنه ليس في يد الحائض رفعه. انظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 48).
في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتى تدخل في عموم هذا الكلام
(1)
، والكلام سياقه في أفعال الحج الخاصة فلا يستدل به في غيره، وإلا فيلزم منه تجويز الصلاة للحائض.
وأجيب عن المناقشة:
- بأن قراءة القرآن ذكر لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر من أفعال الحج التي شرعت؛ لإقامة ذكر الله، وأما الصلاة فمنعها فيه إجماع وفيه أدلة صحيحة خاصة فا فترقا
(2)
.
4/ ومما استدلوا به أيضاً: البراءة الأصلية، واستصحاب الندب إلى قراءة القرآن لكل أحد، ولم يصح برهان في تخصيص الجنب بالمنع
(3)
، مع عموم البلوى وشدة الحاجة، بل صحَّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينام وهو جنب إذا توضأ
(4)
، وكان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة قرأ الإخلاص والمعوذتين
(5)
، وأقرَّ صلى الله عليه وسلم مشروعية قراءة آية الكرسي
(1)
انظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 49)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 408).
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 408).
(3)
انظر: المحلى (1/ 95).
(4)
روى البخاري (286)، ومسلم (305) عن أبي سلمة قال: سألت عائشة أكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقد وهو جنب؟ قالت: «نعم ويتوضأ» واللفظ للبخاري، وجاء في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه سأل النبي عن ذلك صلى الله عليه وسلم فأفتاه بمثل فعله صلى الله عليه وسلم.
(5)
روى البخاري (5748) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، نفث في كفيه بِقُلْ هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده» قالت عائشة: «فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به» قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلى فراشه.
- وهل فعله صلى الله عليه وسلم كان دائماً أم عند الشكوى فقط؟ قال ابن حجر في الفتح (11/ 125): (بيّنت اختلاف الرواة في أنه كان يقول ذلك دائما أو بقيد الشكوى، وأنه ثبت عن عائشة أنه يفيد الأمران معاً لما في رواية عقيل عن الزهري بلفظ: كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة).
عند النوم
(1)
، وورد غير ذلك من الآيات و السور التي تُقرأ عند النوم
(2)
، مع أن الجنابة عند النوم غير نادرة بل كثيرة، ولم يُستثن الجُنب في كل هذه الأخبار، والقاعدة أن:(ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال)
(3)
،
(1)
روى البخاري (3275) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان» .
(2)
قال ابن حجر في الفتح (11/ 125): (وقد ورد في القراءة عند النوم عدة أحاديث صحيحة، منها: حديث أبي هريرة في قراءة آية الكرسي
…
وحديث ابن مسعود؛ الآيتان من آخر سورة البقرة
…
وحديث فروة بن نوفل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: «اقرأ قل يا أيها الكافرون في كل ليلة ونم على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك» أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن حبان والحاكم، وحديث العرباض بن سارية:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، ويقول: فيهن آية خير من ألف آية» أخرجه الثلاثة، وحديث جابر رفعه:«كان لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل وتبارك» أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحديث شداد بن أوس رفعه:«ما من امرئ مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله إلا بعث الله ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه حتى يَهُبّ» أخرجه أحمد والترمذي).
(3)
نقله عن الشافعي الجويني في البرهان (1/ 122) ونقله غير واحد من الشافعية، قال السبكي في الأشباه والنظائر (2/ 137):(وهذا وإن لم أجده مسطورًا في نصوصه، فقد نقله عنه لسان مذهبه، بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي رضي الله عنه ومعناه صحيح) انتهى، وهذه القاعدة الجليلة عن الشافعي، ذُكر عنه أيضاً قاعدة ظن بعضهم أنها تعارضها، قال الزّركشي في البحر المحيط (4/ 208 - 209): (قد استشكل هذه القاعدة بما نُقل عن الشافعي أيضاً: أن قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال
…
والصواب في الجمع بينهما ما ذكره الأصفهاني في " شرح المحصول " والشيخ تقي الدين في شرح الإلمام وغيرهما، أن القاعدة الأولى في ترك استفصال الشارع الاستدلال فيها بقول الشارع وعموم في الخطاب الوارد على السؤال عن الواقعة المختلفة الأحوال، والعبارات الثانية في الفعل المحتمل وقوعه على وجوه مختلفة، فهي في كون الواقعة نفسها لم يفصل، وهي تحتمل وجوهاً يختلف الحكم باختلافها فلا عموم له كقوله: صلى في الكعبة، أو فعل فعلاً؛ لتطرق الاحتمال إلى الأفعال، والواقعة نفسها ليست بحجة، وكلام الشارع حجة لا احتمال فيه) انتهى، فالأفعال لاعموم لها وهي محل القاعدة الثانية.
والأصل إبقاء العام على عمومه، والمطلق على إطلاقه حتى يظهر دليل التخصيص أو التقييد، ومن الأقيسة التي تدل على جواز تلاوة الجنب للقرآن:(أليس القرآن في جوفه)؟!
(1)
، أي: الجنب.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته لاشك أن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فإنه لم يخالف نصاً صحيحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، وقد استند قائله إلى أدلة قوية، له فيها سلف، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان القول بعدم المنع أرجح؛ لاعتماده على ظاهر نص صحيح، وقول صحابي جليل، مع استصحاب البراءة الأصلية، أما المنع فأقوى مافيه قول الخليفتين: عمر وعلي رضي الله عنهما، مع إمكان حمل نهيهما على التنزيه وطلب الكمال، وهذا لا نزاع فيه، كما أن الخروج من الخلاف مستحب
(2)
، والترخيص في الأوراد اليسيرة أظهر كآية الكرسي عند النوم، وأما قصد القراءة فيكره ولا يحرم، والله أعلم.
(1)
روي ذلك عن سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير. انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام ص (195)، الأوسط (2/ 98)، المحلى (1/ 96)، وجوّد الألباني إسناد المروي عن ابن جبير، كما في تمام المنة ص (118).
(2)
قال النووي في شرحه على مسلم (2/ 23): (فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر) وزاد ابن السبكي في الأشباه والنظائر (1/ 112) قيداً ثالثاً وهو: (أن يقوى مدرك الخلاف، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع كان معدوداً من الهفوات والسقطات)، وهذه الأفضلية كما قال ابن السبكي:(ليست لثبوت سنة خاصة فيه، بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدين، وهو مطلوب شرعا مطلقاً، فكان القول بأن الخروج أفضل ثابت من حيث العموم، واعتماده من الورع المطلوب شرعاً)، وبمثلِ هذهِ القيودِ الثلاثةِ يستقيمُ القول بأفضلية الخروج من الخلاف؛ ولذلك فإن الشيخ ابن عثيمين يقول في الشرح الممتع (1/ 32): (التعليل بالخلاف لا يصح
…
ولا يقبل التعليل بقولك: خروجاً من الخلاف)؛ لكن الشيخ يقبل التعليل بذلك عند اجتماع القيود كما قال: (إن كان لهذا الخلاف حظ من النظر، والأدلة تحتمله، فنكرهه، لا لأن فيه خلافاً، ولكن؛ لأن الأدلة تحتمله، فيكون من باب «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». الشرح الممتع (1/ 32).
قال الفضيل بن عياض: (ما أحد من أهل العلم إلا وفي وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرءا سمع منا حديثاً»).
أخرجه الدينوري في المجالسة (1/ 414)
المبحث الثامن: تقييد جواز المسح على الخفين بوجود الحاجة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال الإمام مسلم -بعد أن ذكر أن الإعراض عن القول المطّرح أولى- استدرك فقال: (غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد= أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله).
مقدمة صحيح مسلم
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
الخفان لغة: مُثَنَّى خف و (الخاء والفاء أصل واحد، وهو شيء يخالف الثقل والرزانة
…
فأما الخف؛ فمن الباب؛ لأن الماشي يخف وهو لابسه)
(1)
، وهو مايلبس على القدم
(2)
، وجاء في بعض المعاجم المعاصرة تقييد ذلك بالجلد
(3)
.
وأما الخف في الاصطلاح الشرعي؛ فهو: (الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه)
(4)
، وسمي الخف بذلك؛ للتخفيف الحاصل بلبسه من الغسل إلى المسح
(5)
.
والمشهور عند الفقهاء هو التفريق بين الخف والجورب
(6)
؛ فالخف
(1)
مقاييس اللغة (2/ 154).
(2)
انظر: الصحاح (4/ 1353)، المخصص (1/ 410).
(3)
انظر: المعجم الوسيط (1/ 247)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 672)، ولم أجد في المعاجم اللغوية القديمة تقييد الخف بالجلد، بل هو مطلق فيما يغطي القدم عندهم، أما الجورب فهو أعجمي معرّب، وهو لفافة الرِّجل. انظر: تهذيب اللغة (11/ 38)، الصحاح (1/ 99)، لسان العرب (1/ 263).
(4)
الدر المختار (1/ 261)، وانظر: القاموس الفقهي ص (118).
(5)
انظر: البحر الرائق (1/ 173).
(6)
انظر: المحيط البرهاني (1/ 170)، تبيين الحقائق (3/ 200)، الأم (1/ 49)، مواهب الجليل (1/ 318)، شرح الزَّرْكشيُّ على الخرقي (1/ 398)، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 214):(الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود) هكذا في المطبوع ولعله: (بين الجوربين والخفين)؛ لأن السؤال: هل يجوز المسح على الجورب كالخف أم لا؟، وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات في معنى الجورب (1/ 61):(ولعله اسم لكل ما يلبس في الرجل على هيئة الخف، من غير الجلد).
من الجلد، والجورب من غيره؛ ومما يوضّح تفريق الفقهاء قول الشنقيطي:(وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود، واختلفوا فيما كان من غير الجلد)
(1)
.
إلا أنه ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه مايدل على أن الخف يكون من غير الجلد أيضاً، يقول الأزرق بن قيس:(رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه، ومسح على جوربين من صوف فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفان، ولكنهما من صوف)
(2)
، وهذا المعنى هو الذي عرّف به المناوي الخف شرعاً بقوله:(كل محيط بالقدم ساتر لمحل الفرض، مانع للماء يمكن متابعة [المشي] فيه)
(3)
، وبوّب ابن أبي شيبة في مصنفه:(من قال الجوربان بمنزلة الخفين).
والمسح على الخفين هو الأصرح والأصح في النصوص، بل هو
(1)
أضواء البيان (1/ 337).
(2)
أخرجه الدولابي في الكنى والأسماء (1009) من طريق أحمد بن شعيب النسائي، عن عمرو بن علي، قال: أخبرني سهل بن زياد أبوزياد الطحان، قال حدثنا الأزرق بن قيس به. قال الشيخ أحمد شاكر في تقديمه لرسالة القاسمي"المسح على الجوربين" ص (13):(وهذا إسناد صحيح)، ثم قال ص (13 - 14):(وأنس بن مالك صحابيٌّ من أهل اللغة، قبل دخول العجمة واختلاط الألسنة، فهو يبين أن معنى (الخف) أعم من أن يكون من الجلد وحده، وأنه يشمل كُلّ ما يستر القدم ويمنع وصول الماء إِلَيْهَا؛ إِذْ إن الخفاف كانت في الأغلب من الجلد، فأبان أنس أن هَذَا الغالب ليس حصراً للخف في أن يَكُون من الجلد
…
ولم يأتِ دليل من الشارع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط. وقول أنس في هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة، كالخليل، والأزهري، والجوهري، وابن سيده، وأضرابهم؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء. فأولى ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر أصلي من مصادر اللغة وهو الصحابي العربي من الصدر الأول، بإسناد صحيح إليه)، قلت: وأخرج عبد الرزاق (779) عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أنه كان يمسح على الجوربين قال:(نعم، يمسح عليهما مثل الخفين)، وهذا يدل على التفريق في الحقيقة والتسوية في حكم المسح.
(3)
التوقيف على مهمات التعاريف ص (157).
متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج ابن المنذر بسنده إلى الحسن البصري أنه قال:(حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه السلام مسح على الخفين)
(1)
، قال النووي:(وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة)
(2)
، وقال ابن حجر:(وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، ومنهم العشرة)
(3)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1/ اتفق العلماء على جواز المسح على الخفين
(4)
، واتفقوا على عدم جواز المسح على النعلين
(5)
.
(1)
الأوسط (1/ 433).
(2)
شرح النووي على مسلم (3/ 164).
(3)
فتح الباري (1/ 306)، وقال في تلخيص الحبير (1/ 415):(وذكر أبو القاسم بن منده أسماء من رواه في تذكرته فبلغ ثمانين صحابياً).
(4)
نقل الإجماع على هذه المسألة غير واحد، انظر: الإجماع لابن المنذر ص (35)، الاستذكار (1/ 216)، مجموع الفتاوى (21/ 209)، وقد روي عن بعض الصحابة (علي، وعائشة، وابن عباس رضي الله عنهم إنكار ذلك، وهو إما ضعيف أو غير صريح أو قد رجع عنه، قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 433): (كل من روي عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره المسح على الخفين قد رُوي عنه غير ذلك)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/ 409)، لكنه صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه إنكار ذلك، كما أخرج مسلم في "التمييز" (89) عنه أنه قال:(ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم)، قال الإمام مسلم:(فقد صحَّ برواية أبي زرعة وأبي رزين عن أبي هريرة إنكاره المسح على الخفين)، وهو معذور بخفاء هذه السنة عنه، وأيّاً ماكان فقد استقرَّ الأمر بعد عصر التابعين، وأجمع أهل السنة والجماعة على القول بجواز المسح على الخفين، بل صار إنكارها بعد أن استبانت السنة المتواترة شعاراً لأهل البدع والريب، كما قال عبدالله بن المبارك:(ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف، وإن الرجل ليسألني عن المسح فأرتاب به أن يكون صاحب هوى) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1287)، حتى وُصفت هذه المسألة عند ابن عبدالبر بأنها: (فرقٌ بين أهل السنة وأهل البدع
…
لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين) التمهيد (11/ 134).
(5)
قال الشافعي في الأم (7/ 173): (ولا أحد نعلمه يقول بهذا من المفتين)، وقال ابن بطال =
.........
= في شرحه للبخاري (1/ 260): (وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى بالأمصار)، وقال الماوردي في الحاوي (1/ 127):(مسح النعلين لا يجزئ عن مسح الرجلين بالإجماع)، ونقل ابن تيمية اتفاق المسلمين على أنه لايجوز المسح على النعلين، كما في مجموع الفتاوى (21/ 192)، أما قول ابن مفلح في الفروع (1/ 197):(اختار شيخنا مسح القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل؛ كما جاءت به الآثار، قال: والاكتفاء هاهنا بأكثر القدم نفسها أو الظاهر منها غسلًا أو مسحاً أولى من مسح بعض الخف، ولهذا لا يتوقت)؛ فالظاهر أن المراد به الرش الخفيف الذي يسمى مسحاً، كما صرّح بذلك ابن تيمية بقوله كما في الفتاوى الكبرى (5/ 305):(الرِّجْل لها ثلاث أحوال: الكشف له الغسل وهو أعلى المراتب، والستر له المسح، وحالة متوسطة، وهي إذا كانت في النعل فلا هي مما يجوز المسح ولا هي بارزة فيجب الغسل فأعطيت حالة متوسطة وهي الرش، وحيث أطلق عليها المسح في هذه الحال فالمراد به الرش، وقد ورد الرش على النعلين، والمسح عليهما)، ونقل المرداوي في الإنصاف (1/ 183) عن ابن تيمية أنه:(يجوز المسح على الخف المخرق، إلا المخرق أكثره فكالنعل) أي: لايجوز المسح عليه، وقد جاءت أحاديث مرفوعة فيها المسح على النعلين لاتخلو من ضعف، وأشار إلى ذلك البخاري في تبويبه:(باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين) وقد ذكر هذا الباب عقب (باب غسل الأعقاب) وحديث: «ويل للأعقاب من النار» ، وانظر في أحاديث الباب:"فضل الرحيم الودود في تخريج سنن أبي داود"(2/ 249 - 260)، وأصح مافي الباب ما أخرجه ابن أبي شيبة (1998) عن علي رضي الله عنه أنه مسح على نعليه، وقد سأل صالح ابن الإمام أحمد والده كما في مسائل أحمد برواية صالح (2/ 153) فقال:(قلت: ما تقول في حديث علي أنه مسح على نعليه ثم خلعهما وأم القوم ولم يحدث وضوءاً ما معناه؟ قال يروى هذا عن علي. قلت: فإن فعل هذا رجل؟ قال: ما يعجبني، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ويل للأعقاب من النار»، فإن كان أتى المسح على الأعقاب وغسل الرجلين فلا بأس)، على أن المروي في ذلك مرفوعاً أو موقوفاً هي حوادث أعيان وحكايات أفعال يتطرق إليها عدة احتمالات منها: أن المسح يطلق على الغسل الخفيف والرش، أو أن ذلك يجوز في وضوء النفل والتجديد، أو أن ذلك جائز مع مسح الخفين فهو تابع، أو أن ذلك كان في أول الأمر، وغير ذلك من الاحتمالات، انظر: تهذيب السنن لابن القيم (1/ 135 - 142)، وقد قال الشافعي كما نقله الزَّرْكشيُّ في البحر المحيط (4/ 208) وغيره:(قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال)، فلانترك محكمات الغسل والوعيد على التفريط لنصوص محتملة، بل كما قال الطبري في تفسيره (10/ 64):(وفي وجوب الويل لعقب تارك غسل عقِبه في وضوئه= أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء)، و
لم أقف على عالم معين يصرح بجواز المسح على النعلين إلا الألباني والدبيان من المعاصرين
. انظر: إتمام النصح للألباني "ملحق مع المسح على الجوربين للقاسمي" ص (82)، موسوعة أحكام الطهارة للدبيان (5/ 101).
2/ ولم يختلف الصحابة في جواز المسح على الجوربين، و اختلف فيه من بعدهم
(1)
.
(1)
قال إسحاق بن راهويه: (مضت السُنَّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من التابعين في المسح على الجوربين، لا اختلاف بينهم في ذلك) نقله ابن المنذر في الأوسط (1/ 463)، وقال ابن قدامة في المغني (1/ 215):(الصحابة رضي الله عنهم، مسحوا على الجوارب، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً)، قال أبوداود في سننه (1/ 41):(ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس). وروي عن غيرهم رضي الله عنهم حتى روي عن أكثر من ثلاثة عشر صحابياً، قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 187 - 189): (فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً، والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم
…
ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمّينا)، وقد خالف في هذه المسألة جمهور الفقهاء الأربعة؛ فاشترطوا لجواز المسح على الجورب أن يكون مجلداً أو منعلاً، حتى قال المرداوي في الإنصاف (1/ 170):(وجواز المسح على الجورب من المفردات)، قال ابن حزم في المحلى (1/ 324):(والعجب أن الحنفيين والمالكيين والشافعيين يشنعون ويعظمون مخالفة الصاحب إذا وافق تقليدهم وهم قد خالفوا ههنا أحد عشر صاحباً، لا مخالف لهم من الصحابة ممن يجيز المسح)، وسبب مخالفتهم كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 186):(والثلاثة منعوا المسح على الجوربين وعلى العمامة، فعلم أن هذا الباب مما هابه كثير من السلف والخلف حيث كان الغسل هو الفرض الظاهر المعلوم؛ فصاروا يجوزون المسح حيث يظهر ظهوراً لا حيلة فيه ولا يطردون فيه قياساً صحيحاً ولا يتمسكون بظاهر النص المبيح)، ولعل المخالفة ليست في جواز المسح على الجورب، وإنما في تحقيق معنى الجورب الذي مسح عليه الصحابة؛ ولذلك اشترطوا شروطاً للمسح عليه ولم يمنعوه مطلقاً، فاشترط الحنفية لجواز المسح على الجوربين أن يكونا مجلّدين-أي: جعل الجلد على أعلاه وأسفله-، أو منعّلين-أي: جعل على أسفله جلدة-، واشترط أبو يوسف ومحمد بن الحسن كونهما ثخينين لايشفّان، ولم يشترطا التجليد أو التنعيل، واشترط المالكية أن يكون الجورب مجلداً في ظاهره وباطنه، واشترط الشافعي أن يكون منعّلاً بما يمكن متابعة المشي معه بجلد أو غيره، وأن يكون صفيقاً في مواضع الوضوء منه ولا يشف. انظر: بدائع الصنائع (1/ 10)، مختصر خليل ص (23)، الأم (1/ 49)، واشترط الحنابلة أن يكون صفيقاً، فإن كان خفيفاً يصف القدم أو يسقط عند المشي لم يجز المسح عليه، وهذا (بلا نزاع)، كما قال المرداوي في الإنصاف (1/ 182)، وهذا فقط هو الشرط عند الصاحبين (أبي يوسف، ومحمد بن الحسن)، ويكاد يكون ذلك محل اتفاق، حتى قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 10):(فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع) وقد يكون هذا إجماع مذهبي؛ لأن معنى لايشفهما الماء أي: لا يخترقهما ولا ينفذ إلى الجلد؛ كما هو الحال في بيوت الشعر؛ ولذا قال النووي في المجموع (1/ 500): (وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب، وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود)، وإمكان المشي على الجورب يتحقق فيه كونه ثخيناً، كما قال النووي أيضاً (1/ 501):(أما ما لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته فلا يجوز المسح عليه بلا خلاف)، وقال ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 239):(وإن كان رقيقاً يتخرق في اليومين أو الثلاثة أو لا يثبت بنفسه لم يمسح عليه؛ لأن في مثله لا يمشى فيه عادة، ولا يحتاج إلى المسح عليه)، أما اشتراط التجليد أو التنعيل؛ فكما قال ابن حزم في المحلى (1/ 324):(اشتراط التجليد خطأ لا معنى له، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس ولا صاحب)، وكما قال ابن تيمية في الفتاوى (21/ 214):(يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواءٌ كانت مجلّدة، أو لم تكن، في أصح قولي العلماء)، والله أعلم.
3/ واتفقوا في شروط المسح على الخف: أن يلبسه على طهارة كاملة
(1)
، وأن يكون الخف ساتراً لمحل الفرض في الغسل
(2)
، وأن يمكن متابعة المشي فيه
(3)
.
4/ ونُقل الإجماع على جواز المسح على الخفين ولو لُبس لغير حاجة
(4)
، وذهب المالكية إلى أن من لَبِسَ الخفين ترفُّهاً
(5)
فلا يجوز له المسح
(6)
، وذهب بعض المعاصرين إلى اشتراط وجود
(1)
نقل الإجماع على ذلك غير واحد، انظر: الاستذكار (1/ 224)، وقال ابن رشد:(وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافاً شاذاً). بداية المجتهد (1/ 28).
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 261)، منح الجليل (1/ 136)، مغني المحتاج (1/ 205)، شرح منتهى الإرادات (1/ 64)، وفي الخف الساتر إذا كان مخرقاً خلاف.
(3)
انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 263)، منح الجليل (1/ 136)، مغني المحتاج (1/ 206)، شرح منتهى الإرادات (1/ 65)، قال النووي في المجموع (1/ 501):(أما ما لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته فلا يجوز المسح عليه بلا خلاف).
(4)
انظر: شرح النووي على مسلم (3/ 164).
(5)
(الترفه: إراحة النفس والتمتع بالنعمة وسعة العيش). التوقيف على مهمات التعريف ص (96).
(6)
قال خليل في مختصره ص (24) في ذكر شروط المسح على الخفين: (بِلَا ترفُّهٍ
…
فلا يمسح
…
لابس لمجرد المسح أو لينام)، قال عليش في منح الجليل (1/ 139):(أي لم يقصد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا دفع حر أو برد أو شوك أو عقرب وهذا محترز بلا ترفه)، وقال الخرشي في شرحه (1/ 181):(والمعنى أن من لبس خفاً لمجرد المسح كراهة مشقة الغسل فقط، أو لحناء في رجليه، أو لخوف عقارب، أو لبسه لينام، فإنه لا يمسح عليه؛ لوجود الترفه، فإن فعل لم يجزه على المشهور ويعيد أبداً)، وقال الحنفية كما في المبسوط للسرخسي (1/ 104):(وإذا أراد أن يبول فلبس خفيه ثم بال فله أن يمسح على خفيه)؛ لأن لبسهما حصل على طهارة تامة، ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذا؟ فقال: لا يفعله إلا فقيه، فقد استدل بفعله على فقهه؛ لأنه تطرق به إلى رخصة شرعية)، وقال الشافعية كما في المجموع شرح المهذب (1/ 529):(قال أصحابنا يجوز مسح الخف لمن لا يحتاج إلى شيء؛ كزمن، وامرأة تلازم بيتها، وملازم للركوب وغيره)، وقال الحنابلة كما في الفروع (1/ 194):(ولا يستحب أن يلبس ليمسح)، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (26/ 94):(ولا يشرع له أن يلبس الخفين لأجل المسح).
الحاجة إلى التدفئة لجواز المسح على الخفين، وهذا الرأي هو المراد بحثه، وتصحيح نسبته للشذوذ من عدمه.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
لم أقف على قائل بهذا الرأي من المعاصرين إلا شيخنا:
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين (ت 1430)
(1)
رحمه الله.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
مخالفة الإجماع المحكي على جواز المسح على الخفين ولو لغير حاجة، وسيأتي مناقشته في المطلب الرابع.
(1)
قال في فتوى له منشورة في موقعه الرسمي: (اعلم أن المسح على الخفاف وما أشبهها إنما شرع رخصة للحاجة إلى التدفئة ووقاية القدم، فمتى كان محتاجاً إلى لبس الخف أو الكنادر أو الشراب فإنه يمسح عليها
…
ثم متى استغنى عنها وزالت الحاجة أو خفّت شرع نزعها وغسل القدمين)، وقال في فتوى رقم (8203) في موقعه:(يجوز إذا لبس الخف للحاجة أن يمسح عليه)، وقال في شرحه لمنهج السالكين (1/ 88) في المسح على الشراب:(يحوز المسح عليها بشرط أن تكون صفيقة بحيث تستر البشرة، وتحصل بها التدفئة؛ لأن القصد من لبسها تدفئة القدم)، وعلّقت معه عام (1424) هـ عند شرحه لمنظومة القواعد الفقهية للسعدي عند قول الناظم:(وكل حكم دائر مع علته ** وهي التي قد أوجبت لشرعته)، قال شيخنا:(العلة في المسح على الخفين: الحاجة إلى التدفئة، فمن قال: أمسح لكيلا أغسلها، فنقول: ليس لك ذلك).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بجواز المسح على الخفين مطلقاً دون قيد الحاجة:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ أن الأحاديث الكثيرة القولية منها والفعلية، والمرفوعة والموقوفة، التي وردت في مشروعية المسح على الخفين مطلقة، وليس فيها تقييد بالحاجة ولا بالمشقة ولا بالسفر، (والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويقيد ما قيده)
(1)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع، كما قال النووي (ت 676):(أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي)
(2)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن الإجماع لايصح؛ فقد خالف في هذه المسألة ابن عباس رضي الله عنه بقوله في المسح على الخفين: (لو قلتم هذا في السفر البعيد، والبرد الشديد)
(3)
، ففيه الإشارة إلى اشتراط الحاجة أو المشقة،
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 13)، وانظر: المحلى (1/ 341).
(2)
شرح النووي على مسلم (3/ 164).
(3)
أخرجه عبدالرزاق (768) بسند صحيح، رجاله رجال الصحيحين من طريق معمر، عن عبدالله بن طاوس، عن أبيه قال: سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بخبر سعد وابن عمر في المسح على الخفين، قال ابن عباس:(لو قلتم هذا في السفر البعيد، والبرد الشديد)، وخبر ابن عمر مع سعد أخرجه البخاري (202) عن عبد الله بن عمر، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما عن «النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين» ، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك فقال:(نعم، إذا حدثك شيئاً سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره).
ولعل الإمام مالكاً أخذ مذهبه من ابن عباس رضي الله عنه في اشتراطه عدم الترفه لجواز المسح
(1)
، وروي عنه في قول رجع عنه عدم المسح في الحضر
(2)
.
المسألة الثانية: أدلة القول باشتراط الحاجة للمسح على الخف:
يمكن أن يستدل لهذا القول:
1/ حديث ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد «فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين»
(3)
.
(1)
انظر: المدونة (1/ 141)، مختصر خليل ص (24) وشروحه، وقد سبق بيان هذا الشرط في تحرير محل الشذوذ.
(2)
قال خليل في مختصره ص (23): (رُخص لرجل وامرأة وإن مستحاضة بحضر أو سفر)، قال الدسوقي في حاشيته (1/ 141):(ما ذكره المصنف من جواز المسح على الخف في الحضر والسفر رواية ابن وهب والأخوين عن مالك، وروى ابن القاسم عنه: لا يمسح الحاضرون، وروي عنه أيضاً: لا يمسح الحاضرون ولا المسافرون، قال ابن مرزوق: والمذهب الأول وبه قال في الموطأ)، قال ابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 216):(والروايات عنه بإجازة المسح على الخفين في الحضر والسفر أكثر وأشهر، وعلى ذلك بنى موطأه، وهو مذهبه عند كل من سلك اليوم سبيله لا ينكره منهم أحد والحمد لله)، قال ابن رشد الجد في البيان والتحصيل (1/ 82): (كان مالك أول زمانه يرى المسح في السفر والحضر، ثم رجع فقال: يمسح المسافر ولا يمسح المقيم
…
والصحيح من مذهب مالك رحمه الله، الذي عليه أصحابه إجازة المسح في السفر والحضر، فهو مذهبه في موطئه، وعليه مات).
(3)
أخرجه أحمد (22383)، ومن طريقه أبوداود (146)، والحاكم (602)، والبيهقي (290) قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ثور عن راشد بن سعد، عن ثوبان به، وأخرجه غيرهم، قال الذهبي في السير (4/ 491):(إسناده قوي)، وقد أُعلَّ بالانقطاع، كما قال الإمام أحمد في العلل برواية ابنه عبدالله (1/ 346):(راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان)، قال ابن عبدالهادي في المحرر ص (114):(وفي هذا القول نظر؛ فإنهم قالوا: إن راشداً شهد مع معاوية صفين، وثوبان مات سنة أربع وخمسين، ومات راشد سنة ثمان ومائة)، وصفين كانت سنة (37) هـ، قال مغلطاي في إكماله لتهذيب الكمال (4/ 306):(فإذا كان بصفين رجلاً مقاتلاً كيف لا يسمع ممن توفي بعد صفين بسبعة عشر عاماً)؟!، وقد أثبت الإمام البخاري سماعه، فقال كما في التاريخ الكبير (3/ 292):(سمع ثوبان ويعلى بن مرة، وعنْ جبلة بْن الأزرق، روى عنه ثور، قال حيوة: حدثنا بقية، عن صفوان بن عمرو: ذهبت عين راشد يوم صفين)، والمثبِت مقدم على النافي، ومما يؤيد ماذهب إليه البخاري أن ثوبان صرَّح بالسماع في حديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد (579) قال: حدثنا أحمد بن عاصم، قال: حدثنا حيوة، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني صفوان، قال: سمعت راشد بن سعد، يقول: سمعت ثوبان، يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسكن الكفور، فإن ساكن الكفور كساكن القبور» قال أحمد: الكفور: القرى، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7112).
وجه الاستدلال:
أن التساخين ما يسخن به القدم، والرخصة جاءت به، فلا تعمم ولا يقاس عليها، ويؤيد التخصيص سبب الورود.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن المشهور في اللغة أن التساخين هي الخفاف
(1)
، قال ابن فارس:(التساخين: الخفاف، وممكنٌ أن تكون سميت بذلك؛ لأنها تُسخِّن على لُبْسِها القدم، وليس ببعيد)
(2)
.
(1)
انظر: كتاب العين (4/ 332)، الصحاح (5/ 2134)، النهاية لابن الأثير (1/ 189)، وفيها يعرفون التساخين بالخفاف، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (1/ 287): (التساخين قد فسرها أهل اللغة بالخفاف
…
ولو سلم أن التساخين عند بعض أهل اللغة هي كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما فعند بعضهم التسخان تعريب (تشكن) وهو اسم غطاء من أغطية الرأس .... فحصل للتساخين ثلاثة تفاسير، الأول: إنها هي الخفاف، والثاني: إنها هي كل ما يسخن به القدم، الثالث: إنها هي تعريب تشكن وهو اسم غطاء من أغطية الرأس، فمن ادعى أن المراد بها في حديث ثوبان المذكور كل ما يسخن به القدم دون غيره فعليه بيان الدليل الصحيح ودونه خرط القتاد).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 146).
- فعلى ذلك يكون هذا الحديث موافقاً للأحاديث الأخرى في المسح على الخفين، وليس فيه مايعارض به، وبخاصة وأن التسخين وصفٌ خرج مخرج الغالب؛ فلا يؤخذ منه مفهوم مخالفة
(1)
.
ومن الأدلة: أن الخف إنما شرع المسح عليه لغير متعة اللبس فلا تترك عزيمة غسل الرجلين لغير ضرورة
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- (أن الخف لا يشترط في لبسه نية القربة فلا يضره فيه الرفاهية)
(3)
.
- ثم إن أدلة مشروعية المسح على الخفين وردت مطلقة، ولايجوز تقييد المطلق إلا بدليل، وتجويز الشارع للمسح على الخفين في غير السفر
(4)
، مع مظنة ترفّه غير المسافر بلبس الخف
(5)
دليل على إطلاق الحكم أيضاً
(6)
.
(1)
قال القرافي في الفروق (2/ 38): «الفرق الثاني والستون بين قاعدة المفهوم إذا خرج مخرج الغالب وبين ما إذا لم يخرج مخرج الغالب) فإنه إن لم يخرج مخرج الغالب كان حجة عند القائلين بالمفهوم، وإذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة إجماعاً، وضابطه أن يكون الوصف الذي وقع به التقييد غالباً على تلك الحقيقة وموجوداً معها في أكثر صورها، فإذا لم يكن موجوداً معها في أكثر صورها فهو المفهوم الذي هو حجة).
(2)
انظر: الذخيرة للقرافي (1/ 328)، وقال الكاساني في توجيه قول لمالك في اختصاص المسح بالسفر وليس هو المذهب عند المالكية:(وأما الكلام مع مالك، فوجه قوله أن المسح شرع ترفها، ودفعاً للمشقة، فيختص شرعيته بمكان المشقة، وهو السفر)، بدائع الصنائع (1/ 8).
(3)
الذخيرة (1/ 328).
(4)
ومن ذلك حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم (276) قال: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم» .
(5)
قال العمراني الشافعي في البيان (1/ 150): (المسح على الخفين إنما أجيز لتترفه رجله، ولا حاجة بالمقيم إلى ترك رجله في الخف فيما زاد على يوم وليلة، ولا بالمسافر فيما زاد على ثلاثة أيام ولياليهن، بل الحاجة تدعو إلى كشفها، لتسوية لفائفه وإراحة رجله).
(6)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 173): (وقد استفاض عنه في الصحيح أنه مسح على الخفين؛ وتلقى أصحابه عنه ذلك فأطلقوا القول بجواز المسح على الخفين)، وقال (21/ 175):(فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بلغوا سنته وعملوا بها لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفين مع علمهم بالخفاف وأحوالها فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقاً)، ونقله عن الصحابة صحيح فلم يقيدوا الخف بوصف؛ أما تقييد ابن عباس رضي الله عنه فقد كان في حال اللابس، وليس في وصف الخف.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته لاشك أن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فإنه لم يخالف نصاً، ولم يخرم إجماعاً، وله سلف فيما ذهب إليه من اشتراط الحاجة في جواز المسح على الخف وهو بعض رأي ابن عباس رضي الله عنه و موافق لقول المالكية، وإن كان القول بعدم هذا الشرط أقوى وهو قول جمهور الصحابة والفقهاء
(1)
؛ إلا أنه كلما وجدت الحاجة كان الترخيص أولى
(2)
؛ كما أنه لا يسن اللبس لأجل المسح، لكنَّ منع المسح من أجل ذلك محل نظر، كما قال ابن تيمية:(فمن تدبر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطى القياس حقه: علم أن الرخصة منه في هذا الباب واسعة؛ وأن ذلك من محاسن الشريعة ومن الحنيفية السمحة التي بُعث بها)
(3)
، والله أعلم.
(1)
فَهِم ابن عباس رضي الله عنه من الصحابة (سعد، وعمر وابنه رضي الله عنهم أنهم فهموا من مسح النبي صلى الله عليه وسلم على خفيه جواز المسح على الخفين مطلقاً، ولذا تعقبهم بقوله: (لو قلتم هذا في السفر البعيد، والبرد الشديد) وقد سبق تخريجه.
(2)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 188): (ومعلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز، فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز، والماشون في الأرض الحزنة والوعرة أحق بجواز المسح على الخف من الماشين في الأرض السهلة).
(3)
مجموع الفتاوى (21/ 186)، وقال رحمه الله (21/ 213):(باب المسح على الخفين مما جاءت السنة فيه بالرخصة حتى جاءت بالمسح على الجوارب والعمائم وغير ذلك، فلا يجوز أن يتناقض مقصود الشارع من التوسعة بالحرج والتضييق).
قال سفيان الثوري: (إنما يطلب العلم ليتقى الله به فمن ثَمَّ فُضّل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء).
أخرجه أبونعيم في الحلية (6/ 362)
المبحث التاسع: جواز حلق اللحية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بجواز حلق اللحية من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(لو كان هذا الاستنباط حقاً لما خفي على أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه) يعني: ابن حزم.
ابن رجب رحمه الله
فتح الباري (2/ 24)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
اللحية لغة: هي الشعر النابت على الخدين والذَّقن
(1)
، سميت باسم المكان الذي تنبت منه وهو اللحيُ
(2)
، ولكل دابة لحيان، و (اللَّحيان: العظمان اللذان فيهما منابت الأسنان من كلّ ذي لَحْيٍ)
(3)
، فبداخل الفم ينبت الأسنان، ومن خارجه ينبت الشعر الذي يسمى العارض، وتبدأ اللحية من العذار؛ ولذا يُقال: عَذَّر الغلام، أي: نَبَتَ الشعرُ فِي العذار منه
(4)
، والذي يصل الرأس باللحية هو الصدغ
(5)
، و مجمع اللحيين من
(1)
انظر: المخصص (1/ 78)، لسان العرب (15/ 243)، وفي المصباح المنير (2/ 551):(اللحية: الشعر النازل على الذقن). والخدان: جانبا الوجه، وقيل: من المحجر (تحت العين) إلى اللحي، انظر: اللسان (3/ 160) وهل الوجنة من الخد؟ الظاهر أنها ليست منه، قال الخليل في العين (6/ 187):(الوجنة: ما ارتفع من الخدِّ بين الشِّدق والمحجر)، وقال ابن سيده في المخصص (1/ 94):(وفي الوجه الوجنتان، وهما فوق ما بين الخدين والمدمع إذا وضعت يدك وجدت حجم العظم تحتها وحجمه نتوءه، أبو حاتم، هما ما نتأ من لحم الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف).
(2)
انظر: جمهرة اللغة (1/ 572)، الصحاح (6/ 2480)، مقاييس اللغة (5/ 240).
(3)
العين (3/ 296).
(4)
انظر: المخصص (1/ 76)، لسان العرب (4/ 550)، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 222):(وكان الفقهاء أكثر تحديداً للعذار من أهل اللغة)، لذلك يقول الشربينيى في مغني المحتاج (1/ 173) في تفسير العذار:(الشعر النابت المحاذي للأذن بين الصدغ والعارض، وقيل: هو ما على العظم الناتئ بإزاء الأذن، وهو أول ما ينبت للأمرد غالباً)، وقال برهان الدين ابن مفلح في المبدع (1/ 101):(العذار: وهو الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن، مرتفعا إلى الصدغ، ومنحطاً إلى العارض، والعارض: هو الشعر النابت على الخد)، قال ابن عثيمين في فتاويه:(11/ 124): (حد اللحية من العظمين الناتئين بحذاء صماخي الأذنين إلى آخر الوجه).
(5)
انظر: تهذيب اللغة (8/ 59)، قال الثعالبي في فقه اللغة ص (66):(الصدغ: ما بين لحاظ العين إلى أصل الأذن).
الأسفل هو الذَّقَن
(1)
، وفوق الذَّقن العنفقة
(2)
، وهي أسفل الشفة السفلية.
فليس من اللحية في اللغة مانبت على الوجنتين فيما يظهر، ولا مانبت على الحلق، ولا مانبت في العنفقة، ولا الشارب وما انحدر منه إلى الذَّقن، وهو السَّبَلة
(3)
.
أما اللحية في الاصطلاح؛ فهي: (الشعر النابت على الخدين من عذار وعارض، والذَّقن)
(4)
، ويُلحظ مطابقته للتعريف اللغوي إلا أنه أكثر دقة؛ حيث فسّر النابت على الخدين بالعذار والعارض دون ما نبت على الوجنة.
(1)
انظر: الصحاح (5/ 2119)، مقاييس اللغة (2/ 357)، و (الذِقن) بالكسر هو الشيخ، انظر: تهذيب اللغة (9/ 74).
(2)
العنفق: قلة الشيء وخفته، ومنه اشتقاق العنفقة لخفة شعرها، والعنفقة: مابين الشفة السفلية، وبين الذَّقن، سواء كان عليها شعر أم لم يكن، وهي الشعر فيه أيضاً. انظر: العين (2/ 301)، المخصص (1/ 124)، اللسان (10/ 277).
(3)
قال ابن فارس في مقاييس اللغة (3/ 129): (السين والباء واللام أصل واحد يدل على إرسال شيء من علو إلى سفل، وعلى امتداد شيء
…
وسبال الإنسان من هذا؛ لأنه شعر منسدل)، وقال الخليل في العين (6/ 257): (والشاربان: تجمعهما السَّبَلة
…
وبعض يُسمّي السَّبَلة كُلّها شارباً واحداً، وليس بصواب)، وتفسير السبلة لغة فيه خلاف، كما في اللسان (11/ 321):(وسبلة الرجل: الدائرة التي في وسط الشفة العليا، وقيل: السبلة ما على الشارب من الشعر، وقيل طرفه، وقيل: هي مجتمع الشاربين، وقيل: هو ما على الذقن إلى طرف اللحية، وقيل: هو مقدم اللحية خاصة، وقيل: هي اللحية كلها بأسرها).
(4)
البحر الرائق (1/ 16)، وجاء تعريفها عند المالكية كما في منح الجليل (1/ 78) بأنها: (الشعر النابت على جانبي الوجه المسمّيين لحيين
…
فدخل فيه الذقن واللحية)، وجاء في تعريفها عند الشافعية، كما في المجموع (1/ 374):(وهي الشعر النابت على الذقن)، فهل يعني ذلك أن شعر الخد ليس من اللحية عند الشافعية؟ ليس بصريح، ولذلك قال النووي في المجموع (1/ 291):(قال الغزالي: تكره الزيادة في اللحية والنقص منها، وهو أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه أو ينزل بعض العذارين)، فدل على دخول العارضين في اللحية عند الشافعية، وقد عبّر في المصباح المنير (2/ 551) بما هو أوضح في دخول العارضين في اللحية عندهم بقوله:(اللحية الشعر النازل على الذقن)، وعرفها الحنابلة، كما في المطلع على ألفاظ المقنع ص (31) بأنها:(الشعر النابت على اللحيين والذقن وما قرب من ذلك)، و هي متقاربة، وأوضحها تعريف الحنفية الذي ذكرته في المتن.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
اتفق العلماء على مشروعية الأخذ من الشارب
(1)
.
2.
واتفقوا على عدم تحريم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية وخاصة في النسك
(2)
.
(1)
قال النووي في المجموع (1/ 287): (وأما قص الشارب؛ فمتفق على أنه سنة)، وقال العراقي في طرح التثريب (2/ 76):(قص الشارب، وهو مُجمَعٌ على استحبابه، وذهب بعض الظاهرية إلى وجوبه)، قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص (157):(واتفَقوا أن قصّ الشَّارب، وقطع الأظفار، وحلق العَانَة، ونتف الإبط، حسن)، وهو يحكي القدر المشترك ولا ينفي الوجوب، ولذلك قال في المحلى (1/ 423):(وأما قص الشارب؛ ففرض)، وبوّب أبوعوانة في مستخرجه: (بيان الطهارات التي تجب على الإنسان في بدنه، من ذلك إيجاب جز الشوارب وإحفائه
…
)، قال ابن القيم في تحفة المودود ص (177):(وأما قص الشارب؛ فالدليل يقتضى وجوبه إذا طال وهذا الذي يتعين القول به؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ شاربه فليس منا»، وقال ابن عبد البر، كما في التمهيد (21/ 63): (وقد أجمعوا أنه لا بد للمسلم من قص شاربه أو حلقه)، والظاهر أن ابن عبدالبر لا يخفى عليه أن جمهور الفقهاء لايوجبون ذلك، فلعله أراد بقوله:(لابد) تأكيد الاستحباب، أو أن مراده أن خلاف الفقهاء لابد ألا يخرج عن استحباب القص أو الحلق؛ ولذلك لم يختلفوا في الاستحباب إنما اختلفوا في صفة الأخذ: هل يكون بالقص أم الحلق؟ وأكثر الأحاديث فيها القص، وهي مفسرة لما ورد من الإحفاء والجز، واختلفوا في السبالين في جانبي الشارب: هل يستحب قصهما أم لا؟. انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 346).
(2)
هذا هو القدر المشترك، فقد صحت روايات بعضها مقيدة في النسك ومحددة في القبضة، وبعضها مطلقة غير محددة ولا مقيدة، ولم ينكر على ذلك منهم أحد؛ فكان إجماعاً على عدم التحريم، وقد حكاه جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن الصحابة بما يحتمل الرفع و الإجماع، كما في سنن أبي داود (4201) بسند حسن كما ذكر ابن حجر في الفتح قال:(كنا نُعفي السِّبالَ إلا في حجٍّ أو عمرة)، والسبال يطلق على الشارب، أو طرفيه، وقد يطلق على مقدم اللحية النازل منها، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 223):(وعلى كونه بمعنى ما على الشارب من الشعر ورد الحديث: «قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب»، وعلى كونه بمعنى اللحية ورد قول جابر: (كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة» انتهى، وروى الأخذ من اللحية أيضاً عطاء بن أبي رباح عمن لقيه من الصحابة كما في مصنف ابن أبي شيبة (25482) بسند صحيح قال: (كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)، وحكاه أيضاً إبراهيم النخعي عمن لقيه من التابعين، كما في مصنف ابن أبي شيبة (25490) بسند صحيح قال:(كانوا يطيبون لحاهم، ويأخذون من عوارضها)، وأطبق الأئمة الأربعة وغيرهم على عدم التحريم، بل بعضهم يستحبه، وسيأتي شيء من التفصيل لذلك في المبحث العاشر بإذن الله.
3.
ونُقل الإجماع على تحريم حلق اللحية
(1)
، وذهب بعض الشافعية إلى الكراهة؛ مع أن منصوص الإمام الشافعي هو التحريم، وصرّح به بعض أصحابه
(2)
.
وذهب بعض المعاصرين إلى عدم تحريم حلق اللحية، وهذا الرأي هو المراد بحثه وتصحيح نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: مراتب الإجماع ص (157)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 299).
(2)
انظر: تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي (9/ 376)، ومما جاء فيها:(قال الشيخان: يكره حلق اللحية، واعترضه ابن الرفعة في حاشية الكافية بأن الشافعي -رضي الله تعالى عنه- نص في الأم على التحريم، قال الزَّرْكشيُّ، وكذا الحليمي في شعب الإيمان، وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة، وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها، كما يفعله القلندرية)، يعني: فعل القلندرية بحلق لحاهم محرم؛ والقلندرية طائفة مبتدعة متصوفة ظهرت في القرن السابع في الشام، وشيخ هذه الطريقة هو محمد الساوجي، ولابن تيمية فتوى فيهم، قال في أولها:(أما هؤلاء "القلندرية" المحلقي اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة، وأكثرهم كافرون بالله ورسوله). مجموع الفتاوى (35/ 163)، وانظر: تاريخ الإسلام (13/ 948).
المطلب الثاني: القائلون بجواز حلق اللحية من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
- محمد رشيد رضا (ت 1354)
(1)
، ومحمود شلتوت (ت 1383)
(2)
.
- و عبدالله الجديع
(3)
،
(1)
قال في "مجلة المنار"(22/ 429): (الجواب عن مسألة حلق اللحى: هذه المسألة وأمثالها مما سيأتي ليست دينيةً مما يعبد الله به فعلاً أو تركًا، وإنما هي من الأمور العادية المتعلقة بالزينة والتجمل والنظافة
…
والأمر في مثل هذه الأمور العادية ليس للوجوب الديني، والنهي عنها ليس للتحريم).
(2)
قال في كتابه الفتاوى ص (199): (والحق أن أمر اللباس والهيئات الشخصية، ومنها: حلق اللحية من العادات التي ينبغي أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة).
(3)
قال في كتابه "اللحية دراسة حديثية فقهية" ص (309 - 310) في خلاصة الدراسة الفقهية: (النصوص الآمرة بإعفاء اللحية لا تتجاوز الاستحباب عند وجود مقتضي المخالفة لغير المسلمين
…
فلو شاع عرف المسلمين في مكان بحلق لحاهم وأصبح إعفاء اللحية شذوذاً وشهرة، فموافقة العرف أوفق للسنة)، وقال في ص (217):(لو أن العرف جرى على ترك اتخاذ اللحية فالسنة مجاراته)، وخلاصة رأيه هو قوله في ص (310):(لم تساعد النصوص في حكمها في الدلالة على أكثر من الندب، وإنما يستثنى حال من يقصد مشابهة غير المسلمين في هيئتهم الظاهرة بحلق اللحية، دون مقتض لتلك المشابهة، فذلك قصد محرّم). القصد محرّم وإلا فالفعل غير محرّم فلا يختص هذا القصد باللحية.
- وعبدالله بن يوسف الجديع العنزي ولد في البصرة عام (1378) هـ وتلقى العلم على بعض الشيوخ، و بالمعهد الإسلامي في البصرة، ثم فارق البصرة إلى الكويت عام (1398) هـ، وانشغل في هاتين الفترتين بالإمامة والخطابة والتأليف إلى جانب التحصيل والإشراف على برامج السنة في شركة "صخر"، ثم هاجر بعد عام (1413) هـ إلى بريطانيا، وهو عضو المجلس الأوروبي للإفتاء، ولديه مركز خاص للأبحاث هناك، وله العديد من البحوث في العقيدة، والحديث، وعلوم القرآن، وأصول التفسير وغيرها، وله بحوث دار عليها كلام كبير، فيها تجويز لحلق اللحية، و المعازف، وغيرهما، وأكثر الترجمة مأخوذة من ترجمته لنفسه كتبها بطلب من الدكتور/ عبدالرحمن بن معاضة الشهري، فنشرها في ملتقى أهل التفسير، وملتقى أهل الحديث في الشبكة.
و د. علي جمعة
(1)
، و غيرهم
(2)
.
(1)
قال في كتابه "الفتاوى العصرية" ص (40): (
…
ونحن مع وجودنا في هذا العصر وكيفيته واختلاطنا مع الناس نفتي بما عليه الشافعي، ونقول له: ليس من الحرمة أن تحلق لحيتك).
(2)
كالقرضاوي حين قال في أحد كتبه: (بعض علماء العصر يبيحون حلقها تأثراً بالواقع
…
وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال: قول بالتحريم
…
وقول بالكراهة
…
وقول بالإباحة، وهو الذي يقول به بعض علماء العصر، ولعل أوسطها أقربها وأعدلها وهو الذي يقول بالكراهة فإن الأمر لايدل على الوجوب جزماً).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما ومناقشتهما في المطلب الرابع، في أدلة القول الأول.
3/ النص على شذوذه، و قد نص على الشذوذ أو نحوه من العبارات:
- د. صالح الفوزان بقوله: (إن ترجيح المؤلف [القرضاوي] للقول بكراهة حلق اللحية فقط ترجيح باطل لا دليل عليه)
(1)
.
(1)
"الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام" ص (20)، والباطل من الألفاظ التي يُعبر بها عن الرأي الشاذ في بعض السياقات، وقد قال د. الفوزان في خاتمة كتابه الإعلام: (ليت فضيلة المؤلف الْتزم ما قرره في أول كتابه من قواعد
…
فأخلى كتابه من هذه الفتاوى التي خالف فيها الصواب، وقلد في غالبها الأقوال الشاذة التي لا تستند إلى دليل).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بتحريم حلق اللحية:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحفوا الشوارب، وأعفوا اللّحى»
(1)
، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
(1)
أخرجه البخاري (5893)، ومسلم (259)، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري «أنهكوا» بدلاً من «أحفوا» ، وليس في هذه الرواية ذكرٌ لمخالفة المشركين وهي أثبت من الرواية التي فيها ذكر ذلك من حديث ابن عمر لأمور، أولها: أن هذه الرواية من طريق عبيدالله بن عمر (ثقة ثبت)، عن نافع، عن عبدالله بن عمر به، والرواية التي فيها مخالفة المشركين وردت من طريق عمر بن محمد (ثقة)، عن نافع، عن ابن عمر به، و عبيدالله بن عمر أثبت الناس في نافع، حتى من الإمام مالك، كما ذكر يحيى بن سعيد، وقال الإمام أحمد كما نقله يوسف ابن عبدالهادي في بحر الدم ص (105):(ليس أحد في نافع أثبت من عبيد الله بن عمر، ولا أصح حديثاً منه)، والأمر الثاني: أن ذكر مخالفة المشركين تفرد بها عمر بن محمد، وخالفه عبيدالله بن عمر وقد سبق، وأبوبكر بن نافع وعبدالله بن عمر العمري وعبدالعزيز بن أبي رواد ونجيح السندي كلهم يروونه عن نافع دون هذه الزيادة. والأمر الثالث: أن هذه الرواية هي التي انتقاها البخاري في (باب إعفاء اللحى) ولم يذكر غيرها وليس فيها زيادة مخالفة المشركين، كما أن هذه الرواية هي التي صدّر بها الإمام مسلم الروايات في هذه المسألة، والغالب أن التقديم عنده للأصح في الباب ثم يذكر المتابعات، والأمر الرابع: أن الحديث جاء من غير طريق نافع؛ فقد رواه عبدالرحمن بن علقمة عن ابن عمر بغير هذه الزيادة، وقد أشار إلى قضية التفرد في هذا الحديث البيهقي بقوله بعد رواية عبيدالله بن عمر:(وزاد فيه عمر بن محمد بن زيد، عن نافع: «خالفوا المشركين». سنن البيهقي (1/ 232)، وقد أغفل ذلك الجديع؛ فلم يعرِض له، بل زاد إلى ذلك قوله في موضع بعيد غير موضع تحقيق حديث ابن عمر ص (191): (وما قد تراه في بعض مصادر الحديث من ترك ذكر العلة، وسياق الأمر بالإعفاء والإحفاء مجرداً إنما هو من قبيل اختصار الرواة
…
ولم يزل أهل العلم يصيرون بالمجملات للمفسّرات، وبالمختصرات للمطولات، إلا أن تكون الزيادة من غير ثقة، أو من ثقة خالف فيها، أو من ثقة لم يرتق إلى درجة المتقنين؛ فيتفرّد بها، وجميع هذه الصور ليست واردة هنا) انتهى، وليته نبّه على تفرّد عمر بن محمد، وأجاب عنه في موضعه بما يليق بتحقيقه الظاهر في الحديث بما هو أقل وضوحاً من ذلك.
-صلى الله عليه وسلم قال: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى خالفوا المجوس»
(1)
، وغيرهما.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء وإرخاء اللحية، والأصل في الأمر الوجوب، والحلق فيه مخالفة لأمره الصريح، و وقوع فيما نهى عنه من مخالفة المجوس.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بعدم التسليم بأن الأمر للوجوب، بل الأصل في الأوامر النبوية هي الاستحباب.
- ويدل لذلك أن الأمر بإعفاء اللحية اقترن بالأمر بإحفاء الشارب، والشارب مما يسن إحفاؤه عند الفقهاء، فليكن ذلك الحكم في اللحية لاتِّحاد المخرج والصيغة
(2)
.
- ومعلوم أن ماشرع في الشارب فإن المشروع به في اللحية هو نقيضه، وحيث شُرع القص في الشارب، فالذي يقابله هو الإعفاء من قص اللحية و ذلك بتركها
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (260).
(2)
انظر: "اللحية دراسة حديثية فقهية" للجديع ص (172).
(3)
المرجع السابق ص (190)، وهو يريد بذلك فيما فهمت أن يبين أن المشروع في اللحية هو ترك القص، وقد قرر أن الصحابة والتابعين كانوا يقصون من لحاهم مما يدل على عدم الوجوب في الأمر بالإعفاء.
- ثم إن الأحاديث الثابتة في الأمر بالإعفاء والإحفاء علّقت الأمر بمخالفة غير المسلمين، مما يؤكد أنه ليس حكماً تعبدياً محضاً؛ بل معلق بوجود المخالفة
(1)
، وهذه المخالفة مستحبة مالم يوجد قصد التشبّه، فإن وجد القصد فهنا التشبه المحذور
(2)
.
- وقد وردت نصوص عديدة فيها أمر وتعليل بمخالفة غير المسلمين، وهي محمولة على الاستحباب؛ كتغيير الشيب، والصلاة في النعال، وأكلة السحر وغيرها
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمور:
- وبين يدي الجواب وتفصيله: فإن هذه الاستنباطات والتأويلات لم أقف عليها بمجموعها عند العلماء من قبل
(4)
، وأقول كما قال ابن رجب:(لو كان هذا الاستنباط حقاً لما خفي على أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه)
(5)
.
- أما القول بأن الأمر ليس للوجوب
(6)
؛ فهذا يبطله قول الله:
(1)
المرجع السابق ص (191).
(2)
المرجع السابق ص (209)، فالتشبّه عنده فيه مشابهة وقصد لها، أما الموافقة في الفعل فقط؛ فهذا شبَهٌ وليس تشبّها.
(3)
انظر: المرجع السابق ص (197 - 212).
(4)
وقفت على أكثر هذه الاعتراضات في مجموع فتاوى ابن باز (25/ 297)، وليس فيها ذكر للمعترض، وقد فنّد ابن باز اعتراضاته، في كلام طويل قال في بدايته:(فقد اطلعت على مقالٍ لبعض الكتاب في عام (1391) هـ جزم فيه بأن حلق اللحية ليس حراماً، ولا مباحاً، ولكنه مكروه
…
).
(5)
فتح الباري (2/ 24)، يعني: ابن حزم، وهذا في الاستنباط الذي يؤدي إلى قولٍ مخالفٍ للإجماع، وإلا فالكتاب والسنة لا ينضبان من المعاني والدلائل، ولذا قال ابن رجب: (وهو قول لم يسبق إليه، ولو كان هذا الاستنباط
…
الخ).
(6)
هذا رأي د. القرضاوي هنا وهو يفرّق بين أمر الله فهو للوجوب وأمر نبيه فهو للندب مالم يأت صارف فيهما، كما ذكر في كتابه "نحو أصول فقه ميسر" ص (25)، وهذا الرأي الأصولي لم يقل به إلا الأبهري من المالكية في أحد أقواله المروية عنه، وقد رجع عنه، ورأيه الأول بالتفريق مهجور وغير مشهور حتى قال الزَّرْكشيُّ- وقد نقل عنه القرضاوي قول الأبهري ولم يشر إلى أنه رأي متروك وأنه رجع عنه- في البحر المحيط (3/ 292): (وهو كالمتروك
…
والصحيح هذا الذي كان يقوله آخر أمره وأنه لا فرق بين أوامر الله تعالى وأوامر رسوله؛ من كون جميعها على الوجوب). وانظر: الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ص (242).
(1)
، ولو كانت مخالفة الأمر جائزة لما غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين خالفوا أمره في الحج
(2)
، ولولا أن الأمر فيه إلزام لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا أن أشق على أمتي -أو على الناس- لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة»
(3)
.
- أما اقتران الأمر بإعفاء اللحية بالأمر بإحفاء الشارب؛ فـ (هذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول)
(4)
، ومما يدل على ضعفها وخاصة عند عطف الجمل التامة قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
(5)
، قال النووي: (ولا يمتنع قرن الواجب
(1)
من الآية (63) من سورة النور، والمقصود بالآية هو النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه السياق في أول الآية:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية.
(2)
أخرجه مسلم (1211) في حديثٍ قالت فيه عائشة: فدخل علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك -يا رسول الله- أدخله الله النار، قال:«أوما شعرتِ أني أمرتُ الناس بأمر، فإذا هم يترددون؟» ، وفي رواية لأحمد:«وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر، فلا أُتّبع» .
(3)
رواه البخاري (887)، ومسلم (252) واللفظ للبخاري.
(4)
أضواء البيان (2/ 335)، قال الزَّرْكشيُّ في البحر المحيط (8/ 109): (أنكرها الجمهور فيقولون: القِران في النظم لا يوجب القِران في الحكم، وصورته أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين كل منهما مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو العموم في الجميع، ولا مشاركة بينهما في العلة، ولم يدل دليل على التسوية بينهما
…
أما إذا كان المعطوف ناقصاً؛ بأن لم يذكر فيه الخبر؛ فلا خلاف في مشاركته للأول
…
وأما إذا كان بينهما مشاركة في العلة؛ فيثبت التساوي من هذه الحيثية، لا من جهة القِران).
(5)
من الآية (141) من سورة الأنعام.
بغيره
…
[فـ] الإيتاء واجب والأكل ليس بواجب)
(1)
، بل قد تضعف دلالة الاقتران وإن كان العطف على مفرد يشترك معه في علة أو حكم، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
(2)
، فالعدل واجب والإحسان مندوب
(3)
، ولا يبعد أن تشترك المعطوفات في حكمٍ من الأحكام لا في كل الأحكام، وهي قرينة من القرائن قد تقوى وقد تضعف
(4)
، وفهم عامة العلماء للحديث يدل على ضعفها في هذا الموضع.
- ثم إن هذه الدلالة إنما يستقيم الاستدلال بها في مسألتنا على القول بعدم وجوب قص الشارب، لكن القول بوجوبه قول قوي
(5)
، ولم يعرِض المعترض للقول بالوجوب ولا أدلته؛ لأنه أراد تقرير حكم الاستحباب للاقتران، ولا يخلُو كلامه من اضطراب، وهذا مثال على ذلك:
(1)
شرح النووي على مسلم (3/ 148).
(2)
من الآية (90) من سورة النحل.
(3)
قال ابن حجر في الفتح (10/ 480): (قال ابن التين: يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة؛ لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب. قلت: وهو مبني على تفسير العدل والإحسان وقد اختلف السلف في المراد بهما).
(4)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (4/ 183): (دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن، وضعفها في موطن، وتساوي الأمرين في موطن
…
الخ).
(5)
وعامة العلماء على التفريق بين الشارب واللحية؛ مما يدل على ضعف الاقتران في هذا الموضع خاصة، فيستحب عندهم الأخذ من الشارب، ويحرم حلق اللحية، ولعلَّ سبب التفريق بينهما: أن الأخذ من الشارب مما يتكرر ويحتاج إلى متابعة لا تتيسر لكل الناس، وهو من الأوامر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، بينما ترك اللحية فيه نهي عن الحلق، وأمر بالترك، وهو متيسر لكل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» ، إضافة إلى أن ترك اللحية من زينة الرجال، وحلقها فيه مشابهة للنساء، ومُثلة، وغير ذلك من المعاني التي لا توجد في الأخذ من الشارب. وهناك معنى مهم وهو: أن ترك الشارب ليس فيه عمل للإنسان، بخلاف حلق اللحية ففيه عمل، وهذا أشار إليه ابن تيمية وسيأتي نصه.
- فهو يقول: (وقد علمت أن الأمر بالمخالفة هو المقصود في الأحاديث، وليس مجرد إعفاء اللحية وقص الشارب، فلا يجوز بعده التعلق بالأمر بالإعفاء والقص مجردين عن السبب فيهما)
(1)
، إذا تقرّر ذلك فاقرأ كلامه بعد ذلك ولعله نسي:(وأما حكم قص الشارب، فإنه سنة مستحبة على كل حال، فإن النصوص التي وردت في اللحية ذكرته آمرة به للمخالفة، لكن المعنى فيه لغير المخالفة أوكد منه للمخالفة، فإنه من سنن الفطرة وأَمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ منه، ووقَّت لذلك مدة أقصاها أربعون ليلة)
(2)
، وهذا إن لم يدل على الاضطراب، فليكن دليلاً منه وعليه بأن اللحية سنة وشريعة على كل حال كما هو الشارب؛ لاقترانهما.
- أما قَصْرُ معنى الإعفاء على الترك مطلقاً؛ فهذا لم يفهمه الصحابة والتابعون الذين صحَّ عنهم الأخذ من اللحية، وإنما فهموا منه الترك حتى تكثر
(3)
، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى عَفَوْا}
(4)
، (أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر)
(5)
، ولذلك قال الإمام البخاري بعد قوله:(باب إعفاء اللحى): {عَفَوْا} قال: (كثروا وكثرت أموالهم)، ثم
(1)
اللحية دراسة حديثية فقهية ص (202)، وقال في ص (192):(فإذا كان الأمر بإعفاء اللحية وقص الشارب لعلة تحقيق صورة المخالفة لغير المسلمين من المشركين أو المجوس، أو أهل الكتاب اليهود والنصارى، وجب أن يقترن حكم ذلك الأمر دائما بحكم نوع تلك المخالفة، وذلك من جهة الوجوب أو الندب).
(2)
المرجع السابق ص (223).
(3)
قال ابن عبدالبر في التمهيد (24/ 146): (هذا ابن عمر روى «أعفوا اللحى» وفهم المعنى فكان يفعل ما وصفنا).
(4)
من الآية (95) من سورة الأعراف.
(5)
تفسير ابن كثير (3/ 450).
أورد حديث ابن عمر مرفوعاً وفيه: «
…
وأعفوا اللحى»
(1)
.
- أما القول بأن الأحاديث الثابتة في الباب علّقت الأمر بمخالفة غير المسلمين؛ فلا يُسلّم به، بل إنَّ أصح أحاديث الباب وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه، ليس فيه ذكر مخالفة المشركين في أصحّ وأكثر طُرقه، وقد سبق بيان ذلك في تخريج الحديث، وقد أشار إلى ذلك البيهقي بقوله: (وزاد فيه عمر بن محمد بن زيد، عن نافع:«خالفوا المشركين»
(2)
.
- هذا في حديث ابن عمر رضي الله عنه، وصح في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «
…
أرخوا اللحى خالفوا المجوس»
(3)
، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لكن ربي أمرني أن أُحْفِيَ شاربي وأعفي لحيتي»
(4)
، وورد
(1)
سبق تخريجه، قال ابن حجر في الفتح (10/ 351) (وقال ابن دقيق العيد: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبب؛ لأن حقيقة الإعفاء الترك، وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها).
(2)
السنن الكبرى (1/ 232).
(3)
أخرجه مسلم (260).
(4)
هذ اللفظ في الطبقات لابن سعد والتمهيد وسيأتي ذكرها، والقصة أخرجها ابن أبي شيبة (36626) عن محمد بن فضيل، عن حصين، عن عبد الله بن شداد، قال: كتب كسرى إلى باذام: أني نبئت أن رجلا يقول شيئاً لا أدري ما هو، فأرسل إليه فليقعد في بيته، ولا يكن من الناس في شيء، وإلا فليواعدني موعداً ألقاه به، قال: فأرسل باذام إلى رسول صلى الله عليه وسلم رجلين حالقَيْ لحاهما مرسلَيْ شواربهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يحملكما على هذا؟» قال: فقالا له: يأمرنا به الذي يزعمون أنه ربهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكنا نخالف سنتكم، نجز هذا، ونرسل هذا» ، هذا أصح ماورد في هذه القصة، وسنده صحيح لكنه مرسل، وإرساله قوي يقرب من الاتصال؛ لأن عبدالله بن شداد مولده في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن الصحابة غالبة، وقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23/ 272) عن حديث:«من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» : (أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن، والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم)، وهذا المرسل أيضاً قد عضده مرسل آخر صحيح، وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (25502) وابن سعد في الطبقات (1/ 374)، وابن عبدالبر في التمهيد (20/ 55) من طريق سفيان بن عيينة و أبو العميس عتبة بن عبدالله عن عبدالمجيد بن سهل، عن عبيدالله عبدالله بن عتبة (ثقة فقيه ثبت) قال: جاء مجوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعفى شاربه، وأحفى لحيته فقال:«من أمرك بهذا» ؟! قال: ربي. قال: «لكن ربي أمرني أن أحفي شاربي وأعفي لحيتي» ، ولهما شواهد ضعيفة عند الطبري في تاريخه (2/ 654) مرسلاً، و ابن بشران في أماليه (128)، قال الألباني في تخريج فقه السيرةص (360):(حديث حسن)، ومال الجديع إلى ثبوته في كتابه "اللحية
…
" ص (74).
في حديث عائشة أن إعفاء اللحية من الفطرة
(1)
، في عشر صفات غيرها، قال ابن العربي عن هذه الصفات العشر:(وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة، واختلفوا في مراتبها)
(2)
، والملة و الفطرة لا تتغيران، مع ما في الحلق من تغيير للخلقة الذي عُلل به النمص وهو قريب منه
(3)
، و التشبه بالنساء.
(1)
أخرجه مسلم (261)، وقد تعقب ذلك الدارقطني، وبيّن أنه من قول طلق بن حبيب، وعلّته مصعب بن شيبة. انظر: الإلزامات والتتبع ص (535)، وقد رواه سليمان بن طرخان التيمي، فجعله من قول طلق، ورواه جعفر بن إياس وجعله مرسلاً عن طلق، وتفرّد برفعه مصعب بن شيبة، قال النسائي في سننه (8/ 128):(وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب منكر الحديث)، وكون اللحية من الفطرة لها شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان (1221) من طريق ابن أبي أويس حدثنا أخي [عبدالحميد] عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن فطرة الإسلام الغسل يوم الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب، وإعفاء اللحى؛ فإن المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها، فخالفوهم؛ حدوا شواربكم، وأعفوا لحاكم» ، وفي إسناده إسماعيل بن أبي أويس، فيه ضعف من قبل حفظه.
(2)
أحكام القرآن (1/ 56).
(3)
قال الألباني في تمام المنة (82): (وهو في ذلك يغير خلقة الله تعالى، فهو في حكم النامصة تماماً، ولا فرق إلا في اللفظ، ولا أعتقد أنه يوجد اليوم على وجه الأرض ظاهري يجمد على ظاهر اللفظ، ولا يمعن النظر في المعنى المقصود منه، ولاسيما إذا كان مقروناً بعلة يقتضي عدم الجمود عليه، كقوله عليه السلام ههنا: «
…
للحسن المغيرات خلق الله»، والرجل في ذلك كالمرأة، كما قال العلماء في الواشمة والمستوشمة إنهما سواء. وانظر: فتح الباري (10/ 372).
- فاجتمع الأمر المجرد، مع الأمر المعلل بالمخالفة، مع أمر الله «أمرني ربي» ، مع التنبيه على أن الإعفاء من الفطرة، وهذا هو فهم الصحابة، دون تعليق منهم للإعفاء بالمخالفة فقط، كما حكى عنهم عطاء بن أبي رباح بقوله:(كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)
(1)
.
- المقصود من ذلك أن قصر العلة الشرعية بإعفاء اللحية على مخالفة الكفار لا يصح؛ فهي علة من العلل وليست كل العلل ولا بعضها
(2)
، ولا ينتفي الحكم بانتفائها، وفي الشريعة هناك ما وجد لعلّة، وبقي التشريع مع فوت هذه العلة؛ كالرمل في الطواف، والسعي في الصفا.
- ولو سُلّم بكون مخالفة الكفار هي أوحد العلل في الأمر بإعفاء اللحية، فإن المشركين حول النبي صلى الله عليه وسلم يعفون لحاهم ولم يخالفهم
(3)
، فكان المقصود بمخالفتهم في اللحية بما خالفوا فيه الفطرة، ولا نخالفهم فيما وافقوا فيه الفطرة؛ ولذا لم يخالف النبي
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (25482) من طريق غندر، عن شعبة، عن منصور قال: سمعت عطاء به، وسنده صحيح.
(2)
بعض العلة لايثبت الحكم فيها إلا باكتمال العلل؛ كالقصاص في القتل العمد العدوان، فيه ثلاثة أوصاف كل واحدة منها بعض علة، والحكم المعلل بعدة علل لا ينتفي الحكم بانتفاء بعض العلل، والأمر بإعفاء اللحية فيه عدة علل، منها: النهي عن المثلة، وتغيير خلق الله، وهذا مجمع عليه كما نقل ابن حزم على أن حلق اللحية مُثلة، وموافقة الفطرة، ومخالفة المجوس، والنهي عن التشبه بالنساء، كل علة منها مستقلة وكافية في تحريم حلق اللحية لمخالفتها.
(3)
قال الجديع في كتابه اللحية ص (309): (دلَّ الإستقراء أن إعفاء اللحية مماجرى به العرف قبل الإسلام، ولم تلغه شريعة الإسلام، وإنما أبقته على ماجرى به العرف). قلت: ولم لا يقال: إنها لم تلغه لموافقته للفطرة؟!
-صلى الله عليه وسلم المشركين مع أنهم أقرب إليه وأكثر مخالطة؛ لأنهم وافقوا الفطرة بإعفاء اللحى، والنهي عن التشبه بالكفار إنما هو (فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه؛ فلا ريب فيه، سواء فعلوه، أو تركوه، فإنا لا نترك ما أمر الله به؛ لأجل أن الكفار تفعله)
(1)
، وقد كان السلف يعفون لحاهم.
- أما جعل التعليل بالمخالفة من صوارف الأمر إلى الاستحباب، فهذا لم أقف عليه عند العلماء من قبل
(2)
، والأصل أن الأمر بالإعفاء اعتضد بالأمر بالمخالفة فقوّاه، ولم يُضعفه، وقد يُصرف هذا الأمر بالقرائن المعروفة كما سيأتي في الأمثلة المذكورة:
- فتغيير الشيب والخضاب ورد مايصرف الأمر فيهما
(3)
من الوجوب إلى الاستحباب. وخلاصة الصارف أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه لم يخضب شيبه
(4)
، وأجمع العلماء على أن أمره بتغيير الشيب للاستحباب لا
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 472).
(2)
قال أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد (6/ 72): (ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا، أعني في تحريم التشبه بالكفار، حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة، فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هجيراها وديدنها التشبه بالكفار في كل شيء، والاستخذاء لهم والاستعباد. ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له، من يزين لهم أمرهم، ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئة والمظهر والخلق وكل شيء).
(3)
وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم» أخرجه البخاري (5899)، ومسلم (2103).
(4)
أخرج مسلم (2341) ونحوه في البخاري (5894)، عن ابن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب؟ فقال: «لم يبلغ الخضاب؛ كان في لحيته شعرات بيض» قال قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال فقال: (نعم، بالحناء والكتم)، وجاء في البخاري (5897) عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم خضب، ولذلك قال الإمام أحمد: (قد ثبت عن النبي صلى الله عليه صلى الله عليه وسلم الخضاب، فقيل له: فقول أنس؟ قال: غيره يقول: قد خضب
…
والذي شهد على النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمنزلة من لم يشهد). كما في كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 222).
للوجوب
(1)
، ولولا الصارف لقيل بالوجوب
(2)
.
- ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن الشيب ليس من صنع الإنسان، ومن تركه فهو مشابه للكفار ولم يتشبّه؛ لأنه لم يعمل شيئاً، أما اللحية فمن حلقها؛ فهذا عمل منه فيه تشبّه؛ ولذا قوي التحريم هنا، كما قال ابن تيمية:(فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه [بالحلق] يكون محرماً بخلاف الأول [تغيير الشيب])
(3)
.
- والصلاة في النعال ورد مايصرف الأمر فيه
(4)
من الوجوب إلى الاستحباب. وخلاصة الصارف ما قاله عبدالله بن عمرو رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً، [ومنتعلاً]»
(5)
، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا
(1)
نقل الإجماع على ذلك: الطبري في تهذيب الآثار- مسند الزبير- ص (518)، وابن بطال في شرح البخاري (9/ 153)، والنووي في شرح مسلم (14/ 80)، وجاء في شرح النووي لمسلم، وقد نقله عن الطبري فيما يظهر:(الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط، قال: واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه) انتهى، قلت: روي النهي عن تغيير الشيب من حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم وفيه ضعف.
(2)
ولذلك قال الإمام أحمد: (الخضاب عندي كأنه فرض، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم» الوقوف والترجل من مسائل الإمام أحمد ص (132)، وانظر: الفروع (1/ 153).
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 203).
(4)
وهو حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» أخرجه أبوداود (652)، وابن حبان (2186)، والحاكم (956) وقال:(حديث صحيح الإسناد) ولم يتعقبه الذهبي.
(5)
أخرجه أحمد (6627)، وأبوداود (653)، وابن ماجه (1038) وغيرهم، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناده حسن، وروي من حديث عائشة رضي الله عنها.
صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصلِّ فيهما»
(1)
، فالتخيير ظاهر في عدم الوجوب.
- وأمّا السَّحور
(2)
؛ فإن الصارف له عن الوجوب إلى الندب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان»
(3)
، قال الإمام البخاري:(باب بركة السحور من غير إيجاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يُذكر السحور)
(4)
، وقال النووي عن السَّحور:(وأجمع العلماء على استحبابه وأنه ليس بواجب)
(5)
.
- فأين مثل هذه الصوارف للأمر بإعفاء اللحى؟!، مع قيام الإجماع على تحريم الحلق كما سيأتي، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه أنه خالف ذلك، لاشك أن الفرق بينهما ظاهر، وأن التسوية بينهما خلل علمي.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على تحريم حلق اللحية غير واحد من العلماء:
(1)
أخرجه أبوداود (655)، وابن خزيمة (1009)، وابن حبان (2182) وغيرهم، من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة به، وهو حديث ثابت صحيح، وبوّب عليه ابن خزيمة:(باب الصلاة في النعلين، والخيار للمصلي بين الصلاة فيهما، وبين خلعهما، ووضعهما بين رجليه، كي لا يؤذي بهما غيره).
(2)
لحديث: «تسحروا؛ فإن في السحور بركة» أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095)، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلة السحر» أخرجه مسلم (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (1102)، وقال له الصحابة:«إنك تواصل» أخرجه البخاري (1961)، ومسلم (1102).
(4)
انظر: صحيح البخاري (3/ 29)، قال ابن حجر في الفتح (4/ 139):(إذ لو كان حتماً ما واصل بهم؛ فإن الوصال يستلزم ترك السحور).
(5)
شرح النووي على مسلم (7/ 206)، ونقل الإجماع على ذلك أيضاً ابن المنذر في الإشراف (3/ 120).
1.
قال ابن حزم (ت 456): (واتَّفقوا أن حلق جميع اللحيَة مُثلَة لَا تجوز، وكذلك الْخَلِيفَة والفاضل والعالم)
(1)
، ولم يتعقب ابن تيمية هذا الإجماع بشيء.
2.
ونقله أبو الحسن ابن القطان في الإقناع بقوله: (واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز)
(2)
.
3.
و قال ابن الهمام (ت 861) في فتح القدير: (صحَّ عن ابن عمر
…
أنه كان يأخذ الفاضل عن القبضة
…
وأما الأخذ منها وهي دون
(1)
مراتب الإجماع ص (157)، وهذا النص يحتاج إلى بعض التوضيح؛ فإن كلامه دقيق، ورأيت من يفهمه على غير وجهه، وقد اشترط في آخر كتابه ص (177):(أن يتدبر جميع ألفاظنا في هذا الكتاب؛ فإنا لم نورد منه لفظة في ذكرنا عقد الإجماع إلا لمعنى كان يختل لو لم تذكر تلك اللفظة)، أما قوله:(واتَّفقوا أن حلق جميع اللحيَة مُثلَة لاتجوز)، فالمثلة: التشويه، ومنه:«نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثلة» ، ومن أمثلة المُثلة حلق المرأةِ رأسَها، قال ابن تيمية عن اللحية في شرح العمدة-كتاب الطهارة- (1/ 236):(فأما حلقها؛ فمثل حلق المرأة رأسها وأشد؛ لأنه من المثلة المنهي عنها، وهي محرمة)؛ ولذلك كان بعض الظلمة يعزّر بحلق اللحية؛ لأن العرب تعد ذلك تشويهاً؛ ونص الفقهاء على تحريم هذا التعزير، أما قوله:(وكذلك الخلِيفَة والفاضل والعالم)؛ فيحتمل أن المراد به أن حلق اللحية مُثلة محرمة ولو كان الحلق من ذوي الهيئات؛ كالخليفة، ونحوه ممن لا يُظن أن يُمثل بهم، أو يشوههم أحد، فهي مُثلة محرمة وإن قصد بها التجمل، ولعل التنبيه من ابن حزم لوقوعه في زمانه من ذوي الهيئات أو للجواب عن اعتراض مقدّر، والاحتمال الآخر لهذه العبارة أن قوله: (وكذلك الخليفة
…
) فيه سقط قبلها، برهانه: أن ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 440) قال: (وقد قال ابن حزم قبل السبق والرمي في الإجماع: اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الخليفة والفاضل والعالم)، و لا تجد في مراتب الإجماع المطبوع ذكراً لتوقير أهل القرآن، وقبل السبق والرمي تجد قوله: (واتفقوا أن حلق جميع اللحية
…
) وألصق به قوله: (وكذلك الخليفة
…
) مع ما في العبارة من قلق، واقتصر ابن القطان في الإقناع على قوله:(واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز) ممايدل على أن هذه العبارة تامة، وأن ما أُلحق بها تصحيف، والساقط الذي يصلح لهذه العبارة هو قوله:(اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وهي موجودة في الآداب الشرعية (1/ 440)، ومعناها في الإقناع (2/ 307).
(2)
انظر: الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 299).
ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال؛ فلم يبحه أحد)
(1)
.
4.
وقال الملا خسرو (ت 885) في درر الحكام: (وأما الأخذ من اللحية، وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال؛ فلم يبحه أحد، وأخذ كلها فعل مجوس الأعاجم واليهود والهنود وبعض أجناس الإفرنج كما في الفتح)
(2)
.
5.
ونقله عن الفتح أيضاً: ابن نجيم (ت 970) في البحر الرائق، والحصكفي في الدر المختار، وابن عابدين في رد المحتار، والطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، والشِّلبي في حاشيته على تبيين الحقائق
(3)
.
6.
وقال ابن تيمية (ت 728): (يحرم حلق اللحية)، قال ابن قاسم (ت 1392):(للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد)
(4)
، وقال:(ولم يبحه أحد من أهل العلم)
(5)
.
(1)
فتح القدير للكمال ابن الهمام (2/ 347)، وقال:(يُحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها).
(2)
درر الحكام (1/ 208).
(3)
انظر: البحر الرائق (2/ 302)، حاشية ابن عابدبن (2/ 418)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (681)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/ 332)، ونُقل قوله:(لم يبحه أحد) في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 225) عن ابن عابدين، في سياق الاستدلال بالإجماع، وجاء فيها أيضاً (35/ 226):(وتقدم قول ابن عابدين في الأخذ منها وهي دون القبضة: لم يبحه أحد، فالحلق أشد من ذلك).
(4)
نقله عبدالرحمن بن قاسم في الإحكام شرح أصول الأحكام (1/ 46) بما قد يوهم أن الكلام كله لابن تيمية، بقوله:(قال شيخ الإسلام وغيره: يحرم حلقها للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد)، ولم أقف على هذا النص لابن تيمية، وأقرب ما وجدته هو قول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 302):(ويحرم حلق اللحية).
(5)
حاشية الروض المربع (1/ 46)، تعليقاً على قول البهوتي:(ويحرم حلقها، ذكره الشيخ تقي الدين).
7.
وقال النفراوي (ت 1126): (فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم دون شواربهم لا شك في حرمته عند جميع الأئمة؛ لمخالفته لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولموافقته لفعل الأعاجم والمجوس)
(1)
.
8.
وقال الشيخ علي محفوظ
(2)
(ت 1361): (اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها، والأخذ القريب منه)
(3)
.
9.
وقال ابن باز (ت 1420): (أما الحلق؛ فلا أعلم أحداً من أهل العلم قال: بجوازه)
(4)
.
10.
وقال د. القرضاوي: (لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية)، وقال الجديع: (لم ينقل في شيء من الأثر أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلق لحيته
…
فهؤلاء ستة عشر صحابياً كانوا يعفون لحاهم لايعرف لهم مخالف)
(5)
، (ولا يعرف أنَّ أحداً من الصحابة حلق لحيته، ومثلهم التابعون بعدهم)
(6)
، و (السلف لايعرفون حلق اللحية)
(7)
، (ولا يعرف في المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام)
(8)
.
(1)
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 306)، وقال:(والعوائد لا يجوز العمل بها إلا عند عدم نص عن الشارع مخالف لها، وإلا كانت فاسدة يحرم العمل بها، ألا ترى لو اعتاد الناس فعل الزنا، أو شرب الخمر، لم يقل أحد بجواز العمل بها).
(2)
ولد في محافظة الغربية في مصر وفيها حفظ القرآن، ثم الْتحق بالجامع الأحمدي بطنطا سنة (1306)، ثم نزل بالأزهر سنة (1317) وتلقى العلم على صفوة شيوخه، ثم انشغل بالتدريس والوعظ إلى أن ضم إلى كبار العلماء، توفي سنة (1361) هـ. انظر: المنار المنيف في فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف ص (589).
(3)
الإبداع في مضار الابتداع ص (384).
(4)
مجموع فتاوى ابن باز (3/ 373).
(5)
اللحية دراسة حديثية فقهية ص (138).
(6)
المرجع السابق ص (227).
(7)
المرجع السابق ص (242).
(8)
المرجع السابق ص (309).
- تنبيه: د. القرضاوي والجديع ممن لا يحرمون حلق اللحية، و أوردت استقراءهما استئناساً به، وكلامهما السابق ليس في سياق الاستدلال بالإجماع؛ فإنهما يقللان من شأن الإجماع
(1)
.
- فالقرضاوي يقول: (حجية الإجماع ذاته ليست موضع إجماع! فلا يجوز أن نشهر هذا السيف؛ سيف الإجماع المزعوم في وجه كل مجتهد في قضية)
(2)
، ولا مانع عنده من إحداث فهم جديد للنص، أو قول جديد في مسألة خلافية لم يسبق إليه المجتهد ولو كانت المسألة قديمة
(3)
.
- وأما الجديع؛ فالإجماع عنده ليس بحجة إلا تبعاً لدليل ثابت، فيقول في تعريف الإجماع:(ما اتفق عليه المسلمون من الأحكام الثابتة في الكتاب والسنة)
(4)
، ثم أنكر الإجماع السكوتي بعد ذلك، مع أنه لا يكاد يوجد في الواقع إلا السكوتي.
- ويحسن في هذا المقام إيراد قول الجويني: (قد علمنا قطعاً انتشار احتجاج السّلف، في الحَث على موافقة الأمة واتباعها والزجر على مخالفتها
…
فإن تجويز خُلف الإجماع، وترك اتباع الأمة مما يعظم خطره؛ إذ على الإجماع ابتنى معظم أصول الشريعة)
(5)
،
(1)
يقول الطرابلسي في منهج البحث والفتوى ص (383): (أما مدرسة التجديد؛ فإنكارها للإجماع، أو تشكيكها في وقوعه يُعد من الملامح الرئيسية لها).
(2)
"الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، وهو منشور في موقعه الرسمي، وكلامه تحت عنوان:(معالم وضوابط لابد منها).
(3)
انظر: المرجع السابق، تحت عنوان:(موقعنا من الفقه الإسلامي) و (الإجتهاد الإنشائي)، ومن مقولاته:(يستطيع أهل الاجتهاد أن يفهموا النص فهماً جديداً لم ينقل عن السابقين).
(4)
تيسير علم أصول الفقه ص (150) للجديع، وسيأتي التنبيه على أن الإجماع على تحريم حلق اللحية مبني على دليل ثابت من السنة، ومع ذلك لم يقل به، وتعسّف في رده!
(5)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 27 - 28).
و (إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته، ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم، ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة، بل [يعدون] ذلك من عظام الأمور، وقبيح الارتكابات)
(1)
.
ونوقش الاستدلال بالإجماع على تحريم حلق اللحية بأمور:
- أن دعوى ابن حزم للإجماع من قبيل عدم العلم بالمخالف (الإجماع السكوتي)، (فحيث لم يجد ابن حزم من قال بإباحة حلق اللحية من السلف ومتقدمي العلماء جعل ذلك منهم بمنزلة الاتفاق على المنع)، وعلى التسليم بدعواه فهي صحيحة في تحريم المُثلة، وغير مسلّم بها في كون حلق اللحية مثلة
(2)
.
- وقول ابن الهمام: (لم يبحه أحد) صحيح في كونه لم يبحه أحد لكن عدم الإباحة لا تعني تعيّن التحريم
(3)
.
- أما كون السلف لم يحلقوا لحاهم؛ فلعدم حاجتهم لحلقها؛ ولكون التوفير عادتهم.
- ثم إنّ في المسألة خلافاً: فالمالكية عندهم وجه بكراهة الحلق، والشافعية عندهم القول بالكراهة هو المعتمد عند محققي المذهب، و الحنابلة المذهب عندهم قبل ابن تيمية هو استحباب الإعفاء، وغاية ما يقابل الاستحباب الكراهة
(4)
.
(1)
قواطع الأدلة (1/ 469).
(2)
انظر: اللحية دارسة حديثية فقهية ص (242).
(3)
انظر: المرجع السابق ص (232).
(4)
انظر: اللحية دارسة حديثية فقهية ص (234 - 240) للجديع، وأنبه هنا على أنه لم يورد ذلك اعتراضاً على الإجماع، وإنما في تحرير المذاهب الفقهية في حلق اللحية، ولم يعترض على الإجماع بالخلاف الفقهي الذي حاول إثباته؛ وسبب ذلك، والله أعلم أن جميع ما ذكره من خلاف إنما هو بعد انعقاد الإجماع.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمور:
- وبين يدي الجواب على مناقشة الجديع وغيره لدليل الإجماع، فإن تحريم حلق اللحية ثبت بدليل من السنة، وإجماع بُني عليه، وهذا هو الإجماع الصحيح عند الجديع، ثم نجده لا يقول بتحريم حلق اللحية إلا بقصد التشبه فقط؛ وذلك بإضعافه لدلالة الأمر؛ لأنه معلل بالمخالفة؛ وبإضعافه لدلالة الإجماع بتخصيصه، وكونه إجماعاً سكوتياً، فأقول: مع هذا التعسف الذي لم يسبق إليه، لا أدري مالذي سيبقى له من الأدلة، لو سلك نفس المسلك في قبولها؟! وهذه مناقشة تفصيلية لاعتراضاته:
- أما القول بأن ابن حزم إنما حكى الإجماع لمجرد عدم علمه بالمخالف؛ فأترك ابن حزم يجيب عن ذلك بقوله في مقدمة كتابه: (وإنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة، الذي يُعلم كما يعلم أن الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان
…
الخ)
(1)
، وقد أقرّ المعترض على ابن حزم بذلك في هذه المسألة حيث قال:(فحيث لم يجد ابن حزم من قال بإباحة حلق اللحية من السلف ومتقدمي العلماء جعل ذلك منهم بمنزلة الاتفاق على المنع)
(2)
، ألا يكفي ذلك، أَمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعفاء، ونُقل الإجماع على التحريم، ولم يوجد من قال بالإباحة من السلف-بإقرار المعترض-؛ ألا يكفي
(1)
مراتب الإجماع ص (16)، وإن كان ذلك لا يُسلّم له في كل ماحكاه، ولكن يكفي المعترض أن يُبين من خالف الإجماع؛ لينقض الاحتجاج به، كما فعل ابن تيمية في نقده لمراتب الإجماع.
(2)
اللحية دراسة حديثية فقهية ص (242).
واحدٌ منها؟! فكيف بها وقد اجتمعت؟! والاعتراض الصحيح: أن يأتي بمن خالف من السلف قبل حكاية ابن حزم للاتفاق، وينقض الإجماع بالخلاف المحفوظ قبله، ولو بفعل واحد.
- و أما قصر دلالته على تحريم المُثلة فقط؛ فهذا لا يحتمله اللفظ: (اتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز
…
)، فهذا اعتراض مجرّد وتحكّم
(1)
، وكأن ابن حزم يرد عليه حين قال:(وكذلك الخليفة والفاضل والعالم) أي: لو تزينوا وتجملوا بحلق لحاهم فهي مُثلة محرمة، ومع تأويله البعيد للإجماع، مع امتناع التأويل والنسخ على الإجماع، فلو سلمنا بمراده فلن يُسلّم بالإجماع دليلاً، فالمناقشة معه في الأصل.
- ثم إن ابن حزم لم ينفرد بالإجماع، ولم ينفرد بذكره من المثلة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم روي عنه الاستنكار على المجوسي؛ حالق اللحية «من أمرك بهذا» ؟!، وروي عنه أن إعفاءها من الفطرة، ومخالف الفطرة لا يسلم من المثلة ونحوها، ونصَّ على أنها من المثلة غير واحد، فهي عندهم؛ كجبِّ الذكر
(2)
؛ وكحلق المرأة لرأسها، كما
(1)
لأنه حكى الإجماع على قضيتين (مثلة) و (لاتجوز)، فحصر نقاشه في أحدهما تحكم.
(2)
قال الحليمي الشافعي في المنهاج في شعب الإيمان (3/ 79): (وأما حلق اللحية فهجنة وشهرة وتشبه بالنساء، فهو كجبّ الذكر)، وقال الشنقيطي في الأضواء (4/ 92):(إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم- والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء، حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر، والأنثى، وهو اللحية. وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق، وأحسنهم صورة. والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها، ليس فيهم حالق).
قال ابن تيمية: (فأما حلقها؛ فمثل حلق المرأة رأسها وأشد؛ لأنه من المثلة المنهي عنها، وهي محرمة)
(1)
، وقد روي في الحديث:«من مَثَّل بالشَّعر، فليس له عند اللهِ خلاقٌ»
(2)
، قال ابن الأثير:(مُثْلَة الشَّعَر: حَلْقُه منَ الخدُود، وقيلَ: نتفُه أو تغييره بالسَّواد)
(3)
، وقال القرطبي:(وأما حلق اللحية فتشويه ومثلة، لا ينبغي لعاقل أن يفعلها بنفسه)
(4)
.
- أما قول ابن الهمام: (لم يبحه أحد)؛ فإن المشهور المتبادر من هذه العبارة هو التحريم، وبذلك تتابع نقل الحنفية عن ابن الهمام، ولم يفهم الحنفية إلا تحريم الحلق، ولئن سُلّم أن ذلك فيه احتمال بأنه أراد الكراهة التنزيهية، فماذا سيقول بقول النفرواي:(لاشك في حرمته عند جميع الأئمة)؟!
- أما القول بأن إطباق السلف على إعفاء اللحية وعدم حلقها؛ لأنهم لم يحتاجوا إلى الحلق، وأن الإعفاء من عادتهم!؛ فأين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية؟! فامتثال الأمر هو الظن بالسلف، وهذا فيه حسن ظنٍّ بهم، ولضعف هذه المناقشة قال د. صالح الفوزان:(تعليل ساقط، يكفي سقوطه عن رده)
(5)
.
- أما الخلاف في حلق اللحية؛ فلا يُسلّم به عند غير متأخري
(1)
شرح العمدة-كتاب الطهارة- (1/ 236)
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (10977)، وهو ضعيف؛ في إسناده حجاج بن نصير، ضعّفه الجمهور، وروي مرسلاً عن طاوس من وجه آخر عند ابن أبي شيبة (28639) بلفظ:«من مثَّل بالشعر فليس منا» ، وبوّب عليه ابن أبي شيبة:(من كره حلق الرأس في العقوبة).
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 294).
(4)
الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص (444).
(5)
"الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام" ص (21).
الشافعية، وأحسبه مخالفاً لمنصوص إمامهم، ومسبوقاً بالإجماع، وهذا البيان المختصر لذلك:
- أما المالكية؛ فلم يثبت هذا الوجه في شيء من كتبهم، بل المعتمد عندهم هو تحريم حلق اللحية
(1)
، بل قال النفراوي المالكي:(لاشك في حرمته عند جميع الأئمة)
(2)
.
- وقد اعتمد المعترض
(3)
في إثبات الخلاف عند المالكية على قول القاضي عياض (ت 544): (وكُرِه قَصُّها وحلقُها وتحريقُها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك)
(4)
، وهذا فيه قرينة تدل على التحريم، وهو قوله:(يذم فاعل ذلك) والمكروه لا يذم فاعله، والكراهة تطلق ويراد بها التحريم خاصة عند المتقدمين، و القاضي عياض يستعملها بما هو مجمع على تحريمه، مثل قوله عن نظر النساء للرجال:(إنما يكره لهنَّ من النظر إلى الرجال ما يكره للرجال فيهن من تحديق النظر؛ لتأمل المحاسن، والالْتِذَاذِ بذلك)
(5)
، والإجماع على تحريم نظر المرأة للرجل بشهوة
(6)
.
(1)
يقول الحطاب في مواهب الجليل (1/ 216): (وحلق اللحية لا يجوز، وكذلك الشارب، وهو مُثلة وبدعة، ويؤدب من حلق لحيته أو شاربه إلا أن يريد الإحرام بالحج ويخشى طول شاربه)، وانظر: حاشية العدوي (2/ 446)، حاشية الدسوقي (1/ 90)، وكلهم متفقون على التحريم؛ لا يذكرون قولاً ولا رواية ولا وجهاً ولا احتمالاً بالكراهة.
(2)
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 306).
(3)
أقصد به الجديع في جميع المواضع، وهو معترض على تحريم الحلق، وإن لم يعترض بالخلاف على الإجماع مباشرة.
(4)
إكمال المعلم (2/ 63).
(5)
المرجع السابق (3/ 309).
(6)
قال النووي في شرح مسلم (6/ 184): (وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي؛ فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق).
- وأما مذهب الشافعية؛ فمنصوص الشافعي هو التحريم
(1)
، وقد اعترض ابن الرفعة (ت 710)
(2)
على من يقول بالكراهة، بأن ذلك مخالف لمنصوص الشافعي في الأم
(3)
.
- وصرَّح بالتحريم جماعة من متقدمي الشافعية، ومنهم: القفال الشاشي (ت 365)
(4)
، والحليمي (ت 403)
(5)
، والماوردي (ت 450)
(6)
، حتى قال الغزالي (ت 505): (وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض
…
الخامس: نتفها أو نتف بعضها
…
أما نتفها في أول النبات تشبها بالمرد فمن المنكرات الكبار؛ فإن اللحية زينة الرجال)
(7)
، وفي النص قيود مهمة فقوله:(بعضها أشد من بعض) يدل على أنها ليست في درجة واحدة؛ فقد تكون كراهتها للتنزيه،
(1)
قال في الأم (6/ 88): (ولو حلقه حلّاق فنبت شعره كما كان، أو أجود، لم يكن عليه شيء، والحِلَاق ليس بجناية؛ لأن فيه نسكاً في الرأس وليس فيه كثير ألم، وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألم ولا ذهاب شعر؛ لأنه يُستخلف، ولو استخلف الشعر ناقصاً، أو لم يستخلف كانت فيه حكومة)، وسياق كلام الشافعي في الجناية وأرشها، وأن حلق الرأس واللحية ليس فيه أرش؛ لعدم الألم بالحلق؛ ولأنه ينبت مكانه، ثم خص شعر الرأس بمعنى، وهو كون حلقه من النسك؛ فليست جناية يحصل بها ضرر أو تشويه، ونبّه على أن حلق اللحية لايجوز في الأصل، ولكنه يتكلم على وجوب الأرش من عدمه.
(2)
قال السيوطي عنه في حسن المحاضرة (1/ 320): (واحد مصر، وثالث الشيخين: الرافعي والنووي: في الاعتماد عليه في الترجيح
…
ولا يُعلم في الشافعية مطلقاً بعد الرافعي من يساويه؛ كان أعجوبة في استحضار كلام الأصحاب؛ لا سيما من غير مظانه، وأعجوبة في معرفة نصوص الشافعي، وأعجوبة في قوة التخريج).
(3)
انظر: تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي (9/ 376).
(4)
قال في محاسن الشريعة ص 239: (و لا يجوز حلق اللحية؛ لما فيه من التشويه، ومعاني المثلة).
(5)
قال في المنهاج في شعب الإيمان (3/ 79): (لا يحل لأحد أن يحلق لحيته أو حاجبيه).
(6)
قال في الحاوي الكبير (13/ 426) -في سياق التعزير-: (ويجوز أن يُحلق شعر رأسه، ولا يجوز أن يُحلق شعر لحيته).
(7)
إحياء علوم الدين (1/ 143 - 144).
أو للتحريم، فلما قال في نتف اللحية:(من المنكرات الكبار) علم أن كراهتها تحريمية، ولعله من هذا النص وبعده حصل الخُلف في مذهب الشافعي، وبيان ذلك باختصار:
- أن النووي (ت 676) ذكر في روضة الطالبين كلام الغزالي مختصراً، فقال: (ذكر الغزالي وغيره، في اللحية عشر خصال مكروهة
…
)
(1)
، فلم يذكر أن بعضها أشد من بعض، ولا أن نتف اللحية من المنكرات الكبار، وقد ذكر ذلك أيضاً في المجموع و اختصره، لكنه لما ذكر نتف اللحية وتخفيفها بالموسى، قال:(وهذه الخصلة من أقبحها)
(2)
، ومن نصوص النووي التي أطلق فيها الكراهة، قوله: (ويكره تنقية شيب، وأخذ من حاجب ولحية
…
وحلقها ونتفها لاسيما أول طلوعها، وحفها، وحلق رأس المرأة)
(3)
.
- ونقل الإسنوي عن الرافعي: (ذكر الرافعي في اللحية عشر خصال مكروهة
…
ونتفها أول طلوعها إيثاراً للمردة وحسن الصورة)
(4)
، والظاهر أن النص المنقول واحد يختصره بعضهم، ولعل لفظ الكراهة فيه هي سبب الإشكال.
- ثم أنتقل بعد ذلك إلى مانقله ابن حجر الهيتمي، بقوله: (قال
(1)
روضة الطالبين (3/ 234).
(2)
المجموع (1/ 291).
(3)
التحقيق ص (51)، والتحقيق لم يُكمل تأليفه، ومطبوع إلى باب صلاة المسافر، والتحقيق هو المقدم من كتب النووي لتتبعه فيه، قال ابن حجر الهيتمي:(الغالب تقديم ما هو متتبع فيه كالتحقيق، فالمجموع، فالتنقيح، ثم ما هو مختصر فيه كالروضة، فالمنهاج ونحو فتاواه، فشرح مسلم فتصحيح التنبيه). تحفة المحتاج (1/ 39).
(4)
المهمات في شرح الروضة والرافعي (9/ 55)، وعلى أن النص محتمل فقد رده الإسنوي بقوله: (وما ذكره من الكراهة مردود بنص الشافعي
…
وإزالة الرجل لشعر لحيته قريب من إزالة المرأة لشعر حواجبها).
الشيخان: يكره حلق اللحية، واعترضه ابن الرفعة في حاشية الكافية؛ بأن الشافعي -رضي الله تعالى عنه- نص في الأم على التحريم)
(1)
، والمقصود بالشيخين: الرافعي (ت 623)، والنووي (ت 676) والمعتمد عند متأخري الشافعية هو ما اتفق عليه الشيخان
(2)
، ولكن ذلك مخالف لمنصوص الشافعي كما ذكر ابن الرفعة وهو (ثالث الشيخين، وأعجوبة في معرفة نصوص الشافعي) كما قال السيوطي
(3)
، إضافة إلى أن الكراهة التنزيهية غير صريحة في كلامهما، وخاصة النووي؛ حيث يقول عن تخفيف اللحية بالموسى:(وهذه الخصلة من أقبحها) وفي الأصل الذي نقل عنه النووي قال الغزالي: (من المنكرات الكبار)، فلا نستطيع أن ننسب للنووي مخالفة الإجماع أو مخالفة نص الشافعي، وكذلك الرافعي، ومع عدم صراحة المنقول عنهما على التحريم فإنه مخالف للمنصوص عن الشافعي والمتقدمين من أصحابه قبل الشيخين.
- ثم اشتهر القول بالكراهة بعد ذلك عند الشافعية، حتى قال ابن الملقن (ت 804) عندما حكى قول الحليمي الشافعي وتحريمه لحلق اللحية:(وماذكره في حق اللحية حسن، وإن كان المعروف في المذهب الكراهة)
(4)
، إلى أن صرّح الرملي الكبير (ت 957) بضعف
(1)
نقله عن الهيتمي: ابن قاسم العبادي والشرواني في حاشيتهما على تحفة المحتاج للهيتمي، بقولهما: (قال في شرح العباب
…
الخ) (9/ 376)، وكلام الهيتمي المنقول هو من شرحه على العباب المسمى:(الإيعاب في شرح العباب) ولم أقف عليه إلا مخطوطاً غير كامل، في مخطوطات جامعة الملك سعود.
(2)
انظر: تحفة المحتاج (1/ 39)، إعانة الطالبين (4/ 267).
(3)
"حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"(1/ 320).
(4)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 711 - 712).
القول بالتحريم، وصرّح ابن حجر الهيتمي (ت 974) بأن التحريم خلاف المعتمد
(1)
.
- لكنه لم يزل جماعة من متأخري الشافعية على التصريح بالتحريم
(2)
، وصوّب الأذرعي (ت 783) التحريم بقوله:(الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها كما يفعله القلندرية)
(3)
، ورد الإسنوي القول بالكراهة حين قال:(ما ذكره من الكراهة مردود بنص الشافعي)
(4)
، وصرّح الشيخان:(بأن نص الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع)
(5)
.
- والخلاصة: أن مذهب الشافعي هو التحريم، واشتهر عند متأخري الشافعية الكراهة، وأول من نُقل عنه القول بالكراهة الرافعي (ت 623)، وهو غير صريح في التحريم، خاصة وأن فيه اختصاراً، وعلى أبعد التقادير وأنه صرّح بعدم التحريم، فإن هذا اجتهاد مذهبي بين مقلدة الشافعي في منصوصه ومفهومه وقواعد المذهب، وليس اجتهاداً في نصوص الشريعة، أو عن دليل شرعي (وإنما يعد في الخلاف: الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة)
(6)
، وعلى فرض أنه مجتهد اجتهاداً مطلقاً فإن بينه وبين الإجماع
(1)
انظر: تحفة المحتاج (9/ 376)، قال الرملي في حاشيته على أسنى المطالب (1/ 551):(فقول الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته، ولا حاجبيه ضعيف).
(2)
انظر: فتح المعين بشرح قرة العين ص (305).
(3)
تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي (9/ 376 - 377).
(4)
المهمات في شرح الروضة والرافعي (9/ 56)، ويقصد بكلامه الرافعي.
(5)
هذا النص ورد في استشكالٍ أُورد على الرملي؛ شهاب الدين في فتاويه التي جمعها ابنه شمس الدين (4/ 263): (سئل: عما إذا خالف نص الشافعي الجديد ما عليه الشيخان فما المعمول به؟ إن قلتم: النص فما بال علماء عصرنا ينكرون على من خالف كلام الشيخين؟ أو ما عليه الشيخان فقد صرّحا بأن نص الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع، وكيف يتركانه ويذكران كلام الأصحاب).
(6)
الموافقات (5/ 139).
المنقول بالتحريم مفاوز تقارب القرنين من الزمان، فهو محجوج بالإجماع قبله.
- وأما مذهب الحنابلة؛ فهو تحريم حلق اللحية بلا شك، قال السفّاريني:(والمعتمد في المذهب حرمة حلق اللحية)
(1)
؛ ولم يأتِ المعترض بنصٍّ واحد عن الحنابلة فيه تجويز الحلق، وقد ذكر المُعترض قول ابن مفلح:(وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب)
(2)
، بما يوهم القارئ أن مراد ابن مفلح في اللحية وعدم تحريم حلقها غفلة أو تدليساً
(3)
، وابن مفلح إنما قال ذلك في الشارب وسياق الكلام في الشارب
(4)
، وقد ذكر حكم اللحية وتحريم حلقها قبل ذلك، وفي عبارة ابن مفلح مايرد وهمه حين قال:(وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب) فالذي استحبّه الحنابلة وغيرهم ولم يوجبوه وحكي إجماعاً هو الأخذ من الشارب، وقد سبق في تحرير محل الشذوذ.
- أما قول ابن مفلح في الآداب: (ويسن أن يعفي لحيته)
(5)
؛ فليس مراده تجويز الحلق؛ لأن معنى الإعفاء الترك أو التكثير ولذلك قال
(1)
غذاء الألباب (1/ 433)، وتتمة كلامه:(قال في الإقناع: ويحرم حلقها. وكذا في شرح المنتهى وغيرهما. قال في الفروع: ويحرم حلقها ذكره شيخنا. انتهى. وذكره، أي: التحريم، في الإنصاف، ولم يحْكِ فيه خلافاً).
(2)
الفروع (1/ 151).
(3)
انظر: اللحية دراسة حديثية فقهية ص (239)، وقال:(فالجاري على طريقتهم القول بالتحريم، لكنهم مع ذلك لم يقولوا به، إلا ماحكاه عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "ويحرم حلقها")!!.
(4)
حيث قال في السباق: (ويحف شاربه)، وفي اللحاق: (وعن زيد بن أرقم مرفوعاً: «من لم يأخذ شاربه فليس منا» .
(5)
الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 329)
بعدها: (وقيل: قدر قبضة، وله أخذ ما زاد عنها وتركه، نص عليه. وقيل: تركه أولى)؛ فلا تعارض بين سنية الإعفاء، وتحريم الحلق، وهم يجمعون بينهما، كقوله في الإقناع: (ويُسن
…
إعفاء اللحية ويحرم حلقها)
(1)
، وقال في دليل الطالب: (يُسن
…
إعفاء اللحية، وحرم حلقها ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها)
(2)
.
- فإذا قالوا: يسن الإعفاء فهو في الإعفاء المطلق، أما مطلق الإعفاء؛ فهو واجب؛ بدليل تحريمهم للحلق في ذات السياق، وأختم بهذا السياق الحنبلي الذي يجمع الشتات:(وسن إعفاء اللِّحية بألا يأخذ منها شْيئاً، قال في المذهب: ما لم يستهجن طولها. ويحرم حلقها، ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة مِنْهَا)
(3)
.
- والخلاصة: أن حلق اللحية ليس فيه خلاف عند الحنابلة وأنه محرم، وهو الموافق للإجماع، ولم يأت المعترض إلا بمُجملات تردها المحكمات من نصوصهم، وعندما يقولون: إن التحريم ذكره ابن تيمية، فلا يراد أنهم يختلفون في ذلك، ولذلك لم يَحْكِ ابن مفلح في "الفروع" ولا المرداوي في "تصحيح الفروع" و"الإنصاف" قولاً ولا روايةً ولا وجهاً يخالف التحريم عند ذكره عن الشيخ، بل لم يتعقبه أحد من الحنابلة.
المسألة الثانية: أدلة
(4)
القائلين بجواز حلق اللحية:
استدل أصحاب هذا القول:
- بـ (أن أمر اللباس والهيئات الشخصية ومنها: حلق اللحية من
(1)
الإقناع (1/ 20).
(2)
دليل الطالب لنيل المطالب ص (10).
(3)
كشف المخدرات (1/ 56).
(4)
تسميتها أدلة من باب التجوّز، وإلا فلا يوجد في الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها شيء مما ذكروا، وأبرز ما ذكروه هو الاعتراضات على الأدلة وقد سبقت، وأكثر من اعترض عليها فيما وقفت عليه هو عبدالله الجديع، وقد أطال في ذلك حتى يصل لهذه الحقيقة التي فيها إزراء واحتقار لطريقة جميع العلماء، وتعظيم لطريقته ومسلكه حين قال ص (192):(ولا ينقضي العجب هنا ممن يريد أن يجعل من الأمر بإعفاء اللحية عباده محضة، ملغياً ما اتفقت على ذكره جميع الأحاديث الثابتة في اللحية، فذلك من الخروج عن طريق الفقه، وعمل ببعض الدليل، وإلغاء لسائره، وهو منهج مختلّ لا يصلح أن يوصف حتى بالجمود على النص؛ لأن الجمود لا يلغي صاحبه دلالة شيء من ألفاظ الخبر، فمن يصير إلى هذه المنهجية ضل طريق أهل الفقه والنظر، كما ضلّ طريق أهل الظاهر والأثر) انتهى، وقارن بين هذا الأسلوب وأسلوبه في مقدمة كتابه ص (7) ومما قاله:(ولست أريد منك أن تنتهي إلى ما انتهيت إليه، ولكني أردت أن أطلعك على نظر قد تكون عنه غافلاً، كما أردت أن تعترف بحقي في الرأي كما تراه لنفسك، إذ نستقى جميعاً من معين واحد).
العادات التي ينبغي أن ينزل المرء فيها إلى استحسان البيئة)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن جعل اللحية من العادات من المُحدثات، و لم أقف على ذلك عند الفقهاء، (وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة)
(2)
.
- وعلى فرض التسليم بأنها من العادات، وترجع إلى العرف، فإن ذلك (يحتاج إلى قيد، وهو: بشرط أن يكون عُرفاً غير مخالف للمأمور به في الشرع؛ فإن الأعراف في اللباس والهيئات الشخصية حين تأتي مخالفة للأمر الشرعي تكون فاسدة يجب تغييرها)
(3)
.
(1)
فتاوى محمود شلتوت ص (229)، وانظر: مجلة المنار (22/ 429)، وقد صرّحا بأن اللحية من العادات.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 56)، وقد ذكر اللحية من أمور الفطرة العشرة ثم قال مانقلته.
(3)
مابين القوسين هذا نص كلام عبدالله الجديع في تعقيبه على كلام شلتوت في كتابه: "اللحية دراسة حديثية فقهية" ص (217)، وما أجمله من كلام لولا أن الكتاب كثير مما فيه يخالفه! وقد أتى بما ينقضه قبل ذلك؛ حين حشد من الأدلة والدلالات ليجعل الأمر باللحية معلقاً بمخالفة غير المسلمين، وأن مخالفة غير المسلمين غير واجبة مالم يوجد القصد، وأن ذلك مرتبط بقوة المسلمين وضعفهم، وبعد ذكره لتمسك بعض المسلمين بالأمور الظاهرة، وحرصهم على التميز عن الكافرين، قال بعد ذلك، وليته لم يقل، ص (212):(وما هكذا والله دين الإسلام الذي أراده الله للأمم كافة، فكم يجني كثير من أهل هذا الدين على دينهم، حين يحتكرونه بعاداتهم وأعرافهم، أو يختزلون شرائعه وتعاليمه في قشور ومظاهر) انتهى، ومع نكارة قوله:(قشور ومظاهر) فهي كلمة مبتدعة يراد بها التقليل من المظاهر الشرعية.
- وإعفاء اللحية من الفطرة التي لا تتغير، وإن تغيرت البلاد والأعراف، و (إعفاء اللحية مطلوب شرعاً؛ اتفاقاً للأحاديث الواردة بذلك)
(1)
، و لا يصح معارضة الشرع بالعادة:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}
(2)
.
- والقول بأن اللحية من العادات أو أنها من المظاهر التي لا توجبها الشريعة، هذا منقوض بنصوص الوعيد للمسبل ولابس الحرير، واللعن للنامصة والواصلة، وتحريم استعمال آنية الذهب والفضة، ويلزم منه ما هو فاسد؛ كما لو اعتاد الناس ما خالف الفطرة من المظاهر؛ كالعري، وإطالة الأظفار، ونحوهما، فهل حسنهما متروك للناس، (بدعوى أن العصر الذي هم فيه يستذوقها ويستحسنها وأنها من المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام بل يتركها لأذواقهم)
(3)
؟! هذا لازم لهم.
- لا شك أن مثل هذه الدعاوي العصرانية، والمسالك العلمانية، تأباها نصوص الشريعة، التي جاءت لتحكم على الظاهر والباطن، والدقيق والجليل، حتى قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال سلمان: أجل «لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم»
(4)
، وهذا مثالٌ فيه اهتمام الشريعة بأمرٍ معتاد ظاهري متناهٍ في الخصوصية، فأمرت فيه ونهت، وما فوقه من باب أولى.
(1)
الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 224).
(2)
من الآية (170) من سورة البقرة.
(3)
تمام المنة ص (83).
(4)
أخرجه مسلم (262).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، الذي يظهر أن نسبة القول بجواز حلق اللحية إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته النصَّ والإجماع الصحيح على التحريم، ولم يثبت بعد البحث مخالف يصح أن يُخرم به الإجماع الذي حكاه ابن حزم (ت 456) وتتابع العلماء على حكايته، وأول من حُكي عنه القول بالكراهة الرافعي الشافعي (ت 623)، ومع عدم صراحته عنه، فهو مسبوق بالإجماع، و مخالف لمنصوص الشافعي، وللمتقدمين من أصحابه، وهو اجتهاد في المذهب، وليس في الأدلة، وهذا التقليد ولو تقدم لا يُخرم بمثله الإجماع الذي هو اتفاق المجتهدين، أما القول بأن اللحية من العادات؛ فهو قول معاصر مُحدث لم أقف عليه عند أحد من العلماء قبل عصرنا، والله أعلم.
يقول ابن المبارك:
(ما رأيت أحداً ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة)، قال الذهبي:(ما كان عليه من العلم ونشره أفضل من نوافل الصوم والصلاة لمن أراد به الله).
سير أعلام النبلاء (8/ 97)
المبحث العاشر: وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل).
الشاطبي رحمه الله الموافقات (2/ 289)
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
القبضة لغة: مصدر قبض يقبض قبضاً، والقبض ضد البسط
(1)
، ومنه قول الله:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}
(2)
، وقوله:{صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}
(3)
، ويدل القبض: على التجمع في الشيء، وعلى شيء مأخوذ، و على جمع الكف على الشيء
(4)
، (والقبضة: ما أخذت بجمع كفك كله، فإذا كان بأصابعك فهي القبصة)
(5)
، ومنه قوله تعالى:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}
(6)
، أي: (أخذت ملء كفي من تُرَاب موطئ فرس جِبْرِيل عليه السلام
(7)
.
والقبضة في الاصطلاح لا تختلف عن القبضة في اللغة وقرّبها بعضهم بأنها: (أربع أصابع مضمومة)
(8)
، والقبضة من المقادير التي يُقدّر بها في مواضع يسيرة في الفقه منها: الأخذ من اللحية، وفي بعض مواضع الإطعام كما روي عن عمر، وابنه عبدالله رضي الله عنهم في صيد المحرم للجراد بأن فيه:(قبضة من طعام)
(9)
.
(1)
انظر: مقاييس اللغة (5/ 50).
(2)
من الآية (245) من سورة البقرة.
(3)
من الآية (19) من سورة الملك.
(4)
انظر: مقاييس اللغة (5/ 50)، لسان العرب (7/ 213 - 214).
(5)
لسان العرب (7/ 214).
(6)
من الآية (96) من سورة طه.
(7)
غريب القرآن للسجستاني ص (376 - 377).
(8)
حاشية ابن عابدين (1/ 196)، وانظر: أسنى المطالب (4/ 202)، وجاء في كشاف القناع (1/ 44):(والشبر ثلاث قبضات، والقبضة أربع أصابع).
(9)
انظر: موطأ مالك (235)، مصنف عبدالرزاق (8244)، مصنف ابن أبي شيبة (15627)، السنن الكبرى للبيهقي (10012)، وجاء عن عمر رضي الله عنه أن فيها تمرة، قال ابن قدامة في المغني (3/ 441): (وعن أحمد: يتصدق بتمرة عن الجرادة. وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر. وقال ابن عباس: قبضة من طعام
…
والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير، وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء).
والمقصود بقدر القبضة في اللحية: (هو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد على قبضته قطعه)
(1)
.
ومما هو مهمٌ في فهم المسألة: معرفة مذاهب العلماء، وتحرير قول الأئمة الأربعة خاصة، في اللحية والسنة فيها، وحكم الأخذ منها، وهذا هو البيان المختصر لها:
- السنة في اللحية عند الحنفية: ألا تجاوز القبضة فما زاد عن قبضته سُنّ له جزه، قال ابن عابدين:(قال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر والقص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة قال: وبه نأخذ)
(2)
، وعند الحنفية قول غير مشهور بوجوب الأخذ تأوله بعضهم؛ لإشكاله على المذهب، قال ابن نجيم:(وقد صرح في النهاية [شرح الهداية] بوجوب قطع ما زاد على القُبضة بالضم، ومقتضاه الإثم بتركه)
(3)
، فقال بعضهم: أن المقصود (يحب) وليس (يجب)، ورُد ذلك بأنه خلاف الظاهر والمعهود في مثله استمعال (يستحب)، وقال الحصكفي:(إلا أن يُحمل الوجوب على الثبوت)
(4)
، قال ابن عابدين: (يؤيده أن ما استدل به صاحب
(1)
الاختيار لتعليل المختار (4/ 176) وقال: (لأن اللحية زينة وكثرتها من كمال الزينة وطولها الفاحش خلاف السنة).
(2)
منحة الخالق (3/ 12)، وانظر: البناية شرح الهداية (2/ 74)، رد المحتار (2/ 214).
(3)
البحر الرائق (2/ 303)، وصاحب النهاية هو السغناقي، ومن تلاميذ السغناقي الكاكي، انظر: العناية شرح الهداية (1/ 6)، وقد تابع الكاكي شيخه في هذه المسألة وقال بالوجوب. انظر: البناية شرح الهداية (4/ 27).
(4)
الدر المختار ص (148).
النهاية لا يدل على الوجوب
…
ولذا حذف الزيلعي لفظ يجب وقال وما زاد يقص)
(1)
، وقال في منحة الخالق:(وظاهر قول الهداية: (ولا يفعل لتطويل اللحية إلخ) يفيد الكراهة)
(2)
.
- وعند المالكية: لابأس بالأخذ من اللحية إذا طالت، بحيث خرجت عن المعتاد لغالب الناس، فيقتصر على ما تحسن به الهيئة، قال ابن عبدالبر:(روى أصبغ عن بن القاسم قال سمعت مالكاً يقول: لا بأس أن يأخذ ما تطاير من اللحية وشذ، وقال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً فإن من اللحى ما تطول؟ قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر)
(3)
، قال النفراوي:(وحكم الأخذ الندب ف (لا بأس) هنا لما هو خير من غيره، والمعروف لا حد للمأخوذ)
(4)
، هذا هو المعروف عند المالكية، قال العدوي:(ومقابل المعروف ما قاله الباجي: إنه يقص ما زاد على القبضة)
(5)
.
- وعند الشافعية: أن الأخذ المستحب إنما هو في النسك لمن لم يكن له شعر، قال الشافعي:(وإن كان الرجل أصلع، ولا شعر على رأسه، أو محلوقاً، أمرّ الموسى على رأسه، وأحب إليّ لو أخذ من لحيته، وشاربيه حتى يضع من شعره شيئاً لله)
(6)
، قال النووي:(ونقله الأصحاب واتفقوا عليه)
(7)
، واعترض على ذلك بعضهم
(8)
.
(1)
حاشية ابن عابدين (2/ 418).
(2)
(2/ 302).
(3)
الاستذكار (8/ 429).
(4)
الفواكه الدواني (2/ 307).
(5)
حاشية العدوي (2/ 445).
(6)
الأم (2/ 232).
(7)
المجموع (8/ 201).
(8)
قال الماوردي في الحاوي (4/ 163): (ويستحب أن يأخذ من شعر لحيته وشاربه، وإن لم يجب عليه
…
ومنع ابن داود من ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية) انتهى، أي منع من الاستحباب ولا يلزم منه التحريم، و (ابن داود) أظنه محمد بن داود الصيدلاني الشافعي (ت 427) وله شرح على مختصر المزني، ولعل النقل الآتي فيه زيادة إيضاح قال الجويني في نهاية المطلب (4/ 306):(ونقل الصيدلاني عن الشافعي مع استحباب ما ذكرنا، استحبابَ الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ).
- وأما في غير النسك؛ فلم أقف على نص فيه للشافعي، ونقل عنه العراقي بأنه خلاف الأولى
(1)
، وصرّح النووي ومن بعده من الشافعية بالكراهة، قال النووي:(الصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً بل يتركها على حالها كيف كانت)
(2)
، قال الهيتمي:(ظاهر كلام أئمتنا كراهة الأخذ منها مطلقاً)
(3)
.
- وأما الحنابلة: فيجوز عندهم الأخذ مما زاد عن القبضة قال المرداوي: (ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة. ونصه: لا بأس بأخذ ذلك. وأخذ ما تحت حلقه. وقال في المستوعب: وتركه أولى. وقيل: يكره)
(4)
، والكراهة وجه في المذهب.
- أما نص أحمد فكما نقله المرداوي وغيره، و كما قال الخلال:(أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق [بن هانئ] حدثهم قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها ومن تحت حلقه)
(5)
، وروى نحو ذلك
(1)
قال في طرح التثريب (2/ 83): (الأولى ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء، وهو قول الشافعي وأصحابه).
(2)
المرجع السابق (1/ 290).
(3)
تحفة المحتاج (9/ 376).
(4)
الإنصاف (1/ 121).
(5)
الترجل ص (114)، والوقوف والترجل ص (129)، وفي النقل عن ابن هانئ بعض الاضطراب في حكايته فعل أحمد:(ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها)، فهي هكذا في رواية الخلال في المطبوع من الجامع لعلوم الإمام أحمد، وكذلك في كتاب الترجل بتحقيق: د. عبدالله بن محمد المطلق، وكتاب الوقوف والترجل بتحقيق: سيد كسروي حسن، يرويها الخلال عن محمد بن أبي هارون عن ابن هانئ، لكن في مسائل ابن هانئ المطبوعة بتحقيق الشاويش (2/ 152) برواية جعفر بن محمد القافلاني عن ابن هانئ:(ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه)، وهي التي نقلها ابن مفلح في الفروع (1/ 151) بقوله:(وأخذ أحمد من حاجبيه وعارضيه، ونقله ابن هانئ)، وتبعه من بعده من الأصحاب على هذا النقل ولم يفرعوا على هذا النقل حكماً، كما فرّعوا على الأخذ من القبضة؛ ولابد من الترجيح بين الروايتين لاتحاد المخرج والألفاظ، والذي ظهر لي ترجيح رواية محمد بن أبي هارون (من طولها)؛ لأن هذا هو الموافق للسياق حيث سئل أحمد عن الأخذ من عرضها؟ فأجاب بالأخذ من الطول، وحكى فعل ابن عمر في الروايات الأخرى وأخذه من القبضة، والأصل عدم مخالفة فعله لقوله، وعدم مخالفة ما يرويه عن ابن عمر، ولأن الأخذ من القبضة هو الذي فرّع عليه الأصحاب حكماً ونصوا على حكمه ولم أقف عند الحنابلة على حكم الأخذ من العارض، ولذلك أثبت في الجامع لعلوم الإمام أحمد الذي جمعه خالد الرباط وسيد عزت (13/ 380) لفظة:(طولها) مع أنه ينقل من مسائل ابن هانئ المفردة وهي التي رجعت إليها، فقد يكون ذلك خطأ وهذا أقوى، أو ترجيحاً منهم، أو أنهم وقفوا على نسخة فيها ذلك لكنهم لم يبينوا!، وهنا احتمال آخر للمنقول، وهو أن الإمام أحمد يرخّص في الأخذ مما زاد عن القبضة سواء كانت من الطول أو العرض وهذا يجمع بين الروايات، وإن كان لفظه هو في الترخيص من الأخذ من الطول، وأما الأخذ من العارض فهي محتملة من فعله، والفعل لا يصح نسبة المذهب فيه للإمام، وخاصة إذا تعارض مع نصه، والله أعلم.
حرب عن الإمام أحمد
(1)
.
- وخالفهما حنبل بن إسحاق فأغرب، حيث روى الخلال قال:(أخبرني عبد الله بن حنبل قال حدثني أبي قال: قال أبو عبد الله: ويأخذ من عارضيه، ولا يأخذ من الطول. وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، لا بأس بذلك)
(2)
، وهذا مخالف للثابت عن ابن عمر- وعن أحمد، وحنبل بن إسحاق
(1)
أخرجه الخلال قال: (أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه .. ). الترجل ص (113)، الوقوف والترجل ص (129).
(2)
الوقوف والترجل ص (130).
قال عنه الذهبي: (له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب)
(1)
، ولذلك قال الألباني عن هذه الرواية:(هذه الرواية شاذة؛ إن لم أقل: منكرة عن الإمام أحمد)
(2)
.
- ويمكن تلخيص المذاهب السابقة بما قاله القاضي عياض: (وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرةُ في تعظيمها وتحليتها؛ كما تُكره في قصِّها وجزّها، وقد اختلف السلف هل لذلك حَدٌّ؟ فمنهم: من لم يُحدِّد إلا أنه لم يتركها لحدِّ الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًا، ومنهم: من حدَّد، فما زاد على القبضةِ فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا فى حج أو عُمرة)
(3)
.
وبعد: فهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
نُقل الإجماع على تحريم حلق اللحية
(4)
.
2.
وقيل عن الأخذ من اللحية بما دون القبضة: (لم يبحه أحد)
(5)
.
3.
واتفقوا على عدم تحريم أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية وخاصة
(1)
سير أعلام النبلاء (13/ 52).
(2)
السلسلة الضعيفة (13/ 439).
(3)
إكمال المعلم (2/ 64)، ونقله النووي في شرح مسلم (2/ 64).
(4)
انظر: مراتب الإجماع ص (157)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 299).
(5)
فتح القدير للكمال ابن الهمام (2/ 347)، ونقله غير واحد من الحنفية كابن عابدين في حاشيته (2/ 418)، ونُقل قوله:(لم يبحه أحد) في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 225) عن ابن عابدين، في سياق الاستدلال بالإجماع، وفيه بعض التأمل؛ لما سبق من تقرير مذهب المالكية.
في النسك
(1)
، وذهب بعض المعاصرين إلى تحريم الأخذ من اللحية مطلقاً
(2)
، وذهب بعض المعاصرين في مقابله إلى وجوب أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، وعدّ تركها من البدع، وهذا هو الرأي المراد بحثه وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
هذا هو القدر المشترك، فقد صحت روايات بعضها مقيدة في النسك ومحددة في القبضة، وبعضها مطلقة غير محددة ولا مقيدة، ولم ينكر على ذلك منهم أحد فكان إجماعاً على عدم التحريم.
(2)
أول من وقفت عليه يصرّح بالتحريم هو الشيخ محمد بن إبراهيم كما في فتاويه (2/ 53)، قال علوي السقاف في مقال له بعنوان:"مسألة الأخذ من اللحية وتقصيرها" منشور في موقعه الدرر السنية: (أقوال أهل العلم في جواز الأخذ مما زاد عن القبضة كثيرة جداً، ولم يأت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين -فيما أعلم- تحريم ذلك)، وقال الدبيان في "موسوعة أحكام الطهارة" (3/ 397):(والقول بتحريم أخذ مازاد على القبضة قول شاذ، لا أعلم أحداً من السلف قال به)، وقال عبدالله الجديع في كتابه "اللحية دراسة حديثية فقهية" ص (308):(ولم أجد من ذكر منع مسها وتهذيبها في رأي من سلف، سوى شيء شاذ محدث في زماننا)، وقد سبق قريباً في تحرير رأي الشافعية، رأي محمد بن داود الصيدلاني الشافعي الذي ظن بعضهم أنه الظاهري، وأنه سلف لمن قال بالمنع، وهو إنما كان في سياق استحباب الأخذ من اللحية في النسك فمنع هو من الاستحباب.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
القائل بهذا الرأي من المعاصرين هو:
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420)
(1)
رحمه الله.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
- هو ما قاله تلميذه أبو إسحاق الحويني
(2)
: (فتوى وجوب الأخذ
(1)
ذكر في سلسلة الأحاديث الضعيفة (5/ 5): (أن إعفاءها مطلقاً هو من قبيل ما سماه الإمام الشاطبي بـ "البدع الإضافية") انتهى، وقد فصل ذلك في مواضع من هذه السلسلة منها:(5/ 375)، وله تصريح بوجوب أخذ مازاد عن القبضة كما في تسجيل صوتي منشور في الشبكة بعنوان: (حكم الأخذ من اللحية
…
نقاش علمي مع أبي إسحاق الحويني)، قال في الدقيقة (41: 20): (القول بالوجوب هو نتيجة هذا التسلسل العلمي المنطقي)، ولما قال أبو إسحاق الحويني في بداية النقاش عند الدقيقة (33):(بالنسبة لفتوى وجوب الأخذ من اللحية لكم)، قال الألباني:(نعم)، ثم قال أبو إسحاق:(هل يوجد في السلف من قال بوجوب أخذ ما زاد عن القبضة)، والنقاش حول هذه القضية، وهو نقاش ماتع مفيد، علماً أن الألباني في هذه المناقشة لم يذكر له سلف في هذا الرأي.
(2)
اشتُهر بهذا اللقب وهو من لقّب نفسه بذلك، والحويني نسبة إلى قريته (حوين) التي ولد فيها، واسمه:(حجازي بن محمد شريف) ولد عام (1375)، وبعد طلبه للعلم لزم دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي لأربع سنوات، ورحل للشيخ الألباني عام (1407)، وله قصة وحكاية في بداية ارتباطه بالألباني حكاها في كتابه تنبيه الهاجد (1/ 8_20) قال في بداية القصة: (فما أعلم أحداً -بعد والديّ- له عليّ يد مثل شيخنا الإمام، حسنة الأيام، وريحانة بلاد الشام، أبي عبدالرحمن محمد بن ناصر الدين الألباني
…
إذ الإطلاع على كتبه كان فاتحة الخير العميم لي)، وقد أثنى عليه الشيخ الألباني رحمه الله في عدد من المواضع كما في السلسلة الصحيحة (2/ 720): فقد وصفه بأنه من الأقوياء في علم الحديث، وقال (5/ 585): (ونبه على ذلك صديقنا الفاضل أبو إسحاق الحويني في كتابه القيم
…
)، وقال أيضا في السلسلة الصحيحة (7/ 1677):(أعترف له بالفضل في هذا العلم).
من اللحية مما يجب تركه من فتاوى الشيخ
…
وهذه الفتيا بوجوب الأخذ ليس له فيها سلف يقيناً، إنما الاقتصار على القول بأن ابن عمر كان يأخذ وهذا فعل لا قول
…
وأنا -وهذا مبلغ علمي- أرى أن هذه الفتوى شاذة)
(1)
.
(1)
هذا الكلام منشور في الشبكة في تسجيل صوتي بعنوان: (أسئلة وأجوبة] 2 [) لأبي إسحاق الحويني، عند الدقيقة (35: 15) منه، واللقاء موجود في موقع إسلام ويب، صوتياً ومفرغاً.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بمشروعية الأخذ مطلقاً أو في النسك خاصة ولم يروا وجوب الأخذ:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: «كنا نُعفي السِّبالَ إلا في حجٍّ أو عمرة»
(1)
، وقال عطاء بن أبي رباح (ت 114)
(2)
: (كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)
(3)
، وقال إبراهيم النخعي
(1)
أخرجه أبوداود (4201)، قال: حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير، عن جابر به، وسكت عنه أبوداود، قال ابن حجر في الفتح (10/ 350): (وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة
…
السِبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سَبَلة بفتحتين: وهي ما طال من شعر اللحية)، وقد تعقبه الحويني في بذل الإحسان (1/ 172) بقوله:(كذا قال! وأبو الزبير مدلسٌ، وقد عنعنه)، فأشار إلى إعلاله بعنعنة أبي الزبير، وهذا غير مقبول حتى يثبت تدليسه هنا أو مخالفته أو نكارة ماذكره، وقد أخرج مسلم في صحيحه لأبي الزبير المكي عن جابر أكثر من (130) حديثاً كلها معنعنة وأكثرها من غير طريق الليث، ولم يتعقبه الدارقطني في "الإلزامات والتتبع" إلا في حديث واحد ولم يذكر في إعلاله العنعنة أو التدليس.
(2)
عطاء بن أبي رباح واسم أبيه (أسلم القرشي مولاهم)، أحد الأعلام من التابعين في مكة، لقي جمعاً من الصحابة وروى عنهم، وكان من أعلم الناس بالمناسك، ومن المحدثين الفقهاء، ونُقل في صفته أنه كان مفلفل الشعر، أسود أفطس أشل أعور ثم عمي، ومما يدل على كثرة من لقيه من الصحابة قوله كما في سنن البيهقي الكبرى (2455): (أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد
…
)، غير الذين لقيهم في الحج وقد حج أكثر من سبعين حجة، ومات سنة (114) هـ رحمه الله. انظر: طبقات الفقهاء ص (69)، سير أعلام النبلاء (5/ 78).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (25482) وسنده صحيح يرويه غندر عن شعبة عن منصور سمعت عطاء به.
(ت 196)
(1)
: (كانوا يطيبون لحاهم، ويأخذون من عوارضها)
(2)
، وروي عن الحسن البصري (ت 110) قوله:(كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها)
(3)
.
وجه الاستدلال:
- أن قول جابر رضي الله عنه: (كنا) يحتمل الرفع إن أضيف لزمن النبوة، أو الإجماع لإضافته للصحابة، يؤكد ذلك حكاية عطاء والحسن عنهم أيضاً بقولهما:(كانوا)، ثم حكاية النخعي عن التابعين بقوله (كانوا)، وقد قال النخعي:(ماقلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه)
(4)
، ولعله يريد أصحاب ابن مسعود
(5)
، والأخذ (في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج؛ لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج؛ لأنهم أمروا أن
(1)
إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق، رأى عائشة وهو صغير، ولقي كبار التابعين، وكان بصيراً بعلم ابن مسعود رضي الله عنه لايخرج عن قوله وقول أصحابه كما ذكر ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6/ 146)، و ابن مسعود لايكاد يخالف عمر رضي الله عنه كما نقله ابن القيم في الإعلام (1/ 16)، مات سنة 96 هـ. انظر: السير (4/ 520)، الكاشف (1/ 227).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (25490)، والبيهقي في شعب الإيمان (6018) من طريق سفيان عن منصور عن إبراهيم به، وسنده صحيح، وقد صحح الألباني أثر عطاء وأثر النخعي كما في السلسلة الضعيفة (13/ 440 - 441).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (25484) من طريق عائذ بن حبيب عن أشعث عن الحسن به، وسنده ضعيف بسبب أشعث بن سوار لكن ضعفه غير شديد، قال الذهبي في السير (6/ 276):(كان أحد العلماء، على لين فيه)، وفي تاريخ الإسلام (3/ 617): (قال الحافظ ابن عدي: لم أجد له حديثا منكراً
…
قال الدارقطني: يعتبر به)، فيشهد له ماتقدم.
(4)
نقله ابن رجب في الفتح (8/ 330) بقوله: (روى ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من طريق الأعمش، عن النخعي).
(5)
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 485): (وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله).
يحلقوا أو يقصروا إذا حلوا محل حجهم ما نهوا عنه في حجهم)
(1)
.
2/ ومن أدلتهم: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً، حتى يحج)
(2)
، و (كان إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه)
(3)
، وأنَّ أباهريرة رضي الله عنه:(كان يقبض على لحيته، ثم يأخذ ما فضل عن القبضة)
(4)
.
وجه الاستدلال:
- أنَّ ابن عمر روى حديث: «أعفوا اللّحى»
(5)
، وأبا هريرة روى حديث:«أرخوا اللحى»
(6)
رضي الله عنهم، ومع ذلك صحّ عنهما الأخذ من
(1)
الاستذكار (4/ 317).
(2)
أخرجه مالك (186) عن نافع عن ابن عمر به، وسنده غاية في الصحة، وقال مروان المقفع:(رأيت ابن عمر يقبض على لحيته، فيقطع ما زاد على الكف). أخرجه أبوداود (2357) والنسائي في الكبرى (3315)، والحاكم (1536) وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين)، ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه غيرهم.
(3)
أخرجه مالك في موطئه (187) عن نافع عن ابن عمر به، وعلّقه البخاري بصيغة الجزم (7/ 160).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (25481)، (25488)، والخلال في الترجل ص (115)، من طريق شعبة، عن عمرو بن أيوب، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة به، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (13/ 440):(وإسناده صحيح على شرط مسلم)، قلت: لكنّ عمرو بن أيوب لم يخرج له الإمام مسلم، وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 224)، وابن قطلوبغا في "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة"(7/ 332)، ومما يقوي توثيقه= رواية شعبة بن الحجاج عنه قال السخاوي في فتح المغيث (4/ 353):(كان متثبتاً لا يكاد يروي إلا عن ثقة، وكذا كان مالك)، قال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي ص (99):(الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم)، وأما شعبة و أبو زرعة بن عمرو فمن رجال الصحيحين.
(5)
أخرجه البخاري (5893) ومسلم (259).
(6)
أخرجه مسلم (260).
اللحية فدلّ على أن ذلك لا ينافي الإعفاء والإرخاء، قال ابن عبدالبر عن فعل ابن عمر:(وهو أعلم بمعنى ما روى)
(1)
، خاصة وأن المعنى يحتمل ذلك قال الطوفي:(إذا كان الخبر يحتمل وجوهاً، وتتجه له محامل، ففسره الراوي على بعضها; كان ما فسره الراوي عليه مقدماً على باقيها)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أنه مخالف للأحاديث المرفوعة، وهو اجتهاد من الصحابي، والعبرة بما روى لا بما رأى، (وقد اتفق المسلمون على أنه لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس ولا فعله)
(3)
.
- و النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعفوا» فعمّم ولم يستثن حالاً من حال
(4)
، ويؤيده حال النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يثبت (عن النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من اللحية لا قولاً
…
ولا فعلاً)
(5)
.
- ثم إن (ابن عمر لم يكن يفعل هذا دائماً، وإنما يفعله إذا حلّ من الإحرام)
(6)
، و (لعلّ ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك
…
ليدخل في عموم قوله تعالى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} )
(7)
.
(1)
الاستذكار (4/ 317).
(2)
شرح مختصر الروضة (3/ 711).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة 2 (4/ 49)، وانظر: تحفة الأحوذي (8/ 39)، مجموع فتاوى ابن باز (8/ 370).
(4)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 128).
(5)
السلسلة الضعيفة (5/ 375).
(6)
فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة 2 (4/ 49).
(7)
نقله عن الكرماني ثم أجاب عنه في الفتح (10/ 350)، والآية من الآية (27) من سورة الفتح.
وأجيب عن هذه المناقشة بأمور:
- أن نصب الخلاف بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته خطأ
(1)
؛ فإن معنى الإعفاء هو التكثير
(2)
، كما قال الله:{حَتَّى عَفَوْا}
(3)
، (أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم)
(4)
، وهذا مافهمه الصحابة والتابعون وأكثر العلماء، قال ابن حجر:(ذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا وهو الصواب)
(5)
، أما قَصْرُ معنى الإعفاء على الترك مطلقاً، فهذا لم يفهمه السلف فيما وقفت عليه، وهم أعلم بالشرع واللغة، وأكثر ديناً وورعاً.
- أما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن شيئاً في الإعفاء؛ فهذا يعود إلى معنى الإعفاء، وسبق أن معنى الإعفاء هو التكثير فلاحاجة للإستثناء، أما من رأى أن الإعفاء بمعنى الترك مطلقاً؛ ففهم منه كراهة الأخذ في غير النسك
(6)
، وفهم بعض المعاصرين التحريم مطلقاً.
- والحق أن الإجمال في معنى الإعفاء، وتردد المعنى بين التكثير والترك، مفسّر بفهم السلف له بما يوافق اللغة، فارتفعت دلالة الإعفاء على التكثير من الظن إلى القطع.
- أما الاستدلال بعدم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا ممتنع حتى يثبت أن لحية
(1)
السلسلة الضعيفة (11/ 785)، وقال في (14/ 342):(وليس هذا من باب العبرة بروايته لا برأيه؛ كما توهم البعض، فإن هذا فيما إذا كان رأيه مصادماً لروايته، وليس الأمر كذلك هنا كما لا يخفى على أهل العلم والنهى).
(2)
قال أبوطالب المكي في قوت القلوب (2/ 242): (قوله: «وأعفوا اللحى» يعني كثروها، ومن هذا قول الله عز وجل {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا).
(3)
من الآية (95) من سورة الأعراف.
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 450).
(5)
فتح الباري (10/ 351).
(6)
كما فهم ذلك النووي ومن تأخر من الشافعية، وسبق بيان مذهبهم.
النبي صلى الله عليه وسلم كانت طويلة ثم لم يأخذ منها، وقد صحَّ أنه صلى الله عليه وسلم:«كان كثير شعر اللحية»
(1)
، قال أبو العباس القرطبي:(ولا يفهم من هذا أنه كان طويلها، لما صحَّ أنه كان كثَّ اللحية أي كثير شعرها، غير طويلة)
(2)
، ولا يبعُد أن يكون ابن عمر أخذ من لحيته ليشابه لحية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما عُرف عنه من المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى في بعض الهيئات والأفعال العادية.
- أما تخصيص فعل ابن عمر رضي الله عنه بالنسك، فهذا يُسلّم به في حالة، وهي إن أريد به أن للنسك خصوصية، ومعنى للتعبد في الأخذ؛ لأنه من قضاء التفث
(3)
، وبذلك فسّره ابن عباس رضي الله عنه في معنى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
(4)
قال: (التّفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب والأظفار واللحية)
(5)
.
- أما إن أريد به أنَّ ابن عمر رضي الله عنه كان لا يأخذ إلا في النسك؛ فلا
(1)
أخرجه مسلم (2344).
(2)
المفهم (6/ 135).
(3)
قال الزجاج في معاني القرآن (3/ 423): (التفث في التفسير جاء، وأهل اللغة لا يعرفون إلا من التفسير)، قال ابن العربي في أحكام القرآن (3/ 284):(هذه لفظة غريبة عربية لم يجد أهل المعرفة فيها شعراً، ولا أحاطوا بها خبراً، وتكلم السلف عليها)، قال الراغب في المفردات ص (165) في معنى الآية:(أي: يزيلوا وسخهم. يقال: قضى الشيء يقضي: إذا قطعه وأزاله. وأصل التَّفْث: وسخ الظفر وغير ذلك، مما شابه أن يزال عن البدن. قال أعرابيّ: ما أتْفَثَكَ وأدرنك)، قال ابن عاشور في تفسيره (17/ 249):(وعندي: أن فعل {لْيَقْضُوا} ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج، وليس وسخاً ولا ظفراً ولا شعراً. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً) انتهى، وكون التفث من المناسك هو ما اختاره ابن جرير وسيأتي.
(4)
من الآية (29) من سورة الحج، قال الطبري في تفسيره (16/ 525):(يقول تعالى ذكره: ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم: من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بالبيت).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (15673)، وابن جرير في تفسيره (16/ 526)، من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس به، وسنده جيد، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة (5/ 377)، وهذا لفظ ابن أبي شيبة، ولفظ الطبري فيه:(والأخذ من العارضين)، وروي نحوه عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي.
يسلّم بذلك، ويردّه أن ابن عمر كان يمسك عن الأخذ للإحرام فقط، فهو يأخذ قبل شوال للعيد، وبعد الحج قضاء للتفث، ودليله ما في الموطأ أن عبدالله بن عمر:(كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً، حتى يحج)
(1)
، قال الزرقاني:(طلباً لمزيد الشعث المطلوب في الحج)
(2)
، قال ابن حجر:(الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه)
(3)
.
- ومما يدل على أن وصف النسك غير مؤثر، ما أخرجه مالك بلاغاً:(أنَّ سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجلمين فقص شاربه. وأخذ من لحيته. قبل أن يركب. وقبل أن يهل محرماً)
(4)
.
- وعلى فرض التخصيص بالنسك؛ فإنه إذا شرع في النسك فلا يكون محرماً في غيره كحلق الرأس أو تقصيره.
- ثم إن سُلّم خصوصية ذلك بالنسك من فعل ابن عمر رضي الله عنه، فلا يُسلّم به من فعل أبي هريرة رضي الله عنه، ولا من قول الحسن والنخعي
(1)
أخرجه مالك (186) عن نافع عن ابن عمر به، وسنده صحيح.
(2)
شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 526)، قال ابن عبدالبر في الاستذكار (4/ 316):(إنما كان ابن عمر يفعل ذلك -والله أعلم- لأنه كان يتمتع بالعمرة إلى الحج فيهدي، ومن أهدى أو ضحى لم يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي عند طائفة من أهل العلم)
(3)
فتح الباري (10/ 350).
(4)
أخرجه مالك (190)، والجَلَمان: شفرتا الجلم وهو الذي يجز به الشعر والصوف. انظر: لسان العرب (12/ 102).
عن الصحابة والتابعين، ولا من فتوى بعض التابعين كما قال الحسن، وابن سيرين:(لا بأس به أن تأخذ من طول لحيتك)
(1)
، قال ابن عبدالبر:(هذا ابن عمر روى «أعفوا اللحى» وفهم المعنى فكان يفعل ما وصفنا، وقال به جماعة من العلماء في الحج وغير الحج)
(2)
.
- وهذا هو المشهور عند الفقهاء في مختلف الأمصار، فعطاء في مكة، وطاووس في اليمن، والحسن في البصرة، وإبراهيم النخعي في الكوفة
(3)
، ثم الأئمة الأربعة من بعدهم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بوجوب الأخذ من القبضة:
استدل الألباني على الوجوب بقاعدة هي:
(أن الفرد من أفراد العموم إذا لم يجر العمل به، دليل على أنه غير مراد منه)
(4)
، أي: من العموم، فالأخذ من اللحية كان معروفاً عند السلف، وفيهم من روى الأمر بالإعفاء، فدل على أن عموم الترك، أو الترك المطلق للحية غير مراد شرعاً
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (25489).
(2)
التمهيد (24/ 146).
(3)
قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، صار الفقه في البلدان كلها إلى الموالي، فكان فقيه مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل المدينة غير مدافع سعيد بن المسيب، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني). أخبار مكة للفاكهي (2/ 343).
(4)
السلسلة الضعيفة (5/ 380)، وقال: (وما أكثر البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ "البدع الإضافية" إلا من هذا
القبيل).
(5)
قال في السلسلة الضعيفة (5/ 125): (السنة التي جرى عليها السلف من الصحابة وغيرهم إعفاؤها، إلا ما زاد على القبضة؛ فتقص الزيادة)، وقال أيضاً (11/ 786):(دون مخالف له منهم فيما علمنا)، وقال أيضاً (13/ 342):(فإن هؤلاء يعلمون أن العمل بالعمومات التي لم يجر العمل بها على عمومها هو أصل كل بدعة في الدين، وليس هنا تفصيل القول في ذلك، فحسبنا أن نذكر بقول العلماء وفي مثل هذا المجال؛ "لو كان خيراً؛ لسبقونا إليه").
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن هذه القاعدة: (قاعدة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً
…
، ودليل بطلانها عدم اطرادها في غالب فروعها بالإجماع، فإن من فروعها أن المتصدق مثلاً، يجب ألا يتعدى مقدار ما أنفقه أحد من السلف، ولا يقول بهذا أحد من المسلمين)
(1)
.
- و (باستقراء سير السلف الصالح، وُجد من وصف بعضهم إطلاق لحاهم، ومنها الطويل وما يتجاوز السرة)
(2)
.
- أن التبديع فيما لم يكن فيه تعبد ظاهر محل نظر وتأمل، وإعفاء اللحية عبادة، أما الأخذ من اللحية فالأقرب أنه من باب التحسين وعدم الشهرة
(3)
، ومن أطال لحيته فليس ذلك من فعله، فكيف يأثم فيما ليس له فيه فعل.
- ثم إن التأثيم ووجوب الأخذ ليس له فيه سلف
(4)
، وقد قال عطاء:
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية (4/ 49).
(2)
المرجع السابق (4/ 50)، وقد جاء في وصف عثمان رضي الله عنه أنه كان:(طويل اللحية، حسن الوجه) أخرجه الطبراني في الكبير (92)، والحاكم في المستدرك (4532)، والبيهقي في شعب الإيمان (5778)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 80):(وإسناده حسن)، قلت: ومداره على عبدالله بن لهيعة وفيه ضعف.
(3)
قال ابن حجر عن ابن عمر: (كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه)، وقال القرطبي في "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام" ص (444):(ينبغي أن توفر توفيراً لا يخل بمروءة الإنسان، ولا يخرج عن عادة الناس وخير الأمور أوساطها).
(4)
كما سبق عن الشيخ الحويني في: (أسئلة وأجوبة] 2 [)، واللقاء موجود في موقع إسلام ويب، صوتياً ومفرغاً.
(كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)
(1)
، وقال الحسن:(كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها)
(2)
، فهم يحبون الإعفاء، و لا يوجبون الأخذ، ولايحرمون الترك بل يحبونه، و (يرخصون) فيما زاد عن القبضة بالأخذ مما يدل على أن ذلك رخصة جائزة لا واجبة، وقد كان طاوس:(يأخذ من لحيته، ولا يوجبه)
(3)
.
- ثم إن المنقول عنهم هي الأفعال، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا تدل على الوجوب إلا في حالات خاصة، فكيف بمن دونه، ولاشك أن أفعالهم لا تدل على الوجوب.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن تخصيص النص العام بعمل الصحابة مما هو معروف، وبخاصة إذا انتشر ولم يوجد مخالف أو كان هو الراوي، و (الخلاف فيه بما إذا لم يعلم انتشاره، وإن انتشر وانقرض العصر كان التخصيص به؛ لأنه إما إجماع أو حجة)
(4)
.
- هذا إذا لم نقل بأن جواز الأخذ إجماع من السلف، وليس هذا ببعيد مع قول عدد من التابعين:(كانوا)، وقد قال القرافي عن الإجماع:(وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس)
(5)
، وهذا التقديم باعتبار أن النص يقبل النسخ والتأويل بخلاف الإجماع،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (25482).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (25484).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (25483).
(4)
تشنيف المسامع بجمع الجوامع (2/ 791)، وانظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة ص (84)، البحر المحيط (4/ 527).
(5)
شرح تنقيح الفصول ص (337).
ولأن دلالة الإجماع قطعية بخلاف القياس، وإن لم نجزم بالإجماع، لكنه مشهور فيهم قطعاً دون نكير.
- أما القول بأنه: (ليس له فيه سلف)، فقد يقال: بأن الطبري، وقول عند الحنفية، لهم مايحتمل موافقة الشيخ فيه، وذلك أن العيني نقل عن الطبري أنه قال:(أن اللحية محظور إعفاؤها، وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده)
(1)
.
- قلت: هذا النص يحتمل أنه منقول بالمعنى، خاصة وأن ابن حجر نقل عن الطبري هذا الكلام، والغالب أن العيني نقل عن ابن حجر كما هو مشهور، ومما قاله ابن حجر في مذهب الطبري:(واختار قول عطاء وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به)
(2)
، وقول عطاء نقله العيني وليس فيه الوجوب
(3)
، وسبق نقل حكاية عطاء عن الصحابة:(كانوا يحبون).
- وأما الحنفية فالقول بوجوب الأخذ عندهم متأخر وغير مشهور وليس هو المعتمد، ولذلك قال ابن عابدين: (ما استدل به صاحب النهاية لا يدل على الوجوب
…
ولذا حذف الزيلعي لفظ "يجب" وقال: وما زاد يقص)
(4)
، وقال في منحة الخالق:(وظاهر قول الهداية: "ولا يفعل لتطويل اللحية إلخ" يفيد الكراهة)
(5)
.
(1)
عمدة القاري (22/ 46).
(2)
فتح الباري (10/ 350).
(3)
قال العيني نقلاً عن الطبري: (وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشَّيء القليل من طولها وعرضها إِذا كبرت وعلت؛ كراهة الشهرة) عمدة القاري (22/ 47).
(4)
حاشية ابن عابدين (2/ 418).
(5)
(2/ 302).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بوجوب الأخذ من اللحية إلى الشذوذ صحيحة؛ لأنه ليس له فيه سلف، و لا يعرف في الأقوال المعتبرة المنسوبة إلى الأئمة من يقول به، ولم أقف على من سبق الألباني إليه، ويقابل القول بوجوب الأخذ مما زاد عن القبضة، القول بتحريم الأخذ مطلقاً، وهو غير بعيد عنه في الشذوذ، وأول من وقفت عليه يصرّح بالتحريم هو الشيخ محمد بن إبراهيم (ت 1389)، ولا يستقيم القول بالتحريم مع فعل الصحابة والسلف بالأخذ، واشتهار ذلك، وعدم وجود المُنكر، وهو من الأمور الظاهرة غير الخفية.
وأعدل الأقوال فيما يظهر، هو القول باستحباب الترك مطلقاً، كما حكاه عطاء عن الصحابة بسند صحيح:(كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)
(1)
، واستحباب الأخذ مما زاد عن القبضة في النسك، كما فسّره ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، وأن الأخذ من التفث المأمور به، ويؤيده فعل ابن عمر رضي الله عنهم، والله أعلم.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (25482) من طريق غندر، عن شعبة، عن منصور، سمعت عطاء به.
قال ابن سعدي رحمه الله: (من خواص الأقوال الضعيفة: وجود التناقض فيها، وعدم انبنائها على أصل متفق عليه، وصعوبة فهمها، وصعوبة العمل بها أو تعذّره
…
)، وقال:(من أعظم البراهين على صحة القول انضباطه، ويسر معرفته والعمل به).
المناظرات الفقهية رحمه الله ص (40)، ص (118)
الفصل الثاني: الآراء في الصلاة
، وفيه سبعة عشر مبحثاً:
المبحث الأول: القول ببدعية النقاب
المبحث الثاني: جواز التصوير المجسم لما له نفس
المبحث الثالث: سنية وضع اليدين على الصدر في الصلاة
المبحث الرابع: بدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع
المبحث الخامس: بطلان صلاة من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
المبحث السادس: وجوب متابعة الإمام إذا زاد في صلاته وعلم المأموم بالزيادة
المبحث السابع: وجوب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو
المبحث الثامن: لا إعادة للصلاة لمتعمد تركها في وقتها
المبحث التاسع: بدعية الذكر بالسبحة
المبحث العاشر: عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح
المبحث الحادي عشر: صحة صلاة التطوع من المضطجع القادر على القيام
المبحث الثاني عشر: صحة إمامة المرأة للرجال
المبحث الثالث عشر: جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المشقة مطلقاً
المبحث الرابع عشر: وجوب صلاة الجمعة على المسافر
المبحث الخامس عشر: سقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد إذا وافقت يوم الجمعة
المبحث السادس عشر: مشروعية الاقتصار على خطبة واحدة في العيد
المبحث السابع عشر: جواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة
الفصل الثاني: الآراء في الصلاة
وفيه سبعة عشر مبحثاً:
المبحث الأول: القول ببدعية النقاب
.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم، فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به).
ابن رجب رحمه الله
بيان فضل علم السلف في مجموع رسائله (3/ 17)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
النقاب لغة: النّقب في الأصل يدل على فتحٍ في شيء
(1)
، والنِّقاب:(القناع على مارن الْأنف)
(2)
، و (إِذا أدْنت المرأةُ نقابها إلى عينيها فتلك الوصوصة
(3)
، فإن أنزلَته دون ذلك إلى المِحْجَر
(4)
فهو النِّقاب، فإنْ كان على طَرفِ الأنفِ فهو اللِّفام، فإنْ كان على الفم فهو اللِّثام)
(5)
، فالنقاب في اللغة على وجوه
(6)
.
أما الانتقاب في الاصطلاح: فهو تغطية الوجه بالنقاب
(7)
، بأن تغطي وجهها بالخمار وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما
(8)
.
والنقاب معروف في الإسلام، وكان المقصود به النظر إلى الطريق
(9)
، فلا يبدو من وجه المرأة إلا قدر الحاجة؛ للنظر دون توسّع بإظهار المحجر، أو الوجنة، وهذا وجه قول محمد بن سيرين: (النقاب
(1)
انظر: مقاييس اللغة (5/ 456).
(2)
المحكم والمحيط الأعظم (6/ 453).
(3)
(إذا ضاقَ ثُقْبَا البُرقع فهو وَصْوَاصٌ، وأصله من الوصْوَصة، وهو النظر في تغميض). التلخيص في معرفة أسماء الأشياء ص (151).
(4)
(ومحجر العين: ما دار بها وبدا من البرقع من جميع العين، وقيل: هو ما يظهر من نقاب المرأة، وعمامة الرجل إذا اعتم، وقيل: هو ما دار بالعين من العظم الذي في أسفل الجفن). لسان العرب (4/ 169).
(5)
نقله عن الفراء أبوعبيد القاسم بن سلّام في الغريب المصنف (2/ 414)، وانظر: لسان العرب (1/ 768).
(6)
انظر: تهذيب اللغة (9/ 160).
(7)
انظر: المصباح المنير (2/ 620).
(8)
مرعاة المفاتيح (9/ 342).
(9)
قال ابن تيمية في الفتاوى (15/ 371): (وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن، حتى لا يظهر إلا عيونهن؛ لأجل رؤية الطريق).
محدث)
(1)
، قال القاسم بن سلام (ت 224): (والذي أراد محمد فيما نرى والله أعلم أن يقول إن إبداءهن المحاجر محدث، وإنما كان النقاب لاحقاً بالعين، أو أن يبدوَ إحدى العينين والأخرى مستورة، عرفنا ذلك بحديث يحدثه هو عن عبيدة أنه سأله عن قوله عز وعلا:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
(2)
، قال: فقنَّع رأسه، وغطى وجهه، وأخرج إحدى عينيه، وقال: هكذا
(3)
…
وإنما قال هذا محمد؛ لأن الوصاوص، والبراقع كانت لباس النساء، ثم أحدثن النقاب بعد ذلك)
(4)
.
وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة)
(5)
، واستمر عمل المسلمات على ذلك دون نكير حتى قال أبو حيان (ت 745):(كذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة)
(6)
.
(1)
ذكره القاسم بن سلّام في غريب الحديث (4/ 463)، وتتابعت على ذكره كتب الغريب، وبعض كتب اللغة.
(2)
من الآية (59) من سورة الأحزاب.
(3)
فسّرها ابن عون أحد الرواة عن ابن سيرين بقوله: (قال ابن عون بردائه، فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريباً من حاجبه، أو على الحاجب). تفسير الطبري (19/ 181).
(4)
غريب الحديث (4/ 463 - 464)، وانظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 103)، وماذكره من الأثر عن عبيدة أخرجه ابن جرير في تفسيره (19/ 182) عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني.
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (19/ 181)، من طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس به، وفيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، وقد سبق الإشارة إليه في المبحث الثالث، وأنه مما احتُمل ذلك لكونه يحدث من صحيفة أخذها عن تلاميذ ابن عباس، كما قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (6/ 282):(واحتملنا حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان لم يلقه؛ لأنه عند أهل العلم بالأسانيد، إنما أخذ الكتاب الذي فيه هذه الأحاديث عن مجاهد، وعن عكرمة)، وفي البخاري من المعلقات عن ابن عباس منها عدد، قال ابن حجر في الفتح (8/ 439):(وقد اعتمد عليها في صحيحه هذا كثيراً، على ما بيناه في أماكنه).
(6)
البحر المحيط (8/ 504).
قال ابن تيمية: (وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن، وأيديهن)
(1)
.
والمقصود بالنقاب في مسألتنا هو المقابل لكشف الوجه
(2)
، وليس هو المقابل لتغطية الوجه، ولا ما قصده محمد بن سيرين من النقاب المُحدث الواسع الذي يبدي المحاجر.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
أجمع العلماء على أن المرأة لا تصلي وهي منتقبة، ولا
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 371).
(2)
ولذلك كان محمد الغزالي يقرر مسألة كشف الوجه ويقول: (وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوجوه سافرة في المواسم، والمساجد، والأسواق، فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها)، ثم ذكر الخطأ في إيجاب تغطية الوجه، ثم قال: (و عند التطبيق العملي لهذا اضطرت النساء لاصطناع البراقع، أو حجب أخرى على النصف الأدنى للوجه
…
ولاشك أن بعض النساء في الجاهلية، وعلى عهد الإسلام كن يغطين وجوههن مع بقاء العيون دون غطاء، وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات، فلا عبادة إلا بنص) انتهى، وكذلك د. محمد سيد طنطاوي ففي شهر شوال سنة (1430) هـ ضجّ العالم الإسلامي بهذا الخبر المؤلم:(شيخ الأزهر يجبر طالبة على خلع نقابها ويهدد بحظره)، وفي الخبر أنه قال:(النقاب مجرد عادة، ولا علاقة له بالدين لا من قريب، ولابعيد)، ويقول د. علي جمعة في فتوى له عن النقاب كما في كتابه "الدين والحياة" ص (99):(وزوجتي غير منتقبة لاهي، ولا بناتي)، وفي مقطع فيديو في الشبكة بعنوان:(علي جمعة مفتي الجمهورية يأمر زوجته، وأخته بخلع النقاب) يقول: (لما كانت زوجتي منتقبة، وأختي منتقبة، وكثير ممن حولي، أمرتهن أن يخلعن النقاب قديماً من أكثر من ثلاثين سنة
…
؛ لأننا في بلاد ليست هذه عادتها)، وهو يقول ما هو أبعد من ذلك بكثير من تشجيعه للسياحة في مصر ولو كانت سياحة شاطئية ونحوها، ويستشهد بمن كانوا يطوفون في البيت عراة وأنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم!! ويقول: (هذا التطرف قد نعيشه في زمن من الأزمان، فلابد علينا من أن نستوعب وأن نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
لازم السياحة تستمر)!
متبرقعة
(1)
، وأنها تكشف وجهها في الصلاة
(2)
.
2.
وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها فلا تغطيه، وعلى أنّ لها أن تسدل على وجهها شيئاً خفيفاً عن نظر الرجال
(3)
، وعلى كراهة النقاب والبرقع للمحرمة
(4)
.
3.
واتفقوا على أن ستر الوجه والكف واجب على أمهات المؤمنين
(5)
، وعلى أن جسد الحرة وشعرها عورة
(6)
، واتفقوا على
(1)
انظر: الاستذكار (2/ 201)، شرح ابن بطال على صحيح البخاري (2/ 35)، الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 121).
(2)
انظر: التمهيد (6/ 463)، المغني (1/ 430).
(3)
قال ابن عبدالبر في التمهيد (15/ 104 - 109): (وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها
…
وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها وهي محرمة إلا ما ذكرنا عن أسماء
…
وقد يحتمل أن يكون ما روي عن أسماء في ذلك، كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت: كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون، فإذا مر بنا راكب سدلنا الثوب من قبل رؤوسنا، وإذا جاوزنا الراكب رفعناه)، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 92):(وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال إليها، كنحو ما روي عن عائشة)، وقال ابن قدامة في المغني (3/ 301):(المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه. لا نعلم في هذا خلافاً، إلا ما روي عن أسماء، أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة. ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة، فلا يكون اختلافاً).
(4)
انظر: الإشراف (3/ 221)، الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 261)، المغني (3/ 301)، وحكاه ابن عبدالبر عن الجمهور من الصحابة والتابعين، ثم إجماع من بعدهم، فقال في التمهيد (15/ 107):(وعلى كراهية النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين، لم يختلفوا في كراهية الانتقاب، والتبرقع للمرأة المحرمة).
(5)
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (7/ 57): (ولا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين، الذى اختلف في ندب غيرهن إلى ستره).
(6)
حاشا وجهها ويدها، انظر: التمهيد (16/ 229)، مراتب الإجماع ص (29)، الإقناع (1/ 122).
عدم جواز كشفها لوجهها عند وجود الفتنة، أو فساد الزمان
(1)
، وجرى الإجماع العملي من المسلمات على الخروج من بيوتهن مغطيات لوجوههن، أو منتقبات و غير سافرات للوجوه
(2)
، و خالف بعض المعاصرين في مشروعية النقاب؛ فقال: إنه بدعة، أو قال: بعدم مشروعيته، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
وقد نقل في نيل الأوطار (6/ 137) عن ابن رسلان: (اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق)، وهذه بعض النقول في المذاهب الأربعة: قال ابن نجيم الحنفي البحر الرائق (1/ 284): (قال مشايخنا تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة)، وفي مجمع الأنهر (1/ 81):(وفي المنتقى تمنع الشابة عن كشف وجهها؛ لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد)، وقال الحطاب المالكي في مواهب الجليل (1/ 499):(واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين، قاله القاضي عبد الوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في شرح الرسالة، وهو ظاهر التوضيح، هذا ما يجب عليها)، ونقل الشربيني، والرملي، وغيرهما من الشافعية الإجماع على تحريم النظر إلى وجه وكف الأجنبية الحرة عند خوف الفتنة، قال القليوبي:(فيحرم عليهن الخروج سافرات الوجوه؛ لأنه سبب للحرام). "حاشيتا قليوبي وعميرة"(3/ 209)، قال الحصني الشافعي في كفاية الأخيار ص (93) في مكروهات الصلاة:(والمرأة متنقبة إلا أن تكون في مسجد وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر، فإن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد حرم عليها رفع النقاب)، ومثله في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 124)، قال المرداوي الحنبلي في الإنصاف (8/ 27) في حكم الأَمَة:(الصواب أن الجميلة تنتقب، وأنه يحرم النظر إليها، كما يحرم النظر إلى الحرة الأجنبية)، وأختم بفتوى أزهرية، وتصريح نجدي من معاصرين مما يؤكد ذلك، حيث يقول عطية صقر وهو من علماء الأزهر، عندما ذكر الخلاف في تغطية الوجه:(وكل هذا الخلاف ينتهي إذا كان وجه المرأة جميلاً تخشى منه الفتنة فيجب ستره)، وقال د. بكر أبوزيد في حراسة الفضيلة ص (83):(لم يقل أحد في الإسلام بجواز كشف الوجه واليدين عند وجود الفتنة ورقة الدين، وفساد الزمان، بل هم مجمعون على سترهما).
(2)
قال الغزالي في إحياء علوم الدين (2/ 47): (لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات)، قال ابن حجر في الفتح (9/ 324):(ولم تزل عادة النساء قديمًا وحديثًا يسترن وجوههن عن الأجانب)، وسيأتي بعض النقول عن غيره في أدلة القول الأول بإذن الله.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
- د. محمد سيد طنطاوي (ت 1431)
(1)
، و د. علي جمعة
(2)
،
(1)
له تقريران في المسألة: تقرير بالمشروعية في التفسير الوسيط (11/ 245) عند تفسير آية إدناء الجلباب فقال: (والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك اللائي في عصمتك، وقل لبناتك اللائي هن من نسلك، وقل لنساء المؤمنين كافة، قل لهن: إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن، فعليهن أن يسدلن الجلابيب عليهن، حتى يسترن أجسامهن ستراً تاماً، من رءوسهن إلى أقدامهن، زيادة في التستر والاحتشام، وبعداً عن مكان التهمة والريبة)، بل يرى أن ذلك يشمل الإماء، قال:(لتمشيه مع شريعة الإسلام التي تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف)، وقال في مقطع بعنوان:(رأي شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي في النقاب): (أنا شخصياً أرى بأن المرأة من حقّها أن تلبس النقاب كما شاءت في بيتها وفي الشارع
…
ولا يستطيع أحد يمنعها من ذلك لأنها هي سارت في طريق الكمال
…
وليس من حق أحد أن يمنعها)، وله تقرير بعدم المشروعية وتعدى ذلك للمنع فقال في مقطع بعنوان:(شيخ الأزهر في البيت بيتك حول النقاب) عند الدقيقة (1. 30): (النقاب عادة ولا علاقة له بالعبادة) وفي الدقيقة (4. 25): (وأتحداك أن تأتي برأي فقهي معتبر يقول بأن النقاب فريضة)، وقد سبق ذكر الخبر المفجع (شيخ الأزهر يجبر طالبة على خلع نقابها ويهدد بحظره)، وتهكمه وسخريته بالطالبة وجمالها!، وقد فعل ماهدد به من حظر النقاب في المعاهد الأزهرية النسائية والجامعات في شهر شوال (1430) هـ، ولذلك تفاصيل وردود فعل كثيرة.
(2)
له فتويان في المسألة: فتوى بالمشروعية كما في كتابه "الدين والحياة" ص (84): (النقاب فضل إن شاء الله، وفرض عند الشافعي)، وقال في مقطع بعنوان:(علي جمعة قبل المنصب: النقاب فرض) من الدقيقة (0. 47): (قضية النقاب يرى فرضيتها الإمام الشافعي، والإمام أبوحنيفة، والإمام أحمد بن حنبل، ولايرى فرضيتها الإمام مالك وحده
…
فالذي يدعي أن النقاب ليس من الشريعة البتة، وأنه عادة عثمانية هذا خرافة، النقاب موجود في عصر من أيام الصحابيات والنقاب موجود عبر التاريخ)، وله فتوى بعدم المشروعية وتبديع من تتعبد بذلك، فقال في كتابه "البيان القويم لتصحيح بعض المفاهيم" ص (136): (قضية الثياب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعادات القوم
…
غطاء المرأة وجهها مستغرب في مجتمعنا المعاصر
…
أما المجتمعات الأخرى التي يتناسب معها مذهب الحنابلة فلا بأس بأن تلتزم النساء فيها بهذا المذهب؛ لموافقته لعاداتها وعدم ارتباطه بتدين المرأة
…
كما نرى أن غطاء الوجه إذا كان علامة على التفريق بين الأمّة، أو شعاراً للتعبد والتدين، فإنه يخرج من حكم الندب أو الإباحة إلى البدعية، فيكون عندئذ بدعة)، ويقول في "الدين والحياة" ص (99):(لنفهم الدين كما فهمه الصحابة بدون تعقيد، وزوجتي غير منتقبة، لاهي ولا بناتي)، وسبق ذكر ذلك عنه.
و د. أحمد الطيب
(1)
.
(1)
قال في مقطع بعنوان: (النقاب عادة وليس عبادة) الدقيقة (0. 10) في لقاء صحفي: (نحن نفتي جميعاً بأن النقاب عادة وليس عبادة، وهذا ما تعلمناه، وهذا هو الموجود في فقه المذاهب الأربعة إلا رأياً في مذهب الحنابلة، فجأة مرة واحدة، وكأن بناتنا وأمهاتنا وزوجاتنا كن كافرات واليوم صحون وعلمن أنه لابد أن يلبسن النقاب حتى يكنّ مسلمات، هذا كلام مضحك
…
علماء الأزهر جميعاً، ومن هنا تبدو ضرورة أن يكون الأزهر هو المرجعية للمسلمين) انتهى، هكذا فرغته وهو متصل السياق، ولا أدري ما علاقة النقاب بالتكفير؟! وما علاقته بمرجعية الأزهر للمسلمين؟!
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما في المطلب الرابع.
3/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك:
- قال محمد إسماعيل المقدّم
(1)
: (فتيا شاذة)
(2)
، وقال:(دعوى فاسدة يغني فسادها عن إفسادها، وباطلة يغني بطلانها عن إبطالها)
(3)
.
- قال أبو إسحاق الحويني: (هذه الفتاوى سياسة مالها علاقة
(1)
ولد بالإسكندرية عام (1371 هـ) وهو طبيب وحاصل على ليسانس (بكالريوس) من كلية الشريعة بجامعة الأزهر، نشأ في جماعة أنصار السنة المحمدية وأسس المدرسة السلفية بالإسكندرية، وله العديد من المحاضرات والمؤلفات كعودة الحجاب، قال عنه الشيخ صالح آل الشيخ في تقديمه لكتاب "الرد العلمي على كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب":(وحق قولنا: إن فضيلة الأخ الشيخ محمد المقدم صار متخصصاً في مسائل الحجاب تخصصاً يكون معه قوله هو القول، ونظره هو النظر).
(2)
كما في كتابه: "الرد العلمي على كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ص (38).
(3)
المصدر السابق ص (8)، ويقصد بكلامه إسماعيل منصور مؤلف كتاب:(تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) الذي يقرر فيه: أن المنقبة عاصية آثمة، وأن المتبرجة أقل ابتلاء من المنقبة؛ لأنها تعلم أنها عاصية، بخلاف المنقبة فهي تظن أنها فاضلة فتتمادى وتتكبر!!، ويقرر بأن حديثه عن النقاب أولى من حديثه عن الحجاب؛ لأن النقاب مفسدة ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة!!، وغير ذلك من تقريراته، ولم أذكره مع القائلين بهذا الرأي من المعاصرين؛ لأنه ليس من أهل العلم بالشريعة يقول عنه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 336):(الدكتور إسماعيل منصور مؤلف الكتاب العجيب الذي أسماه: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب"!! الذي خالف فيه سبيل المؤمنين، وادعى فيه ادعاءات باطلة نسبها إلى الصحابة وغيرهم، وجهالات عجيبة حديثية وفقهية وغيرها).
بالدين
…
الذين يقولون إن النقاب بدعة هم المبتدعة حقاً، وهذا قول باطل)
(1)
.
- وقال مصطفى العدوي، عمن يقول إن النقاب ليس من الدين:(بحجة داحضة باطلة مفتراة على الله يقول فيها: إن النقاب ليس من الدين، و كذب وأثم)
(2)
.
- وقال د. علي جمعة: (الذي يدّعي أن النقاب ليس من الشريعة البتة، وأنه عادة عثمانية، هذا خرافة، النقاب موجود في عصر من أيام الصحابيات والنقاب موجود عبر التاريخ)
(3)
.
(1)
كما في مقطع بعنوان: (هل النقاب بدعة) عند الدقيقة: (1. 12)، وقول الشيخ سياسة له مايقويه وخاصة في مصر والحرب على الحجاب بما يسمى:(تحرير المرأة)، حتى ذكر بعض من يشرع للسفور: إن النقاب يستتر به بعض المجرمين والمطلوبين!! كما ذكره إسماعيل منصور في (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) الذي: (فجّر القضية في وقت استعرت فيه الحملة على "المنقبات"، فرجال الشرطة، يقفون ببوابات الجامعات للتصدي للمنقبات ومنعهن من الدخول، وساحات المحاكم مأهولة بقضية النقاب والمنقبات، والصحافة المغرضة تشن الحملة تلو الحملة على المنقبات). الرد العلمي على تذكير الأصحاب ص (217)، وماذكره كان سنة (1409)، وفي سنة (1430) لما أمر شيخ الأزهر طالبة بخلع نقابها، قال د. أحمد عبدالرحمن: (إن تصرف شيخ الأزهر يأتي في إطار رغبته مسايرة سياسات النظام الساعية إلى القضاء على المظاهر الإسلامية، والتيار الإسلامي عموماً، وفرض الأجندة العلمانية الغربية على المجتمع المصري المسلم
…
وتساءل قائلاً: لماذا لا يعتبر شيخ الأزهر والنظام ارتداء النقاب حرية شخصية للمرأة، مثلما أصبح السفور وكشف الرأس والصدر من باب الحرية الشخصية في ذلك النظام العلماني؟!). المنار المنيف في فتاوى علماء الأزهر الشريف ص (596).
(2)
مقطع بعنوان (رد الشيخ العدوي على طنطاوي
…
) الدقيقة (1. 40).
(3)
كما في مقطع بعنوان: (علي جمعة قبل المنصب: النقاب فرض) من الدقيقة (0. 47)، وقد خالف بعد ذلك فوصل به القول إلى تبديع من تتعبد بلبس النقاب، وقد قال عنه د. القرضاوي:(حينما عُيّن مفتيا أصابه ما أصابه من السعار، فأفتى بفتاوى شاذة، لا تصدر عن تحقيق، ولا علم دقيق، ولا دين وثيق). هكذا قال د. القرضاوي في مقال له بعنوان: (ردود علمية على الشيخ أو الجنزال علي جمعة!) منشور في موقعه الرسمي.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بمشروعية النقاب:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ ماجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه: « .. ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين»
(1)
.
وجه الاستدلال:
- كما قال ابن تيمية: (هذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن)
(2)
، قال الألباني: (فإنه يدل على إقرار تنقب المرأة غير
(1)
أخرجه البخاري (1838) في (باب ماينهى من الطيب للمحرم والمحرمة)، وهي لفظة زائدة على الحديث المتفق عليه:«لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين، فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس» ، وقد اختُلف في رفع ووقف الزيادة، وأشار الإمام البخاري إلى هذا الاختلاف، وذكر أن رواية مالك وعبيدالله بن عمر عن نافع على وقف الزيادة، وقد أخرج أصل الحديث في (باب مالايلبس المحرم من الثياب) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر دون هذه الزيادة، وأخرجه في ثمانية مواضع أخرى دون الزيادة، وأخرج مسلم (1177) أصل الحديث دون هذه الزيادة، وأخرجها مالك في موطئه (1/ 328) عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، قال أبوداود في سننه (3/ 229):(وكذلك رواه عبيدُ الله بن عمر ومالكٌ وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً)، قال الدارقطني في العلل (13/ 42):(رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفاً، وهو الصحيح)، وقال البيهقي في "الكبرى" (5/ 74):(والمحفوظ موقوف)، أما الحكم فقال الترمذي في جامعه (3/ 185):(والعمل عليه عند أهل العلم).
(2)
مجموع الفتاوى (15/ 371).
المحرمة، وهذا ما كان عليه كثير من الصحابيات الفاضلات؛ فإنهن كن ينتقبن، ويسترن وجوههن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، ولو كان النقاب بدعة، أو غير مشروع لنهيت عنه المرأة مطلقاً.
- وليس فيه دلالة على أن النساء إذا لم ينتقبن أن يكشفن الوجوه
(2)
، كما أن المحرم لما نهي عن السراويلات والقميص لم يفهم منه أن يكشف عورته، وبذلك يفهم معنى قولهم: إن وجه المرأة في الإحرام كبدن الرجل، وأن إحرامها في وجهها، (ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كنّ: (يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان، فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن)
(3)
، وروى وكيع، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة: ما تلبس المحرمة؟ فقالت: (لا تنتقب، ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها)
(4)
، ويؤيد ما ذكره ابن القيم هذا الأثر:
- الذي أخرجه مالك بسند صحيح عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن
(1)
سلسلة الأحاديث الضعيفة (11/ 474 - 475).
(2)
قال ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 198): (نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب، وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصّل على قدر الوجه كالنقاب، والبرقع، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة، والجلباب، ونحوهما
…
ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصل على قدرهما، وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام، إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين).
(3)
أخرجه أحمد (24021)، ومن طريقه أبوداود (1833) عن هشيم قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عائشة به، و يزيد بن أبي زياد في حفظه ضعف.
(4)
إعلام الموقعين (1/ 170)، والأثر الآخر أخرجه البيهقي في "الكبرى"(9050)، والإسناد المذكور صحيح، وصحح هذا الأثر الألباني في الإرواء (4/ 212).
مع أسماء بنت أبي بكر الصديق)
(1)
، وأخرجه ابن خزيمة والحاكم من قول أسماء رضي الله عنها قالت:(كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك)
(2)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على مشروعية النقاب أو تغطية الوجه، وجريان العمل بهما غير واحد:
1.
…
القاسم بن سلام (ت 224): (الوصاوص والبراقع كانت لباس النساء، ثم أحدثن النقاب بعد ذلك)
(3)
، وهذا فيه جريان العمل، وسبق بيان معنى قوله، وأن المُحدث هو إخراج ما زاد على العين، كالمحجر أو الوجنة.
2.
قال الغزالي (ت 505): (لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات)
(4)
.
3.
وقال ابن حجر (ت 852): (ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب)
(5)
، وحكى (استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال)
(6)
.
4.
وقال محمد بن عمر الجاوي الشافعي (ت 1316): (لم يزل الرجال على
(1)
الموطأ (1/ 328).
(2)
صحيح ابن خزيمة (2690)، ومستدرك الحاكم (1668)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ولم يتعقبه الذهبي.
(3)
غريب الحديث (4/ 463 - 464)، وانظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 103).
(4)
إحياء علوم الدين (2/ 47).
(5)
فتح الباري (9/ 324)
(6)
فتح الباري (9/ 337).
ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن متنقبات)
(1)
، وماسبق كله في جريان العمل.
5.
يؤيد جريان العمل مانقله الجويني (ت 478) من: (اتفاق المسلمين على منع النساء من التبرج، والسفور، وترك التنقب)
(2)
.
6.
ومانقله كذلك ابن رسلان (ت 844) من: (اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق)
(3)
.
- ونقل الإجماع كذلك بعض المعاصرين ومن ذلك:
7.
قال د. بكر أبوزيد (ت 1429): (جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت، فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه، ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة)
(4)
.
(1)
نهاية الزين في إرشاد المبتدئين ص (47).
(2)
نهاية المطلب (12/ 31).
(3)
نقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 137)، ويحتمل أن ذلك من شرح ابن رسلان لسنن أبي داود؛ لأن الشوكاني ينقل عن ابن رسلان كثيراً، وينص في بعض المواضع على هذا الكتاب، وهو مذكور في ترجمة ابن رسلان، وطبع مؤخراً.
(4)
حراسة الفضيلة ص (37 - 38)، وقال: (واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة، فمنعوا النساء من الخروج سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن
…
واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول. وكانت بداية السفور بخلع الخمار عن الوجه في مصر، ثم تركيا، ثم الشام، ثم العراق، وانتشر في المغرب الإسلامي، وفي بلاد العجم، ثم تطور إلى السفور الذي يعني الخلاعة والتجرد من الثياب الساترة لجميع البدن، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وإن له في جزيرة العرب بدايات)، وفي وقت قريب من منتصف القرن الرابع عشر يحكي لنا علي الطنطاوي (ت 1420) ماحدث في دمشق فيقول في ذكرياته (5/ 291):(جاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرة، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة فأمرتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا).
8.
وقال عبدالمحسن العبّاد البدر: (وقد استمرت النساء في مختلف العصور على ستر وجوههن عن الرجال الأجانب في الإحرام وفي غير الإحرام، إلى أن بدأ السفور في أوائل القرن الرابع عشر الهجري)
(1)
.
9.
وقال محمد إسماعيل المقدّم: (خلاف العلماء في هذه المسألة يدور بين القول بالوجوب، والقول بالاستحباب، فأصل المشروعية موضع اتفاق بين جميع علماء الأمة)
(2)
، وقال عن القول بالتحريم، أو التبديع:(دعوى مخترعة محدثة لم يسبق صاحبها إليها، ولامساعد له من أهل العلم عليها)
(3)
.
10.
وقال أبو إسحاق الحويني: (كون النقاب مشروعا هذا إجماع، لم يقل أحد قط إن النقاب بدعة إلا الجهلة)
(4)
، وقال:(كل أهل العلم قاطبة لم يختلف أحد أن النقاب مشروع، وأنه من الدين)
(5)
.
11.
وقال د. خالد المشعان: (والجميع متفقون على أن الأفضل ستر الوجه)
(6)
.
(1)
ذكر ذلك في عدد من المقالات التي نشرها: (ماللنساء في بلاد الحرمين وعضوية مجلس الشورى)، (لايليق اتخاذ اسم خديجة بنت خويلد عنواناً لانفلات النساء)، (لماذا الكلام الموهم في فتنة اختلاط الجنسين ياحفيد شيخ الإسلام؟) وهي منشورة في موقعه الرسمي.
(2)
"الرد العلمي على كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ص (42).
(3)
المرجع السابق ص (8).
(4)
في مقطع بعنوان: (رد الشيخ الحويني على محمد طنطاوي والنقاب) عند الدقيقة (1) والدقيقة (5. 30).
(5)
في مقطع بعنوان (هل النقاب بدعة) عند الدقيقة (7. 42).
(6)
"آراء الشيخ الألباني الفقهية - قسم المعاملات"(1/ 414)، ومن ذلك الشيخ الألباني الذي هو محل الدراسة في هذا البحث، فهو يقول كما في كتابه "جلباب المرأة المسلمة" ص (28): (نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزًا، فستره أفضل
…
وهذا هو الذي التزمته عمليًّا مع زوجتي)، وردَّ الألباني في ص (104) على من يقول: بأن النقاب بدعة أو تنطع في الدين، وقال ص (110):(ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفًا في عهده صلى الله عليه وسلم، وأن نساءه كن يفعلن ذلك، وقد استنّ بهن فضليات النساء بعدهن).
وأختم هذه النقول بما قاله ابن باز (1420):
12.
…
(وقد أجمع علماء السلف على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها وأنه عورة يجب عليها ستره إلا من ذي محرم)
(1)
.
- ولعلّ الشيخ أراد بذلك إجماع الصحابيات والتابعيات، ويدل عليه:
- قول أسماء رضي الله عنها: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال)
(2)
، فإذا كان هذا حالهم في الإحرام ففي غيره أولى، يؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها:(تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها)
(3)
، وعلى ذلك التابعيات بعدهن ومن ذلك:
- ما ذكره عاصم الأحول قال: (كنا ندخل على حفصة بنت سيرين [أخت محمد بن سيرين]، وقد جعلت الجلباب هكذا -وتنقّبَ به- فنقول لها: -رحمك الله- قال الله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}
(4)
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (5/ 331 - 332).
(2)
صحيح ابن خزيمة (2690)، ومستدرك الحاكم (1668)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرج ابن سعد في الطبقات (8/ 357) قال: أخبرنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن أبي خالد عن أمه وأخته: (أنهما دخلتا على عائشة يوم التروية فسألتها امرأة: أيحل لي أن أغطي وجهي وأنا محرمة؟ فرفعت خمارها عن صدرها حتى جعلته فوق رأسها).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه، ونقله ابن حجر في فتح الباري (3/ 406)، قال: (وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة
…
) وهذا إسناد صحيح متصل.
(4)
من الآية (60) من سورة النور.
هو الجلباب، قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فتقول: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قال: إثبات الجلباب)
(1)
.
- ماحكاه البيهقي عن شيخه أبي عبدالله الحافظ [الحاكم] قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن موسى الرازي يقول: (حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي، وقدمت امرأة زوجها إليه، فادّعت عليه مهرها خمسمائة دينار، فأنكر الرجل، فقال وكيل المرأة: قد أحضرت شهودي، فقال واحد من الشهود: أنظر إلى المرأة. فقام وقامت، فقال الزوج: يفعل ماذا ينظر إلى امرأتي؟! قالوا: نعم. قال: فإني أشهد القاضي أنّ لها علي مهرها خمسمائة دينار كلها ذهباً عيناً مثاقيل، ولا تسفر عن وجهها، قالت المرأة: فإني أشهد القاضي أني قد وهبتها له. قال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق)
(2)
، وكان ذلك سنة (286).
المسألة الثانية: أدلة القائلين ببدعية أو عدم مشروعية النقاب
(3)
:
1/ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى وجوه النساء سافرة في المواسم، والمساجد، والأسواق، ولم يُروَ عنه أنه أمر بتغطيتهن، ولسنا بأَغيَر على النساء من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه سعدان في جزئه (60) ومن طريقه البيهقي في "الكبرى"(13534)، قال سعدان: حدثنا سفيان [ابن عيينة] عن عاصم الأحول قال: كنا ندخل
…
إلخ، وهذا إسناد صحيح، وسعدان بن نصر بن منصور أبو عثمان الثقفي البزاز، اسمه سعيد، والغالب عليه سعدان، قال الدارقطني:(ثقة مأمون). انظر: تاريخ بغداد (10/ 283).
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10313) ورجاله ثقات، وانظر: تاريخ بغداد (15/ 51)، وتاريخ دمشق (60/ 394).
(3)
لست هنا في صدد ذكر أدلة من يرى عدم وجوب ستر المرأة لوجهها عند أمن الفتنة؛ وإنما أدلة عدم المشروعية، أو البدعة، مع أن أكثر مايستدلون به ليس فيه حرف واحد يدل على البدعية، ويمكن مناقشته في عدم الوجوب، ومن أعجب ماوقفت عليه من الاستدلال على كشف المرأة لوجهها، هو استدلال وزير الأوقاف المصري د. محمود زقزوق: (ولأهمية الوجه وتعبيراته في إمكان التواصل بين الناس يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»
…
إن ظاهرة إغلاق نافذة التواصل بين الناس لدى فئة من الناس متمثلة في إخفاء الوجه، أو مايسمى بالنقاب، بدأت تنتشر بشكل ملحوظ في كل مكان
…
إلخ). كما في مقدمة كتاب: "النقاب عادة .. وليس عبادة" ص (9 - 10)، وهذا الكتاب وزعته وزارة الأقاف المصرية على خطباء المساجد، لعرضه في خطب الجمعة كما في صحيفة "دنيا الوطن" بتاريخ (29/ 12/ 1429) هـ، وفي (23/ 6/ 1430) هـ وزير الأوقاف د. زقزوق يقرر طبع (100) ألف نسخة من الكتاب، وتوزيعه للجهات ذات التأثير في فكر المجتمع، وذلك بعد أيام قليلة من قرار المجلس الأعلى للأزهر بحظر النقاب داخل المعاهد والجامعات الأزهرية، كما في صحيفة "مصرس" و "اليوم السابع".
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- أن هذا الاستدلال، كالاستدلال بشرب الصحابة للخمر قبل تحريمها، على جوازه بعده، أو الاستدلال بجواز صيد البحر للمحرم، على جواز صيد البر له، فهو إما استدلال لما كان قبل فرض الحجاب، أو استدلال بمن يجوز لها كشف الوجه، كالأمة والكبيرة، على الحرة والشابة، يوضح ذلك دليلان:
- قصة الإفك وقول عائشة عن صفوان بن المعطل رضي الله عنه: (فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي)
(1)
، والشاهد منه قولها: (وكان رآني قبل الحجاب
…
فخمرت وجهي)، ففيه: أن الحجاب في أول تشريعه لم يكن فيه تغطية الوجه، وفيه أن النساء في آخر الأمر بالحجاب كنّ يغطين وجوههن قال العراقي:(وفيه تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي، سواء كان صالحاً، أو غيره)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770).
(2)
طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 53).
- قصة بنائه صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي، وقول الناس: لا ندري أتزوجها، أم اتخذها أم ولد؟، ثم قالوا:(إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه)
(1)
، ففيه: التفريق بين الحرائر والإماء في الحجاب، وأن الحجاب غير خاص بأمهات المؤمنين بل الحرائر مثلهن، قال ابن قدامة:(وهذا دليل على أن عدم حجب الإماء كان مستفيضاً بينهم مشهوراً، وأن الحجب لغيرهن كان معلوماً)
(2)
.
- وهذا الحكم يدل عليه أيضاً قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}
(3)
، ودلالتها على عدم الخصوصية بأمهات المؤمنين ظاهرة، ودلالتها على أن هذا هو حكم الحرائر من قوله:(أزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين)
(4)
، وقال ابن جرير في تفسير الآية: (لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من
(1)
أخرجه البخاري (4213)، ومسلم (1365)، ولفظ مسلم:(إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد).
(2)
المغني (7/ 103).
(3)
من الآية (59) من سورة الأحزاب.
(4)
قال ابن تيمية في شرح العمدة- الصلاة ص (271) عن الإماء: (ولسن داخلات في نساء المؤمنين بدليل أن قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ}، وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، إنما عنى به الأزواج خاصة)، وقال في الفتاوى (15/ 448): (
…
الآية: دليل على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك ثم قال:{وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين كما لم يدخل في قوله: {نِسَائِهِنَّ} ما ملكت أيمانهن حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب
…
وأيضا فقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وقوله:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، إنما أريد به الممهورات دون المملوكات فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن).
جلابيبهن؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول)
(1)
.
- وقد نظم المعاني السابقة ابن رجب في سياق واحد فقال: (وقد فسّر عبيدة السلماني قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
(2)
، بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كنّ قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرأة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله عز وجل:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
(3)
، ثم أمرت بستر وجهها وكفيها، وكان الأمر بذلك مختصاً بالحرائر دون الإماء، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}
(4)
، يعني: حتى تعرف الحرة فلا يتعرض لها الفساق، فصارت المرأة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب، فلهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأة منا ليس لها جلباب؟ فقال: «لتلبسها صاحبتها من جلبابها» يعني: تُعيرها جلباباً تخرج فيه)
(5)
.
2/ واستُدل أيضاً: بأن ستر الوجه من خصوصيات أمهات المؤمنين وليس له حكم العموم
(6)
.
(1)
تفسير الطبري (19/ 180).
(2)
من الآية (59) من سورة الأحزاب.
(3)
من الآية (31) من سورة النور، وقد ورد عن ابن مسعود تفسير هذه الآية بالثياب الظاهرة، وورد عن ابن عباس تفسيرها بالوجه والكفين، قال ابن تيمية في "حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة" ص (19):(فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين).
(4)
من الآية (59) من سورة الأحزاب.
(5)
فتح الباري لابن رجب (2/ 346 - 347).
(6)
انظر: الرد العلمي ص (177).
ويمكن الجواب عن هذا الاستدلال:
- بأن الأصل عدم الخصوصية، ويمكن رد دعوى الخصوصية بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
- فأما دلالة الكتاب؛ فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}
(1)
وهذه الآية: دلت بنصها على عدم الخصوصية بأمهات المؤمنين، ودلت كذلك على أن معنى إدناء الجلباب هو ستر الوجه والكفين؛ لأن ذلك واجب على أمهات المؤمنين بالإجماع
(2)
.
- وأما دلالة السنة؛ فهو ماثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بَنَى بصفية بنت حيي، قال الصحابة:(إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه)
(3)
، ففيه أن الحجاب الذي كانت تعرف به أمهات المؤمنين كان يقابله حجاب الإماء وملك اليمين، فدلّ على أن حجاب الحرائر كان واحداً.
- وأما دلالة الإجماع؛ فقد سبق في الدليل الثاني من القول الأول عدد من الإجماعات، وليس فيها تخصيص بأمهات المؤمنين، وأما
(1)
من الآية (59) من سورة الأحزاب.
(2)
انظر: إكمال المعلم (7/ 57)، قال الشنقيطي في أضواء البيان:(في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها:: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى)، قلت: وفي الآية قرينة أخرى، وهي أن مشروعية هذا الحجاب حتى يعرفن بالحرية ولايتشبهن بالإماء في كشفهن للوجه والشعر، والحرة لايجوز لها كشف ماسوى الوجه والكف بالإجماع، فدل على أن حجاب الحرة بهذه الآية فيه معنى زائد على ذلك، وعما تكشفه الأمة.
(3)
أخرجه البخاري (4213)، ومسلم (1365)، ولفظ مسلم:(إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد).
قول القاضي عياض: (ولا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين، الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره)
(1)
، فليس فيه نفي المشروعية عن غير أمهات المؤمنين، بل اختلفوا في ندبه، أو وجوبه على غيرهن.
- وأما دلالة القياس؛ فيدل عليها قول الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
(2)
، قال الشنقيطي: (فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة
…
قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم؛ إذ لم يقل أحدٌ من جميع المسلمين: إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها)
(3)
، قال بكر أبو زيد:(فيالها من علة جامعة، لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من مقاصد فرض الحجاب إلا شملتها)
(4)
.
- وأختم هذه المناقشة بهذا الحديث الذي يدل على مشروعية حجاب المرأة بالقرار في بيتها، أو الجلباب إن هي خرجت، وعلى عموم ذلك، وأنه كلما كانت المرأة أستر فهي أقرب إلى الله، وفي ذلك جاء الحديث: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان،
(1)
إكمال المعلم (7/ 57).
(2)
من الآية (53) من سورة الأحزاب، هذه الآية تسمى آية الحجاب؛ لأنها أول آية نزلت بشأن فرض الحجاب، وكان نزولها في سنة (5) من الهجرة. انظر: تفسير ابن كثير (6/ 451)، حراسة الفضيلة ص (45).
(3)
أضواء البيان (6/ 242) وقال: (في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصاً بهن; لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه).
(4)
حراسة الفضيلة ص (47).
وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها»
(1)
.
3/ واستُدل أيضاً: بحديث رواه أبوداود عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه، عن جده، قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة، تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟ فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حَيَائِي
(2)
…
الحديث
(3)
.
وجه الاستدلال:
- أن (استغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على أن النقاب لم يكن عبادة)
(4)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، ففي إسناده: فرج بن فضالة، وعبد الخبير بن ثابت، وقد قال البخاري عنه:(روى عنه فرج بن فضالة، حديثه ليس بالقائم، عنده مناكير، وعند فرج مناكير)
(5)
.
- وعلى فرض صحته، فقد قال الألباني: (فهذا نص صريح في
(1)
أخرجه ابن خزيمة (1685)، وابن حبان (5598)، قال ابن رجب (8/ 52):(وإسناده كلهم ثقات)، وأصله عند الترمذي دون زيادة:«وأقرب ماتكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2)
يعني: (إن أصبت بابني وفقدته فلم أصب بحيائي). عون المعبود (7/ 119).
(3)
أخرجه أبوداود (2488)، من طريق عبد الرحمن بن سلام، حدثنا حجاج بن محمد، عن فرج بن فضالة، عن عبدالخبير بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه، عن جده به، وإسناده ضعيف، ضعفه البخاري، وفرج بن فضالة (ضعيف)، وعبدالخبير (مجهول الحال)، ووالده (مقبول)، كما ذكر الحافظ في التقريب، وقد ضعّف الحديث الألباني كما في "جلباب المرأة المسلمة" ص (112).
(4)
"السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ص (40).
(5)
الضعفاء الصغير ص (95).
فضيلة النقاب؛ لأنها عدته من الحياء، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
سبب الخلاف:
- يظهر والله أعلم أن سبب الخلاف في هذه المسألة الغفلة عن النصوص المحكمة في حجاب وجلباب المرأة، ونسيان المقاصد الشرعية في عفة المرأة، وإهمال سد الذرائع الموصلة إلى الحرام، مع إبراز النصوص المنسوخة أو المجملة أو الضعيفة.
- وليس في الأدلة جزماً ما يدل على تحريم النقاب أو بدعيته أو عدم مشروعيته، لكن فيها ما قد يفهم منه جواز كشف الوجه، لكن الاستدلال بها لا يتحقق إلا بعد إثبات صحتها، وأنها بعد فرض الحجاب، وأن المرأة شابة، وحرة، والتصريح بكشف الوجه، وأن النظر إليها لم يكن لقصد النكاح، والواقع أنه لا يوجد ما يستدل به هنا إلا ويتطرق إليه هذه الاحتمالات، والله أعلم.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول ببدعية النقاب أو عدم مشروعيته إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته للنص، والإجماع العملي، ولا أعرف من قرَّر القول بعدم المشروعية قبل محمد الغزالي (ت 1417)؛ ثم تجاسر عليه من بعده وأنه ليس من الدين، حتى وصل الأمر إلى تبديع من تتعبد بلبس النقاب!، وكفى خطأً بقولهم خروجهم عن أقوال أهل العلم لو لم يكن على خطئهم دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده، والله أعلم.
(1)
"جلباب المرأة المسلمة" ص (112).
قال الإمام الشافعي: (ما ناظرت أحداً قطّ على الغَلَبة؛ وبودِّي أن جميع الخلق تعلّمُوا هذا الكتاب - يعني كتبه - ولا يُنسب إليّ شيءٌ منه).
أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 173)
المبحث الثاني: جواز التصوير المجسم لما له نفس
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
الإمام أحمد رحمه الله المسائل برواية أبي داود ص (369)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
التصوير: (جعل الشيء على صورة)
(1)
، والصُّورة في اللغة تطلق على: الشَّكل
(2)
، وقد صوَّره فتصوَّر أي: تشكَّل
(3)
، وفي القرآن:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}
(4)
، قال ابن كثير:(أي: فخلَقكم في أحسن الأشكال)
(5)
، (وعبّر عن هذا الخلق بفعل (صوّركم)؛ لأن التصوير خلقٌ على صورة مرادة تُشعر بالعناية)
(6)
، فالتصوير أخص من الخلق كما قال الله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}
(7)
.
وكما تطلق الصُّورة في اللغة على الشكل والهيئة فإنها تطلق أيضاً على: الوجه
(8)
، والحقيقة، والصفة
(9)
.
(1)
تفسير الواحدي (5/ 30)، وانظر: التحرير والتنوير (8 ب/ 36)، ليست من كتب اللغة ولم أعتمد عليها لبيان المعنى.
(2)
انظر: المحكم والمحيط الأعظم (8/ 369)، القاموس المحيط ص (427).
(3)
انظر: لسان العرب (11/ 375)، تاج العروس (12/ 358)، قال ابن عاشور في تفسيره (8 ب/ 36):(والصورة الشكل الذي يشكل به الجسم كما يشكل الطين بصورة نوع من الأنواع)، قال العسكري في الفروق اللغوية ص (155):(لا يستعمل الشكل إلا في الصور، فيقال: هذا الطائر شكل هذا الطائر، ولا يقال الحلاوة شكل الحلاوة).
(4)
من الآية (64) من سورة غافر.
(5)
تفسير ابن كثير (7/ 156).
(6)
التحرير والتنوير (24/ 191).
(7)
من الآية (11) من سورة الأعراف، وكقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .
(8)
ومن ذلك حديث سويد بن مقرن رضي الله عنه في صحيح مسلم (1658): أن جارية له لطمها إنسان، فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟
…
) الحديث، قال في النهاية (3/ 60):(أراد بالصورة الوجه. وتحريمها المنع من الضرب واللطم على الوجه).
(9)
انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 85)، وفي المعجم الوسيط (1/ 528) في معنى الصورة أيضاً:(و صورة المسألة أو الأمر: صفتها، والنوع، يقال: هذا الأمر على ثلاث صور، وصورة الشيء: ماهيته المجرَّدة وخياله في الذِّهن أو العقل).
(وأصل الصَوَرة: الميل)
(1)
، قال الواحدي:(والصورة: هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف. وأصلها مِن: (صارَه، يَصُوره) إذا أَمَاله، فهي صورَةٌ؛ لأنها مائلة إلى بِنْيَةٍ بالشَبَه لها)
(2)
، (والتصاوير: التماثيل)
(3)
، والتماثيل: الصور المُمثلة؛ كما قال الله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
(4)
، فالصورة في اللغة تطلق على الشكل والتمثال، وقد تطلق على ما في الذهن منهما، كما قال ابن تيمية:(الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج، ولفظ (ص و ر) يدل على ذلك، وما من موجود من الموجودات إلا له صورة في الخارج، وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة
…
ثم تكون الصورة الموجودة ترتسم في النفس وقد تسمى صورة ذهنية، فقوله: شرحت له صورة الواقعة، وأخبرني بصورة المسألة، إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية أو الصورة الذهنية)
(5)
.
وأما الصورة في الاصطلاح فهي لفظ: (عامٌّ في كل ما يصوّر مشبهاً بخلق الله تعالى من ذوات الروح وغيره)
(6)
، وقال الخطابي:(هي كل صورة من ذوات الأرواح كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أوجدار، أومصنوعة في نمط، أومنسوجة في ثوب)
(7)
، ويُلحظ على هذا التعريف تكراره للفظ المُعرَّف، وقيل في تعريف التصوير -وهو
(1)
غريب الحديث لابن سلّام (4/ 246).
(2)
التفسير البسيط للواحدي (5/ 30)، وانظر: معجم متن اللغة (3/ 415).
(3)
الصحاح (2/ 717)، لسان العرب (4/ 473).
(4)
من الآية (52) من سورة الأنبياء، وانظر: شمس العلوم (9/ 6221)، الفوائد لابن القيم ص (196).
(5)
بيان تلبيس الجهمية (6/ 460 - 461).
(6)
المغرب في ترتيب المعرب ص 274، وانظر: العناية شرح الهداية (1/ 414)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/ 517).
(7)
معالم السنن (1/ 75)، (و النَّمَط: ضربٌ من البُسُط، والجمع أنماط). لسان العرب (7/ 418).
أجود-: (نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال)
(1)
.
والممنوع من الصور هو: ما كان شبيهاً بذي الروح، ولا يُمنع من الصورة إذا كانت غير مشابهة لذي الروح، أو كانت ممحوة الرأس، أو كانت ممتهنة
(2)
.
وأما المجسم في اللغة: فإن الجسم يدل على تجمّع الشيء
(3)
، والمجسم من الصور ما فيه بروز وظهور عن السطح، و له طول وعرض وسمك
(4)
، ويُعبر عن ذلك بما له ظلّ؛ فكل ماله ظل فهو مُجسَّم، (والمراد بالصورة المجسمة أو ذات الظل ما كانت ذات ثلاثة أبعاد، أي لها حجم، بحيث تكون أعضاؤها نافرة يمكن أن تتميز باللمس، بالإضافة إلى تميزها بالنظر، وأما غير المجسمة، أو التي ليس لها ظل، فهي المسطحة، أو ذات البعدين، وتتميز أعضاؤها بالنظر فقط)
(5)
.
وأمّا النَفْس في اللغة فهي: (الرّوح الذي به حياة الجسد)
(6)
، والمقصود بما له نفس هنا: الحيوان وهو في اللغة يطلق على كل ذي
(1)
الإرشاد إلى صحيح الإعتقاد ص (57).
(2)
انظر: نخب الأفكار في تنقيح معاني الأخبار (13/ 478)، قال ابن حجر:(قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو: ما يكون من الصور التي فيها الروح، مما لم يقطع رأسه، أو لم يمتهن). فتح الباري (10/ 382)، والحنفية يجوزون الصورة الصغيرة التي لا تتبين تفاصيل أعضائها للناظر قائماً وهي على الأرض، قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 650) بعد أن ذلك الترخيص في الممتهن والصغير من الصور:(هذا كله في اقتناء الصور، وأما فعل التصوير فهو غير جائز مطلقاً؛ لأنه مضاهاة لخلق الله تعالى)، وبنحو هذا الكلام قال النووي في شرحه على مسلم (14/ 81).
(3)
انظر: مقاييس اللغة (1/ 457)، ولم أقف على لفظ المجسم في المعاجم القديمة وهي منشرة في المعاجم المعاصرة.
(4)
انظر: المعجم الوسيط (1/ 123).
(5)
الموسوعة الفقهية الكويتية (12/ 93).
(6)
العين (3/ 291)، قال أبوبكر الأنباري في الزاهر (2/ 374): (بعض اللغويين يُسَوِّي بين النفس والروح، فيقول: هما شيء واحد، إلاّ أنّ النفس مؤنثة، والروح مذكّر
…
وفرّق بعض العلماء بين "النفس" و "الروح" فقال: "الروح" هو الذي به الحياة، و"النفس" هي التي بها العقل، فإذا نام النائم، قَبَضَ الله نفسه، ولم يقبض روحه. والروح لا يُقبض إلا عند الموت).
روح
(1)
، وفي الاصطلاح يطلق الحيوان على:(الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة)
(2)
، والحيوان مبالغة في الحياة، و قد فرّق العسكري بين الحياة والنماء، ثم قال:(فالنبات ينمي ويزيد وليس بحي)
(3)
.
ولهذا التفريق بين الحيوان وغيره في حكم التصوير أصل في الشريعة، ومن ذلك مارواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صوّر صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً» ، ثم قال ابن عباس:(إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم:«كل مصور في النار، يجعل له، بكل صورة صورها، نفسا فتعذبه في جهنم» وقال: (إن كنت لا بد فاعلاً، فاصنع الشجر وما لا نفس له)
(4)
، وفي قوله:«حتى ينفخ فيها الروح» : (دليل على أن هذا الوعيد فى المصور لما له روح)
(5)
.
قال النفراوي عن التماثيل: (المحرم منها ما كان على صورة حيوان كاملة ولها ظل قائم
…
والمباح ما كان على صورة غير حيوان، كصورة
(1)
انظر: العين (3/ 317)، تهذيب اللغة (5/ 186).
(2)
التعريفات للجرجاني ص (94)، وذكر الكفوي في الكليات ص (344) أن الجسم المركب إن لم يكن نامياً فهو الجماد، وإن كان نامياً بلا إحساس فهو النبات، وإن لم يكن ناطقاً فهو الحيوان، فإن كان ناطقاً وله إحساس فهو الإنسان، فالإنسان حيوان ناطق، ولذلك قال ابن القيم:(العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة). الروح ص (196).
(3)
الفروق اللغوية ص (102).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110)، وترجم له البخاري:(باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح، وما يكره من ذلك).
(5)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 638)، وانظر: شرح معاني الآثار (4/ 286).
الأشجار والفواكه والسحاب مما هو مصنوع لله وليس حيواناً)
(1)
، فهذه تقاسيم الصور: صورة لحيوان مجسمة، وصورة لحيوان غير مجسمة، وصورة لغير حيوان مجسمة، وصورة لغير حيوان غير مجسمة.
وبعد هذا التوضيح المختصر فهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
أجمع العلماء على جواز تصوير ما لا روح له كالشجر أو الجماد
(2)
، وخالف بعض العلماء في بعض الصور لغير الحيوان
(3)
.
2.
وذهب جمهور العلماء إلى تحريم تصوير ماله نفس، وإن كان التصوير مسطحاً لا ظل له
(4)
، خلافاً للمالكية فكرهوا ولم يحرّموا ما لا ظل
(1)
الفواكه الدواني (2/ 315).
(2)
قال الشوكاني في نيل الأوطار (2/ 123): (قال في البحر: ولا يكره تصوير الشجر و نحوها من الجماد إجماعاً)، ويقصد بالبحر:"البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" للمهدي، وهو ينقل عنه في النيل كثيراً.
(3)
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (6/ 638): (الوعيد في المصور لما له روح، خلاف ما لا روح فيه من الثمار، فقد أجاز هذا العلماء، وأجازوا صنعته والتكسب به، إلا مجاهداً فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه ولم يقله غيره)، قال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 201):(وقد كان مجاهد يكره صورة الشجر، وهذا لا أعلم أحداً تابعه على ذلك)، ولعل في ثبوته عن مجاهد نظر؛ فقد أخرجه ابن أبي شيبة (25293) قال: حدثنا عبد السلام، عن ليث، عن مجاهد:(أنه كان يكره أن يصور الشجر المثمر)، ففي إسناده الليث بن أبي سليم قال عنه ابن حجر:(صدوق اختلط جداً و لم يتميز حديثه فترك)، وأشار ابن حجر إلى وجه عند الشافعية بتحريم تصوير ما عُبد من المخلوقات، فقال كما في الفتح (10/ 394):(جواز تصوير ما لا روح له من شجر أو شمس أو قمر، ونقل الشيخ أبو محمد الجويني وجهاً بالمنع؛ لأن من الكفار من عبدها)، وأغرب أبوعبدالله القرطبي في تفسيره (14/ 274) فحرّم تصوير كل شيء وأن قوله صلى الله عليه وسلم:«أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون» (يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيْ كان)، وأن الذم يعم:(كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع) كما في تفسيره (13/ 222)، ونقل الصنعاني في حاشيته على إحكام الأحكام (3/ 257) قول مجاهد في تحريم المثمر من الشجر ثم قال:(لا وجه لإخراج ما لا يثمر) وذهب إلى أن التحريم يشمل ما لا يثمر؛ لأن فيه حياة ثم قال: (فلم تبق إلا الحجارة التي لاروح فيها ولاتنمو).
(4)
انظر: البحر الرائق (2/ 29)، مغني المحتاج (4/ 407)، الإنصاف (1/ 474)، تنبيه: قال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (4/ 379) عن الحنفية: (وقولهم الذي لا يختلفون فيه أن التصاوير في الستور المعلقة مكروه، وكذلك ما كان خرطاً أو نقشاً في البناء)، وحُكيت الكراهة عنهم أيضاً في التصاوير على الثياب، ووجّهها ابن نجيم بأن الكراهة هنا تحريمية، ووجهها ابن عابدين بأن المكروه هو الاستعمال وليس التصوير. انظر: البحر الرائق ومنحة الخالق (2/ 29).
له
(1)
، قال النووي:(وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل، ولابأس بالصور التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل)
(2)
.
3.
ونُقل الإجماع على تحريم ماله ظل من صور الحيوان، وحُكي عن الإصطخري
(3)
من الشافعية عدم التحريم
(4)
، وقال بعض المعاصرين بجواز هذا النوع من الصور والتماثيل، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: المقدمات الممهدات (3/ 458)، حاشية الدسوقي (2/ 338)، منح الجليل (3/ 529).
(2)
شرح مسلم (14/ 82)، وقد تعقّبه ابن حجر بقوله في الفتح (10/ 388): (المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح
…
ففي إطلاق كونه مذهبا باطلاً نظر إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: «إلا رقماً في ثوب» فإنه أعم من أن يكون معلقاً أو مفروشاً
…
والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة وكان من أفضل أهل زمانه وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها، لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رُخص فيه من ذلك ما يمتهن لا ما كان منصوباً)، وأثر ابن القاسم عند ابن أبي شيبة (25301) عن ابن عون، قال:(دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء)، والحجلة تعني الستر الذي على الأريكة أو السرير ونحوه. انظر: انظر: شرح غريب ألفاظ المدونة ص (86)، طلبة الطلبة ص (128).
(3)
الحسن بن أحمد بن يزيد أبوسعيد الإصطخري، رفيق ابن سريج، وشيخ الشافعية ببغداد ومحتسبها، وقاضي قُم، ومن أكابر أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وكان ورعاً زاهداً، ومات سنة (328) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 250)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 230)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 109).
(4)
انظر: الحاوي الكبير (9/ 564)، قال ابن دقيق في إحكام الأحكام (1/ 371):(ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
قال بهذا الرأي من المعاصرين:
محمد عبده
(1)
(ت 1323)
(2)
، و د. علي جمعة
(3)
، و د. أحمد الطيب
(4)
.
(1)
ولد سنة (1266) وتعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر، وتصوف وتفلسف، وله دعوات تجديدية، شارك في الثورة ضد الإنجليز في مصر، فسجن ثم نفي إلى الشام، وسافر إلى باريس والتقى بأستاذه جمال الدين الأفغاني فأصدرا جريدة (العروة الوثقى)، ثم سُمح له بدخول مصر، فعاد وتولى منصب القضاء، ثم أصبح مفتياً للديار المصرية، ومات سنة (1323). انظر: الأعلام للزركلي (6/ 252)، معجم المؤلفين (10/ 272).
(2)
كما في الأعمال الكاملة لمحمد عبده (2/ 198 - 201) في مقال بعنوان: (الصور والتماثيل، وفوائدها وحكمها)، مما جاء فيه:(وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من وجهة العمل)، وهي ضمن مقالات متعددة عن رحلته إلى صقلية ومشاهداته فيها، جاء في أول هذه المقالات في حاشية ص (169) من المجلد الثاني:("المنار" المجلد السادس والسابع، وهي فصول كتبها الأستاذ الإمام في سياحته بهذه البلاد أثناء عودته من رحلته إلى الجزائر وتونس)، وهذا المقال في الأصل منشور في مجلة المنار (7/ 34) ولكن باسم (سائح بصير) ولعله لقب أو اسم مستعار لمحمد عبده كان يكتب به، وفي كلامه من القيود ما يمنع النسبة إليه، لكن جعله الجواز هو الأصل يكفي.
(3)
قال في برنامج مكتبة المفتي، في حلقة بعنوان:(التماثيل والفن التشكيلي) عند الدقيقة (2: 3): (إذا صُنعت التماثيل بعيداً عن هذه العبادة، صنعت من أجل التعلم، أو صنعت من أجل الزينة، أو صنعت من أجل منفعة تقوم بها
…
أو صنعت لغير ذلك من الأغراض خلا العبادة، أو صنعت بطريقة ليس فيها تعظيم، فكل ذلك يكون حلالاً، والإمام محمد عبده -رحمه الله تعالى- بين ذلك في مقالة له ماتعة في مجلة المنار)، والحلقة منشور في الشبكة.
(4)
قال في كلمته في المؤتمر العالمي للإفتاء "الفتوى .. إشكاليات الواقع وآفاق [المستقبل] " بتاريخ (3/ 11/ 1436) هـ: (تحريم صناعة التماثيل في صدر الإسلام - في غالب الظن- إنما كان مُعَلَّلًا بما اسْتَقرَّت عليه عادة العرب في ذلكم الوقت من عبادة الأصنام وصناعتها، واتخاذها آلهة تعبد من دون الله، وكان من المتوقع، بل من المُحَتَّم أن يحرِّم الشرع الحنيف صناعتها، من باب سد الذرائع وتجفيف منابع الشرك، وحمايةِ الوليد الجديد الذي هو «التَّوحيد»، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي علة التحريم الآن بعد أن استقر الإسلام، وتغلغل «التوحيد» في العقول والقلوب والمشاعر، وتلاشت عبادة التماثيل عند المسلمين جميعًا)!!. وكلمته منشورة في عدد من الصحف صوتاً وصورة ومفرغة.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة النص الصريح.
2/ مخالفة الإجماع، وتفصيلهما في المطلب الرابع.
3/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك:
- قال الماوردي (ت 450) عن قول الإصطخري: (وهذا الذي قاله خطأ؛ لأن النص يدفعه)
(1)
.
- قال ابن عطية (ت 542): (وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه)
(2)
.
- قال ابن دقيق العيد (ت 702): (وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور. ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة
…
وهذا القول عندنا باطل قطعاً)
(3)
.
- قال ابن الملقن (ت 804): (ولقد غلط من حمل التحريم على المسجد القائم بذاته
(4)
حيث إنه شبهت الأصنام، وأبعد من ذلك
(1)
الحاوي الكبير (9/ 564).
(2)
تفسير ابن عطية (4/ 409)، يقصد بالآية قوله تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} .
(3)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 371).
(4)
هو يتكلم عن الحديث المتفق عليه عن عائشة أم المؤمنين: أن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» ، ونحو عبارته هذه موجودة في شرحه للبخاري (5/ 462)، حيث قال:(فيه: دلالة على تحريم تصوير الحيوان خصوصاً الآدمي الصالح، ومن حمل النهي على المسجد القائم، أو على التنزيه فهو غالط)، وهي أوضح.
حمل الأحاديث على كراهة التنزيه
…
وكل من القولين باطل)
(1)
.
- قال أحمد شاكر (ت 1377): (وفي عصرنا هذا، كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم، ممن لم ندرك أن نسمع منهم، أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله، بما فيه التماثيل الملعونة
…
وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم، والاجتهاد الملتوي!. وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يُسبقوا إليه، وإن كان باطلاً، ظاهرالبطلان. حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين، وفي اجتهادهم واستنباطهم سارقين!!)
(2)
.
(1)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 490 - 491).
(2)
مسند الإمام أحمد بتحقيق وتعليق أحمد شاكر (7/ 18)، وقال أيضاً (7/ 19): (ثم كان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة، أن ملئت بلادنا بمظاهر الوثنية كاملة، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد، تكريمًا لذكرى من نسبن إليه وتعظيمًا!، ثم يقولون لنا إنها لم يقصد بها التعظيم!
…
وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة أن صنعت الدولة، وهي تزعم أنها دولة إسلامية، في أمة إسلامية-: ما سمته "مدرسة الفنون الجميلة" أو "كلية الفنون الجميلة"!!).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بتحريم الصور المجسمة لذي النفس:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مصوّر في النار
…
»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون»
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم»
(3)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله»
(4)
، وقول علي رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ «أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته»
(5)
، وغيرها من الأحاديث.
وجه الاستدلال:
- في هذه الأحاديث وعيد صريح عام لكل مصوّر، وخُص بالنصوص
(1)
أخرجه مسلم (2110)، من حديث عبدالله بن عباس، وهو في البخاري (2225) بلفظ:«من صوّر صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً» .
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (5950)، ومسلم (2109)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
متفق عليه من حديث عائشة، وبنحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهم، أخرجهما البخاري (2105)، (5951)، ومسلم (2107)، (2108).
(4)
متفق عليه من حديث عائشة، البخاري (5954)، ومسلم (2107)، وفي لفظ لمسلم:«الذين يُشبِّهون بخلق الله» .
(5)
أخرجه مسلم (969)، وفي لفظ له:«ولا صورة إلا طمستها» .
وفهم الصحابي بصور الحيوان، وفي قوله:«أحيوا ما خلقتم» دلالة على عموم تحريم تصوير كل حيوان؛ لأنه هو الذي فيه الحياة، وفي قوله:«الذين يضاهون بخلق الله»
(1)
(علة عامة مستقلة مناسبة، لا تخص زماناً دون زمان)
(2)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
1.
قال ابن العربي (ت 543): (حاصل ما في اتخاذ الصور: أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال
…
)
(3)
.
2.
وقال النووي (ت 676): (وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره، قال القاضي: إلا ماورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك)
(4)
.
3.
وقال ابن رشد الجد (ت 520): (والمحرم من ذلك بإجماع ما كان مخلوقاً له ظل قائم على صفة الإنسان، أو ما يحيى من الحيوان)
(5)
.
4.
وقال خليل بن إسحاق (ت 776): (التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع)
(6)
.
5.
وقال الزرقاني (ت 1099): (تصوير صورة حيوان عاقل أم لا، كامل
(1)
قال ابن حجر في الفتح (10/ 387): (يضاهون بخلق الله، أي: يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 372).
(3)
نقله عنه ابن حجر في الفتح (10/ 391) ونقله غيره أيضاً.
(4)
شرح النووي على مسلم (14/ 82).
(5)
المقدمات الممهدات (3/ 458)، ونقله عنه القرافي في الذخيرة (13/ 285).
(6)
التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 290).
الأعضاء الظاهرة، ولها ظل يدوم، حرام إجماعًا)
(1)
.
6.
وقال النفراوي (ت 1126): (يستثنى مما له ظل قائم المجمع على حرمته، صور لعب البنات فإنه لا تحرم)
(2)
.
7.
وقال العدوي (ت 1189): (والحاصل أن التمثال إن كان لغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان لحيوان فما له ظل ويقيم فهو حرام بإجماع)
(3)
.
8.
وقال الدردير (ت 1201): (والحاصل أنه يحرم تصوير حيوان عاقل أو غيره، إذا كان كامل الأعضاء، إذا كان يدوم إجماعاً)
(4)
.
9.
وقال عليش (1299): «صور) مجسدة لحيوان عاقل أو غيره، كامل الأعضاء الظاهر التي لا يعيش بدونها ولها ظل
…
ويحرم تصوير ما استوفى الشروط المتقدمة إن كان يدوم كخشب وطين وسكر وعجين إجماعاً)
(5)
.
10.
وقال عبدالله البسام (ت 1423): (أجمع العلماء على تحريم الصور المجسّمة، لذوات الأرواح؛ للنصوص الصحيحة الصريحة في ذلك)
(6)
.
(1)
شرح الزرقاني على مختصر خليل (4/ 93).
(2)
الفواكه الدواني (2/ 315).
(3)
حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 460)، وقوله يقيم، يعني: يدوم، وقد قال بعده:(وكذا إن لم يقم كالعجين خلافاً لأصبغ)، وينظر النقل عن الدردير وعليش ففيه توضيح.
(4)
الشرح الكبير (2/ 337)، وقال في الشرح الصغير (2/ 501):(والحاصل أن تصاوير الحيوانات تحرم إجماعاً إن كانت كاملة لها ظل مما يطول استمراره، بخلاف ناقص عضو لا يعيش به لو كان حيواناً).
(5)
منح الجليل (3/ 529).
(6)
توضيح الأحكام (2/ 100).
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز الصور المجسمة لذي النفس: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله تعالى عن سليمان: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}
(1)
، وقوله عن عيسى:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}
(2)
.
وجه الاستدلال:
- أن الله أخبر أن الجن يعملون التماثيل لسليمان عليه السلام، و أخبر عن صنع عيسى عليه السلام لتمثال الطير، في سياق الامتنان وعدم الإنكار مما يدل على الجواز
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بعدم التسليم، بأنه كان من التصوير المحرم، فيقال في تماثيل سليمان:(إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم يتعين الحمل على المعنى المشكل)
(4)
.
- وأما عيسى عليه السلام فإن الذي أجراه الله على يده ليس تصويراً فحسب بل هو خلق حقيقي
(5)
، وهو من المعجزات التي لا يمكن القيام بمثلها فلا يتعلق بها تكليف.
- وعلى فرض التسليم، بأنها من الصور المحرمة فإن ما ذكر من
(1)
من الآية (13) من سورة سبأ.
(2)
من الآية (49) من سورة آل عمران.
(3)
قال النحاس في إعراب القرآن (3/ 230): (قال قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله جلّ وعزّ عن المسيح صلى الله عليه وسلم، وحكى هذا القول مكي في الهداية إلى بلوغ النهاية (9/ 5897)، والقرطبي في تفسيره (14/ 272)، وغيرهم دون نسبة لأحد.
(4)
فتح الباري (10/ 382).
(5)
انظر: البحر المحيط في التفسير (4/ 406).
شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينسخه بلا خلاف
(1)
، قال الألوسي:(وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد، فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية)
(2)
.
2/ واستدلوا أيضاً: بأن تحريم الصور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لقرب عهدهم بالأصنام، فحرّمت التماثيل ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها ويزول تعظيمها، وقد زال هذا المعنى في زماننا ومحي من الأذهان فزال حكم التحريم
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بعدم التسليم في تفرد هذه العلة، فإن التحريم علّق بعلة أخرى أقوى منها؛ لأنها منصوصة كما يُفهم من الوعيد للمصور في الآخرة وأنه يقال لهم:«أحيوا ما خلقتم»
(4)
، وهي علة مصرح بها في الحديث المتفق عليه:«أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله»
(5)
، وفي لفظ لمسلم:«الذين يُشبِّهون بخلق الله» ، قال ابن دقيق: (وهذه علة عامة مستقلة مناسبة، لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة
(1)
انظر: أصول السرخسي (2/ 99)، شرح تنقيح الفصول ص (300)، التبصرة للشيرازي ص (285)، روضة الناظر ص (457).
(2)
تفسير الألوسي (11/ 294).
(3)
انظر: الحاوي الكبير (9/ 564)، مجلة المنار (7/ 34).
(4)
متفق عليه من حديث عائشة، وبنحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهم، أخرجهما البخاري (2105)، (5951)، ومسلم (2107)، (2108).
(5)
متفق عليه، أخرجه البخاري (5954)، ومسلم (2107)، من حديث عائشة، وفي لفظ لمسلم:«الذين يُشبِّهون بخلق الله» .
بمعنى خيالي، يمكن أن يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبه بخلق الله)
(1)
، والحكم المعلل بأكثر من علة لا ينتفي الحكم بانتفاء بعض العلل.
- ثم إن هذه العلة المستنبطة إذا عادت على النص بالإبطال فهي مردودة عند أهل الأصول
(2)
، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«كل مصور في النار»
(3)
.
- وعلى فرض التسليم بتفرد التعليل الذي ذكروه في التحريم، فإن الواقع يكذّب ذلك بمظاهر الوثنيةفي بعض بلاد المسلمين، والتقرب إلى القبور وأصحابها، مما يدل على تغلغل الوثنية في بعض القلوب -عياذاً بالله-
(4)
.
(1)
إحكام الأحكام (1/ 371 - 372)، وانظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 491).
(2)
قال ابن دقيق في الإحكام (1/ 260): (اشتهر بين أهل الأصول أن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإبطال أو التخصيص فهي باطلة) انتهى، وقد قالها في سياق الرد على الحنفية بتجويز كل عبارة تؤدي إلى التعظيم بدلاً من التكبير في الصلاة نظراً منهم إلى المقصود.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
انظر: مسند أحمد بتحقيق وتعليق أحمد شاكر (7/ 18)، وقال:(ثم كان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة، أن ملئت بلادنا بمظاهر الوثنية كاملة، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد، تكريمًا لذكرى من نسبن إليه وتعظيمًا!، ثم يقولونلنا إنها لم يقصد بها التعظيم!)، وقارن بين كلام الشيخ أحمد شاكر وبين كلام مفتي الأزهر د. أحمد الطيب في المؤتمر العالمي للإفتاء بتاريخ (3/ 11/ 1436 هـ) حيث قال بعدما ذكر حديثاً في الصحيحين وفيه:«وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» ، قال د. الطيب معلقاً:«أي: الدنيا)، وفي ظل القَسَم النَّبوي الشَّريف تصبح دعاوى بعض الغلاة في الخوف على المسلمين من الشِّرك سفسطاتٍ فارغةَ المحتوى والمضمون، وعبثًا يُهدر فيه المال والجهد والوقت) انتهى، وما وصفه-هداه الله- بالسفسطة الفارغة والعبث قام به إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام حين قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} قال إبراهيم التيمي كما عند الطبري (13/ 687): (من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم)، وأما الحديث الذي ذكره فمعناه كما قال النووي في شرح مسلم (15/ 59): (أنها لا ترتد جملة وقد عصمها الله تعالى من ذلك)، ومما يدل على ذلك ماجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصَة» ، ترجم له البخاري بقوله:(باب تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان)، قال ابن بطال في شرح البخاري (10/ 59):(وليس المراد بها أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبته إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع المحفوظ، والنص الصحيح الصريح، ولا يعرف من قرّر هذا القول قبل الإصطخري من الشافعية بعلة مخالفة للنص، وقد رد عليه الشافعية كالماوردي وابن دقيق، ووصفوا قوله بأنه خطأ وباطل، و (هذا القول يُغفل ذكره الفقهاء في كتبهم المطولة والمختصرة)
(1)
، مما يدل على هجره وعدم اعتباره، وبقي مهجوراً حتى أظهره بعض المعاصرين، والله أعلم.
(1)
الموسوعة الفقهية الكويتية (12/ 101)؛ ولأن تحريم التماثيل هو القول المشهور السائد أثّر ذلك في تنمية الفنون الأخرى التي اختص بها المسلمون كالخط العربي والزخارف المباحة ونحوهما.
المبحث الثالث: سنية وضع اليدين على الصدر في الصلاة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
[قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي (ت 386)]
(إنه ليس لأحد أن يحدث قولاً أو تأويلاً لم يسبقه به سلف، وإنه إذا ثبت عن صاحب قول لا يحفظ عن غيره من الصحابة خلاف له ولا وفاق، أنه لا يسع خلافه. وقال ذلك معنا الشافعي، وأهل العراق).
النوادر والزيادات (1/ 5)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
المراد باليدين هنا: الكفان، فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض كما في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(1)
، قال ابن كثير:(لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة)
(2)
، قلت: وكما في آية التيمم.
وأما الصَّدْر فهو في اللغة: (أعلى مقدَّم كل شيء وأوَّله)
(3)
، وهو ما بين الكتفين من الإنسان، وجمعه صُدُور
(4)
، قال الله:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
(5)
، فالصدر مسكن القلب
(6)
.
وأصل الباب وأصحه ماجاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة»
(7)
، وماجاء في صحيح مسلم عن وائل بن حُجْر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:«ثم وضع يده اليمنى على اليسرى»
(8)
.
قال ابن رجب: (وليس في "صحيح البخاري" في هذا الباب غير
(1)
من الآية (38) من سورة المائدة.
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 319).
(3)
لسان العرب (4/ 445).
(4)
انظر: المخصص (1/ 153).
(5)
من الآية (46) من سورة الحج.
(6)
انظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص (213).
(7)
أخرجه البخاري (740) قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد فذكره، قال أبوحازم: (لا أعلمه إلا يَنْمِي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: يرفعه.
(8)
أخرجه مسلم (401).
هذا الحديث، ولا في "صحيح مسلم" فيه غير حديث
…
وائل بن حجر
…
وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيدها من مقال)
(1)
.
قال ابن حجر: (قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع، ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه)
(2)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
أجمع العلماء على أنه يسن وضع اليمين على الشمال في الصلاة، إلا رواية عن مالك بالسدل، وأرسل بعض السلف أيديهم في الصلاة
(3)
.
(1)
فتح الباري لابن رجب (6/ 360).
(2)
فتح الباري لابن حجر (2/ 224)، جاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (1/ 548):(وحكمة جعلهما تحت صدره أن يكون فوق أشرف الأعضاء وهو القلب، فإنه تحت الصدر مما يلي الجانب الأيسر).
(3)
انظر: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (39)، فقد نقل الإجماع مع الاستثناء، ونقل الإجماع الزرقاني وسيأتي، ونقله الترمذي كما في الفقرة الثالثة من تحرير محل الشذوذ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (20/ 74 - 76): (لم تختلف الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ولا أعلم عن أحد من الصحابة في ذلك خلافاً إلا شيء روي عن ابن الزبير أنه كان يرسل يديه إذا صلى، وقد روي عنه خلافه
…
) ثم ذكر الاختلاف على مالك وأنه نقل عنه السدل كما في رواية ابن القاسم عنه، وروي عنه القبض كما في رواية المدنيين، وقال:(الصحابة لم يرو عن أحد منهم في هذا الباب خلاف لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وروي عن الحسن وابراهيم أنهما كانا يرسلان أيديهم في الصلاة وليس هذا بخلاف؛ لأن الخلاف كراهية ذلك وقد يرسل العالم يديه ليري الناس أن ليس ذلك بحتم واجب)، وقال ابن المنذر في الأوسط (3/ 92):(وقد روينا عن غير واحد من أهل العلم أنهم كانوا يرسلون أيديهم في الصلاة إرسالاً، ولا يجوز أن يجعل إغفال من أغفل استعمال السنة، أو نسيها، أو لم يعلمها حجة على من علمها وعمل بها)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 224):(وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وصار إليه أكثر أصحابه وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة)، ومما يلاحظ في هذه النقول أن الأئمة الأربعة على السنية إلا أنه اختلف فيه على مالك وظاهر ما نقله في الموطأ هو السنية وقد أخرج في موطئه حديث سهل بن سعد الذي في البخاري، وحديث عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال:«من كلام النبوة إذا لم تستحي فافعل ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة -يضع اليمنى على اليسرى- وتعجيل الفطر، والاستيناء بالسحور» قال الزرقاني في شرحه على الموطأ (1/ 547): (وقوله: (يضع اليمنى على اليسرى) من قول مالك ليس من الحديث، وهو أمر مجمع عليه في هيئة وضع اليدين إحداهما على الأخرى) انتهى، وهذا معارض لما نُقل عن مالك في المدونة من جواز الوضع في النفل وكراهته في الفرض، إلا إن حُمل كراهته له على من يعتمد ويتكئ بيديه ببعضهما فيرخص له في النفل إذا طالت الصلاة دون الفرض، وإن لم تحمل كراهته على الاتكاء فقد تُحمل على خوف اعتقاد الوجوب، وقد ذكرهما الباجي في المنتقى (1/ 281) بقوله:(هذا الوضع لم يمنعه مالك وإنما منع الوضع على سبيل الاعتماد، ومن حمل منع مالك على هذا الوضع اعتلَّ بذلك لئلا يلحقه أهل الجهل بأفعال الصلاة المعتبر في صحتها)، وقال أ. د. وهبة الزحيلي عن قول الجمهور في موسوعته الفقهية (2/ 874):(وهو المتفق مع حقيقة مذهب مالك الذي قرره لمحاربة عمل غير مسنون: وهو قصد الاعتماد، أي الاستناد، أو لمحاربة اعتقاد فاسد: وهو ظن العامي وجوب ذلك)، ولعدم صراحة مذهب مالك عنه اختلف المتأخرون من المالكية في السنة هنا، بل وصل الأمر كما قال د. بكر أبوزيد:(وأَلَّف علماء المالكية كثيراً في إِثبات شرعية الإِرسال، وأُخرى في نقضه). "لا جديد في أحكام الصلاة" ص (31)، قال البناني في حاشيته على شرح الزرقاني (1/ 378) عن القول بالاستحباب في الفرض والنفل:(وهو قول مالك في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة وقول المدنيين من أصحابنا واختاره غير واحد من المحققين منهم اللخمي وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي وابن رشد وابن عبد السلام)، وقال المسناوي عن المنع من القبض في الفرض والنفل:(هو من الشذوذ بمكان)، نقله البناني في حاشيته (1/ 379).
2.
واتفق العلماء على عدم وجوب وضع اليمين على الشمال
(1)
.
(1)
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 291): (والاتفاق على أنه ليس بواجب) انتهى، والقول بالوجوب لم أقف عليه عند أحد من السلف إلا أن الشوكاني قال كما في نيل الأوطار (2/ 218 - 219):(فالقول بالوجوب هو المتعين إن لم يمنع منه إجماع. على أنا لا ندين بحجية الإجماع بل نمنع إمكانه ونجزم بتعذر وقوعه، إلا أن من جعل حديث المسيء قرينة صارفة لجميع الأوامر الواردة بأمور خارجة عنه لم يجعل هذه الأدلة صالحة للاستدلال بها على الوجوب)، قال ابن باز في فتاويه (11/ 141):(قيل: إن القبض واجب، كما اختاره الشوكاني في النيل)، وقال محمد بن علي الأثيوبي في ذخيرة العقبى (11/ 263):(قوله: (فالقول بالوجوب هو المتعين إن لم يمنع إجماع). حسن جدّاً. وأما جعل حديث المسيء صلاته صارفًا عن الوجوب فغير صحيح، لأنه تقدم لنا أن الراجح أن ما لم يذكر فيه مما دلت القرينة على أنه للوجوب، يؤخذ به)، والوجوب عن الشوكاني غير صريح ويظهر بعد تتبع كلامه أنه لا يرى الوجوب كما في شرح حديث المسيء صلاته من نيل الأوطار (2/ 309)، وكما في الدراري المضية (1/ 87) فإنه اكتفى بمشروعيتها ولم يعدها من الواجبات، و في السيل الجرار ص (138) التصريح بأنها سنة.
3.
و لا يثبت قول معتبر في وضع اليدين تحت الذقن على النحر
(1)
.
4.
واختلفوا في موضع اليدين، قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم
(2)
، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم: أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم)
(3)
، أما الوضع على الصدر فقد نُقل الإجماع على خلافه، وأنه لم يعمل به أحد من السلف، وكرهه أحمد، وروي مشروعيته عن علي بن طالب رضي الله عنه ولا يصح-
(4)
، وانتصر لسنية الوضع على الصدر بعض المتأخرين والمعاصرين، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال د. بكر أبوزيد: (وضع اليدين على النحر تحت اللحية هيئة جديدة لم ترد بها سنة، ولا أَثر، ولا قول معتبر، وإِنما تَوَلَّدَت من «الإِيغال» في تطبيق السنن). "لا جديد في أحكام الصلاة" ص (33)، والنحر أعلى الصدر وهو: موضع القلادة، واللبة موضع المنحر. انظر: تهذيب اللغة (14/ 196)، التلخيص في معرفة أسماء الأشياء ص (64). وفي الصدر النحر، وهو موضع القلادة. واللبة موضع المنحر)
(2)
جعل الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (2/ 211) هذه الصيغة من صيغ الإجماع فقال بعد أن نقل كلامه في مسألتنا: (سبق نقل الإِجماع عن الترمذي في هذه المسأَلة).
(3)
جامع الترمذي (2/ 33).
(4)
وسيأتي تحقيق ما أشير إليه وعزوه بإذن الله.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
ابن باز (ت 1420)
(1)
، و الألباني (ت 1420)
(2)
، و ابن عثيمين (ت 1421)
(3)
، ود. بكر أبوزيد (ت 1429)
(4)
، وهو رأي اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية
(5)
.
وقد سبقهم إلى ذلك محمد بن عبد الهادي السندي
(6)
(ت 1138 هـ)
(7)
،
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن باز (11/ 98)، وقال كما في فتاوى نور على الدرب (8/ 157):(السنة أن يضع يده اليمنى على كفه اليسرى على صدره حال كونه قائما في الصلاة، هذا هو المشروع).
(2)
قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (77): (وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف أو لا أصل له).
(3)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (13/ 97)، قال:(أقرب الأقوال إلى الصحة في ذلك أن الوضع يكون على الصدر)، وانظر: الشرح الممتع (3/ 37).
(4)
انظر: "لا جديد في أحكام الصلاة" ص (33).
(5)
انظر: فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى (6/ 366).
(6)
أبو الحسن السندي الكبير، محمد بن عبد الهادي التتوي السندي ثم المدني، محدث المدينة المنورة وأحد من خدم السنة من المتأخرين، له حواش على الكتب الستة، وحاشية وصفت بأنها نفيسة على مسند أحمد، وحاشية على فتح القدير، يروي عن عبد الله البصري وغيره، ومن تلاميذه محمد حياة السندي، وكانت وفاته سنة (1138) هـ، ودفن بالبقيع. انظر: سلك الدرر (4/ 66)، فهرس الفهارس (1/ 148).
(7)
انظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 271) قال: (وبالجملة فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال، ثبت أن محله الصدر لا غير) انتهى، وهو أول من انتصر لهذا القول فيما وقفت عليه، وقد ألّف محمد هاشم السندي (ت 1174) رسالة في الرد عليه أسماها (درهم الصُرَّة في وضع اليدين تحت الصُرَّة)، فلما وصلت الرسالة إلى محمد حياة السندي -تلميذ محمد بن عبدالهادي- كتب ردّاً عليها بمعاونة شيخه وأسماه:(دُرَّة في إظهار غش نقد الصُرَّة)، ثم تعقبهما محمد هاشم برسالتين:(ترصيع الدرة على درهم الصرّة) و (معيار النقاد في تمييز المغشوش عن الجياد)، فهذه أربع رسائل مختصرة فيها علم وأدب جم، وقد ذكر محمد هاشم بأن الذي سمعه من فعل الشيخ محمد بن عبد الهادي وتلميذه محمد حياة هو الوضع في أعلى الصدر فوق الثديين، وهو مذهب خامس لم يسبق إليه عند الأئمة الأربعة، كما في ترصيع الدرة ص (76)، وذكر مشاهدته للشيخ محمد بن عبدالهادي وهو يضع يديه فوق الثديين في ص (95)، وقد سبق ذكر أن وضع اليدين على النحر قول حادث فيه مبالغة.
وتلميذه محمد حياة السندي
(1)
(ت 1163)
(2)
، والصنعاني (ت 1182)
(3)
، والشوكاني (ت 1250)
(4)
.
تنبيه: د. بكر أبوزيد يرى سنية الوضع على الصدر، ولكنه يرى أن الوضع على النحر -مع أنه من الصدر- مُحدث؛ لعدم العمل به، والشيخان السنديان يريان بأن السنة الوضع على الصدر، ونُقل عمن رآهما بأنهما يضعونها فوق الثديين - على النحر-
(5)
.
(1)
محمد حياة بن إبراهيم السندي الأصل ثم المدني، الحنفي المذهب، محدث الحجاز، أخذ عن أبي الحسن السندي
…
الكبير (محمد بن عبد الهادي السندي)، وأجازه عبد الله بن سالم البصري وأبو طاهر الكوراني وغيرهما، ومن أجل تلاميذه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومن مؤلفاته: رسالة في إبطال الضرائح، تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، توفي سنة (1163) هـ، ودفن بالبقيع. انظر: فهرس الفهارس (1/ 356)، نزهة الخواطر (6/ 815)، حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية ص (127).
(2)
انظر: درة في إظهار غش نقد الصرّة ص (69 - 72).
(3)
انظر: سبل السلام (1/ 252).
(4)
انظر: نيل الأوطار (2/ 220)، وهو قول غيره من المتأخرين ممن له عناية وتأثر بالشوكاني كما في عون المعبود (2/ 327)، وتحفة الأحوذي (2/ 80)، يقول د. عبدالكريم الخضير -كما في موقعه على الشبكة- عن عون المعبود:(يرجح على ما يقتضيه الحديث، وهو في ذلك متأثر تأثراً كبيراً بالشوكاني)، وقال عن تحفة الأحوذي:(يذكر الخلاف مع الاستدلال والترجيح من غير تعصب لمذهب معين، لكنه في الغالب يقتدي بالشوكاني).
(5)
انظر: ترصيع الدرة ص (76)، ص (95)، "لاجديد في أحكام الصلاة" ص (33).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
2/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك:
- قال أنور شاه الكشميري
(1)
(ت 1353): (لمَّا فقدنا العمل به علِمنا أنه من توسع الرواة، فهو بدعةٌ عندي)
(2)
، (فهو ساقطٌ قطعًا، فلا يجمد عليها مع فقدان العمل به. ثم إن الشيءَ قد يكون مسمَّى، ولا يكون مدارًا للعمل)
(3)
.
- وقال د. بكر أبوزيد (ت 1429) عن الوضع في أعلى الصدر: (وضع اليدين على النحر تحت اللحية هيئة جديدة لم ترد بها سنة، ولا أَثر، ولا قول معتبر، وإِنما تَوَلَّدَت من «الإِيغال» في تطبيق السنن)
(4)
.
(1)
أنور شاه الحسيني الحنفي الكشميري أحد كبار الفقهاء الحنفية وعلماء الحديث الأجلاء، رحل إلى الحجاز وغيرها ثم استقر في ديوبند في الهند، وانتهت إليه رئاسة تدريس الحديث في الهند، وأسست من أجله مدرسة في ذابهيل سميت الجامعة الإسلامية، ومن تواليفه التي قيل: إنها من جمع تلاميذه في الدرس "فيض الباري على صحيح البخاري" و "العرف الشذي على جامع الترمذي"، توفي سنة (1352) هـ. انظر: نزهة الخواطر (8/ 1198 - 2000).
(2)
فيض الباري (2/ 302).
(3)
فيض الباري (2/ 333).
(4)
"لا جديد في أحكام الصلاة" ص (33).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم سنية الوضع على الصدر:
استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
1/ أنه لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في موضع وضع اليدين
(1)
، وتحديده بالصدر تحكُّم، قال ابن المنذر:(قال قائل: ليس في المكان الذي يضع عليه اليد خبر يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن شاء وضعهما تحت السرة، وإن شاء فوقها)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
بالأدلة التي فيها الوضع على الصدر، وسيأتي ذكرها ومناقشتها في المسألة الثانية.
(1)
وقد سئل الإمام أحمد كما في مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه برواية الكوسج (2/ 551): (أين يضع يمينه على شماله؟ قال: كل هذا عندي واسع. قلت: إذا وضع يمينه على شماله أين يضعهما؟ قال: فوق السرة وتحته، كل هذا ليس بذاك) انتهى، قلت: فهذا الإمام أحمد لا يحدد مكاناً في وضع اليدين ولو صحّ عنده حديث في وضعهما لقال به، ويلاحظ حصره للتوسعة فيما فوق السرة وتحتها، وقد صرّح بكراهته لوضعها على الصدر كما في رواية أبي داود لمسائل الإمام أحمد ص (48) قال:(سمعته، سئل عن وضعه؟ فقال: فوق السرة قليلاً، وإن كان تحت السرة فلا بأس. وسمعته، يقول: يكره أن يكون، يعني: وضع اليدين عند الصدر)، وقال د. سامي الخليل:(وضع اليدين على الصدر لا يصح فيه حديث). دراسة وتحقيق صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني -رسالة ماجستير- ص (119).
(2)
الأوسط (3/ 94)، ونسب النووي والشوكاني هذا القول لابن المنذر. انظر: المجموع (3/ 313)، نيل الأوطار (2/ 219).
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
ولم أقف على من نقل الإجماع صريحاً في هذه المسألة إلا بعض المتأخرين، ومن ذلك:
- قال السهارنفوري
(1)
(ت 1346): (انحصر الوضع في هيئتين: تحت الصدر، وتحت السرة، ولم يوجد على ما قال الشوكاني مذهب من مذاهب المسلمين أن يكون الوضع على الصدر، فقول الوضع على الصدر قول خارج من مذاهب المسلمين، وخارق لإجماعهم المركب)
(2)
.
- وقال أنور شاه (ت 1353) عن الوضع على الصدر: (لم يعمل به أحدٌ من السلف، ولا ذهب إليه أحد من الأئمة)
(3)
.
- وقال د. ماهر الفحل: (لم أجد نقلاً قوياً عن أحد من السلف يقول بوضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر؛ فهي زيادة أيضاً مخالفة بعدم عمل أهل العِلْم بِهَا)
(4)
.
وقد نوقش هذا الاستدلال:
- بما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(5)
قال: (وضع يده اليمنى على وسط ساعده
(1)
خليل أحمد بن مجيد علي الأنصاري السهارنفوري الحنفي، وأقام مدة في بهوبال وسكندرآباد وبهاولبور وبريلي يدرس ويفيد، إلى أن اختير أستاذاً في دار العلوم بديوبند ثم انتقل إلى مظاهر العلوم، وتولى رئاسة التدريس فيها، واستقام على ذلك أكثر من ثلاثين سنة وتولى نظارتها، وقد شرح سنن أبي داود بمساعدة تلميذه محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي، توفي سنة (1346) هـ ودفن بالبقيع. انظر: نزهة الخواطر (8/ 1222 - 1223).
(2)
بذل المجهود في حل أبي داود (4/ 485).
(3)
فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 333).
(4)
أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء ص (381).
(5)
الآية (2) من سورة الكوثر.
اليسرى، ثم وضعهما على صدره)
(1)
.
- وبأن الوضع على الصدر قول عند الشافعية، ورواية نادرة عن أحمد
(2)
، وهو مذهب إسحاق بن راهويه
(3)
، والقاضي عياض
(4)
، وظاهر اختيار ابن القيم
(5)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمور:
- أما ما ورد عن علي رضي الله عنه فقد قال ابن كثير: (يروى هذا عن علي، ولا يصح)
(6)
، قال ابن التركماني:(وفي سنده ومتنه اضطراب)
(7)
.
- ثم إن مدلول لفظة: {وَانْحَرْ} هو طلب النحر، وهو غير طلب وضع اليدين عند النحر
(8)
، قال ابن كثير -بعد أن ذكر ما
(1)
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 437)، والطبري في تفسيره (24/ 691)، وابن المنذر في الأوسط (3/ 91)، والطحاوي في أحكام القرآن (1/ 184)، والبيهقي في الكبرى (2337)، وسيأتي الحكم عليه والتوثق من كل قول.
(2)
قال محمد حياة السندي في فتح الغفور ص 92: (يضعهما فوق الصدر: وبه قال أيضاً الشافعي، وهى رواية نادرة عن أحمد)، وتابعه على هذه النسبة د. بكر أبوزيد حيث قال في رسالته "لاجديد في أحكام الصلاة" ص (20): (على الصدر: للشافعي -رحمه الله تعالى- في إِحدى الروايات عنه، ولم يقل بهذا غيره من الفقهاء الأَربعة، فهو مزية لمذهبه؛ لموافقته نَصَّ السنة. نعم: ذكر رواية عن الإِمام أَحمد - رحمه الله تعالى - نادرة، كذا قال السندي - رحمه الله تعالى - في «فتح الغفور»: (ص 66»، وسيأتي تحقيق هذه النسبة.
(3)
قال الألباني في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (77): (وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف أو لا أصل له، وقد عمل بهذه السنة إسحاق بن راهويه). وانظر: إرواء الغليل (2/ 71).
(4)
انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (77).
(5)
ذكر د. بكر أنه ظاهر اختيار ابن القيم وأحال على إعلام الموقعين. انظر: "لا جديد في أحكام الصلاة" ص (21).
(6)
تفسير ابن كثير (8/ 503).
(7)
الجوهر النقي (2/ 30)، وقد روي نحوه عن ابن عباس عند البيهقي (2339) وفيه ضعف. انظر: الجوهر النقي (2/ 30).
(8)
انظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (1/ 287).
روي عن علي وغيره من الأقوال-: (كل هذه الأقوال غريبة جداً، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح المناسك)
(1)
.
- ومعنى الآية كما قال ابن جرير: (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان، شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصك به، من إعطائه إياك الكوثر)
(2)
، قال ابن كثير:(وهذا الذي قاله في غاية الحسن)
(3)
.
- وعلى فرض التسليم بالمروي عن علي رضي الله عنه فإن (حقيقة النحر لا توضع اليدان عليها في قول أحد من الفريقين، وإنما توضع على غيرها مما هو دونهما)
(4)
، كما قال الطحاوي.
- أما مذهب الشافعية فهو: الوضع فوق السرة وتحت الصدر وهو منصوص الشافعي وما نص عليه الشيخان-الرافعي والنووي- قال الشافعي: (ويأخذ كوعه الأيسر بكفه اليمنى ويجعلها تحت صدره)
(5)
، وقال الرافعي:(ثم يضع يديه كما ذكرنا تحت صدره وفوق سرته)
(6)
، وقال النووي: (ويجعلهما تحت صدره وفوق
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 503)، قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 695): (وقال آخرون
…
إن المراد به ضع يدك على نحرك، وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك، فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك)، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير (30/ 575):(وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير «انحر» تجعله لفظاً غريباً).
(2)
تفسير الطبري (24/ 697).
(3)
تفسير ابن كثير (8/ 504).
(4)
أحكام القرآن للطحاوي (1/ 186).
(5)
مختصر المزني (8/ 107)، وانظر: الحاوي الكبير (2/ 99).
(6)
الشرح الكبير للرافعي (3/ 281).
سرته هذا هو الصحيح المنصوص)
(1)
، هذا هو مذهب الشافعية، وعندهم وجه شاذ بالوضع تحت السرة
(2)
، أما الوضع على الصدر فلم أقف عليه عندهم.
- وهنا تنبيهات على مذهب الشافعية:
- الأول: وهو أن بعض الأحناف نسب الوضع على الصدر إلى الشافعي
(3)
، وهذا خطأ على الشافعي كما سبق بيانه، ونسب العيني
(4)
هذا النقل عن الشافعي إلى الحاوي وهذا خطأ أيضاً، وهذا هو نص الماوردي في الحاوي:(قال الشافعي رضي الله عنه: " ويأخذ كوعه الأيسر بكفه اليمنى ويجعلها تحت صدره)
(5)
، وقال:(فإذا ثبت وضع اليمنى على اليسرى فمن السنة أن يضعها تحت صدره)
(6)
.
- الثاني: دليل الشافعية على مذهبهم كما قال النووي: (احتج أصحابنا بحديث وائل بن حجر قال «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره» رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه)
(7)
، وأول من استدل به من الشافعية فيما
(1)
المجموع شرح المهذب (3/ 310)، وما ينص عليه الرافعي والنووي يكون معتمداً عند الشافعية كما قال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج (1/ 39):(الذي أطبق عليه محققوا المتأخرين ولم تزل مشايخنا يوصون به وينقلونه عن مشايخهم وهم عمن قبلهم وهكذا، أن المعتمد ما اتفقا عليه).
(2)
قال النووي في روضة الطالبين (1/ 232): (ثم يضع يديه كما ذكرنا تحت صدره وفوق سرته على الصحيح. وعلى الشاذ: تحت سرته).
(3)
انظر: المبسوط للسرخسي (1/ 24)، تحفة الفقهاء (1/ 127)، الهداية في شرح بداية المبتدي (1/ 49).
(4)
قال في عمدة القاري (5/ 279): (وعند الشافعي على الصدر ذكره في الحاوي).
(5)
الحاوي الكبير (2/ 99).
(6)
المرجع السابق (2/ 100).
(7)
المجموع (3/ 313).
وقفت عليه هو الشيرازي (ت 476)، وهو غير متطابق مع الدعوى، ولذلك قال الدميري:(وعبارة الأصحاب: تحت صدره، فكأنهم جعلوا التفاوت بينهما يسيرًا)
(1)
، وقال زكريا الأنصاري:«على صدره» أي آخره فتكون اليد تحته)
(2)
.
- الثالث: في المطبوع من السنن الكبرى للبيهقي هذه الترجمة: (باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة من السنة)
(3)
، وهو مُشكل على مذهبه
(4)
، وقد يكون فيه إدراج (من السنة)، ويدل لذلك أن ابن التركماني نقل الترجمة هكذا:(باب وضع اليدين على الصدر في الصلوة)
(5)
، دون زيادة (من السنة)، و مما يؤيد ذلك أن البيهقي في الخلافيات قال:(والسنة أن يضع اليمنى على اليسرى تحت صدره وفوق سرته)
(6)
، أو يقال: إن الترجمة على ظاهر حديث وائل ولا يلزم منه الاختيار.
- أما الرواية عن أحمد فأشهرها ثلاث روايات، قال المرداوي: «ويجعلهما تحت سرته) هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب،
(1)
النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 180).
(2)
أسنى المطالب (1/ 145).
(3)
السنن الكبرى (2/ 46) ط دار الكتاب العلمية، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، وكذلك هي في الطبعة التي بتحقيق د. التركي بالتعاون مع مركز هجر (3/ 375)، وقد طبع بعنوان: السنن الكبير، وهو الصحيح في تسميته.
(4)
(تراجم البيهقي تعبر عن رأيه الذي هو رأي الشافعي في أكثر المواضع) كما في مقدمة تحقيق د. التركي ص (69)، وقد قال الجويني:(ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي فإن له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويله). انظر: تبيين كذب المفتري ص (266)، سير أعلام النبلاء (18/ 168).
(5)
الجوهر النقي (2/ 30)، والذهبي قال هنا في المهذب في اختصار السنن الكبير (1/ 483):(ويضعهما على صدره).
(6)
الخلافيات (2/ 252)، مختصر الخلافيات (2/ 33).
وعنه يجعلهما تحت صدره، وعنه يخير)
(1)
، أما الوضع على الصدر فليس في كتب الحنابلة التي تعنى بذكر الروايات ذكر لهذه الرواية
(2)
، التي وصفها محمد حياة السندي بالنادرة
(3)
وليته أحال عليها بذكر مصدرها
(4)
.
- بل إن الإمام أحمد نصَّ على كراهة الوضع على الصدر كما في مسائل أبي داود
(5)
، ونقلها ابن تيمية
(6)
، وابن مفلح
(7)
، وابن القيم
(8)
.
(1)
الإنصاف (2/ 46)، وذكر رواية بالإرسال مطلقاً ورواية بالإرسال في النفل، والأشهر في كتب الحنابلة هي الثلاث.
(2)
انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 116)، الهداية للكلوذاني ص (81)، الكافي (1/ 244)، المحرر (1/ 53)، الفروع وتصحيح الفروع (2/ 168)، شرح الزركشي (1/ 542 - 543)، الإنصاف (2/ 46)، الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 107 - 108).
(3)
انظر: فتح الغفور في وضع الأيدي على الصدور ص (92)، ونقلها عنه د. بكر في "لاجديد في أحكام الصلاة".
(4)
إلا إن كان يقصد بالرواية النادرة: أنه روى حديثاً في مسنده يدل على الوضع على الصدر، وهذا دفعه ابن مفلح بقوله في الفروع (2/ 169):(ويكره وضعهما على صدره نص عليه، مع أنه رواه أحمد)، هذا في مسألتنا خاصة، وقد قال في الآداب (1/ 30) في مسألة أخرى:(الخبر قد رواه أحمد في المسند ولم يصرح بخلافه فهل يكون مذهباً له؟ فيه خلاف بين الأصحاب والظاهر أنه لا يخالفه).
(5)
المسائل ص (48) قال أبوداود: (سمعته يقول: يكره أن يكون، يعني: وضع اليدين عند الصدر).
(6)
شرح العمدة-صفة الصلاة ص (69).
(7)
الفروع (2/ 169)
(8)
قال في بدائع الفوائد (3/ 91): (قال في رواية المزني: "أسفل السرة بقليل ويكره أن يجعلهما على الصدر " وذلك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التكفير، وهو وضع اليد على الصدر) انتهى، ولم أقف على هذا الحديث، لكن جاء في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 8):(روى عبد اللّه بن أحمد سألت أبي عن حديث إِسماعيل بن عُلَية عن أيوب عن أبي معشر قال: «يكره التكفير فِي الصلاة» قال أبي: التكفير أن يضع يمينه عند صدره فِي الصلاة)، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، إلا أنه متأخر في الاستدلال فأبو معشر زياد بن كليب (ت 120) من أتباع التابعين، وللتكفير معنى آخر قال في النهاية (4/ 188):(حديث أبي معشر «أنه كان يكره التكفير في الصلاة» وهو الانحناء الكثير في حالة القيام قبل الركوع)، وجمع بينهما في اللسان (6/ 180) بقوله:(التكفير: وهو وضع اليدين على الصدر، والانحناء خضوعاً واستكانة).
- أما قول ابن رجب: (واختلف القائلون بالوضع: هل يضعهما على صدره، أو تحت سرته، أو يخير بين الأمرين؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد)
(1)
؛ فإما أن يكون وهماً، بدليل: أن مذاهب الأئمة وأحمد ليس فيها الوضع على الصدر.
- وإما أن يكون قصد بقوله: (على صدره) أي: مقارباً لصدره، كما قال ابن تيمية:(وماروى من الآثار عن الوضع على الصدر، فلعله محمول على مقاربته)
(2)
.
- فيكون ابن رجب قد تجوز في العبارة، بدليل أنه قال بعد ذلك:(وعن سعيد بن جبير، أنه يضعهما على صدره، وهو قول الشافعي)
(3)
، وقد سبق أن مذهب الشافعي وأصحابه هو: الوضع تحت الصدر، وأما سعيد بن جبير فهذا هو قوله يرويه البيهقي بسنده إلى أبي الزبير قال: أمرني عطاء أن أسأل سعيداً: أين تكون اليدان في الصلاة؟ فوق السرة أو أسفل من السرة؟ فسألته عنه، فقال:(فوق السرة)
(4)
، قال ابن عبدالبر:(ثبت عنه أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى في صلاته فوق السرة)
(5)
.
(1)
فتح الباري (6/ 363).
(2)
هكذا في المطبوع مؤخراً من شرح العمدة (2/ 664) طبعة دار عالم الفوائد، وفي المطبوع المفرد في صفة الصلاة من شرح العمدة ص (70):(وما روى من الآثار على الوضع على الصدر، فهل هو محمول على مقاربته؟)، وقد ذكرت في طبعة عالم الفوائد وعُلق عليها:(لعل الصواب ما أثبت)، يعني العبارة الأولى.
(3)
المرجع السابق (6/ 364).
(4)
السنن الكبرى (2340)، قال البيهقي بعده:(وأصح أثر روي في هذا الباب أثر سعيد بن جبير وأبي مجلز).
(5)
التمهيد (20/ 76).
- وأما مذهب إسحاق بن راهويه، فهو التخيير مع ترجيح الوضع تحت السرة، قال إسحاق:(تحت السرة أقوى في الحديث، وأقرب إلى التواضع)
(1)
، والوضع تحت السرة هو مانقله عنه ابن المنذر وابن عبدالبر وغيرهما
(2)
.
- وأما ما نُقل عنه من الوضع على الصدر فلم ينقله عنه إلا الألباني
(3)
، ثم د. بكر أبوزيد
(4)
، وسياق الكلام في مستوى رفع اليدين في دعاء القنوت، وليس في وضعهما على بعضهما على الصدر، قال الكوسج:(وكان إسحاق يرى قضاء الوتر بعد الصبح ما لم يصل الفجر، ويرفع يديه في القنوت الشهر كله، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثدييه أو تحت الثديين، ويقرأ بالسورتين ويقرأ في كل واحدة بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يدعو ويؤمن من خلفه. يدعو للمؤمنين والمسلمين، ويدعو على الكافرين، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بدعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما ويقرأ بآخر البقرة ثم يسكت ساعة ثم يركع)
(5)
انتهى، وهذا هو ما فهمه ابن
(1)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه برواية الكوسج (2/ 551 - 552)، الأوسط (3/ 94)، وهذا سياق الكلام والسؤال قال الكوسج:(قلت: إذا وضع يمينه على شماله أين يضعهما؟ قال [أحمد]: فوق السرة وتحته، كل هذا ليس بذاك، قال إسحاق: كما قال، تحت السرة أقوى في الحديث وأقرب إلى التواضع).
(2)
انظر: الإشراف (2/ 13)، التمهيد (20/ 75).
(3)
قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (2/ 71): (وأسعد الناس بهذه السنة الصحيحة الإمام إسحاق بن راهويه، فقد ذكر المروزى فى "المسائل" (ص 222): " كان إسحاق يوترُ بنا
…
ويرفع يديه فى القنوت ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثدييه، أو تحت الثديين).
(4)
قال د. بكر في رسالته "لاجديد في أحكام الصلاة" ص (21): (وبها عمل إِسحاق بن راهويه
…
الخ) وفي الحاشية: (بواسطة: «صفة صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم» للأَلباني. حاشية: (ص 116» انتهى. وانظر: آراء الشيخ الألباني الفقهية في العبادات (1/ 463) فقد تبع الشيخ في النسبة لأحمد وإسحاق.
(5)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق (9/ 4851 - 4852). وانظر: الأوسط (5/ 213).
المنذر وابن عبدالبر وابن قدامة
(1)
.
- وعلى فرض التسليم بأن فعله دلّ على وضع اليمين على الشمال ثم وضعهما على الصدر، فإن هذا الفعل معارض بالقول، والأصل أن مذاهب العلماء تؤخذ من أقوالهم، أما أفعالهم ففيها خلاف، وهي محتملة للنسيان أو غلبة الطبع ونحوهما
(2)
.
- وأما ما نُسب للقاضي عياض المالكي (ت 544)، فهو مع تأخره إلا أنه غير صحيح، وقبل التعليق عليه أسوق كلام الألباني رحمه الله في نسبته إليه حيث قال بعد ذكره لمذهب إسحاق: (ومثله قول القاضي عياض المالكي في "مستحبات الصلاة" من كتابه الإعلام
…
"ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى عند النحر")، قوله:(ومثله) يعني إسحاق وقد تبين أن كلام إسحاق ليس له علاقة بمسألتنا، أما قول عياض:
- فإن عياض يقرر مذهب المالكية، وساق المسألة بخلافها عند المالكية، ولم يجزم بأحد الرأيين، ولم يأت الشيخ بتمام كلامه، حيث قال القاضي:(ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى عند النحر، وقيل: عند السرة في القيام إذا لم يرد الاعتماد)
(3)
.
- ثم إنه فرقٌ بين قوله: (عند النحر) وقول الشيخ: (على الصدر)، فعند تعني القرب وليس الاستعلاء، بدليل أنه قال القاضي:(وقيل: عند السرة) فهو يعني القرب منها فوقها أو تحتها.
(1)
قال في المغني (2/ 113): (قال الأثرم: كان أبو عبد الله يرفع يديه في القنوت إلى صدره. واحتج بأن ابن مسعود رفع يديه في القنوت إلى صدره. وروي ذلك عن عمر، وابن عباس. وبه قال إسحاق).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (19/ 152).
(3)
الإعلام بحدود وقواعد الإسلام ص (58).
- مما يوضح ما سبق قول القاضي في شرح مسلم: (واختلف فى حد وضع اليدين من الجسد، فقيل: على الصدر، وهو المروي عنه عليه السلام. وقيل: على النحر
(1)
، وهو قريب من القول الأول، وقيل: حيثما وضعهما جاز له، وقيل: فوق السُرَّة، وهو مذهبنا، وقيل: تحتها)
(2)
، والوضع على النحر إن قصد به قول علي رضي الله عنه أو الشافعي فقد سبقا.
- أما اختيار ابن القيم فظاهره عدم الوضع على الصدر وليس كما ذكر د. بكر أبوزيد رحمه الله أن ظاهر كلامه هو الوضع على الصدر، وهذا هو كلامه في الكتاب الذي أحال عليه، قال ابن القيم:(ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره». ولم يقل: «على صدره» غير مؤمل بن إسماعيل)
(3)
، فهو يعلّ رواية على (صدره) بتفرد مؤمل عن رواية الجماعة الذين لم يذكروها قال البيهقي:(رواه الجماعة عن الثوري لم يذكر واحد منهم على صدره غير مؤمل)
(4)
، وقال ابن القيم في بدائع الفوائد: (فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد عن سفيان لم يذكر
(1)
عند تعداد الأقوال تجد من يذكر الوضع على الصدر أو النحر لكن دون نسبة كما هنا، ومنهم من ينسبه لعلي رضي الله عنه ومنهم من ينسبه للشافعي، وهما أشهر من ينسب إليهما وقد سبق تحقيق النسبة إليهما، ولمناقشة أي نسبة لابد من معرفة القائل وقوله، والله أعلم.
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 291).
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 289).
(4)
مختصر خلافيات البيهقي (2/ 33).
ذلك، ورواه شعبة وعبد الواحد لم يذكرا خلاف سفيان)
(1)
، وأراد بالسنة الصحيحة الصريحة: وضع اليد اليمنى على اليسرى، وبرهان ذلك أنه ذكر بعد حديث وائل أكثر من عشرة أحاديث وآثار كلها في سنية وضع اليمنى على اليسرى دون ذكر فيها للوضع على الصدر.
- وفي بدائع الفوائد ذكر الخلاف في موضع الوضع ولم يذكر على الصدر، ثم ذكر أثراً لعلي:«من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة» ، ثم قال:(والصحيح حديث علي، قال [يعني: أحمد] في رواية المزني: (أسفل السرة بقليل ويكره أن يجعلهما على الصدر) وذلك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التكفير وهو وضع اليد على الصدر)
(2)
انتهى، ولم يتعقبه ابن القيم بشيء.
- وهذان نقلان من كتابين آخرين تبين عدم اختياره للوضع على الصدر، قال في زاد المعاد:(ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى)
(3)
، وقال في المدارج:(من الأدب مع الله، في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة)
(4)
، وليس فيه ذكر للصدر فيهما، بل في جميع النقول عنه ليس للصدر ذكر إلا على سبيل الرد كما في رده لزيادة مؤمل «على صدره» لتفرده، وكما في نقله للكراهة عن أحمد دون تعقب، والله أعلم.
(1)
بدائع الفوائد (3/ 91).
(2)
المرجع السابق.
(3)
زاد المعاد (1/ 195).
(4)
مدارج السالكين (2/ 364).
المسألة الثانية: أدلة القائلين بسنية الوضع على الصدر:
استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
1/ حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره»
(1)
.
وجه الاستدلال: قال الشوكاني: (الحديث مصرّح بأن الوضع على الصدر
…
ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن حديث وائل رضي الله عنه صحيح دون هذه الزيادة، وقد أخرجه مسلم
(1)
أخرجه ابن خزيمة (479)، والبيهقي (2336)، من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر به، ومؤمل بن إسماعيل (صدوق سيء الحفظ) وقد تفرّد بهذه الزيادة من هذا الطريق، قال البيهقي:(رواه الجماعة عن الثوري لم يذكر واحد منهم على صدره غير مؤمل) مختصر خلافيات البيهقي (2/ 33)، ورواه عن عاصم بن كليب: سلَّام بن سليم، و زائدة بن قدامة، و زهير بن معاوية، و بشر بن المفضل، و أبو عوانة الوضاح اليشكري، و عبدالله بن إدريس، وعبدالواحد بن زياد، (وكلهم ثقات أثبات إلا عبدالواحد فهو ثقة أيضاً إلا أن في حديثه عن الأعمش فقط مقال)، رواه السبعة، ورواه غيرهم عن عاصم، عن أبيه، عن وائل بن حجر دون زيادة وضعهما على الصدر، فتبيّن بذلك خطأ مؤمل في هذه الزيادة، والخطأ لا يعتبر به في الشواهد، وجاءت الزيادة من طريق آخر عند البزار (4488)، والطبراني في الكبير (118)، و البيهقي في الكبرى (2335) في حديث طويل من طريق محمد بن حجر عن سعيد بن عبدالجبار بن وائل بن حجر عن أبيه عن أمه عن وائل بن حجر وفيه:«ثم وضع يمينه على يساره على صدره» ، ولفظ البزار:«عند صدره» وإسناده ضعيف، قال الهيثمي في المجمع (1/ 232):(فيه سعيد بن عبد الجبار، قال النسائي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي سند البزار والطبراني محمد بن حجر، وهو ضعيف)، قال ابن حبان عن محمد بن حجر في المجروحين (2/ 273):(لا يجوز الاحتجاج به)، وقال الذهبي في المغني في الضعفاء (2/ 566):(له مناكير)، وقد خالف سعيد بن عبدالجبار محمد بن جحادة (وهو ثقة من رجال الصحيحين) كما عند مسلم في صحيحه (401) قال: حدثني عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل، ومولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه «ثم وضع يده اليمنى على اليسرى» دون زيادة الصدر، فهي زيادة منكرة، وأكثر رواية الثقات بهذا اللفظ:«ثم أخذ شماله بيمينه» .
(2)
نيل الأوطار (2/ 220).
دونها، وأخرج البخاري حديثاً في معناه دون هذه الزيادة، و
الزيادات على متون الصحيحين تستدعي التروي
(1)
، قال ابن رجب:(فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفية)
(2)
.
- وقد تبيّن أن هذه الزيادة فيها مخالفة الضعيف للثقات، والخطأ فيها ظاهر لمن تتبع الطرق و (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه)
(3)
، قال البيهقي:(رواه الجماعة عن الثوري لم يذكر واحد منهم على صدره غير مؤمل)
(4)
، قال ابن القيم:(ولم يقل: «على صدره» غير مؤمل بن إسماعيل)
(5)
، وهو:(صدوق سيء الحفظ)
(6)
.
- وهذا في التفرد عن الثوري أحد الرواة عن عاصم بن كليب، وقد
(1)
قال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص (60): (فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير، عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته)، قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم ص (95):(إذا كان الحديث الذي تركاه أو أحدهما مع صحة إسناده أصلاً في معناه، عمدة في بابه، ولم يخرجا له نظيراً، فذلك لا يكون إلا لعلة فيه خفيت واطلعا عليها، أو التارك له منهما أو لغفلة عرضت).
(2)
مجموع رسائل ابن رجب (2/ 622)، ونحو هذه العبارة قول أبي عبدالله الأخرم شيخ الحاكم:(قلما يفوت البخاري ومسلما مما يثبت من الحديث) نقلها ابن الصلاح في مقدمته ص (86)، ثم ناقشها.
(3)
كما روي عن علي بن المديني في الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع (2/ 212).
(4)
مختصر خلافيات البيهقي (2/ 33)
(5)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 289).
(6)
تقريب التهذيب ص (555)، قال الذهبي في المغني في الضعفاء (2/ 689):(قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو زرعة في حديثه خطأ كثير)، وهو ثقة في نفسه ومن الكلام الجامع فيه ما قاله الفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 52): (سني شيخ جليل، سمعت سليمان بن حرب يحسن الثناء عليه
…
إلا أن حديثه لا يشبه حديث أصحابه
…
وقد يجب على أهل العلم أن يقفوا عن حديثه، ويتخففوا من الرواية عنه، فإنه منكر يروي المناكير عن ثقات شيوخنا).
رواه عن عاصم جماعة من الثقات الأثبات دون هذه الزيادة، فالتفرد فيها شديد، وقد (رواه عن عاصم: سبعة عشر راوياً غير سفيان، ولم يذكر أحد منهم هذا اللفظ)
(1)
، فهي زيادة منكرة.
2/ واستدلوا أيضاً: بحديث قبيصة بن هلب عن أبيه رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورأيته، قال، يضع هذه على صدره»
(2)
، وبمرسل عطاء قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بهما على صدره، وهو في الصلاة»
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن حديث هلب الطائي رضي الله عنه ثابت دون هذه الزيادة، فهي زيادة شاذة تبين خطؤها بالاختلاف فيها على يحيى القطان، فذُكرت في
(1)
دراسة وتحقيق صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني ص (113).
(2)
أخرجه أحمد (21967) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، حدثني سماك، عن قبيصة عن أبيه به، قال محققوا المسند:(هذا إسناد ضعيف لجهالة قبيصة بن هلب)، لكن قال مغلطاي في شرح ابن ماجه ص (1380):(لكن العجلي قال في كتابه: هو تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات مع تقدّم من صحح حديثه، فزالت عنه الجهالة)، قلت: وذكر الصدر في هذا الحديث خطأ، فقد اختلف في ذكرها عن يحيى حيث ذكرت في رواية أحمد فقط، ورواه الطوسي في مستخرجه (234) عن بندار محمد بن بشار، عن يحيى، عن سفيان، عن سماك به دون هذه الزيادة، ومع الاختلاف في رواية يحيى فإنه لم يُذكر الصدر إلا في هذه الرواية، وقد رواه عن سفيان غير يحيى: عبدالرزاق، وعبدالرحمن بن مهدي، و وكيع، و الحسين بن حفص دون ذكر لها، ورواه عن سماك غير سفيان: أبو الأحوص سلام بن سليم، و أسباط بن نصر، و شريك دون ذكر لها، وألفاظهم كلها في أخذ الشمال باليمين أو وضع اليمين على الشمال دون ذكر للصدر، ومن دلائل الخطأ كون الزيادة جاءت من طريق الإمام أحمد فقط، عن يحيى، عن سفيان عن سماك به، ومع ذلك لم يعمل بها الإمام أحمد ولا سفيان.
(3)
أخرجه أبوداود في سننه (759) وفي المراسيل (33)، من طريق أبي توبة عن الهيثم بنَ حُميد عن ثور، عن سليمانَ بن موسى عن طاووس مرسلاً.
رواية أحمد ولم تُذكر في رواية بندار، ومع الاختلاف فقد جاء الحديث من غير طريق يحيى كعبدالرزاق وعبدالرحمن بن مهدي ووكيع دون هذه الزيادة، وكذلك في الطبقة التي فوقها لم تذكر هذه الزيادة عند أحد، فالحديث محفوظ في الطبقات المتقدمة من الرواة دونها، والزيادة جاءت متأخرة، مع اختلاف يقوي الخطأ.
- ومثل هذه الغرابة والتفرد لا تقبل ولو كانت من ثقة؛ كما قال أبوداود: (لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً)
(1)
.
- ومن دلائل خطأ الزيادة في حديث هلب أنها جاءت من طريق فيه الإمام أحمد وسفيان الثوري فقط وهما لا يقولان بالوضع على الصدر، فأحمد خيّر بين الوضع تحت السرة وفوقها
(2)
، ووضعها هو فوق سرته
(3)
، وكره الوضع على الصدر كما سبق، ولم يعمل بها سفيان الثوري أيضاً، قال ابن المنذر: (وقالت طائفة: يوضع تحت السرة
…
وبه قال سفيان الثوري، وإسحاق)
(4)
، قال ابن عبدالبر:(وقال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق: أسفل السرة)
(5)
،
(1)
رسالة أبي داود إلى أهل مكة ص (29).
(2)
كما في رواية أبي داود لمسائل الإمام أحمد ص (48) قال: (سمعته، سئل عن وضعه؟ فقال: فوق السرة قليلاً، وإن كان تحت السرة فلا بأس. وسمعته، يقول: يكره أن يكون، يعني: وضع اليدين عند الصدر).
(3)
قال عبدالله بن أحمد كما في مسائله ص (72): (رأيت أبي إذا صلى وضع يديه إحدهما على الأخرى فوق السرَّة).
(4)
الإشراف (2/ 13).
(5)
التمهيد (20/ 75).
وهذان النقلان مفيدان في حديث وائل بن حجر حيث إنه جاء من طريق سفيان أيضاً، وفي معرفة مذهب إسحاق بن راهويه.
- وأما حديث عطاء فهو مرسل، والمرسل قسم من أقسام الحديث الضعيف، قال مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه:(والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة)
(1)
.
وأجيب عن هذه المناقشة بأمرين:
- أن مرسل عطاء يشهد له حديث وائل بن حجر وحديث هلب رضي الله عنهما فهو بهما صحيح، هذا لمن لا يحتج بالمرسل إلا إذا روي موصولاً أو كان له شواهد
(2)
.
- أما من يحتج منهم بالمرسل مطلقاً -وهم الجمهور- فالاحتجاج به وحده ظاهر، فهو حجة عند الجميع
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذا الجواب:
- بأن زيادة «على صدره» في حديث وائل بن حجر منكرة، وفي حديث هلب الطائي شاذة، والمنكر و الشاذ مما لا يعتبر فيهما بالشواهد
(4)
، لأن الشاهد يشهد للضعيف غير شديد الضعف بأنه
(1)
صحيح مسلم (1/ 29).
(2)
انظر: صحيح أبي دواد (3/ 344) للألباني، وقال في أحكام الجنائز ص (118):(فهذه ثلاثة أحاديث في أن السنة الوضع على الصدر. ولا يشك من وقف على مجموعها في أنها صالحة للاستدلال على ذلك).
(3)
أحكام الجنائز ص (118)، قال في عون المعبود (2/ 325):(وهو حجة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد -رحمة الله عليهم- مطلقاً، وعند الشافعي -رحمه الله تعالى- إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسنداً كان أو مرسلاً).
(4)
قال طارق عوض الله في كتابه "الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات" ص (78): (الحديث الذي ثبت شذوذه حديث مردود، ساقط بمرة، لا يصلح للاحتجاج ولا الاعتبار، مهما كان راويه في الأصل ثقة أو صدوقاً؛ لأنه قد ثبت أن هذا الحديث بعينه قد أخطأ فيه هذا الثقة، ولا يُعقل أن يُحتج أو يُعتبر بحديث قد تُحقق من خطئه؛ فإنه والحالة هذه لا وجود له في الواقع، إلا في ذهن وتخيل ذاك الراوي الثقة الذي أخطأ. وكذلك الحديث المنكر، مثل الحديث الشاذ بل أولى؛ لا يصلح للاحتجاج ولا للاعتبار
…
وهذا أمر معروف عند أهل العلم، لا يُعلم بينهم فيه اختلاف، بل قد نصوا عليه، وحذروا من الغفلة عنه).
حفظ و ضبط، أو للمرسل بأنه مروي عن ثقة ونحوهما، أما ما تبين فيه خطأ الراوي وغلطه، فوجود الخطأ وعدمه سواء في عدم اعتباره، كما قال الإمام أحمد:(الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبدًا منكر)
(1)
.
- ومن تقريرات الألباني رحمه الله في هذا الباب، قوله:(سبب رد العلماء للشاذ: إنما هو ظهور خطأها بسبب المخالفة المذكورة، وما ثبت خطأه فلا يعقل أن يقوى به رواية أخرى في معناها، فثبت أن الشاذ والمنكر مما لا يعتد به ولا يستشهد به بل إن وجوده وعدمه سواء)
(2)
.
- فبقي مرسل عطاء وهو ضعيف، أما القول بأن الجمهور يحتجون بالمرسل فغير دقيق، وسبق قول الإمام مسلم، يقول ابن حجر في حكم المرسل: (إن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف؛ لبقاء الاحتمال، وهو
(1)
موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله (4/ 389)، قال ابن الصلاح في مقدمته ص (34): (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه
…
كذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال
…
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته. وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً
…
وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك، فإنه من النفائس العزيزة).
(2)
صلاة التراويح ص (66).
أحد قولي أحمد، وثانيهما: - وهو قول المالكيين والكوفيين-: يقبل مطلقاً، وقال الشافعي: يقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى، مسنداً أو مرسلاً، ليرجح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر. ونقل أبو بكر الرازي من الحنفية، وأبو الوليد الباجي من المالكية: أن الراوي إذا كان يرسل عن الثقات وغيرهم لا يقبل مرسله اتفاقاً)
(1)
.
- و يكفي في رد الدعوى أنه لم يذهب إلى حكم هذا المرسل أحد من السلف وأئمة المذاهب، قال في فيض الباري عن رواية «على الصدر» في حديث وائل:(وهو معلولٌ عندي قطعًا، لأنه لم يَعْمَلْ به أحدٌ من السلف، ولا ذهب إليه أحدٌ من الأئمة)
(2)
.
- وعلى فرض التسليم بالصحة فليس كل ما صح يكون معمولاً به (وليس الطريق أن يُبْنَى الدين على كل لفظٍ جديدٍ بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يَثْبُت قدمه في موضعٍ، ويخترعُ كل يوم مسألة، فإن توسُّع الرواة معلومٌ، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خفيِّ)
(3)
.
(1)
نزهة النظر ص (101 - 102).
(2)
فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 333).
(3)
المرجع السابق (2/ 302)، وقال:(وهذا الذي عرض للمحدِّثين، فإنهم يَنْظُرُون إلى حال الإسناد فقط، ولا يراعون التعامل. فكثيرًا ما يَصِحُّ الحديث على طورهم، ثم يَفْقِدُون به العمل، فيتحيَّرون، حتَّى إن الترمذي أخرج في «جامعه» حديثين صالحين للعمل، ثم قال: إنه لم يَعْمَل بهما أحدٌ، وذلك لفقدان العمل لا غير، وإلا فإسنادهما صحيحٌ. وكذلك قد يضعِّفون حديثًا من حيث الإسناد، مع أنه يكون دائرًا سائرًا فيما بينهم، ويكون معمولاً به فيتضرَّر هناك من جهة أخرى. فلا بد أن يراعى مع الإسناد التعامل أيضًا، فإن الشرع يَدُور على التعامل والتوارث).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فإن نسبته إلى الشذوذ غير بعيدة ولا أجزم بها، وسبب عدم الجزم بنسبته إلى الشذوذ: أنه لم يخالف نصاً صريحاً، ولأن الإجماع المحكي على خلافه فيه تأخر في زمنه وتفرّد في حكايته
(1)
، ولأن محل الوضع أصلاً ليس عليه دليل صحيح وظاهر السنة واختيار بعض الأئمة هو التوسعة في المحل؛ إذ المقصود هو التعظيم.
أما تعيين الصدر محلاً للوضع وأنه هو السنة دون ما سواه، فليس هو من أقاويل أهل العلم المعتبرة، وأول من وقفت عليه ينتصر للوضع على الصدر هو محمد بن عبد الهادي السندي (ت 1138 هـ) حين قال:(فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال، ثبت أن محله الصدر لا غير)
(2)
، والله أعلم.
(1)
أول من حكى الإجماع في المسألة صريحاً السهارنفوري (ت 1346).
(2)
حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 271).
قال عبد الله بن المعتز: (زلة العالم كانكسار السفينة، تغرق ويغرق معها خلق كثير).
أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 27)
المبحث الرابع: بدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 93): (الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين)، وقال الذهبي في السير (5/ 271):(الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه).
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
هذا المبحث له ارتباط بالمبحث السابق، إلا إن هذا المبحث مختص بوضع اليدين على بعضهما بعد الركوع في حال القيام، وما سبق يمكن تخصيصه عند بعضهم بما قبل الركوع، وهو القيام في حال القراءة.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
5.
أجمع العلماء على أنه يسن وضع اليمين على الشمال في الصلاة، إلا رواية عن مالك بالسدل، وأرسل بعض السلف أيديهم في الصلاة
(1)
.
6.
واتفق العلماء على عدم وجوب وضع اليمين على الشمال في الصلاة
(2)
.
7.
قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم
(3)
، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة)
(4)
، ولم يفرق بين ما قبل الركوع ومابعده، ورأى بعض المعاصرين أن وضع اليدين على بعضهما بعد الركوع بدعة ضلالة، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (39)، فقد نقل الإجماع مع الاستثناء، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 547) فقد نقل الإجماع دون اسثناء حين قال: (وهو أمر مجمع عليه في هيئة وضع اليدين إحداهما على الأخرى)، وسبق تحرير ذلك في المبحث السابق.
(2)
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 291): (والاتفاق على أنه ليس بواجب).
(3)
جعل الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (2/ 211) هذه الصيغة من صيغ الإجماع كما سبق.
(4)
جامع الترمذي (2/ 33).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420) رحمه الله حين قال: (ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة)
(1)
، يعني: القيام بعد الركوع.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
أما وجه شذوذ القول: بأن وضع اليدين على بعضهما أو قبضهما بعد الركوع بدعة، فهو: نقل الاتفاق على عدم التبديع، وحُكم بعض العلماء عليه بالشذوذ و نحوه من العبارات!
- قال ابن باز (ت 1420) رحمه الله: (جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة خطأ ظاهر لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم
…
ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة زاده الله علما وتوفيقا ولكنه قد غلط في هذه المسألة غلطاً بيّناً)
(2)
.
- وقال أيضاً: (قول من كتب في صفة صلاة صلى الله عليه وسلم: إن وضعهما على الصدر بعد الركوع بدعة قول غلط، وهو قول أخينا في الله الشيخ
(1)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (121) في الحاشية.
(2)
مجموع فتاوى ابن باز (11/ 137 - 138).
ناصر الدين الألباني، قد غلط في هذا، وهو علامة جليل، مفيدة كتبه، لكن كل يغلط وله أغلاط معدودة)
(1)
.
- وقال عبدالمحسن العباد تحت عنوان: (موقف أهل السنَّة من العالم إذا أخطأ أنَّه يُعذر فلا يُبدَّع ولا يُهجَر)، فذكر بعض العلماء ثم قال:(ومن المعاصرين الشيخ العلاَّمة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني، لا أعلم له نظيراً في هذا العصر في العناية بالحديث وسعة الاطِّلاع فيه، لَم يسلم من الوقوع في أمور يعتبرها الكثيرون أخطاء منه)، وعدّ أموراً منها:(وكذا قوله في كتاب صفة صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ وضع اليدين على الصدر بعد الركوع بدعةٌ ضلالة")
(2)
.
(1)
فتاوى نور على الدرب (8/ 277).
(2)
"رفقاً أهل السنة بأهل السنة" ص (35 - 36).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم بدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع:
استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
1/ حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة»
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث فيه عموم وإطلاق، واستثني منه في السنة الركوع لأن اليدين على الركب، والسجود لأن اليدين على الأرض، والجلوس لأن اليدين على الفخذين، فإذا أخرج حال الركوع، والسجود، والجلوس، تعين أن يكون المقصود هو القيام، وليس في الحديث تفريق بين القيام قبل الركوع وبعده، ومن فرّق فعليه الدليل
(2)
.
2/ واستدلوا أيضاً: بما جاء في بعض روايات حديث وائل بن حجر
(1)
أخرجه البخاري (740) وترجم له بقوله: (باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 224):(أي في حال القيام).
(2)
قال ابن باز في مجموع فتاويه (11/ 139): (إذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا: أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين، وفي حال السجود على الأرض، وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين، فلم يبق إلا حال القيام فعلم أنها المرادة في حديث سهل وهذا واضح جداً)، وقال العثيمين في مجموع فتاويه (13/ 165):(حديث سهل واضح الدلالة على أن اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى بعد الركوع كما توضع قبله؛ لأنه عام، لكن يستثنى منه حال الركوع، والسجود، والقعود؛ لأن السنة جاءت بصفة خاصة في وضع اليد في هذه الأحوال).
-رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله»
(1)
، وفي رواية:«كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه»
(2)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: «قائماً» يشمل القيامين، وما بعد الركوع يسمى قياماً وفي الصحيحين:«ثم ارفع حتى تعتدل قائماً»
(3)
، ومن فرق بين القيامين فعليه الدليل.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن هذه الرواية فيها اختصار، وسياق الحديث في الروايات الأخرى واضح الدلالة في أن المراد به القيام الأول بعد تكبيرة الإحرام ومن ذلك رواية مسلم عن وائل بن حجر:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما، سجد سجد بين كفيه»
(4)
، والمطلق يُحمل على المقيد
(5)
.
(1)
أخرجه النسائي (887)، والدارقطني (1104) من طريق سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عمير العنبري، وقيس بن سليم العنبري قالا: حدثنا علقمة بن وائل، عن أبيه به، قال ابن باز في فتاويه (11/ 132): (ثبت
…
بإسناد صحيح).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 9)، والبيهقي في الكبرى (2324)، من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن موسى بن عمير العنبري عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه به، قال موسى بن عمير: ورأيت علقمة يفعله، قال يعقوب الفسوي:(وموسى بن عمير كوفي ثقة) نقله عنه البيهقي في روايته، قال الألباني في السلسة الصحيحة (5/ 306):(ووثقه آخرون من الأئمة وسائر الرواة ثقات من رجال مسلم، فالسند صحيح).
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم (401).
(5)
انظر: السلسلة الصحيحة (5/ 306 - 308)، ذخيرة العقبى (11/ 254).
وقد أجيب عن هذه المناقشة بأمور:
- أنه ليس فيما ذُكر إنكار للقبض بعد الركوع، وعدم الذكر لا يستلزم عدم الوجود.
- ثم إن حمل المقيد على المطلق عند تعذّر الجمع، ولو سلّمنا بالحمل لأمكن قلب الدليل فيقال: هذا القبض في الركعة الأولى فقط كما هو سياق مسلم المفصل، فأي دليل فيه على القبض في الثانية والثالثة؟! فحينئذ صار التقييد تعقيداً.
- والمطلوب هنا: إما إثبات أن الاعتدال بعد الركوع لا يسمى قياماً، وإما أن يُثبت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع هيئة غير القبض، و لا سبيل إليهما فبقي العموم محفوظاً
(1)
.
3/ واستدلوا أيضاً: بأن القول بالبدعية لم يقل به أحد من أهل العلم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل يديه حال قيامه من الركوع ولو فعل ذلك لنقل إلينا كما نقل الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون ذلك من أقواله وأفعاله، ولم ينقل عن السلف تخصيص الإرسال بهذا القيام
(2)
.
المسألة الثانية: أدلة القائلين ببدعية وضع الكفين على بعضهما بعد الرفع من الركوع:
استدل أصحاب هذا القول، بأدلة منها:
1/ حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على
(1)
انظر في المناقشات الثلاث رسالة: "زيادة الخشوع بوضع اليدين في القيام بعد الركوع" للسندي ص (21 - 25).
(2)
انظر: مجموع فتاوي ابن باز (11/ 137 - 140).
اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه»
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن وائلًا ذكر وضع اليمنى على اليسرى قبل الركوع ولم يذكرها بعد الركوع، ولو رآه لذكره كما ذكر رفع اليدين للتكبير في المواضع الثلاثة، فلو كان مشروعاً لما ترك ذكره
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن هذا استدلال بالسكوت، والسكوت ليس ذكراً للعدم، فلا يكون هذا الظاهر الذي مستنده السكوت معارضاً للظاهر الذي مستنده العموم في حديث سهل «كان الناس يؤمرون
…
» الحديث وقد سبق، ولو صرّح بالإرسال لكان الاستدلال قوياً
(3)
.
- ولو سُلّم للشيخ الألباني بهذا الاستدلال فيلزمه: نفي رفع اليدين للتكبير في غير هذه المواضع الثلاثة، وقد أثبتها في غير المواضع الثلاثة: عند السجود والرفع منه أحياناً، والرفع من الركعة الثالثة والرابعة أحياناً
(4)
.
- ثم إن الشيخ يُعمل العموم أو الإطلاق البعيد في بعض ما قيّد في النصوص الخاصة ومن ذلك: قوله بمشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، قال: (لعموم الأدلة وإطلاقها، فمنها: قوله
(1)
أخرجه مسلم (401).
(2)
السلسلة الصحيحة (5/ 308)، صحيح موارد الظمآن (1/ 241)، ذخيرة العقبى (11/ 295).
(3)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (13/ 166).
(4)
انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (122، 131، 154)، وقد نصّ على هذه المواضع الأربع الزائدة على المواضع الثلاث في حديث وائل.
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ) انتهى، مع أن ابن القيم يقول:(ولا يُعرف أن أحداً من الصحابة استحبه)
(1)
.
2/ واستدل أيضاً: بأن وضع اليدين بعد الركوع (لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة ولو كان له أصل لنقل إلينا، ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بعدم التسليم، فالعمل هنا بالعموم أو الإطلاق الذي لم يدخله التخصيص أو التقييد كما في حديث سهل وحديث وائل رضي الله عنهما، وهو نظير وضع اليدين بين السجدتين وفي جلسة الاستراحة حيث لم يرد فيهما دليل خاص ولكنه إعمال للعموم الذي لم يدخله التخصيص.
- ويمكن هنا قلب الدليل، فيقال: لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة ذكر الإرسال، وقد فُصّل في الأحاديث: القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، بهيئات خاصة لليدين، وتخصيص الرفع من الركوع بالإرسال تخصيص خامس و تحكّم
(3)
.
(1)
جلاء الأفهام ص (360).
(2)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (121) حاشية.
(3)
انظر: "زيادة الخشوع بوضع اليدين في القيام بعد الركوع"ص (32)، وقال: (فهذا لا يجوز أصلاً، بل هي زيادة في الشرع، نعوذ بالله من ذلك، ومحال أن يكون هذا الحكم خاصاً بالقيام الأول لم يبينه سبحانه
…
فمن ادعى التخصيص فليثبت من حديث صحيح صريح هيئة أخرى لليدين في هذا القيام، كما ثبت في الركوع والسجود والجلوس).
- وأما قوله: (ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث)، (فجوابه أن يقال: هذا غريب جداً، وما الذي يدلنا على أن أحداً من السلف لم يفعله، بل الصواب أن ذلك دليل على أنهم كانوا يقبضون في حال القيام بعد الركوع، ولو فعلوا خلاف ذلك لنقل
…
)
(1)
.
- أما أئمة الحديث فهذه تراجمهم للأحاديث: قال مالك: (باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة)، وقال البخاري:(باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة)، وقال ابن ماجه:(باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، وقال أبو داود:(باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة)، وقال الترمذي:(باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، وقال النسائي:(وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، وقال الدارمي:(باب قبض اليمين على الشمال في الصلاة)، وقال ابن خزيمة:(وضع اليمين على الشمال في الصلاة قبل افتتاح القراءة)، وقال البيهقي:(باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة)، وغيرها من التراجم، ولم أقف على من ترجم للأحاديث بما يدل على تخصيصها بقبل الركوع، أو ترجم لوضع اليدين بعد الركوع، أو من ترجم بذكر السدل أو الإسبال لليدين في أي موضع من مواضع الصلاة، هذه قرائن تدل على مذاهبهم وليست صريحة فيه.
- وفي قول البخاري: (باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة)، قال ابن حجر:(أي: في حال القيام)
(2)
، وقال العيني: (أي: هذا
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (11/ 140).
(2)
فتح الباري (2/ 224).
باب في بيان وضع المصلي يده اليمنى على اليد اليسرى في حال القيام في الصلاة)
(1)
.
- وأما من سبق إلى التصريح بالاستحباب: فقد قال به بعض الحنفية وصححه الكاساني (ت 587)
(2)
، وقال ابن حزم:(ويستحب أن يضع المصلي يده اليمنى على كوع يده اليسرى في الصلاة، في وقوفه كله فيها)
(3)
، وسئل الإمام أحمد: كيف يضع الرجل يده بعد ما يرفع رأسه من الركوع أيضع اليمنى على الشمال أم يسدلها؟ قال: (أرجو أن لا يضيق ذلك إن شاء الله)
(4)
، فـ (المنصوص عنه: إن شاء أرسلهما، وإن شاء وضع يمينه على شماله)
(5)
، وقطع القاضي أبو يعلى (ت 458) باستحباب الوضع (لأنه حالة قيام في الصلاة
(1)
عمدة القاري (5/ 278).
(2)
قال الكاساني في البدائع (1/ 201): (وأما وقت الوضع فكلما فرغ من التكبير في ظاهر الرواية، وروي عن محمد في النوادر أنه يرسلهما حالة الثناء فإذا فرغ منه يضع بناء على أن الوضع سنة القيام الذي له قرار في ظاهر المذهب، وعن محمد سنة القراءة وأجمعوا على أنه لا يسن الوضع في القيام المتخلل بين الركوع والسجود؛ لأنه لا قرار له ولا قراءة فيه، والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة» من غير فصل بين حال وحال فهو على العموم إلا ما خص بدليل، ولأن القيام من أركان الصلاة والصلاة خدمة الرب تعالى وتعظيم له والوضع في التعظيم أبلغ من الإرسال كما في الشاهد فكان أولى) انتهى، وفي النقل السابق نقل بعضهم الإجماع عن الحنفية وتعقبه ابن نجيم في النهر الفائق (1/ 208):(أقول: في الإجماع نظر فقد ذكر في (السراج) عن النسفي والحاكم والجرجاني والفضلي أنه يعتمد في القومة والجنازة وزوائد العيد وهو المناسب لما حكاه الشارح عن بعضهم أنه سنة لكل قيام وحكى شيخ الإسلام في موضع أنه على قولهما يمسك في القومة التي بين الركوع والسجود لأن في هذا القيام ذكرًا مسنونًا وهو التسميع أو التحميد).
(3)
المحلى (3/ 29).
(4)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (2/ 205).
(5)
المبدع في شرح المقنع (1/ 399).
فأشبه قبل الركوع)
(1)
، وقال به زكريا الأنصاري من الشافعية (ت 926)
(2)
، وجرى عليه تلميذه ابن حجر الهيتمي (ت 974)
(3)
في بعض كتبه، والرملي (ت 1004)
(4)
، وغيرهما من متأخري الشافعية كالبجيرمي والجاوي.
- هذا فيمن استحب أو جوّز وضع اليمنى على اليسرى بعد الركوع، وهناك أقوال أخرى ذكرها ليس مقصوداً أصالة، وهذه إشارة إليها: فهناك من أوجب الوضع أو القبض بعد الركوع وهو ابن البرهان الظاهري التيمي (ت 808)
(5)
، وله ("جزء في إمساك اليدين حال القيام في الصلاة" ذهب فيه إلى وجوب إمساك اليدين بعد الرفع من الركوع، وكان يواظب على ذلك)
(6)
، وهناك من لم يستحب ذلك
(1)
قال شمس الدين ابن مفلح في "النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر"(1/ 62): (قال الإمام أحمد: إن شاء أرسلهما وإن شاء وضع يمينه على شماله، وقطع به القاضي في الجامع لأنه حالة قيام في الصلاة فأشبه قبل الركوع لأنه حالة بعد الركوع فأشبه حالة السجود والجلوس، وذكر في المذهب والتلخيص أنه يرسلهما بعد رفعه وذكر في الرعاية أن الخلاف هنا كحالة وضعهما بعد تكبيرة الإحرام).
(2)
قال في الغرر البهية (1/ 322): (يبتدئ الرفع مع ابتداء رفع رأسه من الركوع فإذا استوى أرسلهما إرسالا خفيفا إلى تحت صدره فقط).
(3)
سئل في الفتاوى الكبرى (1/ 139): (هل يضع المصلي يديه حين يأتي بذكر الاعتدال كما يضعهما بعد التحرم أو يرسلهما؟ (فأجاب) بقوله: الذي دل عليه كلام النووي في شرح المهذب: أنه يضع يديه في الاعتدال كما يضعهما بعد التحريم وعليه جريت في شرحي على الإرشاد وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب).
(4)
غاية البيان شرح زبد ابن رسلان ص (94).
(5)
أبوهاشم أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، ابن البرهان، تأثر بالفروع بابن حزم الظاهري، وتأثر بالأصول بابن تيمية، وكان عالماً بأكثر مسائل الشريعة، مستحضراً لما عليه العامة من مخالفة السنن، كثير التأله والتعبد، قال المقريزي: (وطالما أقسم على الله فأبره
…
وهو أحد الثلاثة الذين نفعني الله بهم نفعاً أرجو بركته)، توفي سنة (808) هـ. انظر:"درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" للمقريزي (1/ 297 - 303).
(6)
قال ذلك تلميذه وصاحبه المقريزي (ت 845) في "درر العقود الفريدة"(1/ 301).
قال ابن تيمية: (ولا يستحب ذلك في قيام الاعتدال عن الركوع؛ لأن السنة لم ترد به، ولأن زمنه يسير يحتاج فيه إلى التهيؤ للسجود)
(1)
، وهذا هو القول المشهور عن الحنفية، وقال به بعض الحنابلة
(2)
.
- أما الشافعية فقد قال النووي في التحقيق: (ثم يعتدل، وهو ركن، وأقله أن يعود بعد ركوعه إلى هيئته قبله، ويطمئن)
(3)
، قال ابن حجر الهيتمي في فتاويه:(الذي دل عليه كلام النووي في شرح المهذب: أنه يضع يديه في الاعتدال كما يضعهما بعد التحريم)
(4)
، وجرى عليه ابن حجر في بعض كتبه، لكنه قرر في شرح العباب أن: (المعتمد أنه يرسلهما
…
لا يجعلهما تحت صدره، وهو ظاهر وإن أوهم إطلاقهم جعلهما تحته في القيام)
(5)
، فهذا أحد الشافعية اضطرب قوله فيها؛ ولعله لعدم النص فيها عند المتقدمين منهم، وجعلها بعض المتأخرين على قولين، قال سعيد باعشن:(فإذا انتصب قائماً أرسل يديه، وقيل: يجعلهما تحت صدره كالقيام)
(6)
.
- وأما المالكية فلا تكاد تجد لهم كلاماً خاصاً في المسألة، وخلافهم في أصل القبض.
(1)
شرح العمدة (2/ 662).
(2)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 201)، الإنصاف (2/ 63).
(3)
التحقيق ص (200).
(4)
الفتاوى الكبرى (1/ 139).
(5)
الفتاوى الكبرى (1/ 150)، قال العبادي في حاشيته على الغرر البهية (1/ 322) - بعد أن ذكر زكريا الأنصاري مشروعية الوضع تحت الصدر بعد الركوع-: (خالفه بعض تلامذته فقال في شرحه للعباب
…
).
(6)
شرح المقدمة الحضرمية ص (217).
- هذه هي الأقوال في المسألة: فهي بين الاستحباب أو عدم الاستحباب أو الإباحة، ولم أقف على قائل بالبدعية، أما القول بالوجوب ففيه بعد.
سبب الخلاف:
الذي يظهر في سبب الخلاف هنا:
1/ الاعتقاد بأن هذا من البدع الإضافية، وهو مبني على تخصيص العموم بعدم جريان العمل، قال الألباني:(العمل بالعمومات التي لم يجر العمل بها على عمومها هو أصل كل بدعة في الدين)
(1)
، وهو نفس المعنى الذي جعله يقول بوجوب الأخذ مما زاد عن القبضة من اللحية وبدعية تركها، وعدم جريان العمل هنا هو موطن النزاع، فالألباني يثبته وغيره ينفيه، فالخلاف ليس في التأصيل وإنما في التنزيل.
2/ تحصيل مذهب السلف بالفهم والاستدلال المجرد، وجعل المخالفة لهذا الفهم مخالفة للسلف وابتداعاً في الدين، قال ابن تيمية:(مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم، وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولا عنده هو الصواب قال: "هذا قول السلف لأن السلف لا يقولون إلا الصواب وهذا هو الصواب" فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم: أنه على مذهب السلف فقائل هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم بل بدعواه: أن قوله هو الحق)
(2)
.
(1)
السلسلة الضعيفة (13/ 342)، وانظر: البدعة الشرعية ص (65).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 151).
3/ الاختلاف في الأصل في الهيئات هنا هل هو الإرسال كما هو الطبيعة، أم هو الوضع كما في حديث سهل في البخاري:«كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» .
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبته إلى الشذوذ صحيحة، لخروجه عن أقوال أهل العلم وعدم وجود سلف له، وهي مسألة اجتهادية والآراء المعتبرة فيها هي: استحباب الوضع أو القبض بعد الركوع، واستحباب الإرسال، وتجويز الأمرين.
أما القول: بوجوب إمساك اليدين بعد الركوع كرأي ابن البرهان (ت 808)، أو وجوب الإرسال وبدعية الوضع كرأي الألباني (ت 1420)
(1)
، فهما رأيان خارجان عن اختلاف العلماء السائغ، ولم أعرف من قال بهما قبلهما، والله أعلم.
(1)
قال عبدالله البسام في توضيح الأحكام (2/ 183): (وأسرف الشيخ ناصر الدين الألباني، فجعل قبض اليدين، ووضعهما على الصدر بعد الركوع "بدعة ضلالة")، وقال عبدالله بن مانع الروقي في ملحوظاته على كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، الملحقة برسالته:"الإنباه إلى حكم تارك الصلاة" ص (62): (هذه من المسائل الاجتهادية التي لا يُحكم على المخالف فيها بأنه على بدعة، والهجوم بمثل هذه العبارات في مسائلٍ اجتهاديةٍ ليس من طريقة القوم).
المبحث الخامس: بطلان صلاة من لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(الحديث إذا تُلقّي معناه بالقبول كما تُلقي معنى حديث ابن خصيفة به، لا يحتاج إلى تتبع أسانيده فإن التلقي من أرقى صفات القبول).
إسماعيل الأنصاري رحمه الله
"تصحيح حديث صلاة التراويح عشرين ركعة" ص (11)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
أصل الصلاة في اللغة: الدعاء
(1)
، (هذا قول جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم)
(2)
، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعاء خاص وهي:(طلب التعظيم لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة)
(3)
، قال أبو العالية الرياحي (ت 93)
(4)
: (صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة)
(5)
.
لكن قال الترمذي: (وروي عن سفيان الثوري، وغير واحد من أهل العلم، قالوا: صلاة الرب الرحمة)
(6)
، وهذا القول هو الأشهر عند أهل اللغة
(7)
، قال ابن القيم:(وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين)
(8)
، ثم ضعّفه ورده بأمور منها:
- قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}
(9)
، فعطف الرحمة على الصلاة، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل.
(1)
انظر: مقاييس اللغة (3/ 300)، المخصص (4/ 55).
(2)
المجموع شرح المهذب (1/ 75).
(3)
التعريفات للجرجاني ص (134).
(4)
رفيع بن مهران الرياحي البصري، من كبار التابعين، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم،، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق ودخل عليه، وروى عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وقرأ القرآن على أبي بن كعب، قال أبو بكر بن أبي داود:(ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية)، توفي سنة (93) هـ. انظر: تاريخ الإسلام (2/ 1202)، الإصابة (2/ 427).
(5)
علّقه البخاري في صحيحه (6/ 120) بصيغة الجزم، وكلامه كان في تفسير الآية في صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم.
(6)
جامع الترمذي (2/ 355).
(7)
انظر: غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 180)، تهذيب اللغة (12/ 166)، وحكاه النووي عن العلماء بقوله:(قال العلماء: الصلاة من الله رحمة). تهذيب الأسماء واللغات (3/ 179).
(8)
جلاء الأفهام ص (158).
(9)
من الآية (157) من سورة البقرة.
- أن رحمة الله وسعت كل شيء، فليس لها خصوصية بالأنبياء والصالحين كالثناء.
- لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين، واختُلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء.
- أن العرب لا تعرف الصلاة بمعنى الرحمة وإنما هي: الدعاء والتبريك والثناء.
- قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً»
(1)
، وصلاة العبد على النبي ليست هي الرحمة وإنما هو ثناء ودعاء بأن يثني الله على نبيه.
هذه خمسة أوجه من خمسة عشر وجهاً ذكرها ابن القيم في الرد على من فسَّر صلاة الله بالرحمة
(2)
، ورجّح ابن حجر ماذهب إليه ابن القيم
(3)
، وزاد في ترجيحه استدلالاً بفهم الصحابة: (من قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا}
(4)
حتى سألوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم: قد علمتم ذلك في السلام)، على أن ابن كثير قال:(وقد يقال: لا منافاة بين القولين، والله أعلم)
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (384).
(2)
انظر: جلاء الأفهام ص (158 - 168).
(3)
قال في الفتح (11/ 156): (وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه).
(4)
من الآية (56) من سورة الأحزاب.
(5)
تفسير ابن كثير (6/ 436)، ولعل فيما ذكره ابن القيم وغيره مايدل على المنافاة من بعض الأوجه، وبين أن الرحمة من لوازم الصلاة وليست مرادفة لها.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
قال ابن عبدالبر: (أجمع العلماء على أن الصلاة على النبي عليه السلام فرض واجب على كل مسلم لقول الله: عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
(1)
، ثم اختلفوا متى تجب ومتى وقتها وموضعها)
(2)
.
2.
…
ويقابله ماحكاه الطبري أن: (الأمر الذي أمر الله به -جل ثناؤه- من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه بمعنى الندب، لإجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أن ذلك غير لازم فرضاً أحداً)
(3)
، ولعلّ محل الإجماع في كلام الطبري:(فيما زاد على مرَّة)
(4)
.
3.
ونُقل الإجماع على أنها واجبة على الجملة غير محددة بزمن
(5)
،
(1)
من الآية (56) من سورة الأحزاب.
(2)
التمهيد (16/ 91)، وقد ذكر ابن حجر فيها عشرة مذاهب ملخصها: قيل: إنها مندوبة نقله الطبري، وقيل: واجبة على الجملة من غير حصر، وقال ابن حزم وغيره: واجبة في العمر مرة، ومذهب الشافعي وجوبها في التشهد الأخير، ومذهب الشعبي تجب في التشهد، ومذهب الباقر تجب في الصلاة من غير تعيين للمحل، وقيل: يجب الإكثار منها من غير تحديد، وقيل: تجب كلما ذكر قاله الطحاوي، وقيل: في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره، وقيل: في كل دعاء انظر: الفتح (11/ 153)، وبعضها يحتاج إلى تحرير وقد حررّها تلميذه السخاوي في القول البديع ص (24).
(3)
تهذيب الآثار- تتمة مسند عبدالرحمن بن عوف ومابعده- ص (228)، قال السخاوي:(واعتُرض عليه في ذلك وممن لمح بالاعتراض عليه أبو اليمين بن عساكر حيث قال: وحمل بعضهم ما ورد من الأمر بذلك في الآية على الندب لا على الوجوب ولا يسلم لهذا القائل قوله ولا يسلم من الاعتراض عليه فيه فإنه ادعى على ذلك الإجماع وهو محل النزاع انتهى. وقد أوّل بعض العلماء هذا القول بما زاد على المرة الواحدة وهو متعين). القول البديع ص (24)، ولعلّ ظاهر التعارض حمل ابن تيمية على قوله في الرد على الإخنائي ص (78):(وحكايات إجماعهم متناقضة).
(4)
الشفا للقاضي عياض (2/ 61).
(5)
انظر: المرجع السابق (2/ 61).
و أقل ما يحصل به الإجزاء مرة
(1)
، قال القرطبي:(ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة)
(2)
.
4.
ولا خلاف في أنها غير واجبة في التشهد الأول من الصلاة
(3)
.
5.
ولا خلاف في مشروعيتها في التشهد الأخير وهذا إجماع
(4)
، وعامة العلماء على عدم الوجوب وحكي إجماعاً، وخالف في ذلك الشافعي فقال بوجوبه وبطلان الصلاة بتركه
(5)
، (وقد شنّع الناس عليه هذه المسألة جداً)
(6)
، و (أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ)
(7)
، وقد تبعه على ذلك بعض العلماء، وهو قول بعض المعاصرين، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال السخاوي في القول البديع ص (24) وهو يعدد الأقوال في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (ثانيها: إنها واجبة في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة وادعى بعض المالكية الإجماع عليها) انتهى.
(2)
في تفسيره (14/ 233)، وسبقه إلى ذلك ابن العربي في أحكام القرآن (3/ 6239)، وحمله بعضهم على ابتداء الصلاة على النببي صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما وجد سببه فقد يتجدد الوجوب بوجوده. انظر: مراقي الفلاح ص (101)، ولذلك فإن ابن العربي وهو ينقل عدم الخلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة=يذهب إلى فرضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
(3)
انظر: الأذكار ص (67)، تفسير ابن كثير (6/ 471)، والقول بالاستحباب هنا قول عند الشافعية، قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص (360):(ولا يعرف أن أحداً من الصحابة استحبه).
(4)
انظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 354)، جلاء الأفهام ص (327).
(5)
قال في الأم (1/ 140): (ومن صلى صلاة لم يتشهد فيها ويصل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسن التشهد فعليه إعادتها، وإن تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتشهد فعليه الإعادة، حتى يجمعهما جميعاً).
(6)
الشفا (2/ 63)، قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص (333):(فيا سبحان الله أي شناعة عليه في هذه المسألة وهل هي إلا من محاسن مذهبه).
(7)
فتح الباري (11/ 164).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
أحمد شاكر (1377)
(1)
، وابن باز (ت 1420)
(2)
، و الألباني (ت 1420)
(3)
، وهو رأي اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية
(4)
.
وقد سبقهم إلى هذا القول من المتأخرين: الصنعاني
(5)
(ت 1182).
(1)
انظر: تعليقه على الروضة الندية المطبوع مع التعليقات الرضية للألباني (1/ 272).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن باز (29/ 300)، ويرى الشيخ أن القول بوجوبها أقوى من القول بركنيتها، وقال عن القول بالسنية بأنه:(أضعف الأقوال)، ثم قال:(واعلم أن المعتمد عند القائلين بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون الصلاة على آله وما بعدها، لكن ينبغي للمؤمن أن يأتي بها على الصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولا يترك منها شيئا).
(3)
انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص (158)، ويرى الشيخ وجوبها ووجوب الاستعاذة بالله من أربع.
(4)
انظر: فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى (7/ 13).
(5)
انظر: سبل السلام (1/ 288) وهو يرى وجوب الصلاة على الآل أيضاً، وقال:(وكذلك بقية الحديث من قوله «كما صليت» إلى آخره يجب؛ إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها فلا دليل له على ذلك)، والقول بوجوب الصلاة على الآل وجه شاذ عند الشافعية كما ذكر النووي في شرح مسلم (4/ 124)، وهو خلاف نص الشافعي، وقال ابن حجر في الفتح (11/ 166):(وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية نسبوه إلى التربجي، ونقل البيهقي في الشعب عن أبي إسحاق المروزي -وهو من كبار الشافعية- قال: أنا أعتقد وجوبها، قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال) انتهى، والتُّربجي من علماء الشافعية، قال ابن الملقن في العقد المذهب عنه ص (208): (من قدماء أصحابنا
…
وهو القائل بوجوب الصلاة على الآل في التشهد الأخير).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
2/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك:
- قال المروذي: قيل لأبي عبد الله [يعني: الإمام أحمد]: إن ابن راهويه يقول: لو أن رجلاً ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، بطلت صلاته. قال: ما أجترئ أن أقول هذا. وقال في موضع: (هذا شذوذ)
(1)
.
- وقال ابن بطال (ت 449): (وشذّ الشافعي في ذلك فقال: من لم يصلّ على النبي في التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه)
(2)
.
- وقال ابن العربي (ت 543): (وشذَّ الشّافعيّ في ذلك فقال: من لم يصلِّ على النبي بعد التشهد الآخر، وقبل السّلام فصلاته فاسدة، وإن صلّى عليه قبل ذلك، لم يجزه. وهذا قول ساقط)
(3)
.
- وقال القاضي عياض (ت 544): (وشذّ الشافعي في ذلك فقال من لم
(1)
نقله ابن قدامة في المغني (1/ 388)، وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع (1/ 444)، وابن القيم في الجلاء ص (332).
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 447)، قال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 290) تعليقاً على العبارة:(وهذِه العبارة قالها غير واحد من المالكية، ولا أرضاها، فقد علمت أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم سبقوه إليها، وابن المواز منهم أيضًا).
(3)
المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 159).
يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم من بعد التشهد الآخر قبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلف له في هذا القول)
(1)
.
- وقال القرطبي (ت 671): (وشذّ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة)
(2)
.
- وقال ابن دقيق العيد (ت 702): (وقد اتفقوا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: تجب في العمر مرة. وهو الأكثر. وقيل: تجب في كل صلاة في التشهد الأخير. وهو مذهب الشافعي، وقيل: إنه لم يقله أحد قبله)
(3)
. ولم يتعقبه بشيء.
- وقال ابن نجيم (ت 970): (وقد نسب قوم من الأعيان الإمام الشافعي في هذا إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع)
(4)
.
- وقال الحصكفي (ت 1088): (وفرض الشافعي قول: اللهم صل على محمد، ونسبوه إلى الشذوذ ومخالفة الاجماع)
(5)
.
(1)
الشفا (2/ 62).
(2)
تفسير القرطبي (14/ 236).
(3)
إحكام الأحكام (1/ 308).
(4)
البحر الرائق (1/ 321).
(5)
الدر المختار ص (65)، قال ابن عابدين في حاشيته (1/ 477):(قوله: (ونسبوه) أي نسبه قوم من الأعيان منهم: الطحاوي وأبو بكر الرازي وابن المنذر والخطابي والبغوي وابن جرير الطبري).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم بطلان صلاة من لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو»
(1)
، ولفظ مسلم:«ثم يتخير من المسألة ما شاء» .
وجه الاستدلال:
- أن قوله: «ثم ليتخير أحدكم من الدعاء ما شاء» يدل على أن لا واجب بعد التشهد، إذ لو كان بعد التشهد واجباً لعلمهم ذلك ولم يخيرهم)
(2)
،
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (835) واللفظ له، وترجم عليه:(باب مايتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب)، وأخرجه مسلم (402)، قال النووي في المجموع (3/ 457): (أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس
…
وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها).
(2)
الأوسط لابن المنذر (3/ 213)، وانظر: معالم السنن (1/ 227)، شرح السنة (3/ 186)، قال النووي في شرح مسلم (4/ 117):(واستدل به جمهور العلماء على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ليست واجبة).
(ولوكانت واجبة لم يخل مكانها منها ويخيره بين ما شاء من الأذكار والأدعية فلما وكل الأمر في ذلك إلى ما يعجبه منها بطل التعيين)
(1)
، (وموضع التعليم لا يؤخر وقت بيان الواجب عنه)
(2)
، و يتأيد ذلك بأمور:
- بفهم راوي الحديث ابن مسعود رضي الله عنه، حيث قال بعدما ذكر الحديث السابق:(فإذا فرغت من هذا فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف)
(3)
.
- ويتقوى ذلك: بأن إبراهيم النخعي (و كان بصيراً بعلم ابن مسعود)
(4)
، (ولم يكن يخرج عن قول عبدالله وأصحابه)
(5)
، قال: (كانوا يقولون: التشهد يكفيهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(6)
، و قال هو: (يُجزيك التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(7)
.
- وبأن (كل من روى التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة وابن عباس وجابر وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وعبد
(1)
معالم السنن (1/ 227).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 308).
(3)
أخرجه ابن حبان (1962)، وروي مرفوعاً، قال الدارقطني في سننه (2/ 164) عن الموقوف:(أشبه بالصواب)، قال الخطابي في معالم السنن (1/ 229):(وقوله: "فقد قضيت صلاتك" يريد معظم الصلاة من القراءة والذكر والخفض والرفع وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام فكنى عن التسليم بالقيام إذ كان القيام إنما يقع عقب السلام) انتهى، قلت: ويدل على صحة هذا التأويل ماصح عن ابن مسعود أنه قال: (مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم) أخرجه البيهقي في الكبرى (2964) وصححه، قال ابن حزم في المحلى (2/ 310):(وقد صح عن ابن مسعود إيجاب التسليم فرضاً).
(4)
سير أعلام النبلاء (4/ 521).
(5)
الفتاوى الكبرى (6/ 146).
(6)
تهذيب الآثار-تتمة مسند عبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير-ص (240)، ويعني بقوله:(كانوا) أصحاب ابن مسعود.
(7)
أخرجه عبدالرزاق (3085)، وانظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 355).
الله بن الزبير لم يذكروا فيه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن عباس وجابر:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن»
(1)
، ونحوه عن أبي سعيد، وقال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما يعلمون الصبيان في الكتاب)
(2)
.
- (وقد علّم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد
(3)
بحضرة المهاجرين والأنصار وليس في شيء من ذلك صلاة على النبي، فلم ينكر ذلك عليه منكر)
(4)
.
(1)
حديث ابن عباس أخرجه مسلم (403) ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: «التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» ، و حديث جابر أخرجه ابن ماجه (902)، والنسائي (1281) وقال:(والحديث خطأ) يعني: من رواية جابر وأصله حديث ابن عباس، ولذلك قال البخاري فيما نقله عنه الترمذي في العلل الكبير ص (72):(والصحيح ما رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، وطاوس، عن ابن عباس)، وبنحوه قال الدارقطني في العلل (13/ 342).
(2)
الشفا (2/ 63 - 64).
(3)
أخرجه مالك (1/ 90)، والحاكم في المستدرك (979)، وغيرهما من طريق عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: «التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» وإسناده صحيح موقوف، قال ابن كثير في مسند الفاروق (1/ 176):(أخذ الإمام مالك بهذا التشهد لأن عمر علمه الناس على المنبر ولم ينكر، وقد يقال: إن مثل هذا لا يكون الا عن توقيف، وأخذ الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل -رحمهما الله- بحديث ابن مسعود وهو الصحيح، وأخذ الإمام الشافعي بحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم، وقد رويت تشهدات أخرى عن جماعة من الصحابة كأبي موسى وجابر، وكل منها مجزئ عندهم وإنما اختلفوا في الأفضلية)، وقال الترمذي في جامعه (2/ 81):(حديث ابن مسعود قد روي عنه من غير وجه. وهو أصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من التابعين).
(4)
شرح صحيح البخارى لابن بطال (2/ 447)
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أن قوله «ثم ليتخير» تدل على أن هناك شيء بين التشهد والدعاء؛ لأن ثم للتراخي
(1)
.
- أن هذا الدليل مقتضاه وجوب التشهد ولا ينفي وجوب غيره، فغايته السكوت عن وجوب الصلاة فلا يكون معارضاً لأحاديث وجوبها
(2)
.
- ولذلك: لم يقل أحد إن هذا التشهد هو جميع الواجب من الذكر في هذه القعدة، فالسلام من الصلاة واجب ولم يعلمهم إياه في أحاديث التشهد.
- وعلى فرض التسليم أو التقدير بأن في أحاديث التشهد نفياً صريحاً لوجوب الصلاة، فإن دليل الوجوب مقدم؛ لأنه ناقل عن الأصل، ثم إن تعليمهم التشهد كان متقدماً، وأما تعليمهم الصلاة عليه فإنه كان بعد نزول آية الأحزاب، بعد نكاحه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، فلو قدّر نفي الوجوب لكان منسوخاً بأدلة الوجوب
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشات:
- بأنها تدور على أن هناك دليلٌ يدل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير وهذا هو موضع النزاع، وسيأتي مناقشة أدلة الوجوب في المسألة الثانية.
2/ واستُدل لعدم الوجوب أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلّم المسيء في
(1)
انظر: فتح الباري (11/ 165).
(2)
انظر: جلاء الأفهام ص (334)، إمتاع الأسماع (11/ 104).
(3)
انظر: جلاء الأفهام ص (334 - 336).
صلاته الصلاة عليه
(1)
، وقد صلّى عنده رجل لم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته
(2)
، ولم يأمره بإعادة الصلاة كما أمر المسيء في صلاته، وإنما علّمه أن يقولها فيما بعد
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أنه قد قام الدليل في غير حديث المسيء في صلاته على وجوب التشهد والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، فكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مأخوذة من غير ذلك الحديث
(4)
.
- ثم إن حديث المسيء في صلاته يحتمل: أنه لم يسيء في ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنها وجبت بعد ذلك، أو أنه علمه المهم من الأركان وأحال البقية على رؤية صلاته صلى الله عليه وسلم وتعليم
(1)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1/ 257 - 258): (تكرر من الفقهاء الاستدلال على وجوب ما ذكر في الحديث، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه
…
وعندنا: أنه إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر: فالمقدم صيغة الأمر، وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليل على عدم الوجوب: وتحمل صفة الأمر على الندب) انتهى، ونبّه الشوكاني في النيل متعقباً (2/ 309): إلى الفرق بين الأوامر التي قبل هذا الحديث فتحمل على الندب، والتي بعده فتحمل على الوجوب، وأما مالم يعلم تاريخه فهو المشكل والأصل البراءة لاحتمال تقدمه أو تأخره فلا ينهض للوجوب.
(2)
كما في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في الصلاة، ولم يذكر الله عز وجل، ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عَجِلَ هذا» ثم دعاه فقال له ولغيره: «إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم ليصلِّ على النبي، ثم ليدع بعدُ بما شاء» . أخرجه أحمد (23937) وهذا لفظه، ومن طريقه أبوداود (1481)، وأخرجه الترمذي (3477) وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وابن خزيمة (710)، وابن حبان (1960)، والحاكم (989) وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا تُعرف له علة، ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرطهما) ولم يتعقبه الذهبي.
(3)
انظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 355).
(4)
انظر: جلاء الأفهام ص (339).
الصحابة له، وعلى كل حال فلا يترك ما هو صريح لهذا المجمل
(1)
.
- و أما الذي لم يؤمر بإعادة الصلاة فيحتمل: أن يكون الوجوب وقع عند فراغه
(2)
، ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بادر إلى الإعادة من غير أن يؤمر، ويحتمل أن تكون الصلاة نفلاً، ويحتمل غير ذلك فلا يترك الظاهر من الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وهو دليل محكم لهذا المشتبه المحتمل
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشات:
- كما سبق؛ بأنها تدور على قيام الدليل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير وهذا هو موضع النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل النزاع.
3/ الدليل الثالث هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
1.
قال ابن جرير الطبري (ت 310) بعد أن ذكر الإجماع على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بفرض قال مؤكداً ذلك: (فإن قال: وكيف يدعى من الأمة إجماعاً على ما قلت، وقد علمت أن بعض المتأخرين كان يزعم أن ذلك فرض واجب في الصلاة؟) ثم أجاب عن ذلك؛ وأن هذا القائل إما أن يكون قد قال مقالته عن علم بمخالفة السنة (وأن الأمة على تخطئتها ما قال بأجمعها مجمعون)
(1)
انظر: المصدر السابق ص (346).
(2)
فتح الباري (11/ 165).
(3)
جلاء الأفهام ص (344).
فهذا لا يخفى سوء اختياره كما ذكر، (أو يكون قال ذلك، وهو غير عالم بما ذكرت من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف، واستفاض به نقل الأمة في ذلك وراثة عن نبيها صلى الله عليه وسلم فذلك أعظم عليه في البلية، وأجسم في المصيبة؛ لأن من جهل مثل ذلك من أمر الدين لم تسعه الفتيا فيه)
(1)
.
2.
وقال الطحاوي (ت 321): (في فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: قال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي الصلاة جائزة وتاركها مسيء، وكذلك سائر العلماء سواهم، والشافعي يوجب الإعادة إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها بين التشهد والتسليم وقال إن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه، قال أبو جعفر: ولم يقل به أحد من أهل العلم)
(2)
.
3.
وقال الجوهري (ت 365)
(3)
: (وأجمعوا أن المصلي إذا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ناسيًا في التشهد الآخر أنه في النسيان معذور، وفي العمد مذموم، والصلاة مجزئة عنه فيهما جميعًا، إلا الشافعي، فإنه
(1)
تهذيب الآثار-تتمة مسند عبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير- ص (229 - 230).
(2)
مختصر اختلاف العلماء (1/ 219)، وانظر: أحكام القرآن للطحاوي (1/ 181).
(3)
اسمه في المطبوع محمد بن الحسن التميمي الجوهري، قال المحقق د. محمد المراد ص (16):(بعد جهد كبير بذلته لم أستطع الحصول على ترجمة للمؤلف)، وتوصل إلى أنه عاش في القرن الرابع، والظاهر أن اسم المؤلف الأول فيه إشكال وهو الذي أحدث هذا الإغلاق، وقد وقفت على من ينقل عن هذا الكتاب ويسمي مؤلفه: ابن بنت نعيم، كابن التركماني (ت 750) في الجوهر النقي نقل عنه في (18) موضعاً، ومن ذلك قوله:(في "نوادر الفقهاء" لابن بنت نعيم: أجمعوا أن أخذ الزكاة حلال لبني المطلب إلا الشافعي وهو منهم فإنه منع من ذلك)، وهذا موجود في المطبوع من نوادر الفقهاء ص (49)، و"نوادر الفقهاء" ينقل عنه العيني أيضاً ونسبه لابن بنت نعيم، وترجم الذهبي لا بن بنت نعيم في وفيات (365) هـ كما في تاريخ الإسلام (8/ 243) بقوله:(عبد العزيز بن محمد بن حسن بن محمد بن أحمد بن خلاد، أبو محمد التميمي الجوهري الضرير، قاضي الصعيد، ويعرف بابن بنت نعيم. يروي عن: محمد بن زبان، وأبي جعفر الطحاوي. وعنه: يحيى ابن الطحان، وغيره) انتهى، فسقط عبدالعزيز من اسمه في المطبوع.
قال: إذا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل التشهد الآخر لم يجزئه)، ونقله ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع"
(1)
.
4.
وقال الخطابي (ت 388) -وهو من أصحاب الشافعي كما عبَّر القرطبي-: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة في الصلاة
…
وعلى هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ الشافعي فإنه قال الصلاة على النبي في التشهد الأخير واجبة فإن لم يصل عليه بطلت صلاته
…
ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة)
(2)
.
5.
وقال ابن بطال (ت 449): (وشذّ الشافعي في ذلك فقال: من لم يصلّ على النبي في التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة
…
ولا سلف له في هذا القول ولا سنة يتبعها
…
وقد علّم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد بحضرة المهاجرين والأنصار وليس في شيء من ذلك صلاة على النبي، فلم ينكر ذلك عليه منكر، فمن أوجب ذلك فقد رد الآثار وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف)
(3)
.
6.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي عليه السلام فرضاً في التشهد الآخر إلا الشافعي ومن سلك سبيله)
(4)
، ونقله ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع"
(5)
.
7.
وقال القاضي عياض (ت 544): (وشذ الشافعي في ذلك فقال من لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم من [بعد] التشهد الآخر قبل السلام فصلاته فاسدة وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلف له في هذا
(1)
نوادر الفقهاء ص (42 - 43)، وانظر: الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 136).
(2)
معالم السنن (1/ 227).
(3)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 447).
(4)
الاستذكار (1/ 486).
(5)
الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 136).
القول ولا سنة يتبعها، وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه لمخالفته فيها من تقدمه جماعة وشنعوا عليه
…
والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع الناس عليه هذه المسألة جدا)
(1)
.
8.
وقال القرطبي (ت 671): (والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة: عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه)
(2)
.
9.
وقال الزيلعي (ت 743): (وقال جماعة من أهل العلم إن الشافعي رحمه الله خالف الإجماع في هذه المسألة وليس له سلف يقتدى به، منهم: ابن المنذر ومحمد بن جرير الطبري والطحاوي)
(3)
.
10.
وقال العيني (855): (وقالت جماعة من أهل العلم: إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ وليس له سلف يقتدي به؛ منهم: ابن المنذر، وابن جرير الطبري، والطحاوي)
(4)
.
ونوقش الاستدلال بالإجماع
(5)
:
- بـ (أن الشافعي-رحمه الله لقوله بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في
(1)
الشفا (2/ 62 - 63).
(2)
تفسير القرطبي (14/ 236).
(3)
تبيين الحقائق (1/ 108).
(4)
شرح أبي داود للعيني (4/ 247)، بعض النقول يظهر فيها التوافق، فأنقلها عن كل من ذكرها مالم يعزها إلى غيره فأكتفي بالنقل عن الأصل وأشير أحياناً إلى الناقل أيضاً إن كان فيه فائدة، كنقولات ابن القطان التي تبين أن المنقول مما يصح أن يدخل في الإجماع، ولا يلزم من ذلك ألا يُستدرك على هذا الإجماع.
(5)
قال القسطلاني في المواهب اللدنية (2/ 655): (وقد انتصر جماعة كثيرة من العلماء الأعلام للشافعي، كالحافظ عماد الدين ابن كثير، والعلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام والحافظ أبى الفضل بن حجر، وتلميذه شيخنا الحافظ، والعلامة أبي أمامة بن النقاش وغيرهم ممن يطول عدهم)، وقال السفاريني في كشف اللثام (2/ 604):(وانتصر الإمام ابن القيم للإمام الشافعي انتصارًا بليغًا، ورد على المشنع، ولا سيما على القاضي عياض ردًا ذريعًا).
الصلاة سلف وخلف
…
فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً)
(1)
.
- (فقد قال بقوله جماعة من الصحابة ومن بعدهم)
(2)
، فمن الصحابة: ابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري، وجابر بن عبدالله، وابن عمر رضي الله عنهم
(3)
.
- (ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان. وإليه ذهب الشافعي، لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً، وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً)
(4)
.
- وهو قول إسحاق بن راهويه، وابن المواز المالكي
(5)
، (فأين إجماع المسلمين مع خلاف هؤلاء وأين عمل السلف الصالح وهؤلاء من أفاضلهم رضي الله عنهم
(6)
.
- وعلى فرض تفرّد الشافعي فـ (يا حبذا ذلك التفرد)
(7)
، و (الشافعى قدوة يقتدى به، والمقام مقام اجتهاد، فلا افتقار له فيه إلى غيره)
(8)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- أما ابن مسعود رضي الله عنه فإن الصحيح عنه عدم وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وقد سبق بيان ذلك عنه وعن أصحابه، وأما نسبة ذلك إليه فقد قال ابن القيم: (عبد الله بن مسعود فإنه كان
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 460).
(2)
جلاء الأفهام ص (330).
(3)
انظر: المصدرين السابقين.
(4)
تفسير ابن كثير (6/ 460).
(5)
انظر: المصدر السابق.
(6)
جلاء الأفهام ص (333).
(7)
شرح مشكل الوسيط (2/ 145).
(8)
المواهب اللدنية (2/ 658).
يراها واجبة في الصلاة ويقول لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن عبد البر عنه في التمهيد)
(1)
، وعند الرجوع إلى التمهيد فهذا نص ابن عبد البر في سياق حجة الشافعي ومن قال بقوله: (واحتجوا من الأثر بحديث أبي مسعود من رواية مالك وفيه: أنه علمهم الصلاة على النبي عليه السلام، وقال: وفيه والسلام كما قد علمتم نعني التشهد، وبأن أبا مسعود روى الحديث وفهم مخرجه وكان يراه واجباً ويقول إنه لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، فالحديث كان عن أبي مسعود وليس ابن مسعود وهذا هو المشهور.
- وأما أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، فقد روي عنه أنه قال:(لو صليت صلاة لا أصلي فيها على آل محمد ما رأيت أن صلاتي تتم)
(3)
، وهذا الأثر قال عنه الطبري:(خبر مرسل؛ وذلك أن أبا جعفر لم يدرك أبا مسعود، ولا رآه، ولو كان قد أدركه، ورآه لم يجز لنا تصحيحه عنه؛ إذ كان راويه جابر الجعفي، وفي نقل جابر الجعفي ما فيه)
(4)
، وأعله الدارقطني بضعف جابر والاضطراب
(5)
، وأعله البيهقي
(6)
، ولو صح فإنه خارج محل النزاع فإنه في الصلاة
(1)
جلاء الأفهام ص (330).
(2)
التمهيد (16/ 194).
(3)
أخرجه الدراقطني (1344)، والبيهقي (3968) وغيرهما من طريق جابر الجعفي (ضعيف رافضي، كما قال ابن حجر، وقال الذهبي: وثقه شعبة فشذ، و تركه الحفاظ، من أكبر علماء الشيعة)، عن محمد بن علي بن الحسين (أبو جعفر الباقر)، عن أبي مسعود الأنصاري به.
(4)
تهذيب الآثار-تتمة مسند عبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير- ص (257).
(5)
قال في سننه (2/ 171): (جابر ضعيف وقد اختلف عنه)، وانظر: علل الدارقطني (13/ 324).
(6)
قال في السنن الكبرى (2/ 530): (تفرد به جابر الجعفي وهو ضعيف)، وانظر: معرفة السنن والآثار (3/ 69).
على الآل وهذا لا يوجبه الشافعي
(1)
، ولو كان الجعفي ممن يحتج به لرد الخبر الذي يؤيد بدعته في التشيع والرفض، هذا وقد رُوي أثر أبي مسعود من وجه آخر موضوع
(2)
.
- وأما جابر رضي الله عنه، فإن النسبة إليه من اضطراب الجعفي أيضاً، وقد سئل الدارقطني عن:(عن حديث محمد بن علي، عن جابر: (لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم لأعدت الصلاة). فقال: يرويه جابر الجعفي، واختلف عنه؛ فرواه عمرو بن شمر، عن جابر، عن محمد بن علي، عن جابر، من قوله. ورواه عبد المؤمن بن القاسم، أخو أبي مريم، عن جابر، عن أبي جعفر، عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، عن أبي مسعود الأنصاري قوله، والاضطراب من جابر الجعفي، وليس بثقة)
(3)
.
- وأما ابن عمر رضي الله عنه، فقد روي عنه أنه قال: (لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن نسيت شيئا من ذلك
(1)
وقد حكى النووي الإجماع على عدم وجوب الصلاة على الآل. انظر: شرح النووي على مسلم (4/ 124).
(2)
أخرجه أبو أحمد الحاكم في شعار أصحاب الحديث ص (72) قال: (أخبرنا أبوبكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن عيسى بن فروخ البغدادي بالرقة، حدثنا بكر بن عبدالله بن نعيم محمد بن عبدالرحمن بن غزوان، حدثنا شريك، عن أبي حصين قال: قال أبو مسعود
…
) هكذا في المطبوع، ولعله فيه تصحيف؛ فالذي يروي عن شريك هو محمد بن عبدالرحمن بن غزوان ولعل هذا الإسناد من صنعه! قال ابن حبان في المجروحين (2/ 305) عنه:(يروي عن أبيه وغيره من الشيوخ العجائب التي لا يشك من هذا الشأن صناعته أنها معمولة أو مقلوبة)، وقال ابن حجر في اللسان (5/ 253): (حدث بوقاحة عن مالك وشريك وضمام بن إسماعيل ببلايا
…
قال الدارقطني وغيره: كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: له عن ثقات الناس بواطيل) انتهى، فالمعروف من أثر أبي مسعود هو من طريق الجعفي وقد سبق، ولذلك قال محقق رسالة "شعار أصحاب الحديث" ص (72) عن هذا الطريق:(لم أقف على أثر ابن مسعود من هذا الطريق).
(3)
علل الدارقطني (13/ 324)، فرواه الجعفي مرفوعاً، وموقوفاً على أبي مسعود، و على جابر.
فاسجد سجدتين بعد السلام)
(1)
، وهذه الرواية شاذة، والأصح في الرواية ذكر التسليم بدل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن أبي شيبة، وعلى كل حال فالأثر بكلا اللفظين لا يصح؛ لأن مداره على عقبة بن نافع وفيه جهالة، وقد سأل عبدالله بن الإمام أحمد والده عن:(عن عقبة بن نافع؟ فقال: لا أذكر معرفته)
(2)
، والرواية عن عقبة فيها انقطاع؛ فالراوي عن عقبة في الأثر هو جعفر بن برقان، وبين جعفر بن برقان وعقبة واسطة، يقول البخاري:(عقبة بن نافع، سمع ابن عمر رضي الله عنهما، روى جعفر بن برقان عن راشد، منقطع)
(3)
، أي: أن راشداً الأزرق بينهما، أما جعفر عن عقبة فهو منقطع
(4)
، والله أعلم.
(1)
ذكره ابن القيم في جلاء الأفهام ص (330) وقال في إسناده: (ذكره الحسن بن شبيب المعمري حدثنا علي بن ميمون حدثنا خالد بن حسان [لعله: حيان، وهو صدوق يخطيء كما قال ابن حجر في التقريب] عن جعفر بن برقان عن عقبة بن نافع عن ابن عمر
…
)، وقال ابن حجر في الفتح (11/ 164):(وأخرج العمري في عمل يوم وليلة عن بن عمر بسند جيد قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علي)، ولم يذكر إسناده، ولعله الإسناد الذي ذكره ابن القيم؛ ولذلك قال السخاوي في القول البديع ص (182):(أخرجه الحسن بن شبيب المعمري في عمل اليوم والليلة له ومن طريقه ابن بشكوال بسند جيد)، قال في فضل الرحيم الودود (10/ 403):(وهذه رواية شاذة؛ والحمل فيها إما على خالد بن حيان، وإما على الحسن بن علي بن شبيب المعمري)، وأخرجه ابن أبي شيبة (8714) بلفظ آخر قال: حدثنا جعفر بن برقان [يقول د. الشثري في تحقيقه للمصنف: أي أن وكيع بن الجراح حدثه عن جعفر؛ أخذاً من الأثر قبله]، عن عقبة بن نافع، قال: سمعت ابن عمر، يقول:(ليس من صلاة إلا وفيها قراءة وجلوس في الركعتين، وتشهد، وتسليم، فإن لم تفعل ذلك سجدت سجدتين بعدما تسلم، وأنت جالس)، وليس فيه موضع الشاهد، ومع أن هذا أصح من الذي قبله، إلا أن كليهما ضعيف؛ فمدارهما على عقبة بن نافع، وهو مجهول ولم يعرفه الإمام أحمد، وفيه انقطاع بين جعفر بن برقان وعقبة بن نافع، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/ 434).
(2)
العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله (2/ 87).
(3)
التاريخ الكبير (6/ 434).
(4)
وانظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 317).
- أما المنقول عن الشعبي من التابعين، فقد قال البيهقي:(وروّينا عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، أنه قال: «من لم يصل، على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، فليعد صلاته» أو قال: «لا تجزئ صلاته»)
(1)
، فهذا إسناد صحيح ولذلك قال ابن حجر:(وأخرج البيهقي في الخلافيات بسند قوي عن الشعبي)
(2)
فذكره، ولكن بين الثوري (ت 161)، والبيهقي (ت 458) مفاوز! ولذلك قال مغلطاي:(ومرسل الشعبي من عند البيهقي أنّه قال: «من لم يصلّ، على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، فليعد صلاته» أو قال: «لا تجزئ صلاته»)
(3)
.
- ثم وقفت عليه مسنداً في الخلافيات بعد أن طبع أكثره كاملاً عام (1437 هـ) وهذا إسناده، كما قال البيهقي: أخبرنا أبوعبدالله الحافظـ، ثنا أبوبكر بن إسحاق الفقيه، أنا محمد بن أحمد بن سعد، ثنا إبراهيم بن محمد بن نوح، ثنا إسحاق، ثنا وكيع، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به، قال البيهقي عقبه:(فهذا عن الشعبي يبطل قولهم: إن العلماء لم يقولوا في هذه المسألة بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نحو مذهبكم)
(4)
، لكن هذا الإسناد فيه محمد بن أحمد بن سعد لم أقف له على ترجمة ولا
(1)
معرفة السنن والآثار (3725).
(2)
فتح الباري (11/ 164)، وكتاب الخلافيات لم يصل إلينا كاملاً فالموجود منه هو الطهارة والباقي كان في عداد المفقود، ثم طُبع حديثاً وفيه نقص يسير، أما مختصره للخمي فهو موجود كاملاً، والأثر في المختصر أورده بلا إسناد، وهو كذلك موجود في "السنن الكبرى" بلا إسناد، وأورده في "معرفة السنن والآثار" بإسناد صحيح منقطع.
(3)
شرح سنن ابن ماجه (5/ 367) بتحقيق ابن أبي العينين، وجاء في طبعة الباز بتحقيق كامل عويضة ص (1536): (ومرسل الشعبي من عند الربعي
…
)!، وهي طبعة وصفت بكثرة التصحيف.
(4)
الخلافيات (3/ 203).
يعرف حاله، والظاهر ثبوته عند البيهقي وتقويته من ابن حجر، والإشارة إلى انقطاعه من مغلطاي، وثبوته محل نظر؛ لأني لم أقف عليه عند غير البيهقي
(1)
، والإسناد فيه مجهول متأخر الطبقة، والبيهقي لم يصرح بصحته، مع جزم أكثر من إمام معروف بنقل الخلاف والتبحر في معرفة الفتيا والمذاهب بعدم سبق الشافعي، وكون هذا الرأي لا يروى بأي مصنف ولا يعرف في كتاب إلا خلافيات البيهقي.
- وأما أبو جعفر الباقر، فأول من وقفت عليه ينسبه إليه هو القاضي عياض حيث قال:(قال الدارقطني: الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن الحسين: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم)
(2)
، وهذه النسبة فيها وهم وهي ضعيفة على كل حال، فإن الراوي عن الباقر هو الجعفي وسبق بيان ضعفه واضطرابه في الرواية، وهذا هو نص كلام الدراقطني الذي يبين وهم النسبة فقد سئل عن: (حديث أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من صلى صلاة، لم يصل فيها علي ولا على أهل بيتي لم تقبل منه» . فقال: حدث به عبد المؤمن بن القاسم الأنصاري أخو أبي مريم، عن جابر، عن أبي جعفر كذلك. وخالفه إسرائيل، وشريك، وقيس، فرووه عن جابر، عن أبي جعفر، عن أبي مسعود: لو صليت صلاة لم يصل فيها عن النبي
(1)
قال ابن تيمية في الفتاوى (24/ 154) عن الحافظ البيهقيٍ: (يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا - مع علمه ودينه - ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر).
(2)
الشفا (2/ 64).
- صلى الله عليه وسلم، ولا على أهل بيته، لرأيت أنها لا تتم، موقوفاً، وهو الصواب عن جابر)
(1)
، يعني: أن الصواب من رواية جابر الجعفي هي الوقف على أبي مسعود وليس الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها رواية الأكثر من أصحاب الجعفي، وهذا يخالف مانقله القاضي عنه من تصويب الرواية المقطوعة على التابعي، وعلى كل الأحوال فلايلزم من تصويب الرفع أو الوقف أو القطع صحة الأثر؛ لأن مداره على الجعفي، وهو ضعيف كما سبق بيانه عن الدراقطني والبيهقي.
- وأما مقاتل بن حيان، فإن المروي عنه أخرجه ابن أبي حاتم قال: (قرأت على محمد بن الفضل بن موسى، ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، ثنا أبو وهب محمد بن مزاحم، ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، قوله:{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}
(2)
، وإقامتها المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها)
(3)
، وإسناده جيد
(4)
، ولكنه ليس بصريح في بطلان صلاة من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه ليس بصريح في بطلان صلاة من لم يسبغ الوضوء إذا أتى بالفرض منه، كما أنه فيه حصر إقامة الصلاة بما ذكر: فاستقبال القبلة، وستر العورة، والنية، والتحريمة، وغيرها مما لم يذكر لاشك أنه من إقامة الصلاة، فهو من التفسير بالمثال والتنبيه، والله أعلم.
(1)
علل الدارقطني (6/ 197).
(2)
من الآية (3) من سورة البقرة.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (1/ 37).
(4)
وبكير بن معروف (صدوق فيه لين) كما في التقريب ص (127)، ولكن المتن مستقيم ليس فيه مايستنكر عليه.
- والخلاصة: أنه لا يثبت القول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد ممن ذكر قبل الشافعي، فمن ذُكر
(1)
تبيّن بعد بحثه أنه ضعيف وهو الأغلب، أو غير صريح.
- وهذه هي المصنفات التي تُعنى بفقه السلف كمصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة لا تجد فيها من قال بقول الشافعي، بل فيها عدم الوجوب كما سبق عن ابن مسعود ثم أصحابه ثم النخعي، وهذا فقه أهل الكوفة، وهذا عطاء في الحجاز يسأله ابن جريج: أليس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع التشهد؟ فقال: لا يزاد على التشهد فيما يعلم من التشهد، إلا أن يقول الإنسان بعد التشهد ما شاء)
(2)
، وكلها صحيحة صريحة بعدم الوجوب.
- أما الإمام الشافعي (ت 204)، فهو أول من يعرف عنه هذا القول، وقد قال:(ومن صلى صلاة لم يتشهد فيها ويصل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسن التشهد فعليه إعادتها، وإن تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتشهد فعليه الإعادة، حتى يجمعهما جميعاً)
(3)
، وقد صرّح قبل ذلك بفرضيتها، وهذا صريح في مذهبه.
- أما الإمام أحمد (ت 241)، فله قول بعدم الوجوب، وشذوذ قول
(1)
الذين ذكرهم ابن القيم وابن كثير، وهما أبرز من انتصر للشافعي.
(2)
أخرجه عبدالرزاق في المصنف (3084) وإسناده صحيح يرويه عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء.
(3)
الأم (1/ 140)، قال النووي في المجموع (3/ 465):(فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فرض بلا خلاف عندنا إلا ما سأذكره عن ابن المنذر إن شاء الله تعالى، فإنه من أصحابنا)، قلت: وكذلك الطبري فإنه مذكور في طبقات الشافعية لتقلده مذهب الشافعي في أول أمره، والخطابي كذلك معدود في الشافعيين.
من أبطل صلاة من لم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
-وقد سبق-، وله قول بالوجوب قال ابن قدامة:(وظاهر مذهب أحمد رحمه الله وجوبه؛ فإن أبا زرعة الدمشقي نقل عن أحمد، أنه قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة. فظاهر هذا أنه رجع عن قوله الأول إلى هذا)
(2)
، والرواية الثالثة أنها ركن
(3)
.
- أما إسحاق بن راهويه (ت 238)، فهي عنده من الواجبات التي تبطل الصلاة بتركها عمداً، وتصح مع النسيان
(4)
، وإسحاق (قرين أحمد بن حنبل ويوافقه في المذهب: أصوله وفروعه وقولهما كثيراً ما يُجمع بينه)
(5)
، يقول إسحاق:(قال لي أحمد بن حنبل بمكة: تعال حتى أريك رجلا لم ترَ عيناك مثله، فأقامني على الشافعي)
(6)
، وبين الثلاثة رابطة فالإمام أحمد (موافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما)
(7)
، إلا أن الظاهر أن الإمام أحمد أخف في هذه المسألة من إسحاق وإسحاق أخف من الشافعي، وقد جاء في مسائل
(1)
انظر: المغني (1/ 388)، المبدع (1/ 444).
(2)
المغني (1/ 389).
(3)
قال ابن مفلح في الفروع (2/ 247) في بيان الأركان: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الأشهر عنه، اختاره الأكثر "وش" وعنه واجبة، اختاره الخرقي. وفي المغني: هي ظاهر المذهب، وعنه: سنة، اختاره أبو بكر "وهـ م")، وانظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 129).
(4)
قال ابن المنذر: (وكان إسحاق يقول: إذا فرغ من التشهد إماما أو مأموما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، لا يجزيه غير ذلك، ثم قال: إن ترك ذلك ناسيا رجونا أن يجزيه. قال أبو بكر [ابن المنذر]: ولو كان ذلك فرضاً عنده كالركوع والسجود، وقراءة فاتحة الكتاب، لأوجب عليه الإعادة على كل حال)، وانظر: المغني (1/ 388)
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 232).
(6)
تذكرة الحفاظ (1/ 265).
(7)
مجموع الفتاوى (34/ 113).
الكوسج
(1)
: (قلت: إذا سلّم الإمام، وقد بقي على الرجل شيء من الدعاء؟ قال [أحمد]: يسلم معه، قال إسحاق: كما قال. إذا كان قد تشهد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يفعل ذلك وسلم الإمام فليفعله، ثم ليسلم)
(2)
.
- وقد استوقفني في بحثي لمذهب إسحاق هذا النص عنه: (الصلاة كلها من أولها إلى آخرها واجبة، والذين يقولون للناس: في الصلاة سنة وفيها فريضة، خطأ من المتكلم
…
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعض [ما] وصفنا في الصلاة مثل التشهد في الأوليين وشبهه ناسياً، فلم يعد الصلاة. ولكن لا يجوز لأحد أن يجعل الصلاة أجزاء مجزأة فيقول: فريضته كذا، وسنته كذا، فإن ذلك بدعة)
(3)
، وهذا يشبه مانقله ابن رجب بقوله: (وأنكر أحمد أن يسمي شيء من أفعال الصلاة وأقوالها سنة، وجعل تقسيم الصلاة إلى سنة وفرض بدعة، وقال: كل ما في الصلاة واجب، وإن كانت الصلاة لا تعاد بترك بعضها. وكذلك أنكر مالك تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة، وقال: هو كلام الزنادقة
…
وكذلك
…
الشافعي يقول: كل أمور الصلاة عندنا فرض)
(4)
، والكلام في توجيه الكلام يطول، ولاشك أنه ليس على ظاهره المتبادر؛ ولذلك أحمد في سياق الكلام يقول: (وإن كانت
(1)
(والكوسج سأل مسائله لأحمد وإسحاق .. ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج. وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة والحديث وكانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق يقدمون قولهما على أقوال غيرهما وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم هم أيضا من أتباعهما، وممن يأخذ العلم والفقه عنهما). المرجع السابق.
(2)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (2/ 470 - 471)، ويلاحظ تفصيل إسحاق وتقييده دون أحمد.
(3)
المصدر السابق (2/ 523 - 525).
(4)
فتح الباري (7/ 141 - 142).
الصلاة لا تعاد بترك بعضها)، مما يدل على أنه ليس بالواجب الذي يبطل تركه، وكأن الكلام في منهج طرح المسائل، وأن يكون كما طرحها الصحابة: فتوضأ عثمان كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى مالك بن الحويرث للناس كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، وساق جابر حجة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها، ولم يقولوا للناس هذا واجب وهذا مستحب، فكذلك يُعلّم الناس هكذا، وأما في الفتوى فيمن ترك شيئاً أو زاد شيئاً فهنا التقسيم والترخيص، قال ابن رجب:(وسبب هذا - والله أعلم - أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه، والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله، فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به والرغبة فيه، وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقب عليه عند الأكثرين، كغسل الجمعة، وكذلك ليلة الضيف عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد به المبالغة في الحث على فعله وتأكيده)
(1)
. والله أعلم.
- وأما ابن الموّاز المالكي (ت 269)
(2)
، فمذهبه وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، كما نقله عنه بعض المالكية، وجعلوه كقول الشافعي
(3)
، على أن القاضي عياض قال: (وكلامه محتمل
(1)
جامع العلوم والحكم (2/ 156 - 157).
(2)
محمد بن إبراهيم الإسكندراني، المالكي، ابن المواز، أخذ عن أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم، وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك، قال السيوطي:(وله اختيارات خارجة عن مذهب مالك؛ منها وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة). توفي سنة (269) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 6)، حسن المحاضرة (1/ 310).
(3)
انظر: الإشراف للقاضي عبدالوهاب (1/ 252)، شرح التلقين (1/ 547)، الذخيرة (2/ 218)، عيون المسائل ص (120).
الوجوب على الجملة، كما قالت الجماعة)
(1)
.
- وخلاصة ماتقدم: أن الرأي بدأ من الإمام الشافعي ثم تلقاه الناس عنه، أما من قبله: فليس فيما نقل إلينا ووقفت عليه شيء صحيح صريح، أما الصحابة: فابن مسعود النسبة إليه وهم، وأبو مسعود وجابر المنقول عنهما مداره على الجعفي وهو ضعيف تركه الحفاظ، وأما ابن عمر فما نقل عنه فيه شذوذ وجهالة وانقطاع.
- وأما الشعبي فالمروي عنه منقطع، وأما الباقر فالنسبة إليه وهم، وأما مقاتل فكلامه غير صريح، وثبت عن الشافعي بطلان صلاة من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، وعن إسحاق مثله في المتعمد دون الناسي، وعن أحمد ثلاث روايات، وابن المواز نقل عنه بعض المالكية القول بالوجوب كقول الشافعي.
- وبه يُعلم علو كعب الطبري وابن المنذر والطحاوي وابن عبد البر وغيرهم من أساطين العلم، الذين قطعوا بتفرّد الشافعي أو لم يعرفوا من سبقه، وتقدمهم في معرفة الوفاق و الخلاف، والله أعلم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين ببطلان صلاة من لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
(2)
.
(1)
إكمال المعلم (2/ 296).
(2)
الآية (56) من سورة الأحزاب.
وجه الاستدلال:
- أن الله عز وجل فرض الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم (فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع، أولى منه في الصلاة)
(1)
، ويوضح ذلك بعض الشافعية بأن:
-
…
(الآية تقتضي وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء أنها لا تجب في غير الصلاة)
(2)
(فتعيّن وجوبها فيها)
(3)
.
وقد نوقش هذا الاستدلال:
- (في دعوى الإجماع نظر ففي المسألة أقوال منهم من أوجبها في العمر مرة
…
)
(4)
وهذا في الوجوب المطلق، وقد يتجدد الوجوب لوجود سببه وهو المطلوب إقامته هنا.
- قال ابن دقيق: (وقد كثر الاستدلال على وجوبها في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة بالإجماع، ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع، فتعين أن تجب في الصلاة، وهو ضعيف جدا؛ لأن قوله:" لا تجب في غير الصلاة بالإجماع " إن أراد به: لا تجب في غير الصلاة عيناً، فهو صحيح. لكنه لا يلزم منه: أن تجب في الصلاة عيناً، لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة
(5)
. فلا يجب واحد من المعينين - أعني خارج الصلاة
(1)
الأم (1/ 140).
(2)
المجموع (3/ 467).
(3)
أسنى المطالب (1/ 165)، وانظر: الحاوي الكبير (2/ 137)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 138).
(4)
كفاية الأخيار ص (109).
(5)
(أي: غير مقيد بوقت معين، فلا يجب داخل الصلاة عيناً، ولا خارجها عيناً، بل في أي الحالين فعله أسقط الوجوب عن نفسه). حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام (2/ 21 - 22).
وداخل الصلاة-، وإن أراد ما هو أعم من ذلك، وهو الوجوب المطلق فممنوع)
(1)
.
- فالآية فيها أمر مطلق: والامتثال يقيناً يحصل بواحدة (وأما الزيادة على المرة فنحن نسألكم: كم من مرة توجبون ذلك في الدهر، أو في الحول، أو في الشهر، أو في اليوم، أو في الساعة ولا يقبل منكم تحديد عدد دون عدد إلا ببرهان، ولا سبيل إليه؛ فقد امتنع هذا بضرورة العقل.
- فإن قالوا: نوجب ذلك في الصلاة خاصة قلنا: ليس هذا موجوداً في الآية، ولا في شيء من الأحاديث فهو دعوى منكم بلا برهان)
(2)
.
- فلم يجيء في القرآن: (صلوا عليه في صلاتكم، إنما قال ذلك قولاً مطلقا يكون إنما نالهم بقولهم إياه في صلواتهم وفي غيرها، كمثل ما قال في غير هذه الآية، وهو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا})
(3)
.
2/ واستُدل للوجوب: بالحديث المتفق عليه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «فقولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على
(1)
إحكام الأحكام (1/ 309)، أي: إن أراد نفي الوجوب المطلق فهو ممنوع؛ لأن في الآية أمر والأصل فيه الوجوب.
(2)
المحلى بالآثار (2/ 303)
(3)
شرح مشكل الآثار (6/ 22)، والآيتان (41، 42) من سورة الأحزاب.
آل إبراهيم، إنك حميد مجيد»
(1)
، وروي نحوه عن بعض الصحابة، وفي إحدى الروايات:(فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا)
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصلاة عليه مأمور بها والأصل في الأمر الوجوب
(3)
، وفي الرواية الأخرى دلالة على المطلوب وهو تعيين محلها وذلك في الصلاة
(4)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن (صيغة الأمر في قوله «قولوا» ظاهرة في الوجوب
…
[لكن] ليس
(1)
أخرجه البخاري (6357)، ومسلم (406)، قال النووي في شرح مسلم (4/ 124):(هذا القدر لا يظهر الاستدلال به إلا إذا ضم إليه الرواية الأخرى كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا).
(2)
أخرجه أحمد (17072)، وابن خزيمة (711)، ومن طريقه ابن حبان (1959)، والحاكم (988)، والدارقطني (1339)، والبيهقي في الكبرى (3965) من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبدالله بن زيد بن عبدربه عن أبي مسعود به، وقد صرّح ابن إسحاق فيه بالتحديث، قال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ولم يتعقبه الذهبي، وقال الدارقطني (2/ 169):(هذا إسناد حسن متصل)، ونقله البيهقي مقرّاً له، وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي (2/ 146):(في سنده ابن اسحاق وقد ذكر البيهقي في باب تحريم قتل ماله روح (إن الحفاظ يتوقون ما ينفرد به» قال ابن حجر في الفتح (11/ 163): (وهو اعتراض متجه لأن هذه الزيادة تفرد بها بن إسحاق)، والحديث أخرجه مسلم (405) دون هذه الزيادة، فتفرّد ابن إسحاق بها لا يقبل، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (3/ 475):(فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً) انتهى، وسبق تفصيل حاله في المبحث الرابع من الفصل الأول، وأما قول الدارقطني فإنه لا ينفي الشذوذ عنها، وأما قول الحاكم فقد قال عنه الألباني في أصل صفة الصلاة (3/ 907): (ليس بصواب؛ وإن وافقه الذهبي؛ لأن ابن إسحاق إنما خرَّج له مسلم في المتابعات
…
على أنه قد تكلم بعضهم في حديثه هذا؛ لأنه تفرد بقوله: إذا نحن صلينا في صلاتنا).
(3)
انظر: الحاوي الكبير (2/ 138).
(4)
حاشية البجيرمي على الخطيب (2/ 41).
في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر، مخصوص بالصلاة)
(1)
، و (لم يقل: إن هذا القول فرض في الصلاة، ولا يحل لأحد أن يزيد في كلامه عليه السلام
(2)
.
- وأما الزيادة المُخصصة أو المقيدة في الرواية الأخرى فلا تصح؛ لتفرد محمد بن إسحاق بها، والحديث أخرجه مسلم ولم يذكرها
(3)
.
- وعلى فرض التسليم بأنها نص في الصلاة والتشهد فإن (الأمر بها
…
لا يدل على الوجوب؛ فإنه إنما أمرهم عندَ سؤالهم عنه، وهذه قرينة تخرج الأمر عن الوجوب، على ما ذكره طائفة من الأصوليين؛ فإنه لو كان أمره للوجوب لا بتدأهم به، ولم يؤخره إلى سؤالهم، مع حاجتهم إلى بيان ما يجب في صلاتهم؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدل على أنه اكتفى بالسلام عليه عن الصلاة)
(4)
.
- فليس كل أمر يدل على الوجوب كما سبق، وقد روي الأمر بالتسبيح في الركوع والسجود ولم يذهب الشافعي إلى وجوبه
(5)
، قال ابن تيمية:(فكيف يوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجئ أمر بها في الصلاة خصوصاً، ولا يوجب التسبيح مع الأمر به في الصلاة، ومع كون الصلاة تسمى " تسبيحاً"؟)
(6)
.
(1)
إحكام الأحكام (1/ 308 - 309).
(2)
المحلى (2/ 303).
(3)
يقول د. ماهر الفحل في تحقيقه لبلوغ المرام ص (151): (تفرد بهذه اللفظة محمد بن إسحاق وحاله لا تحتمل التفرد).
(4)
فتح الباري لابن رجب (7/ 365).
(5)
انظر: شرح مشكل الآثار (6/ 22)، شرح صحيح البخارى لابن بطال (2/ 446).
(6)
مجموع الفتاوى (16/ 118).
- ثم (الأوامر المذكورة في الأحاديث تعين كيفيته، وهي لا تفيد الوجوب)
(1)
.
- وعلى فرض التسليم بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، فإن الحديث فيه الأمر بالصلاة على الآل مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة على الآل ليست بواجبة عند الشافعي مع أن الحديث فيه الأمر بهما
(2)
.
3/ واستُدل للوجوب أيضاً: بحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في الصلاة، ولم يذكر الله عز وجل، ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عَجِلَ هذا» ثم دعاه فقال له ولغيره: «إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم ليصلِّ على النبي، ثم ليدع بعدُ بما شاء»
(3)
.
(1)
نيل الأوطار (2/ 330)، وضرب أمثلة منها: الأمر بالركعتين للاستخارة، ومنها الأمر بالإيتار بواحدة لمن خشي الصبح.
(2)
قال الشافعي في الأم (1/ 141): (ولو لم يزد رجل في التشهد على أن يقول: التحيات لله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وصلى على رسول الله= كرهت له ذلك ولم أر عليه إعادة)، بل حكى النووي في شرحه على مسلم (4/ 124): الإجماع على عدم وجوب الصلاة على الآل والذرية والدعاء، وأن وجوب الصلاة على الآل وجه شاذ عند الشافعية، وقد أجاب ابن الرفعة في كفاية النبيه (3/ 217) عن هذا الاعتراض بقوله: (لا يجب على الآل؛ لظاهر الآية؛ فإنه لم يذكر فيها الآل. والجواب عن قوله عليه السلام: "قولوا
…
" إلى آخره، إنما هو "اللهم صل على محمد"؛ لأنه المسئول عنه، وقوله: "وعلى آل محمد" ليس بياناً لما سئل عنه، وإنما هو كلام مستأنف؛ فنحمله على الاستحباب).
(3)
أخرجه أحمد (23937) وهذا لفظه، ومن طريقه أبوداود (1481)، وأخرجه الترمذي (3477) وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وابن خزيمة (710)، وابن حبان (1960)، والحاكم (989) وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا تُعرف له علة، ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرطهما) ولم يتعقبه الذهبي، وترجم له ابن خزيمة بقوله:(باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد) ومثله البيهقي، وترجم له ابن حبان:(ذكر البيان بأن المرء مأمور بالصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في صلاته عند ذكره إياه بعد التشهد).
وجه الاستدلال:
- أن في الحديث أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأصل فيه الوجوب
(1)
، ويتأيد ذلك:
- بما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه)
(2)
، قال ابن حجر: (وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود
…
وهذا أقوى شيء يحتج به للشافعي)
(3)
، و (فيه دلالة على وجوبها ومحلها)
(4)
.
- ويقوّي ذلك حديث عائشة في وتره صلى الله عليه وسلم وفيه: «فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويحمده ويدعو ربه ويصلي على نبيه»
(5)
، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(6)
.
(1)
انظر: الحاوي الكبير (2/ 137)، شرح النووي على مسلم (4/ 124)، جلاء الأفهام ص (98).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3026)، والحاكم (990)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (2879)، وإسناده صحيح.
(3)
فتح الباري (11/ 164).
(4)
نهاية المحتاج (1/ 524).
(5)
أخرجه ابن ماجه (1191)، والنسائي (1720)، وابن خزيمة (1078)، وأبوعوانة (2295)، والبيهقي في الكبرى (1078) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، قال: سألت عائشة به، والحديث في صحيح مسلم (746) بهذا اللفظ:«ثم يقوم فيصلّ التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم» وليس فيه ذكر للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر أن ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث غير محفوظة فالحديث مداره على قتادة، ورواه عن قتادة: معمر وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة - في رواية الأكثر عنه- دون هذا اللفظ، ثم اختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة: فرواه عنه يحيى القطان و ابن أبي عدي وخالد بن الحارث دونها، ورى الزيادة: محمد بن بشر وعبدة بن سليمان، قال د. سامي الخليل في دراسته لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني ص (426):(هذه الزيادة شاذة لاتصح؛ فقد خالف محمد بن بشر وعبدة ستة من أصحاب ابن أبي عروبة، فيهم يحيى القطان، وخالفا أيضاً خمسة من أصحاب قتادة فيهم شعبة وهشام).
(6)
أخرجه البخاري (631).
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أما حديث فضالة (غايته إيجاب الصلاة في مطلق الصلاة عند إرادة الدعاء، فما الدليل على الوجوب بعد التشهد، على أنه حجة عليهم لا لهم)
(1)
؛ حيث لم يأمره بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته، ولو كانت فرضاً لأمره بالإعادة -وقد سبق ذلك-.
- ثم إن الحديث فيه أمر بالدعاء «ثم ليدع بعدُ بما شاء» وليس بواجب عند الشافعي وغيره من العلماء وحكي إجماعاً، فكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتاج هذا الأمر إلى ما يقويه كما هو في التشهد.
- ويؤيد ذلك ما احتجوا به عن ابن مسعود رضي الله عنه فهو يقول: (يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه) كما في حديث فضالة، ثم صحّ عنه أنه قال بعد روايته للتشهد:(فإذا فرغت من هذا فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف)
(2)
، وهو صريح في عدم إبطال من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وعلى ذلك أصحابه من بعده (كانوا يقولون: التشهد يكفيهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
- فدلّ عدم أمر الرجل في حديث فضالة بإعادة الصلاة، وتصريح ابن
(1)
نيل الأوطار (2/ 331). وقد أجاب ابن القيم في الجلاء ص (352): بأنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على الله ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة.
(2)
أخرجه ابن حبان (1962)، وروي مرفوعاً، قال الدارقطني في سننه (2/ 164) عن الموقوف:(أشبه بالصواب)، قال الخطابي في معالم السنن (1/ 229):("فقد قضيت صلاتك" يريد معظم الصلاة من القراءة والذكر والخفض والرفع وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام فكنى عن التسليم بالقيام إذ كان القيام إنما يقع عقب السلام)، قلت: ويدل على صحة هذا التأويل ماصح عن ابن مسعود أنه قال: (مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم) -وقد سبق-.
(3)
تهذيب الآثار-تتمة مسند عبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير-ص (240)، ويعني بقوله:(كانوا) أصحاب ابن مسعود.
مسعود رضي الله عنه بأن من فرغ من التشهد فقد فرغ من صلاته، أن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المرفوع وفي الموقوف ليس على الوجوب والحتم.
- وأما حديث عائشة رضي الله عنها في وتر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد غير محفوظ فيه وأكثر الرواة على عدم ذكره، ومن ذكره اختلف عليه فيه وأكثر من رواه عنه لايذكره، وقد أخرج الإمام مسلم الحديث دون هذه الزيادة.
- وعلى فرض ثبوتها فلا تدل على الوجوب بمجرد الفعل، كما لم يوجبوا رفع اليدين للتكبير، ودعاء الاستفتاح، والقراءة بعد الفاتحة، والدعاء قبل التسليم وغيرها، مع أن أدلتها أصح وأظهر.
- وأختم هذا المبحث بما قاله النووي وهو من أكابر الشافعية: (وفي الاستدلال لوجوبها خفاء)
(1)
، وقال الشوكاني: (والحاصل أنه لم يثبت عندي من الأدلة ما يدل على مطلوب القائلين بالوجوب
…
فنحن لا ننكر أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من أجل الطاعات التي يقترب بها الخلق إلى الخالق، وإنما نازعنا في إثبات واجب من واجبات الصلاة بغير دليل يقتضيه؛ مخافة من التقول على الله بما لم يقل، ولكن تخصيص التشهد الأخير مما لم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف وجميع هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بالوجوب لا تختص بالأخير)
(2)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فإن نسبته إلى الشذوذ غير بعيدة ولا
(1)
شرح مسلم (4/ 123).
(2)
نيل الأوطار (2/ 232 - 233).
أجزم بها، وقد جزم بشذوذه الإمام أحمد في أول الأمر، وابن بطال، وابن العربي، والقاضي عياض، والقرطبي، وأوّل من صرّح ببطلان صلاة من لم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير هو الإمام الشافعي، قال الطحاوي الحنفي:(ولم يقل به أحد من أهل العلم)، وقال ابن بطال المالكي:(ولا سلف له في هذا القول)، وقال الخطابي الشافعي:(ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة)، وقد تبيّن بعد البحث صحة ما قالوا، وأن الأمر كما قال ابن عبد البر:(لا أعلم أحداً أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً في التشهد الآخر إلا الشافعي ومن سلك سبيله)، وقد سبق مناقشة ما نسب إلى بعض الصحابة وبيان ما فيه من ضعف أو وهم.
وقد جاء في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت»
(1)
، ولم يأتِ في حديث صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها، (وقد علّم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد بحضرة المهاجرين والأنصار وليس في شيء من ذلك صلاة على النبي، فلم ينكر ذلك عليه منكر)
(2)
.
وليس الخلاف في استحبابها؛ فهي مشروعة في التشهد الأخير بلا خلاف، وإنما الخلاف في بطلان صلاة من لم يذكرها، وقد صرّح ابن مسعود رضي الله عنه بعدم بطلانها، وعلى ذلك جرى أصحابه في الكوفة (كانوا يقولون: التشهد يكفيهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وصرّح بذلك عطاء بن أبي رباح في مكة، ولم أقف على مخالف لابن مسعود من الصحابة، ولا لأصحاب ابن مسعود وعطاء ومن هو في طبقتهم، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (771) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 447).
قال ابن جرير: (لو كان كل من اُدعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك=للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه).
هدى الساري ص (428)
المبحث السادس: وجوب متابعة الإمام إذا زاد في صلاته وعلم المأموم بالزيادة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(إنما نعتد بخلاف الواحد إذا لم يكن على خلاف النص، فأما إذا كان بخلاف النص فلا يعتد بخلافه ويحكم بانعقاد الإجماع معه).
السمعاني رحمه الله قواطع الأدلة (2/ 14)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
صورة هذه المسألة: في إمام زاد في صلاته ركعة ثالثةً في ثنائيةٍ كالفجر، أو زاد ركعة رابعة في ثلاثية كالمغرب، أو زاد ركعة خامسة في رباعية كالظهر، فما حكم متابعة المأموم للإمام في هذه الزيادة؟ تمهيداً للجواب:
فمن يأتم بالإمام إما أن يكون قد أدرك الصلاة من أول ركعة وهذه مدار بحثنا، أو يكون مسبوقاً وهو:(الذي أدرك الإمام بعد ركعة أو أكثر)
(1)
، وسأذكر حكمه مختصراً.
ومن يتابع الإمام في زيادته إما أن يكون: عالماً بالزيادة وعالماً بحكم المتابعة وهذه مدار بحثنا، وإما أن يكون عالماً بالزيادة جاهلاً بحكم المتابعة هنا، وإما أن يكون ناسياً شارد الذهن غير عالم بالحال.
وهذه الزيادة: إما أن يكون المأموم غير موقن بموجبها وهذه مدار بحثنا، وإما أن يكون موقناً بموجبها، فالموقن بموجب الزيادة وأن الإمام قد أخل بركن ظاهر فإنه يتابعه
(2)
.
(1)
التعريفات للجرجاني ص (213)، جاء في البحر الرائق (1/ 400):(وحقيقة المسبوق هو من لم يدرك أول صلاة الإمام، والمراد بالأول الركعة الأولى، وله أحكام كثيرة).
(2)
قال ابن الحاجب في جامع الأمهات ص (103): (وإذا قام الإمام إلى خامسة فمن أيقن موجبها وجلس عمداً بطلت، ومن أيقن انتفاءه وتبعه عمدا بطلت، ويعمل الظان على ظنه والشاك على الاحتياط)، وعبارة خليل في مختصره ص (37):(وإن قام إمام لخامسة فمتيقن لانتفاء موجبها: يجلس، وإلا اتبعه، فإن خالف عمداً بطلت فيهما لا سهواً)، قال الصادق الغرياني في مدونة الفقه المالكي (1/ 653):(فمن كان اعتقاده مثل اعتقاد الإمام، وجب عليه أن يتبعه، ويأتي بالركعة التي قام لها الإمام، فإن لم يتبعه وجب عليه أن يعيد صلاته، ومن كان من المأمومين متيقناً أن الركعة التي قام لها الإمام ركعة زائدة، فلا يتبع الإمام في الإتيان بها، بل يعمل باعتقاده، ويبقى جالساً، ينتظر الإمام حتى يسلم، ويسلم معه، فإذا خالف اعتقاده ويقينه وتبع الإمام فقام للركعة معه وجب عليه أن يعيد صلاته، إلا إذا فعل ذلك متأولاً) انتهى. أي: متأولاً وجوب متابعة الإمام على كل حال.
فالمقصود ببحث هذه المسألة هو: من أدرك الصلاة مع الإمام من أول ركعة، فزاد الإمام في صلاته ركعة، فتابعه وهو عالم بالحال وبالحكم، وموقن بانتفاء موجب الزيادة.
وقبل تحرير محل النزاع، فهذا تلخيص لمذاهب العلماء في حكم اعتداد المسبوق بالركعة الزائدة؛ لأنه قد يحصل الخلط بينهما فوجب التمييز:
- أما الحنفية فالزائدة عندهم غير معتبرة بل تفسد صلاة المسبوق فرضاً؛ لانقلاب فرض الإمام إلى نفل وعدم صحة ائتمام المفترض بالمتنفل
(1)
، وأما المالكية فلا يعتد المسبوق بالزائدة إن علم بها
(2)
، وأما الشافعية فلا يعتد المسبوق إن لم يدرك إلا ركوع الزائدة، ويعتد إن أدرك القراءة ولم يكن عالماً بالزيادة
(3)
.
(1)
جاء في البحر الرائق (1/ 401): (لو قام الإمام إلى الخامسة في صلاة الظهر فتابعه المسبوق، إن قعد الإمام على رأس الرابعة تفسد صلاة المسبوق، وإن لم يقعد لم تفسد حتى يقيد الخامسة بالسجدة، فإذا قيدها بالسجدة فسدت صلاة الكل؛ لأن الإمام إذا قعد على الرابعة تمت صلاته في حق المسبوق فلا يجوز للمسبوق متابعته). وانظر: الحجة على أهل المدينة (1/ 240)، الأصل للشيباني (1/ 263)، تبيين الحقائق (1/ 196).
(2)
قال خليل في مختصره ص (38) عن الزائدة: (ولم تُجْزِ مسبوقاً علم بخامسيتها، وهل كذا إن لم يعلم؟ أو تُجْزِ إلا أن يجمع مأمومه على نفي الموجب؟ قولان)، وقال الخرشي في شرحه (1/ 348):(وأما إن لم يجمعوا على ذلك فتجزئ من غير خلاف)، وانظر: النوادر والزيادات (1/ 388).
(3)
قال النووي في المجموع (4/ 216 - 218): (وهذا الذي ذكرناه من إدراك المأموم الركعة بإدراك ركوع الإمام هو فيما إذا كان الركوع محسوباً للإمام، فإن لم يكن محسوباً له بأن كان الامام محدثاً أو قد سها وقام إلى الخامسة فأدركه المسبوق في ركوعها أو نسي تسبيح الركوع واعتدل ثم عاد إليه ظاناً جوازه فأدركه فيه= لم يكن مدركاً للركعة على المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور لأن القيام والقراءة إنما يسقطان عن المسبوق لأن الإمام يحملها عنه وهذا الإمام غير حامل لأن الركوع في الصورة المذكورة غير محسوب له وفيه وجه أنه يكون مدركاً وهو ضعيف) بخلاف (من أدرك الإمام في خامسة قام إليها جاهلاً وأدرك معه القيام وقرأ الفاتحة فإن هذه الركعة تحسب للمسبوق وإن كانت غير محسوبة للإمام
…
لأنه في الخامسة أدركها بكمالها ولم يحمل الإمام عنه شيئاً
…
أما إذا قام الإمام إلى خامسة جاهلاً فاقتدى به مسبوق عالماً بأنها خامسة فالصحيح المشهور الذي قطع به الأصحاب في معظم الطرق أنه لا تنعقد صلاته لأنه دخل في ركعة يعلم أنها لغو).
- وأما الحنابلة فإن المسبوق تنعقد صلاته مع الإمام في الزائدة، ولا يعتد بهذه الركعة، على الصحيح من المذهب، وقيل: يعتد، ويحتمل أن يعتد بها المسبوق إن صح اقتداء المفترض بالمتنفل
(1)
، واختار اعتداد المسبوق بها ابن قدامة
(2)
، وابن سعدي
(3)
وابن
(1)
انظر: الإنصاف (2/ 127 - 128).
(2)
قال في المغني (2/ 167): (والأولى، أن يحتسب له بها، لأنه لو لم يحتسب له بها للزمه أن يصلي خمساً مع علمه بذلك، ولأن الخامسة واجبة على الإمام عند من يوجب عليه البناء على اليقين، وعند استواء الأمرين عنده، ثم إن كانت نفلاً، فالصحيح صحة الائتمام به)، وينبغي أن يستحضر هنا اختياره في مسألة الإمام إذا سبح به ثقتان فلم يرجع وقد قال في المغني (2/ 16): (إذا سبح به اثنان يثق بقولهما، لزمه قبوله، والرجوع إليه
…
وإذا ثبت هذا، فإنه إذا سبح به المأمومون فلم يرجع، في موضع يلزمه الرجوع، بطلت صلاته. نص عليه أحمد وليس للمأمومين اتباعه، فإن اتبعوه لم يخل من أن يكونوا عالمين بتحريم ذلك، أو جاهلين به، فإن كانوا عالمين بطلت صلاتهم؛ لأنهم تركوا الواجب عمداً).
(3)
قال في فتاويه المطبوعة مع مجموع رسائله (24/ 116): (قال بعض الأصحاب: إن المسبوق يعتد بإدراكه واقتدائه بإمام زاد ركعة وهو فيها معذور، وهذا القول هو الصواب؛ لأن القول بأنه لا يعتد بها يقتضي جواز أن يزيد في الصلاة ركعة متعمدًا، وذلك مبطل للصلاة بإجماع الفقهاء، فيقتضي أن يصلي الفجر ثلاثًا، والمغرب أربعًا، والرباعية خمسًا، والقول الذي يلزم منه خرق الإجماع ومخالفة الأدلة الشرعية غير صحيح، وتعليلهم رحمهم الله أنها لاغية في حق الإمام فتلغو في حق المسبوق تعليل غير صحيح؛ فإنها لاغية في حق الإمام حيث وقعت زائدة لم يتعمدها، فإنه لو تعمدها بطلت صلاته، وأما المسبوق، فإنها أصلية في حقه، فكيف نلغيها ونأمره أن يزيد في صلاته؟! بل نقول الحكم يدور مع علته، والإمام معذور بفعلها؛ لأنه لم يتعمدها، والمسبوق صحيحة في حقه؛ لأنها من صلاته الأصلية، وإذا كان الإمام صلى بالمأمومين وهو محدث ناسيًا لحدثه فنقول لكل منهما حكم، الإمام يعيد، والمأمومون لا يعيدون مع فساد صلاة الإمام وإلغائها جملة، فكيف مع إلغاء بعضها وصحة جميعها نلغي ما اقتدى به المسبوق فيها؟! ثم نقول على أنهى التقادير إن الركعة الزائدة في حق الإمام إذا اقتدى به المأموم فيها كأنه صلاها منفردًا، وذلك جائز معتبر، والله أعلم).
عثيمين
(1)
.
- واعتداد المسبوق بالزائدة مع سجوده للسهو هو قول الأوزاعي
(2)
، وهو قول إسحاق ابن راهويه -دون سجود السهو- إن نوى بهذه الركعة فرضه
(3)
؛ فقد سأله حرب الكرماني قال: قلت: رجلٌ فاتته من صلاة الظهر ركعة مع الإمام فسها الإمام فزاد في صلاته ركعةً ساهيًا هل تجزيء هذه الركعة التي زادها الإمام عن هذا بدلًا من الركعة التي فاتته؟ قال: (إذا نوى هذه الركعة عن فرضه أجزأه)، قلت: فإن لم ينو؟ قال: (إن لم ينو عن فرضه لم يُجْزِه ويقوم فيأتي بفرضه)
(4)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة المراد بحثها:
(1)
جاء في مجموع فتاويه ورسائله: (14/ 19): (إذا زاد الإمام ركعة واعتديت بها وأنا مسبوق هل صلاتي صحيحة؟ وما الحكم إذا لم أعتد بها وزادت ركعة؟ فأجاب بقوله: القول الصحيح أن صلاتك صحيحة، لأنك صليتها تامة، وزيادة الإمام لنفسه، وهو معذور فيها لنسيانه. أما انت فلو قمت وأتيت بركعة بعده لكنت قد زدت ركعة بلا عذر وهذا يبطل الصلاة). وانظر: المصدر السابق (14/ 20).
(2)
قال حرب الكرماني -في الجزء المطبوع من مسائله من بداية الصلاة- ص (262): (حدثنا أحمد بن الأزهر قال: ثنا أبو المغيرة قال: سئل الأوزاعي عن رجلٍ سبقه الإمام بركعةٍ فسها الإمام فصلى خمسًا؟ قال: تمت صلاة الرجل، ويسجد سجدتي السهو).
(3)
لعل مقصوده بذلك ألا ينوي عدم الاعتداد بها أو يتردد لأنها زائدة، فإن لم يخطر شيء في باله فهو على نية فرضه.
(4)
جزء من مسائل حرب الكرماني -من أول كتاب الصلاة- ص (262)، قال:(وسألت إسحاق مرةً أخرى قلت: رجلٌ دخل صلاة الظهر وقد سبقه الإمام بركعةٍ فدخل مع الإمام في صلاته فسها الإمام فصلى خمس ركعاتٍ، وصلاها معه هذا الذي قد فاته ركعة، هل تجزئه هذه الركعة التي زادها الإمام عن ركعته الفائتة؟ قال: إن نوى ذلك جاز).
1.
أجمع العلماء على أن العمل الكثير المتعمد لغير عذر يبطل الصلاة
(1)
.
2.
وأجمعوا على أن من زاد فعلاً من جنس أفعال الصلاة لغير عذر أن صلاته باطلة
(2)
.
3.
وأجمعوا على أن الإمام إذا صلى رباعية فنسي وقام إلى خامسة فإن ذكر قبل السجود عاد إلى الجلوس وتشهد وسجد للسهو وسلّم
(3)
.
4.
و (أجمع العلماء على أن الائتمام واجب على كل مأموم بإمامه في ظاهر أفعاله الجائزة، وأنه لا يجوز خلافه لغير عذر)
(4)
.
5.
واتفقوا على أن ما زاده الإمام خطأ لا يلزم منه بطلان صلاة المأموم إذا لم يتابعه
(5)
.
6.
ولا خلاف في أن غير المسبوق العالم بالزيادة وبالحكم، مع تيقنه
(1)
قال ابن عبدالبر في التمهيد (20/ 95): (وأجمعوا أن العمل الكثير في الصلاة يفسدها)، وقال ابن تيمية في الفتاوى (2/ 270):(والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق).
(2)
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 529): (أجمعوا أن من زاد في صلاته عامداً شيئاً وإن قل، من غير الذكر المباح فسدت صلاته)، وفي الشرح الكبير عند كلامه عن الزيادة في الصلاة (1/ 665):(زيادة من جنس الصلاة مثل أن يقوم في موضع جلوس أو يجلس في موضع قيام أو يزيد ركعة أو ركناً، فإن فعله عمداً بطلت صلاته إجماعاً)، وقال ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 200):(الزيادة في الصلاة لو فعلها عمداً بطلت الصلاة بالاتفاق، مثل أن يزيد ركعة خامسة عمداً).
(3)
انظر: المجموع (4/ 163)، أما بعد السجود فللحنفية تفصيل سبق الإشارة إليه.
(4)
الاستذكار (2/ 170)، وانظر: التمهيد (6/ 136).
(5)
قال ابن تيمية في الفتاوى (23/ 378): (وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم).
بعدم موجب الزيادة أنه يجلس ولا يتابع الإمام في زيادته
(1)
، وخالف في ذلك الألباني رحمه الله، وقال بوجوب متابعة الإمام في الزائدة إن سبحوا به فلم يرجع، فيتابعونه مطلقاً وإن زاد ركعة خامسة أو سادسة، و هذا الرأي هو المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال النووي في المجموع (4/ 247): (فأما إذا بطلت صلاة الإمام بحدث ونحوه أو قام إلى خامسة أو أتى بمناف غير ذلك فإنه يفارقه ولا يضر المأموم هذه المفارقة بلا خلاف)، وقال ابن باز في فتاوى نور على الدرب (12/ 386):(الذي عرف أنها زيادة فقد عرف أنها خطأ، فلا يتابعه في الخطأ، بل يجلس ولا يتابعه في الخطأ، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وإن من عرف أن الإمام زاد ركعة فإنه ينبهه بقول: سبحان الله، سبحان الله. فإن أجاب الإمام ورجع إلى الصواب وإلا وجب على من علم أنها زائدة أن ينتظر الإمام، يجلس ولا يتابعه في الخطأ، هذا هو المعروف عند أهل العلم)، وقد جاء عن الإمام أحمد كما في "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 174):(إذا قام إلى خامسة فسبحوا به فلم يقعد يسلمون وصلاتهم تامة قال أبو بكر الخلال: لا يليق بمذهبه غير هذا)، ولكن جاء في الشرح الكبير (1/ 668): (وذكر القاضي رواية ثانية: أنهم يتبعونه في القيام استحباباً
…
والأول أولى لأن الإمام مخطئ في ترك متابعتهم فلا يجوز اتباعه على الخطأ، وإن كانوا جاهلين فصلاتهم صحيحة).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420)
(1)
رحمه الله.
(1)
قال كما في سلسلة الهدى والنور الشريط رقم (382) الدقيقة (9: 21): (يوجد لدينا دليل عام يأمرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتابع الإمام متابعةً تامةً كاملةً، ولا علينا بعد ذلك أصاب أم أخطأ، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به»، وفي رواية أخرى: «إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه» انتهى، وفي فتاوى جدة الشريط السابع عند الدقيقة (17: 37) سائل يقول: يا شيخ إمام صلَّى العصر فقام من الرابعة إلى الخامسة، فماذا على المأمومين؟ فقال الشيخ رحمه الله:(متابعته) قال السائل: في الخامسة؟! فقال الشيخ: (عليهم متابعته في السادسة من أجلك؛ لقوله عليه السلام «إنما جُعل الإمام ليُؤتم به»، ولكن هذه المتابعة بطبيعة الحال لا نتصورها إلا بعد أن يقوم فردٌ من أفراد المصلين خلفه بواجب الفتح عليه- أن يقول سبحان الله-، وقد لا يتنبه الإمام وهذا يقع كثيراً، حينئذٍ فقد سقط الواجب عن المقتدين وانقلب الواجب عليهم إلى متابعته).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
2/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك قول ابن عثيمين:
(ولقد ساءني وأدهشني ما نقله لي ثقةٌ عن شخص كان يجادله في إمامٍ صلى الظهر خمساً والمأمومُ يعلم أنه قد زاد في صلاته، فقال هذا المجادل: إنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في الزيادة، ولو كان المأموم يعلم أنه قام إلى خامسة، يقول: أنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في الزيادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» وعلى هذه القاعدة الباطلة الفاسدة: لو أن الإمام صلى عشر ركعات الظهر لوجب على المأموم أن يصلى عشر ركعات؛ بناءاً على قول هذا المجادل الذي يجادل بغير علم، فتأمل يا أخي تأمل خطأ هذا المجادل في الحكم والفهم، وتأمل أنه كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام في فهم كلامه على غير ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، والله إن هذا لهو الجهل المركب، بل مركب المركب
(1)
، جهل في الحكم وجهل في الفهم وجهل بأدلة الشريعة الأخرى)
(2)
.
(1)
الذي يظهر أن الشيخ لايقصد شخصاً معيناً، وأكاد أجزم أنه لو علم أن الشيخ الألباني يقول بهذا القول لم يقل مقالته، فقد عُرف عن الشيخ التلطف في العبارة وخاصة مع أهل العلم والفضل، وقد نقل عن الألباني مستفيداً في مواضع من كتبه، ووصفه بأنه له باع طويل في الحديث وعلومه، كما في مجموع فتاويه ورسائله (17/ 355).
(2)
من خطبة بعنوان: (التحذير من الفتوى بغير علم- التحذير من كتمان العلم) من عند الدقيقة (14: 35) وهي خطبة موجودة في موقع طريق الإسلام، ومفرغة على موقع مؤسسة الدعوة الخيرية على هذا الرابط: http:// www.af.org.sa/ node/ 2382
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم متابعة المأموم لإمامه في الركعة الزائدة:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
.
وجه الاستدلال:
أنّ من صلى الرباعية خمساً أو الثلاثية أربعاً أو الثنائية ثلاثاً، فقد زاد في صلاته وعمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون الزيادة للعالم بها باطلة مردودة
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- (بأنه يجب متابعة الإمام مهما كان سهوه أو خطؤه)
(3)
؛ لعموم الأمر بمتابعة الإمام.
- ولأنه إذا لم يرجع الإمام بتسبيح المأمومين فيحتمل أنه ترك ركناً
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام مسلم (1718)، وهو في الصحيحين بلفظ: «من أحدث في أمرنا هذا
…
» الحديث.
(2)
انظر: خطبة (التحذير من الفتوى بغير علم-التحذير من كتمان العلم) للعثيمين، وسبق توثيقها قريباً.
(3)
فتاوى جدة للألباني- الشريط السابع عند الدقيقة (21: 31).
قبل ذلك، فلا يترك يقين المتابعة بالشك
(1)
.
وأجيب عن هذه المناقشة:
- بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به»
(2)
، ليس على عمومه قطعاً، وسيأتي مناقشة الاستدلال به مفصّلاً في أول دليل للقول الآخر.
- أما احتمال ترك الركن فإن هذا غير معتبر والأصل عدمه، والمأموم أتم صلاته يقيناً، فلا يترك هذا اليقين للاحتمال والشك، والحكم هو على ظاهر فعل الإمام، و (لو تحقق الحال هناك لم تجز متابعته)
(3)
.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
1.
قال ابن حزم (ت 456): (ومن علم أن إمامه قد زاد ركعة أو سجدة فلا يجوز له أن يتبعه عليها، بل يبقى على الحالة الجائزة، ويسبح بالإمام، وهذا لا خلاف فيه)
(4)
.
2.
وقال ابن تيمية (ت 728): (وقد اتفقوا كلّهم على أن الإمام
…
لو صلى خمساً لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه)
(5)
.
(1)
انظر: الفروع (2/ 319)، الإنصاف (2/ 127)، وهذا التعليل عند الحنابلة بناء على رواية في المذهب ليست هي المذهب الصحيح الذي عليه أكثر الأصحاب.
(2)
الحديث متفق عليه أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411).
(3)
المجموع شرح المهذب (4/ 145)، وتمام عبارته:(لو قام إلى ركعة خامسة فإنه لا يتابعه حملاً له على أنه ترك ركناً من ركعة؛ لأنه لو تحقق الحال هناك لم تجز متابعته لأن المأموم أتم صلاته يقيناً).
(4)
المحلى (2/ 372).
(5)
مجموع الفتاوى (23/ 378)، وفي فتاوى مركز الفتوى من موقع الإسلام ويب، رقم الفتوى (64875): (الذي عليه جمهور أهل العلم أن الإمام إذا قام لركعة خامسة، ونبهه المأمومون بالتسبيح فلم يرجع، فمن اتبعه عمداً عالماً بتلك الزيادة فقد بطلت صلاته
…
ولم نقف على خلاف لهذا الحكم في هذه المسألة حسب اطلاعنا).
3.
وقال ابن باز (ت 1420): (تقرر بالنص والإجماع أن الصلوات معروفة العدد ليس فيها زيادة ولا نقص
…
فإذا زاد الإمام ركعة
…
أما من لم يعرف أنها زائدة فإنه يتابعه
…
أما الذي عرف أنها زيادة فقد عرف أنها خطأ، فلا يتابعه في الخطأ، بل يجلس ولا يتابعه في الخطأ، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم)
(1)
.
و يلزم على القول بوجوب متابعة الإمام في الزيادة مخالفة هذه الإجماعات:
- الإجماع على أن صلاة الفجر ركعتان، وعلى أن صلاة المغرب ثلاث ركعات، وعلى أن صلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات
(2)
.
- والإجماع على أن العمل الكثير المتعمد لغير عذر يبطل الصلاة، والإجماع على أن من زاد فعلاً من جنس أفعال الصلاة لغير عذر أن صلاته باطلة
(3)
.
- والإجماع على وجوب متابعة الإمام في أفعاله الظاهرة الجائزة
(4)
،
(1)
فتاوى نور على الدرب (12/ 385 - 386)، عدم العلم بالمخالفة من صيغ الإجماع عند بعض أهل العلم والورع، وقد نقل ابن القطان في كتابه:"الإقناع في مسائل الإجماع" نحو هذه الصيغة في أكثر من مائة وعشرين موضعاً.
(2)
قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 318): (أجمع أهل العلم على أن صلاة الظهر أربع ركعات
…
وأن عدد صلاة العصر أربعاً
…
وأن عدد صلاة المغرب ثلاثاً
…
وأن عدد صلاة العشاء أربعاً
…
وأن عدد صلاة الصبح ركعتين).
(3)
انظر: التمهيد (20/ 95)، الاستذكار (1/ 529)، وماسبق في تحرير محل الشذوذ ففيه توثيق أتم لهذين الإجماعين.
(4)
الاستذكار (2/ 170)، والزيادة في الصلاة فعل ظاهر غير جائز.
(ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته
…
ولا خلاف في ذلك)
(1)
.
- فمن أوجب المتابعة في الركعة الزائدة فقد خالف كل ذلك، وعرّض صلاة المأموم للبطلان (والقول الذي يلزم منه خرق الإجماع، ومخالفة الأدلة الشرعية غير صحيح)
(2)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن القول بوجوب المتابعة هو رواية عند الحنابلة
(3)
، وعليه فلا يصح الإجماع.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن هذه الرواية ليست هي المذهب المعتمد الذي اعتمده الأصحاب، جاء في المقنع مع الإنصاف في الإمام الذي زاد في صلاته: «وإن سبح به اثنان لزمه الرجوع
…
فإن لم يرجع بطلت صلاته وصلاة من اتبعه عالماً) على الصحيح من المذهب: أن صلاة من اتبعه عالماً تبطل، وعليه الأصحاب، وعنه لا تبطل، وعنه تجب متابعته في الركعة، لاحتمال ترك ركن قبل ذلك فلا يترك بتعين المتابعة بالشك، وعنه يخير في متابعته، وعنه يستحب متابعته)
(4)
.
(1)
الدراري المضية للشوكاني (1/ 101).
(2)
مجموع رسائل ومؤلفات ابن سعدي (24/ 116).
(3)
انظر: الفروع (2/ 319)، المبدع (1/ 452)، الإنصاف (2/ 127)، وقد ذكر أنها كقول الألباني في فتوى لمركز الفتوى في موقع إسلام ويب برقم (141245) وتاريخ (13/ 11/ 1431 هـ) قالوا عن قول الألباني:(القول المشار إليه قد ذهب إليه بعض الحنابلة، فأوجبوا متابعة الإمام في الزيادة).
(4)
الإنصاف (2/ 125 - 127)، وانظر: الإقناع (1/ 137)، منتهى الإرادات (1/ 244).
- هذه مجمل الروايات، وما عليه المذهب من إبطال صلاة المأموم الذي اتبع إمامه بالزيادة عالماً قال عنه الخلال:(لا يليق بمذهبه غير هذا؛ لأن المأموم قام إلى خامسة مع العلم والإمام كان يلزمه الرجوع إلى قول المأمومين)
(1)
، وهذه إشارة مهمة.
- وهي أن هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى عند الحنابلة وهي: حكم صلاة الإمام إن سبّح به ثقتان فلم يرجع، قال أبوداود:(سمعت أحمد سئل عمن وهم في صلاته، وهو إمام؟ قال: يسبحون به من خلفه حتى ييقنوه، قيل: سبحوا به، فلم يقبل وصلى؟ قال: يعيد ويعيدون)
(2)
، يعني: إن تابعوه
(3)
، وهذا هو المذهب جاء في المقنع مع الإنصاف: «وإن سبح به اثنان لزمه الرجوع) يعني إذا كانا ثقتين، هذا المذهب، وعليه الأصحاب، سواء قلنا: يعمل بغلبة ظنه أو لا، وعنه يستحب الرجوع فيعمل بيقينه أو بالتحري
…
فإن تيقن صواب نفسه لم يرجع إلى قولهم، ولو كثروا. هذا جادة المذهب، وعليه جماهير الأصحاب)
(4)
.
- هذا هو مذهب الحنابلة في المسألتين وما عليه الأصحاب فيهما: أن الإمام يلزمه الرجوع إن سبّح به ثقتان ولم يتيقن من صواب نفسه، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم إن كانوا عالمين، أما الرواية التي فيها وجوب متابعته في الزيادة فعلى ضعفها في المذهب، فيمكن حملها على حالة وهي: إن لم يسبحوا به، وعدم تسبيحهم قرينة
(1)
المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 174).
(2)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (76).
(3)
قال الإمام أحمد (في رواية محمد بن يحيى المتطيب: إذا قام إلى خامسة فسبحوا به فلم يقعد: يسلمون وصلاتهم تامة). "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين"(1/ 174).
(4)
الإنصاف (2/ 125 - 126).
على شكهم؛ لأن التنبيه لازم عند العلم
(1)
، وبرهان ذلك:
- أن أقرب النصوص عن أحمد التي تدل على متابعة الإمام في زيادته ليس فيها ذكر لتسبيح المأموم: فقد نقل القاضي أبو يعلى قال: (قال في رواية أبي طالب: إذا صلى أربع ركعات ثم قام إلى خامسة وهو يظن أنها رابعة ومن خلفه لا يشك أنه قد صلى أربعاً معه حتى صلى الخامسة، فقد أحسن الذين قاموا معه، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خمساً)
(2)
.
- قارن بين هذه الرواية التي ليس فيها تسبيح المأموم، ومتابعته للإمام إما جهلاً بالحكم أو تأويلاً، بما نقله أبوداود وقد مرّ قريباً:(قال: يسبحون به من خلفه حتى ييقنوه، قيل: سبحوا به، فلم يقبل وصلى؟ قال: يعيد ويعيدون)
(3)
، فهنا أبطل صلاة الإمام والمأموم، وفي رواية أبي طالب استحسن متابعته والفرق بينهما كبير لابد فيه من فارق، ويؤيد ذلك هذه الرواية:
- التي نقلها القاضي أبويعلى من نص أحمد فقال: (قال في رواية المروذي: فيمن صلى بقوم فقام إلى خامسة فسبحوا به فلم يلتفت إلى قولهم؟ يقعدون ولا يتبعونه حتى يقعد فيسلم بهم. وكذلك نقل أبو الحارث رحمه الله).
- وهذا عبدالله بن أحمد يقول: (سألت أبي عن رجل صلى فقام في
(1)
قال ابن قدامة في المغني (2/ 15): (وإذا سها الإمام فأتى بفعل في غير موضعه، لزم المأمومين تنبيهه، فإن كانوا رجالاً سبحوا به، وإن كانوا نساء صفقن ببطون أكفهن على ظهور الأخرى).
(2)
المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 174 - 175)، وحمل ابن قدامة في الشرح الكبير (1/ 668) هذه الرواية على الاستحباب فقال:(وذكر القاضي رواية ثانية: أنهم يتبعونه في القيام استحباباً).
(3)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (76).
الخامسة فسبحوا به فلم يرجع به فيتبعوه أم لا؟ قال أبي: يجلسونه فإن لم يجلس لا يتبعونه)
(1)
.
- يؤيد جميع ماسبق أن ابن تيمية وهو العارف بمذهب أحمد وغيره يقول: (وقد اتفقوا كلّهم على أن الإمام
…
لو صلى خمساً لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه)
(2)
، فهنا ينقل الاتفاق على أن من لم يتابع الإمام في الزائدة فصلاته صحيحة، والقول بوجوب المتابعة ينافي ذلك، أضف إلى ذلك ما قاله الخلال عن إبطال صلاة المأموم الذي تابع الإمام في الزائدة وهو عالم بعد تنبيه الإمام:(لا يليق بمذهبه غير هذا) يعني: أحمد.
- إذا تقرر مذهب الإمام أحمد، فإن خلاصة رأي الشيخ الألباني رحمه الله هو:(وجوب متابعة الإمام متابعةً تامةً كاملةً، ولو قام إلى خامسة أو سادسة، إذا سبحوا به فلم يرجع، ولا علينا بعد ذلك أصاب أم أخطأ)
(3)
، فهل يصح أن يقال: إن هذا الرأي هو رأي لأحمد ورواية عنه؟!
- بقي الإشارة إلى قول المالكية وعلاقته برأي الألباني، فقد قال خليل:(وإن قام إمام لخامسة فمتيقن لانتفاء موجبها: يجلس، وإلا اتبعه، فإن خالف عمداً بطلت فيهما لا سهواً)
(4)
فالمأموم هنا (على خمسة أقسام: متيقن انتفاء تلك الركعة، ومتيقن موجبها لعلمه بطلان إحدى الأربع بوجه من وجوه البطلان، وظان الموجب، وظان عدمه، وشاك في الموجب.
(1)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (86).
(2)
مجموع الفتاوى (23/ 378).
(3)
كما في سلسلة الهدى والنور الشريط رقم (382)، وفي فتاوى جدة الشريط السابع، وقد سبق نقل نصوصه.
(4)
مختصر خليل ص (37).
- فمتيقن انتفاء الموجب بالاعتقاد الجازم لكمال صلاته وصلاة إمامه يجلس وجوباً، ويسبح فإن لم يفقه كلمه بعضهم، وأما من تيقن ثبوت الموجب أو ظنه أو توهمه أو شك فيه فإنه يجب عليه في هذه الأحوال الأربعة أن يتبعه في قيامه وجوباً؛ لأن الشخص إنما يعتد من صلاته بما تيقن أداءه)
(1)
.
- وعند التأمل فإن هذا القول ليس كقول الألباني؛ وذلك أن تيقن ثبوت الموجب من عدمه هو في الأفعال الظاهرة أما الباطن فلا تكليف به، وقد مثّل خليل في شرحه لمختصر ابن الحاجب على تيقن الموجب:(كمن علم أن الإمام إنما قام لكونه نسي سجدة مِن الأولى، فإنه يلزمه إتباعُ الإمام)
(2)
، قال الدسوقي:(فمتيقن انتفاء الموجب إن فعل ما أمر به من الجلوس صحت صلاته بقيدين: إن سبح ولم يتبين له وجوب الموجب وإلا بطلت)
(3)
، والأفعال التي تتبين هي الظاهرة.
- ثم إن المالكية يبطلون صلاة الإمام والمأموم إذا سبح بالإمام جمع كثير ولم يرجع، قال الخرشي:(فإن تيقن خلاف خبرهم فلا يجب عليه الرجوع، إلا أن يكثروا جدا بحيث يفيد خبرهم العلم الضروري فيجب رجوعه؛ لأن تيقنه حينئذ بمنزلة الشك، فإن لم يرجع بطلت عليه وعليهم)
(4)
.
- ووجه عدم موافقته لرأي الألباني، أن الألباني ليس في رأيه تقييد
(1)
شرح الخرشي لمختصر خليل (1/ 345 - 346).
(2)
التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 400).
(3)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 303).
(4)
شرح الخرشي لمختصر خليل (1/ 345). وانظر: حاشية الدسوقي (1/ 304) شرح الزرقاني على خليل (1/ 468).
لحال المأموم من تيقنه بوجود الموجب أو عدمه، وليس فيه تقييد للتسبيح بل يتابعونه بعد التسبيح كما قال:(فقد سقط الواجب عن المقتدين وانقلب الواجب عليهم إلى متابعته)
(1)
.
المسألة الثانية: أدلة من قال بوجوب متابعة الإمام إذا زاد في صلاته وعلم المأموم بالزيادة:
استدل من قال بهذا القول بأدلة منها:
1/ قوله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا، فصلوا قعوداً أجمعون»
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمتابعة الإمام متابعة تامة كاملة ولا علينا بعد ذلك أصاب أم أخطأ، وجعل من تمام الإئتمام بالإمام أن يدع المؤتم ما يجب عليه من القيام، تحقيقاً لتمام القدوة منه بإمامه وعدم التظاهر عليه بمخالفته
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال
(4)
:
- بأن الحديث ليس على عمومه قطعاً، وقد نبّه على ذلك الإمام
(1)
كما في فتاوى جدة الشريط السابع، وسبق توثيقه.
(2)
الحديث متفق عليه أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411) واللفظ له من حديث أنس بن مالك، وأخرجاه بنحوه من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة رضي الله عنهم.
(3)
قرر الشيخ ذلك كما في في سلسلة الهدى والنور الشريط رقم (382)، وقال كما في فتاوى جدة الشريط السابع:(يجب متابعة الإمام مهما كان سهوه أو خطؤه)، لعموم هذا الحديث.
(4)
سبقت هذه المناقشات في جواب مناقشة الدليل الأول لأصحاب القول الأول، وهي هنا ملخصة.
البخاري حين قال: (باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به. وصلّى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه بالناس وهو جالس)، قال ابن حجر: (أي: والناس خلفه قياماً ولم يأمرهم بالجلوس
…
فدلَّ على دخول التخصيص في عموم قوله «إنما جعل الإمام ليؤتم به»
(1)
.
- وقد (أجمع العلماء على أن الائتمام واجب على كل إمام بإمامه في ظاهر أفعاله الجائزة وأنه لا يجوز خلافه لغير عذر)
(2)
، والزيادة من الأفعال الظاهرة غير الجائزة فلا يتابع عليها، وإذا كانت مفارقة الإمام لتطويله جائزة، فمفارقته لزيادته في صلاته واجبة.
- ثم إن الحديث مفسّر بما بعده: «
…
فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا، فصلوا قعوداً أجمعون» والفاء في قوله:«فإذا كبر فكبروا» للتفريع، فما بعدها تفريع على ما قبلها وتفسير له و (المراد اتباع أفعاله في الصلاة، حتى توقع أفعاله بعد أفعاله)
(3)
فلايُسابِق ولايَتأخّر ولايُوافق بل يتابع في أفعاله المشروعة هذا هو المراد
(4)
.
- وذلك لأن عموم المتابعة والطاعة غير مرادة؛ إنما الطاعة في المعروف، فيُتابع الإمام وجوباً في أفعاله المشروعة، و (ينبغي
(1)
فتح الباري (2/ 174)، و لا يتعارض تنبيه البخاري هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في ختام حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به
…
وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون» فقد اختلف العلماء في الأمر بالصلاة قاعداً خلف الإمام القاعد هل هو منسوخ، أو هو يختلف باختلاف الأحوال، أو أنه مصروف عن الوجوب؟ وعلى كل حال فصلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته جالساً والناس خلفه قياماً يدل على دخول التخصيص في قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
(2)
الاستذكار (2/ 170).
(3)
شرح صحيح البخارى لابن بطال (2/ 313).
(4)
انظر: خطبة (التحذير من الفتوى بغير علم-التحذير من كتمان العلم) للعثيمين، وسبق توثيقها.
للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد)
(1)
، ولا تكون الطاعة مطلقة حتى في المعصية و الخطأ
(2)
.
- وإلا فيلزم (على هذه القاعدة الباطلة الفاسدة: لو أن الإمام صلى عشر ركعات الظهر لوجب على المأموم أن يصلى عشر ركعات)
(3)
، وقد التزم ببعض ذلك الشيخ الألباني حين أوجب القيام للركعة السادسة
(4)
، وقد صرح بعموم ذلك في قوله:(يجب متابعة الإمام مهما كان سهوه أو خطؤه)
(5)
.
2/ واستدل أيضاً: بحديث ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً» ، فلما سلَّم قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمساً، «فسجد سجدتين»
(6)
.
وجه الاستدلال:
أن الصحابة رضي الله عنهم تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الزائدة وأقرهم على ذلك، وهذا الحكم لهم ولمن بعدهم من الأمة؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكما أمرهم بترك ركن القيام متابعة للإمام فكذلك هنا والزيادة كالنقصان
(7)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 116).
(2)
انظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز (12/ 385).
(3)
من خطبة (التحذير من الفتوى بغير علم-التحذير من كتمان العلم) للعثيمين عند الدقيقة (15: 16).
(4)
في فتاوى جدة الشريط السابع عند الدقيقة (17: 37) سائل يقول: يا شيخ إمام صلَّى العصر فقام من الرابعة إلى الخامسة، فماذا على المأمومين؟ فقال الشيخ رحمه الله:(متابعته) قال السائل: في الخامسة؟! فقال الشيخ: (عليهم متابعته في السادسة من أجلك)
(5)
فتاوى جدة للألباني- الشريط السابع عند الدقيقة (21: 31).
(6)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (572)، وزاد البخاري:«فسجد سجدتين بعد ما سلم» .
(7)
من سلسلة الهدى والنور الشريط رقم (382)، و فتاوى جدة الشريط السابع، للألباني.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأنه في غير محل النزاع، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يسبحوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لينبهوه على الزيادة، والمسألة محلّ النزاع فيما إذا سبحوا به فلم يرجع، وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم:«إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني»
(1)
، مما يدل على اعتقادهم زيادة في التشريع؛ ولذلك لم ينبهوه.
- ثم إن متابعة (أصحابه في مثل هذه الصورة، لتجويزهم التغيير في عصر النبوة)
(2)
، وعدم تحققهم من الزيادة كما سبق؛ لأن الزمن كان زمن الوحي وإمكان الزيادة والنقصان
(3)
؛ ولهذا قالوا: «أزيد في الصلاة؟» .
- ولذلك لم يسبحوا به؛ مع علمهم بأنه صلى خمساً؛ لاعتقادهم جواز ذلك
(4)
، والجاهل أو المتأول أو الناسي معذور بذلك، والكلام في العالم بالزيادة وبالحكم.
- أما القعود وترك ركن القيام متابعة للإمام فإنه معهود منصوص عليه -على اختلاف في نسخه أو بقاء حكمه- وأما الزيادة على ركعات الصلاة بعد استقرار الشريعة فهي غير معهودة ولا منصوصة، فافترقا ولم يصح القياس
(5)
.
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
سبل السلام (1/ 307).
(3)
انظر: أسنى المطالب (1/ 194)، مغني المحتاج (1/ 437).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (23/ 378).
(5)
انظر: الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي (1/ 214).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بوجوب متابعة المأمومين للإمام إذا سبحوا به فلم يرجع، ولو قام إلى خامسة أو سادسة إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع الخاص في المسألة، و لم أقف في الأقوال المعتبرة من يقول به، كما أنه يلزم منه خرق لإجماعات سبق بيانها؛ كالاتفاق على عدم بطلان صلاة المأموم الذي لم يتابع إمامه في الخامسة، والإجماع على عدد ركعات الفروض الخمسة، والإجماع على أن من زاد فعلاً من جنس أفعال الصلاة لغير عذر أن صلاته باطلة، والإجماع على وجوب متابعة الإمام في أفعاله الظاهرة الجائزة وعدم متابعته فيما يبطل صلاته، (والقول الذي يلزم منه خرق الإجماع، ومخالفة الأدلة الشرعية غير صحيح)
(1)
، والله أعلم.
(1)
مجموع رسائل ومؤلفات ابن سعدي (24/ 116).
قال سعيد بن المسيب: (ليس من عالم ولا شريف ولا ذو فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله).
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (11/ 170)
المبحث السابع: وجوب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ).
الشاطبي رحمه الله الموافقات (3/ 280 - 281)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
السهو في اللغة: (نسيان الشيء والغفلة عنه وذهاب القلب عنه إلى غيره)
(1)
.
والمقصود بسجود السهو في الاصطلاح: سجدتان كسجود الصلاة، تؤديان في آخرها أو بعدها، جبراً للخلل الحادث فيها بسهو أو شك
(2)
.
وأسباب سجود السهو: (إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد، وإما عند الشك في أفعال الصلاة)
(3)
.
وسجود السهو مطلوب لجبر الخلل بالإجماع
(4)
، واختُلف في وجوبه:
فهو واجب في الجملة لترك الواجب عند الحنفية
(5)
، وواجب عند المالكية على قول، وخاصة في السجود عن نقص، الذي يكون قبل
(1)
لسان العرب (14/ 406)، وانظر: تهذيب اللغة (6/ 194).
(2)
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (24/ 234)، معجم لغة الفقهاء ص (242).
(3)
بداية المجتهد (1/ 200).
(4)
انظر: النجم الوهاج (2/ 248).
(5)
انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 80)، ويجب عندهم السجود في الأفعال التي هي من جنس أفعال الصلاة إذا زيد فيها أو نقص، وأما الأذكار فلايجب في تركها السجود (إلا في خمسة مواضع: تكبيرات العيد والقنوت والتشهد والقراءة وتأخير السلام عن موضعه). الجوهرة النيرة (1/ 76).
السلام
(1)
، وهو المذهب عند الحنابلة لما يبطل بعمده الصلاة
(2)
، أما الشافعية فيسن عندهم سجود السهو ولا يجب
(3)
.
ومحل سجود السهو: بعد السلام عند الحنفية
(4)
، وقبل السلام عند الشافعي
(5)
، وفرّق مالك بين النقص فسجوده قبل السلام وبين الزيادة فسجودها بعد السلام
(6)
، وقال الإمام أحمد:(كل سهو يعجبنا أن يؤتى به قبل السلام، إلا في ثلاثة مواضع: إذا سلم من ثنتين، أو سلم من ثلاث، أو كان ممن يرجع إلى التحري)
(7)
.
(1)
قال ابن الحاجب في مختصره: (وللسهو سجدتان، وفي وجوبهما قولان) وعلّق عليه خليل في التوضيح (1/ 382): (الخلاف إنما هو في اللتين قبل السلام. وأما اللتان بعد السلام فلا خلاف في عدم وجوبهما)، وتعقبه الخرشي في شرحه لمختصر خليل (1/ 308) بقوله:(لكنه معترض فإن شهاب الدين الفيشي الكبير نقل عن الطراز وأجوبة ابن رشد الوجوب في السجود البعدي)، وأطلق خليل في مختصره ص (35) القول بسنية سجود السهو.
(2)
قال في الإنصاف مع المقنع (2/ 153): «وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة: واجب) وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وعنه يشترط السجود لصحة الصلاة قال ابن هبيرة: وهو المشهور عن أحمد، وعنه مسنون)، قال ابن رجب في الفتح (9/ 475 - 476):(فأما ما لا يبطل الصلاة عمده، كترك السنن وزيادة ذكر في غير محله، سوى السلام، فليس بواجب عنده).
(3)
قال النووي في المجموع (4/ 152): (وسجود السهو سنة عندنا ليس بواجب).
(4)
قال الكاساني في البدائع (1/ 172): (أما بيان محل السجود للسهو فمحله المسنون بعد السلام عندنا، سواء كان السهو بإدخال زيادة في الصلاة أو نقصان فيها).
(5)
قال الشافعي في الأم (1/ 154): (سجود السهو كله عندنا في الزيادة والنقصان قبل السلام، وهو الناسخ والآخر من الأمرين).
(6)
انظر: الذخيرة (2/ 122)، وقال الحطاب في مواهب الجليل (2/ 16):(المشهور من مذهب مالك أنه يسجد للنقص قبل السلام وللزيادة بعد السلام، قال ابن الحاجب: وروي التخيير).
(7)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (76)، ومثلها في مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه برواية الكوسج (2/ 538)، والمطبوع من مسائل حرب من أول كتاب الصلاة ص 230، قال ابن قدامة في المغني (2/ 18):(السجود كله عند أحمد قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما إذا سلم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام، فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام)، وهذا من المفردات وعن أحمد روايات أخرى تنظر في الإنصاف (2/ 154).
قال ابن المنذر: (وأصح هذه المذاهب: أحمد بن حنبل؛ أنه قال بالأخبار كلها في مواضعها، وقد كان اللازم لمن مذهبه استعمال الأخبار كلها إذا وجد إلى استعمالها سبيلاً أن يقول بمثل ما قال أحمد، وذلك كقول من قال: إن خبر أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في الصحارى، والقول بإباحة ذلك في المنازل استدلالاً بخبر ابن عمر، وإمضاء الأخبار التي رويت في صلاة الخوف على وجهها، والقول بها في مواضعها، وغير ذلك مما يطول الكتاب بذكره)
(1)
.
ومن المفيد في فهم المسألة ذكر الأحاديث التي عليها الاعتماد في سجود السهو:
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان، فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو جالس»
(2)
. وليس فيه موضع السجود.
- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليَطْرَح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان»
(3)
.
- حديث عبدالله بن بحينة رضي الله عنه قال: «صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما
(1)
الأوسط (3/ 313).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1232)، ومسلم (389).
(3)
أخرجه مسلم (571).
قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم»
(1)
. والحديثان في السجود قبل السلام.
- حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً» ، فلما سلَّم قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمساً، «فسجد سجدتين»
(2)
، وفي رواية أنه قال: «
…
وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين»
(3)
.
- حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال محمد: وأكثر ظني العصر - ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: أَقَصُرَتِ الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذو اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: «لم أنس ولم تقصر» ، قال: بلى قد نسيت، «فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، فكبر، ثم وضع رأسه، فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر»
(4)
.
- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق،
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1224)، ومسلم (570)، وذكرت في بعض الروايات المتفق عليها بأنها صلاة الظهر.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (572)، شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة عن ابن مسعود، وزاد البخاري:«فسجد سجدتين بعد ما سلم» .
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572)، من طريق جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة عن ابن مسعود، وزاد البخاري «
…
فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين».
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (6051) وهذا لفظه، ومسلم (573).
وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال:«أصدق هذا؟» قالوا: نعم، «فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم»
(1)
. وهذه الأحاديث الثلاثة في السجود بعد السلام.
قال الخطابي: (الصحيح منها والمعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة
(2)
…
فأما حديث أبي هريرة فهو حديث مجمل ليس فيه أكثر من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسجدتين عند الشك في الصلاة وليس فيه بيان ما يصنعه من شيء سوى ذلك ولا فيه بيان موضع السجدتين من الصلاة، وحاصل الأمر على حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري، وحديث ذي اليدين وابن بحينة وعنها تشعبت مذاهب الفقهاء وعليها بنيت)
(3)
، (فأبو حنيفة والشافعي -رحمهما الله- سلكا مسلك الترجيح بينها ورد بعضها إلى بعض، ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، سلكوا مسلك الجمع بين جميع الأحاديث والعمل بكلها)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (574).
(2)
قال القرطبي في المفهم (2/ 177): (والصحيح في عدد الأحاديث الصحيحة في السهو أنها ستة)، وانظر التعليق الآتي.
(3)
معالم السنن (1/ 238)، ولم يذكر حديث عمران بن حصين وهو في معنى حديث ذي اليدين الذي قبله، ولعله جعل القصة واحدة وأن الخرباق هو ذو اليدين، قال ابن رجب في الفتح (9/ 409):(فمن الناس من قال: هو ذو اليدين المذكور في حديث أبي هريرة. وقال طائفة: هما رجلان، وواقعتان متعددتان، ونص على ذلك الإمام أحمد)، وقال ابن حجر في الفتح (3/ 100): (ذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخِرْباق
…
؛ اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم
…
وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظرى [وإن] كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين).
(4)
"نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" للعلائي ص (516 - 517).
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة المراد بحثها:
1.
أجمع العلماء على أن محل سجود السهو هو آخر الصلاة؛ لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته
(1)
.
2.
وأجمعوا على أن المأموم غير المسبوق يتابع إمامه في سجود السهو، سواء كان قبل السلام أو بعده
(2)
.
3.
واتفق العلماء على أن من لم يعلم بالسهو إلا بعد السلام فإنه يسجد له بعد سلامه لتعذره قبل ذلك؛ لعدم علمه
(3)
.
4.
ومن كان إماماً أو منفرداً فإن تفضيل سجوده قبل أو بعد السلام على سبيل الاستحباب لا الوجوب وحكي الإجماع على ذلك، وخالف في ذلك ابن تيمية فرأى (أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله وما شرعه بعده لا يفعل إلا بعده)
(4)
، ورجحه بعض المعاصرين، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 215)، الاستذكار (1/ 517)، التمهيد (5/ 31).
(2)
انظر: الأوسط لابن المنذر (3/ 322)، الإقناع لابن القطان (1/ 154)، قال في المغني (2/ 32):(وإذا سها الإمام، فعلى المأموم متابعته في السجود سواء سها معه، أو انفرد الإمام بالسهو. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وذكر إسحاق أنه إجماع أهل العلم، سواء كان السجود قبل السلام، أو بعده).
(3)
انظر: فتح الباري (3/ 94).
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 36) وقال: (وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
محمد بن صالح العثيمين (ت 1421)
(1)
رحمه الله، حيث قال:(فما كان قبل السّلام فهو قبل السّلام وجوباً، وما كان بعده فهو بعد السلام وجوباً. وعليه؛ فيجب على كُلِّ أحد أن يعرف السُّجود الذي قبل السَّلام، والسُّجود الذي بعد السَّلام)
(2)
، وإيجابه تعلم السجود القبلي والبعدي وجوباً عينياً على كل أحد لم أقف عليه عند غير الشيخ، حتى ابن تيمية - وقد تابعه الشيخ في إيجاب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو- يقول:(من سجد قبل السلام مطلقاً أو بعد السلام مطلقا متأولاً فلا شيء عليه، وإن تبين له فيما بعد السنة استأنف العمل فيما تبين له ولا إعادة عليه)، ولم يوجب تعلم ذلك على الأعيان، فهي مما يسع العامة جهله، واختلف فيها الأئمة، ويحتاج الخاصة إلى اجتهاد في التوصل إلى ما توصل إليه الشيخان في محل سجود السهو.
(1)
قال في الشرح الممتع (3/ 395): (كون السُّجود قبل السَّلام أو بعدَه على سبيل الوجوب، وأنَّ ما جاءت السُّنة في كونه قبل السَّلام يجب أن يكون قبل السَّلام، وما جاءت السُّنَّة في كونه بعد السَّلام يجب أن يكون بعد السَّلام، وهذا اختيار شيخ الإِسلام، وهو الرَّاجح).
(2)
المصدر السابق.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بالتوسعة في محل سجود السهو:
1/ (أن الأحاديث الواردة في ذلك قولاً وفعلاً فيها نوع تعارض، وتقدم وتأخر البعض غير ثابت برواية صحيحة موصولة
…
فالأولى الحمل على التوسع في جواز الأمرين)
(1)
، و (النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه السجود قبل السلام وبعده، فكان الكل سنة)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأنه لم يأت في دليل واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للنقص بعد السلام، أو أنه سجد للزيادة قبل السلام؛ فدلَّ ذلك على التفريق بينهما
(3)
.
وأجيب عن هذه المناقشة:
- بالنقض؛ فإن الشك شيء زائد في الصلاة ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود له قبل السلام
(4)
، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وقال
(1)
سبل السلام (1/ 308).
(2)
نيل الأوطار (3/ 134).
(3)
انظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -من أول الطهارة إلى نهاية سجود السهو- (2/ 555).
(4)
انظر: المحلى (3/ 85).
-صلى الله عليه وسلم: «فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته» وهذه زيادة أخرى محتملة، ومع ذلك أمر بالسجود لهما قبل السلام.
- وقد سأل صالحُ بن أحمد بن حنبل والدَه فقال: (إن مالك بن أنس يقول ما كان من نقصان فهو قبل وما كان من زيادة فهو بعد؟ فقال الإمام أحمد: ما أدري ما هذا حديث أبي سعيد مخالف لقول مالك
…
إن كانت خامسة شفعتا صلاته وإن كانت رابعة كانتا ترغيما للشيطان وقد أمرنا بالسجود قبل التسليم)
(1)
.
- وفي مناقشة أدلة القول الآخر أحاديث صريحة في السجود للنقص بعد السلام أو العكس.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء:
1.
قال الماوردي (ت 450): (لا خلاف بين الفقهاء
(2)
أن سجود السهو جائز قبل السلام، وبعده وإنما اختلفوا في المسنون والأولى)
(3)
، ونقله النووي في المجموع
(4)
.
2.
وقال ابن رجب (ت 795) بعد أن نقل كلام الماوردي السابق: (كذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية، ومن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في "خلافيهما" وغيرهما من بعد)
(5)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (3/ 25 - 26).
(2)
قال ابن رجب في الفتح (9/ 454) تعليقاً على هذه الكلمة للماوردي: (- يعني: جميع العلماء -).
(3)
الحاوي الكبير (2/ 214).
(4)
المجموع (4/ 155).
(5)
فتح الباري (9/ 455).
3.
قال ابن عبدالبر (ت 463) بعد أن حكى خلاف العلماء في محل سجود السهو
(1)
: (وكل هؤلاء يقول: إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره، وكذلك لو سجد بعد السلام فيما قالوا: فيه السجود قبل السلام، لم يضره ولم يكن عليه شيء)
(2)
.
4.
وقال الجويني (ت 478): (وقال بعض أئمتنا: لا خلاف أنه يُجزئ التقديمُ والتأخير، وإنما التردد في بيان الأوْلى والأفضل)
(3)
.
5.
وقال القاضي عياض (ت 544): (لا خلاف بين هذه الطوائف كلها المختلفة في سجود السهو، وأنه إن سَجَد بعد لما يراه قبل، أو سجد قبلُ لما يراه بعد، أن ذلك يجزيه ولا يفسد صلاته)
(4)
.
6.
وقال النووي (ت 676): (قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى- وجماعة من أصحابنا: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده، للزيادة أو النقص، أنه يجزئه ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل)
(5)
.
(1)
قال ابن رجب في الفتح (9/ 454): (حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود، ثم قال: كل هؤلاء يقولون: لو سجد بعد السلام
…
) الخ.
(2)
الاستذكار (1/ 518)، وانظر: التمهيد (5/ 33)، ومع أن ابن عبدالبر في الكتابين ذكر قبل ذلك مذهب مالك وأبوحنيفة والثوري والشافعي والأوزاعي، ثم بعد هذه الكلمة: (وكل هؤلاء
…
) الخ. ذكر مذهب أحمد وداود، فدخولهما في كلامه غير صريح إلا أني وقفت على من ينقل الإجماع عن ابن عبدالبر بكلمته هذه فقال العراقي في طرح التثريب (3/ 23):(إنهم أجمعوا على أنه لو سجد بعد السلام فيما قالوا فيه السجود قبل السلام، أو سجد قبل السلام فيما قالوا فيه السجود بعد السلام، لم يضره لأنه من باب قضاء القاضي باجتهاده لاختلاف الآثار والسلف)، وقال العلائي في نظم الفرائد ص (493):(صرّح ابن عبدالبر بأن الخلاف إنما هو في الأولوية، وأن كل من قال بأنه بعد السلام فسجد قبل السلام، أو بالعكس فلا شيء عليه).
(3)
نهاية المطلب (2/ 240).
(4)
إكمال المعلم (2/ 508).
(5)
شرح النووي على مسلم (5/ 56 - 57).
7.
وقال ابن مفلح (ت 763): (محل سجود السهو ندباً
…
وذكره بعض المالكية وبعض الشافعية "ع"، وكذا قال القاضي: لا خلاف في جواز الأمرين، وإنما الكلام في الأولى والأفضل)
(1)
، ونقل قول القاضي في "المبدع" و"كشاف القناع" و "نيل المآرب".
8.
وقال المرداوي (ت 885): (محل الخلاف في سجود السهو
…
على سبيل الاستحباب والأفضلية
…
وهذا هو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب
…
قال القاضي: لا خلاف في جواز الأمرين، وإنما الكلام في الأولى والأفضل، وذكره بعض المالكية والشافعية إجماعاً)
(2)
.
9.
وقال الشوكاني (ت 1250): (ومحل الخلاف في الأفضل كما عرفت، وإن كانت الهادوية تقول بفساد صلاة من سجد لسهوه قبل التسليم مطلقاً، لكن قولهم [مع] كونه مخالفاً لما صرحت به الأدلة مخالف للإجماع الذي حكاه عياض وغيره)
(3)
.
10.
وقال السعدي (ت 1376): (لا خلاف في أن سجود السهو يجوز قبل السلام وبعده، وأما الأفضل فإنه قبل السلام إلا في مسألتين
…
)
(4)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بالإجماع:
- بأن الخلاف منقول في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وهذا بيانها:
- أما الحنفية فإن سجود السهو عندهم كله بعد السلام، وقال في
(1)
الفروع (2/ 331) وحرف العين يدل على الإجماع عند ابن مفلح في الفروع.
(2)
الإنصاف (2/ 155).
(3)
نيل الأوطار (3/ 135).
(4)
شرح عمدة الأحكام ص (191).
العناية: (لو أتى بها قبل السلام جاز عندنا أيضا في رواية الأصول. وروي أنه لا يجزئه؛ لأنه أداه قبل وقته)
(1)
.
- وأما المالكية فقال أبو العباس القرطبي: (ورأى مالك: أن ما فيه النقص السجود فيه قبل السلام، وأن ما فيه الزيادة يكون فيه السجود بعد، وهل هذا الترتيب هو الواجب أو هو الأولى؟ قولان للأصحاب)
(2)
.
- وأما الشافعية فمع أن سجود السهو عندهم غير واجب، إلا أن الجويني
(3)
قال عن تجويز السجود قبل السلام أو بعده: (التخير بينهما بعيد، فرأى الشافعي في ظاهر المذهب، التمسك بآخر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نعتمد في التفريع هذه الطريقة الأخيرة، ونبني الأمرين على التردد في الإجزاء، لا في الفضيلة، فإن فرعنا على المشهور، وهو أن السجود قبل السلام، فإن وقع ذلك، فلا كلام، وإن سلم الساهي، ولم يسجد، لم يخل: إما أن يسلم ساهياً ناسياً لسجود السهو، وإما أن يسلم عامداً ذاكراً لسجود السهو، فإن تعمّد وسلم، فقد فوت سجدتي السهو على نفسه، وتركهما عمداً، فالصلاة صحيحة، وقد فاتت السجدتان، وليس سجود السهو واجباً عندنا، بل هو سنة كسجود التلاوة)
(4)
.
- وأما الحنابلة فقال ابن تيمية: (ذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة
(1)
العناية شرح الهداية (1/ 501)، وانظر: البناية (2/ 606).
(2)
المفهم شرح صحيح مسلم (2/ 177).
(3)
هنا عبارة لابن تيمية في التسعينية (1/ 198) عن الجويني تحتاج إلى تأمل وتفسير: (أبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي، فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين؟).
(4)
نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 241)، قال الرافعي في الشرح الكبير (4/ 180 - 181):(هذا الاختلاف في الاجزاء على المشهور بين الأصحاب).
إلى أن النزاع إنما هو في الاستحباب وأنه لو سجد للجميع قبل السلام أو بعده: جاز. والقول الثاني: أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله وما شرعه بعده لا يفعل إلا بعده وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح)
(1)
، قال المرداوي:(وقيل: محله وجوباً اختاره الشيخ تقي الدين. وقال: عليه يدل كلام الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام صاحب المستوعب، والتلخيص، والمصنف، وغيرهم قال الزركشي: وظاهر كلام أبي محمد، وأكثر الأصحاب: أنه على سبيل الوجوب وقدمه في الرعاية)
(2)
.
- قلت: وما ذكره ابن تيمية من أن الوجوب يدل عليه كلام الإمام أحمد ظاهر لمن تتبعه في الروايات المنقولة عنه في المسائل وغيرها
(3)
، إلا أنه غير صريح في ذلك، ومما يؤيد الوجوب قول أحمد:(هكذا يعطى كل حديث منهما وجهه لا يعدى، والذي نختار بعد هذه الخمسة مواضع أن يأتي بسجدتي السهو قبل التسليم)
(4)
قال ابن رجب عن القول بالوجوب: (وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه)
(5)
، ويؤيد عدم الوجوب قول الإمام أحمد:(كل سهو يعجبنا أن يؤتى به قبل السلام، إلا في ثلاثة مواضع)
(6)
.
(1)
مجموع الفتاوى (23/ 36).
(2)
الإنصاف (2/ 155) وقد قدم القول بالندب وقال: (هذا هو الصحيح من المذهب)، وانظر: الفروع (2/ 331).
(3)
انظرها مجموعة في الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 215 - 222).
(4)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (3/ 218).
(5)
فتح الباري (9/ 455).
(6)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (76)، قال المرداوي في الإنصاف (12/ 248):(وقوله "أحب كذا" أو "يعجبني" أو "هذا أعجب إلي" للندب على الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقيل: للوجوب).
وأجيب عن هذه المناقشة:
بما ذكره ابن حجر بأنه (يمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماوردي وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة)
(1)
.
ويمكن الجواب عن هذا الجواب:
- بأن ما ذكره ابن حجر أحد الاحتمالات الواردة لكنه يحتاج إلى برهان وإثبات، خاصة وأن الإجماعات المنقولة ليست قوية في ألفاظها، وفيها احتمال عدم العموم، ولم ينقلها الأكابر من أهل الاختصاص في نقل الإجماع والوفاق، وبيان ذلك في الآتي:
- فأقوى الإجماعات المنقولة في المسألة والتي حاولت جمعها هي مانقله الماوردي و ابن عبد البر والقاضي عياض وكلها بصيغة: "نفي الخلاف"، وهي صيغة فيها تأخر عن صيغة الإجماع الصريح، وخاصة إن ثبت الخلاف، أما إن لم يثبت خلاف فهي قوية.
- ثم إن ما نقله ابن عبدالبر الظاهر أنه لا يدخل فيه رأي الإمام أحمد ولا رأي داود؛ لأنه بعد ما ذكر مذاهب بعض العلماء قال: (وكل هؤلاء يقول: إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره، وكذلك لو سجد بعد السلام فيما قالوا: فيه السجود قبل السلام، لم يضره ولم يكن عليه شيء)، ثم قال: (وأما ابن حنبل
…
وقال داود
…
)
(2)
، فذكر قولهما، وهو يدل على عدم دخول أحمد وداود في الخلاف المنفي، وحتى الشافعية يحتمل عدم دخولهم في كلامه، فقد قال العراقي: (وينبغي أن يحمل كلامه على اتفاق المالكية فإن الخلاف عند أصحابنا مشهور، والمذهب أنه في
(1)
فتح الباري (3/ 95).
(2)
الاستذكار (1/ 518).
الإجزاء لا في الأولوية)
(1)
، وقد خص ابن عبد البر هذا الكلام مالكاً في موضع آخر فقال:(ولو سجد عنده أحد بخلاف ذلك فجعل السجود كله بعد السلام، أو كله قبل السلام لم يكن عليه شيء لأنه عنده من باب قضاء القاضي بالاجتهاد)
(2)
.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بوجوب التقيد بما محله قبل السلام أو بعده في سجود السهو:
استدل أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم وبفعله:
1/ أما قوله: فكما في حديث أبي سعيد: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليَطْرَح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم»
(3)
، وحديث ابن مسعود:«وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين»
(4)
.
وجه الاستدلال:
أنه أمر بالسجود قبل السلام في حالة الشك، وأمر بالسجود بعد السلام في حالة التحري، والأصل في الأوامر الوجوب
(5)
، و (كلاهما أمر منه يقتضي الإيجاب)
(6)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- بأن التحري في حديث ابن مسعود محمول على قصد اليقين في
(1)
طرح التثريب (3/ 23).
(2)
الاستذكار (1/ 513).
(3)
أخرجه مسلم (571).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (401) وهذا لفظه، ومسلم (572).
(5)
انظر: الشرح الممتع (3/ 395).
(6)
مجموع الفتاوى (23/ 36).
حديث أبي سعيد، وعلى ذلك جماهير العلماء، قال القاضي عياض: (فهذا التحري عندنا وعند كافة العلماء هو البناء على اليقين المفسر في الأحاديث الأخر وقصد اليقين، قال الله تعالى:{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}
(1)
، وذهب أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم: أن التحري هنا البناء على غلبة الظن ثم اختلفوا)
(2)
.
- (فمعنى الحديث: فليقصد الصواب فليعمل به، وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد
…
[و] تفسير الشك بمستوى الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصوليين، وأما في اللغة: فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى شكاً سواء المستوي والراجح والمرجوح والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح)
(3)
.
- ومما يؤيد ذلك ماصحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخّ حتى يعلم أنه قد أتم، ثم يسجد سجدتين وهو جالس» ، قال ابن حزم:(ففسّر ابن عمر التحري كما قلناه)
(4)
.
- ويدل على صحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لاغرار في صلاة ولا
(1)
من الآية (14) من سورة الجن، وفي شرح ابن بطال على البخاري (2/ 61):(ألا تراه عليه السلام، قال: «لا يتحر أحدكم بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها»، أي: لا يقصد ذلك، والتحري رجوع إلى اليقين).
(2)
إكمال المعلم (2/ 508).
(3)
شرح النووي على مسلم (5/ 63).
(4)
المحلى (3/ 89)، وأثر ابن عمر أخرجه عبدالرزاق (3470) من طريق الثوري، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر به، وإسناده صحيح رجاله رجال الصحيحين.
تسليم»
(1)
، قال الإمام أحمد:(ومعنى غرار، يقول: لا يخرج منها، وهو يظن أنه قد بقي عليه منها شيء حتى يكون على اليقين والكمال)
(2)
، وقال الخطابي:(وأما الغرار في الصلاة فهو على وجهين: أحدهما: أن لا يتم ركوعه وسجوده، والآخر: أن يشك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فيأخذ بالأكثر ويترك اليقين وينصرف بالشك، وقد جاءت السنة في رواية أبي سعيد الخدري أنه يطرح الشك ويبني على اليقين، ويصلي ركعة رابعة حتى يعلم أنه قد أكملها أربعاً)
(3)
.
- وبذلك يُقلب الاستدلال: ويكون في الحديثين حجة للسجود قبل السلام أو بعد السلام على سبيل التوسعة و التخيير
(4)
، كما قال الجمهور وإن اختلفوا في التفضيل؛ لأنه أمر به مرة قبل السلام، ومرة بعد السلام.
2/ ومن أدلتهم من فعله: صلى الله عليه وسلم أنه سجد للزِّيادة بعد السلام كما في حديث ذي اليدين، وسجد للنَّقص قبله كما في حديث ابن بحينة، وقال:«صَلُّوا كما رأيتموني أُصلي»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد (9936)(9937) عن ابن مهدي عن الثوري سفيان عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة به وهذا إسناد صحيح، ومن طريق أحمد أخرجه أبوداود (928)، والحاكم (972)، والبيهقي في الكبرى (3411)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، ولم يتعقبه الذهبي.
(2)
مسند الإمام أحمد (16/ 29).
(3)
معالم السنن (1/ 220)، وقال في غرار التسليم:(معناه: أن ترد كما يسلم عليك وافياً لا نقص فيه).
(4)
انظر: المحلى بالآثار (3/ 84)، عمدة القاري (7/ 306).
(5)
أخرجه البخاري (631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
وجه الاستدلال:
أن الحديث يشمل متابعته صلى الله عليه وسلم في صُلب الصّلاة، وفي جَبْر الصَّلاة عند السهو، وعلى هذا فما كان قبل السَّلام فهو قبل السَّلام وجوباً، وما كان بعده فهو بعد السلام وجوباً
(1)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلي» ، لايدل على وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فرفع اليدين للتكبير، ووضع اليمين على الشمال في القيام، والتورك، والالتفات في السلام كلها غير واجبة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم.
- ولابد أن يفهم هذا الحديث في سياقه، فقد قال ابن دقيق عمن يجعل هذا الحديث للدلالة على الأفعال الواجبة
(2)
: (هذا إذا أخذ مفرداً عن ذكر سببه وسياقه
(3)
: أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما صلى صلى الله عليه وسلم
…
وإنما هذا الكلام قطعة من حديث مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله رحيماً رفيقاً، فظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه، فقال:«ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم» زاد البخاري «وصلوا كما
(1)
انظر: الشرح الممتع (3/ 395).
(2)
إضافة إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن.
(3)
سياق الحديث فيه التأكيد على الأئمة بذلك أكثر من غيرهم، وقد نبه على ذلك ابن تيمية في مواضع ومنها قوله في مجموع الفتاوى (28/ 360):(وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم؛ بل على كل إمام للصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر)، وقال ابن القيم في كتابه الصلاة ص (139):(فهذا خطاب للأئمة قطعاً وإن لم يختص بهم).
رأيتموني أصلي»، فهذا خطاب لمالك وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، ويشاركهم في هذا الخطاب كل الأمة في أن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه، فما ثبت استمرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه دائماً: دخل تحت الأمر، وكان واجباً
(1)
، وبعض ذلك مقطوع به، أي مقطوع باستمرار فعله له، وما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها، لا يجزم بتناول الأمر له)
(2)
.
- هذا في الأفعال التي لم ترد على هيئات مختلفة، وقد ورد سجود السهو بهيئات مختلفة، تدل على عدم تعين أحدها، بل الحالة الواحدة قد يرد فيها هيئات مختلفة، ومن ذلك حديث عبدالله بن بحينة رضي الله عنه لما قام صلى الله عليه وسلم عن التشهد وسجد للسهو قبل السلام، فقد ورد من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سجد بعد السلام في نفس الحالة.
- وحديث ابن بحينة مضى في أول البحث، وهذا حديث المغيرة يرويه عنه زياد بن علاقة قال: زياد بن علاقة، قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم، وقال: «هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(3)
.
(1)
جاء في "أصول الفقه الذي لايسع الفقيه جهله" ص (120): (الأولى أن يقال: إن الأفعال التي تدخل في حقيقة الصلاة وواظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها، ورواها كل من نقل صفة صلاته تعد واجبة كالركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وأما الأفعال التي ثبت أنه تركها أحياناً أو ترك ذكرها بعض من نقل صفة صلاته كتحريك أصبعه السبابة، وكذا ما لا يعلم إلا بالسؤال عنه من الأذكار الخفية فلا ترقى إلى الوجوب بل تكون مستحبة إلا أن يقترن بالفعل قول يدل على الوجوب).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 233)، وانظر: فتح الباري (13/ 237).
(3)
أخرجه أحمد (18173)، وأبوداود (1037)، والترمذي (364) من طريقين الأول كما -عند الترمذي- من طريق أحمد بن منيع قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا ابن أبي ليلى، عن الشعبي عن المغيرة، والآخر من طريق: عبد الله بن عبد الرحمن قال: أخبرنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زياد بن علاقة عن المغيرة، والإسناد الأول ضعيف؛ في إسناده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى كان على فقهه سيء الحفظ، ولذلك قال الترمذي:(قد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه)، وقد توبع بما يدل على حفظه هنا، كما في الطريق الآخر وإسناده صحيح، إلا أن المسعودي اختلط قبل موته وحديث يزيد عنه بعد الاختلاط، ومثل هذا الضعف في الإسنادين يمكن أن يجبر أحدهما بالآخر ولذلك قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقوي الثبوت الطريق الثالث وهو صحيح عند ابن أبي شيبة (4501) قال: حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا مسعر، عن ثابت بن عبيد قال: صليت خلف المغيرة بن شعبة «فقام في الركعتين، فلم يجلس فلما فرغ سجد سجدتين» ، وقوله:(فلما فرغ)، أي من صلاته وسلّم كما هو مصرح به في الروايتين السابقتين.
- ومثل ما فعل المغيرة صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه موقوفاً عليه، كما قال قيس ابن أبي حازم:(صلى بنا سعد بن مالك، فقام في الركعتين الأوليين، فقالوا: سبحان الله فقال: سبحان الله فمضى، فلما سلّم، سجد سجدتي السهو)
(1)
.
- وفعله أيضاً غير المغيرة وسعد، كما قال أبوداود في سننه:(وفعلَ سعدُ بن أبي وقاص مثل ما فعلَ المغيرةُ بن شعبة، وعمرانُ بن حصين، والضحاكُ ابن قيس، ومعاويةُ بن أبي سفيانَ، وابن عباس أفتى بذلك، وعمرُ بن عبد العزيز. قال أبو داود: وهذا فيمن قام من ثنتين ثم سجدوا بعد ما سَلَّموا)
(2)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أنه ليس من الآراء
(1)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2564)، والبيهقي في الكبرى (3851) موقوفاً، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1205) مرفوعاً، قال الدارقطني في علله (4/ 380):(والموقوف هو المحفوظ).
(2)
سنن أبي داود (2/ 271).
الشاذة؛ فإنه لم يخالف نصاً صحيحاً صريحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، وقد استند قائله إلى أدلة من السنة محتملة، وقد قيل به في كل مذهب، ونصوص الشافعي وأحمد تحتمله، وإن كان مخالفاً للمشهور المعتمد في المذاهب الأربعة، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، والأقوى من الأقوال -والله أعلم- هو ما حرّره العلائي في ختمه لهذه المسألة بأن الأصوب:
(ردّ الأمر إلى التخيير، واستواء الأمرين، لثبوت الأحاديث فيها من كل جهة، وبُعْد الجمع بينها على وجه يعم جميعها، وبُعْد المناسبة الفارقة بين الزيادة والنقصان، ولا ينافي القولُ بهذا= القول بالأولوية في بعض الصور، إما قبل السلام أو بعده حسب ما ثبت في الأحاديث)
(1)
، والله أعلم.
(1)
"نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" ص (535 - 536).
قال عبدالله بن المعتز: (إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن اذكر من فوقك من العلماء).
الوافي بالوفيات (17/ 241)
المبحث الثامن: لا إعادة للصلاة لمتعمد ترك أدائها في وقتها
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنَّه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنَّه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين).
ابن رجب رحمه الله
بيان فضل علم السلف في مجموع رسائله (3/ 22)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
أداء الصلاة المفروضة في وقتها من آكد شروط صحة الصلاة، فلا تؤدى قبله ولا بعده؛ قال الله:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
(1)
، وهذا المبحث في حكم قضاء الصلاة المفروضة بعد خروج وقتها، لمن فاتته بغير عذر، بحيث يدخل عليه وقت الصلاة المفروضة ثم يتركها حتى يخرج وقتها، وهو غير معذور في هذا التأخير، بالنوم أو النسيان أو الجهل، أو إرادة الجمع أو المسايفة ونحوها
(2)
.
ولمَّا قال ابن حزم: (اتفقوا أن الصلاة لا تسقط، ولا يحل تأخيرها عمداً عن وقتها، عن العاقل البالغ بعذر أصلاً، وأنها تؤدَّى على قدر طاقة المرء من جلوس واضطجاع بإيماء، وكيف أمكنه)
(3)
، تعقَّبه أبو العباس ابن تيمية بقوله:
(قلت: النزاع معروف في صور: منها: حال المسايفة: فأبو حنيفة يوجب التأخير، وأحمد في إحدى الروايتين يجوزه. ومنها: المحبوس في مصر
(4)
.
(1)
من الآية (103) من سورة النساء.
(2)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 432): (جوّز بعض العلماء تأخير الصلاة في بعض الأوقات كحال المسايفة. كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. والذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه، لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء).
(3)
مراتب الإجماع ص (25).
(4)
قال السرخسي في المبسوط (1/ 123): (أما المحبوس في السجن فإن كان في موضع نظيف وهو لا يجد الماء كان أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- يقول: إن كان خارج المصر صلى بالتيمم، وإن كان في المصر لم يصل، وهو قول زفر -رضي الله تعالى عنه- ثم رجع فقال: يصلي ثم يعيد، وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله تعالى-).
ومنها: عادم الماء والتراب: فمذهب أبي حنيفة، وأحدُ القولين في مذهب مالك أنه لا يصلي، رواه مَعنٌ عن مالك، وهو قول أصبغ، وحكي ذلك قولا للشافعي، ورواية عن أحمد. وهؤلاء في الإعادة لهم قولان، هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة)
(1)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة المراد بحثها:
1.
أجمع العلماء على أن الكافر الأصلي لا يقضي بعد إسلامه ما ترك من صلاة في كفره
(2)
.
2.
أجمع العلماء على تحريم تأخير الصلاة المفروضة عن الوقت الذي يجب أداؤها فيه لغير المعذور
(3)
، (ولا يجوز لغيره بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام)
(4)
.
3.
واتفقوا على تحريم تأخير صلاة النهار إلى الليل أو تأخير صلاة الليل إلى النهار، ولو كان ذلك لعذر يبيح الجمع
(5)
، و (لاخلاف
(1)
نقد مراتب الإجماع ص (289).
(2)
انظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 975)، الشرح الكبير على متن المقنع (1/ 378)، أضواء البيان (3/ 462).
(3)
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 80): (وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامداً حتى يخرج وقتها عاص لله)، وتأخيرها من السهو المتوعد عليه بالويل قال ابن تيمية:(وتأخيرها عن وقتها من السهو عنها باتفاق العلماء)، وانظر: مراتب الإجماع ص (25).
(4)
الصلاة لابن القيم ص (71).
(5)
قال ابن تيمية في الفتاوى (3/ 428): (اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار؛ لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما. لكن يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما، ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر ونحو ذلك من الأعذار)، وقال (22/ 28 - 38): (ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة. ولا نجاسة ولا صيد ولا لهو ولا لعب ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك؛ بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس
…
لكن يصلي بحسب حاله، فما قدر عليه من فرائضها فعله، وما عجز عنه سقط عنه
…
وإنما يعذر بالتأخير: النائم والناسي).
بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق وقتها عن كمال فعلها)
(1)
.
4.
…
(واتفقوا على أن من نام عن صلاة أو نسيها أو سكر من خمر حتى خرج وقتها فعليه قضاؤها أبداً)
(2)
.
5.
و (الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك، كما يصلي الظهر بعد دخول العصر، ويؤخر العصر إلى الاصفرار; فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير، وهو من المذمومين)
(3)
.
6.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن من ترك الصلاة حتى خرج كل
(1)
الصلاة لابن القيم ص (72).
(2)
مراتب الإجماع ص (32)، ولم يتعقبه ابن تيمية، ونقله ابن القطان في الإقناع (1/ 126)، قال ابن عبدالبر في التمهيد:(3/ 289 - 390): (وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها
…
وروى ابن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا نام أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه، قال أبو عمر: لا أعلم أحداً قال هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن فإن صح هذا عنه فهو خلاف السنة)، ومع أن ابن تيمية كما [في] جامع المسائل (4/ 120) قال في قضاء السكران:(إن زالَ عقلُه بسبب محرم، كالسُّكرِ بالخمر والحشيشة وأكل البَنْجِ ونحو ذلك، أو بحال محرَّم مثل أن يستمعَ القصائد المنهيَّ عنها فيغيب عقلُه، فهذا عليه القضاءُ بلا نزاع)، إلا أن ابن مفلح نقل عنه عدم القضاء كما في الفروع (1/ 409):(ويلزم من زال عقله بمحرم "و" خلافاً لشيخنا).
(3)
منهاج السنة (5/ 210).
وقتها فعليه قضاؤها، وحكي إجماعاً، ولو كان ذلك بغير عذر
(1)
، وخالف في ذلك بعض السلف وقالوا: لا يعيد المتعمد، وهو قول ابن حزم
(2)
، وأحد قولي ابن تيمية
(3)
،
(1)
قال محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(2/ 996): (فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها لا نعلم في ذلك اختلافاً إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه وجعل توبته وقضاءه إياها رجوعا منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية وأوجب عليه قضاءها)، قال ابن رجب في الفتح (5/ 133):(وأما ترك الصلاة متعمداً، فذهب أكثر العلماء إلى لزوم القضاء له، ومنهم من يحكيه إجماعاً).
(2)
قال في المحلى (2/ 10): (وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبدا، فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة؛ وليتب وليستغفر الله عز وجل، وقال في الإحكام في أصول الأحكام (4/ 38): (أما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا فإن الذي فرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا وليس عليه صيام يقضيه ولا صلاة يقضيها وإنما عليه إثم أمره فيه إلى ربه تعالى) قال ابن رجب في الفتح (5/ 134): (ومذهب الظاهرية - أو أكثرهم: أنه لا قضاء على المتعمد).
(3)
القول الأول له بوجوب القضاء كما في شرح العمدة - كتاب الصلاة ص (231 - 233): (ومن لم يصل المكتوبة حتى خرج وقتها وهو من أهل فرضها لزمه القضاء على الفور
…
فالإخلال بالوقت لا يوجب الإخلال بأصل الفعل بل يأتي بالصلاة ويبقى التأخير في ذمته، إما أن يعذبه الله أو يتوب عليه أو يغفر له)، ويمكن أن يقال هذا القول متقدم وهو شرح على المذهب في أول أمر الشيخ والقول الآخر هو اختياره، لكنه في مجموع الفتاوى (22/ 18 - 19) مال إلى القضاء، وفي (22/ 103) ذكر الخلاف ولم يرجح، والقول الآخر له -وهو المشهور عن الشيخ- أنه لايشرع له القضاء كما في الفروع (5/ 71):(وعند شيخنا: لا يقضي متعمد بلا عذر "خ" صوما ولا صلاة)، وكما في اختياراته المطبوعة مع الفتاوى الكبرى (5/ 320):(وتارك الصلاة عمداً لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع، وكذا الصوم وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي، وداود وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه)، وقال كما في الفتاوى الكبرى (2/ 18) عن تارك الصلاة من غير عذر وهو عالم بالوجوب:(قيل: لا يجب عليه القضاء، وهذا هو الظاهر) انتهى.
س/ وهل يُفرّق ابن تيمية بين من في نيته أن يصلي ولكنه فرّط فيقضي ولو خرج الوقت، وبين من ينوي تركها ثم يخرج الوقت فلا يقضي؟ هذا محتمل فيكون كل كلام له سياقه، ويدل لهذا التفريق قوله في مجموع الفتاوى (22/ 19): (دل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال لكان الجميع سواء؛ لكن المضيع لوقتها كان ملتزماً لوجوبها، وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت، وأتى بالفعل، فأما من
…
علم الإيجاب ولم يلتزمه فهذا إن كان كافراً فهو مرتد، وفي وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم) انتهى، وللشيخ كلام مهم في التفريق بين من يفوتها في الوقت المشترك، وبين من يفوتها عن وقتها ومايجمع إليها؛ كما قال في منهاج السنة (5/ 210): (الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك، كما يصلي الظهر بعد دخول العصر، ويؤخر العصر إلى الاصفرار; فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير
…
الوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت لجواز فعلهما جميعا عند العذر، وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم، لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة، ونهى عن قتالهم، مع ذمهم وظلمهم
…
ما لم يدخل في التفويت المطلق؛ كمن
…
يؤخر الظهر والعصر عمدا، ويقول: أصليهما بعد المغرب، ويؤخر المغرب والعشاء ويقول: أصليهما بعد الفجر، أو يؤخر الفجر ويقول: أصليها بعد طلوع الشمس، فهذا تفويت محض بلا عذر).
وهو رأي ابن القيم
(1)
، ورجحه بعض المعاصرين ونُسب قولهم إلى الشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال في كتابه الصلاة ص (75): (فأخبرونا أي كتاب أو سنة أو أثر عن صاحب نطق بأن من أخر الصلاة وفوتها عن وقتها الذي أمر الله بإيقاعها فيه عمدا يقبلها الله منه بعد خروج وقتها، وتصح منه وتبرأ ذمته منها ويثاب عليها ثواب من أدى فريضته. هذا والله ما لا سبيل لكم إليه البتة حتى تقوم الساعة)، وأفاض في هذه المسألة أيضاً في مدارج السالكين (1/ 380 - 390)، وقد استدل لهذا القول بما لم أره عند غيره، حتى قال الألباني في السلسة الصحيحة (1/ 754):(ومن شاء تفصيل الكلام فيها فليرجع إلى كتاب الصلاة لابن القيم -رحمه الله تعالى- فإنه أشبع القول عليها مع التحقيق الدقيق بما لا تجده في كتاب) انتهى، وظاهر استدلالاته فيه أن التأخير الذي لا يقضى هو تأخير صلاة الليل إلى النهار أو العكس من المتعمد لذلك، كما هو تقرير شيخه ابن تيمية.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
ابن باز (ت 1420)
(1)
، والألباني (ت 1420)
(2)
، و ابن عثيمين (ت 1421)
(3)
.
(1)
قال في مجموع فتاويه (10/ 312): (لا يلزمه القضاء إذا تركها عمداً في أصح قولي العلماء؛ لأن تركها عمداً يخرجه من دائرة الإسلام ويجعله في حيز الكفار، والكافر لا يقضي ما ترك في حال الكفر
…
فإن قضى من تركها عمداً ولم يجحد وجوبها فلا حرج؛ احتياطاً وخروجاً من خلاف من قال بعدم كفره إذا لم يجحد وجوبها، وهم أكثر العلماء).
(2)
قال في الثمر المستطاب (1/ 105): (من أخرج صلاة عن وقتها متعمداً غير قاصد للجمع فلا يشرع له قضاؤها ولا يعذر عليه أبداً)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1/ 141)، (1/ 754).
(3)
قال في مجموع فتاويه (12/ 93): (الذي يترجح عندي ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من ترك الصلاة متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا ينفعه قضاؤها)، وانظر: الشرح الممتع (2/ 139).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
2/ وصفه بالشذوذ ونحوه، وقد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن عبدالبر (ت 463) فقال: (شذَّ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال: ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها
…
وظن أنه يستتر في ذلك برواية جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة المسلمين
…
والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله وأصل أصحابه: فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا تنازع في قبولها، والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع، ثم جاء من الاختلاف بشذوذ خارج عن أقوال علماء الأمصار وأتبعه دون سند روي في ذلك، وأسقط به الفريضة المجتمع على وجوبها ونقض أصله ونسي نفسه
…
فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم، ولا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم)
(1)
.
(1)
الاستذكار (1/ 78 - 82)، وقد ذكر ظاهرياً غير معين، وذكر أنه خالف داود وأصحابه الظاهرية، والظاهر أنه يقصد ابن حزم وبمقارنة بين استدلالات ابن حزم ومناقشاته في المحلى، واستدلالات ابن عبد البر ومناقشاته في الاستذكار يظهر له أن كلّاً منهما يرد على الآخر بلا تصريح لأحدهما في الآخر، ومن ذلك:
أ - قال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 78): (ودليل آخر: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس؛ لشغله بما نصبه المشركون له من الحرب ولم يكن يومئذ ناسياً ولا نائماً)، وقال ابن حزم في المحلى (2/ 15): (وقد أقدم بعضهم فذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق الظهر والعصر بعد غروب الشمس، ثم أشار إلى أنه عليه السلام تركها متعمداً ذاكراً لها. قال علي: وهذا كفر مجرد ممن أجاز ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب - قال ابن حزم في المحلى (2/ 13): (وممن قال بقولنا في هذا: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وسعد بن أبي وقاص وسليمان وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم)، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 82): (وقد أوهم في كتابه أن له سلفاً من الصحابة والتابعين تجاهلاً منه أو جهلاً فذكر عن ابن مسعود ومسروق وعمر بن عبد العزيز
…
) الخ.
ت - قال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 82): (وذكر عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها، وكذلك نقول: لا صلاة له كاملة كما لا صلاة لجار المسجد ولا إيمان لمن لا أمانة له)، وقال ابن حزم في المحلى (2/ 14):(ومن العجب أن بعضهم قال: معنى قول ابن عمر: لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها، أي: لا صلاة كاملة!).
- وقد تنبه العراقي في طرح التثريب (2/ 149 - 150) لمناقشة ابن عبد البر لابن حزم حين قال: (بالغ ابن حزم في كتاب له سماه: الإعراب فادعى فيه الإجماع على أنها لا تقضى، وناقضه ابن عبد البر في الاستذكار فادعى الإجماع على القضاء) انتهى، ولا يخفى ما بين الشيخين من الصحبة ولعل هذا سبب عدم التصريح بالاسم منهما، وابن حزم يروي عن ابن عبد البر في المحلى، وأثنى عليه كثيراً، كما قال في رسالته عن "فضل الأندلس وذكر رجالها" وهي مطبوعة مع رسائل ابن حزم (2/ 179 - 180): (كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر، وهو الآن في الحياة، لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه
…
ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها).
- والمازري (ت 536) بقوله: (من ترك الصلاة متعمداً حتى خرجت أوقاتها فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي وشذ بعض الناس وقال: لا يقضي)
(1)
.
- والقاضي عياض (ت 544) بقوله: (سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولةٌ شاذةٌ في المفرط كقول داود، ولا يصح عنه
(1)
المعلم بفوائد مسلم (1/ 440).
ولا عن أحد من الأئمة ولا من يعتزى إلى علم سوى داود وأبي عبد الرحمن الشافعي)
(1)
.
- والنووي (ت 676) بقوله: (وشذَّ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجب قضاء الفائتة بغير عذر، وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء، وهذا خطأ من قائله وجهالة، والله أعلم)
(2)
.
- وأبو الفضل العراقي (ت 806) بقوله: (وأغرب من هذا أن ابن حزم ادعى في كتاب الإعراب: الاتفاق على أنها لا تقضى
…
وابن حزم موافق في الصوم أنه يقضي ولكنه لا يحتج بالقياس، وما ذهب إليه ابن حزم شاذ مخالف لأئمة أهل العلم)
(3)
.
- وبالغ ابن العربي (ت 543) فوصفهم بالمبتدعة حين قال: (فافهموا هذه النكتة تريحوا أنفسكم من شغب المبتدعة، فما زالوا يزهدون الناس في الصلاة، حتى قالوا: إن من تركها متعمداً لا يلزمه قضاؤها)
(4)
.
(1)
إكمال المعلم (2/ 670).
(2)
شرح النووي على مسلم (5/ 183).
(3)
طرح التثريب (2/ 287)، ولا يخفى أن الشرح لأبي الفضل ولأبي زرعة ابنه (ت 826)، والتمييز بين الشرحين فيه عسر، لكن جاء في إحدى المخطوطات عبارة نُقلت في الطبعة المصرية في كلمة (جمعية النشر والتأليف الأزهرية) عند الحديث عن الكتاب ص (9):(جميع هذا الجزء الأول من شرح الأحكام المسمَّى "طرح التثريب في شرح التقريب" من تأليف والدي رحمه الله وتكميلي، من أوله إلى أول باب مواقيت الصلاة من كلام والدي رحمه الله، ومن أول الباب المذكور إلى أول باب التأمين من كلامي، ومن ثم إلى باب الإمامة من كلام والدي رحمه الله، ومن ثم إلى باب الجلوس في المصلَّى وانتظار الصلاة من كلامي، ومن ثم إلى آخر هذا المجلد من كلام والدي رحمه الله)، وما بعد الجزء الأول يحدد بالقرائن، وقد أخطأ في إثبات القضاء على متعمد ترك الصيام لابن حزم، فإن قوله في الصيام كقوله في الصلاة، وسيأتي ذلك في المبحث الثالث من كتاب الصيام.
(4)
أحكام القرآن (3/ 256)، ولعله يقصد بذلك ابن حزم وهو يقسو عليه في العبارة، و يحط من الظاهرية ويجعلهم من المبتدعة كالخوارج والباطنية، انظر كتابه العواصم من القواصم ص (249)، قال الذهبي في السير (18/ 190):(لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم، ولا تكلم فيه بالقسط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد، ولا يكاد، فرحمهما الله وغفر لهما).
- وأبعد من تلك المبالغة: تكفير عبد القاهر البغدادي
(1)
لمن قال بهذا القول، فقال وهو في سياق ذكره لفضائح النظّام: (ومنها: أنه زعم أن من ترك صلاة مفروضة عمداً لم يصح قضاؤه لها ولم يجب عليه قضاؤها، وهذا عند سائر الأمة كفر ككفر من زعم أن الصلوات الخمس غير مفروضة
…
وخلاف النظام للأمة في وجوب قضاء المتروكة من فرائض الصلاة بمنزلة خلاف الزنادقة في وجوب الصلاة ولا اعتبار بالخلافين)
(2)
، ولا شك في خطأ هذه المجازفات وعدم دقتها.
- وأيّاً ما كانت المبالغة في التشنيع، على تفاوت في مراتبها من شذوذ وتبديع وتكفير، فإن من دلالاته: استقرار رأيهم، وضعف الخلاف الذي شُنع عليه، وهذا لا يُسلّم به إلا بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد في التحقق من صحة هذه الأوصاف أو نفيها.
(1)
أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي البغدادي، عالم متفنن يدرّس في سبعة عشر فنّاً كما قيل، وهو أحد أعلام الشافعية، وشيخه أبو إسحاق الإسفراييني، ومن تلاميذه البيهقي، قال أبو عثمان الصابوني:(كان الأستاذ أبو منصور من أئمة الأصول، وصدور الإسلام بإجماع أهل الفضل)، وهو أحد أعلام الأشاعرة في القرن الرابع و الخامس، وكتب في التفسير، وفضائح المعتزلة، والفرق بين الفرق، والأصول وغير ذلك، توفي سنة (429) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 573)، طبقات الشافعية للسبكي (5/ 136)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 572).
(2)
الفرق بين الفرق ص (132 - 133).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بقضاء الصلاة لمتعمد ترك أدائها في وقتها:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث أبي قتادة رضي الله عنه وفيه: «أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها»
(1)
.
وجه الاستدلال:
أنه (سمّى من فعل هذا مفرطاً والمفرط ليس بمعذور
…
وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان من تفريطه)
(2)
، وهذا في فوات كل الوقت.
(1)
أخرجه مسلم (681)، قال ابن عبدالهادي في التنقيح (2/ 365):(وقيل: إنَّ قوله: «فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها» وهمٌ من عبد الله بن رباح الذي روى عن أبي قتادة، أو من أحد الرُّواة في إسناد حديثه)، ومن استشكل هذه اللفظة فلأنه فهم ما ذكره ابن حجر في الفتح (2/ 71):(فإن بعضهم زعم أن ظاهره إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي ولكن اللفظ المذكور ليس نصاً في ذلك)؛ ولذلك نفى هذا الفهم النووي في شرحه لمسلم (5/ 187) وذكر أن: (معناه: أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ويتحول، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين مرة في الحال ومرة في الغد).
(2)
الاستذكار (1/ 80).
ونوقش الاستدلال:
بأن قوله: «ذلك» يرجع إلى حالة النوم وهي التي لا تفريط فيها، بدليل قوله:«فليصلها حين ينتبه لها» ، والمتعمد لم يغفل عنها حين تركها حتى يقال: حين ينتبه لها.
2/ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر»
(1)
.
وجه الاستدلال:
بأنه (لم يخص متعمداً من ناسٍ، ونقلت الكافة عنه عليه السلام أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاته بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع، ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط، وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار)
(2)
، وهذا في فوات بعض الوقت.
ونوقش الاستدلال:
بأن الصلاة (لو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه لم يتعلق إدراكها بركعة)
(3)
، وهذا الإدراك للركعة لايرفع الإثم بالاتفاق (فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم بل هو مدرك آثم، فلو كانت تصح بعد الغروب لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت أولا يدرك منه شيئاً)
(4)
.
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608).
(2)
المرجع السابق (1/ 78)، مع الاتفاق على عدم جواز تأخيرها حتى يضيق وقتها كما سبق في تحرير محل الشذوذ.
(3)
الصلاة لابن القيم ص (90).
(4)
المرجع السابق.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن الإدراك فائدته غير منحصرة في الصحة؛ حتى يقال: إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها بالكلية لم تصح منه؛ فللإدراك فوائد أخرى كوصف فعله بالأداء لا القضاء، وتفاوت الأجر وغير ذلك
(1)
.
- وتفويت كل الوقت أعظم إثماً بلا شك
(2)
، لكن ليس في الحديث نفي القضاء بعد الوقت، بل فيه أن من أدرك ركعة قبل خروج الوقت فقد أدرك، ولا يسمى عند الجميع من صلى بعد الوقت مدركاً، بل هو يقضي ما فاته وتعلق بذمته، ولو فُرض أن في مفهوم الحديث نفي القضاء، فإن منطوق حديث:«ليس في النوم تفريط» أقوى.
3/ ومن أدلتهم: أن الصلاة المفروضة إذا دخل وقتها فقد ثبتت في ذمة المكلف وصارت ديناً عليه، (ومن لزمه حق لله أو لعباده لزمه الخروج منه، وقد شبّه عليه السلام حق الله تعالى بحقوق الآدميين وقال «دَيْنُ الله أحق أن يقضى»
(3)
.
(1)
وسيأتي تنبيه على تسمية فعل الصلاة في وقتها قضاء أيضاً، وأن التفريق اصطلاحي.
(2)
قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (5/ 220): (فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم، لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب، إلا أن يقال: ذاك أعظم إثماً).
(3)
الاستذكار (1/ 81)، والحديث المذكور متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148)، في قصة الرجل الذي جاء يسأل عن أمه التي ماتت وكان عليها صيام، أفيقضيه عنها؟، وحديث ابن عباس هذا ورد في الصحيحين أن السائل رجل وورد أنها امرأة، وورد الصيام مطلقاً وورد أنه عن نذر، وأخرج البخاري (1852) عن ابن عباس: أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:«نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» ، وأخرج البخاري (1952)، ومسلم (1147) عن عائشة رضي الله عنها:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، هكذا مطلقاً بلا قصة ولا اختلاف في لفظه.
وجه الاستدلال:
- أن (قوله: «دَيْنُ الله» اسم جنس مضاف إلى معرفة فهو عام في كل دين
…
ولا شك أن الصلاة المتروكة عمداً دين الله في ذمة تاركها، فدل عموم الحديث على أنها حقيقة جديرة بأن تقضى، ولا معارض لهذا العموم)
(1)
، وما وجب من الفرائض بإجماع لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا تنازع في قبولها، وهذا الحديث من أقوى الأدلة لهذا الرأي
(2)
.
- و (وجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول؛ لأنه قد خوطب بالصلاة وترتبت في ذمته فصارت ديناً عليه والدين لا يسقط إلا بأدائه فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها ويسقط عنه الطلب بأدائها)
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن إطلاق الوجوب في الصلوات المفروضة مقيد بالوقت
(1)
أضواء البيان (3/ 464).
(2)
وَصَفه بأقوى الأدلة غير واحد من العلماء، فقال الصنعاني في حاشيته على إحكام الأحكام (2/ 495):(وأقوى شيء عندي في الاستدلال لمن أوجب على العامد القضاء حديث: «فدين الله أحق أن يقضى» فإنه لفظ عام لكل دين لله، ومعلوم أن التارك للصلاة هي دين في ذمته وإلا لما عوقب عليها، ووجبت التوبة عن تركها بالاتفاق بين الفريقين، وكما أن دين الآدمي لا يسقطه عن الذمة إلا قضاؤه، كذلك دين الله، بل قد جعله صلى الله عليه وسلم أحق بالقضاء، وسواء قلنا القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؛ إذ قد صارت ذمته مشغولة بها بالأمر الأول، وصارت بتركه أداءها في وقتها ديناً لله يعاقبه على عدم القضاء)، وقال الشوكاني في النيل (2/ 32):(لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد وهم من عدا من ذكرنا على دليل ينفق في سوق المناظرة، ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم إلا حديث «فدين الله أحق أن يقضى»، وقال الشنقيطي في الأضواء (3/ 464): (ومن أقوى الأدلة على وجوب القضاء على التارك عمداً عموم الحديث الصحيح الذي قدمناه في سورة «الإسراء» الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق أن يقضى» .
(3)
فتح الباري (2/ 71).
كقوله صلى الله عليه وسلم: «الوقت بين هذين»
(1)
، (ولم يوجبها عليه السلام لا قبل ذلك الوقت، ولا بعده)
(2)
، فمن أخذ بعموم وإطلاق النصوص، دون مخصصها ومقيدها لزمه إقامة الصلاة قبل الوقت وبعده.
- وكون الصلاة ديناً ثابتاً في الذمة هذه هي المقدمة الأولى و (لا نزاع فيها ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم قال بسقوطها من ذمته بالتأخير)
(3)
، والمقدمة الثانية: أن هذا الدين قابل للأداء بعد خروج وقته= فيجب أداؤه، وهذه المقدمة (فيها وقع النزاع وأنتم لم تقيموا عليها دليلاً، فادعاؤكم لها هو دعوى محل النزاع بعينه جعلتموه مقدمة من مقدمات الدليل وأثبتم الحكم بنفسه)
(4)
.
- وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «دَيْنُ الله أحق أن يقضى» (فهذا إنما قاله في حق المعذور لا المفرط، ونحن نقول في مثل هذا الدين يقبل القضاء، وأيضاً فهذا إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في النذر المطلق الذي ليس له وقت محدود الطرفين)
(5)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن وجوب الصلاة لا خلاف في أنه مقيد بوقتها، ولا خلاف في عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر، ولا يلزم من القول بقضائها بعد الوقت مع الإثم، صحة أدائها قبل الوقت؛ لأنها لا تثبت في الذمة وتكون ديناً لله إلا بعد دخول الوقت.
- وأما الدليل على القضاء الذي هو محل النزاع فما نحن بصدده من
(1)
أخرجه مسلم (614).
(2)
ا لمحلى (2/ 16).
(3)
الصلاة لابن القيم ص (88).
(4)
المرجع السابق.
(5)
المرجع السابق.
كونه ديناً لله وأنه أحق بالوفاء من غيره هذا دليل، وما سبق وما سيأتي كلها أدلة يمكن مناقشة بعضها، لكن بعضها سالم من المناقشة ومجموعها دلالته قوية.
- وأما القول بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «دَيْنُ الله أحق أن يقضى» محمول على المعذور، فهذا لم يُذكر في حديث ابن عباس وعائشة في الصحيحين
(1)
، وأما حمله على النذر قال به أحمد وإسحاق وغيرهما (حملاً للعموم الذي في حديث عائشة
(2)
، على المقيد في حديث ابن عباس وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا)
(3)
.
- حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «دَيْنُ الله أحق أن يقضى» (ذكر هذا الحكم غير مقيد، بعد سؤال السائل مطلقاً عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر، ويحتمل أن يكون عن غيره، فخرج ذلك على القاعدة المعروفة في أصول الفقه، وهو أن الرسول عليه السلام إذا أجاب بلفظ غير مقيد عن سؤال وقع عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفاً: أنه يكون الحكم شاملاً للصور كلها، وهو الذي يقال فيه: ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال: مُنزّل منزلة العموم في المقال)
(4)
.
(1)
ولاشك أن المعذور غير مؤاخذ بالتأثيم، بخلاف غير المعذور، وأما القضاء فهذه قضية غير قضية الإثم.
(2)
حديث عائشة مرفوعاً: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).
(3)
فتح الباري (4/ 193).
(4)
إحكام الأحكام (2/ 25).
- يضاف إلى ذلك: العموم في حديث عائشة: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، (فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر، مع ذلك العموم راجعاً إلى مسألة أصولية. وهو أن التنصيص على بعض صور العام لا يقتضي التخصيص)
(1)
.
- وعلى فرض التسليم بأن الأحاديث في النذر فإن (النبي صلى الله عليه وسلم علّل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره، وهو كونه عليها، وقاسه على الدين، وهذه العلة لا تختص بالنذر - أعني كونها حقاً واجباً - والحكم يعم بعموم علته
…
لا سيما وقوله عليه السلام «أرأيت» إرشاد وتنبيه على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب)
(2)
.
4/ ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}»
(3)
، وفي لفظ لمسلم:«من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»
(4)
.
وجه الاستدلال:
- أن (النسيان في لسان العرب يكون [بـ] الترك عمداً ويكون ضد الذكر)
(5)
، والحديث (يقتضي وجوب الصلاة على كل ذاكر إذا
(1)
المرجع السابق (2/ 26).
(2)
المرجع السابق (2/ 25).
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684)، وهو في مسلم (680) بنحو هذا اللفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم (684).
(5)
الاستذكار (1/ 76)، وقال:(قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي: تركوا طاعة الله تعالى والإيمان بما جاء به رسوله فتركهم الله من رحمته).
ذكر، سواء كان الذُكر دائماً، كالتارك لها عن علم، أو كان الذكر طارئاً، كالتارك لها عن غفلة، وكل ناس تارك، إلا أنه قد يكون بقصد وبغير قصد، فمتى كان الذكر وجب الفعل دائماً أو منقطعاً)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أن في ذلك تحميلاً للفظ ما لا يحتمل؛ (لأن قوله عليه السلام: «فليصلها إذا ذكرها» كلام مبني على ما قبله. وهو قوله: «من نام عن صلاة أو نسيها»، والضمير في قوله: «فليصلها إذا ذكرها» عائد إلى الصلاة المنسية، أو التي يقع النوم عنها. فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان، وهو الذكر واليقظة؟ نعم لو كان كلاماً مبتدأ: مثل أن يقال: من ذكر صلاة فليصلها إذا ذكرها. لكان ما قيل محتملاً، على تمحُّل مجاز)
(2)
.
- ثم إنه (قال: «فليصلها إذا ذكرها» وهذا صريح في أن النسيان في الحديث نسيان سهو لا نسيان عمد، وإلا كان قوله:«إذا ذكرها» كلاماً لا فائدة فيه، فالنسيان إذا قوبل بالذكر لم يكن إلا نسيان سهو كقوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا نسيت فذكّروني»
…
-[و] قال: «فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» ومعلوم أن من تركها
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 256)، وقال:(فافهموا هذه النكتة تريحوا أنفسكم من شغب المبتدعة، فما زالوا يزهدون الناس في الصلاة، حتى قالوا: إن من تركها متعمداً لا يلزمه قضاؤها، ونسبوا ذلك إلى مالك. وحاشاه من ذلك، فإن ذهنه أحدّ، وسعيه في حياطة الدين آكد من ذلك).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 296).
عمداً لا يكفر عنه فعلها بعد الوقت إثم التفويت، هذا مما لا خلاف فيه بين الأمة
…
- الرابع [من أوجه بطلان هذا التأويل]: أن الناسي في كلام الشارع إذا علّق به الأحكام، لم يكن مراده إلا الساهي، وهذا مطرد في جميع كلامه كقوله صلى الله عليه وسلم:«من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه»
(1)
.
وأجيب عن المناقشة:
- بأن الحديث (خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، حتى لقد بلغني عن بعض علماء المغرب فيما حكاه لي صاحبنا الشيخ الإمام أبو الطيب المغربي أنه تكلم يوماً في ترك الصلاة عمداً، ثم قال: وهذه المسألة مما فرضها العلماء ولم تقع؛ لأن أحداً من المسلمين لا يتعمد ترك الصلاة)
(2)
.
- فخص النائم والناسي لأنهما الغالب كما سبق؛ وليرتفع التوهم والظن بأنه لا قضاء عليهما؛ لرفع القلم والإثم عنهما بالنوم والنسيان، ولم يذكر العامد معهما لأن العلة المتوهمة في النائم والناسي ليست فيه
(3)
.
- (فنص على النائم والناسي في الصلاة لما وصفنا، ونص على المريض والمسافر في الصوم، وأجمعت الأمة ونقلت الكافة فيمن لم يصم رمضان عامداً وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرًا وبطراً
(1)
الصلاة لابن القيم ص (83 - 84).
(2)
طرح التثريب (2/ 150) وقال: (وكان ذلك العالم غير مخالط للناس ونشأ عند أبيه مشتغلاً بالعلم من صغره حتى كبر ودرّس فقال ذلك في درسه).
(3)
انظر: الاستذكار (1/ 76 - 77).
-تعمد ذلك ثم تاب عنه - أن عليه قضاءه
(1)
، فكذلك من ترك الصلاة عامداً)
(2)
.
- ومفهوم الشرط في قوله: «إذا ذكرها» غير معمول به هنا، ففي الحديث (قيد القضاء بالنائم، والناسي .. ؛ لأنه جعل واجبَهُ الإتيان به إذا ذكر ما نسيه أو نام، ولا كذلك التارك عمداً؛ لأنه لا يتجدد له ذكر بعد النسيان، فصار كقوله تعالى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فإن مفهوم الشرط ليس معمولاً به)
(3)
.
- (ويحتمل أن يقال في الحديث إنه نبه بالأدنى على الأعلى
…
فإذا أمر المعذور بالقضاء فأولى أن يؤمر به من تعدى بالتأخير، كمن أخر حقاً عليه عن وقته ودين الله أحق بالقضاء)
(4)
؛ (لأن أقل أحوال الناسي سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد لا يسقط عنه الإثم، فكان أولى أن تلزمه إعادتها، ولا يوجد في شيء من مسائل الشريعة مسألة: العامد فيها معذور، بل الأمر بضد ذلك)
(5)
.
وأجيب عن الجواب الأخير الذي فيه قياس:
- بـ (أنه قياس خاطئ بل لعله من أفسد قياس على وجه الأرض، لأنه من باب قياس النقيض على نقيضه، وهو فاسد بداهة)
(6)
؛ (لأن
(1)
ونقل الإجماع أيضاً ابن بطال في شرح البخاري (2/ 221) بقوله: (وقد أجمعت الأمة على أن من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير عذر أنه يلزمه قضاؤه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك)، وقد ناقش ابن القيم هذا الإجماع بأصل الاستدلال بالإجماع، وأن هذه الإجماعات حاصلها عدم العلم بالخلاف لا العلم بعدم الخلاف، ولم يثبت الخلاف في المسألة، ولذلك لم أذكر مناقشته. انظر: الصلاة لابن القيم ص (85).
(2)
المصدر السابق (1/ 77).
(3)
طرح التثريب (2/ 150).
(4)
طرح التثريب (2/ 150).
(5)
شرح البخاري لابن بطال (2/ 220)، وانظر: الاستذكار (1/ 77)، إحكام الأحكام (1/ 295)، فتح الباري (2/ 71).
(6)
السلسة الصحيحة للألباني (1/ 141).
القياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على نظيره، لا على ضده، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل القياس
…
والعمد ضد النسيان، والمعصية ضد الطاعة)
(1)
، فلا يصح (قياس المفرط العاصي المستحق للعقوبة، على من عذره الله ولم ينسب إلى تفريط ولا معصية
…
وأي قياس في الدنيا أفسد من هذا القياس وأبطل؟)
(2)
.
- وبعض من قاس هنا تناقض حيث إنهم (لا يقيسون الحالف عامداً للكذب، على الحالف فيحنث غير عامد للكذب في وجوب الكفارة، بل يسقطون الكفارة عن العامد، ويوجبونها على غير العامد، ولا يقيسون قاتل العمد على قاتل الخطأ في وجوب الكفارة عليه، بل يسقطونها عن قاتل العمد، ولا يرون قضاء الصلاة على المرتد؛ فهذا تناقض لا خفاء به)
(3)
.
- ثم إن (المعذور إنما أمره بالقضاء لأنه جعل قضاءه كفارة له، والعامد ليس القضاء كفارة له؛ فإنه عاص تلزمه التوبة من ذنبه بالاتفاق، ولهذا قال الأكثرون: لا كفارة على قاتل العمد، ولا على من حلف يميناً متعمداً فيها الكذب؛ لأن الكفارة لا تمحو ذنب هذا)
(4)
.
- فعدم قضاء العامد (تغليظاً عليه، وليس وجوب القضاء [على النائم والناسي] من باب المعاقبة حتى يقال يجب على غيره بطريق الأولى)
(5)
.
- ثم إن (المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له، فإن الوقت في حق هذا حين
(1)
المحلى (2/ 12).
(2)
مدارج السالكين (1/ 385).
(3)
المحلى (2/ 12).
(4)
فتح الباري لابن رجب (5/ 134).
(5)
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي ص (252).
يستيقظ وذكر)
(1)
.
ويمكن الجواب عن هذا الجواب:
- بأن الاختلاف في تنقيح المناط، وما ألزمتم به الجمهور من علة= غير لازمة ولا مصرح بها؛ فإنهم لم يقولوا بأن قضاء الناسي والنائم عقوبة فيكون العامد أولى بها، بل قالوا: إذا وجب القضاء على المعذور فغير المعذور أولى؛ لحاجته إلى ما يخفف ذنبه، بجامع فوات الوقت عن الجميع، قال ابن عبدالبر:(إذا كان النائم والناسي للصلاة -وهما معذوران- يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها المأثوم في فعله ذلك أولى بألا يسقط عنه فرض الصلاة وأن يحكم عليه بالإتيان بها؛ لأن التوبة من عصيانه في تعمد تركها هي أداؤها وإقامة تركها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها)
(2)
، وتأمل في العبارات المنقولة سابقاً في القياس عن ابن بطال والعراقي.
- والتناقض لا يسلم به ففرق بين أركان الإسلام، وبين الكفارات، فالكفارة دون الواجب في أصل الشرع على كل مكلف فلا تقاس عليه والفارق أقوى من الجامع؛ خاصة وأن النص الوارد في أن حق الله أولى بالقضاء ورد في أركان الإسلام كالصيام والحج، ولما ذكر الله الكفارة في القتل مثلاً ذكرها في الخطأ ولم يذكرها في العمد، أما الردة فهي مبنية على مسألة قضاء المرتد إذا أسلم
(1)
الصلاة لابن القيم ص (89)، واستدل بحديث:«من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها» وفي إسناده حفص بن عمر وهو ضعيف، قال ابن عبدالهادي في المحرر ص (157):(رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد لا يثبت). وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 310).
(2)
الاستذكار (1/ 77).
هل هو واجب؟ أم غير واجب؛ إلحاقاً له بالكافر الأصلي المتفق على عدم قضائه.
- أما القول بأن المعذور قد صلى في الوقت أبداً؛ فهو مبني على حديث ضعيف
(1)
.
5/ ومن أدلتهم على القضاء:
…
حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال لي رسول الله: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ - أو - يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصلِّ، فإنها لك نافلة»
(2)
.
(1)
وقد نبه ابن تيمية على التفريق بين الأداء والقضاء كما في مجموع الفتاوى (22/ 37) بقوله: (الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي؛ لا أصل له في كلام الله ورسوله؛ فإن الله تعالى سمى فعل العبادة في وقتها قضاء، كما قال في الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} مع أن هذين يفعلان في الوقت، و"القضاء" في لغة العرب: هو إكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: أكملهن وأتمهن، فمن فعل العبادة كاملة فقد قضاها، وإن فعلها في وقتها، وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء، ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته).
(2)
أخرجه مسلم (648)، وهذه الرواية هي التي صدّرها مسلم من طريق حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر به، وفي هذه الرواية شك في لفظين، جزم بأحدهما في الرواية التي تليها من طريق جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها
…
» الحديث، وقد جاء نحو الحديث في صحيح مسلم (534) من حديث ابن مسعود مرفوعاً: «إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، ويخنقونها إلى شرق الموتى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة
…
»، وقوله:«إلى شرق الموتى» جاء تفسيره موقوفاً على ابن مسعود عند عبدالرزاق (3787): ( .. وإنه سيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه، قليل علماؤه، يطيلون الخطبة، ويؤخرون الصلاة، حتى يقال: هذا شرق الموتى، قيل له: وما شرق الموتى؟ قال: إذا اصفرت الشمس جداً)، قال العيني في نخب الأفكار (4/ 204):(أراد به اصفرار الشمس عند غروبها؛ لأن الشمس في هذا الوقت إنما تلبث قليلًا ثم تغيب، فشبه ما بقي من وقت تلك الصلاة التي يؤخروخها ببقاء من شرق بريقه إلى أن يخرج نفسه، من قولهم: شرق الميت بريقه إذا غُصَّ به).
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بالصلاة معهم بعد خروج الوقت فلو كانت غير صحيحة لما أمر بالاقتداء بهم)
(1)
، (وقد كان الصحابة يأمرون بذلك ويفعلونه عند ظهور تأخير بني أمية للصلاة عن أوقاتها، وكذلك أعيان التابعين ومن بعدهم من أئمة العلماء)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن (المراد بتأخيرها عن وقتها أي: عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها، فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها، فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع)
(3)
.
- و على فرض تأخيرها عن وقتها فإنهم (لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار، بل كانوا يؤخرون صلاة الظهر إلى وقت العصر، وربما كانوا يؤخرون العصر إلى وقت الاصفرار
…
فهذا التأخير لا يمنع صحة الصلاة)
(4)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن هذا تحكّم وقد جاء في الحديث بأنهم يميتونها عن وقتها كما
(1)
طرح التثريب (2/ 150)، وانظر: شرح العمدة لابن تيمية-كتاب الصلاة ص (233).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 183).
(3)
شرح النووي على مسلم (5/ 147).
(4)
الصلاة لابن القيم ص (92)، وانظر: مجموع الفتاوى (23/ 190).
في حديث أبي ذر، (أي: يصلونها بعد خروج وقتها فكانت كالميت الذى تخرج روحه)
(1)
، وجاء بأنهم يخنقونها إلى شرق الموتى كما في حديث ابن مسعود، أي: يؤخرونها إلى آخر وقتها، وكلا الأمرين تفريط وإثم، قال ابن رجب:(وحديث أبي ذر وما في معناه محمول على من أخرها عن الوقت حتى خرج الوقت، أو إلى وقت يكره تأخير الصلاة إليه)
(2)
.
- فحمل الحديث على أحد المعنيين تحكم، وحمله على التأخير إلى الوقت المشترك تحكم كذلك، فلم يستثن في الحديث تأخيرهم صلاة الفجر -وليس لها وقت مشترك-.
- وقد سُئل الإمام أحمد عن الأمراء (إذا أخروا الصلاة فصلى رجل في بيته، ثم أدرك الصلاة معهم؟ فقال: إذا صلوا في غير وقت صلى في بيته، ثم أتاهم. قال إسحاق: كما قال)
(3)
.
- أما القول بأن الحديث محمول على الواقع المذكور للولاة، ف (غير مُسلم؛ فإنه نُقل عن كثيرٍ من الخلفاء الفسَقة والسلاطين الظلمة تركُ الصلوات، فضلاً عن تأخير صلاة عن وقتها)
(4)
، قال
(1)
(2/ 614).
(2)
فتح الباري (4/ 186).
(3)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية الكوسج (2/ 445)، قال ابن رجب في الفتح (4/ 184):(ومرادهما: إذا صلوا بعد خروج الوقت، فإن تأخير الصلاة عن وقتها عمداً في غير حال يجوز فيها الجمع لا يجوز إلا في صور قليلة مختلف فيها، فأما إن أخروا الصلاة عن أوائل وقتها الفاضلة، فإنه يصلي معهم ويقتصر على ذلك).
(4)
شرح أبي داود للعيني (2/ 311)، وقال ابن حجر في الفتح (2/ 14):(قال المهلب: والمراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب، لا أنهم أخرجوها عن الوقت، كذا قال وتبعه جماعة، وهو مع عدم مطابقته للترجمة مخالف للواقع فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها والآثار في ذلك مشهورة)، وصحح ابن تيمية تأخيرهم للصلاة عن الوقت، لا أنهم يؤخرونها إلى آخر الوقت فقط كما في مجموع الفتاوى (22/ 61).
ابن عبدالبر: (والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جداً، وقد كان الأمراء من بني أمية أو أكثرهم يصلون الجمعة عند الغروب)
(1)
.
5/ ومن أدلتهم: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء
(2)
:
1.
قال محمد بن نصر المروزي (ت 294): (فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها لا نعلم في ذلك اختلافاً، إلا ما يروى عن الحسن)
(3)
، ولما أسند قول الحسن ثم تأوّله قال:(وهذا القول غير مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه)
(4)
.
2.
وقال ابن عبدالبر (ت 463) عن قول ابن حزم
(5)
: (فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء، وشذ عنهم)
(6)
.
3.
وقال أبو محمد ابن قدامة (ت 620): (ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها)
(7)
.
4.
وقال أبو الفرج ابن قدامة (ت 682): (ولا نعلم خلافاً بين المسلمين
(1)
الاستذكار (1/ 79).
(2)
قال ابن رجب في الفتح (5/ 133): (أما ترك الصلاة متعمداً، فذهب أكثر العلماء إلى لزوم القضاء له، ومنهم من يحكيه إجماعاً).
(3)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 996).
(4)
المرجع السابق (2/ 1000).
(5)
سبق التنبيه إلى أنه لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تدل على أنه يعنيه وسبق ذكرها أيضاً.
(6)
الاستذكار (1/ 82).
(7)
المغني (2/ 332).
أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، مع اختلافهم في المرتد)
(1)
.
5.
وقال النووي (ت 676): (أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أن من ترك صلاة عمداً لزمه قضاؤها، وخالفهم أبو محمد علي ابن حزم فقال: لا يقدر على قضائها أبداً ولا يصح فعلها أبداً، قال: بل يكثر من فعل الخير وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويستغفر الله تعالى ويتوب، وهذا الذي قاله مع أنه مخالف للإجماع، باطل من جهة الدليل)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بعدم التسليم بالإجماع فقد (قالت طائفة من السلف والخلف: من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر يجوز له التأخير، فهذا لا سبيل له إلى استدراكها، ولا يقدر على قضائها أبدا ولا يقبل منه، ولا نزاع بينهم أن التوبة النصوح تنفعه)
(3)
.
- وقد أقر محمد بن نصر المروزي بخلاف الحسن البصري فقال: (فأما المروي عن الحسن، فإن إسحاق حدثنا قال: حدثنا النضر، عن الأشعث، عن الحسن، قال: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا فإنه لا يقضيها)
(4)
.
(1)
الشرح الكبير (1/ 386)، وقد اتبعت عبارة أبي محمد بعبارة أبي الفرج مع أنه أخذها منه؛ لأن فيها زيادة توضيح.
(2)
المجموع (3/ 71).
(3)
الصلاة ص (69 - 70).
(4)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 1000)، والإسناد إلى الحسن صحيح، إسحاق هو ابن راهويه، والنضر هو ابن شميل ثقة ثبت، وأشعث هو ابن عبدالملك ثقة فقيه، قال ابن القيم في الصلاة ص (87):(فقد نقل محمد الخلاف صريحاً وظن أن الأمة أجمعت على خلافه، وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يرى أن الإجماع ينعقد بعد الخلاف. والثاني: أنه لايرى خلاف الواحد قادحاً في الإجماع، وفي المسألتين نزاع معروف).
- قال ابن رجب: (وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة الحسن، مع عظمته وجلالته، وفضله وسعة علمه، وزهده وورعه؟ ولا يعرف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحاً عن التابعين - أيضاً - فيه شيئاً، إلا عن النخعي، وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في تارك الصلاة عمداً، أنه لا تقبل منه صلاة)
(1)
.
- بل قال ابن حزم: (وصح عن ابن عمر: (لا صلاة لمن [لم] يصلّ الصلاة لوقتها)، وعن أبي بكر الصديق:(إن لله عملاً بالنهار لايقبله بالليل، وعملاً بالليل لايقبله بالنهار)، ولم نجده
(2)
إلا الصلاة والصوم، ولا مخالف لهما في ذلك من الصحابة؛ فخالفوهم وقالوا: جائز للمتعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها أن يقضيها وتجزئه)
(3)
.
(1)
فتح الباري لابن رجب (5/ 139).
(2)
أي عمل النهار والليل: الصلاة والصيام.
(3)
"الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذهب أهل الرأي والقياس"(2/ 786)، والمروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو في وصيته لعمر رضي الله عنه، وقد رويت في أسانيد مرسلة: من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن سابط عن أبي بكر كما أخرجه أبونعيم في الحلية (1/ 36) وغيره، قال الدارقطني في العلل (1/ 282):(ابن سابط لم يدرك أبا بكر)، ورويت من طريق زبيد بين الحارث اليامي عن أبي بكر كما أخرجه ابن أبي شيبة (34433) وغيره، قال العلائي عن زبيد كما في جامع التحصيل (1/ 176):(ذكره بن المديني فيمن لم يلق أحداً من الصحابة)، ورويت من طريق مجاهد عن أبي بكر كما أخرجه ابن جرير في تفسيره (21/ 142) وهي رواية فيها ضعف وإرسال أيضاً، وقد جمع هذه الروايات في كنز العمال (12/ 533) بقوله: (عن عبد الرحمن بن سابط وزبيد بن الحارث ومجاهد قالوا: لما حضر أبا بكر الموت دعا عمر
…
) الخ، وروي عن غيرهم ولا تخلو من مقال، قال الشاطبي في الاعتصام (3/ 205):(وهذا الحديث وإن لم يكن في الصحة هنالك، ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم)، وأما أثر ابن عمر فقد صححه ابن حزم كما في كتابه الإعراب (2/ 786)، وذكر إسناده في المحلى (2/ 13) فقال:(روينا من طريق شعبة عن يعلى بن عطاء عن عبد الله بن حراش قال: رأى ابن عمر رجلا يقرأ صحيفة، فقال له: يا هذا القارئ؛ إنه لا صلاة؛ لمن لم يصل الصلاة لوقتها، فصل ثم اقرأ ما بدا لك)، وعبد الله بن حراش لم أهتد إليه، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المحلى (2/ 238):(لم أعرف من هو) إلا أن يكون تصحّف من عبد الله بن خراش وهو الظاهر، ويؤيد ذلك أن هذا هو المثبت في كتاب الصلاة لابن القيم ص (76)، وعبدالله بن خراش الكعبي أو الكلبي ذكره ابن سعد في الطبقات (5/ 341) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 46)، ومغلطاي في إكمال التهذيب (7/ 325) ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وليس هو عبدالله بن خراش الحوشبي، قال أحمد شاكر في تحقيق المحلى (2/ 238):(وهو كذاب منكر الحديث، وليس من المعقول أن يكون هو) انتهى؛ لأن طبقته متأخرة، لكنه لم يذكر الكعبي، وهذا الأثر مع تصحيح ابن حزم له لم يتعقبه ابن عبد البر بتضعيف، وإنما تأوله فقال كما في الاستذكار (1/ 82):(وذَكَرَ عن ابن عمر أنه قال: (لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها) وكذلك نقول لا صلاة له كاملة).
- وقال ابن حزم أيضاً: (ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم مخالفاً منهم، وهم يشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق أهواءهم)
(1)
، وكأنه بذلك يعارض ويقابل الإجماع الذي نقله ابن عبدالبر وغيره، ولذلك قال العراقي:(وبالغ ابن حزم في كتاب له سماه الإعراب فادعى فيه الإجماع على أنها لا تقضى، وناقضه ابن عبد البر في الاستذكار فادعى الإجماع على القضاء)
(2)
.
- والحق أن ابن حزم لا يعتبر مثل هذا إجماعاً، و الإجماع عنده هو (ما اتفق جميع العلماء على وجوبه أو على تحريمه أو على أنه مباح
…
[أو] اتفق جميع العلماء على أن من فعله أو اجتنبه فقد أدى ما عليه من فعل أو اجتناب أو لم يأثم)، وقال:(وصفة الإجماع هو: ما تيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام)، وقال:(وإنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة الذي يعلم كما يعلم أن الصبح في الأمن والخوف ركعتان وأن شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان)
(3)
، ثم صرّح بأن من الأقوال الفاسدة من
(1)
المحلى (2/ 15).
(2)
طرح التثريب (2/ 149 - 150).
(3)
مراتب الإجماع ص (8)، ص (12)، ص (16)، قال ابن تيمية:(ومعلوم أن كثيراً من الإجماعات التي حكاها ليست قريبةً من هذا الوصف، فضلاً عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلاف معروف! وفيها ما هو نفسه ينكر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف!). نقد مراتب الإجماع ص (287 - 288).
جعل في الإجماع: مالا يعرف فيه خلاف دون قطع بأنه لا خلاف فيه، أو قول الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلم له من الصحابة مخالفاً، وقد رد عليه ابن تيمية في اشتراطه العلم والقطع بعدم الخلاف بكلام نفيس بعد نقضه لأحد إجماعاته فقال:(مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبرزه في ذلك على غيره، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع، وسبب ذلك: دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أنَّ الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره، فهاتان قضيتان لا بد لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادَّعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدم المنازع، فقد قفا ما ليس له به علم، وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد، وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع، فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل)
(1)
.
ويمكن الجواب عن المناقشة الأخيرة:
- بأن القول بأن الصحابة لا يعلم بينهم اختلاف في عدم قضاء المتعمد غير مسلم به، (ذلك أن عمر وابن مسعود وغيرهما من السلف جعلوا ترك الصلاة كفراً، وتأخيرها عن وقتها إثماً ومعصية، وفسروا بذلك قوله تعالى:{عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، وقوله تعالى:{أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} فلو كان فعلها
(1)
نقد مراتب الإجماع ص (302).
بعد الوقت لا يصح بحال كالوقوف بعرفة بعد وقته، لكان وجود تلك الصلاة كعدمها وكان المؤخر كافراً كالتارك)
(1)
.
- والمرجع عند اختلاف الصحابة هو الدليل أو القرينة المرجّحة لأحد أقاويلهم، فلا يكون قول بعضهم على بعض حجة عليهم ولا على غيرهم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بعدم مشروعية قضاء الصلاة لمتعمد ترك أدائها في وقتها:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
(2)
، وقوله:
(3)
.
وجه الاستدلال:
أنه (قد توعد الله سبحانه من فوت الصلاة عن وقتها بوعيد التارك لها)
(4)
، (فلو كان العامد لترك الصلاة مدركا لهاً بعد خروج وقتها لما كان له الويل، ولا لقي الغي)
(5)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن تأثيم المؤخر للصلاة لا خلاف فيه، وعليه تدل الآيات، وليس فيها أنه لا يقضي، ولذلك فرّق الصحابة الذين فسّروا الآية بين
(1)
شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصلاة ص (233).
(2)
الآية (4، 5) من سورة الماعون.
(3)
الآية (59) من سورة مريم.
(4)
الصلاة لابن القيم ص (72)، وقال:(وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها، والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها وترك وقتها وترك واجباتها وأركانها).
(5)
المحلى (2/ 10).
المؤخر لها
(1)
فلم يكفروه، وبين التارك لها فكفروه
(2)
، فأثموا الأول وكفروا الثاني.
- وبذلك يُقلب الاستدلال (فلو كان فعلها بعد الوقت لا يصح بحال كالوقوف بعرفة بعد وقته، لكان وجود تلك الصلاة كعدمها وكان المؤخر كافراً كالتارك)
(3)
.
- (ومع القضاء عليه لا تبرأ ذمته من جميع الواجب، ولا يقبلها الله منه بحيث يرتفع عنه العقاب، ويستوجب الثواب؛ بل يخفف عنه العذاب بما فعله من القضاء، ويبقى عليه إثم التفويت، وهو من الذنوب التي تحتاج إلى مسقط آخر، بمنزلة من عليه حقان: فعل أحدهما، وترك الآخر)
(4)
.
- وقد صحّ عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قلت لأبي: أرأيت قول الله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أهي تركها؟ قال: (لا، ولكن تأخيرها عن وقتها)
(5)
.
- وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} و {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}
(6)
و {عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
(7)
؟
(1)
قال ابن رجب في الفتح (5/ 140): (وفسره الصحابة بإضاعة مواقيتها
…
ففرقوا بين تركها وبين صلاتها بعد وقتها).
(2)
انظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -من أول الطهارة إلى نهاية سجود السهو- (2/ 261).
(3)
شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصلاة ص (233).
(4)
مجموع الفتاوى (22/ 39)، والمسقط الآخر كالتوبة، والحقان في مسألتنا كما في مدارج السالكين (1/ 380):(الصلاة وإيقاعها في وقتها، فإذا ترك أحد الأمرين بقي الآخر).
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/ 659) من طريق ابن المثنى ثنا سكن بن نافع الباهلي ثنا شعبة عن خلف بن حوشب عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد به، ورجاله ثقات، وله طريق أخرى عنده إسنادها حسن.
(6)
من الآية (23) من سورة المعارج.
(7)
من الآية (92) من سورة الأنعام.
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (على مواقيتها)، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك؟ قال: (ذاك الكفر)
(1)
.
- وقال القاسم بن مخيمرة
(2)
، في قوله تعالى:{أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}
(3)
قال: (أضاعوا المواقيت ولم يتركوها، ولو تركوها صاروا بتركها كفاراً)
(4)
.
- وفي ختام الآية قال {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ} (ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها، كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه)
(5)
.
2/ واستدلوا: بأدلة مواقيت الصلاة كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ
(1)
أخرجه الطبري (15/ 569) من طريق ابن وكيع ثنا أبي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد، عن ابن مسعود به، والأثر ضعيف، فسفيان بن وكيع كان يتلقن وقد (كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل فسقط حديثه) كما في التقريب ص (245)، وحديث القاسم والحسن عن ابن مسعود مرسلة، وأما المسعودي فهو وإن كان قد اختلط، إلا أن حديث وكيع بن الجراح عنه كان قبل الاختلاط كما قال الإمام أحمد. انظر: العلل ومعرفة الرجال لأحمد برواية ابنه عبدالله (1/ 325).
(2)
القاسم بن مخيمرة الهَمْدَاني، الكوفي نزيل دمشق، حدّث عن عبدالله بن عمرو وأبي بردة بن أبي موسى، وشريح بن هانئ، وعلقمة بن قيس وغيرهما، وأنكر بعضهم سماعه من الصحابة، أخرج له مسلم، والبخاري تعليقاً، وهو ليس بالمكثر، ومن زهده قوله:(ما اجتمع على مائدتي لونان)، مات سنة (100) هـ، وقد تمنى الموت فلما حضره كرهه، وعلّق على ذلك الذهبي بقوله:(هكذا يتم لغالب من يتمنى الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يتمنى أحدنا الموت لضر نزل به). انظر: تهذيب الكمال (23/ 443)، سير أعلام النبلاء (5/ 201 - 203).
(3)
من الآية (59) من سورة مريم.
(4)
السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 359)، تفسير الطبري (15/ 567)، السنة للخلال (4/ 144)، الشريعة للآجري (2/ 647).
(5)
الاستذكار (1/ 82).
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
(1)
، وقوله رضي الله عنه:«الوقت بين هذين»
(2)
، وغيرهما.
والاستدلال بها من أوجه:
- أن الشارع جعل لكل وقت صلاة أولاً وآخراً، و لا خلاف بين أحد من الأمة أن ماقبل الوقت وبعده ليس محلاً للأداء، وإلا كان التحديد لغواً لا معنى له
(3)
، (فكما لا تقبل قبل دخول أوقاتها لا تقبل بعد خروج أوقاتها)
(4)
.
- (وقد دل النص والإجماع على أن من أخّر الصلاة عن وقتها عمدا أنها قد فاتته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله» ، وما فات فلا سبيل إلى إدراكه البتة ولو أمكن أن يدرك لما سمي فائتاً وهذا مما لا شك فيه لغة وعرفاً
…
ولو قبلت منه وصحت بعد الوقت لكان تسميتها فائتة لغواً وباطلاً وكيف يفوت ما يدرك)
(5)
.
- و (العبادات التي جعل لها ظرف من الزمان لا تصح إلا فيه، كالعبادات التي جعل لها ظرف من المكان، فلو أراد نقلها إلى أمكنة أخرى غيرها لم تصح إلا في أمكنتها)
(6)
.
(1)
من الآية (103) من سورة النساء.
(2)
أخرجه مسلم (614) من حديث أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه، في حديث الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة فصلى في اليوم الأول في أول الوقت وفي اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال له ما ذُكر، وجاء في صحيح مسلم أيضاً (613) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، وفيه أنه قال له:«صل معنا هذين - يعني اليومين -» وفي آخره قال: «وقت صلاتكم بين ما رأيتم» .
(3)
انظر: المحلى (2/ 11)،
(4)
مدارج السالكين (1/ 383).
(5)
الصلاة لابن القيم ص (74)، وانظر: المحلى (2/ 12)، منهاج السنة (5/ 218).
(6)
مدارج السالكين (1/ 382).
- وأيضاً فإن كل عبادة علقت بوقت، إن فات وقتها (لم تبق تلك العبادة بعينها، ولكن شيء آخر غيرها، فإذا فعلت العصر بعد غروب الشمس لم تكن عصراً)
(1)
.
- ولأن (العبادة إذا أمر بها على صفة معينة أو في وقت بعينه لم يكن المأمور ممتثلاً للأمر إلا إذا أوقعها على الوجه المأمور به من وصفها ووقتها وشرطها، فلا يتناولها الأمر بدونه .. وإخراجها عن وقتها كإخراجها عن استقبال القبلة مثلاً، وكالسجود على الخد بدل الجبهة
…
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
…
وهذا عمل على خلاف أمره فيكون رداً)
(2)
.
- ف (تأخير العبادات المؤقتة حتى يخرج وقتها بدون عذر شرعي، عمل ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردوداً، وإذا كان مردوداً كان الإلزام به عبثاً لا فائدة منه)
(3)
.
- والوقت آكد شروط الصلاة ففي صلاة الخوف تترك بعض الواجبات له، بل (حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت
…
ولوكان له سبيل إلى استدراك الصلاة بعد خروج وقتها، لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط والواجبات خيراً من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله، وهذا باطل بالنص والاجماع)
(4)
.
(1)
المرجع السابق (1/ 383)، وقال:(فإن العصر صلاة هذا الوقت المحدود، وهذه ليست عصرا فلم يفعل مصليها العصر البتة، وإنما أتى بأربع ركعات صورتها صورة صلاة العصر، لا أنها هي). وانظر: المحلى (2/ 11).
(2)
مدارج السالكين (1/ 382 - 383)، وانظر: المحلى (2/ 10).
(3)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/ 367).
(4)
الصلاة لابن القيم ص (72)، وانظر: منهاج السنة (5/ 221).
ويمكن مناقشة هذه الاستدلالات:
- أما تقرير أن ما بعد الوقت ليس محلاً للأداء فهذا صحيح، لكنه لا ينفي إمكانية القضاء؛ ولذلك أثبته النبي صلى الله عليه وسلم للنائم والناسي، وثبت بالإجماع للسكران.
- وأما القياس على ما قبل الوقت فهو قياس مع الفارق لأن الصلاة لا تثبت في الذمة قبل دخول وقتها، ومن يقول بالقضاء فالقضاء لِما ثبت في الذمة بعد دخول الوقت.
- وأما القياس على العبادات المؤقتة بمكان فهو قياس مع الفارق أيضاً، لأن بعض العبادات المؤقتة بالزمان أثبت النبي صلى الله عليه وسلم قضاءها بعد وقتها، كما قضى صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات بعد خروج وقتها، وكما شُرع قضاء رمضان في غير شهر رمضان وغيرهما.
- وأما القول أن العبادة بعد مضي زمنها لم تبق هي وإنما صورتها فالعصر بعد الغروب ليست بعصر، فالجواب عنه أن الني صلى الله عليه وسلم يوم الخندق:«صلى العصر بعدما غربت الشمس»
(1)
، وصلى مرة صلاة الفجر في وقت الضحى بعدما بزغت الشمس وضربتهم
(2)
، فدل على إمكانية القضاء ولو فات الوقت، والفرق بين المعذور والمفرط هو الإثم، (فتأخيرهما إنما يختلف في الإثم وعدمه لا في وجوب التدارك بعد الترك)
(3)
، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المفرّط من القضاء كما سبق.
(1)
أخرجه البخاري (4112)، وفي الصحيحين:«ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وهذا لفظ البخاري (4111).
(2)
انظر الحديث في البخاري (595)، ومسلم (680).
(3)
مدارج السالكين (1/ 382).
- ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»
(1)
، فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت، قال:«فما عنف واحداً من الفريقين» ، قال ابن عبدالبر:(وقد أخّر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله ذلك فلم يقل لهم: إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها)
(2)
.
- وأما منع القضاء لأن المقضية بلا عذر ليست على الصفة المشروعة فهي رد، فهو مردود، لأن الصلاة مشروعة وليست محدثة وقد تعلقت في ذمته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن من يفرط حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، وذكر الأمراء وإماتتهم للوقت ولم يمنعهم كلهم من القضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
- أما تقرير أهمية وقت الصلاة فهذا لا نزاع فيه، ولذلك فإن من أخرها عن وقتها بلا عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر
(3)
.
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770)، وتتمة الحديث في مسلم ونحوها في البخاري.
(2)
الاستذكار (1/ 79).
(3)
وقد روي في حديث مرفوع أن: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر» أخرجه الترمذي (188) وأعله، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1020) مصححاً له وتعقبه الذهبي، قال ابن القيم في الصلاة ص 94 - 95: (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. ولم يخالفه صحابي واحد في ذلك. بل الآثار الثابتة الصحابة كلها توافق ذلك
…
ويا لله العجب أي كبيرة أكبر من كبيرة تحبط العمل وتجعل الرجل بمنزلة من قد وتر أهله وماله
…
ونحن نقول بل ذلك أكبر من كل كبيرة بعد الشرك بالله، ولأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك به خير له من أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، وصلاة الليل إلى النهار عدواناً عمداً بلا عذر).
3/ ومن أدلة بعضهم
(1)
: القياس على الكافر الأصلي، فكما أنه لا يقضي ما تركه في كفره، فكذلك المرتد بترك صلاة
(2)
، (كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء، فقبول توبة تارك الصلاة وعدم توقفها على القضاء أولى)
(3)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- لا يُسلّم بهذا الاستدلال، لأن مسألتنا فيمن أخّر الصلاة وهذا الاستدلال فيمن تركها، وقد فرّق الصحابة بينهما فكفروا الثاني ولم يكفروا الأول، وقد سبق بيان ذلك.
- وعلى فرض التسليم فإن القياس مع الفارق، فالكافر الأصلي غير المرتد، فقد (منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين، وحرّم الله تعالى دماء أهل الكتاب ومنع أموالهم بإعطاء الجزية، ولم يكن المرتد في هذه المعاني، بل أحبط الله تعالى عمله بالردة، وأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليه القتل إن لم يتب بما تقدم له من حكم الإيمان، وكان مال الكافر غير المعاهد مغنوماً بحال، ومال المرتد موقوفاً ليغنم إن مات على الردة أو يكون على ملكه إن تاب، ومال
(1)
قلت بعضهم؛ لأن بعض من لا يرى مشروعية القضاء لا يكفر من يترك الصلاة دون جحود لوجوبها أو لا يكفر من لا يترك الصلاة بالكلية أو لا يقول بالقياس.
(2)
انظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 137 - 138)، وقال قاصداً محمد بن نصر المروزي:(وقد اعترف بأن القياس يقتضي أنه لا يجب القضاء على من تركها متعمداً، فإنه إن كان كافراً بالترك متعمداً، فالقياس أن لا قضاء على الكافر، وإن كان مرتداً. وإن لم يكن كافراً بالترك، فالقياس أنه لا قضاء بعد الوقت؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس فيه أمر جديد)، وينظر: مجموع فتاوى ابن باز (10/ 312).
(3)
مدارج السالكين (1/ 390).
المعاهد له عاش أو مات، فلم يجز إلا أن يقضي الصلاة والصوم والزكاة، [وكل] ما كان يلزم مسلماً لأنه كان عليه أن يفعل فلم تكن معصيته بالردة تخفف عنه فرضاً كان عليه)
(1)
.
- ثم إن هذا الاستدلال مبني على كفر تارك الصلاة وفيه خلاف، وإن كان إسحاق بن راهويه يقول:(قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر، وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر)
(2)
.
- حتى من يرى ردته بالتأخير فإنه لا يمنع من القضاء كما قال محمد بن نصر: (فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك اختلافاً إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه وجعل توبته وقضاءه إياها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية وأوجب عليه قضاءها)
(3)
.
- ولذلك فإن بعض الأئمة لم يُجرِ هذا القياس، مع قولهم بكفر تارك الصلاة كابن المبارك وإسحاق بن راهويه، كما قال محمد بن نصر: (كان إسحاق يكفره بترك الصلاة على ما حكينا عنه ويرى عليه القضاء إذا تاب. وقال - يعني: إسحاق-: أخبرني عبد العزيز يعني ابن أبى رزمة عن ابن المبارك أنه شهده وسأله رجل عن رجل ترك صلاة أيام وقال: فما صنع، قال: ندم على ما كان منه، فقال ابن المبارك: ليقضي ما ترك من الصلاة، ثم أقبل علي فقال: يا
(1)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 975).
(2)
المصدر السابق (2/ 929)، وقد قال: (سمعت إسحاق يقول:
…
) فذكره.
(3)
المرجع السابق (2/ 975).
أبا محمد هذا لا يستقيم على الحديث. قال إسحاق: يقول القياس على الأصل أن لا يقضي وربما بنى على الأصل، ثم يوجد في ذلك الشيء نفسه خلاف البناء فمن هاهنا خاف ابن المبارك أن يقيس أمر تارك الصلاة في الإعادة على ما جاء أنه كفر فيجعله كالمشرك، ورأى أحكام المرتدين على غير أحكام الكفار، رأى قوم أن يورثوا المسلمين من ميراث المرتد فأخذ بالاحتياط فرأى القضاء على تارك الصلاة عمدا وكان يكفره إذا تركها عمداً حتى يذهب وقتها وإن كان مقرا بها)
(1)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فلاشك أن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فضلاً عن نسبته إلى البدعة أو الكفر وغيرهما من المجازفات؛ فإن القائل: بعدم مشروعية قضاء الصلاة لمن تعمّد ترك أدائها في وقتها بلا عذر، لم يخالف نصاً صحيحاً صريحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، وقد استند قائله إلى أدلة له فيها سلف، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وقد قال الشوكاني في مقارنته لأدلة هذه المسألة:(المقام من المضايق)
(2)
، وإن كان القول بالقضاء أقوى -فيما يظهر- وأحوط؛ كما قال إسحاق بن راهويه: (وأكثر أهل العلم على إعادة الصلاة إذا تاب من
(1)
المرجع السابق، وفيه أن ابن المبارك قال:(إذا قال: لا أصلي العصر يومي هذا فهو أكفر من الحمار)، وقد علّق ابن رجب في الفتح على قولي ابن المبارك وإسحاق، ومن ذلك قوله (5/ 137):(وفي وجوب القضاء على المرتد لما فاته في مدة الردة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد، ومذهب الشافعي وغيره: الوجوب. وهذا الكلام من ابن المبارك وإسحاق يدل على أن من كفر تارك الصلاة عمداً كفره بذلك بمجرد خروج وقت الصلاة عليه، ولم يعتبر أن يستتاب، ولا أن يدعى إليها، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة - أيضاً -).
(2)
نيل الأوطار (2/ 32)، قال:(إذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضايق).
تركها والاحتياط في ذلك)
(1)
.
وأما قوة هذا القول؛ فلاعتماده على ظواهر أحاديث صحيحة هي أخص في المسألة، ولم يأت مخالفها بما يقوى على صرف ظاهرها، وجملة ما استدل به المخالف: الوعيد على مؤخر الصلاة، وأدلة مواقيت الصلاة، وهذان لا يُختلف فيهما لكنهما غير صريحين في نفي القضاء، مع كون تلك الظواهر أخص في إمكانية القضاء.
أما تأييد القول بعدم القضاء بأن في ذلك عقوبة وزجراً وردعاً للمتعمد غير المعذور، فإن هذا محل نظر، فتقدير العقوبات توقيفي، والمتعمد غير المعذور معرّض للعقوبة في الآخرة عند الجميع مالم يتب، فهذا شيء ومانحن فيه شيء آخر، والله أعلم.
(1)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 975).
يقول أبو محمد اليزيدي: (أتيت الخليل بن أحمد في حاجة فقال لي: ههنا يا أبا محمد، فقلت: أضيق عليك، قال: فقال لي: إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين، وإن شبراً في شبر لا يضيق عن متحابين).
أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1/ 178)
المبحث التاسع: بدعية الذكر بالسُّبْحَة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشرَّ كله)، قال ابن عبدالبر:(هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً).
جامع بيان العلم وفضله (2/ 927)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
السُّبحة في اللغة: (خَرَزات يُسَبَّح بعددها)
(1)
، قاله الخليل (ت 170)، ولم يشر إلى عدم عربيّتها
(2)
، وبنحوه قال الفارابي والجوهري وابن سيده
(3)
وغيرهم، قال الفيومي:(وهو يقتضي كونها عربية)
(4)
، وقال الأزهري (ت 370):(ويقال لهذه الخَرَزات الّتي يَعُدُّ بها المُسَبِّحُ تَسْبِيحَه: السُّبْحَة، وهي كلمة مولّدة)
(5)
، هكذا قال، والخيط الذي يجمع الخرز يسمّى: النِّظَام
(6)
.
و اشتقاق السُّبحة من التسبيح وهو الذكر ب (سبحان الله)، وفي اللفظ تغليب له، (وقد يطلق التسبيح على غيره من أنواع الذكر مجازاً، كالتحميد والتمجيد وغيرهما. وقد يطلق على صلاة التطوع والنافلة. ويقال أيضاً للذكر ولصلاة النافلة: سُبحة. يقال: قضيت سبحتي
…
وإنما خصت
(1)
العين (3/ 152).
(2)
جاء في مجلة لغة العرب العراقية (2/ 345): (الظاهر من سكوته عن التنبيه أنها كانت معروفة قبله، وإلا فمن العادة الجارية عند اللغويين أن يشيروا إلى حديث الدخول من ألفاظ اللغة ولهذا نقول أنها كانت معروفة في القرن الأول من الإسلام).
(3)
انظر: معجم ديوان الأدب (1/ 164)، الصحاح (1/ 372)، المحكم والمحيط الأعظم (3/ 212).
(4)
المصباح المنير (1/ 262).
(5)
تهذيب اللغة (4/ 198)، وقال الزبيدي في تاج العروس (6/ 449):(وقال شيخنا: إنها ليست من اللغة في شيء، ولا تعرفها العرب، وإنما أحدثت في الصدر الأول إعانة على الذكر وتذكيراً وتنشيطاً)، وذكر د. بكر أبوزيد في كتابه السبحة ص (49)، بأنها ذُكرت في شعر أبي نواس المتوفى بعد سنة (190) وقال:(وهو أقدم ذكر للسبحة، فيما نعرف، بالشعر العربي).
(6)
انظر: العين (8/ 166)، تهذيب اللغة (14/ 280)، مقاييس اللغة (5/ 443).
النافلة بالسبحة وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح؛ لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة سبحة، لأنها نافلة كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة. وقد تكرر ذكر السبحة في الحديث كثيراً)
(1)
.
ولا يخرج الاستعمال الفقهي للسبحة عن الاستعمال اللغوي
(2)
، إلا أن (المشهور شرعاً إطلاق السُّبحة بالضم على النافلة)
(3)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
اتفق العلماء على تحريم استعمال المسبحة إذا كانت من الذهب أو الفضة
(4)
.
2.
ولا خلاف أن التسبيح بالأصابع ونحوها أفضل من التسبيح بالسبحة
(5)
، وخاصة إن أمن من الغلط في العدّ
(6)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 331)، وقوله:(تكرر ذكر السبحة في الحديث كثيراً) أي بمعنى: صلاة النافلة؛ لأن (السبحة المعروفة لم تكن في زمنه عليه الصلاة والسلام) مرقاة المفاتيح (3/ 1030).
(2)
انظر: القاموس الفقهي ص (164)، التعريفات الفقهية ص (111).
(3)
حاشية ابن عابدين (1/ 651)، قال في المُغرب ص (215):(والسُّبحة: النافلة لأنها مُسبَّحٌ فيها).
(4)
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 158): (التحريم لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يدهن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم)، وقد سبق بحث استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب في المبحث الخامس من الفصل الأول، ونقل الإجماعات فيه.
(5)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/ 187): (والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخّص فيه، لكن لم يقل أحد: أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها)، وقال بكر أبوزيد في رسالته "السبحة" ص (100):(فقهاء المذاهب المتبوعة لا يتنازعون في أن العدّ بالأنامل أفضل من العد بغيرها من الحصى ونحوه).
(6)
قال السيوطي كما في رسالته: "المنحة في السبحة" الموجودة في الحاوي للفتاوي (2/ 5): (يقال: إن المسبح إن أمن من الغلط كان عقده بالأنامل أفضل وإلا فالسبحة أولى)، وانظر: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (316)، الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي (1/ 152)، فتاوى الخليلي الشافعي (2/ 296).
3.
والعلماء كافة على جواز استعمال السُّبحة في عدّ [الذِّكر]، وإن كرهها بعضهم
(1)
، وذهب بعض المعاصرين إلى بدعية استعمال السُّبحة في الذكر، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال السيوطي في "المنحة في السبحة"من الحاوي للفتاوي (2/ 7): (ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة)، وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (22/ 506):(وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
محمد رشيد رضا (ت 1354)
(1)
، الألباني (ت 1420)
(2)
، و بكر أبوزيد (ت 1429)
(3)
.
ولم أقف على من سبقهم إلى هذا القول، إلا أن هناك ما يشير إلى أن القول بالبدعية موجود عند بعض المتأخرين، كقول علي القاري (ت 1041):(ولا يعتد بقول من عدها بدعة)
(4)
مما يدل على قائل ببدعيتها في زمنه أو قبله، إلا إن حُمل كلامه على البدعة الحسنة لأنه قال في كتاب له آخر:(قيل: السبحة بدعة، لكنها مستحبة)
(5)
.
(1)
قال في مجلة المنار (15/ 328): (السبحة من البدع الداخلة في العبادة، فكان الظاهر أن يتشدد في تحريمها أكثر مما يتشدد بعضهم في حظر أزياء الكفار).
(2)
قال في السلسلة الضعيفة (1/ 185): (السبحة بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثت بعده صلى الله عليه وسلم، وتبعه كذلك بعض طلابه، انظر: كتاب "وكل بدعة ضلالة" ص (149).
(3)
قال في رسالته "السبحة" ص (100): (لا يستريب منصف أن اتخاذ السُّبْحَةِ لتعداد الأَذكار: تشبه بالكفار، وبدعة مضافة في التعبد بالأَذكار والأوراد، وعدول عن الوسيلة المشروعة: العَدّ بالأنامل)، وقال في ص (108):(ولذا فإنه تفريعاً على أنها وسيلة محدثة، وبدعة محرمة؛ ولما فيها من التشبه بالكفرة، والاختراع في التعبد؛ فإنه لا يجوز فيما كان سبيلها كذلك تصنيعها، ولا بيعها ولا وقفيتها، ولا إهداؤها وقبولها، ولا تأجير المحل لمن يبيعها)، ونقل بدعيتها عن شيخ سماه: صالح الطرابلسي، وقد سمع منه ذلك في حدود سنة (1385 هـ) في المسجد النبوي، وممن أشار إلى بدعيتها أيضاً المباركفوري (ت 1414) في كتابه "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (7/ 471) بقوله:(ولم يثبت عد التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعاً من فعله أو قوله أو تقريره صلى الله عليه وسلم، والخير إنما هو في اتباع ما ثبت عنه لا في ابتداع من خلف).
(4)
مرقاة المفاتيح (4/ 1601).
(5)
الحرز الثمين للحصن الحصين لعلي القاري (1/ 214).
ونُقل عن ابن حجر الهيتمي المكي (ت 974) نحو ذلك، كما قال ابن علّان
(1)
: (وفي شرح المشكاة لابن حجر: ويستفاد من الأمر بالعقد المذكور في الحديث: ندب اتخاذ السبحة، وزَعْمُ أنها بدعة غير صحيح، إلا أن يحمل على تلك الكيفيات التي اخترعها بعض السفهاء، مما يمحضها للزينة أو الرياء أو اللعب)
(2)
، وهو أقدم نقل وقفت عليه يشير إلى قائل ببدعية العد بالسبحة
(3)
، ويحتاج النظر إلى تعيين القائل وسياق كلامه؛ لاحتمال أن يكون مراده في اتخاذها مع اعتقاد زائد فيها على مجرد العد، أو جعلها في الأعناق تعبداً، أو أنه أراد البدعة الحسنة، وأيّاً ما كان فإنه يبقى متأخراً لا حجة فيه على من سبقه من القرون المفضلة.
(1)
محمد علي بن محمد علان الصديقي الشافعيّ: مفسر، عالم بالحديث، من أهل مكة، تصدر للاقراء وله من السن ثمانية عشر عاما وباشر الافتاء وله من السن أربع وعشرون سنة وجمع بين الرواية والدراية، كان شبيها بالسيوطي في معرفة الحديث وكثرة مؤلفاته، توفي سنة (1057 هـ) في مكة. انظر: خلاصة الأثر (4/ 184)، الأعلام (6/ 234).
(2)
الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (1/ 145).
(3)
نقل عن ابن مسعود نحو ذلك ولا يصح كما سيأتي تحقيقه.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع المحكي على عدم المنع من الذكر بالسبحة، وسيأتي في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذ هذا القول ونحوه من العبارات، ومن ذلك:
- قال علي القاري: (و لا يعتد بقول من عدها -يعني: السبحة- بدعة)
(1)
، والشاذ مما لا يعتد به.
- وجاء في رسالة "وصول التهاني" وصف هذا الرأي ب: (المنكر المردود
…
)
(2)
.
(1)
مرقاة المفاتيح (4/ 1601)، وانظر: عون المعبود (4/ 257)، تحفة الأحوذي (9/ 380).
(2)
"وصول التهاني بإثبات سنية السبحة والرد على الألباني" ص (15).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بجواز استعمال السُّبحة في عدِّ الذِّكر:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى - أو حصى - تسبح به، فقال:«أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا - أو أفضل -» ، فقال:«سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك»
(1)
، وحديث صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها، قال: «لقد سبحت
(1)
أخرجه أبوداود (1500)، والترمذي (3568) وقال:(هذا حديث حسن غريب من حديث سعد)، والنسائي في الكبرى (9922)، وغيرهم من طريق عبدالله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها به، وخزيمة قال عنه الذهبي في الميزان (1/ 653):(لا يعرف، عن عائشة بنت سعد. تفرد عنه سعيد بن أبي هلال حديثه في التسبيح)، وأخرجه ابن حبان (837)، والحاكم (2009) مصححاً له ولم يتعقبه الذهبي، من نفس الطريق ولكن بإسقاط خزيمة، قال الوادعي في "أحاديث معلّة ظاهرها الصحة" ص (148):(فأنت إذا نظرت في سنده وجدتهم رجال الصحيح، ولكن إذا رجعت إلى "تهذيب التهذيب" لم تجد رواية لسعيد بن أبي هلال عن عائشة بنت سعد)، فالإسناد فيه انقطاع بين سعيد وعائشة والواسطة في الروايات الأخرى هو خزيمة، وتقدم بيان حاله وأنه لا يُعرف، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 81):(هذا حديث حسن)، ولعل تحسينه له لأجل ما يشهد لمعناه كما في حديث صفية الآتي.
(1)
أخرجه الترمذي (3554) وقال: (هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث صفية إلا من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي، وليس إسناده بمعروف)، وأخرجه أبو يعلى (7118)، والطبراني في الأوسط (8504) وقال:(لم يرو هذه الأحاديث عن كنانة، عن صفية إلا هاشم بن سعيد الكوفي)، وأخرجه الحاكم (2008) وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه غيرهم، وصححه السيوطي كما في الحاوي للفتاوي (2/ 3)، قال ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 82):(هذا حديث حسن)، قلت: ومدار الحديث على هاشم بن سعيد الكوفي قال: حدثني كنانة مولى صفية قال: سمعت صفية به، وهاشم ضعيف الحديث قاله أبو حاتم، وقال الإمام أحمد: لا أعرفه، وقال ابن معين: ليس بشيءٍ، وذكره ابن عدي في الضعفاء، وذكر أحاديثه ومنها حديثنا ثم قال:(له من الحديث غير ما ذكرت ومقدار ما يرويه، لا يُتَابَعُ عليه). انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/ 105)، الكامل في الضعفاء (8/ 420)، وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 585)، والذكر المجرد للرجل في كتاب الثقات لا يفيد توثيقاً على الصحيح، وقد سبق التنبيه عليه في المبحث الرابع من الفصل الأول، لكن قال ابن حجر في أماليه "نتائج الأفكار" (1/ 83):(قد توبع على هذا الحديث) ثم أخرج المتابعة من طريقه إلى روح بن الفرج ثنا عمرو بن خالد ثنا حديج بن معاوية ثنا كنانة مولى صفية عن صفية به، وذكره المزي في التحفة (11/ 340) من طريق عمرو بن خالد الحراني، عن حديج بن معاوية، عن هاشم بن سعيد به، ورمز له بالحرف (ز) أي أنه من زيادات المزي، فعاد الحديث إلى هاشم هنا فلا يعتبر من المتابعات كما اعتبره ابن حجر، خاصة وأن حديج (كثير الوهم على قلة روايته) كما قال ابن حبان في المجروحين (1/ 272)، وقد انتبه إلى ذلك ابن حجر في تعليقه على التحفة "النكت الظراف على الأطراف" (11/ 340) فقال:(ورويناه في "الخلعيات" من طريق عمرو بن خالد التي أشار إليها المزي، لكن لم أر فيه هاشم بن سعيد فلعله سقط من النسخة)، وهناك متابعة أعلى لكنانة أشار إليها ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 84):(وأخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر عن صفية متابعاً لكنانة)، قلت: هذه المتابعة أخرجها الطبراني في الأوسط (5472) وفي الدعاء (1740) قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا أبي قال: وجدت في كتاب أبي: حدثنا مستلم بن سعيد عن منصور بن زاذان عن يزيد بن معتب مولى صفية عن صفية به، وإسناده لابأس به إلا أن يزيد بن معتب لم أقف له على ترجمة، وهو مذكور في الرواة عن صفية وفي مواليها كما في تهذيب الكمال (35/ 210)، قال في الإصابة (8/ 212):(روى عنها ابن أخيها ومولاها كنانة ومولاها الآخر يزيد بن معتب).
وجه الاستدلال:
قال الشوكاني: (الحديثان
…
يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى وكذا بالسبحة لعدم الفارق [بين المنظومة والمنثورة وهذا] لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- ب (أن الحديث ضعيف، وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي، ولم يثبت عدّ التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعاً من فعله أو قوله أو تقريره صلى الله عليه وسلم
(2)
.
- وعلى فرض صحته ف (إن حديث صفية رضي الله عنها فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لها لما رآها تعد التسبيح بالنوى: «ما هذا؟» وهذا استنكار لفعلها، كأنه على غير المعهود في التشريع
…
وإن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيه لما رأى صلى الله عليه وسلم المرأة تسبح بنواة، أو حصاة، قال: «ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل
…
»، وهذا أسلوب عربي معروف تأتي فيه صيغة أفعل على غير بابها، كما في قول الله تعالى عن نعيم أهل الجنة:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} )
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمور:
- أما الحديثان فلا يُسلّم بضعفهما الضعف الذي يُسقط اعتبارهما في
(1)
نيل الأوطار (2/ 366)، وما بين المعكوفتين] [زيادة من مرعاة المفاتيح (7/ 471)، وانظر: عون المعبود (4/ 257).
(2)
مرعاة المفاتيح للمباركفوري (7/ 471).
(3)
السبحة ص (21 - 22)، والآية (24) من سورة الفرقان.
الاستدلال، وقد صحّح الأول ابن حبان والحاكم ولم يتعقبه الذهبي وحسنه ابن حجر، وصحح الآخر الحاكم ولم يتعقبه الذهبي، وصححه السيوطي وحسنه ابن حجر
(1)
.
- والحديثان فيهما ضعف لكنه ليس بشديد لا يمكن جبره، وقد شهد الثاني للأول، ولذا قال بكر أبوزيد:(أما حديث صفية، وحديث سعد بن أبي وقاص، فيشهد كل واحد منها للآخر، إذ ليس في إسناد أحدهما من قُدح فيه من جهة عدالته)
(2)
، وللثاني متابعة معتبرة أيضاً.
- أما تأويل الشيخ بكر للحديثين ففيه تحّكم، وهو تفسير معاصر لم أره لمن سبق، وقد ترجم أبوداود:(باب التسبيح بالحصى)، وترجم لهما المجد ابن تيمية في المنتقى:(باب جواز عقد التسبيح باليد وعده بالنوى ونحوه)، وقال حفيده أبو العباس ابن تيمية:(وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك)
(3)
.
- يقول الشاطبي: (يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل)
(4)
.
(1)
وتوثيق جميع ما ذكر موجود في تخريج الحديثين.
(2)
السبحة ص (22).
(3)
مجموع الفتاوى (22/ 506).
(4)
الموافقات (2/ 289)، وفي ذلك يقول ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (1/ 318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه).
- وهذا التأويل مع حداثته فيه تكلّف ظاهر وخروج عن الأصل، أما التكلّف فهو جعل هذا اللفظ:«ماهذا؟» دليلاً على الإنكار، وهو سؤال لا يُصرف إلى الاستنكار إلا إذا وجد ما يدل عليه وهو صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن ذلك، بل أرشدها إلى ما هو أيسر لها وأفضل، ولو كان غير جائز لبيّن لها ذلك)
(1)
.
- وفي الصحيحين جاءت هذه اللفظة في صيام يوم عاشوراء لما رأى من يصومه ثم صامه، وقالها لعبدالرحمن بن عوف لما رأى عليه أثر صفرة فقال:«ما هذا؟» قال: إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال:«بارك الله لك، أولم ولو بشاة»
(2)
.
- وأما الخروج عن الأصل فهو جعله أفعل التفضيل في قوله: «ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل
…
» في غير بابها بلا دليل، والأصل إجراء الكلام على سَنَن العرب في أساليبهم، ولا تُصرف عن بابها إلا بدليل، ولا دليل هنا يوجب الصرف، وظاهر الكلام هنا وجود فاضل ومفضول، ويسير وأيسر، لا فاضل و محرم.
- ومما يمكن أن يكون أصلاً مرفوعاً يقاس عليه عد الذكر بالسبحة، وهو من لطيف الأقيسة ما ورد من أن رمي الجمار لإقامة ذكر الله (وللرمي أذكار مخصوصة
…
فتكون الحصيات مع هذه الأذكار كالسبحة في إحصاء الأذكار المأثورة بالعدد المعين)
(3)
.
(1)
المنهل العذب المورود (8/ 164)، وانظر: البحر الرائق (2/ 31)، حاشية ابن عابدين (1/ 651).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (5155)، ومسلم (1427).
(3)
مجلة المنار (6/ 857).
2/ ومن أدلتهم على جواز عدّ الذكر بالسبحة: ما ورد عن الصحابة من العد بالنوى قال الإمام أحمد: (قد فعل ذلك أبو هريرة، وسعد رضي الله عنهما) و وافقه إسحاق
(1)
، (والروايات في التسبيح بالنوى والحصى كثيرة عن الصحابة، وبعض أمهات المؤمنين)
(2)
، أما الصحابيات فقد سبقن في المرفوع، وهذا بعض المروي عن الصحابة:
- فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه: (كان معه كيس فيه حصى أو نوى فيقول: سبحان الله سبحان الله، حتى إذا نفد ما في الكيس ألقاه إلى جارية سوداء فجمعته ثم دفعته إليه)
(3)
، وجاء عنه رضي الله عنه أنه:(أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به)
(4)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد وابن راهويه للكوسج (9/ 4887 - 4888)، وقد سئل أحمد فقيل: يسبح الرجل بالنوى؟ فقال: (قد فعل ذلك أبو هريرة و سعد- رضي الله عنهما، وما بأس بذلك؛ النبي صلى الله عليه وسلم قد عد) قال إسحاق: (كما قال).
(2)
مرقاة المفاتيح (2/ 768)، ونقله عن ابن حجر، والظاهر أن المقصود به المكي وليس العسقلاني لأمور: أن المكي شيخه، ولأنه يميز العسقلاني بالحافظ أو بشرح البخاري، ولأن المكي له شرح على مشكاة المصابيح وينقل عنه كثيراً.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (7661) مختصراً، وأخرجه أحمد (10977)، وأبو داود (2174) في حديث مرفوع، كلهم من طريق سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن رجل، من الطفاوة قال: نزلت على أبي هريرة فذكره، قال الترمذي بعد أن ذكر بعض الحديث المرفوع (2787) بهذا الإسناد:(هذا حديث حسن إلا أن الطفاوي، لا نعرفه إلا في هذا الحديث ولا نعرف اسمه)، وجزم الإمام أحمد بتسبيح أبي هريرة بالنوى ووافقه إسحاق بن راهويه، كما سبق في المتن، ويشهد لهذا الأثر، الأثر الآتي.
(4)
أخرجه أبونعيم في الحلية (1/ 383) قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا الحسن بن الصباح، ثنا زيد بن الحباب، عن عبد الواحد بن موسى، قال: أخبرني نعيم بن المحرر بن أبي هريرة، عن جده أبي هريرة به، وهذا الإسناد لابأس به، إلا أن نعيم بن المحرر لم أقف له على ترجمة، قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 384):(وروى عبد الله بن أحمد، عن أبي هريرة، أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام. وفي رواية: ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به. وهو أصح من الذي قبله)، وهذا لايلزم منه الصحة، وممن جزم بنسبة هذا الأثر إلى أبي هريرة ابن رجب في جامع العلوم (3/ 1289)، والسيوطي في الحاوي (2/ 5).
- وجاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه: (كان يُسبّح بالحصى والنوى)
(1)
.
- وجاء عن أبي صفية رضي الله عنه أنه: (كان إذا أصبح يسبح بالحصى)
(2)
.
- ووردت في الباب آثار أخر عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد وأبي الدرداء رضي الله عنهم
(3)
.
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 106) من طريق قبيصة بن عقبة عن سفيان عن حكيم بن الديملي عن سعد، وهو منقطع بين حكيم وسعد، والأصح مارواه ابن أبي شيبة (7658)(7659) من طريق يحيى بن سعيد وابن مهدي عن سفيان عن حكيم بن الديلمي عن مولاة لسعد عن سعد به، ومولاة سعد مجهولة، وللأثر متابعة أخرجها البلاذري في أنساب الأشراف (10/ 15) من طريق بكر بن الهيثم وإبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال:(كان سعد يسبح بالحصى)، وإسنادها صحيح إلا أن الزهري لم يدرك سعداً، وجزم الإمام أحمد بتسبيح سعد بالنوى ووافقه إسحاق بن راهويه وقد سبق ذكره.
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 43)، وأحمد في العلل برواية ابنه (2/ 137)، وابن شاهين في فوائده ص (106) من طريق عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا يونس بن عبيد عن أمه قالت: رأيت أبا صفية رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به، وإسناده صحيح إلا أن أم يونس بن عبيد فيها جهالة، لكن مما يقوي قبول هذا الأثر أن أبا صفية معدود في الصحابة وعمدتهم في ذلك هذا الطريق؛ مما يدل على صحته عندهم كما في طبقات ابن سعد (7/ 43)، ومعرفة الصحابة لابن منده ص (925)، والاستيعاب (4/ 1693) وغيرها، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 395):(أبو صفية رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بالنوى، روى يونس بن عبيد عن أمه عنه)، وأيّاً ماكان فإن جهالة أم يونس يسيرة خاصة مع رواية ابنها الثقة عنها، وإسنادها الخبر إلى رؤيتها وهو مما يقل فيه الغلط، وكونها تابعية حيث يقل الكذب فيهم، مع قول الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 604):(وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها)، ولها شاهد أخرجه البيهقي في الشعب (711) وابن عساكر في تاريخه (4/ 293): من طريق أبي الأشعث عن المعتمر بن سليمان حدثنا أبو كعب عن جده بقية عن أبي صفية، مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان (يوضع له نطع ويؤتى بزنبيل فيه حصا فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتي به فيسبح به حتى يمسي)، قال الدراقطني في "المؤتلف والمختلف" (1/ 205):(حدثناه جماعة، عَن أبي الأشعث، عن مُعْتَمِر في التسبيح بالنوى).
(3)
انظر: الزهد لأحمد بن حنبل ص (116) وفيه أثر أبي الدرداء، مصنف ابن أبي شيبة (2/ 161) وفيه أثر علي وأبي سعيد، الحاوي في الفتاوي (2/ 4)، السبحة ص (30 - 34)، وفيهما جميع الآثار.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن (آثار التسبيح بالحصى المذكورة لا تخلو أسانيدها من مقال
…
ولا يؤثر عن أَحَدٍ منهم حرف واحد يصح عنه بأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم فَعَدَّ التسبيح والذكر بالحصى، أو النوى، فضلاً عن اتخاذه في خيط معقود)
(1)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن الآثار الواردة فيها قوة على انفرادها وقد سبق بيانه في تخريجها، و مجموعها يُثبت الأصل، وبما هو دونها في القوة يثبت المرفوع عند اجتماعه فكيف بالموقوف.
- وجميع الضعف الذي فيها ليس بسبب كذب الراوي أو نكارة المتن، بل هو عائد إلى جهالة التابعي (كالطفاوي، ومولاة سعد، و أم يونس بن عبيد)، فالجهالة الموجودة فيه ليست ضعيفة؛ لأنها في طبقة التابعين، وقد قال ابن كثير عن جهالة مولى لأبي بكر:(جهالة مثله لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق، فهو حديث حسن)
(2)
، وقد قعّد لذلك الذهبي مع إضافة قيود حين قال:(وأما المجهولون من الرواة، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم، احتُمِلَ حديثُه، وتُلُقِّيَ بحُسْن الظَّنِّ، إذا سَلِمَ من مخالفةِ الأُصول، وركاكة الألفاظ)
(3)
.
- وأختم الجواب بما بدأ الاستدلال، فإن إمامي أهل الحديث والأثر: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قد أثبتا ذلك عن أبي
(1)
السبحة ص (35)، (98).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 125).
(3)
ديوان الضعفاء ص (478).
هريرة وسعد، ولا منازع لهما من قبل ولا من بعد، ولا أعرف أن أحداً نفى ذلك عن الصحابة جملة قبل الشيخ بكر رحمه الله.
3/ ومن أدلتهم: الإجماع. وممن نقل الإجماع في هذه المسألة بعض المتأخرين ومنهم:
1.
السيوطي (ت 911) بقوله: (ولم يُنقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروهاً)
(1)
، وقد نقله عن السيوطي الشوكاني، و المباركفوري في تحفة الأحوذي دون تعقّب
(2)
.
2.
وقال المناوي (ت 1031): (ولم ينقل عن أحد من السلف ولا الخلف كراهتها
…
أما ما ألفه الغفلة البطلة من إمساك سبحة يغلب على حباتها الزينة وغلو الثمن، ويمسكها من غير حضور في ذلك ولا فكر، ويتحدث ويسمع الأخبار و يحكيها وهو يحرك حباتها بيده، مع اشتغال قلبه ولسانه بالأمور الدنيوية، فهو مذموم مكروه من أقبح القبائح)
(3)
.
3.
وقال الصنعاني (ت 1182): (ولم ينقل عن أحد من السلف ولا الخلف كراهتها)
(4)
.
4.
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: (أجاز الفقهاء التسبيح باليد والحصى والمسابح خارج الصلاة، كعده بقلبه أو بغمزه أنامله)
(5)
، ولم يذكروا فيه خلافاً.
(1)
الحاوي للفتاوي (2/ 7).
(2)
انظر: نيل الأوطار (2/ 366)، تحفة الأحوذي (9/ 322).
(3)
فيض القدير (4/ 355).
(4)
التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 330).
(5)
الموسوعة الفقهية الكويتية (11/ 283).
ونوقش هذا الاستدلال:
- بعدم التسليم فإنه (لمّا بَدَت في التابعين ظاهرة العد للأذكار بالحصى، أو النوى، منثوراً، أو منظوماً في خيط، ابتدرها الهداة من الصحابة والتابعين بالاستنكار، والإِنكار، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول لإِخوانه من التابعين: (لقد أحدثتم بدعة ظلما، أَوْ قَدْ فَضَلْتُم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عِلْماً)، وابن مسعود رضي الله عنه يقطع خيط آخر، وابن مسعود رضي الله عنه يضرب آخر برجله لما رآه يَعُدُّ التسبيح بالحصى، ويعلن في الناس كراهيته للعد بالحصى أو النوى، ويقول:(أَيُمَنُّ على الله حسناته؟)
…
- وهذا سيد التابعين في زمانه: إبراهيم بن يزيد النخعي المتوفى سنة 96 - رحمه الله تعالى- ينهى بناته عن فتْلِ الخيوط للتسابيح؛ لأَنها وسيلة إلى غير المشروع، وهذا نظير النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمراً)
(1)
.
وأجيب عن هذه المناقشة بأمور:
- أما أثر ابن مسعود رضي الله عنه فالثابت عنه هو ما أخرجه ابن أبي شيبة قال: (كان عبد الله يكره العدد ويقول: أيمنّ على الله حسناته؟!)
(2)
، فهو في كراهة عدّ الذكر مطلقاً.
(1)
السبحة ص (98 - 99)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 191 - 192): (إنكار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين رآهم يعدون بالحصى
…
ولوكان ذلك مما أقره صلى الله عليه وسلم لما خفي على ابن مسعود إن شاء الله، وقد تلقى هذا الإنكار منه بعض من تخرج من مدرسته ألا وهو إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه الكوفي، فكان ينهى ابنته أن تعين النساء على فتل خيوط التسبيح التي يسبح بها! رواه ابن أبي شيبة
…
بسند جيد).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7667) قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم به، وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين، و أبو معاوية الضرير (أحفظ الناس لحديث الأعمش)، وإبراهيم هو النخعي لم يلق ابن مسعود ولكن مرسلاته عنه قوية؛ وذلك أن الأعمش قال لإبراهيم:(أسند لي عن عبد الله ابن مسعود، فقال إِبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عَبد الله: فهو عَن غير واحد عَن عَبد الله) أخرجه الترمذي في العلل الصغير ص (754)، قال ابن عبدالبر في التمهيد (1/ 38):(في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل إبراهيم النخعي أقوى من مسانيده، وهو لعمري كذلك، إلا أن إبراهيم ليس بمعيار على غيره) انتهى، و هو يشير إلى أنه لا يقاس عليه غيره، قال ابن رجب في شرح العلل (1/ 542):(وهذا يقتضي ترجيح المرسل على المسند، لكن عن النخعي خاصة، فيما أرسله عن ابن مسعود خاصة)، وعلى هذا التقرير بعض المناقشة، لكنه هنا مقبول وخاصة في مثل الموقوف، على أن الواسطة ذُكرت في طريق لابأس به أخرجه إسماعيل الصفار في جزء فيه أحاديثه ص (309) قال: حدثنا عبد الملك بن محمد حدثنا بدل بن المحَبَّر حدثنا شعبة عن الأعمش عن إِبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه أنه: (كره أن يعقد التسبيح، وقال: أتمنون على الله حسناتكم؟).
- وهو كالمروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن عقبة قال: سألت ابن عمر عن الرجل يذكر الله ويعقد؟ فقال: (تحاسبون الله؟!)
(1)
، وليس فيهما حصى و لا نوى و لا سبحة، فهو في كراهة العدّ وبذلك ترجم لهما ابن أبي شيبة:(من كره عقد التسبيح).
- قال الطحاوي: (وقد كان قوم يكرهون عقد التسبيح منهم أبو حنيفة وأصحابه
(2)
…
وقد تقدمهم فيما قالوه من ذلك عبد الله بن عمر)، ثم وّفق بين الأحاديث التي فيها ذكر مقيد بعدد، وما روى عن ابن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (7668) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 291)، من طريق عبدالله بن عون عن عقبة عن ابن عمر به، وعقبة هو ابن صهبان كما في رواية الطحاوي، والإسناد صحيح، ولكن سماع ابن عون من ابن صهبان محلل تردد وهو غير بعيد؛ لكون ابن عون وابن صهبان بصريان، وابن صهبان توفي سنة (82)، وابن عون ولد سنة (66)، فيكون عمره حين وفاة ابن صهبان (16) عاماً، انظر: تهذيب الكمال (15/ 400)، تهذيب التهذيب (7/ 242)، وظاهر طريقة الطحاوي في شرح المشكل أنه ثابت عنده، ولهذا الأثر متابعة علّقها الواحدي (ت 468) في التفسير الوسيط (4/ 483)، عن قتادة (ت 117) قال: سمعت عقبة بن صهبان، يقول: أتى ابن عمر رضي الله عنهما على قوم يعقدون التسبيح، فقال:(أتعدون على الله حسناتكم؟ إن معكم حافظين كرامًا كاتبين).
(2)
قال الزيلعي في تبيين الحقائق (1/ 166): (واختلفوا في عد التسبيح خارج الصلاة فكرهه بعضهم ليكون أبعد من الرياء وأقرب من الإقرار بالتقصير)، وقال البابرتي في العناية (1/ 418):(ذكر فخر الإسلام أن عد التسبيح في غير الصلاة بدعة، وكان السلف يقولون: نذنب ولا نحصي ونسبح ونحصي).
عمر بقوله: (إن كل أمرٍ أَمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له عدد مما لا يضبط إلا بعقد التسبيح، فالعقد في ذلك داخل في أمره ومحضوض على فعله، ليعلم فاعله أنه قد استحق وعد الله عز وجل الذي وعده فاعلي ذلك عليه، وكل أمرٍ أمرَ به بلا عدد ذكره فيه، فاستعمال العقد فيه لا معنى له، بل استعماله عظيم كما استعظمه عبد الله بن عمر)
(1)
، هكذا وجّهه.
- وكأن الإمام أحمد يردّ هذا الاجتهاد حين قال: (النبي صلى الله عليه وسلم قد عدّ)
(2)
، خاصة وأن ابن مسعود وابن عمر، خالفهما أبو هريرة وسعد وغيرهما رضي الله عنهم، فرجّح أحمد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
- أما الطرق الأخرى لأثر ابن مسعود (فقد ورد من سبع طرق ولا يخلو طريق منها من علة قادحة، إلا أن مجموعها يدل على أن له أصلاً)
(3)
، ولعل أصلها الطريق السابق.
- وقد أورد الشيخ بكر ستة طرق لأثر ابن مسعود
(4)
أولها الأثر الذي سبق أنه (كان يكره العدد) وحكم عليه بقوله: (رواه ابن أبي شيبة
…
بسند صحيح)
(5)
، ثم أورد خمسة طرق أعل الأول والثاني بالانقطاع، والثالث بأن في سنده كذاب، و الرابع والخامس
(1)
شرح مشكل الآثار (10/ 290 - 291).
(2)
مسائل الإمام أحمد وابن راهويه برواية الكوسج (9/ 4888).
(3)
مقالة بعنوان: "عد الذكر بالمسبحة" لفريح البهلال، مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المفيدة له (4/ 534).
(4)
وفي الواقع هي خمسة طرق، وأورد الشيخ فريح البهلال ثمانية طرق، ولم يصحح إلا الأثر الذي سبق إيراده، انظر: المرجع السابق (1/ 526 - 535)، وقد بحث المسألة في المجلد الرابع بمقال مختصر، وفي المجلد الأول بشكل أوسع.
(5)
السبحة ص (25).
طريقهما واحد، ووهم الشيخ فظن أنهما إسنادين، وقوى الشيخ إسناده ولم يصرح بصحته
(1)
، وسأكتفي بإيراده؛ والتعليق على دلالته و مطابقتها لمراد الشيخ:
- قال عمرو بن سَلَمَةَ: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، بعد. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ولم أر - والحمد لله - إلا خيراً. قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصاً، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك.
(1)
وقد وهم الشيخ في الإسناد الذي أخرجه الدارمي عن الحكم بن المبارك، أنبأنا عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي، يحدث، عن أبيه به، فقال:(ورجاله كلهم من رجال: "التقريب" وهم ثقات، عمرو وأبوه يحيى من رجال الكتب الستة، وجده عُمارة من رجال النسائي في: "عمل اليوم والليلة" وهو ثقة. وأما الحكم بن المبارك فهو الباهلي، فقال في التقريب: "صدوق ربما وهم")، ومع انقطاع هذا السند بين عمارة وابن مسعود، فإن عمرو هنا ليس هو ابن يحيى بن عمارة، بل هو كما قال ابن حجر في إتحاف المهرة (10/ 399):(عمرو بن يحيى هو ابن عمرو بن سلمة، سمعت أبي يحدث، عن أبيه، بطوله)، فهو عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني كما في تاريخ واسط ص (198) وقد أخرج الأثر بطوله، وكما في مصنف ابن أبي شيبة (37890) وقد أخرج المرفوع منه واختصر الباقي، قال الألباني في السلسة الصحيحة (5/ 12):(وكنت أظن قديما أنه عمرو بن عمارة بن أبي حسن المازني، فتبين لي بعد أنه وهم قد رجعت عنه)، وعمرو بن يحيى ووالده ليس لهما ترجمة في التقريب؛ لأنهما ليسا من رجال الستة، وهما من أفراد الدارمي. انظر: فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي للغمري (2/ 247 - 248).
قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصاً نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا:«أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» ، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج)
(1)
.
(1)
أخرجه الدارمي (210) قال: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنبأنا عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي، يحدث، عن أبيه به، وقد أخرج الأثر بطوله أسلم بن سهل الملقب ببحشل في تاريخ واسط ص (198)، وأخرج المرفوع في مصنف ابن أبي شيبة (37890) واختصر الموقوف، وفيهما تسمية عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة -كما سبق-، وعمرو بن يحيى ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 480)، وذكره ابن عدي في الضعفاء (6/ 215)، واختلف فيه قول ابن معين فقال مرة عنه:(ثقة)، كما نقله ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/ 269)، ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً، وقيل: إنه جرحه بقوله: (ليس بشيء)، وهذه ليست بشيء عن ابن معين؛ لأنه رواها عنه أحمد بن بن أبي يحيى الأنماطي وهو (كذاب
…
روى عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل تاريخاً في الرجال) كما قال ابن عدي في الكامل (1/ 321 - 322)، وهي لو صحت فإن
ابن معين قد يريد بقوله: (ليس بشيء) قلة الرواية كما ذكره غير واحد
، وروي عن ابن معين أنه قال عن عمرو:(سمعت منه، لم يكن يرضي)، وهذه العبارة مجملة فالرضى يحتمل الرضى عن المذهب أو الحفظ أو كثرة الرواية، فهي مجملة محتملة لا تقابل بالتوثيق الصحيح الصريح عن ابن معين، وقد نقل العبارتين ابن عدي في الكامل (6/ 215) ثم قال:(وعمرو هذا ليس له كثير رواية، ولم يحضرني له شيء فأذكره) فلم يجرحه في تلخيصه لحال عمرو وقد نقل عبارتي ابن معين، ومثل قول ابن معين قول ابن خراش:(ليس بمرضي) نقله في لسان الميزان (4/ 378) فهو مجمل غير مفسر، وقال الذهبي في ديوان الضعفاء ص (307):(رآه ابن معين، وقال: ليس حديثه بشيء)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (2/ 233)، ولم ينقل الذهبي وابن حجر وابن الجوزي فيه توثيقاً، واعتمادهم على كلام ابن معين في الجرح المجمل وقد سبق بيانه، وأما والد عمرو وهو يحيى بن عمرو فقد وثقه العجلي في الثقات ص (474)، وقال يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 104):(لابأس به)، وممن وثقه بالرواية عنه شعبة بن الحجاج فهو ممن روى عن يحيى، قال ابن حجر في اللسان (1/ 15):(من عرف من حاله أنه لا يروي عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل= وصف بكونه ثقة عنده، كمالك وشعبة والقطان وابن مهدي وطائفة ممن بعدهم)، فالإسناد جيد، والجزء المرفوع منه له شواهد، وللقصة الموقوفة متابعة أخرجها الطبراني في الكبير (8636) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو النعمان عارم، ثنا حماد بن زيد، عن مجالد بن سعيد، عن عمرو بن سلمة، قال:(كنا قعودا عند باب ابن مسعود بين المغرب والعشاء، فأتى أبو موسى، فقال: أخرج إليكم أبو عبد بالرحمن؟ قال: فخرج ابن مسعود، فقال أبو موسى: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: لا والله إلا أني رأيت أمرا ذعرني وإنه لخير، ولقد ذعرني وإنه لخير، قوم جلوس في المسجد ورجل يقول لهم: سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا وكذا، قال: فانطلق عبد الله وانطلقنا معه حتى أتاهم، فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحياء وأزواجه شواب، وثيابه وآنيته لم تغير، أحصوا سيئاتكم فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم)، وفي إسناده عارم محمد بن الفضل وقد اختلط بأخرة، ولما نقل العقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 121) عن أبي داود أنه استحكم اختلاطه سنة (216) قال:(وعلي بن عبد العزيز سمع سنة تسع عشرة ومائتين)، فيكون سماعه بعد الاختلاط، لكن قال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل لابنه (8/ 59):(فمن كتب عنه قبل سنة عشرين ومائتين فسماعه جيد)، فمثل هذا يصلح في أقل الأحوال في المتابعات، خاصة وأن الدارقطني قال عن عارم كما في سؤالات السلمي ص (312):(وما ظهر عنه بعدَ اختلاطه حديثٌ منكرٌ)، ويبقى الضعف في مجالد بن سعيد فإن الجمهور على ضعفه إلا إن حديث حماد بن زيد عنه أرفع من غيره، قال الهيثمي في المجمع (1/ 181) عن هذا الأثر:(رواه الطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي، وضعفه البخاري وأحمد بن حنبل ويحيى)، والخلاصة أن الأثر ثابت، ويلاحظ في المتابعة خلوها من الشاهد في التسبيح بالحصى، والله أعلم.
- وهذا الأثر هو أشهرها، وقد بالغ بعضهم فقال:(إسناده ضعيف جداً)
(1)
، وقابله من قال:(وهذا إسناد صحيح)
(2)
، والظاهر أنه بينهما كما بينته في التخريج.
(1)
مجموعة الرسائل المفيدة لفريح البهلال (1/ 528).
(2)
السلسلة الصحيحة (5/ 12).
- ولكن ثبوته لا يلزم منه المنع من التسبيح بالحصى أو النوى، وذلك من وجوه:
- أولها: أن ابن مسعود أنكر عليهم العد، ويدل عليه قوله في هذه الرواية لأبي موسى:(أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم)، وقوله لهم:(فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء)، فهو متسق مع مذهبه الذي سبق تقريره عن إبراهيم النخعي -وهو من أبصر الناس بعلم ابن مسعود وفقهه- وقد قال بعبارة مختصرة:(كان عبد الله يكره العدد ويقول: أيمنّ على الله حسناته؟!) ولم يزد عليها شيئاً.
- وثانيها: أن ذكر الحصى ليس في كل الروايات عن ابن مسعود، حتى المتابعة لهذه الرواية -كما في التخريج- ليس فيها ذكرٌ للحصى، وفيها قول ابن مسعود:(أحصوا سيئاتكم، فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم)، وهي ظاهرة في استنكار العد.
- وثالثها: -وهو من براهين أولها و ثانيها- أنه لم يستدل به أحد قبل المعاصرين -فيما أعلم-، على منع التسبيح بالحصى والنوى والسبحة، فهذا الدارمي أخرج الأثر وترجم له بقوله:(باب في كراهية أخذ الرأي)، و (قد نص أهل العلم على أن المنكر في الأذكار هو الاجتماع لها مع الجهر مستدلين بأثر ابن مسعود هذا)
(1)
، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:(فهذا أبو موسى الأشعري وابن مسعود رضي الله عنهما أنكرا على أولئك النفر تلك الكيفية والهيئة الجماعية للذكر)
(2)
.
(1)
مجموعة الرسائل المفيدة (4/ 535).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة-المجموعة الثانية (7/ 161).
- ورابعها: أن في القصة عدة أمور منكرة على أولئك النفر (أخرجت الذكر المشروع عن وصفه المعتبر شرعاً إلى وصف آخر، فلذلك جعله بدعة)
(1)
، (فمن تلك الأمور التي أنكرها ابن مسعود عليهم: القصص، وقد اشتهر عن ابن مسعود كراهته للقصص، ومنها: الهيئة التي كانوا عليها من الاجتماع للذكر، ومنها: المكان الذي اجتمعوا فيه، ومنها: عدّ التسبيح، ومنها رؤيته لصفات كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عنها وحذّر من أصحابها، فتوسم عبد الله رضي الله عنه ذلك فيهم)
(2)
.
- خامسها: على فرض التسليم بأنه أنكر عليهم التسبيح بالحصى، فإن الواقعة فيها وصف مهم للمنع، وهو إظهار ذلك، والآثار التي فيها فعل ذلك من بعض الصحابة ليس فيها إظهار، فقد (صدر ذلك عن بعض منهم بوجه الخفاء)
(3)
، و (شرط من أجازه من [متأخري] العلماء: بأن يتخذه الإنسان في محل ورده ومصلاه، الذي يخلو العبد فيه بربه حيث لا يراه أحد ولا ينظرون إليه، وأما ما يفعله الناس اليوم -فحاشا وكلّا- بل هو إلى الرياء والسمعة أقرب منه إلى السنة، وكونه بهذا الوجه بدعة محدثة أوضح من الشمس في رابعة النهار، وإذا كان ذلك كذلك فما وجه الاعتراض والتشنيع على من نهي عنه، وسماه بدعة، بل الذي أجازه مطلقاً قد فتح للناس باباً من الريا والسمعة)
(4)
، هكذا قال الشيخ سليمان بن
(1)
الاعتصام للشاطبي (2/ 340).
(2)
فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي (2/ 249)، وقال (2/ 252):(ثم اعلم أن هذا التوجيه الذي ذكرته لحديث الباب إنما يتجه إذا صح ذلك عن ابن مسعود، فإن أغلب طرق تلك الروايات -إن لم أقل كلها- معلولة ففي ببعضها انقطاع، وفي بعضها ضعف، وفي ألفاظ البعض الآخر نكارة).
(3)
كشف الشبهتين لابن سحمان ص (113).
(4)
المصدر السابق ص (109 - 110)، وابن سحمان يرى بدعيتها ولكن يعلق ذلك بإظهارها فيما يظهر من كلامه؛ لأنه باب رياء، وتحريمها من هذا الوجه لا إشكال فيه: أعني الرياء، ولكن جعل الإظهار رياء مطلقاً محل نظر، وهو لا يختص بالسبحة بل حتى العقد بالأنامل أمام الناس لا يسلم من ذلك، ومن كلام ابن سحمان في الرسالة السابقة ص (115):(واتخاذه في اليد بحيث يعلمون به الناس مما لم يكن له أصل في الشرع، ولم يكن ذلك من شعار الصحابة كما ذكره شيخ الإسلام فيكون محدثاً مبتدعاً، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، ولم يكن يفعل العد بالحصى في الخلوات إلا القليل على طريق الاستحسان لا على أنه مشروع).
سحمان (ت 1349)، وفي كلامه وجاهة، وقد كان الحافظ يحيى القطان (ت 200):(يجيء معه بمسباح، فيدخل يده في ثيابه، فيسبح)
(1)
، وكان الحافظ ابن حجر (ت 852):(إذا جلس مع الجماعة بعد العشاء وغيرها للمذاكرة، تكون السّبحة داخل كمِّه بحيث لا يراها أحد، ويستمرُّ يديرُها وهو يسبح أو يذكر غالب جلوسه، وربما تسقُطُ مِنْ كمِّه، فيتأثر لذلك، رغبة في إخفائه)
(2)
.
ويمكن الجواب عن ذلك:
- بأنه ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (التسبيح بالحصى بدعة)
(3)
، وهو صريح.
- (وقد تلقى هذا الإنكار منه بعض من تخرج من مدرسته ألا وهو
(1)
سير أعلام النبلاء (9/ 180) قال: (قال ابن معين: وكان يحيى
…
الخ).
(2)
الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 171).
(3)
أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (15/ 219) قال: أخبرنا إبراهيم بن مخلد المعدل، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: حدثنا مقاتل بن صالح، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله ابن يونس، قال: حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله به، و أبو عبدالرحمن هو السلمي يروي عن ابن مسعود، وهذا الإسناد فيه عبد الأعلى بن عامر الثعلبي الجمهور على ضعفه، قال ابن عدي في الكامل (6/ 547):(يحدث عن سعيد بن جبير، وابن الحنفية وأبي عبد الرحمن السلمي بأشياء، لا يتابع عليها)، وهذا منها فإنه لم يتابع على هذا اللفظ، وحاله لا تحتمل التفرد، قال ابن حبان في المجروحين (2/ 155):(كان ممن يخطئ ويقلب، فكثر ذلك في قلة روايته، فلا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد)، فالإسناد ضعيف، وهذا الأثر بهذا اللفظ لم يذكره بكر أبوزيد والألباني.
إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه الكوفي، فكان ينهى ابنته أن تعين النساء على فتل خيوط التسبيح التي يسبح بها! رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"
…
بسند جيد)
(1)
.
ويناقش هذا الجواب:
- بأن الأثر الأول ضعيف لضعف عبد الأعلى بن عامر ووهمه، وقد تفرد بهذا اللفظ.
- وأما أثر إبراهيم النخعي ففي إسناده إبراهيم بن مهاجر، قال عنه أبو حاتم:(ليس بقوي هو وحصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، محلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج بحديثهم)
(2)
، وقد لخّص الحافظ حاله في التقريب بقوله:(صدوق ليّن الحفظ)، فحديثه لا يجوّد إلا بمتابعة، وقد قال الألباني عن إسناد فيه إبراهيم بن مهاجر في موضع آخر:(وهذا إسناد ضعيف؛ إبراهيم بن مهاجر -وهو البجلي- ضعيف؛ لسوء حفظه، وقال الحافظ في "التقريب": صدوق لين الحفظ)
(3)
.
- وعلى فرض صحته فإنه يمكن أن يقلب به الاستدلال: فإنه دليل على شيوع السبح في عصر التابعين والتسبيح بها ولم ينقل عن أحد منهم إنكارها.
-[أما] إنكار النخعي على بناته فليس على التسبيح بالسبح، بل على فتل خيوطها وصناعتها، وهذا يحتمل ماذكر، أو أنه لا يريد لهن
(1)
السلسة الضعيفة (1/ 192).
(2)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 133).
(3)
السلسلة الضعيفة (10/ 428)، ولم يظهر لي تناقضاً عند الشيخ، وبعد تأمل لأحاديث أثبتها وأحاديث أعلها وفيها إبراهيم بن مهاجر، فإن حديثه عنده فيه ضعف يسير لا يرد الحديث به إن لم يكن فيه علة سواه أو نكارة.
الصناعة لانشغالهن بالعلم، أو أنه لا يريد من يتردد على بناته من النساء، أو أنه على مذهب ابن مسعود في كراهة العد، أو غير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال
(1)
.
- وأما قول الشيخ بكر: (ينهى بناته عن فتْلِ الخيوط للتسابيح؛ لأَنها وسيلة إلى غير المشروع، وهذا نظير النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمراً، ونظائره كثيرة في تحريم الوسائل المفضية إلى محرم كالبدعة)
(2)
، فهذا فيه قطع في محتمل، وقياس مع الفارق.
المسألة الثانية: أدلة القائلين ببدعية الذكر بالسبحة:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ أن (السبحة من البدع الداخلة في العبادة)
(3)
، وهي (وسيلة محدثة، وبدعة محرمة)
(4)
، (لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثت بعده)
(5)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- بأنه إذا ثبت التسبيح بالنوى أو الحصى بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم
(6)
، وإحصاء تكبير الجمرات بسبع حصيات، فما الفرق بينها وبين
(1)
انظر: وصول التهاني ص (56).
(2)
السبحة ص (99).
(3)
مجلة المنار (15/ 823).
(4)
المرجع السابق ص (108).
(5)
السلسلة الضعيفة (1/ 185).
(6)
أما الشيخ الألباني فالتزم تضعيف المرفوع بقوله في الضعيفة (3/ 48): (ولم يصح في العد بالحصى فضلا عن السبحة شيء)، وأما بكر أبوزيد فقال في "السبحة" ص (16):(لا يصح في مشروعية عَدِّ الذكر بالحصى أو النوى حديث)، ثم قال ص (22):(وأما حديث صفية، وحديث سعد بن أبي وقاص، فيشهد كل واحد منها للآخر، إذ ليس في إسناد أحدهما من قُدح فيه من جهة عدالته)، ثم تأول الوارد.
السبحة إلا إن هذه منثورة والسبحة منظومة، وهذا فرق غير مؤثر لأن المقصود هو العد، بل إن ثبوت استعمال اليد لضبط العد كاف
(1)
، وإلى ذلك أشار الإمام أحمد حين سئل فقيل: يسبح الرجل بالنوى؟ فقال: (قد فعل ذلك أبو هريرة و سعد- رضي الله عنهما، وما بأس بذلك؛ النبي صلى الله عليه وسلم قد عدّ)
(2)
.
- ثم إن هذا مما فعله السلف فلا ينطبق عليه معنى البدعة كما قال ابن تيمية عن بدعة المولد: (فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضاً، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا)
(3)
.
- والضبط السابق لمعنى البدعة بالمقتضي والمانع
(4)
، اشتهر عن الشاطبي و ابن تيمية في غير سياق ضابط البدعة (وقد كان اعتقادها ضابطاً صحيحاً للبدعة من أسباب التنازع والبغي والعدوان بين المختلفين)
(5)
.
- (أما تطبيقاتهما في مسائل البدعة فهي تدل على أنهما لا يريان إجراءها في غير العبادات المحضة؛ فلم يوجد -فيما وقفت عليه في كلامهما- أنهما حكما بالبدعة في وسيلة عبادة، أو في أمر
(1)
قال ابن علّان في الفتوحات الربانية (1/ 145): (وفي شرح المشكاة لابن حجر: ويستفاد من الأمر بالعقد المذكور في الحديث: ندب اتخاذ السبحة، وزَعْمُ أنها بدعة غير صحيح، إلا أن يحمل على تلك الكيفيات التي اخترعها بعض السفهاء، مما يمحضها للزينة أو الرياء أو اللعب).
(2)
مسائل الإمام أحمد وابن راهويه للكوسج (9/ 4887 - 4888).
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 123).
(4)
وأنها في كل ما قام مقتضاه وسببه في الصدر الأول، ولم يوجد مانع من فعله ثم لم يفعل، ففعل من بعدهم له بدعة.
(5)
"ضابط البدعة وما تدخله" لسليمان الماجد، منشور في موقعه الرسمي.
عادي مجاور لعبادة؛ كالذي تنازع فيه الناس اليوم؛ بل قال ابن تيمية: بجواز التسبيح بالسبحة، وقال الشاطبي: بشرعية كل وسيلة لتبليغ الدين)
(1)
.
- و (الأمة بعملها لا زالت تخترع وتجدد في وسائل العبادات دون نكير، فمن ذلك: نقط المصحف، وضبطه بالشكل، ثم تحزيبه وترقيمه، ومن ذلك ما أحدثوه من تصنيف العلم على طرق ووسائل متعددة؛ فهناك السنن والآثار والمستدركات والمسانيد على الصحابة أو التابعين أو من بعدهم من الرواة، والتبويب على أبواب الفقه، ومن ذلك جعل والٍ لتدبير شؤون العبادة والمساجد والأئمة، وإدارة هذه الولاية بالأنظمة الحديثة، وأكثر هذه الأشياء
(1)
المرجع السابق، ويقول الدكتور يوسف الغفيص في شرح حديث الافتراق -منشور صوتياً ومفرّغ في الشبكة-: (ما انعقد سببُ فعله زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يفعله، ففعله بعده من البدع والمحدثات .. ، فهذه كلمة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكرها الشاطبي أيضاً في تقريره لمسألة السنة والبدعة
…
فهذه كلمةٌ صحيحة من شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن يأتي أحياناً بعض الترتيب لها عند بعض الشيوخ، وأحياناً يرون أن هذا الترتيب لزومي. مثلاً: وضع مكان للنساء في المساجد، يقولون: لقد انعقد سببه زمن النبي صلى الله عليه وسلم
…
المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فيأتي بعض الفقهاء اليوم ممن يأخذ كلام شيخ الإسلام رحمه الله بترتيب لزومي، فيقول على قاعدة شيخ الإسلام: إن وضع مكان في هذا العصر للنساء بدعة. ويأتي بمثل هذه التراتيب المتكلف فيها
…
الإمام ابن تيمية رحمه الله الذي قال هذه الكلمة له مسائل في الفتاوى أذكر جملةً منها: حكم استخدام السبحة للتسبيح، لقد انعقد سبب التسبيح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يسبح بأصابعه أو بأنامله، وكان من الممكن أن تستعمل مثل هذه الأدوات، كالأحجار أو الخرز أو غيرها، ومع ذلك لم يفعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلى هذه القاعدة أن التسبيح بالسبحة بدعة، ومع ذلك عندما سئل الإمام ابن تيمية عن مسألة التسبيح بالسبحة، قال:"إن التسبيح بها إذا لم يكن على قصد الرياء أو هجران ما جاءت به السنة من الأصابع والأنامل، فالتسبيح بها حسن"، فهو لم يقل: جائز، بل قال: حسن، بشرط ألا يكون رياءً ولا يكون هجراناً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: أين كلامه السابق، وتطبيق هذه القاعدة؟ لا يمكن أن يكون شيخ الإسلام متناقضاً في تقريره) انتهى، وما ذكره من مثالين في وسائل العبادة، وليس في العبادات المحضة فيكون توجيه الشيخ الماجد متجه.
وُجد المقتضي لفعلها، وانتفى المانع من ذلك فلم تُعدَّ بدعة، ولم يحكم عليها أحد بحدث)
(1)
.
- و (السبحة لا تدخل في تغيير بنية العبادة بشيء، وإنما هي وسيلة إلى تحقيق المشروع في عد التسبيح، وهي معقولة المعنى على التفصيل
…
ومن المعلوم أن لها بعض المفاسد؛ كغيرها من الوسائل فيجب على مستعملها اجتناب المفسدة، ولا علاقة لهذه المفسدة ببدعة ولا سنة؛ فمن ذلك جعلها شعاراً للصلاح، ومجالاً للرياء
…
ويُحاذر من هذه المفاسد حتى في حمل السواك وإظهاره في الجيب، وفي حمل المصحف؛ فلا زال المخلصون المخبتون يخشون إظهار ما يدل على عبادتهم)
(2)
.
2/ ومن أدلتهم: (أنه مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمرو:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه»
(3)
…
ثم هو مخالف
(1)
"ضابط البدعة وما تدخله" لسليمان الماجد، منشور في موقعه الرسمي.
(2)
المرجع السابق.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (1502) من طريق محمد بن قدامة حدثنا عثام، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو به، وأكثر الرواة عن عثام لم يقولوا:«بيمينه» ، كعبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري عند أبي داود (1502)، ومحمد بن عبد الأعلى عند الترمذي (3411) ومحمد بن عبد الله بن بزيع عند البزار (2406) والحسين بن محمد الذارع عند النسائي (1355) ومسدد، ومحمد بن أبي بكر المقدمي عند الطبراني في الأوسط (8568) ومحمد بن عبدالوهاب الفراء عند الحاكم في المستدرك (2006)، وكلهم ثقات ويروونه عن عثام بلفظ:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح» ، وهذه الرواية مختصرة كما قال الترمذي:(روى الأعمش، هذا الحديث عن عطاء بن السائب مختصرا)، وتفرّد فيه ابن قدامة بلفظ:«بيمينه» وفيها شذوذ، قال الطبراني في الأوسط:(لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا عثام بن علي)، وقد روي هذا الحديث من غير طريق الأعمش، فرواه عن عطاء بن السائب جمع من الرواة، كرواية إسماعيل بن علية عند الترمذي (3410) في حديث التسبيح وفيه:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده» قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، وقد روى شعبة، والثوري، عن عطاء بن السائب، هذا الحديث)، قال ابن عدي في الكامل (7/ 78):(عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره فمن سمع منه قديما مثل الثوري، وشعبة فحديثه مستقيم، ومن سمع منه بعد الاختلاط فأحاديثه فيها بعض النكرة).
لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال لبعض النسوة: «عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فتنسين (التوحيد) وفي رواية: (الرحمة)، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات»
(1)
(2)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- أن دلالة الحديثين خارج محل النزاع، فالأول يؤخذ منه سنية عقد التسبيح باليد و (العدد بالأصابع على وجه تفضيله، كما أشير إليه بتعليله)
(3)
، والثاني ليس فيه نهي عن التسبيح بغير اليد، (والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز)
(4)
.
- والنزاع هو في جواز التسبيح بالمسابح و (لم يقل أحد: أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها)
(5)
.
3/ واستدلوا أيضاً: على تحريم عد الذكر بالسبحة (لما فيها من التشبه بالكفرة)
(6)
، (والظاهر أن المسلمين أخذوها أولاً عن النصارى)
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (7656)، والترمذي (3583)، وابن حبان (842)، والحاكم (2007) وغيرهم، من طريق هانئ بن عثمان، عن أمه حميضة بنت ياسر، عن جدتها يسيرة، قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
، قال ابن حجر كما في نتائج الأفكار (1/ 87):(هذا حديث حسن)، وحسن إسناده النووي في الأذكار التي عليها أمالي ابن حجر هذه.
(2)
السلسلة الضعيفة (1/ 186).
(3)
الحرز الثمين للحصن الحصين (1/ 215).
(4)
نيل الأوطار (2/ 366).
(5)
مجموع الفتاوى (22/ 187). وقال بكر أبوزيد في "السبحة" ص (100): (فقهاء المذاهب المتبوعة لا يتنازعون في أن العدّ بالأنامل أفضل من العد بغيرها من الحصى ونحوه).
(6)
السبحة ص (108)، وقال د. بكر:(وهذا أهم مدْرَك للحُكم على السُّبْحَة بالبدعة)
(7)
مجلة المنار (15/ 823)، يقول محمد رشيد رضا:(كنا نرى هذه السبح في أيدي القسيسين من النصارى والرهبان والراهبات ونسمع أنها مأخوذة عن البراهمة، ولما زرت الهند في هذه السنة رأيت فيها بعض الصوفية من البراهمة والمسلمين، ورأيتهم يحملون السبح ويعلقونها في رقابهم، والظاهر أن المسلمين أخذوها أولاً عن النصارى لا عن البراهمة؛ لأنهم ما عرفوا البراهمة فيما يظهر لنا إلا بعد فتحهم للهند، وأما النصارى فكانوا في مهد الإسلام عند ظهوره (جزيرة العرب) وفي البلاد المجاورة له كالشام ومصر. فلا بد أن يكونوا قد أخذوا السبحة عنهم فيما أخذوه من اللباس والعادات)، وانظر:"إحكام المباني في نقض وصول التهاني" لعلي الأثري ص (89)، "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" للويس شيخو اليسوعي ص (394).
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن كون أصلها من الكفار لا يؤثر في حكم الجواز؛ (لأن القاعدة في التشبه: أن الشيء إذا تحول وصار عادة عند المسلمين، ولم يكن من خصائص الكفار فلا يُعد استعماله تشبهاً)
(1)
، فالذي لم يعد (شعاراً للكفار جاز فعله، مالم يكن محرماً لعينه)
(2)
.
- ولما ذكر ابن حجر لبس الطيلسان وأنه من لباس اليهود قال: (وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلاً في عموم المباح)
(3)
.
- ومع أن محمد رشيد رضا يقرر هذا المعنى كما قال: (وما ورد من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء اختصاصهم بذلك)
(4)
، إلا أنه أول من قرر معنى التشبه هنا كما قال د. بكر أبوزيد: (لم أر من تعرض له من المتقدمين سوى الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى - فمن بعده من أصحاب دوائر المعارف فمن بعدهم، ولو تبين لهم هذا الوجه لما قرر أحد منهم الجواز، كما هو الجاري في تقريراتهم في
(1)
"ضابط البدعة وما تدخله" لسليمان الماجد، منشور في موقعه الرسمي.
(2)
"التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي" ص (83).
(3)
فتح الباري (10/ 275).
(4)
مجلة المنار (14/ 29).
الأحكام، التي تحقق مناط المنع فيها: التشبه)
(1)
.
- ويقال أيضاً: هل هذا التشبه كان معلوماً للعلماء من قبل أو مجهولاً؟ فإن كان مجهولاً فكيف يقال: إنه مأخوذ من الكفار بلا برهان واضح، وإن كان معلوماً فلم لم يفتِ العلماء بتحريمه؟! فاتفاقهم على جوازه كاف في بيان عدم تحريم هذا التشبه.
سبب الخلاف: الذي يظهر في سبب الخلاف هنا:
- توسيع معنى البدعة، فعندما أُخذ من الشاطبي وابن تيمية قاعدة المقتضي والمانع في البدعة، وأنها ما وجد سبب ومقتضاه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ثم لم يفعلوه مع عدم وجود المانع من فعله، أغفل بعضهم بعض القيود في تطبيقاتهما ومن ذلك: عدم إجرائها في الوسائل وإجرائها في التعبدات المحضة، كقول الشاطبي عن وسائل التبليغ والدعوة:(والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة، لأنه من قبيل المعقول المعنى، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى إذا لم يعد على الأصل بالإبطال، كمسألة المصحف، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح)
(2)
، كما أن ابن تيمية يجوّز استخدام السبحة بل يستحسنها حين قال:(وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه)
(3)
، وإذا طبقت قاعدة المقتضي والمانع هنا بحرفيتها دون نظر لسياقها وتطبيقها، فإن السبحة تدخل فيها.
(1)
السبحة ص (108).
(2)
الاعتصام (1/ 317).
(3)
في مجموع الفتاوى (22/ 506).
- ومن الأسباب كذلك: كون السبحة اشتهرت عند بعض المبتدعة، (حتى أصبحت شعاراً للطُّرقيَّة، والروافض)
(1)
، وقد قال ابن تيمية:(فإنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً، ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنه لم يترك واجبا بذلك، لكن قال: في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التميز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم، أعظم من مصلحة هذا المستحب. وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً، بل هذا مثل لباس شعار الكفار وإن كان مباحا إذا لم يكن شعاراً لهم، كلبس العمامة الصفراء، فإنه جائز إذا لم يكن شعاراً لليهود، فإذا صار شعاراً لهم نهي عن ذلك)
(2)
، وهو كلام متين لكن فيه قيود من أهمها أن:(هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فإن نسبة القول ببدعية الذكر بالسبحة إلى الشذوذ غير بعيدة، وسبب عدم الجزم بنسبته إلى الشذوذ: أنه لم يخالف نصاً صريحاً، ولأن الإجماع المحكي على خلافه غير صريح في الإجماع، كما في اللفظة التي نقلها أول ما نقلها السيوطي (ت 911) بقوله:(ولم يُنقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة) ثم نقلت عنه ومِن بعده، وهو متأخر أيضاً،
(1)
السبحة ص (5).
(2)
منهاج السنة النبوية (4/ 154 - 155).
ويقابله القول بالبدعية فإنه متأخر أيضاً ولم أقف على قائل معين له إلا في عصرنا، ويظهر أنه قول موجود قبل ذلك ولكنه متأخر، كما أشار إليه ابن حجر الهيتمي (ت 974) حين قال:(وزَعْمُ أنها بدعة غير صحيح) ولم يعين قائله، والمهم هنا: أنه في المائة العاشرة وجد القول بالبدعية، ووجد من ينفي ذلك وأنه لا يوجد من منع من جواز عد الذكر بالسبحة عمن سبق من السلف والخلف كما نقله السيوطي؛ وكأنه فيه رد على من بدّعها ومنعها، وبعد البحث تبين صحّة ما نقله السيوطي، وأن القول بالبدعية قول حادث متأخر.
وكل ما ذُكر إنما هو في الجواز، وإلا فلا خلاف أن التسبيح بالأصابع ونحوها أفضل من التسبيح بالسبحة، وقد يقترن بالسبحة أمر زائد يجعلها أقرب إلى البدعة، مثل: تعليقها في الأعناق، أو جعلها كالأساور تعبّداً، وفاعلهما إن سلم من البدعة في الذكر فإنه قد فتح على نفسه باب رياء وشهرة
(1)
، كما قال ابن تيمية:(إظهاره للناس مثل تعليقه في العنق أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة: الأول محرم والثاني أقل أحواله الكراهة)
(2)
.
كما أن إظهارها للذكر مع الاجتماع على ذلك من شعار أهل
(1)
قال ابن الحاج في المدخل (3/ 205): (ما يفعله بعضهم من تعليق السبحة في عنقه
…
وقريب من هذا ما يفعله بعض من ينسب إلى العلم فيتخذ السبحة في يده كاتخاذ المرأة السوار في يدها ويلازمها، وهو مع ذلك يتحدث مع الناس في مسائل العلم وغيرها ويرفع يده ويحركها في ذراعه، وبعضهم يمسكها في يده ظاهرة للناس ينقلها واحدة واحدة كأنه يعد ما يذكر عليها، وهو يتكلم مع الناس
…
فعده على السبحة على هذا باطل إذ إنه ليس له لسان آخر حتى يكون بهذا اللسان يذكر واللسان الآخر يتكلم به فيما يختار، فلم يبق إلا أن يكون اتخاذها على هذه الصفة من الشهرة والرياء والبدعة).
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 506).
البدع، والآثار في جواز العد بالحصى والنوى كلها ليس فيها إظهار لذلك واجتماع، و قد يقترن بالسبحة ما يجعل العد بها أولى، وذلك في نحو من لا يأمن من الغلط في العد؛ لأن ضبط العدد الوارد فضيلة تتعلق بذات العبادة
(1)
، والعد بالأصابع وسيلة لتحقيق ذلك وفضيلتها خارجة عن ذات العبادة، والله أعلم.
(1)
هذا التعليل له علاقة بالقاعدة التي يعلل بها بعض الشافعية، ونص عليها الزركشي في المنثور (3/ 53):(الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها)، وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (147).
قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال أبو هريرة:(كفى بتركك له تضييعاً).
جامع بيان العلم وفضله (1/ 430)
المبحث العاشر: عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال ابن وهب: (كل صاحب حديث ليس له إمام في الفقه فهو ضال، ولولا أن الله أنقذنا بمالك والليث لضللنا).
الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص (119)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
التراويح لغة: (جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام)
(1)
؛ سميت بذلك لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات
(2)
، و (سميت نفس الأربع [ركعات] بها لاستلزامها شرعاً ترويحة، أي: استراحة، فلذا قال: ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة)
(3)
، ويقال: من يروّح بالناس، وروحت بالناس ترويحاً، أي: صليت بهم التراويح
(4)
.
والتراويح اصطلاحاً: قيام الليل جماعة في ليالي رمضان
(5)
، هكذا اصطُلح على تسميتها، وإلا فهي في الشرع اسمها: القيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه»
(6)
، قال النووي:(والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح)
(7)
، بل قال الكرماني:(اتفقوا على أن المراد بقيامه صلاة التراويح)
(8)
، وعلّق عليهما ابن حجر بقوله: (وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح،
(1)
النهاية لابن الأثير (2/ 274)، لسان العرب (2/ 462).
(2)
انظر: المصدرين السابقين.
(3)
فتح القدير لابن الهمام (1/ 467).
(4)
انظر: أساس البلاغة (1/ 392)، المغرب في ترتيب المعرب ص (201).
(5)
قال ابن قدامة في الكافي (1/ 286) في صلاة التطوع: (ما سن له الجماعة منها التراويح، وهو قيام رمضان)، وقال القسطلاني في شرحه على البخاري (3/ 424):(سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح).
(6)
متفق عليه، أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
شرح النووي على مسلم (6/ 39).
(8)
الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/ 152).
يعني: أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح)
(1)
.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «كان يصلي أربع ركعات في الليل، ثم يَتروَّح
…
» الحديث
(2)
، قال البيهقي:(قوله: «ثم يَتروَّح» إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح)
(3)
، وهذا المعنى له إشارة في المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها:«ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً»
(4)
، (وثم في اللغة العربية تفيد التراخي، وعلى هذا فيكون المعنى: أنه يسلم من ركعتين، ثم من ركعتين، ثم يستريح، ثم يأتي بركعتين، ثم ركعتين، ثم يستريح، ثم يأتي بالثلاث)
(5)
.
و (التراويح، وقيام رمضان، وصلاة الليل، وصلاة التهجد في رمضان، عبارة عن شيء واحد واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح)
(6)
، (بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد، ولا بدع في تسميتها
(1)
فتح الباري (4/ 251)، وقد بيّن المعنى بقوله:(أي قام لياليه مصلياً، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام).
(2)
أخرجه البيهقي في الكبرى (4294) من طريق المعافى بن عمران، عن المغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها به، قال البيهقي:(تفرد به المغيرة بن زياد، وليس بالقوي).
(3)
المرجع السابق.
(4)
أخرجه البخاري (1147)، ومسلم (738).
(5)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (14/ 168)، وقولها:«يصلي أربعاً» محمول على قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» ، ومفسّر بقولها في رواية لمسلم (736):«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناس العتمة - إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة، يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة» .
(6)
مرعاة المفاتيح (4/ 311).
باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة
…
وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة وإيصالها إلى السحر أخرى، بخلاف التهجد فإنه كان في آخر الليل ولم تكن فيه الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلاً على اختلاف نوعيهما ليس بجيد)
(1)
.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
أجمعت الأمة على مشروعية صلاة التراويح
(2)
، وأنها سنة
(3)
.
(1)
فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 567)، مع تقديم وتأخير في الكلام.
(2)
قال السرخسي في المبسوط (2/ 143): (الأمة أجمعت على شرعيتها وجوازها ولم ينكرها أحد من أهل العلم إلا الروافض لا بارك الله فيهم).
(3)
قال النووي في المجموع (4/ 31): (صلاة التراويح سنة بإجماع العلماء)، وفي حاشية الطحطاوي ص (411):("التراويح سنة" بإجماع الصحابة ومن بعدهم من الأمة، منكرها مبتدع ضال مردود الشهادة)، ومع أن النووي نقل الإجماع على سنيتها إلا أنه نقل الخلاف في أفضليتها جماعة أو بانفراد في البيت، وخاصة (فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه)، وقال الإمام أحمد في مسائل الكوسج (2/ 757):(يعجبني أن يصلي في الجماعة يحيي السنة، قال إسحاق: أجاد، كما قال)، وقد قال ابن قدامة في المغني (2/ 124) عن صلاتها جماعة:(ولنا إجماع الصحابة على ذلك)، قلت: إلا إنه لا يلزم من السنية وورود الفضل أن تكون هي الأفضل؛ لأن حديث زيد المتفق عليه: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» سبب وروده هو مسألتنا، عندما صلى صلى الله عليه وسلم ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم فقال: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة
…
» الحديث، قال المعلمي في مجموع رسائله (16/ 384):(والحديث وارد في قيام رمضان كما يأتي، وذلك قاضٍ بشمول الحكم له نصًّا، فلا يُقبَل أن يُخرَج منه بتخصيص)، وقد صحّ عن ابن عمر:(أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان)، وسأله رجل أقوم خلف الإمام في شهر رمضان؟ فقال:(تنصت كأنك حمار) أخرجهما ابن أبي شيبة (7714)، (7715)، وترجم له في مختصر قيام الليل للمروزي بقوله:(باب ذكر من اختار الصلاة وحده على القيام مع الناس إذا كان حافظًا للقرآن)، وذكر آثاراً غيره، ومن الآثار الجامعة التي ذكرها المروزي ص (230) أن رجلاً سأل الحسن رحمه الله: يا أبا سعيد، هذا رمضان أظلني وقد قرأت القرآن فأين تأمرني أن أقوم، وحدي أم أنضم إلى جماعة المسلمين فأقوم معهم؟ فقال له:(إنما أنت عبد مرتاد لنفسك فانظر أي الموطنين كان أوجل لقلبك وأحسن لتيقظك فعليك به)، وقد قال الطحاوي كما في مختصر اختلاف العلماء (1/ 314 - 315): (وكل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد
…
أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان، وكان هذا القيام واجبا على الكفاية)، والحرف الأخير من كلام الطحاوي فيه تعقب كما قال ابن حجر في الفتح (4/ 252):(وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية)، وفي طرح التثريب (3/ 96):(وفيما ذكره من الوجوب على الكفاية نظر والذي ذكره صاحب الهداية من الحنفية إنما هو السنية على الكفاية).
2.
وأجمعوا على ليس لعدد ركعات التراويح حد واجب لا يزاد عليه
(1)
، وذهب بعض المعاصرين إلى عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ويصل إلى التبديع وترك الائتمام بالزيادة
(2)
، وهذا هو الرأي المراد بحثه وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمها.
(1)
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (2/ 102): (أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيء مقدرا في صلاة الليل، وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود).
(2)
قال ابن عثيمين في الشرح الممتع (4/ 53 - 54): (رأينا مِن الإخوة الذين يشدِّدون في هذا مَنْ يُبدعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرة، ويخرجون من المسجد فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» وقد يجلسون إذا صلوا عشر ركعات فتتقطع الصفوف بجلوسهم، وربما يتحدثون أحيانا فيشوشون على المصلين، وكل هذا من الخطأ، ونحن لا نشك بأنهم يريدون الخير، وأنهم مجتهدون، لكن ليس كل مجتهد يكون مصيباً) انتهى، وهذا التبديع والانصراف عن الإمام وقفت على ما هو أشد منه عند بعض المتعصبة الجهلة كما جاء في "قرة العين بفتاوى علماء الحرمين" ص (313 - 314)، لحسين المغربي مفتي المالكية بمكة (ت 1292 هـ) هذا السؤال الغريب:(ما قولكم دام فضلكم: في طائفة اختلفوا في صلاة التراويح، فبعضهم أقاموا بعشر ركعات سنيناً عديدة واعتقدوا أنها أفضل من العشرين بدعوى أن الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة وثمانية وثلاثة عشر ركعة مع الوتر، والاتباع خير من الابتداع، وبعضهم قالوا: إن التراويح لغير من بالمدينة عشرون ركعة مع الوتر بإجماع الصحابة عليه، وهو اختيار إمامنا الشافعي، والعمل عليه عند أهل الحرم المكي، فمن فعلها أقل من ذلك فهو زنديق لإنكاره الإجماع، بدليل أنهم لو لم ينكروا الإجماع لما فعلوا أقل من ذلك فلا تحل ذبيحتهم وطعامهم و مناكحتهم، ولا تجوز الصلاة على جنائزهم، ثم أفتى قوم منهم بأن القائل بكفر الفاعلين أقل من عشرين هو كافر قطعًا لأنه سمى الإسلام كافرًا، وأن صلاة التراويح صحيحة مطلقًا سواء كانت عشرين أو أقل منه أو أكثر، فمن اقتصر على نحو ركعة أو ركعتين أو ثلاثة فقد حصل أصل السنة، ومن أتمها عشرين فقد حاز كمال الفضيلة، أخذًا من الكتاب المسمى ببشرى الكريم، وعبارته: ولو اقتصر على بعض العشرين صح وأثيب عليه ثواب التراويح خلافًا لبعضهم، فقولهم وهي عشرون أي أكثرها، فما الحكم في ادعاء هؤلاء وأقوالهم واعتقادهم؟ أفيدونا بالجواب الشافي، ولكم من الله جزيل الثواب الوافي). فانظر إلى التعصب إلى أين يصل بأصحابه، والله المستعان.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين هو:
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420)
(1)
رحمه الله.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وتفصيله في المطلب الرابع.
2/ وصفه بالشذوذ ونحوه، ومن ذلك:
- ابن تيمية (ت 728) بقوله: (من ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ)
(2)
.
- إسماعيل الأنصاري
(3)
(ت 1417) بقوله: (وأتى الألباني بدعوى باطلة
(1)
في رسالته "صلاة التراويح" ترجم في ص (25) لأحد المواضيع بقوله: (اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الإحدى عشرة ركعة دليل على عدم جواز الزيادة عليها)، وقال:(صلاة التراويح لا يجوز الزيادة فيها على العدد المسنون)، وترجم في ص (86) لأحد المواضيع بقوله:(وجوب التزام الإحدى عشرة ركعة والدليل على ذلك)، وقال في ملخص الرسالة ص (102):(لا يجوز الزيادة على الإحدى عشرة ركعة).
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 272).
(3)
إسماعيل بن محمد بن ماحي الأنصاري، المولود سنة (1340 هـ) في صحراء إفريقية وتلقى تعليمه هناك، قبل هجرته إلى الحرمين ووصوله إلى مكة سنة (1369 هـ)، أجيز للتدريس في المسجد الحرام، ثم انتدب للتدريس في المعهد العلمي بالرياض، ثم اختير للتدريس في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم ومعهد إمام الدعوة، ثم انتقل ليكون عضوا وباحثاً في دار الإفتاء بالرياض وله مؤلفات عديدة توفي سنة (1417 هـ) في الرياض. انظر: ترجمته الملحقة بآخر رسالتيه في "تصحيح حديث صلاة التراويح بعشرين ركعة" و " إباحة التحلي بالذهب المحلق للنساء" ص (154).
لا يُقضى منها العجب، تستلزم تضليل السلف الصالح، الذين كانوا يصلونها أكثر من إحدى عشرة ركعة)
(1)
، ثم ذكر كلاماً له وقال:(وفساده لا يخفى على عاقل)
(2)
.
- وابن باز (ت 1420) بقوله: (ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة)
(3)
.
- وابن عثيمين (ت 1421) بقوله: (بعض الناس يغلو من حيث التزام السنة في العدد، فيقول: لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السنة، وينكر أشد النكير على من زاد على ذلك، ويقول: إنه آثم عاصي. وهذا لا شك أنه خطأ)
(4)
.
- مصطفى العدوي بقوله: (وإن كان بعض أهل العلم قد أفتى بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وهذا قول غريب في منتهى الغرابة)
(5)
.
- د. إبراهيم الصبيحي بقوله: (الشيخ بنى دعواه على غير قواعد أصولية
(6)
، فصار قوله فاسد الاعتبار لا يجوز الأخذ به)
(7)
ولفظ
(1)
"تصحيح حديث صلاة التراويح بعشرين ركعة" ص (30).
(2)
المرجع السابق، وانظر: ص (36).
(3)
مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (15/ 18).
(4)
الشرح الممتع (4/ 53).
(5)
"عدد ركعات قيام الليل" للعدوي ص (59 - 60).
(6)
في سياق كلامه على حمل الألباني للنصوص القولية المطلقة في الحث على صلاة الليل، بفعله صلى الله عليه وسلم حين صلى إحدى عشرة ركعة، وأن حمل المطلق من الأقوال لا يكون عند العلماء إلا عند التعارض مع المقيد من الأقوال لا الأفعال.
(7)
"عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (59).
الفساد والبطلان والخطأ مما يوصف به الرأي الشاذ، وقد يوصف بالغريب، وكل ذلك معتبر بسياقه.
- وقول د. عبدالرحيم الهاشم بعد أن ذكر الاتفاق على جواز التراويح بأي عدد ذكر أن: (القول بتحريم الزيادة فيها على إحدى عشرة ركعة قول جديد في آخر القرن الرابع عشر الهجري، مخالف لذلك وللاعتبارات الشرعية المرعية)
(1)
.
(1)
حكم التراويح ص (79).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بجواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}
(1)
، وقوله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}
(2)
، وقوله:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}
(3)
، وغيرها من الآيات.
وجه الاستدلال:
- أن هذه الآيات فيها الحث على طول القيام، وأن التفاوت بين القائمين بحسب طول صلاتهم، لا بعدد الركعات فقط ولو قصر زمانها
(4)
.
- يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه»
(5)
، فقوله:«يقوم ثلث الليل» يدل على أن العبرة بالزمن
(6)
.
(1)
الآية (17) من سورة الذاريات، قال البغوي في تفسيره (7/ 372):(والهجوع النوم بالليل دون النهار، "وما" صلة، والمعنى: كانوا يهجعون قليلاً من الليل، أي يصلون أكثر الليل).
(2)
الآية (26) من سورة الإنسان.
(3)
الآية (2) من سورة المزَّمل.
(4)
انظر: "عدد صلاة التراويح" ص (15)، "عدد ركعات قيام الليل" ص (9).
(5)
متفق عليه، أخرجه البخاري (3420)، ومسلم (1159)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
(6)
انظر: "عدد ركعات قيام الليل" ص (10).
- ويؤيده كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت»
(1)
، (يعني: طول القيام لا خلاف نعلمه عند أحد في ذلك) قاله ابن عبدالبر
(2)
، وهذا يلزم منه طول الركوع والسجود حتى تكون على السنة معتدلة وقريبة من السواء؛ ولذلك قال ابن تيمية: (فينبغي أنه إذا طول القيام أن يطيل الركوع والسجود وهذا هو طول القنوت
…
فإن القنوت هو إدامة العبادة سواء كان في حال القيام أو الركوع أو السجود، كما قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}
(3)
فسماه قانتاً في حال سجوده، كما سماه قانتاً في حال قيامه)
(4)
.
2/ ومن أدلتهم: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى»
(5)
.
وجه الاستدلال:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد له صلاة الليل بعدد، والليل يسع كثير الركعات وقليلها، والذي يجهل كيفية صلاة الليل فجهله بعددها أولى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (756) من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، قال المازري في المعلم بفوائد مسلم (1/ 453):(للقنوت سبعة معان: الصلاة، والقيام، والخشوع، والعبادة، والسكوت، والدعاء، والطاعة).
(2)
الاستذكار (2/ 180)، وقال النووي في شرح مسلم (6/ 35):(المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت).
(3)
من الآية (9) من سورة الزُّمَر.
(4)
مجموع الفتاوى (22/ 273)، وقال في موضع آخر من الفتاوى (23/ 70):(وقدم السجود على القيام).
(5)
متفق عليه، أخرجه البخاري (990)، ومسلم (749) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(6)
الشرح الممتع (4/ 53)، "عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (20)، "حكم التراويح" للهاشم ص (29).
- ومما يؤيد هذا المعنى: الحث على كثرة السجود، وعلى قيام رمضان دون تقييد بعدد
(1)
، وقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
(2)
، (يقول: فاقرءوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم)
(3)
ولم يقيدها بعدد، (وعبَّر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}
(4)
، أي: بقراءتك)
(5)
.
- ومن الإشارة المؤيدة لهذا المعنى أنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى ذهب نحو شطر الليل فقالوا له: (لو نفّلتنا بقية ليلتنا هذه؟) فقال: «إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة»
(6)
، (فلم ينكر عليهم طلب الزيادة، ولكنه أرشدهم إلى ما يعوضهم عنها
…
وهذا مثل قصة جويرية)
(7)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- أن (العمل بالمطلقات على إطلاقها إنما يسوغ فيما لم يقيده الشارع من المطلقات، أما إذا قيد الشارع حكماً مطلقاً بقيد فإنما يجب التقيد به وعدم الاكتفاء بالمطلق)
(8)
.
- و (مسألتنا -صلاة التراويح- ليست من النوافل المطلقة؛ لأنها
(1)
الحث على كثرة السجود مخرج في صحيح مسلم وسيأتي نصه، والحث على قيام رمضان متفق عليه.
(2)
من الآية 20 من سورة المزَّمل.
(3)
كما قال الطبري في تفسيره (23/ 395).
(4)
من الآية (110) من سورة الإسراء.
(5)
كما قال ابن كثير في تفسيره (8/ 258).
(6)
أخرجه أحمد (21447)، والترمذي (806) وهذا لفظه وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه غيرهما.
(7)
"التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه السلام " لعطية سالم ص (10).
(8)
صلاة التراويح للألباني ص (37).
صلاة مقيدة بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
[وأنه ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة] فلا يجوز تعطيل هذا القيد تمسكاً بالمطلقات)
(1)
.
- (وما مثل من يفعل ذلك إلا كمن يصلي صلاة يخالف بها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المنقولة عنه بالأسانيد الصحيحة يخالفها كما وكيفاً، متناسياً قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» محتجاً بمثل تلك المطلقات، كمن يصلي مثلاً الظهر خمساً وسنة الفجر أربعاً، وكمن يصلي بركوعين أو سجدات، وفساد هذا لا يخفى على عاقل)
(2)
.
وأجيب عن هذه المناقشة بأمور:
- بعدم التسليم بأن في الأدلة مطلق ومقيد، وعلى فرض وجوده ففيه إشكال من جهتين: في تقييد المطلق من الأقوال بالأفعال وهذا لا يكون، و في تقديم مفهوم الفعل على منطوق القول وهذا ضعيف
(3)
، وتفصيل ذلك في الآتي:
- أما عدم التسليم فإن المطلق (النكرة في سياق الإثبات)
(4)
، وغايته الدلالة على واحد غير معين، والأحاديث الدالة على أن صلاة الليل مثنى مثنى، والحث على كثرة السجود، وعلى قيام رمضان، كلها معرفة بالإضافة وليس فيها إطلاق حتى يقيد.
- وعلى فرض التسليم بأنها مطلقة، فتقييدها بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى
(1)
المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق.
(3)
انظر: "عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (55 - 63).
(4)
الإحكام للآمدي (3/ 3)، والإثبات يشمل الأمر والخبر.
عشرة ركعة لا يكون؛ لأن صلاته امتثال للأمر المطلق وليس تقييداً له
(1)
، ولذلك جاء عنه أنه صلى بأقل وأكثر من الإحدى عشرة ركعة كما سيأتي -بإذن الله-، ولو فرض أنه لم يصل إلا إحدى عشرة ركعة ولم ينقل غير ذلك ف (غاية ما يدل عليه الأمر حينئذ أن يكون فعل ذلك هو الأولى والأفضل، ولكن لا يوجب تقييد المطلق)
(2)
.
- وعلى فرض التسليم أيضاً بوجود المطلق والمقيد: فإن الأقوال يقيدها الأقوال؛ لأنها في قوتها ولا تقيدها الأفعال، (فالأصل في التقييد أنه من خصائص الأقوال، وليس من أوصاف الأفعال، لأن المقيد أقوى من المطلق فهو يلغي إطلاق المطلق، ويوجب العمل بالوصف الوارد في سياقه
…
ولم يختلف السلف فيما أعلم على عدم جواز حمل مطلق الأقوال على الأفعال)
(3)
.
- ثم إن المنع من الزيادة على إحدى عشرة ركعة أُخذ من مفهوم فعله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يزد على إحدى عشرة ركعة، وقُدّم هذا المفهوم على منطوق الأقوال، وهذا المفهوم ضعيف، ويدل على ضعفه أنه لم يمنع أحد من العلماء قبل الألباني الزيادة على إحدى عشرة ركعة -كما سيأتي في دليل الإجماع- ولم يفهموا أن فعله يدل على عدم جواز الزيادة.
- ومهما يكن فإن إعمال الأدلة كلها ممكن بحمل فعله على الأولى
(1)
انظر: "المطلق والمقيد" للصاعدي ص (483)، كالأمر في قوله تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .
(2)
المرجع السابق.
(3)
"عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (56 - 59).
والأفضل دون المنع من الزيادة؛ لضعف دلالتي الفعل والمفهوم عن معارضة المنطوق من الأقوال الكثيرة التي فيها بيان للأمة جميعاً، خاصة وأن الفعل ورد بصفات مختلفة صحيحة.
- أما قوله صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلّي»
(1)
، فدلالته على عدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة مبني على مقدمة: وهي أنه لم يزد على إحدى عشرة ركعة، ويلزم منه وجوب المتابعة في الصفة والطول «فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» كالمتابعة في العدد ولم يقل به أحد، ثم إن منع الزيادة أخذت من المفهوم وهو منع الزيادة على الركعات التي صلاها صلى الله عليه وسلم في الليل وفي النهار، وهو معارض بالمنطوق «عليك بكثرة السجود لله»
(2)
(3)
والمنطوق أقوى.
- والحديث (ليس على عمومه حتى عند هؤلاء، ولهذا لا يوجبون على الإنسان أن يوتر مرة بخمس، ومرة بسبع، ومرة بتسع، ولو أخذنا بالعموم لقلنا: يجب أن توتر مرة بخمس، ومرة بسبع، ومرة بتسع سردا، وإنما المراد: «صلوا كلما رأيتموني أصلي» في الكيفية، أما في العدد فلا، إلا ما ثبت النص بتحديده)
(4)
.
- أما القياس على منع الزيادة في الصلوات المفروضة وسنة الفجر
(1)
أخرجه البخاري (631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (488) من حديث ثوبان مولى سول الله صلى الله عليه وسلم وأبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، قال النووي في شرح مسلم (4/ 206):(والمراد به السجود في الصلاة)، واختلف العلماء في مشروعية السجود المجرد لله في غير الصلاة والتلاوة والشكر، وممن ذهب إلى مشروعيته أخذاً من هذا الحديث ونحوه الشوكاني في بحث له مختصر موجود في فتاويه (5/ 2637).
(4)
الشرح الممتع (4/ 53).
ونحوهما، فهو قياس ممنوع في الأصل لأنه في العبادات، وعلى فرض التسليم به فهو قياس مع الفارق؛ فكيف يقاس ما أجمعت الأمة على عدم جواز الزيادة فيه، بقيام الليل الذي أجمع العلماء أنه لاحد لعدد ركعاته؟! فهو قياس بعيد، والفارق فيه أقوى من الجامع.
- ويمكن الإلزام بهذا القياس بالمنع من صيام يوم وإفطار يوم مثلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، مع أنه أحب الصيام إلى الله، وهو نفس الحديث الذي فيه:«أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه» ، والله أعلم.
3/ الدليل الثالث هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء:
1.
قال ابن عبدالبر (ت 463): (أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيء مقدراً في صلاة الليل، وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود)
(1)
، وقال:(لا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر فمن شاء استقل ومن شاء استكثر)
(2)
.
2.
ونقل أبو الحسن بن القطان من الاستذكار قوله: (وأجمعوا أنه لا حد في صلاة الليل، وأنها نافلة، فمن شاء صلى كيف شاء، استقل أو استكثر)
(3)
.
(1)
الاستذكار (2/ 102).
(2)
التمهيد (21/ 70).
(3)
الإقناع (1/ 174)، وأقرب نص إليه في الاستذكار (2/ 92):(واحتج العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر)، والظاهر أن (احتج) مصحفة من (أجمع).
3.
وقال القاضي عياض (ت 544): (ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدٌّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كلما زيد فيها زيد في الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه)
(1)
، ونقله عنه غير واحد كالنووي، وابن العطار، وابن الملقن، والعراقي، وغيرهم
(2)
.
4.
وقال أبوزرعة العراقي (ت 826): (مشروعية الصلاة بالليل، وقد اتفق العلماء على أنه ليس له حد محصور)
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأنه (لو ثبتت الزيادة على الإحدى عشرة ركعة في صلاة القيام عن أحد من الخلفاء الراشدين أو غيرهم من فقهاء الصحابة لما وسعنا إلا القول بجوازها .. ولكن لما لم يثبت ذلك عنهم على ما سلف ببيانه لم نستجز القول بالزيادة وسلفنا في ذلك أئمة فحول في مقدمتهم الإمام مالك في أحد القولين عنه.
- فقال السيوطي
…
: (وقال الجوري - من أصحابنا - عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال: نعم وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير؟)
(1)
إكمال المعلم (3/ 82).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (6/ 19)، العدة في شرح العمدة لابن العطار (2/ 640)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 545)، طرح التثريب (3/ 50).
(3)
طرح التثريب (3/ 50)، وقد جزمت بأنه الابن؛ لأنه جاء في شرح الحديث الذي فيه مسألتنا قوله (3/ 52):(قال والدي رحمه الله).
- وقال الإمام ابن العربي في "شرح الترمذي" بعد أن أشار إلى الروايات المتعارضة عن عمر، وإلى القول أنه ليس في قدر ركعات التراويح حد محدود: (والصحيح: أن يصلي إحدى عشرة ركعة: صلاة النبي عليه السلام وقيامه، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له ولا حد فيه، فإذا لم يكن بد من الحدّ فما كان النبي عليه السلام يصلي، ما زاد النبي عليه السلام في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وهذه الصلاة هي قيام الليل فوجب أن يقتدى فيها بالنبي عليه السلام
- ولهذا صرح الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في "سبل السلام" أن عدد العشرين في التراويح بدعة)
(1)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمور:
- أما ما ذكره عن الإمام مالك وابن العربي والصنعاني وأنهم سلفه في المسألة، فهذا خطأ يبينه الآتي:
- أما الإمام مالك فإن ابن القاسم ينقل عنه مباشرة كما في المدونة: (قال مالك: بعث إلي الأمير وأراد أن ينقص من قيام رمضان الذي كان يقومه الناس بالمدينة، قال ابن القاسم: وهو تسعة وثلاثون ركعة بالوتر ست وثلاثون ركعة والوتر ثلاث، قال مالك: فنهيته أن ينقص من ذلك شيئا، وقلت له: هذا ما أدركت الناس عليه وهذا الأمر القديم الذي لم تزل الناس عليه)
(2)
.
- وهذه التسعة والثلاثون ركعة نقلها عن مالك أيضاً ابن عبد البر،
(1)
انتهى كلام الألباني من صلاة التراويح ص (90 - 92)، ونقله عن مالك من الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/ 417)، ونقله عن ابن العربي من عارضة الأحوذي (4/ 19)، ونقله عن الصنعاني من سبل السلام (1/ 345).
(2)
المدونة (1/ 287).
وابن رشد الجد والحفيد وغيرهم، وهو الذي اعتمده خليل في مختصره حين قال:(تجزئ ثلاث وعشرون، ثم جعلت ستاً وثلاثين)
(1)
بغير الشفع والوتر كما قال الدردير
(2)
.
- هذا هو المشهور عن الإمام مالك الذي ينقله عنه أصحابه، فأين هذا من نقل ينقله عنه الجُوْري الشافعي
(3)
، ثم لا نجد هذا النقل عند المالكية، بل يخالف المشهور عن مالك، والجوري لم يلق مالكاً بل بينهما مفاوز.
- وعلى التسليم به فليس فيه الإلزام بالإحدى عشرة ركعة، ولذلك قال مالك عن الإحدى عشرة ركعة: (أحب إلي
…
وثلاث عشرة قريب) فلم يمنع الزيادة، فالفهم بأن الإمام مالك سلف لمن يقول: لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، فيه تمسك بالمتشابه ورد للمحكم، وأخذ للضعيف و ترك للصحيح عن الأئمة.
- فليس عن مالك إلزام بعدد، ولذلك لم يفهم المالكية الإلزام بالتسع
(1)
مختصر خليل ص (39).
(2)
الشرح الكبير (1/ 315)، فتكون على هذا التأويل موافقة لما نقله ابن القاسم وغيره أنها تسعة وثلاثون ركعة، وعندي احتمال أن قوله:(ستاً وثلاثين) فيها تصحيف، والصواب:(تسعاً وثلاثين) وبرهان ذلك: أن هذا هو الذي اعتمده أكثر الشروح كالتاج والإكليل، ومواهب الجليل، والخرشي، كلهم شرحوا لفظة:(تسعاً وثلاثين)، ثم إن خليل له شرح على مختصر ابن الحاجب اسمه التوضيح قال فيه (2/ 98):(وهي ثلاث وعشرون ركعة بالوتر، ثم جعلت تسعاً وثلاثين)، وذكر عن مالك ثلاث روايات: ثلاث وعشرون، وتسع وثلاثون، وإحدى عشرة ركعة.
(3)
على بن الحسن القاضي الجوري، من أجلاء الشافعية أصحاب الوجوه، لقي أبابكر النيسابوري، وله تصانيف، ولم يؤرخ لوفاته، ولكن ذكره ابن قاضي شهبة في الطبقة الخامسة ممن وفاتهم بعد سنة (340) هـ كما في طبقات الشافعية (1/ 130)، وانظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 457).
والثلاثين، فتجد خليل يقول:(استمر العمل شرقاً وغرباً في زماننا على الثلاثة والعشرين)
(1)
، وتجد الخرشي يقول:(الذي صار عليه عمل الناس واستمر إلى زماننا في سائر الأمصار هو ما جمع عمر بن الخطاب عليه الناس، وهو ثلاث وعشرون بالشفع والوتر)
(2)
.
- وأما ابن العربي المالكي، فكلامه المنقول فيه تصريح بأنها ليس لها حد: (ولا حد فيه، فإذا لم يكن بد من الحد
…
)، وكلامه الباقي يُحمل على الأفضل، وفيما لم ينقله الشيخ ماهو أصرح حيث قال ابن العربي:(وليس في قدر ركعتها حد محدود)
(3)
،، فكيف يكون ابن العربي سلف لمن لا يجوّز الزيادة على إحدى عشرة ركعة؟!
- فإن كان في كلامه السابق إشكال و احتمال، فله كلام في غير هذا الكتاب يؤيد أنه لايمنع من الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ومن ذلك قوله في تفسيره:(ولا في قيام الليل ركعات مقدرة)
(4)
، وقال في شرح الموطأ:(ليس لصلاة رمضان ولا لغيرها تقدير، إنما التقدير للفرائض، وإنما هو قيام الليل كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع، أو بعضه، على قدر ما تنتهي إليه قدرته)
(5)
.
(1)
التوضيح (2/ 98).
(2)
شرح مختصر خليل (2/ 9)، جاء في مدونة الفقه المالكي (1/ 746):(ورجحها المتأخرون من المالكية، قال الدردير: وعليها العمل سلفاً وخلفاً).
(3)
عارضة الأحوذي (4/ 19).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 125).
(5)
المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 478)، وقد استوقفني بعد ذلك مقطع لم يتبين لي معناه الدقيق، لكن مجمله يدل على تخيير مع تفضيل للعدد الذي صلّاه النبي صلى الله عليه وسلم في القيام، وسأسوق المقطع كما هو من المسالك ثم من القبس -وكلا الشرحين لابن العربي على الموطأ لكن المسالك أوسع من القبس-؛ لأن العبارتين في المقطع واحدة فيما يظهر ولكن السقط أو التصحيف فيهما ظاهر، قال في المسالك (2/ 478):(ومن الناس من يصلي في القيام تسعاً وثلاثين ركعة، يختص الإمام باثني عشرة ركعة، والقدير: اثنا عشر ركعة، أو سبع عشرة ركعة، حسبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، وحسب عدد ركعات الصلوات في الفريضة في العدد الآخر منها، فأما غير ذلك من الأعداد فلا يتحصل في تقدير، ولا ينتظم بدليل، والله أعلم)، وقال في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (1/ 284):(ومن الناس من يصلّي في القيام تسعا وثلاثين ركعة يختص الإِمام منها باثني عشرة ركعة، والتقدير الشرعي ثلاث كعدد الوتر، أو إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو خمس عشرة ركعة، عدد ركعات الصلوات الفرضية في العدد الآخر منها، فأما غير ذلك من الأعداد فلا يحصل في تقدير ولا ينتظم بدليل، والله أعلم).
- أما الصنعاني، فهو متأخر وكلامه لا يفيد شيئاً في تقوية الكلام المخالف للإجماع، ومع ذلك فإنه غير موافق لرأي الألباني، ولا يلزم من تبديعه للعشرين ركعة تحريمه للزيادة على إحدى عشرة ركعة، وعلى كلامه بعض الإشارات التي فيها تعقب:
- فإنه ذكر الروايات التي فيها الصلاة بما يزيد عن عشرين ركعة المرفوعة فضعّفها، وذكر الموقوفة فلم يضعّفها، ولكنه قال: (إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين رواية مرفوعة
…
فعرفت من هذا كله أن صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة)
(1)
، فهو أصلاً يبدع الكيفية التي جمع عمر عليها الناس، فإن استُغرب ذلك فهذه نصوصه:
- قال: (صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة، نعم قيام رمضان سنة بلا خلاف، والجماعة في نافلته لا تنكر وقد ائتم ابن عباس رضي الله عنه وغيره به صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل لكن جعل هذه الكيفية، والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول إنه بدعة، وهذا عمر رضي الله عنه خرج أولاً والناس أوزاع متفرقون منهم
(1)
سبل السلام (1/ 345).
من يصلي منفرداً، ومنهم من يصلي جماعة على ما كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وخير الأمور ما كان على عهده)
(1)
، وقال: (وأما حديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»
…
ومثله حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
…
فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أن ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر رضي الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمى ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل إنها سنة فتأمل، على أن الصحابة رضي الله عنه خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل فدل إنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة)
(2)
، وقال: (فأما الجماعة فإن عمر أول من جمعهم على إمام معين وقال: "إنها بدعة "
…
واعلم أنه يتعين حمل قوله بدعة على جمعه لهم على معين، وإلزامهم بذلك لا أنه أراد أن الجماعة بدعة فإنه صلى الله عليه وسلم قد جمع بهم كما عرفت، إذا عرفت هذا عرفت أن عمر هو الذي جعلها جماعة على معين وسماها بدعة وأما قوله:"نعم البدعة" فليس في البدعة ما يمدح بل كل بدعة ضلالة)
(3)
!!، وقال:(وأما التراويح على ما اعتيد الآن فلم تقع في عصره صلى الله عليه وسلم إنما كان ابتدعها عمر في خلافته، وأمر أبياً أن يجمع الناس)
(4)
.
(1)
المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق (1/ 345 - 346).
(3)
المرجع السابق (1/ 344)، الرد على الفاروق عمر رضي الله عنه بهذه السطحية غير جيد أبداً وهي سقطة غفر الله للشيخ.
(4)
المرجع السابق (1/ 593).
- فظاهر كلامه هو تبديع فعل عمر رضي الله عنه، وأن فعله بدعة ضلالة؛ لأنه ليس في البدع ما يُمدح، وهذه جرأة لا يوافق عليها بل ترد عليه
(1)
، ولا يقول بها الألباني قطعاً.
- ومن مجموع كلام الصنعاني فإنه يبدع مجموع أمور: الكيفية وهي جمعهم على إمام واحد، والكمية بجعلها عشرين ركعة أو أقل أو أكثر، والمحافظة عليهما، أما لو صلوا جماعة دون محافظة، أو صلى بعشرين ركعة دون محافظة فليست بدعة عنده؛ وهذا ظاهر كلامه حين قال:(جعل هذه الكيفية، والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول إنه بدعة)
(2)
، وقد اقتصر الألباني من كلامه على الكمية فقط، فلو زاد عن إحدى عشرة ركعة ولو مرة واحدة فقد خالف الواجب وعرض نفسه للبدعة!.
- ثم إن الصنعاني يصرّح بجواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، حين قال:(فهذا مجموع الثلاث عشرة وهذا أحد أعداد وتره، وقد ذكرت له أعداد أخر وهذا أكثر الأعداد في الوتر)
(3)
، وقال عن اختلاف الروايات في صلاته صلى الله عليه وسلم وإخبار عائشة باقتصاره على إحدى عشرة ركعة: (الروايات محمولة على أوقات متعددة وأوقات
(1)
فعل عمر رضي الله عنه كان بمحضر من جمع من الصحابة، ولم يُنكروا عليه، ولا يشوّش على ذلك تسميتها بدعة، بل هذا كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ، وكقول ابن عمر رضي الله عنهما عن صلاة الضحى كما (في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عمر إنه سئل عنها؟ فقال:"بدعة ونعمت البدعة"، وأنه كان لا يصليها، وإذا رآهم يصلونها قال:"ما أحسن ما أحدثوا سبحتهم هذه"، وإذا كان كذلك فقد حصل الإجماع على استحبابها، وإنما اختلفوا في أنها مأخوذة من سنة مخصوصة، أو من عمومات استحباب الصلاة) طرح التثريب (3/ 65)، وليس هذا محل بسط الرد وإنما هي إشارات، وينظر: مجموع رسائل المعلمي (16/ 398 - 401).
(2)
سبل السلام (1/ 345).
(3)
التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 582).
مختلفة
…
والأحسن أن يقال: إنها أخبرت عن الأغلب من فعله صلى الله عليه وسلم فلا ينافيه ما خالفه؛ لأنه إخبار عن النادر)
(1)
.
- والحق أن الصنعاني يرى أن أكثر ما ورد هو ثلاث عشرة ركعة فقال: (وهكذا كان فعله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة)
(2)
، ولايرى الزيادة عنها إلا إن قام إجماع على الجواز، فقال:(لا يجوز الزيادة على ما انتهى إليه العدد الذي أتى به -؛ لأنه لم يعارضه فعل يدل على خلافه، وحينئذ فلا تجوز الزيادة إلا أن يقوم إجماع على جوازها)
(3)
، وقد قام الإجماع على جواز الزيادة، فصار قوله كقول جميع العلماء.
- وبعد أن تبين أنه لا سلف له ولا مخالف للإجماع قبله وهذا الأهم، أختم هذا الجواب بما ابتدأه الألباني حين قال:(لو ثبتت الزيادة على الإحدى عشرة ركعة في صلاة القيام عن أحد من الخلفاء الراشدين، أو غيرهم من فقهاء الصحابة لما وسعنا إلا القول بجوازها) وهذه مناقشة له على وجه الاختصار، والاقتصار على ما صحّ:
- عن ابن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: (كانوا يقومون على عهد عمر في شهر رمضان بعشرين ركعة، وإن كانوا ليقرؤون بالمئين من القرآن)
(4)
إسناده صحيح، وقد ضعّفه الألباني (ولا نعلم أن أحداً
(1)
سبل السلام (1/ 349).
(2)
التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 570).
(3)
حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام (3/ 63).
(4)
أخرجه ابن الجعد في مسنده (2825)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4288)، من طريق ابن أبي ذئب، عن يزيد بن خصيفة عن السائب به، وإسناده صحيح، ويزيد وثقه الجمهور وهو من رجال الشيخين، واختلف فيه قول أحمد فوثقه في رواية، وقال في أخرى: منكر الحديث، قال ابن حجر في الفتح (1/ 453):(هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث عرف ذلك بالاستقراء من حاله وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم)، ولهذا الأثر شواهد صحيحة لكنها مرسلة، قال إسماعيل الأنصاري في رسالته "تصحيح حديث صلاة التراويح عشرين ركعة" ص (14):(ومن المعلوم أن حديث التراويح لم يغلط فيه يزيد بن خصيفة، ولم يتفرد به).
من أئمة أهل العلم من المتقدمين قد ضعّفه)
(1)
.
- قال ابن تيمية: (ثبت أن أبيّ بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث، فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر)
(2)
، قال الترمذي: (وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر، وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة
…
وقال الشافعي: وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة)
(3)
، وقال ابن عبدالبر: (وهو قول جمهور العلماء
…
وأكثر الفقهاء وهو الصحيح عن أبي بن كعب من غير خلاف من الصحابة)
(4)
، و (الحديث إذا تُلقّي معناه بالقبول كما تُلقي معنى حديث ابن خصيفة به، لا يحتاج إلى تتبع أسانيده فإن التلقي من أرقى صفات القبول)
(5)
.
- وقال عطاء بن أبي رباح (ت 114): (أدركت الناس وهم يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة بالوتر)
(6)
، وهو تابعي جليل لقي وروى عن جمع
(1)
قاله شعيب الأرنؤوط و زهير الشاويش في تحقيقهما لشرح السنة (4/ 121).
(2)
مجموع الفتاوى (23/ 112).
(3)
جامع الترمذي (3/ 161)، وقال ابن قدامة في المغني (2/ 123):(وهذا كالإجماع).
(4)
الاستذكار (2/ 70).
(5)
"تصحيح حديث صلاة التراويح عشرين ركعة" ص (11).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (7688) من طريق عبدالله بن نمير عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح به، وإسناده لابأس به رجاله رجال مسلم، وأخرجه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان (49) قال: حدثنا شجاع بن مخلد، قال: ثنا هشيم، قال: أنبا عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح، قال:(كانوا يصلون في شهر رمضان عشرين ركعة، والوتر ثلاثاً).
كبير من الصحابة، وقد قال:(أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد)
(1)
، يعني: المسجد الحرام.
- وقال تلميذه يونس بن عبيد (ت 139): (شهدت الناس قبل وقعة ابن الأشعث وهم في شهر رمضان، فكان يؤمهم عبد الرحمن بن أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعيد بن أبي الحسن، ومروان العبدي، فكانوا يصلون بهم عشرين ركعة)
(2)
، وفتنة ابن الأشعث سنة (81)
(3)
.
- وقال أبو الخصيب نفاعة بن مسلم: (كان سويد بن غفلة يؤمنا في رمضان عشرين ركعة)
(4)
، وسويد بن غفلة من كبار التابعين توفي سنة (80).
- وقال سعيد بن عبيد: (أن علي بن ربيعة كان يصلي بهم في رمضان خمس ترويحات، ويوتر بثلاث)
(5)
، وعلي بن ربيعة من التابعين مات (في حدود المائة للهجرة)
(6)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في الثقات (6/ 265)، والبيهقي في الكبرى (2455) وغيرهما.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان (50) من طريق شجاع بن مخلد قال: ثنا هشيم، أنا يونس بن عبيد به، وإسناده جيد، وقد تابع شجاعاً سريج بن يونس عن هشيم عن يونس كما في تاريخ دمشق (36/ 13).
(3)
انظر: البداية والنهاية (12/ 305).
(4)
ذكره البخاري في الكنى الملحق بالتاريخ الكبير (9/ 28) قال: قال يحيى بن موسى قال: نا جعفر بن عون سمع أبا الخضيب الجعفي به، والإسناد جيد ويحيى بن موسى من شيوخ البخاري، وأخرجه البيهقي في الكبرى (2490) من طريق محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ أبو الخصيب قال:(كان يؤمنا سويد بن غفلة في رمضان فيصلي خمس ترويحات عشرين ركعة).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (7690) قال: حدثنا الفضل بن دكين، عن سعيد به، والترويحة الواحدة أربع ركعات كما سبق.
(6)
الوافي بالوفيات (21/ 37).
- وقال نافع بن عمر: (كان ابن أبي مليكة يصلي بنا في رمضان عشرين ركعة)
(1)
، وابن أبي مليكة من التابعين توفي سنة (117).
- وقال داود بن قيس: (أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث)
(2)
، وكانت ولاية أبان على المدينة سنة (75) ثم عُزل سنة (82)
(3)
، وولاية عمر بن عبدالعزيز على المدينة كانت سنة (87) ثم عُزل سنة (93)
(4)
، ثم بويع له بالخلافة سنة (99)
(5)
.
- ومن الكلمات الجامعة للمرويات هنا ما قاله ابن بطال: (عمر جعل الناس يقومون في أول أمره بإحدى عشرة ركعة، كما فعل النبي عليه السلام وكانوا يقرؤون بالمئين ويطولون القراءة، ثم زاد عمر بعد ذلك فجعلها ثلاثًا وعشرين ركعة
…
وبهذا قال الثوري، والكوفيون، والشافعي
(6)
، وأحمد، فكان الأمر على ذلك إلى زمن معاوية، فشق على الناس طول القيام لطول القراءة، فخففوا القراءة وكثروا من الركوع، وكانوا يصلون تسعًا وثلاثين ركعة، فالوتر منها ثلاث ركعات، فاستقر الأمر على ذلك وتواطأ عليه الناس، وبهذا قال مالك، فليس ما جاء من اختلاف أحاديث قيام رمضان يتناقض، وإنما ذلك في زمان بعد زمان، والله الموفق)
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (7683) قال: حدثنا وكيع عن نافع به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7689) من طريق عبدالرحمن بن مهدي عن داود بن قيس به.
(3)
انظر: البداية والنهاية (12/ 324).
(4)
انظر: المرجع السابق (12/ 405)، (12/ 445).
(5)
انظر: المرجع السابق (12/ 657).
(6)
قال الشافعي في الأم (1/ 167): (رأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وأحب إلي عشرون؛ لأنه روي عن عمر).
(7)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 148 - 149).
- قال ابن تيمية: (اضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين، والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه، وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره).
- و بعد: فهذا بعض الوارد عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وفيه إطباق على الجواز، ولم يرد عن أحد منهم إنكار للزيادة على إحدى عشرة ركعة، والله أعلم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ ماجاء في الصحيحين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً»
(1)
.
وجه الاستدلال:
- أن (اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الإحدى عشرة ركعة دليل على عدم جواز الزيادة عليها
…
بالنص الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (3569)، ومسلم (738).
(2)
صلاة التراويح ص (25).
- فهي (صلاة مقيدة بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فلا يجوز تعطيل هذا القيد تمسكاً بالمطلقات)
(1)
.
- والمخرج من الخلاف هو: (التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم وليست هي هنا إلا الإحدى عشرة ركعة فوجب الأخذ بها، وترك ما يخالفها ولا سيما أن سنة الخلفاء الراشدين قد وافقتها، ونحن نرى أن الزيادة عليها مخالفة لها؛ لأن الأمر في العبادات على التوقيف والاتباع لا على التحسين العقلي والابتداع)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- بعدم التسليم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى أكثر من إحدى عشرة ركعة من ذلك:
- حديث عائشة -راوية الحديث المستدل به على المنع-: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين»
(3)
.
- فيُتأول خبرها بالأغلب و نحوها من التأويلات ولا يُبعد بها إلى المنع من الزيادة، فإن تُكلف بتأويل هذا الخبر بأن من الثلاث عشرة ركعة سنة العشاء، فما يُقال في:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة» يعني: بالليل
(4)
، وفي قصته في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يبعد أن تكون منها سنة العشاء أو سنة الفجر حيث كانت بعد قيام وقبل
(1)
المرجع السابق ص (37).
(2)
المرجع السابق ص (88).
(3)
أخرجه البخاري (1170).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1138)، ومسلم (764)، واللفظ للبخاري.
الأذان للفجر، يقول:
(1)
.
- وحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، «فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة»
(2)
.
- وعلى فرض التسليم؛ فإنه يمكن حمل هذه الإحدى عشرة ركعة على الوتر فقط، ويدل لذلك: أن سعد بن هشام بن عامر أتى ابن عباس، فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة، فأتها، فاسألها، ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها
…
قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763).
(2)
أخرجه مسلم (765).
…
قال: فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها، فقال: صدقت
…
)
(1)
.
- و مما يؤيد المعنى: ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أيضاً، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين»
(3)
، وفيهما زيادة على الإحدى عشرة ركعة من فعله وقوله صلى الله عليه وسلم
(4)
، وتأويل هاتين الركعتين بسنة العشاء فيه بُعد
(5)
.
- أما جعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقلته عائشة نصّاً في المسألة فهو خطأ، وقد تكرر من الشيخ ذلك حين قال: (عدم جواز الزيادة عليها
…
بالنص الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6)
، (صلاة مقيدة
(1)
أخرجه مسلم (746)، وفي هذا الحديث معاني أخرى منها: أن الصفة التي ذكرتها ليس بلازمة فهذه الإحدى عشرة ركعة منها ركعتان بعد الوتر، فكذلك العدد ليس بلازم.
(2)
أخرجه مسلم (767).
(3)
أخرجه مسلم (768)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: "حكم التراويح" للهاشم ص (33).
(5)
كما ذهب إلى ذلك الألباني. انظر: صلاة التراويح ص (20) و (101).
(6)
صلاة التراويح ص (25).
بنص عن رسول الله)
(1)
، (إفادة هذا النص أنه لا يجوز الزيادة عليه)
(2)
، (فلا يجوز أن يرد النص بسبب الخلاف، بل الواجب أن يزال الخلاف بالرجوع إلى النص)
(3)
، وقال عن السبب الأقوى عنده في اختلاف العلماء في عدد ركعات قيام الليل:(عدم الاطلاع على النص الوارد في العدد)
(4)
!، والنص من أوصاف الأقوال وليس من أوصاف الأفعال، وقد جعل الشيخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم نصّاً
(5)
.
- والنص يحتمل معانٍ منها: ما يقابل المعقول، وحكاية اللفظ على صورته، وما يقابل الظاهر والمجمل وهذا هو مقصود الأصوليين
(6)
، قال ابن قدامة: (الكلام المفيد ينقسم ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومجمل
…
النص: وهو: ما يفيد بنفسه من غير احتمال)
(7)
، فالصريح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً هو النص، ويظهر من تصرف الشيخ بتأويله لكل ما خالف عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، يظهر أنه يريد هذا المعنى للنص وقد ظهر ضعفه؛ لأن النصية صفة للكلام وليس للأفعال، ولأن المعنى يحتمل أنها أرادت به غالب الحال فلم يكن صريحاً في المنع، بدليل ورود الزيادة عن إحدى عشرة ركعة عنها وعن غيرها.
- وعدم العلم منها بالزيادة التي نقلها غيرها-لو افترض أنها لم تنقلها أيضاً- ليس علماً بالعدم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ،
(1)
المرجع السابق ص (37).
(2)
المرجع السابق ص (28).
(3)
المرجع السابق ص (32).
(4)
المرجع السابق (40).
(5)
انظر: "عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (62).
(6)
انظر: البحر المحيط (2/ 204).
(7)
روضة الناظر (1/ 506).
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلته هنا غاية ما يدل عليه هو أفضلية هذا العدد لا لزومه، وهذه الأفضلية لمن وافقه صلى الله عليه وسلم في الصفة والطول والحسن كما وافقه في العدد.
- أما المنع من الزيادة فهو مأخوذ من مفهوم الفعل هنا، و هو معارض بالمنطوق الذي فيه الحث على قيام الليل وقيام رمضان دون تقييد، ويمكن الجمع بينهما، أما جعل الفعل هنا مقيد للقول فهو ممتنع كما سبق بيانه ومناقشته في أدلة القول الأول.
- وبمثل هذا التقييد الضعيف يمكن أن يقال أيضاً: بتقييد الحج بمرة واحدة، وتقييد العمرة بأربع عُمَر، وتقييد الاستغفار بسبعين أو مائة مرة
…
الخ، لفعله صلى الله عليه وسلم ولأن العبادات توقيفية فلا يزاد عليها!
(1)
.
- وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة»
(2)
، وهذا الحديث قال عنه الألباني:(إسناده صحيح على شرط مسلم)
(3)
، وهو يجوّز النقص عن السبع في الوتر جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى، فلتكن الزيادة مثلها خاصة وأن هذا الحديث أيضاً فيه الزيادة عن الإحدى عشرة.
- وكما تأول الشيخ أيضاً حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان لا يدع
(1)
انظر: "عدد ركعات قيام الليل" للعدوي ص (30).
(2)
أخرجه أبوداود (1362) من طريق محمد بن سلمة المرادي حدثنا ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة
…
، ورجاله رجال مسلم وهم ثقات إلا معاوية بن صالح فصدوق له أوهام قال عنه ابن عدي في الكامل (8/ 146):(وما أرى بحديثه بأساً، وهو عندي صدوق إلا أنه يقع في أحاديثه إفرادات).
(3)
صحيح أبي داود (5/ 105)، وقال في رسالة التراويح ص (97): (رواه أبوداود
…
والطحاوي
…
وأحمد
…
بسند جيد).
أربعاً قبل الظهر»
(1)
، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين قبل الظهر، قال الشيخ:(والجمع بينهما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواظب على الأربع فهي مستحبة، وركعتان منهما هما السنة)
(2)
، فقولها:(لا يدع) في قوة قولها: (لا يزيد)، وأمكن تأويلها.
- وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «ما سبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط»
(3)
، فتأمل في قوّة هذا النفي ومع ذلك، فسبحة الضحى سنة ومشروعة عند الشيخ وغيره اعتماداً على حثه بلفظه على سنة الضحى، ولم يُعارض ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم.
- ثم إن الركعات الإحدى عشرة التي تحكيها عائشة كانت في بيته، أما صلاته بالناس فـ (لم ينقل كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليالي)
(4)
، و (الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر العدد)
(5)
، قال ابن حجر: (ولم أر في شيء من طرقه
(6)
بيان عدد صلاته في تلك الليالي)
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (1182)، وأخرج مسلم (730):«كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً» .
(2)
صلاة التراويح ص (32) والعجيب أن الشيخ هنا مع قوة قول عائشة: «لايدع» جعل السنة هي الركعتان أما الأربع فهي مستحبة، ورتبة الاستحباب أدنى، وقال:(لم يكن يواظب على الأربع) فأشعر بأن الأربع هي الأقل.
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1128) وهذا لفظه، ومسلم (718) ولفظه:«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط» .
(4)
الحاوي في الفتاوي (1/ 417).
(5)
المرجع السابق (1/ 416).
(6)
يعني حديث عائشة المتفق عليه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم
…
» الحديث.
(7)
فتح الباري (3/ 12)، ثم قال:(لكن روى بن خزيمة وبن حبان من حديث جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله .. الحديث. فإن كانت القصة واحدة احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة فلذلك اقتصر على وصف ليلتين).
2/ واستدل أيضاً بالقياس: على السنن الرواتب والاستسقاء والكسوف وغيرها من الصلوات، التي التزم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عدداً معيناً من الركعات و (كان هذا الالتزام دليلاً مسلماً عند العلماء على أنه لا يجوز الزيادة عليها، فكذلك صلاة التراويح لا يجوز الزيادة فيها على العدد المسنون لاشتراكها مع الصلوات المذكورات في التزامه صلى الله عليه وسلم عدداً معيناً فيها، لا يزيد عليه فمن ادعى الفرق فعليه الدليل ودون ذلك خرط القتاد)
(1)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
- بعدم التسليم بالتزام النبي صلى الله عليه وسلم عدداً معيناً في قيام الليل، وقد ذكر الشيخ ست كيفيات لصلاة الليل والوتر ثم قال:(يتلخّص من كل ما سبق أن الإيتار بأي نوع من هذه الأنواع المتقدمة جائز حسن)
(2)
، فأين الالتزام وقد تنوّعت الكيفيات؟!
- وعلى فرض التسليم بالالتزام، فالفرق بين المذكورات وقيام الليل ظاهر، والفرق الأول أذكره بنص الشيخ حين قال:(جواز القيام بأقل من ال (11)
…
جاء عنه صلى الله عليه وسلم جواز أقل من هذا العدد من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله)
(3)
، و لا يجوز في صلاة الاستسقاء أو الكسوف الصلاة بأقل مما ورد.
- وكيف يقاس ما أجمعت الأمة على عدم جواز الزيادة فيه، بقيام الليل الذي أجمع العلماء أنه لاحد لعدد ركعاته؟!، وكيف يقاس
(1)
صلاة التراويح ص (25 - 26).
(2)
صلاة التراويح ص (112).
(3)
المرجع السابق ص (96).
ما شرع في كل ليلة على ما شرع لسبب؟! وكيف يقاس ما شرع على صفات عديدة بما ليس له إلا صفة واحدة؟! فهو قياس بعيد -كما سبق-، الفارق فيه أقوى من الجامع.
- وبهذه الفروق يُعلم أن إيجاد الفرق بينهما أيسر من خرطك للقتاد بمراحل
(1)
، وسبيل ذلك: عدم الإحداث في فهم النص، و (مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به)
(2)
.
- (ثم من أين له الدليل على تحديد العلة المعتبرة في القياس، ولا يجوز أن يعتبر التوقيف في العبادات هو العلة؛ لاشتراكهما فيه بلا مزية، وكذا لا يجوز أن يجعل التزام النبي صلى الله عليه وسلم هو العلة؛ لأنه ليس من صفات الصلاة، ولم تشرع الصلاة من أجله، بل هو عدم فعل، والعدم ليس بشيء فلا يجوز أن يعتبر علة يدور الحكم عليه)
(3)
.
- ثم إن (نطاق القيَاس في العبادَات ضيق)
(4)
، لأن العلة فيها غير معقولة في الغالب، و (لا قياس في العبادات غير معقولة المعنى)
(5)
، (إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلاً عن كيفياتها)
(6)
.
(1)
في كتاب العين (4/ 215)(5/ 112): (الخَرْط: قشرك الورقَ عن الشجرة اجتذاباً بكفك)(والقَتاد: شجر له شوك)، قال المبرد في الكامل (1/ 260):("ومن دون ذلك خرط القتاد" فهذا مثل من أمثال العرب، القتاد: شجيرة شاكة غليظة أصول الشوك، فلذلك يضرب خرطه مثلاً في الأمر الشديد، لأنه غاية الجهد).
(2)
الموافقات (2/ 289)، وفي ذلك يقول ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (1/ 318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه).
(3)
"عدد صلاة التراويح" للصبيحي ص (49).
(4)
المحصول لابن العربي ص (95).
(5)
موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (8/ 903).
(6)
الموافقات (3/ 235).
- هذا كله تنزلاً للاستدلال، وإلا فالقياس هنا فاسد الاعتبار مخالف للكتاب وللسنة وللإجماع -وقد سبقت في أدلة القول الأول-؛ (لأن اعتبار القياس مع النص أو الإجماع; اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد وظلم؛ لأنه وضع له في غير موضعه)
(1)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته الإجماع الصحيح، ولم يثبت بعد البحث قول معتبر يصح أن تُخرم به الإجماعات المنقولة عن علماء الأمة، و لايُعرف من قرَّر هذا القول قبل الألباني؛ (وكفى خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده)
(2)
.
(وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة وقد روي ثلاث عشرة ركعة، وأجمع العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر)
(3)
، والله أعلم.
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 467).
(2)
هذه عبارة ابن جرير الطبري في تفسيره (8/ 721)، وهي ليست لهذه المسألة ولكنها مناسبة للسياق.
(3)
الاستذكار (2/ 98)، وقوله:(وأجمع) في المطبوع تصحفت إلى: (واحتجّ)، ويدل على التصحيف غير السياق أنه نقلها ابن القطان في الإقناع (1/ 174) بهذا اللفظ:(وأجمعوا أنه لا حد في صلاة الليل، وأنها نافلة، فمن شاء صلى كيف شاء، استقل أو استكثر)، وقدذكر نحو هذه العبارة قاصداً الإجماع في موضع آخر من الاستذكار (2/ 102)، وفي التمهيد (21/ 70)، وقد سبق نقلهما في البحث.
قيل لحذيفة رضي الله عنه: ما ميت الأحياء؟ قال: (من لم يعرف المعروف بقلبه، وينكر المنكر بقلبه).
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (37577)
المبحث الحادي عشر: صحة صلاة التطوّع من المضطجع القادر على القيام
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
يقول الإمام الشافعي: (من تعلّم علماً فليدقق فيه لئلا يضيع دقيق العلم).
أخرجه البيهقي في المدخل (416)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
التطوّع في اللغة: (ما تبرّعت به ممّا لا يلزمك فريضته)
(1)
، كما قال الله:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
(2)
، وكقوله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ}
(3)
، والتطوع في الاصطلاح:(اسم لما شرع زيادة على الفرض والواجبات)
(4)
.
أما الاضطجاع في اللغة: فهو افتعال من الضجوع
(5)
، وأصل تركيب الكلمة من الضاد والجيم والعين وهو (يدل على لصوق بالأرض على جنب)
(6)
، (واضطجع: نام وقيل: استلقى ووضع جنبه بالأرض)
(7)
، (وكل شيء خفضته فقد أضجعته)
(8)
.
والاضطجاع في الاصطلاح: (أن ينام واضعاً جنبه على الأرض)
(9)
، والاضطجاع في السجود: ألا يتجافى فيه؛ بحيث يتضامّ ويلصق صدره بالأرض
(10)
.
(1)
العين (2/ 210).
(2)
من الآية (158) من سورة البقرة، قال الطبري في تفسيره (2/ 728):(ومعنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه).
(3)
من الآية 79 من سورة التوبة، أي: يعيبون المتطوعين، المتنفلين، المتبرعين. انظر: الوجيز للواحدي ص (474).
(4)
التعريفات للجرجاني ص (61)، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص (99).
(5)
انظر: تهذيب اللغة (1/ 216)، لسان العرب (8/ 219).
(6)
مقاييس اللغة (3/ 390)، وقال:(يقال: ضجع ضجوعاً، والمرة الواحدة الضجعة، ويقال: اضطجع يضطجع اضطجاعاً، وضجيعك: الذي يضاجعك، وهو حسن الضجعة).
(7)
لسان العرب (8/ 219)
(8)
العين (1/ 212).
(9)
التعريفات الفقهية للمجددي ص (30).
(10)
انظر: المغرب ص (280)، وتهذيب اللغة (1/ 217)، والتعريفات الفقهية للمجددي ص (30).
(وإذا قالوا: صلى مضطجعاً فمعناه: أن يضطجع على أحد شقيه مستقبلاً القبلة)
(1)
بوجهه وهذا عند الشافعية والحنابلة
(2)
، (وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: إذا صلى مضطجعاً تكون رجلاه ما يلي القبلة مستقبل القبلة)
(3)
، (وقوم قالوا: يصلي كيفما تيسر له)
(4)
، قال أبو داود:(قلت لأبي عبد الله: كيف يصلي المريض على جنبه أو رجليه إلى القبلة؟ قال: كلٌّ أرجو أن يجزئه)
(5)
، قال ابن خزيمة:(باب صفة صلاة المضطجع خلاف ما يتوهمه العامة، إذ العامة إنما تأمر المصلي مضطجعاً أن يصلي مستلقياً على قفاه، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي مضطجعاً أن يصلي على جنب)
(6)
.
والمراد بما سبق نقله عن الفقهاء بيان معنى الاضطجاع عندهم، وإن كان سياق بعضها في المريض، وبعد أن تبين معناه فأنتقل إلى مسألتنا وهي:(صحة صلاة التطوّع من المضطجع القادر على القيام)، فخرج من ذلك الفريضة، و غير القادر على القيام.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
…
(أجمع العلماء على أن القيام في الصلاة المكتوبة فرض
(1)
الموسوعة الفقهية الكويتية (5/ 110).
(2)
انظر: المجموع (4/ 316)، المغني (2/ 108)، مع استحباب الجنب الأيمن عندهم، وكراهة الأيسر عند الشافعية.
(3)
الاستذكار (2/ 183)، قال الطحاوي:(قال أصحابنا: إذا صلى مضطجعاً تكون رجلاه مما يلي القبلة ووجهه مستقبل القبلة، وكذلك قال مالك). مختصر اختلاف العلماء (1/ 256 - 257).
(4)
بداية المجتهد (1/ 189).
(5)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني ص (75)، قال ابن قدامة في المغني (2/ 108): (وإن صلى على ظهره، مع إمكان الصلاة على جنبه، فظاهر كلام أحمد أنه يصح؛ لأنه نوع استقبال، ولهذا يوجه الميت عند الموت كذلك، والدليل يقتضي أن لا يصح؛ لأنه خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«فعلى جنب» .
(6)
صحيح ابن خزيمة (2/ 242).
واجب)
(1)
، و (وأجمعوا على أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلي جالساً)
(2)
، و (صلاة الفرض قاعداً أو مضطجعاً للعجز فإن ثوابها ثواب القائم بلا خلاف)
(3)
.
2.
و (يجوز فعل النافلة قاعداً مع القدرة على القيام بالإجماع
…
لكن ثوابها يكون نصف ثواب القائم
…
ولو صلى النافلة قاعداً أو مضطجعاً للعجز عن القيام والقعود فثوابه ثواب القيام بلا خلاف)
(4)
.
3.
…
(وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعاً)
(5)
، و (لا يعرف أن أحداً قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح)
(6)
، ونُسب للحسن البصري جواز التنفل للمضطجع القادر على القيام
(7)
، وهو الوجه الأصح عند الشافعية
(8)
، ووجه غير مشهور ومقابل للأصح أو الصحيح عند الحنفية
(9)
،
(1)
الاستذكار (2/ 172)، وانظر: الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 148)، قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص (26):(اتفقوا على أن القيام فيها فرض لمن لا علة به، ولا خوف، ولا يصلى خلف إمام جالس، ولا في سفينة) أي: لا يقدر على القيام فيها لاهتزازها، وهو يعني: أن الأربع صور مستثناة من الاتفاق على وجوب القيام في المكتوبة.
(2)
الإجماع لابن المنذر ص (42)، وانظر: الإقناع لابن القطان (1/ 169).
(3)
المجموع (3/ 276).
(4)
المجموع (3/ 275 - 276)، وانظر: الاستذكار (2/ 180)، المغني (2/ 105).
(5)
التمهيد (1/ 134).
(6)
مجموع الفتاوى (23/ 235).
(7)
انظر: جامع الترمذي (2/ 209)، ونقل لفظه وتحقيق ثبوته يأتي في مناقشة الإجماع -بإذن الله-.
(8)
انظر: المجموع (3/ 296)، قال النووي عن هذا الوجه:(وهو الصحيح)، وقال في المنهاج ص (25):(في الأصح).
(9)
قال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 461) عن الجواز: (ولا أعلمه في فقهنا)، علّق عليه ابن عابدين في حاشيته (2/ 36):(لكن ذكر في الإمداد أن في المعراج إشارة إلى أن في الجواز خلافاً عندنا كما عند الشافعية)، وفي درر الحكام (1/ 118):(ورأيت بخط شيخي عن شيخه ما صورته: حكى القاضي حسين فيه وجهين عن أصحابنا).
والمالكية
(1)
، الحنابلة
(2)
، و هو قول ابن حزم
(3)
، قال ابن القيم:(وهو خلاف قول الأئمة الأربعة مع كونه وجهاً في مذهب أحمد والشافعي)
(4)
، ورجح الجواز بعض المعاصرين، و قد حُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال القاضي في إكمال المعلم (3/ 77): (أما صلاته مضطجعاً في النفل ففي مذهبنا فيه ثلاثة وجوه)، وقال ابن الحاجب:(ولا يتنفل قادر على القعود مضطجعاً على الأصح)، وعلّق عليه خليل بقوله:(وحكى اللخمي في المسألة ثلاثة أقوال: أجاز ذلك ابن الجلاب للمريض خاصة، وهو ظاهر المدونة، وفي النوادر المنع وإن كان مريضاً، وأجازه الأبهري للصحيح، ومنشأ الخلاف القياس على الرخص). التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 365).
(2)
قال الزركشي في شرح مختصر الخرقي (2/ 67): (لا يباح التطوع مضطجعاً، وهو أحد الوجهين، حكاهما في التلخيص، وظاهر كلام الأصحاب
…
والثاني: يباح، وحسنه أبو البركات)، حين قال كما نقله عنه ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 86):(وهو قول الحسن البصري وهو مذهب حسن)، وقال المرداوي في الإنصاف (2/ 188) عن الوجه الأول وهو عدم الصحة:(وهو الصحيح من المذهب).
(3)
قال في المحلى (2/ 100): (وجائز للمرء أن يتطوع مضطجعاً بغير عذر إلى القبلة).
(4)
بدائع الفوائد (4/ 210).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
ابن عثيمين (ت 1421)
(1)
، والمباركفوري
(2)
(ت 1414)
(3)
، ومحمد بن علي الإثيوبي
(4)
،
(1)
انظر: الشرح الممتع (4/ 81) قال رحمه الله: (ورد في الحديث أن أجر صلاة المضطجع على النصف من أجر صلاة القاعد، لكن هذا الشطر من الحديث لم يأخذ به جمهور العلماء، ولم يروا صحة صلاة المضطجع إلا إذا كان معذوراً، وذهب بعض العلماء: إلى الأخذ بالحديث. وقالوا: يجوز أن يتنفل وهو مضطجع، لكن أجره على النصف من أجر صلاة القاعد، فيكون على الربع من أجر صلاة القائم، وهذا قول قوي؛ لأن الحديث في «صحيح البخاري»، ولأن فيه تنشيطاً على صلاة النفل؛ لأن الإنسان أحياناً يكون كسلاناً وهو قادر على أن يصلي قاعداً؛ لكن معه شيء من الكسل؛ فيحب أن يصلي وهو مضطجع، فمن أجل أن ننشطه على العمل الصالح نفلا نقول: صل مضطجعا، وليس لك إلا ربع صلاة القائم، ونصف صلاة القاعد، ولهذا رخص العلماء في صلاة النفل أن يشرب الماء اليسير من أجل تسهيل التطوع عليه، والتطوع أوسع من الفرض).
(2)
عبيد الله بن عبد السلام الرحماني المباركفوري، تلقى علومه في الهند، وتخرج من المدرسة الرحمانية في دلهي وعُيِّن مدرساً فيها، ومن شيوخه عبدالرحمن المباركفوري (ت 1353) صاحب "تحفة الأحوذي" وقد ساعد شيخه في هذا الشرح في الجزءين الأخيرين منه بعد أن كف بصر شيخه، ومن تلاميذه صفي الرحمن المباركفوري (ت 1427) مؤلف "الرحيق المختوم"، ومن مؤلفاته:"مرعاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح"، توفي سنة (1414) هـ. انظر: مرعاة المفاتيح (1/ 372 - 373)، تكملة معجم المؤلفين ص (368).
(3)
قال في مرعاة المفاتيح (4/ 251): (الراجح أنه يجوز صلاة التطوع مضطجعاً مع القدرة على القيام أو القعود).
(4)
قال في شرحه على النسائي "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى"(13/ 398 - 399): (ما قاله الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، ومن تبعه أرجح عندي؛ لصحة حديث الباب، وما تقدم للخطابي من احتمال الإدراج فغير صحيح؛ لعدم استناده إلى حجة. وأما ما قاله السنديّ، من أن العلماء عَدُّوه بدعةً، وحدثا في الإسلام، فكلام لم يعتمد على تأمّل الحديث، وأقوال أهل العلم فيه، فكيف يكون بدعة، وقد صحّ الحديث فيه، وقال به جماعة من أهل العلم الذين تقدّم ذكرهم، إن هذا من العَجَب العُجَاب!. واللَّه تعالى أعلم).
- والأثيوبي من المعاصرين قال عنه وعن شرحه على النسائي د. عبدالكريم الخضير -كما في موقعه الرسمي على الشبكة-: (مؤلفه محمد بن الشيخ علي بن آدم بن موسى الأثيوبي الولوي، وهو معاصر وموجود الآن مدرس في دار الحديث الخيرية في مكة
…
الكتاب جمّ الفوائد، وإن كان جلّ هذه الفوائد منقول من الشروح، سواء كانت شروح الصحيحين أو غيرهما. فالشيخ -حفظه الله- يسّر على طالب العلم، وجمع المادة كاملة، بإمكان الطالب أن ينظر فيما كُتب، ويلخص منه شرحاً، فهذا من أنفع ما يكون)، وللإثيوبي شرح على صحيح مسلم وغيره.
ونسبته إلى الألباني (ت 1420)
(1)
غير بعيدة.
(1)
قال في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 95): ("ومن صلى نائماً (وفي رواية: مضطجعاً)، فله نصف أجر القاعد ". قال البخاري: "
…
نائماً عندي: مضطجعاً ها هنا
…
"، قلت: وهو رواية للإمام أحمد. وفيه دلالة على جواز التنفل مضطجعاً).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه، و قد نص على شذوذ هذا القول:
- أبو العباس ابن تيمية (ت 728) بقوله: (التطوع مضطجعاً لغير عذر لم يجوزه إلا طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول شاذ لا أعرف له أصلاً في السلف)
(1)
، وقال:(وهو غلط مخالفٌ لما عليه سلفُ الأمة وأئمتُها)
(2)
، وقال:(أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثاً في الإسلام)
(3)
، وقال:(ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعاً بدعة)
(4)
، وقال:(وهو قول محدث بدعة)
(5)
.
(1)
نقله عنه تلميذه ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 87)، قال المرداوي في الإنصاف (2/ 189):(قال الشيخ تقي الدين: وهو قول شاذ لا يُعرف له أصل في السلف).
(2)
جامع المسائل (6/ 333).
(3)
مجموع الفتاوى (23/ 235).
(4)
المرجع السابق (23/ 242).
(5)
مختصر الفتاوى المصرية ص (58).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم صحة صلاة التطوّع من المضطجع القادر على القيام:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ بـ (عموم الأدلة على افتراض الركوع والسجود والاعتدال عنهما، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليخصص به العموم)
(1)
، و (لأن قوام الصلاة بالأفعال، فإذا اضطجع فقد ترك معظمها وانمحت صورتها)
(2)
، (وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة)
(3)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن عموم الأدلة مخصوصة بقوله صلى الله عليه وسلم: «
…
ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد»
(4)
، قال البخاري:(نائماً عندي مضطجعاً ها هنا).
- ثم إن الركوع و السجود والاعتدال لا يلزم سقوطهما على من صلّى النافلة مضطجعاً بل (يلزمه أن يقعد للركوع والسجود)
(5)
، قال ابن حجر: (والأصح عند المتأخرين أنه لا يجوز للقادر
(1)
كشاف القناع (1/ 441)، وانظر: النكت على المحرر (1/ 86)، دقائق أولي النهى (1/ 248).
(2)
الشرح الكبير للرافعي (1/ 488)، وانظر: مغني المحتاج (1/ 352).
(3)
معالم السنن (1/ 225).
(4)
أخرجه البخاري (1116) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(5)
الإقناع للشربيني (1/ 131)، وقال ابن مفلح في النكت (1/ 87):(فإن قلنا بالجواز فهل له الإيماء فيه وجهان).
الإيماء للركوع والسجود وإن جاز التنفل مضطجعا بل لا بد من الإتيان بالركوع والسجود)
(1)
.
- (وإنما ورد الحديث بالترخيص في القيام والقعود فيبقى ما عداهما على مقتضاه)
(2)
، و كما لا يسقطان عمن صلى قاعداً.
وأجيب عن هذه المناقشة:
- بأن (هذا الحديث إنما كان في المعذور)
(3)
، و (المريض الذي لا يستطيع إلا ذلك، وأجره على النصف مما قبله، فإن تحمل المشقة وأتى بالزائد تم أجره؛ لأن الخطاب في الحديث كان لعمران، ومعلوم من حاله أنه كان مريضاً)
(4)
، (وقد روي بألفاظ تدل على أنه لم يقصد به النافلة، وإنما قصد به الفريضة)
(5)
، (وكذلك جاء مصرحاً به أنه خرج عليهم وهم يصلون قعوداً بسبب مرض عرض لهم، فذكر هذا القول)
(6)
.
- (ألا ترى قوله: (كان مبسورًا) وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر مما أدى به فرضه وهذه صفة صلاة الفرض)
(7)
.
(1)
فتح الباري (2/ 586).
(2)
المجموع (3/ 276).
(3)
جامع المسائل لابن تيمية (6/ 333).
(4)
النجم الوهاج (2/ 104)، وسياق الحديث في البخاري هكذا: (أن عمران بن حصين -وكان رجلاً مبسوراً-
…
).
(5)
التمهيد (1/ 134).
(6)
جامع المسائل (6/ 333)، يعني في حديث آخر كما في حديث أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمّة، فحمّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس قعود يصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قياماً» أخرجه أحمد (12395) قال ابن حجر في الفتح (2/ 585): (رجاله ثقات وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته).
(7)
شرح البخاري لابن بطال (3/ 102).
- ثم هو (كلام مطلق، وقد علم بأدلة أخرى أن هذا لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حصين:«صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» ، وعلم أن تطوع الجالس يجوز مع القدرة بدليل آخر
…
- ونظير هذا قوله: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» ، فإن هذا مطلق، لم يدل على صلاة الرجل وحده)
(1)
، وأنها تجوز بلا عذر.
- و (تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الجماعة على صلاة
- المنفرد ولصلاة القائم على القاعد والقاعد على المضطجع إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة.
- أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك أو لا تصح، فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها؛ بل وجوب القيام والقعود وسقوط ذلك ووجوب الجماعة وسقوطها: يتلقى من أدلة أخر.
- وكذلك أيضاً: كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث بل يتلقى من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم لا لكل أحد، وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض
…
وبيّن جواز التطوع قاعداً لما رآهم وهم يصلون قعوداً، فأقرهم على ذلك وكان يصلي قاعداً، مع كونه كان
(1)
جامع المسائل (6/ 335).
يتطوع على الراحلة في السفر، كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه)
(1)
.
وأجيب عن الجواب:
- (بأن كونه جوابًا لعمران لا يدل، لاحتمال أن يكون عمران سأله عن الفرض مرة وعن النفل أخرى)
(2)
، وسيأتي زيادة في المناقشات في أول أدلة القول الآخر.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع، وقد نقل الإجماع في هذه المسألة:
1.
قال الخطابي (ت 388): (لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعداً).
2.
وقال ابن بطّال (ت 449): (وأما قوله: «من صلى بإيماء
(3)
فله نصف أجر القاعد» فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء، وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث)
(4)
.
3.
ونقل ابن القيم عن ابن عبدالبر (ت 463) أنه قال: (أجمعوا على أنه
(1)
مجموع الفتاوى (23/ 237 - 238).
(2)
النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 104).
(3)
بهذا اللفظ شرح الحديث، وليس في البخاري ولا دواوين السنة التي وقفت عليها مثل هذا اللفظ، وقد رمى غيره بالتصحيف حين قال في شرح البخاري (3/ 103):(وقد غلط النسائي في حديث عمران بن حصين وصحّفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن صلى بإيماء» إنما هو «ومن صلى نائمًا» والغلط فيه ظاهر)، قال العراقي:(لعل التصحيف من ابن بطال: وإنما ألجأه إلى ذلك حمل قوله: «نائماً» على النوم حقيقة الذي أمر المصلي إذا وجده أن يقطع الصلاة، وليس المراد ههنا إلا الاضطجاع لمشابهته لهيئة النائم)، نقله في عمدة القاري (7/ 159)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 586):(ومن قال غير ذلك فهو الذي صحّف).
(4)
شرح صحيح البخاري (3/ 102).
لا يجوز التنفل مضطجعاً)
(1)
.
4.
وقال أبو العباس ابن تيمية (ت 728): (ولم يجوز أحد من السلف صلاة التطوع مضطجعاً من غير عذر، ولا يعرف أن أحداً من السلف فعل ذلك، وجوازه وجه في مذهب الشافعي وأحمد، ولا يعرف لصاحبه سلف صدق، مع أن هذه المسألة مما تعم بها البلوى؛ فلو كان يجوز لكل مسلم أن يصلي التطوع على جنبه وهو صحيح لا مرض به كما يجوز أن يصلي التطوع قاعدا وعلى الراحلة؛ لكان هذا مما قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وكان الصحابة تعلم ذلك، ثم مع قوة الداعي إلى الخير لا بد أن يفعل ذلك بعضهم، فلما لم يفعله أحد منهم دل على أنه لم يكن مشروعاً عندهم)
(2)
، وقال:(ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعاً بدعة لم يفعلها أحد من السلف)
(3)
، وقال:(أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثاً في الإسلام، وقالوا: لا يعرف أن أحداً قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح)
(4)
، وقال:، (وهو غلط مخالف لما عليه سلف الأمة وأئمتها، وما عليه عملُ المسلمين دائمًا أن أحدًا لا يتطوع مضطجعًا مع قدرتِه على القيام والقعود)
(5)
.
(1)
بدائع الفوائد (4/ 210)، وقال السهيلي في الروض الأنف (5/ 50):(قول الخطابي: أجمعت الأمة على أن المضطجع لا يصلي في حال الصحة نافلة ولا غيرها، وافقه أبو عمر على ادعاء الإجماع في هذه المسألة)، ولم أقف على هذا الإجماع عند ابن عبد البر وقد قال في التمهيد (1/ 134):(جمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعاً)، فنسبه إلى الجمهور ولم يدع الإجماع، لكنه قال بعد ذلك:(فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعاً لمن قدر على القعود أو القيام فوجه ذلك الحديث النافلة وهو حجة لمن ذهب إلى ذلك، وإن أجمعوا على كراهية النافلة راقداً لمن قدر على القعود أو القيام فيها فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 36).
(3)
مجموع الفتاوى (23/ 242).
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 235).
(5)
جامع المسائل (6/ 333).
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- قال أبو الفضل العراقي: (أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعاً للقادر فمردود، فإن في مذهبنا وجهين: الأصح منهما الصحة، وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه
…
وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه
…
فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث= الاتفاق؟)
(1)
.
- قال السهيلي (وليست بمسألة إجماع كما زعما، بل كان من السلف من يجيز للصحيح أن يتنفل مضطجعاً، منهم الحسن البصري، ذكر ذلك أبو عيسى الترمذي)
(2)
.
- قلت: أما أثر الحسن البصري-رحمه الله فأخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن قال:(إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائماً، وجالساً، ومضطجعاً)
(3)
، وإسناده صحيح متصل.
- والعجب من قطع أبي العباس ابن تيمية وجزمه بالنفي في هذه المسألة، مع أن جدّه أبا البركات استحسن رأي الحسن، قال الزركشي:(وحسّنه أبو البركات)
(4)
، ونص كلام الجد:(وهو قول الحسن البصري وهو مذهب حسن)
(5)
.
(1)
نقله عنه العيني في عمدة القاري (7/ 159) بقوله: (قال شيخنا زين الدين .. )، وانظر: التلخيص الحبير (1/ 557).
(2)
الروض الأنف (5/ 50).
(3)
جامع الترمذي (2/ 209)، محمد بن بشار وابن أبي عدي من الثقات ومخرج لهم في الصحيحين، وأشعث بن عبدالملك الحمراني (ثقة فقيه) كما قال ابن حجر في التقريب ص (113)، وهو من أثبت الناس في الحسن.
(4)
شرح مختصر الخرقي (2/ 67).
(5)
نقله عنه ابن مفلح في النكت على المحرر (1/ 86)، بقوله: (قال المصنف في شرح الهداية
…
) وشرح الهداية لأبي البركات اسمه: "منتهى الغاية في شرح الهداية" قال ابن بدران في المدخل ص (432): (لكنه بيض بعضه وبقي الباقي مسودة، وكثيراً ما رأينا الأصحاب ينقلون عن تلك المسودة، ورأيت منها فضولاً على هوامش بعض الكتب).
- إلا إن كان الشيخ قصد بنفيه القاطع= نفي وجود الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف الصالح، وهذا ظاهر أكثر عباراته في نفيه لفعلهم التنفل في حال الاضطجاع، إلا إن قوله في كتاب الإيمان:(ولم يجوز أحد من السلف صلاة التطوع مضطجعاً من غير عذر)
(1)
يعكّر على ذلك، وهو منقوض بما صحّ عن الحسن.
- والجواز هو وجه في المذاهب الأربعة، وهو الوجه الأصح عند الشافعية
(2)
، و هو قول ابن حزم
(3)
، وقول الأبهري من المالكية
(4)
، واستحسنه أبو البركات ابن تيمية من الحنابلة
(5)
، قال البغوي:(وهو الأصح والأولى لثبوت السنة فيه)
(6)
.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بصحة صلاة التطوّع من المضطجع القادر على القيام:
استدل أصحاب هذا القول:
1/ بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه وكان رجلاً مبسوراً
(7)
-قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال: «من صلى قائماً فهو
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 36).
(2)
انظر: المجموع (3/ 296)، قال النووي عن هذا الوجه:(وهو الصحيح)، وقال في المنهاج ص (25):(في الأصح).
(3)
قال في المحلى (2/ 100): (وجائز للمرء أن يتطوع مضطجعاً بغير عذر إلى القبلة).
(4)
انظر: شرح التلقين (1/ 819)، التاج والإكليل (2/ 274)، الشرح الكبير (1/ 263).
(5)
انظر: النكت على المحرر (1/ 86)، شرح الزركشي مختصر الخرقي (2/ 67).
(6)
شرح السنة (4/ 110).
(7)
(أي كانت به بواسير) فتح الباري (2/ 585)، وهذا القيد جاء في سياق الحديث عند البخاري.
أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد» قال أبو عبد الله:(نائماً عندي مضطجعاً ها هنا)
(1)
.
وجه الاستدلال:
- أن الحديث محمول على صلاة النافلة
(2)
؛ (لأن الفضل يقتضي جواز القعود بل فضله، ولا جواز للقعود في الفرائض مع القدرة)
(3)
، والنافلة يجوز فيها القعود مع القدرة على القيام بالإجماع، فكذلك الاضطجاع لهذا الحديث
(4)
.
- ولأن (المعذور إذا صلى جالساً فله مثل أجر القائم
…
«إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» ولهذا الحديث شواهد كثيرة
…
ويؤيد ذلك قاعدة تغليب فضل الله تعالى وقبول عذر من له عذر)
(5)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- قال البزار: (هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد إلا في هذا الحديث، وإنما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه في صلاة القاعد على النصف من
(1)
أخرجه البخاري (1116) من طريق حسين المعلم عن ابن بريدة عن عمران به.
(2)
قال ابن حجر في الفتح (2/ 585): (حكى بن التين وغيره عن أبي عبيد، وابن الماجشون، وإسماعيل القاضي، وابن شعبان، والإسماعيلي، والداودي وغيرهم، أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري).
(3)
حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 370)، وانظر: حاشيته على النسائي (3/ 224).
(4)
قال ابن حجر الهيتمي: (فيه أبلغ حجة على من حرم الاضطجاع في صلاة النفل). مرقاة المفاتيح (3/ 937).
(5)
فتح الباري (2/ 585).
صلاة القائم)
(1)
، قال ابن عبد البر: (لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين بن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف أيضاً على حسين المعلم في إسناده ولفظه اختلافاً يوجب التوقف عنه
…
وقد روي بألفاظ تدل على أنه لم يقصد به النافلة وإنما قصد به الفريضة وهو الذي تدل عليه ألفاظ من يحتج بنقله له)
(2)
، وقال ابن بطال: (ورواية عبد الوارث وروح بن عبادة، عن حسين المعلم لحديث عمران هذا تدفعه الأصول، والذى يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم
…
وهو في صلاة الفريضة)
(3)
، ورواية ابن طهمان في البخاري أيضاً عن حسين المعلم عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال:«صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»
(4)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة الحديثية قبل إكمال المناقشة الفقهية:
- أن الحديث مداره على حسين بن ذكوان المعلم وروي عنه على وجهين:
- الوجه الأول: الحديث وفيه: «
…
ومن صلى نائماً، فله نصف أجر القاعد» رواه عن حسين المعلم بنحو ذلك جماعة من الثقات، ومنهم: روح بن عبادة، و عبدالوارث بن سعيد
(5)
، ويحيى بن
(1)
مسند البزار (9/ 13).
(2)
التمهيد (1/ 134).
(3)
شرح صحيح البخاري (3/ 102 - 103).
(4)
صحيح البخاري (1117).
(5)
كما عند البخاري (1115)، (1116).
سعيد القطان
(1)
، وإسحاق بن يوسف
(2)
، وسعيد بن أبي عروبة
(3)
، ويزيد بن زريع
(4)
، و سفيان بن حبيب
(5)
، وحماد بن أسامة
(6)
، ويزيد بن هارون
(7)
، و عيسى بن يونس
(8)
.
- الوجه الآخر: الحديث بلفظ: «صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» لم يروه عن حسين المعلم بهذا الوجه إلا إبراهيم بن طهمان، قال الترمذي:(لا نعلم أحداً روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان، وقد روى أبو أسامة، وغير واحد، عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس)
(9)
.
- فلو كان السبيل هو الترجيح فإن رواية الجماعة أثبت فهم أكثر وأوثق، وهذا على مقتضى الصنعة الحديثية، ومن أعل رواية الأكثر فإنه نظر إلى المعنى ومخالفته للأصول
(10)
، ولكن الأمر -والله
(1)
عند أحمد (19899)، وأبي داود (951).
(2)
عند أحمد (19974).
(3)
عند أحمد (19887) وفي روايته قال عمران: كنت رجلا ذا أسقام كثيرة فسألت
…
الخ.
(4)
عند ابن ماجه (1231).
(5)
عند النسائي (1660).
(6)
عند ابن حبان (2513).
(7)
عند البيهقي في الكبرى (3680).
(8)
عند الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1694).
(9)
جامع الترمذي (2/ 208)، وذكر كذلك البزار في مسنده (9/ 14) تفرد ابن طهمان بهذا اللفظ.
(10)
ومن ذلك قوله: «نائماً» ، قال ابن بطال في شرح البخاري (3/ 103): (الغلط فيه ظاهر، لأنه قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن للمصلى إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة، ثم بين صلى الله عليه وسلم معنى ذلك، قال:«لعله يستغفر فيسب نفسه» فكيف يأمره بقطع الصلاة وهى مباحة له، وله عليها: نصف أجر القاعد
…
وليس النوم من أحوال الصلاة)، وقوله:«على النصف» ، قال ابن بطال في المرجع السابق:(ولا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشئ: لك نصف أجر القادر عليه)، وجاء في فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 543): (فإنا إن حملناه على الفريضة لم يصح أول الحديث: «إن صلى قائما فهو أفضل» ، لأن القيام فرض فيها، وإن حملناه على التطوع لم يصح آخره، لأن التطوع لا يجوز نائما عند أحد إلا ما في «الغاية»
…
وكذا قوله: «ومن صلى قاعداً
…
الخ»، لا يأتي على المكتوبة ولا على التطوع، فإنه إن أخذناه بلا عذر لم يصدق في حق المكتوبة؛ لأن المكتوبة قاعداً بدون عذر لا تصح مطلقاً، فلا أجر فيها أصلاً وإن أخذناه مع العذر لا يستقيم عليه تنصيف الأجر).
أعلم- كما قال ابن حجر: (اتفاق الأكثر على شيء يقتضي أن رواية من خالفهم تكون شاذة، والحق أن الروايتين صحيحتان كما صنع البخاري، وكل منهما مشتملة على حكم غير الحكم الذي اشتملت عليه الأخرى)
(1)
.
- قال الطحاوي: (ذهب قوم إلى اضطراب حديث عمران هذا؛ لاختلاف إبراهيم بن طهمان وعيسى بن يونس فيما روياه عليه عن حسين المعلم عن ابن بريدة عن عمران، ولم يكن ذلك عندنا كما ذكروا، ولكنهما حديثان مختلفان)
(2)
.
- بقي الوقوف مع إشارة البزار بقوله: (لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد إلا في هذا الحديث، وإنما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه في صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)
(3)
، ففيه لفت النظر إلى تفرد حسين بن ذكوان المعلم بذلك وهو وإن كان ثقة عند الجمهور
(4)
، إلا أن العقيلي قال عنه:(ضعيف، مضطرب الحديث، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد قال: سمعت يحيى وذكر أحاديث حسين المعلم فقال: فيه اضطراب)
(5)
، وتعقبه الذهبي بقوله:(ثقة جليل ضعفه العقيلي بلا حجة)
(6)
، وتوسّط فيه
(1)
فتح الباري (2/ 587)، وهذا يعني: أن عمران وابن بريدة وحسين المعلم كل منهم رواه باللفظين جميعاً.
(2)
شرح مشكل الآثار (4/ 396).
(3)
مسند البزار (9/ 13).
(4)
انظر: التعديل والجرح لمن خرج له البخاري في الصحيح للباجي (2/ 494).
(5)
الضعفاء الكبير (1/ 250).
(6)
المغني في الضعفاء (1/ 171)، وقال في تاريخ الإسلام (3/ 846):(أورده العقيلي في كتاب " الضعفاء " بلا مستند).
ابن حجر فقال: (ثقة ربما وهم)
(1)
، والحمل عليه أولى من الحمل على من روى عنه من الثقات ولعل هذا وجه قول ابن عبدالبر:(وقد اختلف أيضاً على حسين المعلم في إسناده ولفظه اختلافاً يوجب التوقف عنه)
(2)
.
- قال البزار: (وإنما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه في صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)
(3)
، فقد جاء عن عبدالله بن عمرو
(4)
، وأنس
(5)
، والسائب
(6)
، رضي الله عنهم وجاء عن غيرهم لكنها لا تخلو من ضعف، والشاهد فيها عدم ذكر صلاة النائم كما ذكر البزار، وكما قال الخطابي عن حديث عمران:(قوله: «وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعداً» فإني لا أعلم أني سمعته إلاّ في هذا الحديث)
(7)
.
(1)
تقريب التهذيب ص (166).
(2)
التمهيد (1/ 134).
(3)
مسند البزار (9/ 12).
(4)
أخرجه مسلم (735)، قال الترمذي في العلل الكبير ص (79):(وحديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» هو حديث صحيح يروى من غير وجه)
(5)
أخرجه أحمد (12395) عن أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمّة، فحمّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس قعود يصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قياماً» أخرجه أحمد (12395) قال ابن حجر في الفتح (2/ 585): (رجاله ثقات وعند النسائي متابع له من وجه آخر)، وأخرجه النسائي في الكبرى (1368) بسنده إلى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس وهم يصلون قعوداً من مرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد على مثل نصف صلاة القائم» . قال النسائي: (هذا خطأ والصواب: إسماعيل، عن مولى لابن العاصي، عن عبد الله بن عمرو).
(6)
أخرجه أحمد (15501) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن إبراهيم يعني ابن مهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، قال الترمذي في العلل الكبير ص (79):(حديث السائب لا يعرف إلا من هذا الوجه)، وإسناده فيه جهالة، وضعف ابن المهاجر.
(7)
معالم السنن (1/ 225).
- لكن مع كل ما قيل أو تُلمّس في التعليل، فإن البخاري وهو إمام هذه الصنعة أخرج حديث عمران في جامعه الذي انتقى له الصحيح، وقال تلميذه الترمذي:(حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح)
(1)
، ولم يأتِ عالم يبلغ شأوهما فيعلّه، وليس في الزيادة ما يستنكر إذا حُملت على المعذور كما هو ظاهر صنيع البخاري، وهو ما انتصر له ابن تيمية، وهذا ما سأبينه في المناقشات الدلالية لحديث عمران:
- فقد نوقش الاستدلال بحديث عمران على جواز صلاة المتنفل المضطجع القادر على القيام أو القعود بأن الحديث ليس (بمسوق لبيان صحة الصلاة وفسادها، وإنما هو لبيان تفضيل إحدى الصلاتين الصحيحتين على الأخرى، وصحتهما تعرف من قواعد الصحة من خارج)
(2)
.
- (ونظير هذا قوله: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة»، فإن هذا مطلق، لم يدل على صلاة الرجل وحده)
(3)
، وأن الجماعة غير واجبة.
- (وكذلك أيضاً: كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث بل يتلقى من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم لا لكل أحد)
(4)
.
(1)
جامع الترمذي (2/ 207) قال ذلك عن رواية الجماعة عن حسين المعلم به.
(2)
حاشية السندي على سنن النسائي (3/ 225).
(3)
جامع المسائل (6/ 335).
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 237 - 238)، قال ابن القيم في بدائع الفوائد (4/ 210):(قال لي شيخنا: وضع صلاة القاعد على النصف مطلقا وإنما كمل الأجر بالنية للعجز).
- (أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك أو لا تصح، فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها)
(1)
.
- (والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز فقد قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، فجعل السعي إلى الجمعة خيراً من البيع والسعي واجب والبيع حرام، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ})
(2)
، (ونظائر هذا كثيرة، مما يذكر فيه أن المأمور به خير وأحسن من المنهي عنه، وإن كان الأول واجباً والثاني محرماً)
(3)
.
- وقد دل الدليل على وجوب القيام في الفرض مع القدرة، وعلى استحباب القيام في النفل وجواز القعود لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
وللإجماع، وكلتا الحالتين ثابتة ولو لم يرد حديث عمران، أما الحكم الزائد وهو الاضطجاع فهو في حديث عمران هذا وسياقه يدل على أن ذلك للمعذور.
- (وأراد به المريض الذي لو تحامل أمكنه القيام مع شدة المشقة، والزيادة في العلة، فيجوز له أن يصلي قاعداً، وأجره نصف أجر القائم، ولو تحمل المشقة فقام، تم أجره، وكذلك النائم الذي لو تحامل أمكنه القعود مع شدة المشقة، فله أن يصلي نائماً، وله نصف
(1)
المرجع السابق.
(2)
مجموع الفتاوى (23/ 232).
(3)
الجواب الصحيح (6/ 20).
(4)
ومن ذلك حديث عائشة مرفوعاً: «كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائما ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً ركع قاعداً» أخرجه مسلم (730)، وقولها في الوتر: «
…
ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة
…
» أخرجه مسلم (746).
أجر القاعد، ولو قعد تم أجره، ويشبه أن يكون هذا جواباً لعمران، فإنه كان مبسوراً، وعلة الباسور ليست بمانعة من القيام في الصلاة، ولكنه رخص له في القعود إذا اشتدت عليه المشقة)
(1)
.
- ففي سياق الحديث عند البخاري (وكان رجلاً مبسوراً)، وفي رواية عند أحمد قال عمران: (كنت رجلاً ذا أسقام كثيرة فسألت
…
)، قال ابن دقيق:
(السياق مبين للمجملات، مرجح لبعض المحتملات، مؤكد للواضحات
…
فقد يجيء بعض الضعفة، فيرى السؤال والجواب حيث يقتضي السياق التخصيص، فيحمله على المسألة الخلافية، ويرجح ما رجحه الجمهور من القول بالعموم)
(2)
.
- وظاهر صنيع الإمام البخاري هو جعل حديث عمران في المعذور، وأنها المرتبة الثالثة لمن شق عليه القيام والقعود، قال ابن حجر بعد قول الخطابي:(المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام مع جواز قعوده)، قال ابن حجر معلّقاً:(وهو حمل متجه ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي عائشة وأنس وهما في صلاة المفترض قطعاً وكأنه أراد أن تكون الترجمة شاملة لأحكام المصلي قاعداً)
(3)
، وهذا ما
(1)
شرح السنة (4/ 110).
(2)
شرح الإلمام (1/ 126)، قال في البحر المحيط (4/ 289):(وقال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام والعنوان: محل الخلاف فيما إذا لم يقتض السياق التخصيص به، فإن كان السؤال والجواب منشؤهما يقتضي ذلك فهو مقتض للتخصيص بلا نزاع، لأن السياق مبين)
(3)
فتح الباري (2/ 585)، ومما استوقفني ويحتاج إلى تأمل عدم ترجمة البخاري للاضطجاع بشيء من التراجم.
انتصر له ابن تيمية بما لا نظير له فيما وقفت عليه
(1)
.
- وهنا وجه آخر يؤيد أن البخاري يحمل حديث عمران على المعذور: أنه ترجم لحديث عمران برواية الجماعة ب (باب صلاة القاعد)، و (باب صلاة القاعد بالإيماء)، ولم يترجم للاضطجاع «ومن صلى نائماً» بشيء مع أهمية هذا الحرف وكونه أصل في بابه
(2)
، ثم أتبع هذين البابين بقوله:(باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب) وأورد حديث عمران برواية ابن طهمان «فإن لم تستطع فعلى جنب» ، فكأنه يقيد ما أُطلق في رواية الجماعة بما قيّد في هذه الرواية وأن الاضطجاع لمن لم يطق القعود.
-
…
(وقولهم: إن المعذور لا ينتقص من أجره ممنوع، وما استدلوا به عليه من حديث «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل وهو مقيم» صحيح لا يفيد ذلك، وإنما يفيد أن من كان يعتاد عملاً إذا فاته لعذر فذلك لا ينقص من أجره، [حتى
(3)
لو كان المريض أو المسافر تاركاً للصلاة حالة الصحة والإقامة، ثم صلى قاعداً أو قاصراً حالة المرض والسفر فصلاته على نصف صلاة القائم في الأجر)
(4)
.
- والحديث (إنما يفيد كتابة مثل ما كان يعمله مقيماً صحيحاً وإنما عاقه المرض عن أن يعمل شيئاً أصلاً، وذلك لا يستلزم احتساب ما صلى قاعدا بالصلاة قائماً لجواز احتسابه نصفاً، ثم يكمل كل
(1)
قال ابن القيم في البدائع (4/ 210) عن حديث عمران: (هذا في الفرض وهو قول كثير من المحدثين واختيار شيخنا).
(2)
مع أنه يترجم لبعض دقائق المسائل، ويشير ببعض تراجمه للخلاف عن طريق السؤال.
(3)
هكذا في المطبوع، وأظن صوابها (أما) حتى يستقيم المعنى، والله أعلم.
(4)
حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 371)، وانظر: حاشيته على النسائي (3/ 225).
عمله من ذلك وغيره فضلاً)
(1)
.
- فالسياق يدل على أن التنصيف عام للمعذور كعمران وغير المعذور أولى، ومما يدل على العموم في الحديث «من صلى
…
» كلمة: (من فإنها عامة في كل مصل)
(2)
.
- ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}
(3)
، (ففي الآية دليل على أن العامل أفضل من التارك لعذر)
(4)
.
- أما القياس على جواز القعود فهو قياس في الرخص
(5)
، وهو قياس أيضاً مع الفارق (لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة)
(6)
، والقعود في النافلة جائز بالأحاديث الأخرى والإجماع عليها، بخلاف الاضطجاع فلم يرد إلا في هذا الحديث وهو محمول على المعذور، والله أعلم.
2/ واستدل بعضهم على جواز التطوع للمضطجع: أن (فيه تنشيطاً على صلاة النفل
…
ولهذا رخص العلماء في صلاة النفل أن يشرب الماء اليسير من أجل تسهيل التطوع عليه، والتطوع أوسع من الفرض)
(7)
.
(1)
فتح القدير لابن الهمام (1/ 460 - 461)، وانظر: تبيين الحقائق (1/ 175).
(2)
البحر الرائق (2/ 67).
(3)
من الآية (95) من سورة النساء.
(4)
البحر الرائق (2/ 67).
(5)
قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير (1/ 263): (ومنشأ الخلاف: القياس على الرخص هل يصح أو يمتنع)، والقياس في الرخص محل خلاف، لكن قال الشافعي في الرسالة ص (545):(ما كان لله فيه حكمٌ منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَّص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها).
(6)
معالم السنن (1/ 225).
(7)
الشرح الممتع (4/ 81).
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن التنشيط يكون فيما شُرع لا فيما لم يثبت مشروعيته، و (الرخصة لا تتعدى محلها، وفي القياس عليها نزاع)
(1)
، والقياس هنا أضيق لتعلقه بالعبادة والأصل فيها المنع.
- والسلف كانوا أحرص على الخير منا ولو كان هذا مما يشرع (لفعلوه أو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وسلم ولو مرة تبييناً للجواز)
(2)
، (ولا يعرف أن أحداً من السلف فعل ذلك .. ثم مع قوة الداعي إلى الخير لا بد أن يفعل ذلك بعضهم، فلما لم يفعله أحد منهم دل على أنه لم يكن مشروعاً عندهم)
(3)
، و (لا يعرف أن أحداً قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح)
(4)
.
- بل الصلاة قاعداً مع جوازها فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر فعلها له قبل وفاته وبعدما كبر، تقول حفصة رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في سبحته قاعداً، حتى كان قبل وفاته بعام
…
»
(5)
، وقالت عائشة:«لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقل، كان أكثر صلاته جالساً»
(6)
.
- وهكذا الصحابة ومن بعدهم، قال نافع:(ما رأيت ابن عمر يصلي جالساً إلا من مرض)
(7)
، وروي عن تلميذه مسلم بن يسار أنه
(1)
منح الجليل (2/ 288).
(2)
حاشية السندي على سنن النسائي (3/ 224 - 225).
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 36).
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 235).
(5)
أخرجه مسلم (733)، وفي البخاري (1118) نحوه عن عائشة أنها:«لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن» .
(6)
أخرجه مسلم (732).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (4605) بسند صحيح.
قال: (إني لأكره أن يراني الله أصلي له قاعداً من غير مرض)
(1)
، وقال إسحاق بن راهويه:(إذا أراد أن يصلي النوافل فله أن يصلي جالساً، ولكن يكره له أن يتعمد الصلاة جالساً إلا من مرض أو كبر أو ما أشبههما من العذر)
(2)
، هذا في القعود فكيف بالاضطجاع؟!
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فإن نسبته إلى الشذوذ غير صحيحة؛ فإنه لم يخالف نصاً صحيحاً صريحاً، ولم يخرم إجماعاً متحققاً، وقد استند قائله إلى دليل له فيه سلف، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان القول بعدم الجواز أقوى فيما يظهر؛ ولم ينقل جوازه ولا فعله عن أحد من الصحابة ولا أئمة الأمصار ولا الأئمة الأربعة، إنما هو قول للحسن البصري يكاد يتفرّد به، وقول ابن حزم، ووجه صحيح في مذهب الشافعية، ووجه مقابل للصحيح و المعتمد عند الثلاثة، والدليل الذي استدلوا به محتمل وحمله على المعذور أولى لدلالة السياق، وحملاً للمطلق على المقيد، ويمكن تقسيم من يصلي قاعداً أو مضطجعاً في النافلة إلى أقسام يمكن أن تجتمع بها الأدلة:
فإن كان ذلك من غير عذر:
- فيصح القعود إجماعاً وله نصف أجر القائم، ولا يصح الاضطجاع على الصحيح.
وإن كان ذلك من عذر:
- فإما أن يكون عجزاً تاماً، فهذا إن كان له حظ من النافلة قبل ذلك
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4606).
(2)
مختصر قيام الليل ص (207).
وكان يصليها على الحالة الأتم، ثم حبسه العذر عن القيام إلى القعود أو الاضطجاع فله الأجر تاماً.
- وإن كان ليس حظ من هذه النافلة أو كان قد اعتاد على الصلاة قاعداً مع قدرته على القيام فأجره على النصف من القائم، وإن اضطجع لعجزه فله الربع من أجر القائم.
- وإن كان عجزه ليس تاماً وإنما يلحقه مشقة محتمله بقيامه أو قعوده فهذا أيضاً أجره على النصف إن صلى قاعداً، أو على النصف من صلاة القاعد إن اضطجع، ترغيباً له بالقيام أو القعود ليتم له الأجر كحال عمران رضي الله عنه ونحوه من الأمراض التي لا تُعجز صاحبها عجزاً تاماً، والله أعلم.
(فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى. وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة؛ لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين).
ابن تيمية رحمه الله
مجموع الفتاوى (28/ 53 - 54)
المبحث الثاني عشر: صحة إمامة المرأة للرجال
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(إن الذي يريد الشذوذ عن الحق، يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلّاتهم، والذي يؤم الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدل بهما على اتباع الرجل، وعلى ابتداعه).
الدارمي رحمه الله الرد على الجهمية ص (124)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
الإمامة في اللغة: مصدر أَمَّ يَؤُمّ إِمامة
(1)
، (وفلانٌ يؤمّ القوم، أي: يَقدُمُهُم)
(2)
، (وكلّ من اقتُدِيَ به، وقُدُّم في الأمور فهو إمامٌ، والنبيّ عليه السلام إمام الأمة، والخليفة: إمام الرعيّة، والقرآن: إمام المسلمين)
(3)
، (وإمَامُ كلِّ شيء: قيِّمهُ والمُصلِح له)
(4)
.
والإمامة عند الفقهاء تطلق على معنيين: الإمامة الكبرى أو العظمى، والإمامة الصغرى
(5)
، أما الكبرى فهي:(موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)
(6)
.
وأما الصغرى -وهي المرادة هنا- فهي: (اتباع الإمام في جزء من صلاته)
(7)
، وقيل هي:(ربطُ صلاة المؤتمّ بالإمام)
(8)
؛ فالإمام لا يصير إماماً إلا إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة
(9)
.
وقبل تحرير محل الشذوذ ولفهم بعض الفتاوى المعاصرة يحسن التعريف بالواقعة:
(1)
انظر: مختار الصحاح ص (22)، وأم يؤم أمّاً يعني: قصد.
(2)
العين (8/ 429)، تهذيب اللغة (15/ 458)، لسان العرب (12/ 26).
(3)
العين (8/ 428 - 429)، مقاييس اللغة (1/ 28).
(4)
المحكم والمحيط الأعظم (10/ 572)، لسان العرب (12/ 25).
(5)
انظر: الدر المختار ص (75)، مناهج التحصيل (1/ 299)، أسنى المطالب (1/ 220)، الروض المربع ص (129).
(6)
الأحكام السلطانية للماوردي ص (15).
(7)
حاشية الطحطاوي ص (286).
(8)
الدر المختار ص (75).
(9)
انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 550).
ففي تاريخ (27/ 1/ 1426 هـ) نشرت إحدى الصحف هذا الخبر: (
…
أول امرأة تؤم صلاة جمعة "مختلطة" في الولايات المتحدة)
(1)
، وفي (7/ 2/ 1426 هـ) نُشر هذا الخبر: (سيدة تؤم صلاة الجمعة في أمريكا
…
واتخذت أمينة ودود
(2)
هذه الخطوة غير المسبوقة ضمن الاحتفال بيوم المسلم بالولايات المتحدة
…
وتقرر نقل مكان الصلاة إلى إحدى الكنائس الأنجليكانية بنيويورك بعد أن رفضت المساجد استضافتها، وكانت ثلاثة مساجد بنيويورك قد رفضت أداء تلك الصلاة بها
…
وقالت إسراء النعماني منظمة الحدث إنهم أرادوا تحدي فكرة أن تكون للمرأة دوراً ثانوياً في الحياة الروحية للإسلام)
(3)
، وبعد هذا الخبر المشين والواقعة المخزية،
(1)
صحيفة العربية الإلكترونية.
(2)
في بحث بعنوان "الليبرالية وتحريفهم للقرآن" ص (4) ذكر اسم أمينة ودود (أمريكية) مع آخرين ثم قال: (فإنهم ليسوا فقط ناشطين في نشر الأفكار الليبرالية بصفة فردية، وإنما هم ناشطون كذلك بنشر هذه الأفكار بصفة جماعية عن طريق الجمعيات والمنظمات).
(3)
موقع BBC عربي، أما الإمامة فقد كانت نصرانية إلى سن العشرين ثم تحولت إلى البوذية ثم تحولت إلى الإسلام، كما صرحت بذلك في مقابلة معها بعنوان:(لا يمكن اغتصاب القرآن)، وأما المُنظمة لذلك وهي إسراء النعماني فقد جاء في صحيفة العربية بتاريخ (29/ 4/ 1426 هـ):(طبقاً لمصادر وتقارير صحفية فإن نعماني (39 عاماً) ترغب في إحداث هزة في الإسلام تريد من خلالها السماح للنساء بتولي أدوار رئيسة وإنهاء "التطرف الذي قاد لهجمات سبتمبر" بحسب رأيها)!، ثم بعد ذلك حاورت صحيفة العربية هذه المرأة بتاريخ (14/ 6/ 1427 هـ)، وجاء في العنوان:(العربية نت تحاور أول امرأة تبنت الدعوة للاختلاط مع الرجال بالصلاة) وجاء في التعريف بها: (المسلمة الأمريكية من أصل هندي والصحفية السابقة
…
، أول امرأة تبنت الدعوة لاختلاط الرجال والنساء في الصلاة في الولايات المتحدة الأمريكية. كما اقتحمت ذات يوم حشود المصلين في قاعة الصلاة المخصصة)، ومن نصوص كلامها في الحوار في الحوار: (أنا أطالب بمساواة المرأة بالرجل
…
أطالب أن تقف المرأة في صفوف متساوية مع الرجال في المسجد، وتقف على المنبر، وتحقق المساواة في الشهادة مع الرجل، وأن تكون رئيسة للوزراء)، وعندما سئلت عن محافظتها على الفروض قالت:(لا اصلي كامل الفروض الخمسة في اليوم ولا أشعر في الخجل بذلك. عندما كنت طفلة كنت أصلي كل يوم كما كنت أصوم ولكن المجتمع هو الذي أبعدني عن الاسلام عندما أخبروني أني لا يمكن أن اصلي معهم ولا يمكن أن أفطر معهم لأنه إفطار مخصص للرجال فقط)!، وفي نهاية اللقاء قالت:(ولكن إذا احترمنا النساء وحصلن على حقوقهن ينتهي الإرهاب)!.
بأذان امرأة، وخطبة امرأة أخرى للجمعة، ثم إمامتها بالرجال، وصلاة مختلطة وقف الرجل فيها بجانب المرأة، ثم وقوع هذا المسخ لهذه الشعيرة العظيمة في كنيسة!
فهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
فإن العلماء (اتفقوا أن أقرأ القوم إذا كان فاضلاً في دينه ومعتقده، سالم الأعضاء كلها، صحيح الجسم، فصيحاً، صحيح النسب، حرًا، لا يأخذ على الصلاة أجرًا، فقيهًا، ولم يكن أعرابيًا يؤم مهاجرين، ولا (أعجميًا) يؤم عربًا، ولا متيممًا يؤم متوضئين فإن الصلاة وراءه جائزة)
(1)
.
2.
…
(ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه)
(2)
، (فإن فعلوا فصلاتهم فاسدة بإجماع)
(3)
، (ولا نزاع في الفرض
…
3.
…
أما في النفل)
(4)
فعامة العلماء على المنع أيضاً، وقال ابن قدامة:(قال بعض أصحابنا: يجوز أن تؤم الرجال في التراويح، وتكون وراءهم)
(5)
، ونُسب لأبي ثور والمزني ومحمد بن جرير الطبري بأنه (يجوز أن تكون إمامًا للرجل في التراويح، إذا لم يكن قارئ
(1)
مراتب الإجماع ص (28)، وانظر: الإقناع لابن القطان (1/ 143).
(2)
المحلى (2/ 167).
(3)
مراتب الإجماع ص (27).
(4)
شرح الزركشي على الخرقي (2/ 95)، قال ابن قدامة في المغني (2/ 147):(ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض).
(5)
المغني (2/ 146)، قال ابن تيمية في نقد المراتب ص (290):(ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان).
غيرها، وتقف خلف الرجال)
(1)
، و قد حُكم على قولهم بالشذوذ، وسوّغ بعض المعاصرين إمامة المرأة للرجال، وخاصة بعد وقوعه سنة (1426 هـ) بإمامة امرأة لصلاة الجمعة، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 398)، قال المازري في شرح التلقين (1/ 670): (وحكى بعض أصحابنا عن الطبري وداود وأبي ثور جواز إمامتها رجالًا ونساء، ورأيت في نقل غيرهم عن أبي ثور والمزني والطبري: أنهم أجازوا أن تؤم
…
التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال)، ولعله يأتي تحقيق ذلك عند مناقشة الإجماع.
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
أ. د. عبدالله بن بيه
(1)
في الحادثة الواقعة في إمامتها وخطبتها، و د.
(1)
في سؤال وجّه له في برنامج تلفزيوني اسمه (إضاءات) وهو مسجل ومنشور في الشبكة، ثم فرغ البرنامج في موقع بن بيه الرسمي، وأفرد السؤال الذي يتعلق بموضوعنا ووضع له هذا العنوان:(هل تصح إمامة المرأة للرجال؟) وهذا نص السؤال: (شيخ أنت تحدثت في إحدى فتاواك عن إمامة المرأة، الحادثة التي حصلت للسيدة أمينة التي أمّت مجموعة من المسلمين في الولايات المتحدة، قلت أنت: أن ما اتُفق عليه في المسألة بين كل الفقهاء والعلماء في جميع الأقطار الإسلامية أن المرأة لا تؤم الرجال، وهذا ما ينبغي التمسك به في ديار الإسلام، أما بالنسبة للسيدة أمينة فيمكن أن نتسامح معها، وأن نقبل منها هذا الاجتهاد، خاصةً لحديث أم ورقة رضي الله عنها حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ مؤذنةً، وأن تؤم أهل دارها، رواه الإمام أحمد ورواه أبو داود)، فأقر الشيخ بما سبق وكان من جوابه: (حاولت أن لا أفاجئ أمينة ومن معها إذا كانوا يريدون أن يجدوا سعةً في الإسلام. نحن لا نريد أن نضيّق واسعاً ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، إذا وجدنا سبيلاً في التوسعة للناس أن نذكر لهم هذه الأوجه
…
فمسألة إمامة المرأة ورد فيها حديث أم ورقة، وورد فيها أيضاً في مذهب الإمام أحمد أيضاً روايات بأنها تؤم النساء وأنها تؤم أيضاً الرجال، وتكون خلفهم إذا كانت عجوزاً أو امرأة كبيرةً، يعني هناك أقوال، هذه الأقوال لا يجوز أن نطبقها لأنها ضعيفة جداً
…
لكن مع ذلك إذا قامت امرأةً غربية فنحن نلتمس لها العذر، ونحاول أن نقدم لها شريعتنا بالحسنى، ونقول أنه ليس نقصاً من المرأة، وإذا لم تكوني عجوزاً أيضاً عليك أن تتأخري فلعلها عادةً المرأة تكره أن تكون عجوزاً، فلعلها تتأخر وأن لا تؤم أهل بيتها، فهذا نوع من الفتاوى
…
عبارة عن تأليف، تأليف للناس، والتأليف للناس وارد في الشريعة، أن نتسامح مع الذي يدخل الإسلام حديثاً). انتهى. ولعل في ذلك مافيه من الإيغال في النظرة المقاصدية ولو خالفت المحكمات من النصوص، مع مخالفته للواقع فلا الإمامة ولا المُنظمة ممن أسلم حديثاً.
- والشيخ عبد الله هو بن الشيخ المحفوظ بن بيه، ولد سنة (1354 هـ) في مورتانيا وتعلم على والده القاضي وغيره، وابتعث إلى تونس لتكوين أول دفعة من القضاة، ثم تنقل بعد عودته في المناصب وتقلّد عدة وزارات، وهو عضو المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعضو المجلس الأوربي للإفتاء و وأستاذ للدراسات العليا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وغيرها، وله العديد من المؤلفات في المقاصد والفتوى وغيرهما. انظر ترجمته في موقعه الرسمي.
عبدالكريم زيدان (ت 1435)
(1)
، يرى الجواز بقيود.
(1)
قال في كتابه "المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم"(1/ 252): (الراجح جواز أن تؤم المرأة الرجل من أهل بيتها في دارها، إذا كانت المرأة هي الأولى بالإمامة من الرجل؛ لكونها أقرأ وأفقه منه)، ونحوه قول د. القرضاوي:(قال في لقاء تلفزيوني بعنوان: "الأهلية السياسية للمرأة" منشور في موقعه الرسمي: (أنا أجيزه في التراويح والفرائض ما دام في هذه الحدود، يعني عائلة وفيها رجال ونساء وبنات وأولاد وامرأة قارئة هي أُمهم أو جَدتهم)، وتاريخ هذا اللقاء (9/ 2/ 1426 هـ)، وقد نشر قبله بأيام في (5/ 2/ 1426 هـ) بياناً جاء فيه تعليقاً على حديث أم ورقة:(فمن كان في مثل حالها، من النساء، بأن تكون قارئة مجيدة للقرآن، ولها من الأبناء والمحارم من يصلي خلفها: جاز لها أن تؤمهم في الفرائض والنوافل، ولا سيما صلاة التراويح).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على الشذوذ ونحوه، و قد نص على شذوذ هذا القول أو عدم اعتباره:
- الماوردي (ت 450) بقوله: (لا يجوز للرجل أن يأتم بالمرأة بحال، فإن فعل أعاد صلاته، وهذا قول كافة الفقهاء إلا أبا ثور فإنه شذ عن الجماعة فجوز للرجل أن يأتم بالمرأة
…
وهذا خطأ)
(1)
.
- والروياني (ت 502) بقوله: (لا يجوز أن تكون المرأة إماماً للرجال وبهذا قال كافة العلماء وقال أبو ثور يجوز ذلك وحكي عنه وعن ابن جرير أنهما قالا: يجوز في صلاة التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلفه الرجال
…
وهذ غلط)
(2)
.
- و ابن رشد (ت 595) بقوله: (الجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال، واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك، وشذ أبو ثور، والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق)
(3)
.
- و الرجراجي
(4)
(ت بعد 650) بقوله: (أما إمامتها للرجال: ففقهاء
(1)
الحاوي الكبير (2/ 326).
(2)
بحر المذهب (2/ 261).
(3)
بداية المجتهد (1/ 155).
(4)
علي بن سعيد الرجراجي، من فقهاء المالكية، صاحب منهاج التحصيل في شرح المدونة، لخص في شرحه ما وقع للأئمة من التأويلات واعتمد على كلام القاضي ابن رشد والقاضي عياض وتخريجات أبي الحسن اللخمي، كان ماهرًا في العربية والأصلين، وأخذ عنه كثير من أهل المشرق. انظر: نيل الابتهاج ص (316)، ولم يذكر وفاته، وجاء في المعسول للمختار السوسي (5/ 306):(كان حيا في أواسط القرن السابع لم أقف له على ترجمة في كتاب معين). وسماه الركراكي وقال (5/ 305): (لانعرف عنه إلا شرحه للمدونة المسمى "مناهج التحصيل").
الأمصار [مجمعون] على منع إمامتها في الفرض والنفل، وشذ أبو ثور، والطبري رضي الله عنهما فأجازوا إمامتها على الإطلاق)
(1)
.
- والعيني (ت 855) بقوله: (وشذ أبو ثور والمزني ومحمد بن جرير الطبري فأجازوا إمامة النساء على الإطلاق للرجال والنساء)
(2)
.
- وابن حجر الهيتمي (ت 974) بقوله: «ولا تصح قدوة رجل
…
بامرأة
…
) إجماعاً في الرجل بالمرأة إلا من شذ كالمزني)
(3)
، ونحوه في نهاية المحتاج للرملي (ت 1009)
(4)
.
- ومجمع الفقه الإسلامي بقولهم: (إن الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي تعبر باسم علماء الأمة الإسلامية وفقهائها عن استنكارها وأسفها على ظهور بدعة مضلة وفتنة قائمة تمثلت في تقدم امرأة لأول مرة لإمامة جماعة من المصلين في صلاة جمعة بكاتدرائية مسيحية في مدينة مانهاتن، وفي هذا مخالفة لأحكام الشريعة من وجوه
…
وقد يكون المقيمون لهذه الصلاة على هذا الوجه معتمدين على أقوال ضعيفة أو غير معتمدة وردت في بعض الكتب الفقهية
…
وعلى من أداها أن يعيدها ظهراً قضاء)
(5)
.
(1)
مناهج التحصيل (1/ 298 - 299).
(2)
البناية شرح الهداية (2/ 336).
(3)
تحفة المحتاج (2/ 288).
(4)
نهاية المحتاج (2/ 173).
(5)
نشر البيان وكالة الأنباء السعودية (واس) بتاريخ (12/ 2/ 1426 هـ)، وانظر:"من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل" لرجب أبومليح ص (280).
- و مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بقولهم: (المجمع إذ يستنكر هذا الموقف البدعي الضال ويستبشعه فإنه يقرر للأمة الحقائق التالية
…
فهو قول محدث من جميع الوجوه، باطل في جميع المذاهب المتبوعة، السنية والبدعية على حد سواء!
…
إن المجمع ليحذر الأمة من الافتتان بمثل هذه الدعوات الضالة المارقة من الدين، والمتبعة لغير سبيل المؤمنين)
(1)
.
- وأ. د. حسام عفانة
(2)
بقوله: (إمامة المرأة في صلاة الجمعة منكر ومعصية ظاهرة وبدعة جديدة مخالفة لما هو مقرر شرعاً ومخالف لما مضى عليه العمل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى عصرنا الحاضر وهو أمر شاذ بل في غاية الشذوذ)
(3)
.
- و أ. د. علي جمعة بقوله: (شذ أبو ثور، والمزني، وابن جرير؛ فذهبوا إلى صحة صلاة الرجال وراء المرأة في الفرائض، وإلى هذا القول الشاذ ذهب كذلك محيي الدين بن العربي من الظاهرية)
(4)
.
(1)
البيان منشور في بعض الصحف، وهو منشور في موقع الإسلام أون لاين، وموقع صيد الفوائد، وانظر:"من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل" ص (282 - 283).
(2)
أ. د. حسام الدين بن موسى بن محمد بن عفانة، ولد في فلسطين سنة (1374) هـ، درس البكالريوس في الجامعة الإسلامية وأكمل الماجستير والدكتوراه في جامعة أم القرى، وله العديد من المؤلفات في الفقه وأصوله، كما أشرف وناقش عشرات الرسائل العلمية، وهو مشرف شبكة يسألونك الإسلامية، وترجمته منشوره في هذا الموقع.
(3)
فتاوى يسألونك (10/ 316).
(4)
في مقال له بعنوان: (إمامة المرأة في الصلاة) منشور في موقعه على الشبكة، علماً أن بعض الصحف نسبت إليه بعد أن ذكر خلاف الطبري وابن [عربي] أنه قال:(الأمر في مثل هذه الحالات الخلافية يرد إلى أهل الشأن فإن قبلوا أن تؤمهم امرأة فهذا شأنهم ولا حرج عليهم، أما إن رفضوا فهذا شأنهم أيضاً)، ولم أقف على كلامه لكنه منتشر في بعض الصحف وأنه رجع عنه بعد ذلك، ولم أقف كذلك على تراجعه، والأهم أن كلامه المنقول في المتن بموافقة العلماء هو المتأخر في زمانه، وهو المحرر الذي يمكن أن ينسب إليه، بخلاف الحديث الصحفي الذي يعتريه ما يعتريه، لكن الغريب في كلامه حكايته خلاف ابن عربي القائل بوحدة الوجود، وإيمان فرعون، وتفضيل الولي على النبي، فمن متى يُعتد بابن عربي في خلاف أو يفرح به في وفاق؟! قال الذهبي عنه في السير (23/ 46):(ومن أردإ تواليفه كتاب "الفصوص"، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر) انتهى، ونقل عن العز بن عبد السلام أنه قال عنه:(شيخ سوء، كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجاً)، ولذلك ستقف هنا على نقولات كثيرة في مسألتنا ولا أحد منهم ينقل عن ابن عربي، مما يدل على عدم اعتبارهم به أصلاً، وهذا محل اتفاق في أصحاب البدع المكفرة.
- ود. صالح الشمراني: (من أجاز إمامتها اختلفوا في ضابط ذلك، وكل ما ذكروه تحكم بلا دليل، فصح شذوذ ما خالف قول العامة، فلا يعتمد عليه)
(1)
.
(1)
الأقوال الشاذة في بداية المجتهد ص (239).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم صحة إمامة المرأة للرجال:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(1)
.
وجه الاستدلال:
- أن الآية (قصرت من أن يكون لهن ولاية وقيام)
(2)
، ف (الرجال قوامون على النساء، يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية
…
ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالفراق)
(3)
.
- يؤيد ذلك ما صحّ عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا رأى النساء، قال:(أخّروهن حيث جعلهن الله)، وقال:(إنهن مع بني إسرائيل يصففن مع الرجال)
(4)
. ودلالته على المقصود، أي: أخروهن (كما أخرهن الله في الشهادات والإرث وجميع الولايات)
(5)
، (وهو يفيد
(1)
من الآية (34) من سورة النساء.
(2)
الحاوي الكبير (2/ 326)، قال الشافعي في الأم (1/ 191):(لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن عن أن يكن أولياء وغير ذلك، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبداً).
(3)
تفسير البيضاوي (2/ 72).
(4)
أخرجه ابن خزيمة (1700) وبنحوه عند عبدالرزاق في المصنف (5115) بإسناد صحيح.
(5)
الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (1/ 60).
افتراض تأخرهن عن الرجال)
(1)
، (فإذا وجب تأخيرهن حرم تقديمهن)
(2)
، لأن (الأمر بالتأخير أمر بالتقدم عليها ضرورة فإذا لم تؤخر ولم يتقدم فقد قام مقاماً ليس بمقام له فتفسد)
(3)
.
- ومما يقوي هذا المقصود قوله صلى الله عليه وسلم: «
…
خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها»
(4)
. فالمراد بالحديث: (صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال)
(5)
، (لما في ذلك من سترهن بمن تقدمهن)
(6)
، فالمباعدة بينهما بالنظر أو السمع أو الشم مقصود شرعي ظاهر لئلا تقع الفتنة؛ ولذلك:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم» ، قال ابن شهاب:(فأرى -والله أعلم- أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم)
(7)
.
- (فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها؛ فأمرها أن تخرج تفلة، وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال، وأن لا تسبح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تصفق ببطن كفها على ظهر الأخرى، كل ذلك سدّاً للذريعة وحماية عن المفسدة)
(8)
، فكيف يخالف هذا المقصود الشرعي بتجويز إمامتها للرجال؟!.
- (ولأن المرأة ناقصة عن الرجل وقد يكون في إمامتها افتتان بها)
(9)
، و (الأنوثية نقص لازم مؤثر في سقوط وجوب الصلاة،
(1)
البحر الرائق (1/ 375).
(2)
الحاوي الكبير (2/ 326).
(3)
بدائع الصنائع (1/ 239).
(4)
أخرجه مسلم (440).
(5)
شرح النووي على مسلم (4/ 159).
(6)
إكمال المعلم (2/ 351).
(7)
أخرجه البخاري (837) من طريق ابن شهاب الزهري، عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة رضي الله عنها به.
(8)
إعلام الموقعين (3/ 118).
(9)
نهاية المحتاج (2/ 173).
فكان مؤثراً في منع الإمامة)
(1)
.
2/ واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
(2)
.
وجه الاستدلال:
- (كلمة (قوم) وكلمة (امرأة) نكرة، وقعت في سياق النفي فتعم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)
(3)
و (تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب)
(4)
.
- و الحديث (يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور، وهذا من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها)
(5)
، (ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته)
(6)
.
3/ ومن الأدلة أيضاً: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
(1)
الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 296).
(2)
أخرجه البخاري (4425) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وممن استدل به بعض الشافعية كالماوردي في الحاوي (2/ 326).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 13).
(4)
نيل الأوطار (8/ 304)، وقال في السيل الجرار ص (817):(فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد).
(5)
السيل الجرار ص (152 - 153)، قال الصنعاني في سبل السلام (2/ 575):(فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئاً من الأحكام العامة بين المسلمين، وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها راعية في بيت زوجها)، قلت: ومما خصص من عموم منعها من الولاية إمامتها بنساء مثلها.
(6)
الدراري المضية (1/ 100)، وقد ناقش ابن القيم هذا الاستدلال في سياق من منع إمامة المرأة بنساء مثلها كالمالكية، وأن في ذلك رد للسنة فقال كما في إعلام الموقعين (2/ 271):(وهذا إنما ورد في الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا) انتهى، قلت: ولعل الأحسن من ذلك اعتبار إمامتها ولاية تدخل في عموم لفظ الحديث، وأما إمامتها بالنساء وكذا ولايتها في بيتها ونحوهما فهو مما ورد تخصيصه من عموم نفي الفلاح، والله أعلم.
1.
قال الماوردي (ت 450): (لا يجوز للرجل أن يأتم بالمرأة بحال، فإن فعل أعاد صلاته، وهذا قول كافة الفقهاء إلا أبا ثور فإنه شذ عن الجماعة)
(1)
.
2.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (وأجمع العلماء على أن الرجال لا يؤمهم النساء)
(2)
.
3.
وقال ابن حزم (ت 456): (ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه)
(3)
، وقال في مراتب الإجماع:(واتفقوا أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة فان فعلوا فصلاتهم فاسدة بإجماع)
(4)
، ونقله ابن القطان في الإقناع
(5)
، ولم يتعقبه ابن تيمية في إمامتها في الفرض، وتعقبه في التطوّع بقوله:(ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان)
(6)
.
4.
وقال ابن هبيرة (ت 560): (أجمعوا على أنه لا يجوز إمامة المرأة للرجال في الفرائض)
(7)
.
5.
وقال ابن قدامة (ت 620): (ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض)
(8)
.
6.
وقال قاضي صفد محمد بن عبدالرحمن الدمشقي (ت بعد 780 هـ)
(9)
:
(1)
الحاوي الكبير (2/ 326).
(2)
الاستذكار (2/ 79).
(3)
المحلى (2/ 167).
(4)
مراتب الإجماع ص (27).
(5)
الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 144).
(6)
نقد مراتب الإجماع ص (290).
(7)
اختلاف الأئمة العلماء (1/ 133).
(8)
المغني (2/ 147)، وانظر: الشرح الكبير (2/ 53).
(9)
كما في الأعلام للزركلي (6/ 193)، وقال في ترجمته:(محمد بن عبد الرحمن بن الحسين، أبو عبد الله صدر الدين الدمشقيّ العثماني الصفدي الشافعيّ المعروف بقاضي صفد: فقيه من أهل دمشق كان (قاضي قضاة المملكة الصفدية) كما يعرّف به).
(ولا تصح إمامة المرأة بالرجال في الفرائض بالاتفاق)
(1)
.
7.
وقال الزيلعي (ت 743): (لا يجوز الاقتداء بالمرأة إجماعاً)
(2)
.
8.
ولما قال الخرقي: (وإن صلى خلف
…
امرأة
…
أعاد الصلاة) قال الزركشي (ت 772) معلّقاً: (ولا نزاع في الفرض)
(3)
.
9.
وقال العيني: (لما جاء الأمر بتأخيرها فلا يجوز تقديمها، فلم يجز الاقتداء بها. وفي الأترازي: فإن قيل: هذا الحديث خبر الواحد وبمثله ثبت الوجوب لا الفرض فلا تفسد الصلاة بتركه، قلنا: هذا حديث مشهور تثبت الفرضية به، فتركه مفسد، وفي "المجتبى": يمسك في المسألة بالإجماع)
(4)
.
10.
وقال ابن الهمام (ت 861): (الإجماع على عدم جواز إمامتها للرجل)
(5)
.
11.
وقال ابن حجر الهيتمي (ت 974): «ولا تصح قدوة رجل
…
بامرأة
…
) إجماعاً في الرجل بالمرأة إلا من شذ كالمزني)
(6)
.
12.
وقال الرملي (ت 1009): «ولا تصح قدوة رجل
…
بامرأة) بالإجماع في الرجل بالمرأة إلا من شذ كالمزني)
(7)
.
13.
وقال الشوكاني (ت 1250): (لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء، ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء)
(8)
.
(1)
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (63).
(2)
تبيين الحقائق (1/ 137).
(3)
شرح الزركشي على الخرقي (2/ 95).
(4)
البناية شرح الهداية (2/ 343)، و "المجتبى" شرح على مختصر القدوري -غير مطبوع- للزاهدي الغزميني (ت 658).
(5)
فتح القدير (1/ 360).
(6)
تحفة المحتاج (2/ 288).
(7)
نهاية المحتاج (2/ 173).
(8)
السيل الجرار ص (152).
14.
وقال عبدالرحمن بن قاسم (ت 1392): «ولا) تصح صلاة رجل وخنثى خلف (امرأة)
…
، إجماعاً في الرجل بالمرأة)
(1)
.
15.
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: (لا تصح إمامة المرأة للرجال، وهذا متفق عليه بين الفقهاء)
(2)
، وفي موضع آخر:(اتفق الفقهاء على اشتراط الذكورة في إمامة الصلاة للرجال في الفريضة)
(3)
.
16.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: (لا تجوز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وهو المقرر في المذاهب الأربعة، ولا يعلم في جريان عمل المسلمين أن امرأة أمت رجلاً أو رجالاً في الصلاة)
(4)
.
17.
وفي قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا: (لقد انعقد إجماع الأمة في المشارق والمغارب على أنه لا مدخل للنساء في خطبة الجمعة ولا في إمامة صلاتها، وأن من شارك في ذلك فصلاته باطلة إماماً كان أو مأموماً، فلم يسطّر في كتاب من كتب المسلمين على مدى هذه القرون المتعاقبة من تاريخ الإسلام فيما نعلم قول فقيه واحد: سني أو شيعي، حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي يجيز للمرأة خطبة الجمعة أو إمامة صلاتها، فهو قول محدث من جميع الوجوه، باطل في جميع المذاهب المتبوعة، السنية والبدعية على حد سواء!)
(5)
.
(1)
حاشية الروض المربع (2/ 312).
(2)
الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 204).
(3)
المرجع السابق (22/ 118)، وجاء في موضع آخر (21/ 267):(وذهب أبو ثور والمزني وابن جرير إلى صحة صلاة الرجال وراء المرأة).
(4)
فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية (6/ 293).
(5)
البيان منشور في بعض الصحف، وهو منشور في موقع الإسلام أون لاين، وموقع صيد الفوائد، وانظر:"من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل" ص (282 - 283).
18.
وجاء في قرار المجلس العلمي الأعلى بالمغرب: (أما إمامة المرأة بالرجال فإن الفقه الإسلامي مجمع على منعها، لما يترتب عنها من تغيير في هيئة الصلاة، إذ أن صلاة المرأة سرية بينما يعتبر السر في الصلاة الجهرية نقصا في صلاة الرجال. كما أن إمامة المرأة تقتضي حتما تقديمها وتغيير موقعها في مشهد صلاة الجماعة. ولم يثبت في تاريخ المغرب ولا عند علمائه أن أمت امرأة الصلاة في المسجد لا بالرجال ولا بالنساء، في أي وقت من الأوقات، وهذا ما دأب عليه أهل هذا البلد الأمين وجرى به عملهم في مختلف العهود)
(1)
.
19.
وقال أ. د. علي جمعة: (فقد رأينا المسلمين شرقًا وغربًا سلفًا وخلفًا قد أجمعوا فعليًّا على عدم تولي المرأة للأذان، ولا توليها لإمامة جماعات الصلاة، ولا توليها لإمامة الجمعة، فلم يعرف تاريخ المسلمين خلال أربعة عشر قرنًا أن امرأة خطبت الجمعة وأمت الرجال، حتى في بعض العصور التي حكمتهم امرأة مثل «شجرة الدر» في مصر المملوكية
…
ونفتي بما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، قولًا وعملًا؛ لقوة الأدلة، ولعمق النظر، وإنما نقلنا ذلك القول الشاذ من التراث الفقهي؛ لأمانة العلم وليس لجعله هو المعمول به، والدعوة للعمل بهذا القول الشاذ فيه اتهام للأمة سلفًا وخلفًا، ولا تجتمع أمة المسلمين على ضلالة أبدًا)
(2)
.
وتلخيصاً لما في النقولات الإجماعية: فإن الإجماع على منعها من
(1)
"من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل" لرجب أبومليح ص (284 - 285)، ومنشور أجزاء منه في بعض الصحف.
(2)
في مقال له بعنوان: (إمامة المرأة في الصلاة) منشور في موقعه على الشبكة.
الإمامة في الفرائض ظاهر، ونُقل عن أبي ثور (ت 240)، والمزني (ت 264)، وابن جرير (ت 310)، جواز ذلك وبعضها محتمل لمن صلى خلفها وهو لايعلم، وبعضها يحتمل أنها في صلاة التراويح مع الأميين، ونسب قولهم إلى الشذوذ فلا يعتبر به في مخالفة الإجماع، والجواز بقيود مروي عن الإمام أحمد وجماعة من أصحابه، وهذا تحقيق لمذاهبم:
- أما النقل عن أبي ثور الكلبي
(1)
(ت 240) والمزني (ت 264):
- فأول من وقفت عليه ينقل عنهما ابن المنذر (ت 319)، والثلاثة معدودون في أصحاب الشافعي، ومذكورون في طبقاتهم، مع تقدمهم واجتهادهم، أما الكلبي والمزني فهما في الطبقة [الأولى] من النقلة عن الشافعي
(2)
، وأما ابن المنذر فهو في الطبقة الثالثة وقد
(1)
إبراهيم بن خالد بن أبى اليمان الكلبي، متفق على إمامته، وجلالته كما قال النووي، لازم الشافعي، وصار من أعلام أصحابه، وأخذ عن الإمام أحمد وشيوخه، وروى عنه ابن ماجه وأبو دواد وخلق، وله مذهب مستقل، قال الإمام أحمد:(أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري)، ومع إجلال الإمام أحمد له إلا أنه شنع عليه في مسألة، ولم يعتد برأيه فيها وهي مسألة جواز نكاح المجوس وذبائحهم قال أحمد:(ما اختلف أحد في نكاح المجوس، أو في ذبائحهم)، قال الخلال:(وأنكر أبو عبد الله نكاح المجوسيات إنكارا شديدا، وضعف ما جاء فيه) قال ابن القيم: (فإنه قد حكي له أن أبا ثور يجيز نكاح المجوس، فقال: أبو ثور كاسمه، ودعا عليه)، ولما قال أبوحاتم:(أبو ثور رجل يتكلم بالرأي يخطئ ويصيب وليس محله محل المتسعين في الحديث، قد كتبت عنه) علق عليه الذهبي بقوله: (فهذا غلو من أبي حاتم سامحه الله)، ومهما يكن فقد قال ابن عبدالبر:(كان حسن النظر، ثقة فيما روى من الأثر إلا أن له شذوذا فارق فيه الجمهور وقد عدوه أحد أئمة الفقهاء)، مات سنة (240 هـ). انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 98)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 200)، طبقات الشافعية الكبرى (2/ 74)، ميزان الاعتدال (1/ 29)، إكمال تهذيب الكمال (1/ 201)، أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل أحمد ص (160)، أحكام أهل الذمة (2/ 817).
(2)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى (2/ 74)(2/ 93)، طبقات الشافعيين ص (98)(122).
عاصر المزني
(1)
.
- وعبارة ابن المنذر عنهما: (كان الشافعي يقول: لو صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور، فصلاة النساء مجزية، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزية. وكان أبو ثور يقول: صلاتهم مجزية، وهو قياس قول المزني)
(2)
.
- ورأس المسألة هو: (ذكر الصلاة خلف الكافر والمأموم لا يعلم بكفره والصلاة خلف المرأة)
(3)
، ثم ذكر الصلاة خلف الكافر وأنها لا تصح، قال:(وقالت طائفة: لا إعادة على من صلى خلفه، هذا قول أبي ثور والمزني)، ثم ذكر الصلاة خلف المرأة وقال:(وكان أبو ثور يقول: صلاتهم مجزية، وهو قياس قول المزني).
- وفي قوله: (صلاتهم مجزية) ما يشعر بأن هذا الحكم ليس مطلقاً إنما هو فيمن علم بعد فراغه، وهو ينسبه لأبي ثور من قوله، وينسبه للمزني بالقياس على قوله في الصلاة خلف الكافر، وقول المزني في الصلاة خلف الكافر نقله الماوردي (ت 450) في حكم
(1)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى (3/ 102)، قال الذهبي في السير (14/ 490) عن ابن المنذر:(ولد في حدود موت أحمد بن حنبل). ووفاة الإمام أحمد سنة (241)، ووفاة المزني سنة (264)، فعمر ابن المنذر حينها (23) سنة، إلا أن ابن المنذر حجازي والمزني مصري، لكن ابن المنذر رحل إلى مصر وأخذ العلم عن الربيع صاحب الشافعي فلا يبعد سماعه من المزني، وهناك رواية مشهورة لابن المنذر عن المزني، حين قال ابن المنذر: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: (ما رأيت سمينا أخف روحاً من محمد بن الحسن وما رأيت أفصح منه). لسان الميزان (7/ 60).
(2)
الأوسط (4/ 162)، وفي المغني لابن قدامة (2/ 146). المغني لابن قدامة (2/ 146):(وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال، في فرض ولا نافلة، في قول عامة الفقهاء، وقال أبو ثور: لا إعادة على من صلى خلفها. وهو قياس قول المزني).
(3)
المرجع السابق.
الصلاة خلف الكافر إذا لم يعلم بكفره وكان كفره مما يظهر كأهل الذمة قال: (فصلاة من ائتم به باطلة، وهو مذهب الفقهاء كافة، وقال المزني: صلاته جائزة كالمصلي خلف جنب، وهذا غلط)
(1)
، فهذا مذهب المزني في الصلاة خلف الكافر إذا لم يعلم بكفره
(2)
، وقاس عليه ابن المنذر الصلاة خلف المرأة، وينبغي أن يكون أيضاً لمن لم يعلم بكونها امرأة إلا بعدما صلى.
- قال القاضي حسين (ت 462): (واختار المزني رحمه الله أنه إذا صلى واحداً فبان كافرًا أو خنثى أو امرأة لا تلزمه الإعادة إذا كان جاهلاً بالحال، وقاس على ما لو بان جنباً أو محدثاً؛ لأن كل صلى لنفسه)
(3)
.
- وهذا القول يظهر كما سبق أنه ليس في حال الاختيار والعلم، وإنما بعد وقوع الفعل مع الجهل بالحال قبل ذلك، وهو مروي أيضاً عن أشهب (ت 204) كما قال ابن حزم:(وروي عن أشهب أنه من ائتم بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم علم فصلاته تامة، وكذا من ائتم بكافر)
(4)
.
(1)
الحاوي الكبير (2/ 336).
(2)
قال الروياني في بحر المذهب (2/ 181): (لو صلى خلف كافر عُزّر الكافر، وأما المأموم: فإن كان عالماً بأنه كافر فقد أساء وصلاته باطلة، وإن كان جاهلاً فهل تجزئه صلاته أم لا؟ فالكافر ضربان: كافر يظهر كفره، وكافر يستره، فإن كان ممن يظهره، فالصلاة باطلة، قال الشافعي رضي الله عنه:"لأنه ائتم بمن لا يصح أن يكون إماماً له بحال". وقال أصحابنا: لأنه مفرط بالائتمام به، فإن علامته تظهر بالغيار والزنار، وهذا يبطل بالمرتد، لأنه لا أمارة على كفره، ولا تصح الصلاة خلفه، ويمكن بأن يعلل بأن هذا يندر، ولا يكثر، فلا يؤدي وجوب المتحرز منه إلى المشقة على المأمومين، قال المزني:"تصح صلاته، لأنه أدى ما كلف"، وهو غلط لما ذكرنا، وإن كان ممن يستسر بكفره كالزنديق والمنافق
…
) الخ.
(3)
التعليقة على مختصر المزني (2/ 1036).
(4)
مراتب الإجماع ص (27 - 28).
- مما سبق فلا يصح الجزم بأن المزني قوله كقول أبي ثور في الصلاة خلف المرأة، ولذلك كان أبو حامد الاسفراييني (ت 406) دقيقاً حين قال:(مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة الرجال وراءها إلا أبا ثور)
(1)
، فلم يذكر المزني، ومثله الماوردي (ت 450) حين قال:(لا يجوز للرجل أن يأتم بالمرأة بحال، فإن فعل أعاد صلاته، وهذا قول كافة الفقهاء إلا أبا ثور فإنه شذّ عن الجماعة فجوّز للرجل أن يأتم بالمرأة)
(2)
، فلم ينسباه إلا لأبي ثور، و الاسفراييني هو ثاني من وقفت عليه ينسبه لأبي ثور والماوردي الثالث، والأول ابن المنذر كما سبق، وأضاف إليه المزني بالقياس.
- و أدق العبارات في نسبة قوليهما: (مسألة: عند الشافعي وأحمد وأكثر العلماء إذا صلى خلف كافر أو امرأة ولم يعلم بحالهما ثم علم أعاد الصلاة، وعند أبي ثور وبعض أصحاب الظاهر لا إعادة عليه، وعند المزني مثل قولهم في الكافر)
(3)
.
- فالذي يظهر من مذهب أبي ثور و المزني في الصلاة خلف المرأة هو: فيمن صلى خلفها وهو لا يعلم بأنها امرأة، فقال أبو ثور:(صلاتهم مجزية)، أما المزني فليس له قول منقول إنما هو القياس على قوله فيمن صلى خلف الكافر، والنقول السابقة هي الأصح
(1)
نقله عنه النووي في المجموع (4/ 255).
(2)
المرجع السابق (2/ 326).
(3)
المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة (1/ 202)، ومؤلفه من كبار الشافعية في اليمن في القرن الثامن، وكلامه هذا هو الأدق، مع أنه قال قبل ذلك (1/ 200):(وعند المزني وأبي ثور ومحمد بن جرير الطبري يجوز أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال).
لتقدمها، ولكونها من شافعيين وهم أعرف بأقوال أصحابهم، ثم جاءت النسبة إليهما مع ابن جرير الطبري، وفيها اضطراب وانقطاع كما في الآتي:
- أما النقل عن ابن جرير الطبري (ت 310)، فقد جاء متأخراً، وأول من وقفت عليه يحكيه عنه: أبو الطيب الطبري (ت 450)، وتلميذه العبدري (ت 493) فيما نقله عنهما النووي بقوله:(وقال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها، حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري)
(1)
، و ولادة أبي الطيب سنة (348) و وفاة ابن جرير سنة (310) يعني: ولد أبو الطيب بعد وفاة ابن جرير بثلاث وثلاثين سنة، وعدم الإدراك والانقطاع بينهما يُضعف نسبة القول، خاصة مع تفرد مثل أبي الطيب بالنقل عنه، وعدم وجود هذا المنقول فيما وصل إلينا من كتب ابن جرير، ومخالفته للإجماع، والاضطراب في المنقول كما سيأتي.
- ثم بعد أبي الطيب و العبدري تتابع العلماء على النقل عنهم وسأذكر ما تيسر منها، وهي على ثلاث أوجه:
الوجه الأول: من نقل عنهم القول بإطلاق دون تقييد بنفل ونحوه:
- قال اللخمي (ت 478): (وأجاز أبو ثور والطبري إمامتها الرجال والنساء)
(2)
، وقال ابن رشد (ت 595):(وشذ أبو ثور، والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق)
(3)
، وقال الرجراجي (ت بعد 650): (وشذ أبو ثور، والطبري رضي الله عنهما فأجازوا إمامتها على
(1)
المجموع (4/ 255).
(2)
التبصرة (1/ 328).
(3)
بداية المجتهد (1/ 155).
الإطلاق)
(1)
، وقال العيني (ت 855):(وشذ أبو ثور والمزني ومحمد بن جرير الطبري فأجازوا إمامة النساء على الإطلاق للرجال والنساء)
(2)
، وقال في موضع آخر:(حكي عن ابن جرير الطبري أنه يجوز إمامتها بالتراويح إذا لم يكن هناك قارئ غيرها)
(3)
.
الوجه الثاني: من نقل عنهم القول مقيداً بالنافلة إذا لم يكن قارئ غيرها:
- قال أبوبكر الشاشي (ت 507): (وحُكي عن أبي ثور وابن جرير الطبري أنه يجوز إمامتها في صلاة التراويح إذا لم يكن هناك قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال)
(4)
، وقال العمراني (ت 558):(قال أبو ثور والمزني، ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون إمامًا للرجل في التراويح، إذا لم يكن قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال)
(5)
، وقال ابن الأثير (ت 606):(المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا للرجل. وبه قال عامة الفقهاء إلا ما حُكي عن أبي ثور، والمزني، ومحمد بن جرير الطبري فإنهم قالوا: يجوز في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال)
(6)
، وقال الريمي الشافعي (ت 792):(وعند المزني وأبي ثور ومحمد بن جرير الطبري يجوز أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال)
(7)
، وقال الدميري (ت 808): (
…
خلافًا لأبي ثور والمزني وابن جرير، فإنهم جوزوا لها أن تؤم الرجال في التراويح بشرط أن لا يكون ثم قارئ غيرها وأنها تقف خلفهم)
(8)
، وقال
(1)
مناهج التحصيل (1/ 298 - 299).
(2)
البناية شرح الهداية (2/ 336).
(3)
المرجع السابق (2/ 344).
(4)
حلية العلماء (2/ 170).
(5)
البيان (2/ 398).
(6)
الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 10).
(7)
المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة (1/ 200).
(8)
النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 352).
المغرِبي (ت 1119): (وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة، وظاهر الرواية الإطلاق في الفرائض والنوافل، والطبري أجاز إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن)
(1)
، وقال الصنعاني (1182):(وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة، وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن)
(2)
، وقال الشوكاني:(ت 1250): (وأجاز المزني وأبو ثور والطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن)
(3)
.
الوجه الثالث: من نقل عنهم القول بالوجهين السابقين دون ترجيح:
- قال الروياني (ت 502): (لا يجوز أن تكون المرأة إماماً للرجال وبهذا قال كافة العلماء، وقال أبو ثور يجوز ذلك، وحكي عنه وعن ابن جرير أنهما قالا: يجوز في صلاة التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف [خلف] الرجال)
(4)
، وقال المازري (ت 536): (وحكى بعض أصحابنا عن الطبري وداود وأبي ثور جواز إمامتها رجالًا ونساء، ورأيت في نقل غيرهم عن أبي ثور والمزني والطبري أنهم أجازوا أن تؤم
…
التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال)
(5)
، وقال ابن الملقن (ت 804): (
…
خلافًا للطبري وأبي ثور، فإنهما أجازا إمامة المرأة للرجال والنساء جملة، وحكي عنهما إجازته في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها)
(6)
.
- وأدق عبارة في النسبة إلى الثلاثة قول ابن سيد الناس (ت 734):
(1)
البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 336).
(2)
سبل السلام (1/ 373).
(3)
نيل الأوطار (3/ 196).
(4)
بحر المذهب (2/ 261).
(5)
شرح التلقين (1/ 670).
(6)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/ 534).
(ففيه إمامة الرجال الرجال، والرد على من ذهب إلى أن المرأة تؤم الرجال ويحكى عن محمد بن جرير الطبري. والشافعي يوجب الإعادة على من صلى من الرجال خلف المرأة، وقال أبو ثور: لا إعادة عليهم، وهو قياس قول المزني)
(1)
.
- فائدة: قال ابن العربي: (نُقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية؛ ولم يصح ذلك عنه
…
فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير، لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالة برزة لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم، وتكون منظرة لهم، ولم يفلح قط من تصور هذا، ولا من اعتقده)
(2)
.
- أما الحنابلة: فإن المذهب عندهم عدم جواز إمامة المرأة بالرجال مطلقاً
(3)
، وهو ما اتُفق عليه في الإقناع والمنتهى
(4)
.
- والرواية الثانية: جواز إمامتها في النافلة، والرواية الثالثة: تصح إمامتها في التراويح فقط، قال المرداوي عن هذه الرواية: (نص
(1)
النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 260)، فمرّض المروي عن الطبري، ولم ينسبه للمزني إلا قياساً، ونسبته لأبي ثور بإطلاق محل بحث سبق، وأن الأظهر أن قوله فيمن لم يعلم بذلك إلا بعد صلاته، والله أعلم.
(2)
أحكام القرآن (3/ 483).
(3)
قال برهان الدين ابن مفلح في المبدع (2/ 81): (لا يصح أن يأتم رجل بامرأة في الصحيح من المذهب؛ وهو قول عامتهم)، قال المرداوي في الإنصاف (2/ 263):(هذا المذهب مطلقاً).
(4)
انظر: الإقناع (1/ 168)، وقال في المنتهى (1/ 304):(ولا تصح إمامة امرأة وخنثى لرجال أو لخناثى إلا عند أكثر المتقدمين، إن كانا قارئين والرجال أميون في تراويح فقط ويقفان خلفهم).
عليه، وهو الأشهر عند المتقدمين
…
وهو من المفردات
…
فعلى هذه الرواية، قيل: يصح إن كانت قارئة وهم أميون
…
وقيل: إن كانت أقرأ من الرجال، وقيل: إن كانت أقرأ وذا رحم
…
وقيل: إن كانت ذا رحم أو عجوز
…
قال في الفروع: واختار الأكثر صحة إمامتها في الجملة
…
فائدة: حيث قلنا: تصح إمامتها بهم، فإنها تقف خلفهم؛ لأنه أستر، ويقتدون بها، هذا الصحيح
…
قلت: فيعايى بها، وعنه تقتدي هي بهم في غير القراءة، فينوي الإمامة أحدهم
…
قلت: فيعايى بها أيضاً)
(1)
.
- قال برهان الدين ابن مفلح: (وعنه: تصح في النفل، وعنه: في التراويح
…
وخص بعض أصحابنا الجواز بذي الرحم، وبعضهم بكونها عجوزاً، وبعضهم بأن تكون أقرأ من الرجل، وعلى الصحة تقف خلفهم، ويقتدون بها في جميع أفعال الصلاة
…
وقيل: لا بد أن يتقدمهم أحدهم، وفيه بعد، وعنه: يقتدون بها في القراءة، ويقتدى بهم في غيرها، فينوي الإمامة أحدهم، واختار الأكثر الصحة في الجملة)
(2)
.
- و الرواية المقابلة للصحيح والمذهب: بجواز إمامتها للرجل، إذا لم يكن قارئ إلا هي، فتكون هي القارئة بشرط أن تكون خلفه، وتقتدي بأفعاله، له فيها سلف كما أخرج عبد الرزاق عن:
- التابعي قتادة بن دعامة (ت 118) أنه قال: (إذا كان الرجل لا يقرأ مع نساء تقدّم، وقرأت المرأة من ورائه، فإذا كبر ركع، وركعت
(1)
الإنصاف (2/ 265)، وانظر: الفروع (3/ 25)، شرح الزركشي (2/ 95)، المنح الشافيات (1/ 252).
(2)
المبدع (2/ 81 - 82).
بركوعه، وسجدت بسجوده)
(1)
.
- ورأي قتادة له ثقله والظاهر أنه مسبوق إليه، لأنه ثبت عنه أنه قال:(ما أفتيت برأي منذ ثلاثين سنة)
(2)
، قال الذهبي معلّقاً:(فدلّ على أنه ما قال في العلم شيئاً برأيه)
(3)
.
- وهذا يحتمل أنه مسبوق بسنة أو قول صاحب ونحوهما، وعلى كل حال فهذا القول ليس في حال الاختيار والسعة إنما هو عند العجز وعدم وجود القارئ، فهو كسائر ما يُعجز عنه من الواجبات، ولذلك قدّره بقدره فجوّز لها القراءة دون الاقتداء بالأفعال؛ لأنها ممكنة فلم تسقط عن الرجل، و لئلا تتقدم على الرجل فتخالف بذلك سنن و مقاصد عديدة.
- قال ابن تيمية: (ومن اهتدى لهذا الأصل، وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها، فقد هدي لما جاءت به السنة
…
ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح
…
وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها)
(4)
.
- والخلاصة: أن القول بجواز إمامة المرأة بالرجل يقوى عن أبي ثور مع احتمال أن يكون قوله فيمن لم يعلم بأنها امرأة إلا بعد الصلاة فصلاته (مجزية)، أما المزني فلا قول له هنا وإنما جعله ابن المنذر
(1)
أخرجه عبدالرزاق (5089)، في (باب إذا كانت المرأة أقرأ من الرجال) عن معمر عن قتادة به، وسنده صحيح.
(2)
العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله (3/ 233)، الثقات لابن حبان (8/ 93).
(3)
سير أعلام النبلاء (5/ 273).
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 248).
قياس قوله، ثم نسبه إليه جماعة من المتأخرين عنه، وأما الطبري فإن النسبة إليه محل نظر وبعضهم يطلق القول عنه في جواز إمامتها للرجل في الفرض والنفل مطلقاً وهذا لا يقبل مع مخالفته للإجماع إلا بنص ثابت عنه ولا يوجد، وبعضهم يجعل قوله مقيداً في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال وهذا القول رواية عن أحمد وله سلف.
- فتبين أن هذا القول لا يكاد يثبت إلا عن أبي ثور، مع ضعفه حيث لم ينقل من كتاب له ولم ينقل باتصال عنه، إلا إن نقل الشافعية -وهم أصحابه- يقوي النسبة مع تردد في الجزم بها، مع احتمال المنقول عنه وأقوى الاحتمالات: أن رأيه فيما إذا صلى خلف من لم يعلم كونها امرأة، والجواز رواية عن أحمد في حال عجز الرجل عن القراءة في صلاة التراويح وتصلي خلفه، وهو موافق لرأي قتادة.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز إمامة المرأة للرجل:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ بحديث أم ورقة رضي الله عنها وكانت قد جمعت القرآن: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها» ، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (27283) مختصراً بهذا اللفظ، وبنحوه عند أبي داود (592)، وأخرجه ابن خزيمة (1676) وفي لفظه:«وأذن لها أن تؤذن لها، وأن تؤم أهل دارها في الفريضة» ، ونحوه عند الحاكم (730) وقال:(وهذه سنة غريبة لا أعرف في الباب حديثاً مسنداً غير هذا)، وأخرجه غيرهم، و مداره على الوليد بن جميع ورواه مرة عن جدته عن أم ورقة، ورواه عن جدته وعبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة، ورواه عن عبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة، ورواه عن ليلى بنت مالك عن أبيها وعبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة، والوليد بن جميع وإن كان من رجال مسلم وقد أخرج له في موضعين إلا أن فيه ضعفاً، والإمام مسلم قد ينتقي من حديث من ضعف حفظه ما عَرَف ضبطه فيه، إلا أن الحاكم قال كما في المدخل إلى الصحيح (4/ 107): (لو لم يذكره لكان أولى
…
غير أن مسلماً على شرطه في الاستشهاد في اللين من المحدثين إذا قدم الأصل عن الثقة الثبت)، وقد قال ابن حبان عن الوليد في المجروحين (3/ 78 - 79):(كان ممن ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به)، وقال العقيلي في الضعفاء (4/ 317):(في حديثه اضطراب) وبالغ فيه ابن حزم في المحلى (12/ 160) فقال: (الوليد بن جميع - وهو هالك -)!، وقد وثقه ابن معين وغيره، وقال الإمام أحمد و أبو داود:(ليس به بأس) وقال أبو حاتم: (صالح الحديث) كما نقله عنهم في تهذيب التهذيب (11/ 138)، ولخّص ابن حجر حاله في التقريب ص (582) فقال:(صدوق يهم، ورمي بالتشيع)، والظاهر مما تقدم أن في حفظه ضعف، و يُقبل من حديثه الذي عُرف ضبطه فيه مالم يتفرد بما ينكر، وهذا الحديث مما تفرّد به ولا يحتمل تفرده بمثله خاصة أنه اضطرب فيه، وأن في إسناده من لا يعرف وأعني بذلك: جدة الوليد وعبدالرحمن بن خلاد، ولذلك لما ذكر الإشبيلي الحديث في الأحكام الوسطى ولم يبين علته كما اشترط في مقدمته استدرك عليه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 23) بقوله:(وأستبعد عليه تصحيحه، فإن حال عبد الرحمن بن خلاد مجهولة، وهو كوفي، وجدة الوليد كذلك لا تعرف أصلاً)، قلت: قد صدق في استبعاده ذلك؛ حيث ذكر الإشبيلي جهالة عبدالرحمن بن خلاد في الأحكام الكبرى (2/ 126) بقوله: (وعبد الرحمن لا أعلم روى عنه إلا الوليد بن جميع)، ولما ذكر ابن الملقن في البدر المنير (4/ 392) سكوت الإشبيلي وسكوت البيقهي عقّب على ذلك بقوله:(وقد علمت ما فيه من الاضطراب والجهالة).
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وهذا يعم الرجال والنساء
(1)
، و المؤذن مذكور وهو رجل، فدلّ على جواز إمامة المرأة للرجل؛ لأنه لو كان محرماً لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤخر بيانه.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن الحديث ضعيف لا يثبت، ففي إسناده ضعف من جهة الوليد بن جميع، واضطراب في إسناده ومتنه، وجهالة في جدة الوليد و في عبدالرحمن بن خلاد، وتفرّد ونكارة في متنه إن استُدلّ به على
(1)
انظر: بحر المذهب (2/ 261)، المغني (2/ 147).
إمامة المرأة للرجل، كما قال الحاكم:(وهذه سنة غريبة لا أعرف في الباب حديثاً مسنداً غير هذا)
(1)
، وقال أبو الوليد الباجي:(وهذا الحديث مما لا يجب أن يعول عليه)
(2)
.
وأجيب عن تضعيف الحديث:
- بأن (حديثها من رواية الوليد بن عبد الله بن جميع، قال أبو حاتم بن حبان: لا يحتج به. وقال يحيى بن معين: ثقة. وقال الإمام أحمد: ليس به بأس. وكذلك قال أبو زرعة، وقال أبو حاتم الرازي: صالح في الحديث. ورواه (م) في صحيحه، وهؤلاء أعرف من ابن حبان)
(3)
، ف (الوليد هذا ثقة من فُرسَان مُسلم
…
[و] قول هؤلاء الأئمة في توثيقه مقدم على قول ابن حبان فيه؛ لأنهم أعلم منه)
(4)
.
- أما جهالة من فوقه وهي جدته و من قرن معها وهو عبدالرحمن بن خلاد (قال الحافظ عن الأولى: "لا تعرف"، وعن الآخر:"مجهول الحال"
…
ولكن أحدهما يقوي رواية الآخر؛ لا سيما وأن الذهبي قال في "فصل النسوة المجهولات": "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها ")
(5)
.
- (وقد حسّن الدارقطني حديث أم ورقة في كتاب السنن، وأشار أبو حاتم في العلل إلى جودته، وأخرجه بن خزيمة في صحيحه)
(6)
.
(1)
المستدرك (1/ 320).
(2)
المنتقى شرح الموطأ (1/ 235).
(3)
السنن والأحكام لضياء الدين المقدسي (1/ 307).
(4)
البدر المنير (4/ 392)، وقال:(نعم الشأن في (جدته) فإنا لا نعلم لها حالاً، وكذا عبد الرحمن بن (خلاد) وإن نقل عن ابن حبان أنه ذكر عبد الرحمن في «ثقاته» وقد أعله بهما ابن القطان).
(5)
صحيح أبي داود (3/ 144)، وانظر: إرواء الغليل (2/ 256).
(6)
تهذيب التهذيب (2/ 113).
ويمكن الجواب عن هذا الجواب:
- بأن توثيق الراوي لا يلزم منه عدم الخطأ، فالثقة قد يخطئ وقد يشذ، كما تُرجم لعدد من الرواة بأنه (ثقة يخطئ)، والأكثر من النقاد على أن الوليد رتبته أقل من ذلك كما قال أبو حاتم عنه:(صالح الحديث)
(1)
، قال ابن أبي حاتم:(وإذا قيل: صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار)
(2)
فهو دون الاحتجاج عنده، وتوثيق ابن معين يقابله كلام أبو حاتم، وتوسط الإمام أحمد فقال:(ليس به بأس)
(3)
، وهناك من جرحه ومنهم ابن حبان مع أنه -موصوف بالتساهل- فقال عن الوليد:(كان ممن ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به)
(4)
، وقال العقيلي:(في حديثه اضطراب)
(5)
وتعنت ابن حزم فقال: (الوليد بن جميع -وهو هالك-)
(6)
.
- ولعل مجموع كلامهم لخصه ابن حجر بقوله: (صدوق يهم، ورمي بالتشيع)
(7)
، فهو ثقة في نفسه أما حفظه ففيه ضعف، و يُقبل من حديثه ماعُرف ضبطه فيه، فاضطرابه، أو تفرده بأصل، أو بما ينكر، غير قبول منه.
- وأما إخراج مسلم لحديث الوليد فلا يلزم منه توثيق الرواي مطلقاً، فقد أخرج الإمام مسلم لمن هو متكلم فيه أكثر من الكلام في الوليد بن جُميع، كمطر بن طهمان الوراق، قال ابن القيم: (ولا
(1)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/ 8).
(2)
المصدر السابق (2/ 37).
(3)
سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص (303).
(4)
المجروحين (3/ 78 - 79).
(5)
الضعفاء (4/ 317).
(6)
المحلى (12/ 160).
(7)
التقريب ص (582)
عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه)
(1)
، و قد ذكر الحاكم الوليد بن جُميع فيمن عيب على مسلم إخراج حديثه ثم قال:(ولو لم يذكره لكان أولى)
(2)
.
- أما القول بأن جهالة جدة الوليد ومن قرن معها في أحد الطرق وهو عبدالرحمن بن خلاد تقوي الحديث باقتران المجهول مع المجهول، فجوابه: بأن هذه التقوية مبنية على ترجيح هذا الطريق الذي فيه الاقتران وهذا تحكّم، فإن هذا الحديث كما قال الدارقطني:(يرويه الوليد بن عبد الله بن جميع، واختلف عنه)
(3)
ثم ذكر الاختلاف، قلت: رواه عن جدته عن أم ورقة، ورواه عن جدته وعبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة، ورواه عن عبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة، ورواه عن ليلى بنت مالك عن أبيها وعبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة
(4)
، ولعل هذا أقرب إلى الاضطراب الذي يعل به الحديث، وخاصة مع ضعف في الوليد وتصريح العقيلي باضطراب حديثه.
(1)
زاد المعاد (1/ 353).
(2)
المدخل إلى الصحيح (4/ 107)، وقد ذكر من هذا الضرب (98) راوياً عند مسلم مع الجواب عن سبب روايته لهم، وذكر بعده من روى لهم البخاري في الصحيح وقد نسبوا إلى نوع من الجرح وعددهم (35) راوياً، وقد قال في التمهيد لكلامه:(والغرض في هذا الموضع الذب عنهما فيما عيب على كل واحد منهما).
(3)
العلل للدارقطني (15/ 417).
(4)
قال المزي في تهذيب الكمال (35/ 391): (قال المزي: روى حديثها الوليد بْن عَبد اللَّهِ بْن جميع (د)، عن جدته، عن أمها أم ورقة، وقيل: عن الوليد، عن جدته ليلى بنت مالك، عَن أبيها، عن أم ورقة، وقيل: عن الوليد (د)، عن جده، عن أم ورقة وعن عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة، وقيل: عن عبد الرحمن بن خلاد، عَن أبيه، عن أم ورقة)، وذكره للجد وهم نبه عليه ابن حجر في تهذيب التهذيب (2/ 112).
- (فإذا جاء راو ضعيف بعدة أسانيد لمتن واحد؛ فإن هذه الأسانيد لا يقوي بعضها بعضاً، بل يعل بعضها بعضاً، وإن كان راويها في الأصل يصلح حديثه للاعتبار، لكن لما اضطرب في إسناد الحديث عرفنا أنه لم يحفظه كما ينبغي)
(1)
.
- أما قول ابن حجر: (وقد حسّن الدارقطني حديث أم ورقة في كتاب السنن، وأشار أبو حاتم في العلل إلى جودته، وأخرجه بن خزيمة في صحيحه)
(2)
، فتحسين الدارقطني لم أقف عليه في سننه، وقد أورد الحديث في ثلاثة مواضع
(3)
، على أن كتابه السنن (قصد به غرائب السنن)
(4)
، و قد ذكر الحديث أيضاً في كتابه العلل والأصل في الأحاديث المذكورة في كتاب العلل أنها معلولة كما هو اسمه وكما هي قصة تأليفه
(5)
، وعلى فرض تحسينه له، فتحسين الدارقطني لايلزم منه أن يكون ثابتاً (وإنما هو تحسين جارٍ على اصطلاح العلماء المتقدمين، حيث يطلقون "الحسن" أحياناً ويريدون به الحسن المعنوي، وأحياناً أخرى يريدون به الغرابة والنكارة)
(6)
، وتحسينات الترمذي خير شاهد هنا، كما قال ابن
(1)
"الإرشادات في تقوية الحديث بالشواهد والمتابعات" ص (287).
(2)
تهذيب التهذيب (2/ 113).
(3)
انظر: سنن الدراقطني (1084)، (1506)، (3203).
(4)
مجموع الفتاوى (27/ 166)، قال الزيلعي عن سنن الدارقطني في نصب الراية (1/ 356):(مجمع الأحاديث المعلولة، ومنبع الأحاديث الغريبة).
(5)
نقلها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (13/ 487) عن البرقاني الذي كتب العلل عن الدارقطني، فقال:(شرح لي قصة جمع " العلل "، فقال: كان أبو منصور ابن الكرخي يريد أن يصنف مسنداً معللاً، فكان يدفع أصوله إلى الدارقطني، فيعلم له على الأحاديث المعللة، ثم يدفعها أبو منصور إلى الوراقين، فينقلون كل حديث منها في رقعة، فإذا أردت تعليق كلام الدارقطني على الأحاديث، نظر فيها أبو الحسن، ثم أملى علي الكلام من حفظه).
(6)
"الإرشادات في تقوية الحديث بالشواهد والمتابعات" ص (135).
رجب عن الحديث الضعيف الذي يحتج به الإمام أحمد ولم يرد مايخالفه: (مراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن)
(1)
.
- أما تصحيح ابن خزيمة فلعله مبني على مذهبه في توثيق المجهول إلى أن يتبين جرحه، وقد انتقدها ابن حجر على ابن حبان وابن خزيمة بقوله:(فإنه يذكر خلقاً من نص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وكأن عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه بن خزيمة)
(2)
، والعجيب أن ابن حجر أشار إلى ضعف الحديث في تلخيص الحبير بقوله:(وفي إسناده عبد الرحمن بن خلاد وفيه جهالة)
(3)
.
- وعلى فرض ثبوت الحديث فدلالته على إمامة المرأة للرجل ليست صريحة ولا مذكورة، فإن الرجل الواجب في حقه الصلاة في المسجد، ولم يذكر في الحديث أنه كان يصلي معها رجال، وقد جاء في رواية ابن خزيمة ما يدل على أن المؤذن هي ذات المرأة:«وأذِنَ لها أن تُؤذِّنَ لها، وأن تَؤُمَّ أهل دارها في الفريضة، وكانت قد جمعت القرآن»
(4)
.
- وجاء في رواية عند الدارقطني ما يقيد الإطلاق ويخصص إمامتها بالنساء، ولفظه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لها أن يؤذن لها ويقام، وتؤُمَّ نساءها»
(5)
، قال ابن قدامة: (وهذه زيادة يجب قبولها، ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه؛ لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض، بدليل أنه جعل لها مؤذنا، والأذان إنما يشرع في
(1)
شرح علل الترمذي (2/ 576).
(2)
لسان الميزان (1/ 14).
(3)
التلخيص الحبير (2/ 67).
(4)
أخرجه ابن خزيمة (1676)، وهذا الاختلاف مما يبين الاضطراب في المتن أيضاً.
(5)
أخرجه الدارقطني (1084).
الفرائض، ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض)
(1)
.
- وحمل معنى الحديث على إمامة النساء هو ما فهمه من تقدم من الأئمة وهو مقتضى تراجم من أخرجه، فقد قال إسحاق بن راهويه:(فأما سفيان الثوري ومن سلك طريقه فرأوا أن المرأة إذا أمت النساء وقامت وسطهن إن صلاتهن جائزة)، وقال مستدلاً لهم:(هذا على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها حين أمرها أن تؤم أهل دارها، وأخذ بذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وأم سلمة رضي الله عنها)، قال:(وهذا الذي نعتمد عليه)
(2)
، وترجم له أبوداود:(باب إمامة النساء)، وترجم له ابن خزيمة:(باب إمامة المرأة النساء في الفريضة)، وترجم له ابن المنذر:(ذكر إمامة المرأة النساء في الصلوات المكتوبة)، وترجم له الدارقطني:(باب صلاة النساء جماعة وموقف إمامهن)، وترجم له البيهقي:(باب إمامة المرأة النساء دون الرجال)، وقال أبونعيم في الحلية في ذكر الصحابيات:(ومنهن الشهيدة القارئة أم ورقة الأنصارية كانت تؤم المؤمنات المهاجرات)، واستدل به الشافعية على إمامة المرأة بالنساء
(3)
.
- وأول من وقفت عليه يذكر الاستدلال بهذا الحديث على إمامة المرأة للرجال هو الروياني (ت 502) ونسب الاحتجاج به لأبي ثور وابن جرير ثم قال: (وهذا غلط)
(4)
، ثم ترجم الإشبيلي (ت 581) للحديث: (باب
(1)
المغني (2/ 147).
(2)
مختصر قيام الليل للمروزي ص (228) والمروزي من تلاميذ إسحاق.
(3)
انظر: الحاوي الكبير (2/ 356)، المجموع (4/ 199).
(4)
بحر المذهب (2/ 261)، وانظر: بداية المجتهد (1/ 155)، وهذا الاستدلال أظن أنه قيل تفقهاً وليس منقولاً عنهما؛ لأن هناك من قال بأنهم استدلوا بحديث:«يؤم القوم أقرؤهم» كما سيأتي.
هل تؤم المرأة الرجل؟) ثم عقب بعد الحديث: (وعبد الرحمن لا أعلم روى عنه إلا الوليد بن جميع) إشارة منه لضعف الحديث وعدم احتمال هذا الحكم الجديد برواية مجهول
(1)
.
- ولما استدل بعض الحنابلة به على تجويز أن تؤم المرأة القارئة الرجال الأميين في التراويح، وتكون وراءهم
(2)
، قال ابن قدامة ردّاً عليهم:(تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل، فلا يجوز المصير إليه)
(3)
.
2/ واستُدلّ لهم
(4)
أيضاً بحديث: أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله
…
» الحديث
(5)
.
وأجيب عن هذا الاستدلال:
- بأن لفظ القوم في اللغة يطلق على: (الرجال دون النساء)
(6)
، (ولا يكون ذلك إلا للرجال)
(7)
، (وإنما سمي الرجال دون النساء قوماً
(1)
لأن من لم يرو عنه إلا راو واحد ولم يعرف بجرح ولا تعديل فهو مجهول جهالة عين كحال عبدالرحمن بن خلاد.
(2)
قال البهوتي في المنح الشافيات (1/ 252): (وهذا القول هو الأشهر عند المتقدمين، وقال الشيخان وجمهور المتأخرين: لا تصح إمامتها برجل مطلقاً)، وهو المذهب كما تقدم.
(3)
المغني (2/ 147)، وقال:(أذن لها أن تؤم في الفرائض، بدليل أنه جعل لها مؤذناً، والأذان إنما يشرع في الفرائض، ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض).
(4)
انظر: الحاوي الكبير (2/ 326)، النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 352).
(5)
أخرجه مسلم (673)، وعلّقه البخاري في باب (إمامة العبد والمولى)، وأخرج البخاري من حديث عمرو بن سلمة عن أبيه مرفوعاً: «
…
وليؤمكم أكثركم قرآناً
…
».
(6)
العين (5/ 231)، قال الإسنوي:(القوم اسم جمع بمعنى الرجال خاصة، واحده في المعنى رجل، كذا نص عليه النحاة واللغويون). "الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية" ص (282).
(7)
مقاييس اللغة (5/ 43)، قال ابن تيمية:(ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوة والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسه إقامته لغيره، خص لفظ "القوم" بالرجال دون النساء). جامع المسائل (5/ 166).
لأنهم يقومون في الأمور كما قال عز ذكره: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}
…
- ومما يدل على أن القوم رجال دون النساء قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} وقول زهير: وما أدري وسَوف إخالُ أدري
…
أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ)
(1)
.
- ففي الآية: (قابل القوم بالقوم والنساء بالنساء، فلو كان النساء يسمين بالقوم لما صحت هذه المقابلة)
(2)
، وفي البيت:(أظهر التشكك بين كونهم قومًا أو نساء وهذا لا يصح إلا مع قصر لفظ القوم على الرجال)
(3)
.
- و"القوم"(لا يقع على النساء إلا على وجه التبع كما قل عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} والمراد الرجال، والنساء تبعٌ لهم)
(4)
، (اكتفى بذكر الرجال من ذكر النساء؛ لأن الغالب على النساء اتباع الأزواج. فكان ذكرهم يكفي من ذكرهن)
(5)
.
- وقد روي في الحديث: «إن نسَّاني الشيطانُ شيئاً من صلاتي، فليسبح القومُ وليُصفِّق النساء
…
» الحديث
(6)
، إذا تقرر هذا المعنى في اللغة فإن هذا مما يقرره الأصوليون:
(1)
فقه اللغة ص (234)، وانظر: تهذيب اللغة (9/ 266)، لسان العرب (12/ 505).
(2)
شرح التلقين (1/ 670).
(3)
المرجع السابق.
(4)
الفروق اللغوية للعسكري ص (280)، وانظر: مختار الصحاح ص (262)، تاج العروس (33/ 306).
(5)
الزاهر في معاني كلمات الناس (2/ 161).
(6)
أخرجه أحمد (10977)، وأبوداود (2174)، من طريق الجُريري عن أبي نضرة حدثني شيخ من طُفَاوةَ عن أبي هريرة به.
- قال الزركشي: (الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام: أحدها: ما يختص به أحدهما، ولا يطلق على الآخر بحال، كرجال للمذكر والنساء للمؤنث، فلا يدخل أحدهما في الآخر بالاتفاق إلا بدليل من خارج من قياس أو غيرها
(1)
…
ومنه "القوم" فإنه خاص بالذكور)
(2)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فلا شك أن القول بجواز إمامة المرأة للجمعة وخطبتها، قول شاذ حادث مخالف للإجماع وللمقاصد الشرعية وللنصوص المرعية، ولم يقل به أحد من فقهاء الإسلام قاطبة، حتى سوّغه د. عبدالله بن بيه بعد وقوعه لأول مرة سنة (1426 هـ) بحجة تأليفهم للإسلام، وهي زلة منه قابلها استنكار لهذا الفعل الشنيع من المجمعات ولجان الفتوى في العالم الإسلامي.
أما تجويز إمامتها للفرائض فالذي يظهر -والله أعلم- صحة نسبة هذا الرأي للشذوذ؛ لمخالفته للإجماع، وأما ما نُقل عن أبي ثور والمزني والطبري، فصحته محل نظر، و أقواها مانُقل عن أبي ثور، مع أن النقل عنهم محتمل لتجويزهم ذلك لمن لم يعلم إلا بعد الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك في النفل عند عدم وجود القارئ وتكون خلفهم، ويحتمل الجواز المطلق، وكلها منقولة عنهم ولا مرجح لأحدها، و أقواها الأول وأضعفها الأخير.
(1)
قال ابن حزم في الإحكام (3/ 81): (لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه).
(2)
البحر المحيط (4/ 240)، وانظر: إرشاد الفحول (1/ 380).
أما تجويز إمامتها في التراويح، في حال عجز [الرجال] عن القراءة وكانت هي قارئة، بشرط أن تصلي [خلفهم]، فالذي يظهر عدم شذوذه لكنه ضعيف، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولعل سلفه فيها ما صح عن قتادة السدوسي أنه قال:(إذا كان الرجل لا يقرأ مع نساء تقدّم، وقرأت المرأة من ورائه، فإذا كبر ركع، وركعت بركوعه، وسجدت بسجوده)، وهو أشبه بحال الاضطرار والعجز عن الواجب في العبادة، وإن كان الصحيح من المذهب عدم جواز إمامة المرأة بالرجال مطلقاً، وهو الصحيح الذي عليه عامة العلماء، فمن مُنعت من التسبيح في الصلاة والأذان فمنعها من الإمامة أولى، والله أعلم.
(لو كان الفقه يحصل بمجرد القدرة على مراجعة المسألة من مظانها= لكان أسهل شيء).
ابن عابدين رحمه الله
مجموع رسائله (1/ 338)
المبحث الثالث عشر: جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المشقة مطلقاً
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بجواز الجمع في الحضر، للحاجة ووجود المشقة ولو كان في غير المطر من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال ابن عيينة: (الحديث مضلة إلا للفقهاء)، قال ابن أبي زيد:(يريد: أن غيرهم قد يحمل شيئًا على ظاهره، وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقه).
الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص (118 - 119)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
المشقة في اللغة: من الشق وهو الصدع، (يقال أصاب فلانا شِقٌّ ومشقَّة، وذلك الأمر الشديد كأنه من شدته يشق الإنسان شقاً. قال الله جل ثناؤه: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ})
(1)
، فالمشقة: الجَهدُ والعناء والشدّة
(2)
.
ولفظة: (مطلقاً) في العنوان تعني: عدم تقييد المشقة بمشقة المطر فقط، بل لو تحققت المشقة في غيره فهو عذر على هذا الرأي المعنون له، ودفع المشقة من الحاجيّات، وبعض العلماء يقيد جواز الجمع في الحضر بوجود الحاجة وهي كالتعبير بالمشقة، فالحاجة هي التي تبلغ بالإنسان حدًّا يكون فيه في جهد ومشقة
(3)
، وهذا الرابط بين الحاجة والمشقة، فمن لم يتعاطَ ما يحتاجه لحقته مشقة، والقاعدة الكلية الكبرى أن:(المشقة تجلب التيسير)
(4)
، (قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته)
(5)
، لكنّ جلبها للتيسير مشروط بعدم مصادمتها نصاً، وليست كل مشقة أيضاً بل المشقة المقصودة ما كانت منفكة عن التكليفات الشرعية، أما التي لا تنفك عنها التكليفات الشرعية كمشقة الجهاد فلا أثر لها في جلب تيسير ولا تخفيف
(6)
.
(1)
مقاييس اللغة (3/ 171).
(2)
انظر: لسان العرب (10/ 183).
(3)
انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (2/ 532).
(4)
الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 49)، المنثور في القواعد (3/ 169).
(5)
الأشباه والنظائر للسيوطي ص (77).
(6)
انظر: شرح القواعد الفقهية للزرقاء ص (157).
والمقصود بالجمع بين الصلاتين: (ضم إحدى الصلاتين للأخرى في وقت واحدة منهما)
(1)
، وبعبارة أدقّ:(ضم الظهرين أو العشائين في وقت إحداهما أداءً لعذر)
(2)
، فتجمع صلاة الظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، تقديماً أو تأخيراً في وقت إحداهما، ولا يدخل في التعريف السابق (الجمع الصوري) بفعل الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، وهو المراد بالجمع عند الحنفية في غير يوم عرفة وليلة جمع أي: مزدلفة
(3)
.
فجمع التقديم والتأخير هو في الحقيقة جمع للزمن حتى يكون وقت الصلاتين المجموعتين وقتا واحدا مشتركا، أما الجمع الصوري فهو جمع للفعل دون الزمن
(4)
.
والأصل أن الجمع رخصة عند عذر السفر أو مشقة المطر في الحضر، وهل المشقة مطلقاً عذر في الترخص بالجمع أم هي مقيدة بالمطر؟ هذا هو محل البحث.
(1)
إعانة الطالبين (2/ 114)، وانظر: إكمال المعلم (3/ 34)، وقال القرطبي في المفهم (2/ 343):(هو إخراج إحدى الصلاتين المشتركتين عن وقت جوازها، وإيقاعها في وقت الأخرى مضمومة إليها)
(2)
الجمع بين الصلاتين للتميمي ص (86).
(3)
قال أبو حنيفة: (من أراد أن يجمع بين الصلاتين بمطر أو سفر أو غيره فليؤخر الأولى منهما حتى تكون في آخر وقتها، ويعجل الثانية حتى يصليها في أول وقتها فيجمع بينهما، فيكون كل واحد منهما في وقتها، ولا ينبغي أن يجمع بين صلاتين في وقت صلاة واحدة إلا الظهر والعصر جميعاً فإنهما يجمعان جميعاً في وقت الظهر لوقوف الناس بعرفة، وصلاة المغرب والعشاء ليلة جمع). "الحجة على أهل المدينة"(1/ 164)، وقال الطحاوي كما في مختصر اختلاف العلماء (1/ 292):(قال أصحابنا لا يجمع بين الصلاتين في وقت واحد منهما إلا بعرفة والمزدلفة).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 53 - 54) وسمى الجمع الصوري: (الجمع بالفعل) و (الجمع في الوقتين) و قال عنه: (مراعاة ذلك من أصعب الأشياء وأشقها).
ومن أشهر أحاديث المواقيت للفروض الخمسة: حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس
…
»
(1)
. قال ابن تيمية: (ولم يُروَ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائر ما روي فعل منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث)
(2)
.
وإخراج الصلاة عن ميقاتها بلا عذر محرم وكبيرة؛ لمخالفة الخبر المتضمن للأمر في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
(3)
، وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً:«من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر»
(4)
، وكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما كتاباً وفيه: (واعلم أن جمعاً بين الصلاتين من
(1)
أخرجه مسلم (612) من طرق وألفاظ أسند مسلم بعدها عن يحيى بن أبي كثير: (لا يستطاع العلم براحة الجسم).
(2)
جامع المسائل (6/ 339).
(3)
من الآية (103) من سورة النساء.
(4)
أخرجه الترمذي (188)، والحاكم (1020) وغيرهما من طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً، قال الترمذي:(وحنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث)، ولما وثّق الحاكم حنشاً تعقبه الذهبي بقوله:(بل ضعفوه)، قال ابن رجب في الفتح (4/ 266): (ورواه بعضهم، وشك في رفعه ووقفه
…
ولعله من قول ابن عباس)، قال ابن تيمية في الفتاوى (22/ 54):(ورفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه نظر، فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له لا منكرين له).
غير عذر من الكبائر)
(1)
، وعن أبي قتادة العدوي، أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عامل له:(ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا في عذر، والفرار من الزحف، والنُّهبى)
(2)
.
قال الترمذي عن حديث ابن عباس: (والعمل على هذا عند أهل العلم: ألا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة، ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض، وبه يقول أحمد، وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: يجمع بين الصلاتين في المطر، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق)
(3)
، وقال الحاكم:(وهذا الحديث قاعدة في الزجر عن الجمع بلا عذر)
(4)
، وقال ابن تيمية عن أثر عمر:(وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذراً من عذر)
(5)
.
وقال: (وأصل هذا الباب أن تعلم أن وقت الصلاة وقتان: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات
…
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس
…
والقرآن يدل على ذلك، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
(1)
أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (2035) من طريق معمر، عن قتادة، عن أبي العالية الرياحي، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى، وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه البيهقي في الكبرى (5560) وقال: (أبو قتادة العدوي أدرك عمر رضي الله عنه، فإن كان شهده كتب فهو موصول، وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قوياً)، والنُّهبى:(فُعلى من النهب وهو أخذ المرء ما ليس له جهاراً). فتح الباري لابن حجر (5/ 120).
(3)
جامع الترمذي (1/ 356).
(4)
المستدرك على الصحيحين (1/ 409).
(5)
مجموع الفتاوى (24/ 84).
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} فالطرف الأول صلاة الفجر
…
وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وهي ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
…
فالأول يتناول الظهر والعصر تناولاً واحداً، والثاني يتناول المغرب والعشاء تناولاً واحداً، ثم قال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وهي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر)
(1)
.
وقال: (الجمع على ثلاث درجات: أما إذا كان سائراً في وقت الأولى فإنما ينزل في وقت الثانية، فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر، وهو نظير جمع مزدلفة، وأما إذا كان وقت الثانية سائراً أو راكباً فجمع في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة
…
وأما إذا كان نازلاً في وقتهما جميعاً نزولا مستمراً: فهذا ما علمت روي ما يستدل به عليه إلا حديث معاذ
…
فإن ظاهره أنه كان نازلاً في خيمة في السفر وأنه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل، وأما السائر فلا يقال: دخل وخرج بل نزل وركب. وتبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها، وهذا دليل على أنه كان يجمع أحياناً في السفر، وأحياناً لا يجمع وهو الأغلب على
(1)
جامع المسائل (6/ 338 - 343).
أسفاره: أنه لم يكن يجمع بينهما، وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر؛ بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو الحضر، فإنه قد جمع أيضاً في الحضر لئلا يحرج أمته)
(1)
. قلت: الجمع في الحضر هي الدرجة الرابعة وهي محل بحثنا.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
7.
أجمع العلماء على تحريم تأخير الصلاة المفروضة عن الوقت الذي يجب أداؤها فيه لغير المعذور
(2)
، ف (لا يجوز لغيره بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام)
(3)
.
8.
واتفقوا على تحريم تأخير صلاة النهار إلى الليل أو تأخير صلاة الليل إلى النهار، ولو كان ذلك لعذر يبيح الجمع
(4)
.
9.
…
(وأجمع المسلمون أنه ليس لمسافر ولا مريض ولا في حال المطر يجمع بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح)
(5)
.
(1)
المرجع السابق (24/ 63 - 64).
(2)
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (1/ 80): (وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله)، وتأخيرها من السهو المتوعد عليه بالويل قال ابن تيمية:(وتأخيرها عن وقتها من السهو عنها باتفاق العلماء)، وانظر: مراتب الإجماع ص (25).
(3)
الصلاة لابن القيم ص (71).
(4)
قال ابن تيمية في الفتاوى (3/ 428): (اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار؛ لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما)، وقال (22/ 28 - 38) -مع اختصار وتأخير في العبارة الأخيرة-: (ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة. ولا نجاسة ولا صيد ولا لهو ولا لعب ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك؛ بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس
…
لكن يصلي بحسب حاله، فما قدر عليه من فرائضها فعله، وما عجز عنه سقط عنه
…
وإنما يعذر بالتأخير: النائم والناسي).
(5)
التمهيد (12/ 215).
10.
وأجمع العلماء على مشروعية جمع الحاج للظهر والعصر في عرفة، وللمغرب والعشاء في مزدلفة، وخاصة مع الإمام
(1)
، (واختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين)
(2)
.
11.
و (اتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها)
(3)
، و (اتفقوا أن فعل كل صلاة في وقتها في السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع)
(4)
.
(1)
انظر: الإجماع لابن المنذر ص (38)، مراتب الإجماع ص (45)، المغني (3/ 367)، وجعل ابن حزم هذا الجمع من الفروض كما في المحلى (5/ 217) وليس ذلك بفرض عند غيره، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (10/ 14):(واختلف الفقهاء فيمن فاتته الصلاة يوم عرفة مع الإمام هل له أن يجمع بينهما أم لا؟)، وقال النووي في شرح مسلم (8/ 185) عن مشروعية الجمع بين الظهر والعصر في عرفة:(وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه فقيل: بسبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر فمن كان حاضراً أو مسافراً دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع، كما لا يجوز له القصر) انتهى. ويحتمل أن من نقل عنهم من أصحاب الشافعي بعدم جواز الجمع للمكي قولهم حادث بعد الإجماع، ولذلك لم يعتد بهم في نقل الإجماع في صدر كلامه المنقول، وقد قال ابن تيمية في الفتاوى (22/ 89):(ومن قال من أصحابنا وغيرهم: إن الجمع معلق بسفر القصر وجوداً وعدماً، حتى منعوا الحاج الذين بمكة وغيرهم من الجمع بين صلاتي العشي، وصلاتي العشاء فما أعلم لقولهم حجة تعتمد: بل خلاف السنة المعلومة يقيناً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإنا قد علمنا أنه لم يأمر أحداً من الحجاج معه من أهل مكة أن يؤخروا العصر إلى وقتها المختص ولا يعجلوا المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة فيصلوها إما بعرفة وإما قريباً من المأزمين، هذا مما هو معلوم يقيناً ولا قال هذا أحمد بل كلامه ونصوصه تقتضي أنه يجمع بين الصلاتين ويؤخر المغرب جميع أهل الموسم كما جاءت به السنة وكما اختاره طوائف من أصحابه). والمقصود التنبيه على مخالفة بعض الشافعية والحنابلة للجمع في عرفة ومزدلفة للمكي.
(2)
بداية المجتهد (1/ 181).
(3)
المرجع السابق (1/ 183)، أي من الأسباب المبيحة للجمع.
(4)
مجموع الفتاوى (22/ 291)، وقال:(أما الجمع فسببه الحاجة والعذر فإذا احتاج إليه جمع في السفر القصير والطويل وكذلك الجمع للمطر ونحوه وللمرض ونحوه ولغير ذلك من الأسباب، فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في السفر وهو نازل إلا في حديث واحد، ولهذا تنازع المجوزون للجمع. كمالك والشافعي وأحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل؟).
12.
…
(واختلفوا في الجمع في الحضر)
(1)
، لكن (الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك)
(2)
.
13.
وقال ابن عبدالبر: (أجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر المطر إلا طائفة شذت)
(3)
هكذا قال رحمه الله، وقد قال بجواز الجمع في الحضر لغير عذر المطر جماعة من المعاصرين، وسبقهم إليه جماعة ممن سلف من العلماء، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
بداية المجتهد (1/ 183).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 83)، وخالف الحنفية كما سبق، واختلف الجمهور في ضابط المطر المبيح للجمع.
(3)
الاستذكار (2/ 211)، ونقله ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 169).
المطلب الثاني: القائلون بجواز الجمع في الحضر، للحاجة و وجود المشقة ولو كان في غير المطر من المعاصرين:
قال بهذا القول جماعة من المتقدمين ومن أبرز العلماء المعاصرين القائلين به:
- أحمد شاكر (ت 1377)
(1)
، ومحمد بن إبراهيم (ت 1389)
(2)
.
- وابن باز (ت 1420)
(3)
، و الألباني (ت 1420)
(4)
،
(1)
قال في تحقيقه وتعليقه على جامع الترمذي (1/ 358 - 359): (
…
عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة" وهذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، وأما التأول بالمرض أو العذر أو غيره فإنه تكلف لا دليل عليه، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم، أو ظروف قاهرة، إلى الجمع بين الصلاتين، ويتأثمون من ذلك ويتحرجون، ففي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة، ما لم يتخذه عادة، كما قال ابن سيرين).
(2)
جاء في مجموع فتاويه (2/ 229 - 230): ("الجمع للشغل الخاص، لا لمطلق الاشغال، الجمع لحفر الآبار، ولمن يذود الجراد والدبا" أحمد رحمه الله مذهبه أوسع المذاهب في الجمع، فإنه يرى الجمع للشغل ومن هذا مثلاً حفر الآبار فيما تقدم لما كان السني على البهائم لو خرجوا للصلاة لتزايد الماء عليهم فيجوز أن يجمعوا، ومثله من يبتلى بذود الجراد والدبا ونحو ذلك، بخلاف مطلق الأشغال فإنها ليست مرادة هنا، إذ الانسان لا يخلو غالباً من شغل، ولو قيل بذلك لكان الفرد يجمع كل يوم، والجماعة يتفق لهم أشغال، وهذا لا قائل به، بل المراد الشغل الذي يحصل بتفويته نقص).
(3)
قال في فتاوى نور على الدرب (13/ 125): (الدليل يقتضي الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء عند الحاجة والمشقة)، وفي مجموع فتاويه ورسائله (12/ 303):(لا يجوز أن يجمع بين الظهر والعصر ولا بين المغرب والعشاء إلا لعذر، كالمرض والسفر والمطر ونحوها مما يشق معه المجيء إلى المساجد لكل صلاة في وقتها).
(4)
قال في السلسلة الصحيحة (6/ 817): (يبدو لي من تعليل الجمع في حديث ابن عباس برفع الحرج: أنه إنما يجوز الجمع حيث كان الحرج، وإلا فلا، وهذا يختلف باختلاف الأفراد وظروفهم)، وقال في سلسلة الهدى والنور شريط (678):(الجمع في حالة الإقامة جمع حقيقي، ولكن يشترط هناك شرط لا يشترط في الجمع للمسافر، ألا وهو: الحاجة التي تعترض سبيل المصلي، فيجد حرجاً يوماً ما في وقت ما أن يصلي الظهر في وقتها والعصر في وقتها، فيجمع بينهما جمع تقديم أو جمع تأخير دفعاً للحرج، وفي السفر تمسكاً بالرخصة)، وقال في الشريط (20) من أشرطة متفرقة في موقعه الرسمي: (فيجوز للمسلم دفعاً للحرج أن يجمع بين الصلاتين في حالة الحضر لكن بشرط أن تكون عادته في بقية الأوقات أن يصلي كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتها المعروف في السنة
…
ما هو الحرج هو شيء
…
إذا وقع فيه الإنسان يجد فيه حرجاً، يجد فيه تضايقاً، يجد فيه ثقلاً).
و ابن عثيمين (ت 1421)
(1)
.
(1)
قال في الشرح الممتع (4/ 390): (متى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة». وفُهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع وهو كذلك)، وقال (4/ 391):(4/ 391): (فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة .. والمشقات متعددة. فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضرا وسفراً).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
أما وجه شذوذ القول: بجواز الجمع في الحضر لغير عذر المطر، فهو: نقل الإجماع على عدم الجواز، وحكم بعض العلماء على القول بجواز الجمع بالشذوذ! و قد نص على شذوذ هذا القول:
- ابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر المطر إلا طائفة شذت)
(1)
، وقال:(وقالت طائفة شذت عن الجمهور الجمع بين الصلاتين في الحضر وإن لم يكن مطر مباح إذا كان عذر وضيق على صاحبه ويشق عليه، وممن قال ذلك محمد بن سيرين وأشهب صاحب مالك)
(2)
، وقال:(وأما في الحضر فأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر على حال ألبتة إلا طائفة شذت)
(3)
.
- القاضي عياض (ت 544) بقوله: (وذهب كافة العلماء إلى منع الجمع بين الصلاتين فى الحضر لغير عذر إلا شذوذاً. منهم من السلف: ابن سيرين، ومن أصحابنا أشهب، فأجازوا ذلك للحاجة والعذر ما لم تتخذ عادة)
(4)
، ونقل أبو العباس القرطبي في المفهم قول القاضي بنصه دون نسبة له
(5)
.
(1)
المرجعان السابقان.
(2)
الاستذكار (2/ 212).
(3)
التمهيد (12/ 210).
(4)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 36)، وفي النقلين إشارة للمسألة، وخاصة ما أضيف إلى ابن سيرين.
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم (2/ 344).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر المطر:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ الأدلة التي فيها مواقيت الصلاة ومنها: صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في يومين وقوله: (الوقتُ ما بين هذين الوقتين)
(1)
، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن مواقيت الصلاة:«صل معنا هذين - يعني اليومين -» فصلى في أول الوقت وآخره ثم قال: «وقت صلاتكم بين ما رأيتم»
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن (جبريل أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات في الحضر ثم سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين الصلاتين)
(3)
، كما جاءت الرخصة
(1)
أخرجه أحمد (3081)، وأبوداود (393)، والترمذي (149) وغيرهم عن ابن عباس، وجاء من حديث جابر وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد وأنس رضي الله عنهم، قال ابن عبدالبر في التمهيد (8/ 34):(ولم يختلفوا في أن جبريل هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها)، وعدّه السيوطي في "قطف الأزهار المتناثرة" من الأحاديث المتواترة ص (73)، وقد أخرج البخاري (521) ومسلم (610) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم دون تفصيل في المواقيت، وفيه أنه:(أخّر عمر بن عبد العزيز العصر فأنكر عليه عروة، وأخرها المغيرة فأنكر عليه أبو مسعود الانصاري، واحتجا بإمامة جبريل عليه السلام. شرح النووي على مسلم (5/ 108).
(2)
أخرجه مسلم (613) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(3)
الاستذكار (2/ 213)، وانظر: بحر المذهب للروياني (2/ 350).
بالجمع في المطر في الحضر فلا يتعدى بالرخصة موضعها، (ولا يجوز أن تُحال أوقات الحضر إلا بيقين)
(1)
.
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأمور:
- بأن مواقيت الصلاة الخمسة لازمة ولكن في حق غير المعذور، ومن لم يطّرد في ذلك فيلزمه ما يلزم الحنفية الذين لايرون الجمع إلا في عرفة ومزدلفة لتمسكهم بحديث المواقيت، وتأولوا الجمع في السفر والمطر والمرض بالجمع الصوري، (فمن تمسك بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام وقدَّمه لم يرَ الجمع في ذلك. ومن خصه أثبت جواز الجمع في السفر بالأحاديث الواردة فيه، وقاس المرض عليه فيقول: إذا أبيح للمسافر الجمع لمشقة السفر فأحرى أن يباح للمريض)
(2)
، ومثله في المطر، وسائر الأعذار التي يمكن قياسها عليها.
- وقد سبق الإشارة إلى أن الأوقات في حق المعذور ثلاثة وأن (الكتاب والسنة وآثار الصحابة تدل على أن الأوقات في حق المعذور ثلاثة، وأن ذلك لم يعارضه دليل شرعي أصلاً)
(3)
، و (الآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت المشترك وقت في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طهرت في آخر النهار: إنها تصلي الظهر والعصر، وفيمن طهرت في آخر الليل:
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 168). وانظر: التمهيد (12/ 213).
(2)
المعلم بفوائد مسلم (1/ 445).
(3)
جامع المسائل (6/ 348).
إنها تصلي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة مالك والشافعي وأحمد)
(1)
.
- (ومما يبين ذلك أن الجمع لو كان معلقاً بسبب محدود يدور معه وجوداً وعدماً كالقصر والفطر، لكان الشارع يعلقه به، كما علّق الفطر بالمرض والسفر بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وكما علّق القصر بالسفر دون المرض بقوله: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة»، وأما الجمع فإنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال فعلها في أول الوقت، وتارة يؤخره)
(2)
.
- ومما يشهد لذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة ومزدلفة فإن جمعه (لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضاً، فإنه لو كان جمعه للسفر لجمع في الطريق ولجمع بمكة كما كان يقصر بها
…
ولم يجمع بمنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى
…
، ولا جمعه أيضا كان للنسك فإنه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم فإنه من حينئذٍ صار محرماً، فعُلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا)
(3)
.
2/ ومما استُدل به: الإجماع.
- ولم أقف على حكايته إلا عند ابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر
(1)
المرجع السابق (6/ 366 - 367).
(2)
المرجع السابق (6/ 363).
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 78).
المطر إلا طائفة شذت)
(1)
، ونقله عنه ابن القطان ونصه:(وأجمعوا أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر بغير عذر المطر إلا من شذ)
(2)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن هذا الإجماع بهذا القيد والسياق فيه إشكال ولم يوافق عليه، بل ابن عبدالبر ذكر بعده بيسير بأن هذا قول الجمهور ولم يحكه إجماعاً فقال:(وقالت طائفة شذت عن الجمهور الجمع بين الصلاتين في الحضر وإن لم يكن مطر مباح إذا كان عذر وضيق على صاحبه ويشق عليه، وممن قال ذلك محمد بن سيرين وأشهب صاحب مالك)
(3)
.
- ولعل الإجماع الأدق هو ما قاله في التمهيد: (وأما في الحضر فأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر على حال ألبتة إلا طائفة شذت)
(4)
.
- فالجمع بلا عذر يستقيم فيه حكاية الإجماع، أما تخصيص العذر بالمطر فلا معنى له، وبرهان ذلك في الآتي:
- أبدأ بالحافظ أبي عمر ابن عبدالبر؛ لأنه من نقل الإجماع فإنه قال: (واختلفوا في عذر المرض والمطر)
(5)
، وقال: (واختلفوا أيضاً في جمع المريض بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال مالك: إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر
(1)
الاستذكار (2/ 211).
(2)
الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 169).
(3)
الاستذكار (2/ 212).
(4)
التمهيد (12/ 210).
(5)
التمهيد (12/ 210).
والعصر عند الزوال وبين العشاءين عند الغروب
…
قال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه
…
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: يجمع المريض بين الصلاتين، وكان الشافعي رحمه الله لا يرى أن يجمع المريض بين الصلاتين، وقال الليث: يجمع المريض والمبطون)
(1)
، فها هو ينقل الخلاف في جواز الجمع في الحضر لغير المطر ولم يعده شذوذاً، فأين الإجماع؟ وأين حَصْرُه للعذر في الحضر بالمطر؟ فقد جوّز مالك
(2)
وغيره الجمع للمريض كما ذكره.
- أما الإمام أحمد -وقد ذكره فيمن يجوّز الجمع للمرض- فإن (أوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد، فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل بحديث روي في ذلك. قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع
…
ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة نص عليه أحمد)
(3)
.
- ومن ذلك قول الإمام أحمد: (الجمع في الحضر إذا كان عن ضرورة مثل مرض أو شغل)
(4)
، ومن الصور التي ذكرها الحنابلة مما يجوز فيه الجمع في الحضر: المرضع، والمستحاضة ومن في معناها، والمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة وضعف،
(1)
التمهيد (12/ 218).
(2)
انظر: المدونة (1/ 204)، الفواكه الدواني (2/ 269).
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 28).
(4)
الفروع (3/ 108)، الإنصاف (2/ 336)، كشاف القناع (2/ 6) بعبارات متقاربة.
والعاجز عن الطهارة والتيمم لكل صلاة، وعن معرفة الوقت، وفي المطر الذي يبل الثياب، والثلج والوحل والريح الشديدة الباردة، ولمن له شغل أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوفه على نفسه، أو حرمه، أو ماله، أو غير ذلك
(1)
.
- وقد نسب ابن عبدالبر وعياض قول ابن سيرين إلى الشذوذ، فما هو رأي ابن سيرين؟
- قال ابن عبدالبر: (كان ابن سيرين لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو عذر ما لم يتخذه عادة)
(2)
، وقال ابن المنذر قبله:(وقد روينا عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة)
(3)
، وأسنده إليه ابن أبي شيبة فقال: حدثنا أزهر، عن ابن عون، قال: ذكر لمحمد بن سيرين، أن جابر بن زيد يجمع بين الصلاتين، فقال:(لا أرى أن يجمع بين الصلاتين إلا من أمر)
(4)
.
- فأين الشذوذ في هذا الرأي؟! وظاهره عدم جواز الجمع إلا من عذر، والعجب من قول القاضي عياض:(وذهب كافة العلماء إلى منع الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر إلا شذوذاً. منهم من السلف: ابن سيرين، ومن أصحابنا أشهب، فأجازوا ذلك للحاجة والعذر ما لم تتخذ عادة)
(5)
، فكافة العلماء منعوا الجمع إلا لعذر وشذَّ ابن سيرين وأشهب فجوزاه للحاجة و العذر، فأي فرق بينهم؟!
(1)
انظر: الفروع (3/ 104 - 109)، الإنصاف (2/ 335 - 339)، الإقناع (1/ 183 - 184).
(2)
الاستذكار (2/ 212).
(3)
الأوسط (2/ 433).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (8255).
(5)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 36).
- بل كان ابن سيرين يكره الجمع ولو مع العذر كما قال ابن المنذر: (وكرهت طائفة الجمع بين الصلاتين إلا عشية عرفة وليلة جمع، هذا قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين)
(1)
، وأسنده ابن أبي شيبة فقال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن، ومحمد، قالا:(ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر، إلا بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع)
(2)
، فالجمع الجائز مراتب: منه ما هو سنة ومنه ما هو رخصة، والرخصة قد يترجح الأخذ بها وقد يترجح تركها.
- وقول ابن اسيرين في جواز الجمع للعذر نصره ابن المنذر وقال: (ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله لما قيل له لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته، ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما
…
إذا ثبتت الرخصة في الجمع بين الصلاتين جمع بينهما للمطر والريح والظلمة ولغير ذلك من الأمراض وسائر العلل)
(3)
.
- ولم ينفرد ابن سيرين بذلك، قال الخطابي:(وكان ابن المنذر يقول ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث. وسمعت أبا بكر القفال يحكيه، عَن أبي إسحاق المروزي. قال ابن المنذر: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله أراد ألا تحرج أمته)
(4)
.
(1)
الأوسط (2/ 423)، ونسب إليه ابن قدامة في المغني (2/ 200) عدم الجواز كقول الحنفية، والكراهة أو نحوها أدق.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (8255).
(3)
الأوسط (2/ 433).
(4)
معالم السنن (1/ 256).
- قال النووي: (ذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره، والله أعلم)
(1)
، قال ابن الملقن:("من غير اتخاذه عادة" كذا قيده النووي في "شرح مسلم" وأشار به إلى ما يفعله طائفة من المبتدعة ببعض البلدان من غير حاجة، فهو خرق إجماع منهم)
(2)
.
- فهذا القول الأخير الذي أشار إليه ابن الملقن عن بعض المبتدعة هو الأشبه بالشذوذ ومخالفة الإجماع، وقد ذكره ابن المنذر ولم يسم قائله فقال:(وقالت طائفة: الجمع بين الصلاتين في الحضر مباح وإن لم تكن علة)
(3)
، وقد جاء عن الأوزاعي أنه قال:(يجتنب أو يترك من قول أهل العراق خمس، ومن قول أهل الحجاز خمس، ومن قول أهل العراق) ثم ذكر من أقوال أهل الحجاز التي تجتنب لشذوذها: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر)
(4)
، وهذا القول هو قول الرافضة
(5)
، وأخطأ الشوكاني في نسبة هذا القول لابن سيرين وابن المنذر وغيرهما
(6)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (5/ 219).
(2)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 84).
(3)
الأوسط (2/ 430).
(4)
معرفة علوم الحديث ص (65)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 356).
(5)
انظر: "مع الاثني عشرية في الأصول والفروع" للسالوس ص (972)، قال:(انفردوا بالقول دون المذاهب الأربعة، بإجازتهم الجمع بين الصلاتين بلا عذر، فلم يوافقهم أي مذهب منها).
(6)
وعبارته كما في النيل (3/ 257): (وقد استدل بحديث الباب القائلون بجواز الجمع مطلقاً بشرط أن لا يتخذ ذلك خلقاً وعادة. قال في الفتح: وممن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، وقد رواه في البحر عن الإمامية)، فسوّى بين قول ابن سيرين ومن معه وقول الإمامية، وهو ينقل عن ابن حجر لكنه أغفل قيداً مهماً ذكره وهو الحاجة، كما قال في فتح الباري (2/ 24):(ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقاً، لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث)، ولما أغفل الشوكاني هذا القيد وسوى بين قولهم وقول الإمامية ردّه ابن باز بقوله في مجموع فتاويه (25/ 169):(ولا يجمع بين الصلاتين إلا لعذر وهكذا خلفاؤه الراشدون وأصحابه جميعا رضي الله عنهم والعلماء بعدهم ساروا على هذا السبيل ومنعوا من الجمع إلا من عذر، سوى جماعة نقل عنهم صاحب النيل جواز الجمع إذا لم يتخذ خلقاً ولا عادة، وهو قول مردود للأدلة السابقة وبإجماع من قبلهم).
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز الجمع في الحضر لعذر المشقة:
استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة منها:
1/ حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتفق عليه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً، وثمانياً، الظهر والعصر، والمغرب والعشاء»
(1)
، جاء عند مسلم:(قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء، قال: وأنا أظن ذاك)
(2)
، وعند البخاري:(فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى)
(3)
.
- وفي رواية لمسلم: من طريق أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (543)، ومسلم (705) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد [أبو الشعثاء]، عن ابن عباس به، قال ابن بطال في شرح البخاري (2/ 167):(قوله: (سبعًا) يريد المغرب والعشاء، و (ثمانيًا) الظهر والعصر).
(2)
قال ابن عبدالبر في التمهيد: (12/ 219): (إنما هو ظن عمرو وأبي الشعثاء)، قال ابن حجر كما في الفتح (2/ 24) عن ظن أبي الشعثاء بأنه جمع صوري:(لكن لم يجزم بذلك بل لم يستمر عليه فقد تقدم كلامه لأيوب و تجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر) انتهى. وقوله لأيوب هو الذي ذكره البخاري وقد نقلته.
(3)
قال ابن حجر في الفتح (2/ 23): (فقال أيوب: هو السختياني، والمقول له هو أبو الشعثاء [جابر بن زيد]، قوله: عسى، أي: أن يكون كما قلت، واحتمال المطر قال به أيضاً مالك عقب إخراجه لهذا الحديث).
عن ابن عباس: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة، في غير خوف، ولا سفر» قال أبو الزبير: فسألت سعيداً، لمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال:«أراد أن لا يحرج أحداً من أمته»
(1)
، وله من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد عن ابن عباس: «
…
في غير خوف، ولا مطر
…
»
(2)
.
- وعنده أيضاً: عن عبدالله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر، ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس:(أتعلمني بالسنة؟ لا أمّ لك) ثم قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» . قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدّق مقالته
(3)
.
وجه الاستدلال
- أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع وهو مقيم (بالمدينة) كما في الصحيحين، وقد صلى الظهر والعصر (ثمانياً) والمغرب والعشاء (سبعاً) فلم يقصر مما يؤكد أنه ليس في سفر
(4)
، (ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: أراد أن لا تحرج أمته)
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (705)، قال الإمام مالك لما أخرج هذا الحديث في الموطأ (1/ 144):(أُرى ذلك كان في مطر).
(2)
أخرجه مسلم (705)، قال البيهقي في الكبرى (3/ 237):(ورواه حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير فخالف أبا الزبير في متنه).
(3)
أخرجه مسلم (705).
(4)
انظر: النفح الشذي (4/ 9).
(5)
معالم السنن (1/ 265).
- فالصحابي الراوي وهو من فقهاء الصحابة عبّر عن سبب الجمع بقوله: (أراد ألا يحرج أمته) أي: (لا يضيق عليها في ترك الجمع)
(1)
، (فلم يعلّله بمرض ولا غيره)
(2)
ولو كان ثمّ خوف أو مطر أو مرض لذَكَره، و (كل تأويل أَوَّلوه في هذا الحديث يرده قول ابن عباس:"أراد أن لا يحرج أمته")
(3)
.
- فيؤخذ منه أن كل أمر يُلحق حرجاً ومشقةً بتأدية كل صلاة في وقتها، فهو عذر يجوز معه الجمع بين الصلاتين
(4)
، و (ليس لأحد أن يتأول في الحديث ما ليس فيه
…
لأنه ليس في الحديث ذكر مطر ولا غيره، بل قال من حَمَل الحديث: أراد أن لَا تُحْرَج أمَّتُه)
(5)
، والأصل أن (الراوي أعرف بمعنى ما روى)
(6)
.
- ثم إن الراوي ابن عباس كما بيّن العذر بقوله، فقد وضحه بتطبيقه وفعله حين خطب الناس في أمر يهمهم حتى جمع بين الصلاتين لهذه الحاجة (وقال لمن استعجله في صلاة المغرب وقد بدت النجوم: أتعلمني بالسنة لا أمَّ لك؟!
…
وفعلُ ابن عباس، وتصديقُ أبي هريرة يدلان على أن الحديث معمول به غير منسوخ)
(7)
. وقد (خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه)
(8)
.
(1)
الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 91)، قال في الشرح الممتع:(4/ 390): (أي: أن لا يلحقها حرج في عدم الجمع، ومن هنا نأخذ أنه متى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع).
(2)
شرح النووي على مسلم (5/ 219).
(3)
نخب الأفكار (3/ 242).
(4)
انظر: الفروع (3/ 111).
(5)
الأم للشافعي (7/ 216) وكلامه ليس تقريراً وإنما نقلاً لبعض المذاهب.
(6)
فتح المغيث (1/ 298) وهذا من المرجحات في المتن. انظر: المعونة في الجدل ص (123).
(7)
العدة في شرح العمدة للعطار (2/ 664)، وانظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 81).
(8)
فتح الباري لابن حجر (2/ 24).
- (فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر وقد استدل بما رواه على ما فعله
…
كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع)
(1)
.
- (وقول ابن عباس: "من غير خوف ولا سفر"، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف والسفر)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:
- الإجماع على ترك العمل بهذا الحديث كما قال الترمذي: (جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخد به بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر
…
)
(3)
، وذكر حديثاً آخر.
- ثم إن الخوف والريح والوحل والمرض ونحوه (كل ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه جمع في شيء غير المطر)
(4)
، ف (النبي صلى الله عليه وسلم مرض أمراضاً كثيرة ولم ينقل جمعه بالمرض صريحاً)
(5)
.
- وأثر ابن عباس من حيث الدراية (لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم، وتعيين
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 77).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 273).
(3)
جامع الترمذي (5/ 736)، وقد طبع العلل الصغير في آخره، وهو أول المسالك التي ذكرها ابن رجب في هذا الحديث حيث قال في الفتح (4/ 265):(المسلك الاول: أنه منسوخ بالإجماع على خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر كتابه: أنه لم يقل به أحد من العلماء).
(4)
الحاوي الكبير (2/ 399).
(5)
المجموع (4/ 384).
واحد منها تحكم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره، وتخصيص المسافر لثبوت المخصص، وهذا هو الجواب الحاسم)
(1)
.
- وعلى فرض التسليم بجواز الجمع في الحضر فإن الجمع المنقول لم يكن إلا مرة واحدة، وهو محمول إما على المطر وإما على الجمع الصوري:
- أما المطر فهذا رأي لبعض رواته كأبي الشعثاء فإنه لما قيل له: لعله كان في ليلة مطيرة؟ قال: (عسى)، والإمام مالك حين قال:(أُرى ذلك كان في مطر)، (وهذا هو الذي حمله عليه أيوب السختياني
…
ومن ذهب إلى هذا المسلك فإنه يطعن في رواية من روى: «من غير خوف ولا مطر» كما قاله البزار وابن عبد البر وغيرهما)
(2)
.
- وأما ا الجمع الصوري أو (الجمع المجازي)
(3)
فهذا رأيٌ لبعض رواته كأبي الشعثاء أيضاً وعمرو بن دينار حين قال: (قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وعجل العشاء، وأخر المغرب، قال: وأنا أظنه)، والرواي أدرى بما روى فهو (على ما ظنه أبو الشعثاء وتأول الحديث عليه هو وعمرو بن دينار، وموضعهما من الفقه الموضع الذي لا فوقه موضع وإذا كان ذلك غير مدفوع إمكانه وكان ذلك الفعل يسمى جمعاً في اللغة العربية بطلت الشبهة التي نزع بها من هذا الحديث من أراد الجمع في
(1)
سبل السلام (1/ 393).
(2)
فتح الباري لابن رجب (4/ 267).
(3)
سماه النووي بذلك في المجموع (4/ 380).
الحضر بين الصلاتين في وقت إحداهما)
(1)
.
- و (يتعين هذا التأويل فإنه صرّح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانياً جمعاً وسبعاً جمعاً أخر الظهر وعجل العصر، وأخّر المغرب وعجل العشاء»
…
والمطلق في رواية يحمل على المقيد إذا كانا في قصة واحدة كما في هذا)
(2)
، (فهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرّح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري)
(3)
.
- و (يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع، فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث)
(4)
.
- وأما وجه رفع الحرج ونفيه في هذا الفعل (فمعناه مكشوف على ما وصفنا، أي: لا يضيق على أمته فتصلي في أول الوقت أبداً وفي وسطه أو آخره أبداً لا تتعدى ذلك، ولكن لتصل في الوقت كيف شاءت في أوله أو وسطه أو آخره لأن ما بين طرفي الوقت وقت كله)
(5)
.
- والجمع الصوري (أيسر من التوقيت إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد
(1)
الاستذكار (2/ 213).
(2)
سبل السلام (1/ 394).
(3)
نيل الأوطار (3/ 258).
(4)
فتح الباري لابن حجر (2/ 24).
(5)
المرجع السابق، وقد انتصر لهذا الرأي الصنعاني كما في كتبه ومنها رسالة:"اليواقيت في المواقيت"، والشوكاني وله رسالة بعنوان:"تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع"، والظاهر أن من أسباب ترجيحهم لهذا الرأي توسع بعض أهل القطر اليماني في الجمع بلا عذر، سواء من تأثر منهم بالشيعة أو من تساهل منهم حتى ذُكر من يجمع لتخزين القات!
وقصد واحد إلى المسجد، ووضوء واحد بحسب الأغلب بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف)
(1)
، (ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من خلافه وأيسر)
(2)
.
وأجيب عن هذه المناقشة بأمور:
- أما ما ذكره الترمذي فإن كان مراده تركه مطلقاً فهو مردود؛ لأنهم (لم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال
…
ومنهم من قال هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار، وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة)
(3)
.
- وإن كان (مراده أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع إلا بعذر شرعي)
(4)
، فهذا متجه وهو الظاهر من مراده؛ لأنه أتبع حديث ابن عباس بحديث:«من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر»
(5)
.
- وأما ما ذُكر من أن الخوف والمرض والريح ونحوها وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع لها، فهذا يمكن قلبه أيضاً عليهم في المطر الذي يجوز الجمع لأجله الجمهور، فقد أصابهم في عصره صلى الله عليه وسلم مطرٌ كثير ولم ينقل الجمع بل قال أنس رضي الله عنه: (ثم أمطرت،
(1)
سبل السلام (1/ 394).
(2)
نيل الأوطار (3/ 259).
(3)
(5/ 218).
(4)
مجموع فتاوى ابن باز (12/ 305)، وتوجيه الشيخ لمراده أولى من رده.
(5)
جامع الترمذي (188)، والحديث ضعيف مرفوعاً وقد سبق.
قال: فلا والله ما رأينا الشّمس سَبتًا)
(1)
، (مطرنا من الجمعة إلى الجمعة)
(2)
، فما يجيب به الجمهور هنا يكون جواباً هناك، والسنة يكفي في ثبوتها الوقوع ولو مرة ولا يشترط التكرار.
- أما حمل الجمع على المطر لأنه تأويل الراوي، فيقال: بأن الرواة الذين تأولوا لم يشهدوا الواقعة هذا أولاً، وثانياً: كل ما ذكر عنهم ليس فيه قطع، ولذلك أرفع من ذكر فيهم وهو أبو الشعثاء جابر بن زيد (لم يجزم بذلك بل لم يستمر عليه)
(3)
، فمرة جوّز أن يكون من أجل المطر كما في البخاري، ومرة ظنّ أنه جمع صوري كما في الصحيحين، ومثله الإمام مالك فإن قوله لم يقطع به، ولم يشهد الواقعة حتى يجزم.
- و (رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد، فمن قال: إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه)
(4)
.
- وأحق من يقبل قوله هو الصحابي الذي شهدها و (لما قيل له لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته، ولو كان ثمّ مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما، فلما لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته دل على أن جمعه كان في غير حال المطر، وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك)
(5)
، ولا رد جزم ابن عباس
(1)
أخرجه مسلم (897).
(2)
أخرجه البخاري (1016).
(3)
فتح الباري (2/ 24).
(4)
مجموع الفتاوى (24/ 79).
(5)
الأوسط (2/ 433).
بتردد أبي الشعثاء وظنه، ولا رد تصديق أبي هريرة لابن عباس باختلاف من تأوله ممن بعدهم
(1)
.
- وأما حمل الجمع على الجمع الصوري أو المجازي ف (ليس الأمر كذلك؛ لأن ابن عباس كان أفقه وأعلم من أن يحتاج -إذا كان قد صلى كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة والخاصة جوازه- أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلاً على ذلك. وأن يقول: أراد بذلك ألا يحرج أمته)
(2)
.
- فهذا التأويل (ضعيف أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل)
(3)
.
- (ثم ابن عباس قد ثبت عنه في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر. وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره
…
فعُلم أن لفظ الجمع في عرفه وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما، وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها إلى ما ليس كذلك)
(4)
،
(1)
وقد قسّم ابن رجب في الفتح مسالك العلماء في هذا الحديث إلى ستة مسالك أكثرها تأويل له بالظن.
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 79 - 80).
(3)
شرح النووي على مسلم (5/ 218)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 816 - 817): (وإن مما يؤكد ذلك أمران: الأول: إن في حديث ابن عباس أن الجمع كان في غير خوف ولا مطر، ففيه إشارة قوية إلى أن جمعه صلى الله عليه وسلم في المطر كان معروفا لدى الحاضرين، فهل كان الجمع في المطر صوريا أيضا؟! اللهم لا
…
والأمر الآخر: أن التعليل المتقدم برفع الحرج قد ثبت أيضا في الجمع في السفر من حديث معاذ: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال أبو الطفيل: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته. أخرجه مسلم)
(4)
مجموع الفتاوى (24/ 80 - 81).
(وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع)
(1)
.
- و (قوله: "كي لا يحرج أمته" نص في الجمع الحقيقي؛ لأن رفع الحرج إنما يعني في الاصطلاح الشرعي رفع الإثم والحرام (راجع النهاية) كما في أحاديث أخرى، الأصل فيها المؤاخذة لولا الحرج، كمثل ترك صلاة الجمعة والجماعة من أجل المطر والبرد، كما في حديث ابن عباس لما أمر المؤذن يوم الجمعة أن يقول:" الصلاة في الرحال "، فأنكر ذلك بعضهم، فقال:"كأنكم أنكرتم هذا، إن هذا فعله من هو خير مني- يعني النبي صلى الله عليه وسلم إنها عزمة، إني كرهت أن أحرجكم" رواه البخاري)
(2)
.
- ثم إن (اسم الجمع عرفاً لا يقع على من أخّر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها وعجّل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك)
(3)
.
-
…
(وعلى مثل ذلك حَمَل الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة من لا يرى الجمع في السفر)
(4)
كالحنفية، وكذلك الجمع في المطر عندهم (ومن حجتهم: أن حديث ابن عباس هذا ليس فيه صفة الجمع ويمكن أن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وجمع بينها وبين العصر في أول وقتها وصنع كذلك بالمغرب
(1)
فتح الباري لابن حجر (2/ 580).
(2)
السلسلة الصحيحة (6/ 815)، فالحرج في حديث ابن عباس في الجمع يمكن أن يفهم من هذا الحديث.
(3)
معالم السنن (1/ 264).
(4)
فتح الباري لابن رجب (4/ 267).
والعشاء، وهذا قد يسمى جمعاً، قالوا: ولسنا نحيل أوقات الحضر إلا بيقين)
(1)
، فما يكون جواباً على الحنفية هناك فهو الجواب هنا.
- (ولو قال قائل: قوله جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين لم يكن بينه وبينهم فرق. فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه؟ ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟)
(2)
.
- أما رواية النسائي لحديث ابن عباس: «ـ صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء»
(3)
، يرويها قتيبة بن سعيد عن ابن عيينة (فأقحم في الحديث قول أبي الشعثاء وعمرو بن دينار
…
الصحيح في حديث ابن عيينة هذا غير ما قال قتيبة حين جعل التأخير والتعجيل في الحديث، وإنما هو ظن عمرو وأبي الشعثاء)
(4)
، (كما بينته رواية الشيخين من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، فذكر هذا الحديث، وزاد: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه
…
وأما الذي ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن سبب الجمع فهو قوله: "لئلا يكون على أمته حرج")
(5)
.
- (وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحاديث المواقيت،
(1)
التمهيد (12/ 213).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 82).
(3)
أخرجه النسائي (589) من طريق قتيبة قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس به.
(4)
التمهيد (12/ 219)، قال الألباني في إرواء الغليل (3/ 36):(وهم بعض رواة النسائي فأدرجه في الحديث).
(5)
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (7/ 468).
وابن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت، وإمامة جبريل له عند البيت
…
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع على هذا الوجه فأي غرابة في هذا المعنى؟! ومعلوم أنه كان قد صلى في اليوم الثاني كلا الصلاتين في آخر الوقت وقال: «الوقت ما بين هذين» فصلاته للأولى وحدها في آخر الوقت أولى بالجواز. وكيف يليق بابن عباس أن يقول: فعل ذلك كيلا يحرج أمته والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه)
(1)
.
- (وأيضاً فابن شقيق يقول: حاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علماً حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأله عنه؟ إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه)
(2)
.
- فـ (الجمع بين الصلاتين من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، ومعرفة أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة، فضلاً عن العامة وإذا كان كذلك كان في اعتبار الساعات على الوجه الذي ذهبوا إليه ما يبطل أن تكون هذه الرخصة عامة مع ما فيه من المشقة المربية على تفريق الصلاة في أوقاتها الموقتة
(3)
.
- وحتى لمن يعرفها فإن (مراعاة هذا من أصعب الأشياء علماً
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 80).
(2)
المرجع السابق.
(3)
معالم السنن (1/ 264).
وعملاً، وهو يشغل قلب المصلي عن مقصود الصلاة، والجمع شرع رخصة ودفعا للحرج عن الأمة فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة؟!)
(1)
.
- (وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت
…
والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك.
- وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب؛ بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت. ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه؛ بل ولا أصحابه)
(2)
.
- (والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة. وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره. وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معا في آخر وقت الأولى وقد يقعان معا في أول وقت الثانية
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 54).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 55).
وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا؛ وكل هذا جائز؛ لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة)
(1)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أن نسبة القول بجواز الجمع لوجود المشقة إلى الشذوذ غير صحيحة، فهو رأي لم يخالف نصاً ولا إجماعاً، بل استُدل له بدليل قوي وعضده فهم سلفي من التابعي الجليل محمد بن سيرين، فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان القول بالجواز أقوى لولا ما يعكّر عليه من أن المشقة وصف غير منضبط، ولذلك لم تعلق رُخص السفر بالمشقة لعدم انضباطها بل علقت بالسفر، وكذلك الجمع في الحضر علّقه أكثر العلماء بأوصاف أكثر انضباطاً واطراداً كالمطر أو المرض، ف (من المشكل ضبط المشقة المقتضية للتخفيف
…
ومن ضبط ذلك بأقل "مما" ينطلق عليه الاسم، كأهل الظاهر خَلَصَ من هذا الإشكال)
(2)
.
قال القرافي: ("سؤال" ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها فإنا إذا سألنا الفقهاء يقولون ذلك يرجع إلى العرف فيحيلون على غيرهم ويقولون: لا نجد ذلك ولم يبق بعد الفقهاء إلا العوام وهم لا يصح تقليدهم في الدين ثم إن الفقهاء من جملة أهل العرف فلو كان في العرف شيء لوجدوه معلوماً لهم أو معروفاً.
"جوابه" هذا السؤال له وقعٌ عند التحقيق وإن كان سهلاً في بادي الرأي وينبغي أن يكون الجواب عنه: إن لم يرد فيه الشرع بتحديد يتعين
(1)
المرجع السابق (24/ 56).
(2)
المنثور في القواعد (3/ 173).
تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل فيما اعتبره الشرع، فنقول: يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطاً، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطاً. مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق)
(1)
، فيقال: مثله في الجمع في الحضر فما دل حديث ابن عباس بفحواه من الجمع لعذر المطر أو المرض أو الخوف اعتبر في الأعذار ماهو مثلها أو أعلى منها دون ما كان أدنى، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الجمع لم يقع في عهده صلى الله عليه وسلم إلا على سبيل الندرة في هذه الواقعة الوحيدة مع كثرة مايصيبهم من الأمطار والأمراض ووقائع الخوف.
أما الجمع في الحضر بلا عذر معتبر فهو من أقوال الرافضة المبتدعة وهو مخالف للإجماع ولا شك في شذوذه، والله أعلم.
(1)
الفروق (1/ 119 - 120).
المبحث الرابع عشر: وجوب صلاة الجمعة على المسافر
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
قال مجاهد: (ذهب العلماء فما بقي إلا المتعلمون، ما المجتهد فيكم اليوم إلا كاللاعب، فيمن كان قبلكم).
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35448)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
يوم الجمعة «خير يوم طلعت عليه الشمس»
(1)
، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وقال: «
…
هذا اليوم الذي كتبه الله علينا، هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد»
(2)
، قال ابن رجب:(وفي الحديث: دليلٌ على أن الجمعة فرض من الله واجبٌ علينا، كما كان على من قبلنا، فإن الله فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة، واتخاذه عيداً ومجمعاً لذكر الله وعبادته، فبدلوه بغيره من الأيام، وهدانا الله لهُ، فدل ذلكَ على أنه مفروض علينا تعظيمه، واتخاذه عيداً؛ لذكر الله والاجتماع فيه لعبادته، وهذا من أدل دليلٍ على أن شهود الجمعة فرض على هذه الأمة)
(3)
، أي: شهود صلاة الجمعة.
(والجمعة فرض باتفاق المسلمين فلا يجوز تركها لغير عذر شرعي)
(4)
، وهي فرض الوقت وليست بدلاً عن الظهر عند الجمهور
(5)
،
(1)
أخرجه مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و (كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية: العروبة، فسُمي في الإسلام: يوم الجمعة؛ لأنه يُجتمع فيه للصلاة) كما في المحلى (3/ 248).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (876)، ومسلم (855) وهذا لفظه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
فتح الباري (8/ 72).
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 339)، قال ابن القيم في زادالمعاد (1/ 385):(أجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين إلا قولاً يحكى عن الشافعي أنها فرض كفاية، وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال: وأما صلاة العيد فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة، فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية كانت الجمعة كذلك. وهذا فاسد).
(5)
من المالكية والشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية، ومن فروعها: لوصلى الظهر قبل أن تفوته الجمعة فلا تصح عند الجمهور وتصح عند الحنفية لأن الظهر فرض الوقت والجمعة لإسقاطها، ومن فروعها لو نوى فرض الوقت، قال في الفروع (3/ 133):(وهي صلاة مستقلة، لعدم انعقادها بنية الظهر، وممن لا تجب عليه، ولجوازها قبل الزوال). انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 137)، حاشية الدسوقي (1/ 383)، المجموع (4/ 496)، المغني (2/ 254).
(ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها، ويلزم من ذلك ألا يخاطب بالظهر
…
فأما إذا فاتته الجمعة فإنه يصير إلى الظهر؛ لأن الجمعة لا يمكن قضاؤها)
(1)
.
ووجوب الجمعة إنما هو على غير المعذور، فهل المسافر منهم؟ هذه هي مسألتنا.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
أجمع العلماء (أن الجمعة واجبة على الأحرار، البالغين، المقيمين، الذي لا عذر لهم)
(2)
.
2.
ومن كان من أهل الوجوب في البلد أو القرية (إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، سواء سمع النداء أو لم يسمع)
(3)
.
3.
…
(وأجمعوا على أن لا جمعة على النساء) و (على أنهن إن حضرن الإمام، فصلين معه أن ذلك يجزئ عنهن)
(4)
.
4.
وهكذا كل (المعذورين كالعبد والمرأة والمسافر وغيرهم فرضهم الظهر، فإن صلوها صحت، وإن تركوا الظهر وصلوا الجمعة أجزأتهم بالإجماع)
(5)
.
(1)
المغني (2/ 254).
(2)
الإجماع لابن المنذر ص (43)، وانظر: الإقناع لابن القطان (1/ 158 - 159).
(3)
فتح الباري لابن رجب (8/ 156).
(4)
الإجماع لابن المنذر ص (43)، وانظر: الإقناع لابن القطان (1/ 158 - 159).
(5)
المجموع (4/ 495).
5.
…
(وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه)
(1)
إذا لم ينوِ إقامة تمنع القصر ونحوه
(2)
، ونقل الإجماع على ذلك، وقد روي عن بعض السلف وجوبها عليه
(3)
، وذُكر عن غيرهم
(4)
، و هو قول ابن حزم
(5)
.
وذكره ابن تيمية احتمالاً في المسافر النازل
(6)
، ووجهه في الفروع
(7)
، ورجحه بعض المعاصرين، و قد حُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
المغني (2/ 250).
(2)
في الفتح لابن رجب (8/ 157): (وإن كان المسافر قد نوى إقامة بالقرية تمنعه من قصر الصلاة، فهل يلزمه الجمعة؟ وفيه وجهان لأصحابنا. وأوجب عليه الجمعة في هذه الحال: مالكٌ وأبو حنيفة، ولم يوجبها عليه الشافعي وأصحابه).
(3)
كعطاءٍ والزهري والأوزاعي والنخعي. انظر: المغني (2/ 250)، فتح الباري لابن رجب (8/ 157)، وسيأتي تحقيق قولهم، وممن يحتمل أن يكون قوله الوجوب أيضاً: البخاري كما قال ابن حجر في الفتح لما ذكر قول الزهري (2/ 391): (وكأن ذلك رجح عند البخاري)، قلت: ومع عدم جزم ابن حجر وعدم تصريح البخاري، فالذي يظهر أن سياق البخاري لأثر الزهري إنما هو لبيان معنى السعي إلى الجمعة، ولذلك ترجم بقوله:(باب المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، ومن قال: السعي العمل والذهاب) ثم ختم بالحديث الذي جاء في آخره: «وعليكم السكينة» وجعل بينهما أثر الزهري وفيه: (إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد).
(4)
في المعاني البديعة للريمي (1/ 218)، ونيل الأوطار (3/ 271) نقلا الوجوب عن جماعة من الزيدية، وفي سبل السلام (1/ 417) نقله عن جماعة من الآل لم يسمهم.
(5)
قال في المحلى (3/ 252): (وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره، والعبد، والحر، والمقيم).
(6)
قال ابن تيمية (24/ 184): (يُحتمل أن يُقال: بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين وإن لم يجب عليهم الإتمام
…
ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض والمحبوس وهؤلاء قادرون عليها؛ لكن المسافرون لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم).
(7)
قال الفروع (3/ 140): (يحتمل أن يلزمه تبعاً للمقيمين "خلافا لهم" قاله شيخنا، وهو متجه).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
ابن عثيمين (ت 1421)
(1)
، وابن جبرين (ت 1430)
(2)
، وعبدالله الفوزان
(3)
.
(1)
قال في مجموع فتاويه (15/ 431): (الصحيح: أن الجمعة لا تسقط عن المسافر إلا إذا كان ماراً بالبلد مواصلاً للسير)، وقال (15/ 362):(وعلى هذا فلا يحل لأحد من المبتعثين للدراسة أن يدع الجمعة والجماعة بحجة أنه مسافر)، وقال (15/ 360): (ولا يحل له التخلف عنهما إلا بعذر شرعي يبيح التخلف للمستوطن
…
وأدلة وجوب الجمعة على من كان في مكان تقام فيه الجمعة عامة لم يستثن منها المسافر)، وقال في الشرح الممتع (5/ 12 - 13): (المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مر إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة
…
فالمسافر لا جمعة عليه، والمقيم أيضاً لا جمعة عليه، لكن إن أقامها مستوطنون في البلد لزمته بغيره لا بنفسه).
وهنا لفتة فقهية ترددت في كتابتها، وهو أن رأي ابن عثيمين المعروف في ترخص المسافر برخص السفر مهما طالت مدة سفره يجب أن يؤخذ بقيوده، وهو أنه لا يرخص بترك جمعة لمن نزل في بلد، ولا بترك جماعة لمن سمع النداء وإن كان مسافراً، ومن أخذ برأيه في الرخصة وترك رأيه في العزيمة فقد لفّق تلفيقاً غير مقبول؛ فرأي الشيخ متصل ببعضه، وقد قال في فتاويه (15/ 362):(ومن ظن أن قولنا بجواز الترخص برخص السفر لهؤلاء المبتعثين يقتضي سقوط الجماعة والجمعة عنهم، ويبيح لهم الصلاة في بيوتهم= فقد أخطأ في ظنه)، ومعنى ترخص المسافر عنده في الصلاة كما في فتاويه (15/ 364):(لكن إذا فاتتك الصلاة هناك أو كنت في مكان بعيد عن المساجد، فإنك تصلي الرباعية ركعتين).
(2)
قال: (أرى أن أحكام السفر تغيرت كثيرًا في هذه الأزمنة؛ لقُرب البلاد، وسهولة المواصلات، ووجود الاستراحات، فعلى المسافر إذا مر في طريقه يوم الجمعة ببلد، أو قد سمع النداء للجمعة أن يحضرها ويُصلي، حيث قد يمر يوم الجمعة بعدة مساجد جوامع في طريقه بخلاف الأعوام الماضية، فإنه يسير يومًا أو نحوه لا يمر بالجوامع، فلذلك قالوا: المسافر لا جمعة عليه أي: للبُعد والمشقة التي انتفت هذه الأزمنة، وأيضًا فإذا أقام في البلد في فندق أو منزل بأجرة، وتمتع بما يتمتع به المقيمون مع الفرش، والتكييف والسرر والأدوات، فهو كالمقيم لا عذر له، ولا مشقة عليه تسقط عنه صلاة الجمعة والجماعة، وتحمله على القصر، وترك التطوع بالسنن الرواتب). الفتوى رقم (6961) في موقعه الرسمي.
(3)
قال في منحة العلام (4/ 82): (إن كان المسافر نازلاً فالأظهر أن الجمعة تلزمه إذا سمع النداء).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه، وقد نص على شذوذ هذا القول:
- أبوبكر ابن المنذر (ت 319) بقوله: (عن الزهري أنه قال: لا جمعة على المسافر، وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد جمعة فليحضر معهم، قال أبو بكر: وقوله: فليحضر معهم يحتمل أن يكون أراد استحباباً، ولو أراد غير ذلك كان قولاً شاذاً خلاف قول أهل العلم، وخلاف ما دلت عليه السنة)
(1)
.
- وابن التين (ت 611)
(2)
بقوله -لما ذكر قول الزهري-: (إن أراد وجوبها فهو قول شاذ)
(3)
.
- وابن تيمية (ت 728) بقوله: (عامة العلماء على أن الجمعة لا تصلى في السفر، وليس في ذلك إلا نزاع شاذ)
(4)
.
(1)
الأوسط (4/ 20).
(2)
أبو محمَّد عبد الواحد بن التين الصفاقسي، له شرح على البخاري مشهور سماه:"المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح" له اعتناء زائد في الفقه ممزوجاً بكثير من كلام المدونة وشراحها مع رشاقة العبارة ولطف الإشارة، اعتمده ابن حجر في شرح البخاري وغيره توفي سنة (611 هـ). انظر: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية (1/ 242)، قلت: وشرحه للبخاري كان أشبه بالمفقود، ثم وُجدت منه قطع حققت برسائل علمية في جامعة الملك سعود.
(3)
نقله عنه العيني في عمدة القاري (6/ 204).
(4)
مجموع الفتاوى (27/ 422).
- وابن باز (ت 1420) بقوله: (المسافر وسكان البادية يصلون ظهراً كما دلت على ذلك السنة، وهو قول عامة أهل العلم ولا عبرة بمن شذ عنهم)
(1)
، وقال في رد له على أحد الشيوخ:(ومن المسائل المنسوبة إليكم: القول بإيجاب صلاة الجمعة والعيد على البادية والمسافرين والنساء، مع أن الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم واضحان في إسقاطها عنهم، سوى ابن حزم في المحلى فقد ذكر وجوبها على المسافرين، وقوله هذا شاذ مخالف للأدلة الشرعية، ولجمهور أهل العلم فلا يلتفت إليه)
(2)
، وقال:(ولا أعلم خلافاً من علماء الإسلام في هذه المسألة بحمد الله، إلا خلافا شاذاً من بعض التابعين لا ينبغي أن يعول عليه)
(3)
.
- والنقل الأول والثاني يتوجهان إلى القول بوجوب إجابة المسافر للجمعة القائمة، وبقية النقول تحتمل ذلك أيضاً، والأظهر توجهها إلى إقامة المسافر للجمعة، يعني: تجميعه، وهو أبعد من الأول بل قيل ببدعية تجميع المسافر.
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (12/ 332).
(2)
المرجع السابق (15/ 231)، ولم أعرف المردود عليه وقد رمز له بـ:(حضرة الأخ المكرم الشيخ ع. م.) وهي صادرة بتاريخ (28/ 7/ 1397 هـ).
(3)
المرجع السابق (30/ 235)، وكان كلامه هنا في إقامة الجمعة من غير المستوطن وليس في المسافر، حيث كان السؤال:(هل تفرض علينا صلاة الجمعة في هذه الديار الأسبانية علما بأنه لا مسجد فيها، ونحن أتينا إلى تلك الديار من أجل الدراسة؟) لكنه علل الحكم بعد أن ذكر أن إقامة الجمعة لا تصح منهم: (
…
لأنهم في حكم المسافرين، ولا أعلم خلافاً من علماء الإسلام في هذه المسألة بحمد الله، إلا خلافا شاذاً من بعض التابعين لا ينبغي أن يعول عليه، ولكن لو وجد من يصلي الجمعة من المسلمين المستوطنين فالمشروع لكم ولأمثالكم من المقيمين في البلاد إقامة مؤقتة لطلب علم أو تجارة ونحو ذلك، الصلاة معهم؛ لتحصيل فضل الجمعة، ولأن جمعا من أهل العلم قالوا بوجوبها على المسافر تبعا للمستوطن إذا أقام في محل تقام فيه الجمعة تمنعه من قصر الصلاة).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم وجوب الجمعة على المسافر:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك»
(1)
، وحديث تميم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الجمعة واجبة إلا على صبي، أو مملوك، أو مسافر»
(2)
، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خمسة لا جمعة عليهم: المرأة، والمسافر، والعبد، والصبي، وأهل البادية»
(3)
، وحديث
(1)
أخرجه الدارقطني (1576)، والبيهقي في الكبرى (5634)، من طريق ابن لهيعة ثنا معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر به، قال ابن القطان في بيان الوهم (3/ 399):(أبو الزبير مدلس، وابن لهيعة متروك، ومعاذ بن محمد منكر الحديث غير معروف)، وانظر: الكامل لابن عدي (8/ 182)، التلخيص الحبير (2/ 161).
(2)
أخرجه البيهقي في الكبرى (5633) وهذا لفظه، والطبراني في الكبير (1257)، من طريق محمد بن طلحة، عن الحكم بن عمرو، عن ضرار بن عمرو، عن أبي عبد الله الشامي، عن تميم الداري به، قال ابن القطان في بيان الوهم (3/ 161):(حديث فيه ثلاثة، يعتل بكل واحد منهم: ضرار رابعهم)، ولذلك قال أبو زرعة:(هذا حديث منكر) كما في علل الحديث لابن أبي حاتم (2/ 585).
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (202) من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة به، قال الطبراني:(لم يرو هذا الحديث عن مالك إلا إبراهيم بن حماد بن أبي حازم)، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (2/ 42):(قال الدارقطني في غرائب مالك: تفرد به إبراهيم وكان ضعيفًا. وقال ابن يونس في تاريخ الغرب: قدم مصر وحدث بها عن مالك وغيره، وذكر جماعة رووا عنه ولم يذكر فيه جرحا، لكن تفرده بهذا عن مالك مما يدخل في قبيل المنكر، لكون الرواة عن مالك كثيرين جداً، ولم يوجد هذا عند أحد منهم).
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على مسافر جمعة»
(1)
.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال:
- بأن كل حديث من الأحاديث السابقة منكر، وكما قال الإمام أحمد:(المنكر أبداً مُنكر)
(2)
، يعني لا يتقوى ولو تعدد، و وجودها كعدمها في الشواهد والمتابعات.
- وعلى فرض التسليم (فالمسافر لا جمعة عليه
…
لكن إن أقامها مستوطنون في البلد لزمته بغيره لا بنفسه)
(3)
.
ويمكن الجواب عن المناقشة:
- بأن أحاديث الترخيص عن الجمعة للمسافر وإن لم تثبت بالنص المرفوع، فهي ثابتة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبقول الصحابة وفعلهم، وبالقياس، وبالإجماع:
- أما فعل النبي صلى الله عليه وسلم: فقد كان (النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير)
(4)
، ومع مرورهم بالبلاد التي تقيم الجمعة كمكة في حجة الوداع.
(1)
أخرجه الدارقطني (1582)، والطبراني في الأوسط (818) وهذا لفظه، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر به، قال الطبراني:(لم يرو هذا الحديث عن نافع إلا ابنه عبد الله)، وهو أضعف أبنائه، قال البخاري عنه في التاريخ الكبير (5/ 214):(منكر الحديث)، وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين ص (64):(متروك الحديث)، وأخرجه البيهقي في الكبرى (5639) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال:(لا جمعة على مسافر). قال البيهقي: (هذا هو الصحيح موقوف، ورواه عبد الله بن نافع عن أبيه فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: وجاء مرسلاً عن الحسن بن محمد ابن الحنفية في مصنف عبدالرزاق (5203).
(2)
قال كما في العلل ومعرفة الرجال برواية المروذي ص (120): (الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر)، وانظر: شرح علل الترمذي (2/ 896).
(3)
الشرح الممتع (5/ 13).
(4)
المبدع (2/ 147)، منار السبيل (1/ 142)، قال الألباني في الإرواء (3/ 60): (وإن كنت لم أره مروياً بهذا اللفظ، ولكن الاستقراء يدل عليه، وقد ثبت فى حديث جابر الطويل فى صفة حجة صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره: «حتى أتى عرفة
…
فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر». وقد كان ذلك يوم جمعة كما فى الصحيحين وغيرهما).
- وأما الصحابة: فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لا جمعة على مسافر)
(1)
، ويؤيده فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد:(أقام بنيسابور سنة أو سنتين، فكان يصلي ركعتين ثم يسلم، ولا يجمع)
(2)
، وفعل عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه كذلك، كما قال الحسن البصري:(كنا معه في بعض بلاد فارس سنتين، وكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين)
(3)
وفي لفظ: (ولا نُجمّع)، قال البيهقي:(هكذا وجدته في كتابي: ولا نُجمّع، بالتشديد ورفع النون)، وترجم لهما ابن أبي شيبة:(من قال: ليس على المسافر جمعة)، وترجم للأخير البيهقي:(باب من لا تلزمه الجمعة).
- وحكاه إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود ولايبعد أن يكون هو رأي ابن مسعود أيضاً
(4)
، قال إبراهيم: (كانوا لا يُجمّعون في
(1)
أخرجه البيهقي في الكبرى (5639)، وقال:(هذا هو الصحيح موقوف)، وقد سبق.
(2)
أخرجه ابن أبي شية (5100) وابن المنذر في الأوسط (1736)، من طريق عبدالأعلى عن يونس عن الحسن به، وإسناده صحيح، وأخرجه الطبراني في الكبير (682) ولفظه:(عن الحسن، أنه قام مع أنس بنيسابور سنتين، فكان يصلي ركعتين ركعتين)، من غير شك ومن غير التجميع، والأول أصح لأن لفظ الطبراني روي من طريق علي بن عبد العزيز، ثنا عارم، ثنا حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، عن الحسن به، وعلي بن عبدالعزيز البغوي سمع من عارم محمد بن الفضل بعد الاختلاط كما ذكر العقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 121).
(3)
أخرجه عبدالرزاق عبدالرزاق (4353) وهذا لفظه، وابن أبي شيبة (5099)، والبيهقي في الكبرى (5639) من طريق يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة، والإسناد صحيح، وله شاهد عند عبدالرزاق (4352) عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة به.
(4)
روي عن ابن مسعود أنه قال: (ليس على المسلمين جمعة في سفرهم، ولا يوم نفرهم) أخرجه ابن أبي شيبة (5103) من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد [الخوزي وهو متروك] عن عون بن عبدالله عن ابن مسعود به.
سفر، ولا يصلون إلا ركعتين)
(1)
، ترجم عليه عبدالرزاق:(باب من تجب عليه الجمعة)، ويؤيده قول علي بن الأقمر، قال: خرج مسروق، وعروة بن المغيرة، ونفر من أصحاب عبد الله: فحضرت الجمعة، فلم يجمعوا، وحضر الفطر، فلم يفطروا)
(2)
وترجم عليهما عبدالرزاق: (باب من تجب عليه الجمعة)، وابن أبي شيبة:(باب من قال: ليس على المسافر جمعة).
- أما القياس: فالمسافر أُسقط عنه شطر الصلاة وهي أركان منها عند الجميع، فسقوط ما ليس منها وما ليس بركن أولى، (ولأن الله عز وجل أسقط على المسافر بعض الصلاة مع كون الساقط عنه منها واجبًا في حق كل أحد، فالجمعة أولى بالسقوط؛ لأن السعي وانتظار الجمعة أشق من فعل أربع، وما كان أشق كان أولى بالسقوط)
(3)
.
- وأما الإجماع فهو الآتي:
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (5202) من طريق الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم به، وبنحوه عن ابن أبي شيبة (5065)(5101)، ورجاله ثقات إلا أن مغيرة بن مقسم عن إبراهيم فيه كلام، قال الإمام أحمد كما في العلل براوية ابنه عبدالله (1/ 207):(عامة حديثه عن إبراهيم مدخول، عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد ومن يزيد بن الوليد والحارث العكلي وعن عبيدة وعن غيره، وجعل يضعف حديث المغيرة عن إبراهيم وحده)، وقد سبق في المبحث الرابع من كتاب الطهارة تحرير حديث مقسم عن إبراهيم، وأن ابن المديني وأبا داود يقبلانه، وروى البخاري ومسلم من هذا الطريق من غير تصريح بالسماع في نحو عشرة مواضع، ويقويه أيضاً الأثر بعده.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5098) حدثنا أبو أسامة، عن أبي العميس، عن علي بن الأقمر، قال: خرج مسروق، وعروة بن المغيرة، وإسناده جيد، وعلي بن الأقمر كوفي وله رواية عن بعض أصحاب ابن مسعود، ولم يذكر المزي في تهذيب الكمال (20/ 324) مسروقاً ولا عروة ممن روى عنهم.
(3)
شرح التلقين للمازري (1/ 947).
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
1.
قال الشافعي (ت 204): (لم نعلم خلافاً في أن لا جمعة عليه [أي: المصلي] إلا في دار مقام)
(1)
.
2.
وقال القاضي عبدالوهاب (ت 422): (عند جميع الفقهاء أن المسافر لا جمعة عليه، وقال داود: هي واجبة عليه)
(2)
.
3.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (وأما قوله: ليس على مسافر جمعة= فإجماع لا خلاف فيه)
(3)
.
4.
وقال المازري (ت 536): (أجمع الفقهاء على سقوط الجمعة على المسافر إلا داود، فإنه يوجبها عليه. وقال الزهري والنخعي: تجب عليه إذا سمع النداء)
(4)
.
5.
وقال ابن هبيرة (ت 560): (اتفقوا على أن الجمعة لا تجب على
…
مسافر)
(5)
.
6.
وقال ابن رشد (ت 595): (فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه [أي: شرط الاستيطان] لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على المسافر، وخالف في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم الجمعة على المسافر)
(6)
.
7.
وقال ابن قدامة (ت 620) بعد أن ذكر قول النخعي وأثر أنس وأثر عبدالرحمن بن سمرة: (وهذا إجماع، مع السنة الثابتة فيه، فلا يسوغ مخالفته)
(7)
.
(1)
الأم (1/ 219).
(2)
عيون المسائل ص (147).
(3)
الاستذكار (2/ 36).
(4)
شرح التلقين (1/ 947).
(5)
اختلاف الأئمة العلماء (1/ 152).
(6)
بداية المجتهد (1/ 169).
(7)
المغني (2/ 251).
8.
وقال قاضي صفد محمد بن عبدالرحمن الدمشقي (ت بعد 780 هـ): (إنما يجب على المقيم، ولا تلزم مسافراً بالاتفاق
…
ومن لا جمعة عليه كالمسافر المار ببلد فيها جمعة مخيّر بين فعل الجمعة والظهر بالاتفاق)
(1)
.
9.
وقال أحمد الكوراني (ت 893) عن قول الزهري: (لم يأخذ به أحد من الأئمة، ونُقل عن الزهري مثل قول الأئمة، والتزم بعضهم التوفيق بأن يفيد وجوب الجمعة على المسافر إذا حضر الجامع ولا عذر له)
(2)
.
10.
وقال علي بن محمد المالكي (ت 939)
(3)
: (ولا تجب على مسافر. اتفاقاً)
(4)
، وبنحو قوله قال صالح الأزهري (ت 1335):(ولا تجب على مسافر. اتفاقاً)
(5)
.
11.
وقال علي القاري (ت 1014): (ولا تلزم مسافراً بالاتفاق، وحكي عن الزهري والنخعي وجوبها على المسافر إذا سمع النداء)
(6)
.
12.
وقال الزرقاني (ت 1122): (ولا جمعة على مسافر. إجماعاً)
(7)
.
13.
وقال حسين المحَلِّي (ت 1170)
(8)
: (من لا تجب عليه الجمعة
(1)
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (70 - 71).
(2)
الكوثر الجاري (3/ 30).
(3)
أبو الحسن علي بن محمد، ولد في مصر، وأخذ الفقه عن جماعة منهم علي السنهوري، ولازم الجلال السيوطي، من مؤلفاته "كفاية الطالب الرباني"، توفي سنة (939 هـ)، انظر: حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 4).
(4)
حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 376).
(5)
الثمر الداني ص (236)، وكفاية الطالب والثمر الداني: شرحان على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
(6)
مرقاة المفاتيح (3/ 1025).
(7)
شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 391).
(8)
حسين بن محمد المحلي، المصري، فقيه شافعيّ فرضي، من تصانيفه: فتح رب البرية على متن السخاوية، الكشف التام عن إرث ذوي الارحام، منتهي الايرادات لجدول المناسخات، وغيرها. توفي سنة (1170) هـ. انظر: عجائب الآثار للجبرتي (1/ 302)، الأعلام (2/ 257)، معجم المؤلفين (4/ 57).
كالمسافر المار ببلد فيها جمعة تَخيّر بين فعل الجمعة والظهر بالاتفاق)
(1)
.
14.
وقال سليمان بن عبدالله بن عبدالوهاب (ت 1233) بعد أن ذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن بعدهم في عدم التجميع في السفر: (وهذا إجماع لا يجوز مخالفته)
(2)
.
15.
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: (اتفق الفقهاء على أن الإقامة من شروط وجوب الجمعة، وعلى هذا فلا تجب الجمعة على المسافر)
(3)
.
ونوقش الاستدلال بالإجماع:
- بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، و (لا خلاف في أنه عليه السلام خطب وصلى ركعتين وهذه صلاة الجمعة.
- وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام لم يجهر لما كان لهم في ذلك حجة أصلاً؛ لأن الجهر ليس فرضاً، ومن أسر في صلاة جهر، أو جهر في صلاة سر، فصلاته تامة)
(4)
.
- ولا إجماع في المسألة، فقد جاء: (عن أبي هريرة: أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين؟ فكتب إليهم:
(1)
مزيد النعمة لجمع أقوال الأئمة ص (143).
(2)
الدرر السنية (5/ 14).
(3)
الموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 36).
(4)
المحلى (3/ 252 - 253)، وابن حزم يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة في عرفة.
أن جمعوا حيثما كنتم)
(1)
فـ (هذا عمر بن الخطاب يرى الجمعة عموماً)
(2)
.
- وسئل سعيد بن المسيب على من تجب الجمعة؟ فقال: (على من سمع النداء)
(3)
، ونحوه عن عمرو بن شعيب
(4)
، (فعمم سعيد، وعمرو: كل من سمع النداء، ولم يخصا عبداً، ولا مسافراً، من غيرهما)
(5)
.
- قال ابن حزم: (وعن عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار ثنا صالح بن سعد المكي أنه كان مع عمر بن عبد العزيز وهو متبد بالسويداء في إمارته على الحجاز، فحضَرَت الجمعة، فهيئوا له مجلساً من البطحاء، ثم أذن المؤذن بالصلاة، فخرج إليهم عمر بن عبد العزيز، فجلس على ذلك المجلس، ثم أذنوا أذاناً آخر، ثم خطبهم، ثم أقيمت الصلاة، فصلى بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقراءة، ثم قال لهم:"إن الإمام يجمع حيثما كان".
- وعن الزهري مثل ذلك، وقال، إذا سئل عن المسافر يدخل قرية
(1)
المرجع السابق، وقد ساقه بسنده، و أخرجه ابن أبي شيبة (5068) حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أنهم كتبوا إلى عمر، يسألونه عن الجمعة، فكتب:(جمعوا حيث كنتم) قال الإمام أحمد: (هذا إسنادٌ جيدٌ) كما في الفتح لابن رجب (8/ 139).
(2)
المحلى (3/ 255).
(3)
أخرجه عبدالرزق (5156) وفيه جهالة، وأخرجه ابن أبي شيبة (5075) عن أبي خالد الأحمر، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، قال: سألته على من تجب الجمعة؟ فقال: (على من سمع النداء).
(4)
أخرجه عبدالرزاق (5155) وابن أبي شيبة (5094) عن داود بن قيس قال: سئل عمرو بن شعيب وأنا أسمع: من أين تؤتى الجمعة؟ قال: (من مد الصوت).
(5)
المحلى (254).
يوم الجمعة فينزل فيها؟ قال: إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة)
(1)
.
- (وروي عن عطاءٍ - أيضاً -، أنه يلزمه، وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب)
(2)
.
ويمكن الجواب عن المناقشة:
- أما المرفوع فـ (لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع؛ لأنه كان مسافراً
…
وقد وهم ابن حزم فقال: إنه صلاها في حجته وغلّطه العلماء)
(3)
، وقد خالف ابن حزم نفسه أيضاً، ففي حجة الوداع ذكر أنه صلاها ظهراً، فقال:(فلما أتم الخطبة المذكورة أمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً)
(4)
.
- قال ابن عبدالبر: (أجمع العلماء على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في الظهر والعصر بعرفة لا في يوم الجمعة ولا غيرها، وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل لم يجهر، وأجمعوا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر يوم عرفة، إذ جمع بينهما ركعتين، وأجمعوا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يومئذ مسافراً)
(5)
، قال
(1)
المحلى (3/ 254)، وأثر عمر بن عبدالعزيز عند عبدالرزاق كما ذكر ابن حزم، وسيأتي تخريج للأثرين في الجواب.
(2)
فتح الباري لابن رجب (8/ 157).
(3)
سبل السلام (1/ 417).
(4)
حجة الوداع ص (120)، ولم يذكر صلاته صلى الله عليه وسلم للجمعة.
(5)
التمهيد (10/ 13)، على أن ابن حزم له تعليق على من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بقوله في المحلى (3/ 252):(وهذه جرأة عظيمة وما روى قط أحد: أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والقاطع بذلك كاذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد قفا ما لا علم به؟ وقد قال عطاء وغيره: إن وافق يوم عرفة يوم جمعة جهر الإمام)، هكذا قال.
ابن تيمية: (يوم عرفة خطب بهم ثم نزل فصلى بهم ركعتين، ولم ينقل أحد أنه جهر، ولم تكن تلك الخطبة للجمعة فإنها لو كانت للجمعة لخطب في غير ذلك اليوم من أيام الجُمَع وإنما كانت لأجل النسك. ولهذا كان علماء المسلمين قاطبة على أنه يخطب بعرفة وإن لم يكن يوم جمعة؛ فثبت بهذا النقل المتواتر أنها خطبة لأجل يوم عرفة وإن لم يكن يوم جمعة)
(1)
.
- وأما المروي عن عمر رضي الله عنه، ففيه إشكال حيث إن إسلام أهل البحرين وإقامتهم للجمعة كان متقدماً، يدل لذلك ماجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال:(إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مسجد عبد القيس بجواثا من البحرين)
(2)
، وقد كان أبوهريرة في البحرين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم في عهد عمر رضي الله عنه
(3)
، فإن النبي صلى الله عليه وسلم «صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي»
(4)
، بل كان أبو هريرة (مؤذناً للعلاء
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 178 - 179).
(2)
صحيح البخاري (892)، قال ابن رجب في الفتح (8/ 137 - 138):(وهذا يدل على أن عبد القيس أسلموا قبل فتح مكة، وجمعوا في مسجدهم، ثم فتحت مكة بعد ذلك، وجمع فيها. والمقصود: أنهم جمعوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في قرية جواثاء، وإنما وقع ذلك منهم بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وأمره لهم؛ فإن وفد عبد القيس أسلموا طائعين، وقدموا راغبين في إلاسلام)، وقال ابن حجر في الفتح (1/ 132):(وجواثى بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام).
(3)
(فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه مع العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين وأوصاه به خيرًا فاختار أن يكون مؤذِّنًا، كما في "الإصابة" و"البداية" وغيرهما. ثم رجع العلاء في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في "فتوح البلدان" ورجع معه أبو هريرة، ثم بعث عمر سنة (20) أو نحوها قُدامةَ بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جرت لقُدامة قضية معروفة، فعَزَله عمر وولَّى أبا هريرة الإمارة أيضًا)، قاله العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة" المطبوع مع مجموع آثاره (12/ 296).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961).
بن الحضرمي بالبحرين، فاشترط عليه بأن لا يسبقه بآمين)
(1)
.
- ولذلك قال الإمام الشافعي: (إن كان هذا حديثاً، يعني: ثابتاً، ولا أدري كيف هو! فمعناه: في أي قرية كنتم؛ لأن مقامهم في البحرين إنما يكون في القرى)
(2)
، فالبحرين قرى وليست قرية واحدة كجواثا وهجر ودارين وغيرها
(3)
، وعلى هذا يكون سؤال أبي هريرة عن إقامة الجمعة في قرية غير جواثا التي جُمّع فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر:(جمعوا حيثما كنتم) أي: في أي قرية كنتم، وبقول عمر استدل العلماء على جواز إقامة الجمعة في القرى، ويقابله رأي من يشترط المصر الجامع لإقامة الجمعة، وليس في الأثر ذكر للسفر، ولم يفهم العلماء قبل ابن حزم ولا بعده أن مراد عمر إقامتها في السفر، وقد ترجم للأثر ابن أبي شيبة بقوله:(من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها)
(4)
، وقال ابن تيمية:(فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد ولم يشترط بناء مخصوصاً)
(5)
.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (2637) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به، والإسناد صحيح.
(2)
معرفة السنن والآثار للبيهقي (4/ 323).
(3)
في المسالك والممالك ص (152): (قرى البحرين: وهى الخطّ، والقطيف، والآرة، وهجر، والفروق، وبينونة
…
والمشقّر، والزّارة، وجواثا
…
ويوم ذي قار، وسابون، ودارين، والغابة، والشّنون). وانظر: البلدان لابن الفقيه ص (89).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (1/ 440)، وجميع من وقفت عليه يذكر الأثر لايستدل به على جمعة المسافر. انظر: شرح التلقين للمازري (1/ 952)، الحاوي الكبير للماوردي (2/ 408)، المغني لابن قدامة (2/ 246)، ولم أقف عليه عند الحنفية، والجمعة لاتصح عندهم إلا في مصر جامع، وهذا الأثر عليهم، وترجم البخاري:(باب الجمعة في القرى والمدن)، وفي الفتح لابن حجر (2/ 380):(في هذه الترجمة إشارة إلى خلاف من خص الجمعة بالمدن دون القرى).
(5)
مجموع الفتاوى (24/ 269).
- أما قول سعيد بن المسيب و عمرو بن شعيب بأن: (الجمعة على من سمع النداء)، وأنها تؤتى:(من مد الصوت)، فهناك ما هو أرفع من هذين المقطوعين، ففي الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
(1)
، وفي الحديث المرفوع:«هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال:«فأجب»
(2)
، (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له)
(3)
، وقال عبدالله بن عمرو-رضي الله عنهما:(إنما تجب الجمعة على من سمع النداء، فمن سمعه فلم يأته فقد عصى ربه)
(4)
، لكن كل هذه الآثار ليس فيها ذكر للمسافر المعذور، وإنما هي لغيره، ويمكن على طريقة ابن حزم أيضاً، ذكر ما هو أشد من سماع الأذان ومن ذلك:
- قول ابن عمر رضي الله عنهما: (الجمعة على من آواه المراح)
(5)
، وقول نافع والحسن:(الجمعة على كل من آواه الليل إلى أهله)
(6)
، ولكنها كلها محمولة على غير المعذور وبذلك ترجم من أخرج أثر ابن عمر ونافع والحسن، وقول ابن المسيب وعمرو بن شعيب، فقال عبدالرزاق:(باب من يجب عليه شهود الجمعة)، وقال ابن
(1)
من الآية 9 من سورة الجمعة.
(2)
أخرجه مسلم (653).
(3)
قاله الترمذي في جامعه (1/ 422).
(4)
أخرجه البيهقي في الكبرى (5583) وقال: (هذا موقوف)، قال أبوداود في سننه (1/ 278):(روى هذا الحديث جماعة، عن سفيان، مقصورا على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة)، ولما ذكر عبدالحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (2/ 102) حديث أبي دواد: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة على من سمع النداء» قال: (وروي موقوفًا وهو الصحيح).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (5073) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو عامر المزني، قال: سمعت نافعاً يحدث، عن ابن عمر به.
(6)
أخرجه عبدالرزاق (5152)، وابن أبي شيبة (5080)(5084).
أبي شيبة: (من كم تؤتى الجمعة)، يؤيد هذا الفهم أنك تجد ابن عمر القائل هنا:(الجمعة على من آواه المراح)، هو القائل فيما سبق:(لاجمعة على مسافر)، ثم إنك تجد أن هناك من يقول بقول ابن المسيب وعمرو بن شعيب لم يذكرهم، كما قال الترمذي:(قال بعضهم: لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق)
(1)
، لكن الجميع يجعلون ذلك في غير المعذور بالسفر، والله أعلم.
- وأما ماجاء عن عمر بن عبدالعزيز فليس فيه دلالة على وجوب الجمعة على المسافر، بل فيه أن للإمام خصوصية في إقامته للجمعة وإن كان مسافراً، ويفهم منه أن غير الإمام ليس له ذلك عنده
(2)
، على أن الأثر ليس بقوي
(3)
، وأقوى منه ما قال أبو عبيد، مولى سليمان بن عبد الملك قال: خرج عمر بن عبد العزيز من دابق، وهو يومئذ أمير المؤمنين، فمرّ بحلب يوم الجمعة، فقال لأميرها:(اجمع، فإنا سفْرٌ)
(4)
، على أنه لا تعارض بينهما.
- وأما ما جاء عن الزهري (ت 125) ومن عنده يبدأ الخلاف عند أكثر العلماء الذين وقفت على كلامهم في المسألة، وهذا بيان مذهبه:
- فقد أخرج عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: سألته عن المسافر، يمر بقرية فينزل فيها يوم الجمعة؟ قال: (إذا سمع الأذان
(1)
جامع الترمذي (2/ 375).
(2)
ترجم له عبدالرزاق: (باب الإمام يجمّع حيث كان)، وبدأ به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق (5147) عن سعيد بن السائب بن يسار قال: حدثنا صالح بن سعد المكي أنه كان مع عمر بن عبد العزيز به، وصالح بن سعد (مقبول) كما قال ابن حجر في التقريب.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (5105) قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: ثنا رجاء بن أبي سلمة، قال: حدثني أبو عبيد، مولى سليمان بن عبد الملك، وإسناده حسن.
فليشهد الجمعة)
(1)
.
- وقول الزهري: (فليشهد الجمعة) أو (ليحضر معهم)، قد نوقش بأمرين:
- (أن الزهري مختلف عنه في هذا الباب)
(2)
.
- وعلى التسليم به فكلامه محتمل، ف (يحتمل أن يكون أراد استحباباً)
(3)
، أي: يشهدها ويحضرها المسافر استحباباً، حملاً للكلام المحتمل على ما وافق الإجماع.
- أو يُـ (ـحمل كلام الزهري على حالين: فحيث قال: "لا جمعة على مسافر" أراد على طريق الوجوب، وحيث قال: "فعليه أن يشهد" أراد على طريق الاستحباب)
(4)
.
-
…
(ولو أراد غير ذلك كان قولاً شاذاً خلاف قول أهل العلم، وخلاف ما دلت عليه السنة)
(5)
، فهو بذلك محجوج بمن سبق من الصحابة الذين لا يعرف لهم مخالف.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (5205)، وليس بين عبدالرزاق والزهري إلا معمر وهو صحيح، وعلّقه البخاري جازماً به بلفظ:(وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد)، وذكره ابن المنذر بقوله:(وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري أنه قال: لا جمعة على المسافر، وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد جمعة فليحضر معهم).
(2)
الأوسط (4/ 20)، ولم يذكر ابن المنذر وجه الاختلاف عليه، لكنه قال:(وقال الزهري: إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة وقد اختلف عنه)، ثم قال:(لأن الزهري مختلف عنه في هذا الباب، وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري أنه قال: لا جمعة على المسافر، وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد جمعة فليحضر معهم)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 319):(فقيل: عنه هكذا، وقيل عنه مثل قول الجماعة: إنه لا جمعة على مسافر كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري)، ولم يظهر لي أن بين اللفظين اختلاف مؤثر، والله أعلم.
(3)
المرجع السابق.
(4)
فتح الباري (2/ 391).
(5)
الأوسط (4/ 20).
- وأما المروي عن النخعي (ت 196)، فأول من وقفت عليه ينسبه إليه الخطابي (ت 388) بقوله:(وقد روي عن الزهري أنه قال: إذا سمع المسافر الأذان فليحضر الجمعة، وعن إبراهيم النخعي نحو من ذلك)
(1)
، هو قال:(نحو من ذلك)، ثم جاء من بعده فجعل قول النخعي كقول الزهري، فقال الروياني (ت 502):(وقال الزهري والنخعي -رحمهما الله-: إذا سمع النداء وجبت عليهم الجمعة)
(2)
، وأبوبكر الشاشي (ت 507) بقوله:(وقال الزهري والنخعي تجب الجمعة على المسافر إذا سمع النداء)
(3)
، والبغوي (ت 516) بقوله:(وقال النخعي والزهري: تجب على المسافر إذا سمع النداء)
(4)
، ثم تتابعت النسبة إليه
(5)
، فخرجت النسبة أولاً من الشافعية، والذي يظهر أن هذه النسبة وهم، وسببه:
- أن ابن المنذر قال بعد أن ذكر قول الزهري: (وكان النخعي يقول: ليس لمن ترك الجمعة والجماعة عذر، إلا خائف أو مريض)
(6)
ولم يسنده، ولم يعرج عليه أيضاً، بل جعل قول الزهري يحتمل المخالفة ولم يجعل قول النخعي مخالفة، لأنه عرّج بعد ذلك على قول الزهري فقط وتوجيهه ومخالفته للإجماع.
- مما يؤكد ذلك: أنه في كتاب الإشراف لم يذكر إلا مخالفة الزهري
(1)
معالم السنن (1/ 244)، قال:(نحو من ذلك)، ولم يذكر قوله.
(2)
بحر المذهب (2/ 373).
(3)
حلية العلماء (2/ 223)
(4)
تفسير البغوي (8/ 118)، ونحوه في شرح السنة (4/ 226).
(5)
انظر: شرح التلقين (1/ 947)، المغني (2/ 250)، البناية شرح الهداية (3/ 70).
(6)
الأوسط (4/ 20)، والأثر ليس بصريح في وجوبها على المسافر؛ لأن المرأة لاتجب عليها عند أحد ولم تُستثنن هنا، وكذلك الصغير والعبد، فمعنى الأثر:(ليس لمن ترك الجمعة والجماعة) أي: ممن تجب عليه، والمسافر لاتجب عليه.
ولم يذكر النخعي إطلاقاً فقال: (وقال الزهري: إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة، وقد اختلف فيه عنه)
(1)
.
- ثم جاء من بعده من الشافعية واعتمد فيما يظهر على نقله من الأوسط في ذاك السياق وظن أنه اعتد بمخالفته، خاصة وأن ابن المنذر (عداده في الفقهاء الشّافعية)
(2)
، بل (هو المرجوع إليه في نقل المذاهب باتفاق الفرق)
(3)
.
- ثم إن أثر النخعي لم أقف عليه مسنداً، والذي وقفت عليه بنحوه هو قول شيوخه أصحاب ابن مسعود وقول شيخهم ابن مسعود، أما قول ابن مسعود رضي الله عنه:(ما رُخّص في ترك الجماعة إلا لخائف أو مريض)
(4)
وهو ضعيف جداً، وأقوى منه مع ضعفه قول إبراهيم:(ما كانوا يرخصون في ترك الجماعة إلا لخائف أو مريض)
(5)
، أما قول إبراهيم فلا أصل له، ولعل ذلك جعل ابن المنذر لا يعده قولاً.
- يدلك على ذلك: أن عدم الوجوب هو المروي عن أصحاب ابن مسعود وإبراهيم ممن رواه عنهم: (كانوا لا يُجمّعون في سفر)، والأصل أنه لا يخالف فقههم وفقه ابن مسعود، ثم إنك لا تجد في مصنفي عبدالرزاق وابن أبي شيبة قوله بالوجوب وهي مظنة لمثل ذلك.
(1)
الإشراف (2/ 85).
(2)
سير أعلام النبلاء (14/ 491).
(3)
المجموع (1/ 436)، كذا قال النووي وقال (2/ 582):(وقد علم كل منصف ممن له أدنى عناية أن ابن المنذر إمام هذا الفن، أعني: نقل مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، أن معول الطوائف في نقل المذاهب عليه).
(4)
أخرجه الطبراني في الكبير (9983) من طريق يوسف بن عطية (متروك)، عن أبي حمزة (هو القصاب ضعيف)، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (3523) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي حمزة (ضعيف)، عن إبراهيم به.
-
…
أما المروي عن عطاء والأوزاعي فأول من وقفت عليه ينسبه إليهما ابن رجب بقوله: (فإن كان مسافراً يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية
…
وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية، وروي عن عطاءٍ -أيضاً-، أنه يلزمه. وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب)
(1)
، وقال:(وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاء: أن عليه شهودها، سمع الأذان أو لم يسمعه، وأن الجمهور على خلاف ذلك)
(2)
.
- أما النسبة إلى عطاء (ت 114)، فلم أقف على من تابع ابن رجب عليها، بل خالفه ابن المنذر فنقل عنه العكس فقال:(قال كثير من أهل العلم: ليس على المسافر جمعة، كذلك قال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس)
(3)
، وكذلك ابن قدامة بقوله:(وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك. قاله مالك في أهل المدينة، والثوري في أهل العراق، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والشعبي)
(4)
.
- ثم وقفت على أثر يرجح قول ابن رجب ويصحح النسبة إلى عطاء: فقد أخرج عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الخليفة في السفر معه مثل الحاج كم يؤذن له؟ قال: (أذان وإقامة لكل صلاة)، قلت: أفرأيت من سمع الإقامة في السفر أحق عليه أن
(1)
فتح الباري (8/ 157).
(2)
فتح الباري (8/ 197).
(3)
الأوسط (4/ 18) ونحوه في الإشراف (2/ 85).
(4)
المغني (2/ 250).
يأتي الصلاة كما حق على من سمع النداء بالحضر أن يأتي الصلاة؟ قال: (نعم، إلا أن يكون على رحله)، قلت: فلم يكن إلا النصب والفترة؟ قال: فضحك وقال: (أي لعمري إنه لحق عليه أن يحضرها)
(1)
، وإسناده صحيح.
- وأثر عطاء ليس فيه ذكر للجمعة، لكن إجابة نداء الجمعة دليله في القرآن أصح وأظهر من إجابة سائر الصلوات، فيكون قياس قول عطاء في المسافر
(2)
هو نحو قول الزهري، وأن المسافر إن سمع النداء فعليه أن يجيب، فتجب عليه بغيره، ولا تجب عليه ابتداء، ولذلك جاء عن عطاء أنه سُئل: على أهل منى جمعة؟ قال: (إنما هم سفْرٌ)
(3)
، وجاء نحوه عن الزهري
(4)
.
- فالمسافر عنده لا تجب عليه بنفسه ولا تجب عليه إن كان نازلاً إلا إن سمع النداء، أما غير المسافر فقد سأله ابن جريج: من أين تؤتى الجمعة؟ فقال: (عشرة أميال إلى بريد)
(5)
.
- وأما النسبة إلى الأوزاعي (ت 157)، فكما سبق في عطاء، لم أقف على من تابع ابن رجب عليها، وهناك ما هو معارض له وهو أشهر، كما قال ابن المنذر: (سئل الأوزاعي، عن مسافر سمع
(1)
مصنف عبدالرزاق (1900).
(2)
إلا إن قيل: بأن الجمعة حضورها أشق ووقت حضورها والاستعداد لها أطول، فلا يقاس قول عطاء في وجوب حضور الفرائض لمن سمع النداء على وجوب إجابة الجمعة لمن سمع النداء من المسافرين، وهذا وجيه.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (13944) حدثنا حفص عن عبد الملك عن عطاء به.
(4)
انظر: الاستذكار (4/ 329).
(5)
أخرجه عبدالرزاق (5153) عن ابن جريج عن عطاء به، وهذه المسافة تقارب (18. 500) إلى (22) كيلاً، وفي رواية عنه عند ابن أبي شيبة (5087) أنه قال:(من سبعة أميال)، وذكر الروايتين عنه ابن رجب في الفتح (8/ 161).
أذان الجمعة وقد أسرج دابته وحمل ثقله قال: فليمض)
(1)
، ونحوه في المغني لابن قدامة، وأما حمل الأثر على من خاف فوات الرفقة فلا دليل عليه
(2)
.
- وخلاصة ماسبق: أن القول بوجوب الجمعة على المسافر بنفسه لم يقل به أحد -فيما وقفت عليه- إلا ابن حزم
(3)
، والقول بوجوبها على المسافر السائر لم أقف على قائل به من السلف، والقول بوجوبها على المسافر النازل إذا سمع النداء يحتمل أنه قياس قول عطاء، وهو قول الزهري، ولايصح ذلك عن عمر رضي الله عنه، ولا عن سعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب، ولا عن الأوزاعي والنخعي.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بوجوب صلاة الجمعة على المسافر: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
(4)
(1)
الأوسط (4/ 22)، الإشراف (2/ 86).
(2)
حمله على ذلك ابن القيم في الزاد (1/ 372).
(3)
قال في المحلى (3/ 251 - 252): (قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الأمر وعن هذا الحكم أحد إلا من جاء نص جلي أو إجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا الفذ وحده، وبالله تعالى التوفيق، فإن ابتدأها إنسان ولا أحد معه ثم أتاه آخر أو أكثر، فسواء أتوه إثر تكبيره فما بين ذلك إلى أن يركع من الركعة الأولى= يجعلها جمعة ويصليها ركعتين، لأنها قد صارت صلاة جمعة، فحقها أن تكون ركعتين، وهو قادر على أن يجعلها ركعتين بنية الجمعة، وهي ظهر يومه، فإن جاءه بعد أن ركع فما بين ذلك إلى أن يسلم: فيقطع الصلاة ويبتدئها صلاة جمعة، لا بد من ذلك، لأنه قد لزمته الجمعة ركعتين، ولا سبيل له إلى أداء ما لزمه من ذلك إلا بقطع صلاته التي قد بطل حكمها، وبالله تعالى التوفيق. مسألة: وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره، والعبد، والحر، والمقيم، وكل من ذكرنا يكون إماما فيها، راتباً وغير راتب).
(4)
الآية (9) من سورة الجمعة.
وجه الاستدلال:
- (فوجه الله تعالى الأمر بالسعي إلى الجمعة إلى المؤمنين عموماً، ولم يستثن أحداً)
(1)
، و (هذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر)
(2)
؛ (فإنه من الذين آمنوا)
(3)
.
- (والآية نزلت في المدينة، والمدينة فيها مسافرون ومقيمون، ولم يستثن الله المسافرين)
(4)
، (ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى يوم الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن هذا العموم مخصوص، (ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر به في أسفاره جُمَع لا محالة، فلم يبلغنا أنه جمع وهو مسافر
…
فدل ذلك من فعله على أن لا جمعة على المسافر؛ لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد بكتابه)
(6)
.
- وهذا هو فهم الصحابة من قولهم وفعلهم، فـ (الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم)
(7)
، كما صحّ عن ابن عمر أنه قال:(لا جمعة على مسافر)
(8)
، فما سبق هو المخصص مع الإجماع و (ما عضده من
(1)
فتاوى ابن عثيمين (15/ 361).
(2)
المحلى (3/ 255).
(3)
فتاوى ابن عثيمين (15/ 370).
(4)
المرجع السابق (15/ 431).
(5)
الشرح الممتع (5/ 12).
(6)
الأوسط (4/ 20).
(7)
المغني (2/ 250 - 251).
(8)
سبق تخريجه، وذكر فعل أنس وعبدالرحمن بن سمرة.
القياس)
(1)
، فمن أُسقط عنه شطر الصلاة وهي أركان منه، كان سقوط ما ليس منها أولى، وسبق ذلك.
- وقد أخرج جميع العلماء المرأة من عموم الآية
(2)
، مع أنها من الذين آمنوا؛ لوجود المخصص، فليخرج المسافر أيضاً لوجود المخصص من وجوب إجابته
(3)
.
- أما عدم ترك الصحابة رضي الله عنهم للجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحضورها معه شرف لا يُفرّط فيه، وهل قطعهم للفيافي والقفار إلا من أجل رؤيته وسماعه، وهذا لا ينافي عدم الوجوب، فهي (إنما سقطت عنهم رفقاً بهم، فأشبه ما لو تكلف المريض القيام)
(4)
.
- فالمسافر قام به مانع الوجوب و الحتم أما أصل المشروعية فهو باق، كما قال الشاطبي:(أسباب الرخص، هي موانع من الانحتام، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلاً إلى جهة الرخصة؛ كقصر المسافر، وفطره، وتركه للجمعة)
(5)
.
- ومن فرّق بين المسافر السائر والنازل فعليه الدليل
(6)
؛ لأن الرخصة
(1)
شرح التلقين (1/ 947).
(2)
حتى ابن حزم، ولم أقف على مخالف إلا من معاصر لم أعرفه أشار إليه ابن باز بقوله (15/ 231):(ومن المسائل المنسوبة إليكم: القول بإيجاب صلاة الجمعة والعيد على البادية والمسافرين والنساء، مع أن الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم واضحان في إسقاطها عنهم).
(3)
قال سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب كما في الدرر السنية (5/ 11 - 14): (فمما خرج من العموم: المرأة
…
والعبد، والصبي، والمريض، ومن في معناه ممن له عذر عن حضور الجمعة
…
ومما خرج من العمومات أيضاً: المسافر في قول أكثر أهل العلم).
(4)
مغني المحتاج (1/ 537).
(5)
الموافقات (1/ 444).
(6)
من فرّق بينهما من المعاصرين: ابن عثيمين ولم يعلّق الوجوب للنازل بسماع النداء في أكثر كلامه بل كونه نازلاً يكفي في الوجوب كالاحتمال الذي مال إليه ابن تيمية، وعبدالله الفوزان فرّق بينهما وعلّق الوجوب للنازل بسماع النداء كقول الزهري، وابن حزم لم يفرّق بينهما وكلامه أكثر اطراداً في هذا، لكنه أوجب الجمعة على غير المنفرد مطلقاً، وقريب منه في عدم التفريق كلام ابن جبرين.
متعلقة بمسمى السفر وهو موجود، ولذلك لا فرق في رخص السفر بين السائر والنازل في القصر والفطر والمسح على الخف
(1)
.
وأجيب عن المناقشة:
- بالفرق بين المسافر السائر والنازل فـ (المسافر في المصر لا يصلي على الراحلة وإن كان يقصر الصلاة فكذلك الجمعة)
(2)
.
- (ولأنه قد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً)
(3)
، (كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعاً للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعاً للمقيمين
…
[فـ] إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم)
(4)
.
وأجيب عن الجواب:
- بأن المسافر النازل لا حاجة له غالباً إلى ركوب دابته، ولذلك جاءت مشروعية الصلاة على الدابة في غير المسافر النازل
(5)
، (فإنه لا يشرع إلا في حال السير)
(6)
.
- ثم إن الصلاة على الراحلة ليس فيه إلا الفعل، والفعل لا عموم
(1)
انظر: نفح العبير لعبدالله بن مانع ص (231).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 185).
(3)
فتاوى ابن عثيمين (24/ 486 - 487).
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 184)، ولم أفهم من كلام الشيخ كون الحضور أولى من الإتمام.
(5)
انظر: نفح العبير ص (231).
(6)
مجموع الفتاوى (24/ 185).
له، بخلاف القصر والفطر والمسح فإنها معلقة على مسمى السفر
(1)
، و تخلف المسافر عن الجمعة الذي جاء فيه أقوى من الفعل المجرد فإلحاقه بالفطر والقصر والمسح أشبه.
- وأما القول بأن الوجوب ثبت تبعاً، فإن قاعدة:(التابع) الأصل أنها في التخفيف وليس في التشديد، ولذلك عبر عنها بعضهم بقوله:(يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، وقريب منها: يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً)
(2)
.
- وعلى التسليم فمحل هذه القاعدة ما لم يستقل التابع بحكم آخر يمنع تبعيته، وأحكام المسافر مستقلة تناسب حاله و لا يخرج عنها إلا بدليل، فلا تتبع أحكام المقيم
(3)
.
- أما الإتمام خلف المقيم فمأخذه عدم الاختلاف على الإمام، وهو كإتمام حج النافلة لمن شرع فيه، وقد حكي الإجماع على إتمام المسافر خلف المقيم إذا أدرك ركعة
(4)
، وحكي الإجماع على عدم وجوب الجمعة على المسافر، وهذا فرق بينهما.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فإن هذه المسألة لها أحوال:
(1)
انظر: المرجع السابق.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي ص (120)، ويُنظر في أدلة القاعدة وأمثلتها ليتضح أنها من قواعد التيسير.
(3)
انظر: نفح العبير ص (232 - 233).
(4)
قال ابن بطال في شرح البخاري (3/ 71): (اتفق فقهاء الأمصار على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام)، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (16/ 315):(أجمعوا على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، بل قد قال أكثرهم إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم وعليه الإتمام).
- أما تجميع المسافر، أو إيجاب إقامته للجمعة بنفسه فهذا قول شاذ مخالف للإجماع، ولا يُعرف من سبق ابن حزم إلى هذا الرأي إلا ما يُذكر عن داود، وهو إلى البدعة أقرب
(1)
، (فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر أسفاراً كثيرة. قد اعتمر ثلاث عمر سوى عمرة حجته، وحج حجة الوداع ومعه ألوف مؤلفة، وغزا أكثر من عشرين غزاة ولم ينقل عنه أحد قط أنه صلى في السفر لا جمعة ولا عيدا، بل كان يصلي ركعتين ركعتين في جميع أسفاره ويوم الجمعة يصلي ركعتين كسائر الأيام، ولم ينقل عنه أحد قط أنه خطب يوم الجمعة وهو مسافر قبل الصلاة)
(2)
.
- وأما وجوب إجابة المسافر السائر للجمعة فهذا أيضاً مخالف للإجماع، وهو شذوذ.
- وأما وجوب إجابة المسافر النازل للجمعة مطلقاً وإن لم يسمع النداء، كما مال إليه ابن تيمية ووجهه ابن مفلح، ورجحه ابن عثيمين، فهذا أقرب إلى الشذوذ ولا أجزم به.
- وأما وجوب إجابة المسافر النازل للجمعة إذا سمع النداء، فهذا قيل: بشذوذه، وبعد البحث تبين أنه ليس بشاذ، وقد قال به من السلف: الزهري، ويحتمل أنه قياس قول عطاء في إيجابه على المسافر إجابة نداء الصلاة إذا سمعه، ويحتمل أن بين الجمعة وسائر الفرائض الخمس فرقاً عنده.
(1)
قال ابن عثيمين في فتاويه (16/ 15): (لقد ضل من قال: إن الجمعة تقام في السفر، وخرج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه إذا فعل أن يعيدها إذا كان يريد إبراء ذمته وإقامة حجته عند الله عز وجل؛ لأن هذا ليس موضع اجتهاد)، وقال (24/ 486):(ومن أقام الجمعة في السفر فهو مبتدع، وصلاته باطلة).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 178).
فهو رأي دائر بين راجح ومرجوح، وإن كان الأقوى فيما يظهر -والله أعلم- عدم الوجوب، لقول ابن عمر:(لا جمعة على مسافر)، ولفعل أنس وعبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف منهم، ولا تفرق الشريعة في رخص السفر بين نازل وسائر، ولم يفرّق العلماء في عدم وجوب الجمعة بينهما، والرخصة متعلقة بالسفر، فمن تحقق به فله الرخصة، وإن كان (يستحب له الجمعة للخروج من الخلاف؛ ولأنها أكمل)
(1)
لكن هذا شيء، ومانحن فيه من الإلزام بالحضور، والتأثيم بعدمه، وتعريض المتخلف بالوعيد، شيء آخر لا يصار إليه إلا ببينة واضحة، والله أعلم.
(1)
المجموع (4/ 485).
(ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ ذلك بأثر مثله أو بإجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلاً عن أن يتخذ إماماً، ولزمه اسم الفسق).
ابن عبدالبر رحمه الله
جامع بيان العلم (1/ 1080)
المبحث الخامس عشر: سقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد إذا وافقت يوم الجمعة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(أهل العلم النافع
…
يسيؤون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها).
ابن رجب رحمه الله بيان فضل علم السلف في مجموع رسائله (3/ 32)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
المقصود بهذا المبحث: إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة، فمن صلّى العيد مع المسلمين هل تسقط عنه صلاة الجمعة وصلاة الظهر معاً؟ بمعنى: هل للمكلف إذا شهد صلاة العيد ألا يصلي بعدها إلا صلاة العصر؟ هذا هو المراد بحثه.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
…
(من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد
…
ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف)
(1)
.
6.
والمعذورون عن شهود الجمعة إن (تركوا الظهر وصلوا الجمعة أجزأتهم بالإجماع)
(2)
يعني: أجزأتهم عن الظهر.
2.
أما من لم يحضر الجمعة فعليه أن يصلي الظهر عند العلماء عامة وحُكي إجماعاً، ونُسب لبعض السلف سقوط الجمعة والظهر عمن صلى العيد
(3)
، ورجحه بعض المعاصرين، و قد حُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 211)، وكلامه في عدم اختلاف الصحابة، أما من بعدهم فحصل خلاف وقد ذكره ابن تيمية في نفس السياق، بل قال ابن قدامة في المغني (2/ 265):(قال أكثر الفقهاء تجب الجمعة؛ لعموم الآية، والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى، كالظهر مع العيد).
(2)
المجموع (4/ 495).
(3)
كابن الزبير رضي الله عنه وعطاء. انظر: الأوسط (4/ 289)، التمهيد (10/ 268)، المجموع (4/ 492).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420)
(1)
، و سيد سابق (ت 1420)
(2)
.
وقد سبقهما إلى هذا القول من المتأخرين:
المغربي (ت 1119)
(3)
، والشوكاني (ت 1250)
(4)
.
(1)
قال في سلسة الهدى والنور الشريط: (29)، الدقيقة:(45. 19): (السائل: صلاة الجمعة إذا جاءت في يوم عيد فهل تسقط كلية، يعني: يرخص بأن لا يصليها المسلم؟ الشيخ: نعم. السائل: ولا يصلي مكانها شيء، يعني: الظهر مثلاً؟ الشيخ: لا، إنما الإمام لابد له من أن يجمع
…
والذين يصلون العيد فهم بالخيار من شاء ترك ومن شاء صلى
…
السائل: هل له أن يصلي الظهر إن لم يصل الجمعة؟ الشيخ: لا، إذا سقطت
…
صلاة الجمعة فبالتالي تسقط صلاة الظهر).
(2)
قال في فقه السنة (1/ 316): (وتجب صلاة الظهر على من تخلف عن الجمعة لحضوره العيد عند الحنابلة. والظاهر عدم الوجوب).
(3)
قال في البدر التمام (3/ 437) بعد نقله قول عطاء وفعل ابن الزبير: (على القول بأن الجمعة أصل في يومها، والظهر بدل، فهو يقتضي صحة هذا القول، لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل. وظاهر الحديث أيضًا حيث رخص لهم في الجمعة، ولم يأمرهم بصلاة الظهر مع تقرر إسقاط الجمعة للظهر يدل على صحة هذا القول، والله أعلم)، قال الصنعاني في مختصره سبل السلام (1/ 409):(وأيّد الشارح مذهب ابن الزبير) انتهى، وتعقب الشارح.
(4)
قال في نيل الأوطار (3/ 336): (قوله: (لم يزد عليهما حتى صلى العصر) ظاهره أنه لم يصل الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء، حكي ذلك عنه في البحر. والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة الأصل. وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم) انتهى، وقوله:(الظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة الأصل) غير مسلم به، إلا أن أراد به على سبيل اللزوم كما سبق في كلام المغربي، وإلا فالذين يقولون بأن الجمعة أصل غير بدل لا يرخصون بترك الجمعة أصلاً في مثل هذه الحال، إلا الحنابلة فيرخصون في ترك الجمعة لمن شهد العيد لكنهم لا يسقطون صلاة الظهر لمن لم يصل الجمعة.
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه ونحوه من الألفاظ، ومن ذلك:
- ابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (وعطاء وابن الزبير موافقان للجماعة في غير يوم عيد، فكذلك يوم العيد في القياس والنظر الصحيح، هذا لو كان قولهما اختلافاً يوجب النظر، فكيف وهو قول شاذ وتأويله بعيد، والله المستعان وبه التوفيق)
(1)
، وقال:(وإن كان لم يصل مع صلاة العيد غيرها حتى العصر فإن الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول؛ لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد لم يسقط أحدهما بالآخر فكيف أن يسقط فرض لسنة حضرت في يومه هذا ما لا يشك في فساده ذو فهم)
(2)
، وقال:(أما القول الأول: إن الجمعة تسقط بالعيد ولا تصلى ظهراً ولا جمعة= فقول بيّن الفساد وظاهر الخطأ، متروك مهجور لا يعرج عليه)، وقال: (وقد روي في هذا الباب عن ابن الزبير وعطاء قول منكر أنكره فقهاء الأمصار ولم يقل به أحد منهم
…
لا وجه فيه عند جماعة الفقهاء وهو عندهم خطأ إن كان على ظاهره
…
وعلى أي حال كان فهو عند جماعة العلماء خطأ وليس على الأصل المأخوذ به)
(3)
.
- وقال ابن رشد (ت 595): (وأما إسقاط فرض الظهر والجمعة التي
(1)
التمهيد (10/ 285).
(2)
المرجع السابق (10/ 270).
(3)
الاستذكار (2/ 385)، وصف القول بأكثر من عشرة أوصاف تشنيعاً عليه!
هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جداً)
(1)
.
- وقال صاحب عون المعبود
(2)
، عن قول الشوكاني:(هذا قول باطل، والصحيح ما قاله الأمير اليماني في سبل السلام)
(3)
.
- وابن باز (ت 1418) بقوله: (سقوط الجمعة والظهر عمن حضر العيد فيما إذا وقع العيد يوم الجمعة، وهذا أيضاً خطأ ظاهر)
(4)
.
- واللجنة الدائمة بقولهم: (القول بأن من حضر صلاة العيد تسقط عنه صلاة الجمعة وصلاة الظهر ذلك اليوم قول غير صحيح، ولذا هجره العلماء وحكموا بخطئه وغرابته؛ لمخالفته السنة وإسقاطه فريضة من فرائض الله بلا دليل)
(5)
.
(1)
بداية المجتهد (1/ 230).
(2)
إما لأبي الطيب شمس الحق (ت 1329) كما هو مشهور، أو لأخيه محمد أشرف، أو لهما معاً، أو معهما غيرهما كما قال د. تقي الدين الهلالي (ت 1407) في كتابه "الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة" ص (136 - 137):(كانت عندي نسخةٌ من عون المعبود شرح سنن أبي داود، تأليف: جماعةٍ من علماء أهل الحديث منهم شيخُنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك بوري كما أخبرني هو رحمه الله بذلك، ولا تصحّ نسبتهُ إلى شخصٍ واحدٍ، وإن كان الشيخُ شمسُ الحق العظيم آبادي هو الذي كان ينفق على أولئك الجماعة زمان تأليفه، ويشاركهم في العمل) انتهى. وعبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري أو المباركبوري هو صاحب تحفة الاحوذي (ت 1353).
(3)
عون المعبود (3/ 288)، وقول الصنعاني عدم سقوط الظهر كما في التحبير (6/ 65)، وسبل السلام (1/ 409).
(4)
فتاوى ابن باز (15/ 231).
(5)
فتاوى اللجنة الدائمة-المجموعة الثانية (7/ 120).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بوجوب صلاة الظهر على من لم يصلّ الجمعة وصلى العيد في ذلك اليوم:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
(1)
، وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خمس صلوات كتبهن الله على العباد»
(2)
، ويشهد له حديث المعراج وفيه قال الله عز وجل:
(1)
الآية (78) من سورة الإسراء.
(2)
أخرجه أحمد (22693)، أبوداود (1420)، وابن ماجه (1401) كلهم من طريق محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن المخدجي، عن عبادة بن الصامت به، والمخدجي، قيل: اسمه رفيع (مقبول) كما ذكر ابن حجر في التقريب ص (640)، وله متابعة صحيحة، أخرجها أحمد (22704)، وأبوداود (425) وغيرهما، من طريق محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب، فقال: عبادة بن الصامت كذب أبو محمد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله
…
» الحديث. وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أن فيه علة التفرد وأشار إليها الطبراني في المعجم الأوسط (5/ 56)، وقال أبو نعيم في الحلية (5/ 130):(غريب من حديث الصنابحي، عن عبادة، ومشهوره رواية ابن محيريز، عن المخدجي، عن عبادة)، وصرّح أبوحاتم بالعلة حين قال كما في العلل لابنه (2/ 97): (سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنت أنكره، ولم أفهم عورته حتى رأيته الآن: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن عبادة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
فعلمت أن الصحيح هذا، وأن محمد بن مطرف لم يضبط هذا الحديث، وكان محمد بن مطرف ثقة)، لكن قال ابن عبدالبر في التمهيد (23/ 289):(روي عن عبادة من طرق ثابتة صحاح من غير طريق المخدجي بمثل رواية المخدجي)، فللحديث طرق أخرى، وللشاهد شواهد عديدة، كما في حديث المعراج والذي بعده مما ذكرته في البحث.
«يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة»
(1)
، وحديث أنس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«اللهم نعم»
(2)
.
وجه الاستدلال:
- أن الدلوك هو الزوال، ومنه يبدأ وقت الظهر التي هي فرض الوقت، وعموم الآية يتناول يوم العيد إذا وافق الجمعة
(3)
.
- وصلاة خمسة فروض في اليوم والليلة ثابت بدليل قاطع يقيني، لا يسقط فرض منها إلا بيقين، وصلاة الجمعة هي فرض يومها، والمعذور عنها فرضه الظهر.
- و (الله عز وجل افترض صلاة الجمعة في يوم الجمعة على كل من في الأمصار، من البالغين الذكور الأحرار، فمن لم يكن بهذه الصفات ففرضه الظهر في وقتها فرضاً مطلقاً، لم يختص به يوم عيد من غيره)
(4)
.
- فـ (الترخيص في الجمعة لا يسقط الظهر
…
وإنما جعل الله الجمعة عوضاً عن الظهر، فإذا رخص في العوض لم يرخص في المعوض عنه)
(5)
.
- و (لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد لم يَسقط أحدهما بالآخر، فكيف أن يَسقط فرض لسنة حضرت في يومه)
(6)
، ف (الجمعة [أو الظهر] من فرائض الأعيان، فلا تسقط بصلاة العيد
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (7517)، ومسلم (259) واللفظ له، من حديث أنس، وجاء من حديث أبي ذر وغيره.
(2)
أخرجه البخاري (63).
(3)
انظر: فتاوى ابن عثيمين (16/ 169).
(4)
التمهيد (10/ 268).
(5)
التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 65).
(6)
التمهيد (10/ 270).
التي هي نفل على قول البعض، وفرض على الكفاية على قول البعض)
(1)
.
2/ الدليل الثاني: الإجماع.
- وقد حكاه ابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (إجماع المسلمين قديماً وحديثاً: أن من لا تجب عليه الجمعة، ولا النزول إليها لبعد موضعه عن موضع إقامتها -على حسب ما ذكرنا من اختلافهم في ذلك- كله مجمع أن الظهر واجبة لازمة على من كان هذه حاله، وعطاء وابن الزبير موافقان للجماعة في غير يوم عيد فكذلك يوم العيد في القياس والنظر الصحيح)
(2)
.
- والصنعاني (ت 1182) بقوله: (الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء، والجمعة متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعاً)
(3)
.
- وابن قاسم (1392) بقوله عن صلاة الجمعة: (وهي فرض الوقت، فلو صلى الظهر أهل بلد مع بقية الوقت لم تصح؛ لأنهم صلوا ما لم يخاطبوا به، وتركوا ما خوطبوا به كما لو صلوا العصر مكان الظهر، وتلزمهم الجمعة، ولا يعارض فرض الظهر ليلة الإسراء تأخير فرض الجمعة بعده، فإنها إذا فاتت وجب الظهر إجماعًا، فهو بدل عنها إذا فاتت)
(4)
.
(1)
بحر المذهب (2/ 375)، ومابين المعكوفين [] من إضافتي، وقال ابن عبدالبر في الاستذكار (2/ 385):(الفرض من صلاة لجمعة لا يسقط بإقامة السنة في العيد عند أحد من أهل العلم)، وقال ابن حزم في المحلى (3/ 304):(الجمعة فرض والعيد تطوع، والتطوع لا يسقط الفرض).
(2)
التمهيد (10/ 285).
(3)
سبل السلام (1/ 409).
(4)
الإحكام شرح أصول الأحكام (1/ 437).
ويناقش الاستدلال بالإجماع:
بعدم التسليم به، لمخالفة ابن الزبير رضي الله عنه، وعطاء.
ويمكن الجواب عن المناقشة:
- أن المنقول من (فعل ابن الزبير وما نقله عطاء من ذلك وأفتى به
…
قد اختلف عنه)
(1)
، وفيه اضطراب، سيأتي تحقيقه في دليل القول الآخر، وإذا ثبت أنه لم يترك الظهر ولم يفت عطاء بنحو ذلك، لم يكن لمن قال بسقوطها مع الجمعة على من صلى العيد سلف.
- فمعتمد عطاء ومن بعده هو ما نُقل عن ابن الزبير.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بسقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد إذا وافقت يوم الجمعة:
استدلّ أصحاب هذا القول بأثر عبدالله بن الزبير:
1/ فعن ابن جريج، قال: قال عطاء: اجتمع يوم جمعة، ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال:(عيدان اجتمعا في يومٍ واحد)، فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر
(2)
.
(1)
الاستذكار (2/ 385).
(2)
أخرجه أبوداود (1072) قال: حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: قال عطاء به، وهذا الإسناد حسن، وقد سبق بأطول منه من طريق ابن جريج أيضاً وفيه هذا المعنى وهو أن ابن الزبير:(لم يزد عليهما [أي: ركعتي العيد] حتى صلى العصر)، فهذا المعنى مستفاد من طريق ابن جريج فقط وهو أثبت الناس في عطاء، ومع أنه لم يصرح بالسماع عنه، و مالم يصرح فيه ابن جريج بالسماع فهو مما يُتقى، كما قال يحيى بن معين:(وإذا قال: قال= فهو شبه الريح) كما في تهذيب الكمال (18/ 351)، إلا في شيخه عطاء الذي لازمه عشرين سنة، فحديثه عنه محمول على السماع ولو لم يصرح به، كما أخرج ابن أبي خيثمة في تاريخه (1/ 261) قال: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال:(إذا قلت: قال عطاء، فأنا سمعته، وإن لم أقل سمعته)، هذا هو الأصل وأن لحديثه عن عطاء ميزة وإن لم يصرح بالسماع منه، وأكثر مايشكل على ذلك قول الإمام أحمد كما في بحر الدم ص (102):(كل شئ يقول ابن جريج: قال عطاء أو عن عطاء= فإنه لم يسمعه من عطاء) انتهى، إلا أن المقدّم هو إخبار عطاء عن نفسه، وقول أحمد محتمل أنه خطأ عنه، أو أنه لم يعلم بقول عطاء عن نفسه، أو أنه قصد عطاء الخراساني.
وجه الاستدلال:
بأن قوله: (لم يزد عليهما حتى صلى العصر)(ظاهره أنه لم يصل الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر)
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن هذا الأثر (في متنه اضطراب)
(2)
، وتفرد فيه مخالفة في رواية عن عطاء عن ابن الزبير، وعطاء (قد اختلف عنه)
(3)
، فعنه رواية ليس فيها مخالفة، ووقع في الروايات:(اضطراب واضح بيّن، وتعارض ظاهر)
(4)
، ولبيان الاختلاف، فهذا الأثر رواه عن ابن الزبير رضي الله عنه ثلاثة: عطاء -واختلف عليه-، ووهب ابن كيسان (مولى ابن الزبير)، وأبو الزبير المكي.
- أما رواية عطاء فرواها عنه ثلاثة: منصور بن زاذان (ثقة ثبت)، وعبدالملك بن جريج (ثقة فقيه)، والأعمش (ثقة حافظ)، والأخيران موصوفان بالتدليس، والرواية التي فيها إشكال واستُنكر متنها هي في رواية ابن جريج فقط، وسأبدأ بها:
(1)
نيل الأوطار (3/ 336)، وسبق نقل رأي الشوكاني بتمامه، ولعله أول من قررّ هذا التقرير، هذا مع أنه لا يحتج برأي الصحابي، ففي إرشاد الفحول (2/ 188) بعد ذكر الخلاف في قول الصحابي: (والحق: أنه ليس بحجة؛ فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، لكنه احتج به هنا.
(2)
منحة العلام (4/ 49).
(3)
الاستذكار (2/ 385).
(4)
فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (11/ 384).
- أما رواية ابن جريج فرواها عنه: عبدالرزاق، و أبوعاصم (الضحاك بن مخلد)، أما رواية عبدالرزاق فقد أخرجها عن ابن جريج، قال عطاء:(إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد، فليجمعهما فليصل ركعتين قط حيث يصلي صلاة الفطر، ثم هي هي حتى العصر)، ثم أخبرني عند ذلك قال:(اجتمع يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد في زمان ابن الزبير، فقال ابن الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعاً بجعلهما واحداً، وصلى يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليها حتى صلى العصر)
(1)
. قال: (فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه). قال: (ولقد أنكرت أنا ذلك عليه وصليت الظهر يومئذ). قال: (حتى بلغنا بعد أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة)، وذكر ذلك عن محمد بن علي بن حسين أخبر أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا. قالا: إنه وجده في كتاب لعلي، زعم)
(2)
.
- وأما رواية أبي عاصم: فرواها عنه يحيى بن خلف (صدوق)، وعمرو بن علي (ثقة ثبت)، أما رواية يحيى فلفظها:(اجتمع يوم جمعة، ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر)
(3)
، وهي نحو رواية عبدالرزاق.
(1)
هذا هو المهم من فعل ابن الزبير، والباقي من تفقه عطاء ولايوجد في سائر الروايات.
(2)
أخرجه عبدالرزاق (5725) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (4/ 289)، عن ابن جريج قال: قال عطاء به، وليس في رواية ابن المنذر هذا الحرف:(قالا: إنه وجده في كتاب لعلي، زعم)، وإنما فيه:(وذكر ذلك عن محمد بن علي بن الحسين أخبرهم أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا)، والإسناد صحيح، لكنه اختلف فيه اختلافاً شديداً.
(3)
أخرجه أبوداود (1072) وقد سبق تخريجه قريباً.
- وقد حصل في هاتين الروايتين زيادة ليست في سائر الروايات وهي: نفي الزيادة عن ركعتي العيد حتى صلى العصر، وهي محل النكارة، وقوله: (لم يزد عليهما
…
) من قول عطاء، وانفردت رواية عبدالرزاق عن سائر الروايات بتفقهات لعطاء، وبذكر إنكار الفقهاء على ابن الزبير، وإنكار عطاء عليه أولاً، وبذكر مثل فعل ابن الزبير لمحمد بن علي بن حسين ولعلي.
- ورواه أيضاً عن أبي عاصم: عمرو بن علي (ثقة حافظ) ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء، قال:(اجتمع يوم فطر ويوم جمعة زمن ابن الزبير فصلى ركعتين، فذكر ذلك لابن عباس فقال: أصاب)
(1)
، وليس فيها نفي للزيادة عن الركعتين، وليس فيها إلا قول ابن عباس:(أصاب) دون السنة، وهذه الرواية أصح من رواية يحيى بن خلف.
- والروايات السابقة كلها عن ابن جريج عن عطاء، وكل رواية فيها زيادة واختلاف، والرواية الأولى والثانية، فيهما نفي الزيادة عن ركعتي العيد، والرواية الثالثة عن ابن جريج وافقت سائر الروايات عن عطاء بعدم ذكر نفي صلاة الظهر.
- ورواه عن عطاء أيضاً -كماسبق-: الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، قال: (صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد، في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا فصلينا وحداناً، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال:«أصاب السنة»
(2)
، وهذه الرواية مقاربة للرواية الأخيرة، وفيها زيادة: أنهم
(1)
أخرجه الفريابي في أحكام العيدين ص (219) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه أبوداود (1071) حدثنا محمد بن طريف البجلي، حدثنا أسباط، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح به، والإسناد حسن، قال النووي في المجموع (4/ 492):(رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح على شرط مسلم)، وقال في فضل الرحيم الودود (11/ 382):(الأعمش هنا قد خالف ابن جريج ومنصور بن زاذان في روايتهما عن عطاء كما سبق بيانه، فهو حديث شاذ).
لم يتركوا الظهر لقول عطاء: (فصلينا وحداناً)، (أي منفردين)
(1)
، وفيها إقرار ابن عباس له، وأنه أصاب السنة فرفعه.
- ورواه عن عطاء أيضاً: منصور بن زاذان عن عطاء، قال:(اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير، فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعاً)
(2)
، وهذه الرواية فيها شبه بالرواية التي قبلها، وفيها زيادة: تصريح أن ابن الزبير خرج وصلى بهم الظهر، واتفقت الروايات الثلاث الأخيرة بأنها: ليس فيها نفي للزيادة عن ركعتي العيد.
- والاضطراب عن عطاء والتعارض (حيث جزم بأن ابن الزبير لم يصلّ شيئا فيما بين صلاة العيد وصلاة العصر، وأنه لم يخرج للناس لما اجتمعوا له لصلاة الجمعة، ثم هو ينقل عنه أنه خرج فصلى بالناس الظهر أربعاً)
(3)
.
- (والأشبه عندي -والله أعلم بالصواب- أن تكون رواية الأقدم سماعاً من عطاء هي الأقرب للصواب
(4)
، ثم إن عطاء نسي بعد ذلك فحدث به على التوهم، كما أنه فهم منه خلاف ما عليه الناس
(1)
النهاية لابن الأثير (5/ 160)، قال ابن عبدالبر في التمهيد (10/ 276):(وهذا يحتمل أن يكون صلى الظهر ابن الزبير في بيته، وأن الرخصة وردت في ترك الاجتماعين لما في ذلك من المشقة لا أن الظهر تسقط).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5842) حدثنا هشيم (ثقة ثبت)، عن منصور (ثقة ثبت)، عن عطاء به، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين.
(3)
فضل الرحيم الودود (11/ 384).
(4)
يعني: رواية منصور بن زاذان.
في هذه المسألة، وعطاء قد حكي عنه أنه تغير في آخر عمره، ومنصور بن زاذان أقدم وفاة من الأعمش وابن جريج بقرابة عشرين سنة)
(1)
.
- و (رواية منصور تزيل الإشكال وترفع اللبس، فإن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، والنفي قد يكون سببه الوهم والنسيان من قِبَل عطاء نفسه، بخلاف الإثبات، لاسيما مع تقدم سن منصور راويه عن عطاء)
(2)
.
- وعدم النفي هي رواية الأكثر عن عطاء، ولها متابعة عالية، وهي رواية وهب بن كيسان قال:(اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير فأخّر الخروج، ثم خرج فخطب، فأطال الخطبة، ثم صلى ولم يخرج إلى الجمعة، فعاب ذلك أناس عليه، فبلغ ذلك عند ابن عباس فقال: «أصاب السنة» فبلغ ابن الزبير، فقال: شهدت العيد مع عمر، فصنع كما صنعت)
(3)
، وفي هذه الرواية زيادة منكرة وهي تقديم الخطبة على
(1)
المرجع السابق (11/ 384 - 385).
(2)
المرجع السابق (11/ 385)، ويبقى التفرد بذكر صلاة الظهر في هذا الطريق دون سائر الطرق وفي النفس منه شيء، وفي تنوير العينين بأحكام الأضاحي والعيدين لأبي الحسن السليماني ص (278):(وهذا سند ضعيف من أجل عنعنة هشيم، وقد روى متناً يخالف مارواه الثقات عن عطاء فيكون منكراً) انتهى، قلت: أما التضعيف بعنعنة المدلس مطلقاً فمحل نظر، وأما النكارة فهي مافي نفسي من هذه الرواية، والله أعلم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (5836) وهذا لفظه، والنسائي (1592)، وابن خزيمة (1465)، والحاكم في المستدرك (1097) وابن المنذر في الأسط (4/ 288)، وابن حزم في الإحكام (2/ 73)، والفاكهي في أخبار مكة (3/ 70)، من طريق أبوخالد الأحمر ويحيى بن سعيد القطان وسليم بن أخضر ثلاثتهم عن عبدالحميد بن جعفر الأنصاري عن وهب بن كيسان به، قال الحاكم عن روايته من طريق يحيى القطان:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابن عبدالبر في التمهيد (10/ 274) قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا قاسم قال: حدثنا أبو قلابة قال: حدثنا عبد الله بن حمران (صدوق يخطئ قليلاً) قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن وهب بن كيسان به، فرواه هنا عبدالحميد بن جعفر عن أبيه، ولذلك قال ابن عبدالبر:(هذا حديث اضطرب في إسناده)، ويمكن أن يقال: هذه الرواية خطأ من عبدالله بن حمران، وخالفه ثلاثة من الرواة هم أكثر وأوثق، إلا أن ابن حزم أعله بعبدالحميد بن جعفر وأنه ليس بالقوي كما في المحلى (3/ 303).
الصلاة ولذلك قال ابن خزيمة: (قول ابن عباس: أصاب ابن الزبير السنة، يحتمل أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجائز أن يكون أراد سنة أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، ولا أخال أنه أراد به أصاب السنة في تقديمه الخطبة قبل صلاة العيد؛ لأن هذا الفعل خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر)
(1)
.
- قلت: ولعل هذا الحرف من أوهام عبدالحميد بن جعفر فقد لخّص الحافظ حاله بقوله: (صدوق رمي بالقدر، وربما وهم)
(2)
.
- وأصح منه عن وهب بن كيسان ما رواه عنه هشام بن عروة عن وهب قال: (اجتمع عيدان في يوم، فخرج عبد الله بن الزبير فصلى العيد بعدما ارتفع النهار، ثم دخل فلم يخرج حتى صلى العصر) قال هشام: فذكرت ذلك لنافع، أو ذكر له فقال: ذكر ذلك لابن عمر، فلم ينكره
(3)
، وليس في هذه الرواية ذكر لتقديم الخطبة، وهذه الرواية هي الأصح من هذا الوجه
(4)
، كما أن رواية هشيم عن منصور عن عطاء هي الأصح من طريق عطاء، ورجال الطريقين رجال الصحيحين، وليس فيهما نفي لصلاة الظهر، بل في رواية هشيم إثبات لصلاة الظهر، فرواية هشام هي المقدمة من طريق وهب، ورواية هشيم هي المقدمة من طريق عطاء.
(1)
صحيح ابن خزيمة (2/ 359).
(2)
تقريب التهذيب ص (333).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (5841) من طريق أبي أسامة (حماد بن أسامة) عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان به، وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين.
(4)
في تنوير العينين لأبي الحسن السليماني ص (277): (والظاهر أن هذا هو المعتمد في القصة؛ لأن هشام بن عروة أوثق من عبدالحميد بن جعفر، ولأنه من أهل بيت ابن الزبير صاحب القصة).
- وجاء الأثر مختصراً من طريق ثالث عن ابن الزبير: وهو طريق أبي الزبير المكي، فقد قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، في جمع ابن الزبير بينهما يوم جمع بينهما قال: سمعنا ذلك أن ابن عباس قال: (أصاب عيدان اجتمعا في يوم واحد)
(1)
.
- وبعد هذه الروايات وبيان الاختلاف فيها، فإنه لم يرد النفي إلا في طريق ابن جريج عن عطاء واختلف عنه، ولا يصح إسقاط فريضة ثابتة برواية مضطربة فيها تفرد و نكارة، وأكثر الرويات وأصحها ليس فيها نفي لصلاة الظهر وغاية ما فيها الترخيص في الجمعة بعد العيد.
- ويشهد لهذا المعنى ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن أرقم وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم في اجتماع الجمعة مع العيد وما فيها من الترخيص بالجمعة، دون نفي صلاة الظهر، قال علي بن المديني:(في هذا الباب غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد)
(2)
.
- وعلى فرض التسليم، بأن ابن الزبير رضي الله عنه اكتفى بصلاته للعيد عن الجمعة والظهر، فإن هذا تأويله كما قال الخطابي:(أما صنيع ابن الزبير فإنه لا يجوز عندي أن يحمل إلاّ على مذهب من يرى تقديم صلاة الجمعة قبل الزوال)
(3)
، وقال ابن عبدالبر: (وقد روى فيه قوم، أن صلاته التي صلاها لجماعة ضحى يوم العيد، نوى بها
(1)
أخرجه عبدالرزاق (5726)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (4/ 290) عن ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عباس به، وفي سماع أبي الزبير من ابن عباس كلام، وهي رواية مختصرة.
(2)
الاستذكار (2/ 386)، الأحكام الوسطى لعبدالحق (2/ 111).
(3)
معالم السنن (1/ 246)، قال ابن عبدالبر في التمهيد (10/ 270):(وذهب الجمهور إلى أن وقت الجمعة وقت الظهر وعلى هذا فقهاء الأمصار).
صلاة الجمعة، على مذهب من رأى أن وقت صلاة العيد ووقت الجمعة واحد)
(1)
، كما قال ابن عبدالهادي:(هذا الَّذي فعله ابن الزُّبير يدلُّ على جواز فعل الجمعة في وقت العيد، وأنَّها تجزئ عن العيد والظُّهر)
(2)
.
- وتجويز الجمعة قبل الزوال من مفردات الحنابلة
(3)
، وعندهم إجزاء الجمعة عن العيد والظهر لا عكس ذلك، قال ابن قدامة: (وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد، فقد روي عن أحمد، قال: تجزئ الأولى منهما، فعلى هذا تجزئه عن العيد والظهر، ولا يلزمه شيء إلى العصر
…
فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد، والظهر، ولأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها، فالعيد أولى أن يسقط بها، أما إذا قدم العيد فإنه يحتاج إلى أن يصلي الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة)
(4)
.
- وسقوط الجمعة بالعيد من مفردات الحنابلة أيضاً، لكنهم لا يسقطون الظهر بذلك كما في التنبيه الذي في آخر كلام ابن قدامة السابق، وغيره من كتب الحنابلة
(5)
.
(1)
الاستذكار (2/ 385).
(2)
تنقيح التحقيق (2/ 562).
(3)
قال في الإنصاف (2/ 375 - 376): «ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط. أحدها: الوقت، وأوله: أول وقت صلاة العيد) هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. ونص عليه
…
وهو من المفردات
…
كل قول قبل الزوال فهو من المفردات. وعنه أول وقتها: بعد الزوال. اختاره الآجري. وهو الأفضل).
(4)
المغني (2/ 266)، وفي كشاف القناع (2/ 41): «ويسقط العيد بالجمعة إن فعلت) الجمعة (قبل الزوال أو بعده) لفعل ابن الزبير).
(5)
جاء في الإنصاف (2/ 403): «وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزأ بالعيد وصلى ظهرا جاز) هذا المذهب بلا ريب، وعليه الأصحاب، وهو من المفردات)، وفي الكافي (1/ 338):(فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً).
- ولما قال المجد ابن تيمية الحنبلي: (إنما وجه هذا أنه رأى تقدمة الجمعة قبل الزوال، فقدمها واجتزأ بها عن العيد)
(1)
، تعقبه الشوكاني بقوله:(لا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف)
(2)
، قلت: لا تعسف فيها، وبخاصة مع الرواية التي فيها تقديم الخطبة على الصلاة وهذه صفة صلاة الجمعة، وقد سبق الكلام عليها.
- وتأويل الخطابي اعتُرض عليه أيضاً، فقال العيني:(قول الصحابة: (ثم رحنا إلى الجُمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحداناً) يُنافي تأويل الخطابي من قوله: (يُشبه أن يكون
…
) إلى آخره؛ لأنهم لو لم يتحققوا أن الّتي صلاها عيد لما راحُوا إلى الجمعة بَعْدها، ولم يُصلوا الظهر بعدها وُحْداناً، وأيضاً: حديث زيد بن أرقم يؤيدُ ما قلناه؛ لأن قضية ابن الزبير مثل قضية النبي عليه السلام بعينها وذكر زيد فيها: «صلى العيد ثم رخص في الجُمعة» . وأيضا قول ابن عباس: «أصاب السُّنَّة» أراد بها هذه)
(3)
.
- ومثل هذا الاعتراض يرجع إلى اضطراب الرواية عن ابن الزبير، وكل تأويل يمكن أن يورد عليه اعتراض من رواية غيرها، وما تقدم من الترجيح بين الروايات أسلم.
- وأختم بما قاله الصنعاني: (ولا يخفى أن عطاء أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة، وليس ذلك بنصٍّ قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله، فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيداً، على من صلى صلاة العيد لهذه الرواية
(1)
المنتقى ص (307).
(2)
نيل الأوطار (3/ 336).
(3)
شرح سنن أبي داود (4/ 399).
غير صحيح، لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في قول عطاء: إنهم صلوا وحداناً، أي: الظهر، ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه)
(1)
.
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أن نسبة القول بسقوط صلاة الجمعة وصلاة الظهر عمن صلى العيد -إذا وافقت يوم الجمعة- إلى الشذوذ صحيحة؛ لمخالفته للإجماع، ومخالفته للنصوص القطعية الموجبة لصلاة الظهر أو الجمعة، ولم يعارضها إلا رواية في أثر لابن الزبير رضي الله عنه أكثر الروايات عنه وأصحها لم ترد فيها، مع اضطراب في متنه، ومخالفته للأصول، واحتماله للوجوه، والتعلق بمثل هذا الدليل في الأحكام فيه ما فيه، (فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع، بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث، ولم يخرج البخاري ولا مسلم بن الحجاج منها حديثاً واحداً، وحسبك بذلك ضعفاً لها)
(2)
.
فلا يعارض ما هو قطعي الثبوت والدلالة، بما هو مضطرب وغير صريح، (وعلى كل تقدير فالأدلة الشرعية العامة، والأصول المتبعة، والإجماع القائم على وجوب صلاة الظهر على من لم يصل الجمعة من المكلفين)
(3)
، والله أعلم.
(1)
الصنعاني في سبل السلام (1/ 409).
(2)
التمهيد (10/ 277 - 278).
(3)
مجموع فتاوى ابن باز (15/ 232).
المبحث السادس عشر: مشروعية الاقتصار على خطبة واحدة في العيد
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(لو التزمنا ألا نحكم بحكمٍ إلا حتى نجد فيه نصّاً لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟! وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة).
القرطبي رحمه الله
الجامع لأحكام القرآن (6/ 289)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
من أنواع الخطبة: خطبة الجمعة، والعيد، والاستسقاء، وقد يكون قبل الخطبة صلاة كالعيد، وقد يكون بعدها صلاة كالجمعة، وقد لا يكون معها صلاة كخطبة عقد النكاح.
وقال الإمام مالك: (الخطب كلها، خطبة الإمام في الاستسقاء والعيدين ويوم عرفة والجمعة، يجلس فيما بينها يفصل فيما بين الخطبتين بالجلوس، وقبل أن يبتدئ الخطبة الأولى يجلس ثم يقوم يخطب، ثم يجلس أيضاً ثم يقوم يخطب)
(1)
، وقال الشافعي عن قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس، قال الإمام الشافعي:(وكذلك خطبة الاستسقاء وخطبة الكسوف، وخطبة الحج، وكل خطبة جماعة)
(2)
، وكل الخطب المذكورة ليست هي محل البحث، وإنما مدار البحث والتحرير هو عدد خطبة العيد.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
…
(قال غير واحد: اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا نعلم قائلاً بوجوبها)
(3)
، وخطبة الجمعة التي
(1)
المدونة (1/ 231).
(2)
الأم (1/ 272).
(3)
حاشية الروض المربع لابن قاسم (2/ 513)، وفي سبل السلام (1/ 430):(نُقل الإجماع على عدم وجوب الخطبة في العيدين)، وفي نيل الأوطار (3/ 363) قال الشوكاني:(اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلاً بوجوبها)، وفي الشرح الكبير على المقنع (2/ 245): «والتكبيرات الزوائد والذكر بينهما والخطبتان سنة) لا تبطل بتركه الصلاة عمداً ولا سهواً بغير خلاف علمناه)، ونحوه في كشف اللثام (3/ 186)، قال في المبدع (2/ 191):(ولو وجبت لوجب حضورها واستماعها كخطبة الجمعة)، قال في الشرح الممتع (5/ 151): (ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب حضورها عدم وجوبها، فقد يكون النبي عليه الصلاة والسلام أذن للناس بالانصراف، وهي واجبة عليه فيخطب فيمن بقي
…
ولهذا لو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً)، لكن قال الشوكاني في النيل (3/ 363):(لأنه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها، وذلك؛ لأن الخطبة خطاب، ولا خطاب إلا لمخاطب، فإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب)، وجاء في الإنصاف للمرداوي مايدل على وجود الخلاف عند بعض الحنابلة، ففيه (2/ 431): «والخطبتان سنة) هذا المذهب بلا ريب، وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: هما شرط، ذكره القاضي وغيره قال ابن عقيل في التذكرة: هما من شرائط صلاة العيد).
هي واجبة، ذهب الجمهور إلى أن الواجب فيها خطبة واحدة، والثانية مسنونة
(1)
.
2.
والعلماء المتقدمون على أن المستحب في خطبة العيد هو خطبتان كالجمعة، بلا خلاف في ذلك كما قيل، وذهب بعض المعاصرين إلى أن السنة أن تكون خطبة العيد خطبة واحدة، و قد حُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
قال القاضي في إكمال المعلم (3/ 258): (اختلف أئمة الفتوى فى حكم الجلوس بين الخطبتين مع اتفاقهم على كونه مشروعًا، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء: هو سنة، ومن لم يجلس أساء ولا شئ عليه، وخطبة واحدة تجزى، وتقام بها الجمعة، وقال الشافعى: هى فرضٌ، من لم يجلسها كأنه لم يخطب ولا جمعة له. وشرط للجمعة خطبتين. قال الطحاوى: لم يقل هذا أحدٌ غيرهُ)، وفي المغني (2/ 225):(يشترط للجمعة خطبتان، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي: يجزيه خطبة واحدة. وقد روي عن أحمد ما يدل عليه)، وفي نيل الأوطار (3/ 316):(حكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية: أن الواجب خطبة واحدة. قال: وإليه ذهب جمهور العلماء)، وهذه النسبة إلى الجمهور هناك من عكسها كما قال ابن دقيق في إحكام الأحكام (1/ 334):(الخطبتان واجبتان عند الجمهور من الفقهاء).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420)
(1)
، وابن عثيمين (1421)
(2)
،
(1)
قال في السلسلة الضعيفة (12/ 639): (استدل ابن خزيمة في "صحيحه"
…
للخطبتين في العيدين بحديث ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس» . وأقول: وهذا استدلال مستند إلى العقل، ولا عموم له، ولا سيما وقد جاء الحديث في بعض رواياته الصحيحة مقيداً بيوم الجمعة
…
وقد كنت نبهت في تعليقي على "صحيح ابن خزيمة" أنه لا وجه لما ذهب إليه من الاستدلال، فقلت:"فقوله في الحديث: «الخطبتين»؛ اللام فيه للعهد، وليس للاستغراق. فتنبه") وفي سلسلة الهدى والنور الشريط (319) عند الدقيقة (14: 34): (السائل: يقول بعض طلبة العلم، إن الأحاديث التي وردت في ذكر خطبة العيد ليس فيها ذكر الخطبة أو الخطبتين، فتلحق بأصل خطبة الجمعة، فيكون لها خطبتان، فهل هذا القول صحيح وما هو الحق في الباب؟ أجاب الشيخ: هذا الإلحاق ذكره بعض العلماء قديماً وهو من باب القياس، والقياس في الأحكام الشرعية لا نراه مشروعاً، إلاّ في حدود الضرورة، وهذا ما نصّ عليه الإمام الشافعي، أنّ القياس في الشريعة ضرورة، فإن وجدت الضّرورة التي تضطرّ الإنسان إلى أن يقيس حكماً غير منصوص عليه على حكم منصوص عليه فعل
…
لأنّنا لا نشعر بضرورة ما إلى قياس خطبة العيد، على خطبة الجمعة
…
فمن قال إننا نقيس خطبة العيدين على خطبة الجمعة، فلقائل أن يقول: لا، نحن نقيس خطبة العيد على غير خطبة الجمعة، كخطبة الاستسقاء مثلاً أو خطبة صلاة الكسوف أو الخسوف مثلاً).
(2)
قال في الشرح الممتع (5/ 146): (من نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة)، وقال في فتاويه (16/ 246):(ومنهم من قال: ليس له إلا خطبة واحدة، ولكن إذا كانت النساء لا يسمعن الخطيب فإنه يخصص لهن خطبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس يوم العيد نزل إلى النساء فوعظهن وذكرهن، وهذا التخصيص في وقتنا الحاضر لا نحتاج إليه؛ لأن النساء يسمعن عن طريق مكبرات الصوت فلا حاجة إلى تخصيصهن)، وقال في فتاويه (16/ 248):(السنة أن تكون للعيد خطبة واحدة، وإن جعلها خطبتين فلا حرج)، وقال (16/ 355):(وقيل: للعيد خطبة واحدة، وهو الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة السالمة من التضعيف)، قال تلميذه أ. د. أحمد الخليل في شرحه الأول للزاد الدقيقة (20: 21): (وأظن أن الشيخ رحمه الله أخذه من الصنعاني في سبل السلام).
ومقبل الوادعي (ت 1422)
(1)
.
ويحتمل أن يكون قد سبقهم من المتأخرين الصنعاني (ت 1115)
(2)
، -رحم الله الجميع-.
(1)
جاء في وقعه"صفحات الشيخ أبي عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي"، في مقطع صوتي من"شريط أسئلة شباب العدين"، هذا السؤال:(هل خطبة العيد خطبة واحدة أم خطبتين؟) فكان من جوابه: (مسألة القياس على الجمعة لماذا لا يقيسونها على الكسوف ما هي إلا خطبة واحدة
…
الصحيح أنها خطبة واحدة لعدم ورود الدليل
…
نتحدى من يقول: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب خطبتين للعيد
…
حتى أبو محمد ابن حزم ما أدري لماذا لم يتمسك بظاهريته؟! فقال في المحلى: ويخطب خطبتين)، وفي رسالة بعنوان "فتح الحميد المجيد في بيان الراجح في خطبة العيد" وقدم لها: يحيى الحجوري، ومما قال في مقدمته ص (4): (كثرت دعاوى الإجماع في هذه المسألة بعينها -وهي خطبة العيد- وعند المحاققة يرى الباحث أنه لاإجماع في شرعية الخطبتين للعيد
…
وبقيت هذه السنة في غموض عن إحيائها، حتى هيأ الله لها في هذه البلاد اليمنية، شيخنا الفقيه المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله فأحياها مع عديد غيرها من السنن).
(2)
قال عن حديث أبي سعيد المتفق عليه، والذي جاء فيه:«ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس -والناس على صفوفهم- فيعظهم ويأمرهم» ، قال:(فيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ، وليس فيها أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما ولعله لم يثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه، وقد نص على شذوذه ونحوه:
- د. صبري عبدالمجيد
(1)
بقوله: (هذه المسألة التي شذّ فيها المعاصرون، فخالفوا الاتفاق فيها، وعلى القائمة الأئمة الأربعة، والعجيب الذي ينبغي للمعاصرين الانتباه إليه: هو أن المذاهب الأربعة لم يشذ فيها قول واحد فصرح بالخطبة الواحدة للعيد)
(2)
.
- أ. د. أحمد الخليل بقوله: (يعتبر هذا القول ضعيف جداً
…
أو ساقط
…
كون واحد متأخر مثل الصنعاني ذهب إلى هذا المذهب، وأئمة المسلمين في القرون المتعاقبة لم يذهبوا إليه دليل على سقوطه)
(3)
.
- د. صالح بن عبدالله العصيمي بقوله: (خطبتا العيد، لايثبت فيهما
(1)
نشأ في مصر ومن أبرز شيوخه الأزهريين محمد سلامة، والتقى بصفوت نور الدين الرئيس العام لأنصار السنة المحمدية بمصر وأخذ عنه، ثم سافر إلى المملكة فأخذ عن صالح اللحيدان كثيراً، وله سؤلات للبسام وابن قعود، وكان يداوم على مجلس العثيمين إذا حضر إلى مكة، وحضر لابن باز وكان على اتصال به، وبعبدالكريم الخضير وسعد الحميد وغيرهم، من مؤلفاته:(المنحة الإلهية في ترتيب معجم ابن المقرئ على الأبواب الفقهية)، (نفع أهل العصر بحد مسافة القصر)، (القول المغني في شرح السنة للمزني) وغيرها. انظر: ترجمته في موقع "إحياء السنة" الموقع الرسمي للدكتور صبري عبدالمجيد.
(2)
"تنبيه الوسنان على أن العيد خطبتان" ص (10).
(3)
شرح زاد المستقنع، الشرح الثاني، الدرس (62)، الدقية (53: 18).
حديث، لكن لايعرف أحد من أهل الإسلام قال ولا فعل خطبة واحدة إلا في القرن الخامس عشر، هذا يدل على أنّ فعله بدعة، لا أن فعل الناس بدعة
…
لم يعرف في الدين إلا أن العيد له خطبتان، وكل فقيه من كل مذهب في كل بلد يذكر هذا)
(1)
.
(1)
في مقطع صوتي له منشور في الشبكة بعنوان: (فقه العمل بالحديث) من الدقيقة (3: 20) ثم من الدقيقة (5: 26).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بأن المشروع في العيد خطبتان:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ بأثر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: «السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس»
(1)
، وبما جاء عن جابر رضي الله عنه قال:«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام»
(2)
، وبحديث ابن عمر رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس»
(3)
.
(1)
استدل به الشافعي للفصل بين الخطبتين، وقد أخرجه في الأم (2/ 272) ومن طريقه البيهقي في الكبرى (6231)، قال أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة به، وإبراهيم بن محمد هو ابن أبى يحيى (متروك)، والأثر مرسل، وجاء في الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 296):(هذا حديث مرسل، عبيد الله بن عبد الله تابعي جليل أحد الفقهاء السبعة)، وقد صحّ الأثر عن عبيدالله من وجه آخر أخرجه سعيد بن منصور ونقله عنه ابن قدامة في المغني (2/ 286)، قال سعيد: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله به، وهذا الإسناد صحيح، وسيأتي ذكره في آخر بحث هذه المسألة.
(2)
استدل به ابن قدامة في المغني، وقد أخرجه ابن ماجه (1289) من طريق أبي بحر قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم الخولاني قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر به، قال ابن رجب في الفتح (8/ 453):(وإسماعيل، هو المكي. ضعيف جداً)، وقال البوصيري في المصباح (1/ 152):(أَجمعُوا على ضعفه، وأبو بحر ضعيف).
(3)
استدل به ابن خزيمة في صحيحه (2/ 349) فقال: (باب عدد الخطب في العيدين والفصل بين الخطبتين بجلوس)، ثم ساق بإسناده عن ابن عمر:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس» ، وقد أخرجه البخاري (928) بلفظ:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما» ، و ترجم له البخاري (باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة)، وهو في الصحيحين أيضاً عن ابن عمر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم» قال: كما يفعلون اليوم، وهذا لفظ مسلم وفيه التقييد بالجمعة.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأن أثر عبيد الله (ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، والمعتمد فيه القياس على الجمعة) كما قال النووي
(1)
.
- وأما حديث ابن عمرفـ (هذا الحديث في خطبتي الجمعة بدليل رواية خالد بن الحارث حدثنا عبيد الله به ولفظه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً
…
» الحديث أخرجه مسلم، فقوله في الكتاب:«الخطبتين» اللام فيه للعهد وليست للاستغراق)
(2)
، (وقد أشار إليها البخاري في "صحيحه" بالترجمة للحديث بقوله:"باب: القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة"، مع أن الحديث عنده ليس فيه القيد المذكور)
(3)
.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- بأن الخطبتين للعيد هو ماجرى به عمل المسلمين، في الأعصار والأمصار المختلفة دون نكير، ويقرره الفقهاء من مختلف المدارس، وهو أقوى من النقل الآحاد للسنة.
- أما القول بأن: (المعتمد فيه القياس) فغير مسلّم به، فأكثر العلماء لايستدلون في هذه المسألة بالقياس، بل فيهم من لايرى القياس
(1)
خلاصة الأحكام (2/ 838).
(2)
صحيح ابن خزيمة (2/ 349) بتحقيق الأعظمي وفيه تعليقات للألباني، وهذا تعليق الألباني، وقد أشار لتعليقه هذا في السلسلة الضعيفة.
(3)
السلسلة الضعيفة (12/ 639).
مطلقاً كابن حزم
(1)
، وفيهم من يضيق القياس في العبادات، فليس القياس هو المعتمد هنا، بل العمل المتواتر (إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال)
(2)
.
- (فهذا من العمل المتوارَث بين المسلمين، ينقله العلماء الأوائل مقرين له، ويذكرونه في التراجم وفي كتب الفقه على اختلاف العصور، والبلدان، والمذاهب)
(3)
.
- وهو كما قال الشافعي: (من الأمور العامة التي يُستغنى فيها عن الحديث)
(4)
، وكما قال ابن تيمية:(بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد)
(5)
، فكيف بما استفاض عند العلماء قاطبة، وفيهم المحدثون والفقهاء، وهم أكثر تحريّاً ودقة من أهل المغازي.
- وهذه الاستفاضة والتوارث في هذا الحكم، استدل بها بعضهم كما قال المرغيناني (ت 593): ("ثم يخطب بعد الصلاة خطبتين " بذلك
(1)
في تنبيه الوسنان ص (34): (ولاننس أنه ظاهري المذهب، ولايقول بالقياس، فليس إلا ما أخذه عن سالفه إلى منتهاه، أو عمل بمنطوق الضعيف كقرينة للمفهوم من الصحيح غير المنطوق).
(2)
الموافقات (3/ 280).
(3)
مسائل الإمام ابن باز - المجموعة الأولى ص (76)، وهذا الكلام لعبدالله بن مانع الروقي، من بحث له نشره في حاشية على قول ابن باز:(العيد يلحق بالجمعة في أن له خطبتين، وهو قول الجمهور، ويحتاج إلى مزيد بحث وعناية).
(4)
الأم (1/ 311)، ولم يذكره في هذه المسألة وإنما في سل الميت في قبره، فقال: (وسل الميت سلا من قبل رأسه
…
وأمور الموتى، وإدخالهم من الأمور المشهورة عندنا لكثرة الموت، وحضور الأئمة، وأهل الثقة، وهو من الأمور العامة التي يُستغنى فيها عن الحديث، ويكون الحديث فيها كالتكلُّف لعموم معرفة الناس بها).
(5)
الصارم المنكي ص (143).
ورد النقل المستفيض)
(1)
، قال ابن الهمام معلّقاً:(لا شك في ورود النقل مستفيضاً بالخطبة، أما بالتنصيص على الكيفية المستمرة فلا)
(2)
، وقال الزيلعي (ت 743):(ولو خطب خطبة واحدة، أو لم يجلس بينهما، أو بغير طهارة أو غير قائم، جازت لحصول المقصود وهو الذكر والوعظ، إلا أنه يكره لمخالفة التوارث)
(3)
.
- وفي مسألة أخرى قال الشوكاني عن مشروعية استقبال الخطيب في خطبة الجمعة: (وأحاديث الباب وإن كانت غير بالغة إلى درجة الاعتبار فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك)، وقبله ابن رجب بعدما ذكر اتفاق العلماء على استحباب التكبير المقيد أيام التشريق قال:(هذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يُكتفى بالعمل به)
(4)
، وهذا مثل مسألتنا فالاتفاق والاستفاضة العملية على استحباب الخطبتين كاف، كما في الدليل الآتي.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع:
كما فُهم من كلام ابن حزم وابن قدامة، ونقله بعض المعاصرين
(5)
:
1.
قال ابن حزم (ت 456): (فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة، فإذا أتمهما افترق الناس، فإن خطب قبل
(1)
الهداية (1/ 85)، قال العيني في البناية شرح الهداية (3/ 118):(أي: بخطبتين بعد الصلاة ورد النقل الشائع).
(2)
فتح القدير (2/ 78).
(3)
تبيين الحقائق (1/ 220).
(4)
فتح الباري (9/ 22).
(5)
والنقل عن المعاصرين هنا وتكثيره لفائدة وهي: أن المسألة لم تكن محل إشكال عند من سبق، فلم يتطلبوا ذكر الإجماع للمعارض، والفائدة الأخرى أن كثيراً من هؤلاء المذكورين تلاميذ لبعض الشيوخ الذين خالفوا في المسألة، فبحثهم وقولهم مظنة للتحقيق والتجرد.
الصلاة فليست خطبة، ولا يجب الإنصات له، كل هذا لا خلاف فيه إلا في مواضع نذكرها إن شاء الله تعالى)
(1)
، ولم يذكر خلافاً في هذه الجملة، إلا فيما أحدثه بنو أمية من تقديم الخطبة على الصلاة.
2.
وقال ابن قدامة (ت 620): (خطبتي العيدين بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين، إلا عن بني أمية)
(2)
، يعني: أنهم خالفوا في تقديم الخطبتين، ونفي الخلاف عن أن المشروع في العيد خطبتين محتمل، ويؤيده أنه لم يذكر خلافاً فيها
(3)
.
3.
وقال ابن باز (ت 1420): (العلماء ألحقوا العيد بالجمعة في الخطبتين، فلا ينبغي العدول عن هذا)
(4)
، وقال:(وعلى هذا العلماء والأخيار، ومن خطب خطبة واحدة للعيد، فيذكر باتباع العلماء والأخيار، وأنهم لم يخطبوا خطبة واحدة وإنما خطبوا خطبتين)
(5)
.
4.
وقال ابن عثيمين (ت 1421): (وقوله: «خطبتين» هذا ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله أن خطبة العيد اثنتان)
(6)
.
5.
وقال أ. د. خالد المصلح: (قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد
(1)
المحلى (3/ 293).
(2)
المغني (2/ 285).
(3)
واستثناؤه في آخر الكلام واضح في قصد الخطبة بعد الصلاة، وهذا يُبعد الاحتمال.
(4)
مسائل الإمام ابن باز - المجموعة الأولى ص (76) الحاشية (1).
(5)
نقله كما سمعه منه د. سعيد بن وهف القحطاني في كتابه"صلاة المؤمن"(2/ 914) حاشية (2).
(6)
الشرح الممتع (5/ 145)، ومن القرائن التي تؤيد أن (أل) في قوله (الفقهاء) للاستغراق فيكون إجماعاً، أنه لا يُعرف خلاف قديم في المسألة، والثانية أنه لم يحكِ مخالفاً، والثالثة أنه لم يقل: أكثر العلماء أو عامتهم، ومما يعكر على ذلك أنه خالف قولهم فلو كان يعده إجماعاً صحيحاً لم يخالفه، والله أعلم.
من أهل العلم منهم ابن حزم في المحلى (3/ 293). ولم أقف مع طول البحث على من قال بأن خطبة العيد خطبة واحدة لا من أهل العلم المتقدمين ولا فقهاء المذاهب ولا غيرهم من أهل العلم إلا ما قد يفهم من كلام الصنعاني
(1)
.
6.
وقال حمد الحمد
(2)
: (المستحب أن يخطب للعيد بخطبتين لا بخطبة واحدة هذا باتفاق الفقهاء)
(3)
، وقال:(عمل أهل العلم على ذلك، ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة فتكون المسألة إجماعاً)
(4)
.
7.
وقال أ. د. أحمد الخليل: (المشروع في خطبة العيد أن يخطب خطبتين، وقد اتفق على هذا الفقهاء
…
في الحقيقة الصنعاني والقول الذي مال إليه شيخنا، فيه مخالفة للإجماع، مهما بحثت لا تجد أن أحداً يقول بسنية أن تكون خطبة واحدة، وهو أمر معهود ومعروف من القديم)
(5)
.
(1)
بحث مختصر منشور في موقعه الرسمي بعنوان: (خطبة العيد واحدة أم اثنتان؟)، وقوله عن الإجماع:(حكاه غير واحد)، لم أقف عليه عند غير ابن حزم وابن قدامة، وأما ذكره للصنعاني فهو متأخر لاتأثير لخلافه.
(2)
عضو الدعوة في مركز الدعوة والإرشاد ورئيس لجنة إصلاح ذات البين بحائل.
(3)
شرح زاد المستقنع الدرس (35) في موقع إسلام ويب، الدقيقة (21: 14)، وهذا من شرحه للزاد في دولة قطر، حيث شكر في الدرس الأول مؤسسة عيد القطرية، وفي موقع هذه المؤسسة إعلان لهذه الدروس في قطر وكان بدايتها سنة (1435 هـ) فهو شرح متأخر.
(4)
شرح زاد المستقنع (8/ 81)، مفرغ وموجود في المكتبة الشاملة، وذُكر في مقدمته أن بداية الشرح كانت سنة (1414 هـ)، فهو شرح آخر للزاد، وقد ذُكر عن الشيخ أنه شرح الزاد مراراً، وشرحه متميز.
(5)
شرح زاد المستقنع، الدورة الأولى، الدرس (47) من كتاب الصلاة عند الدقيقة (17: 56)، ثم من الدقيقة (20: 35).
8.
وقال مصطفى السليماني: (والعلماء على أن للعيد خطبتين)
(1)
، وقال: (السلف من فقهاء الأمة على أنها خطبتان
…
فإذا كان هذا قول المذاهب الأربعة، وأئمتها والمشاهير من علمائها، وانضم إلى ذلك فقهاء الأمصار، فيعتمد على هذا الاتفاق الذي نقله ابن حزم رحمه الله، مع أنه ممن يرد كثيراً من دعاوى الإجماع)
(2)
.
9.
وقال د. صبري عبدالمجيد: (بقي لنا النظر إلى عمل السالفين من أئمة الدين، فوجدناهم قد اتفقوا على أنهما خطبتان، ولم أرَ واحداً منهم نص على أنها خطبة واحدة ولو من طريق ضعيف)
(3)
.
10.
وقال د. صالح بن عبدالله العصيمي: (لايُعرف أحد من أهل الإسلام قال ولا فعل خطبة واحدة إلا في القرن الخامس عشر
…
لم يعرف في الدين إلا أن العيد له خطبتان، وكل فقيه من كل مذهب في كل بلد يذكر هذا)
(4)
.
ونوقش الاستدلال بالإجماع
(5)
:
- بأن الخطبة الواحدة للعيد هو مذهب عطاء، ونقله عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كما أخرج عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: متى كان من مضى يخرج أحدهم من بيته يوم الفطر للصلاة؟ فقال: (كانوا يخرجون حتى يمتد الضحى فيصلون، ثم
(1)
تنوير العينين بأحكام الأضاحي والعيدين ص (245).
(2)
المرجع السابق ص (245).
(3)
تنبيه الوسنان ص (22).
(4)
في مقطع صوتي له منشور في الشبكة بعنوان: (فقه العمل بالحديث) من الدقيقة (3: 25) ثم من الدقيقة (5: 26).
(5)
هذه المناقشة ليست من الشيوخ الألباني والعثيمين والوادعي، وإنما هي ممن بعدهم ممن انتصر لرأيهم.
يخطبون قليلاً سويعة-يقلل خطبتهم- قال: لا يحبسون الناس شيئاً، قال: ثم ينزلون فيخرج الناس، قال: ما جلس النبي صلى الله عليه وسلم على منبر حتى مات، ما كان يخطب إلا قائماً، فكيف يخشى أن يحبسوا الناس؟ وإنما كانوا يخطبون قياماً لا يجلسون إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يرتقي أحدهم على المنبر فيقوم كما هو قائماً لا يجلس على المنبر حتى يرتقي عليه، ولا يجلس عليه بعدما ينزل، وإنما خطبته جميعاً وهو قائم، إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى، قال: لم يكن منبر إلا منبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء معاوية حين حج بالمنبر فتركه، قال: فلا يزالون يخطبون على المنابر بعد)
(1)
.
- وذكر بعضهم أن الإجماع منقوض بما ذكره المرداوي: (خطبة العيدين في أحكامها كخطبة الجمعة في أحكامها غير التكبير مع الخطيب
…
واستثنى جماعة من الأصحاب أنها تفارق الجمعة في الطهارة، واتحاد الإمام والقيام، والجلسة بين الخطبتين، والعدد، لكونها سنة لا شرط للصلاة في أصح الوجهين)
(2)
.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (5650)، وهذا الأثر رأيت من يستدل به في أحد البحوث المنشورة في الشبكة، و ناقشني به أحد الفضلاء فلذا أوردته، ووجه الاستدلال منه -كما قيل- أن عطاء:(قرر أنهم كانوا يتشهدون مرة واحدة ولا يجلسون وإنما يخطبون قياماً؛ لأنه لم يكن أصلاً منبر في المصلى، وفي هذا التقرير حجة قوية لمن قال بأن الخطبة خطبة واحدة ليس فيها جلوس).
(2)
الإنصاف (2/ 429)، قال أبو الحسن السليماني في تنوير العينين ص (245):(كلامه محمول على الخلاف بين الأصحاب -أي في المذهب الحنبلي- في عدم وجوب الجلوس)، فرد عليه صاحب بحث "فتح الحميد المجيد في بيان الراجح في خطبة العيد" ص (75) بعبارات -لا أرتضيها- وأنقلها كما قالها:(ومن العجب من أبي الحسن المصري-المفتون- الذي يقول: وهذا الخلاف إنما هو خلاف في المذهب الحنبلي، أليس الحنابلة من المسلمين، وخلافهم معتبر، فنعوذ بالله من الخذلان وسلوك سبيل الشيطان) انتهى. وأعوذ بالله من سوء الفهم و التعبير.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
- أما أثر عطاء فإنه مرسل، وعطاء ولد في خلافة عثمان فلم يدرك أبابكر ولا عمر، ولا روى عن عثمان رضي الله عنهم، ومراسيله قال عنها الإمام أحمد:(ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد)
(1)
.
- وعلى فرض ثبوته، ففيه إثبات للخطبتين حين قال:(إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى)، فقوله:(الأولى) يعني: في الخطبة الأولى، ويقابله الخطبة الثانية.
- والأثر سياقه في إنكار الجلوس أثناء الخطبة، كما قال جابر بن سمرة رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة»
(2)
، وكما جاء عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه:(دخل المسجد وعبد الرحمن ابن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا})
(3)
.
- برهان ذلك: أن عطاء ذكر فعل معاوية في مقابل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، ومعاوية أول من أحدث الجلوس أثناء الخطبة كما قال الشعبي:(أول من أحدث القعود على المنبر معاوية)
(4)
، وقال الشعبي: (إنما خطب معاوية قاعداً، حيث كثر شحم
(1)
تهذيب الكمال (20/ 83).
(2)
أخرجه مسلم (862).
(3)
أخرجه مسلم (864).
(4)
أخرجه البيهقي في الكبرى (5707) وقال: (يحتمل أنه إنما كان قعد لضعف لكبر أو مرض).
بطنه ولحم)
(1)
، قال ابن رجب:(كان في زمن بني أمية من يخطب جالساً، وقد قيل: أن أول من جلس معاوية، قاله الشعبي والحسن وطاوس، وقال طاوس: الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة)
(2)
.
- و مما يشبه مرسل عطاء =المراسيل الثلاثة الآتية، فلتفهم على سياقها:
أ/ فعن قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً، ثم فعل ذلك عثمان حتى شق عليه القيام فكان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم أيضا فيخطب، فلما كان معاوية خطب الأولى جالساً، ثم يقوم فيخطب الآخرة قائماً)
(3)
.
ب/ وعن سليمان بن موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً لا يقعدون، إلا في الفصل بين الخطبتين، وأول من جلس معاوية، فلما كان عبد الملك خطب قائماً، وضرب برجله على المنبر وقال: هذه السنة، فلما طال عليه الأمر جلس بعد)
(4)
، أخرجهما عبدالرزاق وترجم لهما:(باب الخطبة قائماً).
ج/ وعن طاووس قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، وأبو بكر قائماً، وعمر قائماً، وعثمان قائماً، وأول من جلس على
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (5193) قال حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي به.
(2)
فتح الباري (8/ 244).
(3)
أخرجه عبدالرزاق (5258) عن معمر عن قتادة به.
(4)
أخرجه عبدالرزاق (5259) عن محمد بن راشد قال: حدثنا سليمان بن موسى به.
المنبر معاوية بن أبي سفيان)
(1)
، أخرجه ابن أبي شيبة وترجم له:(من يخطب قائماً).
- وأما الاعتراض على الإجماع بماذكره المرداوي فهذا وهم وخطأ، فليس في كلام المرداوي ما يستحب به الخطبة الواحدة، بل غاية ما فيه نفي اشتراط الجلسة بين الخطبتين، وأن الجلسة بين الخطبتين سنة في العيد وواجبة في الجمعة، وهذا أحد الفروق بين الجمعة والعيد، وقد سبق أن خطبة العيد أصلاً ليست واجبة.
- وهنا تنبيه مهم وهو أنه لاتلازم بين عدم الجلوس بين الخطبتين، وبين الفصل بين الخطبتين، قال ابن قدامة وهو يتحدث عن خطبة الجمعة:(فإن خطب جالساً لعذر فصل بين الخطبتين بسكتة، وكذلك إن خطب قائماً فلم يجلس. قال ابن عبد البر: ذهب مالك، والعراقيون، وسائر فقهاء الأمصار إلا الشافعي، أن الجلوس بين الخطبتين لا شيء على من تركه)
(2)
، وبه يرد على من توهم أن ما جاء في بعض الآثار من الخطبة على الدابة أنه يلزم منه أن تكون خطبهم واحدة لا فصل فيها، والله أعلم.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بمشروعية الاقتصار على خطبة واحدة في العيد: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منه:
1/ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا يصلون قبل
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (5180)، وأخرجه (5179) بلفظ:(لم يكن أبو بكر، ولا عمر يقعدون على المنبر يوم الجمعة، وأول من قعد معاوية)، ومدارهما على ليث عن طاووس.
(2)
المغني (2/ 227)، وكلام ابن عبدالبر في التمهيد (2/ 165).
الخطبة»
(1)
، وحديث ابن عمر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة»
(2)
، و حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال:«إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة»
(3)
.
وجه الاستدلال:
أن (من نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة)
(4)
، فهي خطبة واحدة لظاهر قوله:(الخطبة) فإنها تصدق على الواحدة، و (لعدم ورود الدليل)
(5)
على الخطبتين.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور
(6)
:
- بأن الأدلة سياقها في بيان تقدّم الصلاة على الخطبة وليس في عدد الخطبة، ولذلك قال النووي عن حديث ابن عباس: (فيه دليل
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (962) واللفظ له، ومسلم (884).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (963)، ومسلم (888).
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري (958) واللفظ له، ومسلم (885).
(4)
الشرح الممتع (5/ 146).
(5)
ذكره الوادعي كما في "أسئلة شباب العدين"، وسبق توثيقه.
(6)
أما كون ظاهر النصوص أنها خطبة واحدة، فهذا الظاهر لم يعرفه أئمة أهل الظاهر، فأين دواد بن علي عنه؟ بل أين ابن حزم عنه؟ وهي أحاديث في الصحيحين عن غير واحد من الصحابة، وهي بين نظر العلماء من الظاهرية وغيرهم، ثم لم يفهم واحد منهم أن ظاهرها واحدة، حتى جاء المعاصر فقال: ظاهرها واحدة؟! وقد تعجب الشيخ الوادعي واستنكر على ابن حزم فقال: (حتى أبو محمد ابن حزم ما أدري لماذا لم يتمسك بظاهريته؟!! فقال في "المحلى": ويخطب خطبتين) كما في شريط"أسئلة شباب العدين"، وهذا الاحتمال الذي فهمه الشيخ أنه لم يتمسك بظاهريته، والاحتمال الآخر أن ظاهرها لايدل على أنها واحدة، أو أن ظاهرها غير مراد، وهذا هو الأظهر والأقوى -كما سيأتي-.
لمذهب العلماء كافة أن خطبة العيد بعد الصلاة)
(1)
، ولم يتطرق لعدد الخطبة، وقال:(خطبة العيد) ولم يقل: (خطبتي العيد)، والدليل إذا سيق لمعنى فلا يستدل به في غيره
(2)
؛ وهذا عند الترجيح بتعارض الدليل مع ماهو أقوى منه كالدليل الخاص أو عمل المسلمين ونحوهما
(3)
.
- وقوله: (الخطبة) ليست صريحة في كونها واحدة، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً»
(4)
، فقوله:(الخطبة) يعم الخطبتين، ولو قال رجل بعد صلاة الجمعة: استمعت إلى الخطبة، وهو يقصد الخطبتين كان كلامه صحيحاً، فيكون المراد بالخطبة هنا الجنس، أي: جنس الخطبة.
- ثم إن الصحابة ذكروا في هذه الأحاديث ونحوها ما شاهدوا فيه مخالفة لخطبة الجمعة، أو تنبيه على ماخالف الناس فيه السنة، فتجدهم نقلوا في العيد:
- أن الصلاة قبل الخطبة.
- و أنها لا يؤذن لها ولا يقام.
- وأنه لاصلاة قبلها ولا بعدها.
- والتكبيرات الزوائد في ركعتي العيد.
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 171).
(2)
قال القرافي في الذخيرة (3/ 77): (الكلام إذا سيق لمعنى لا يحتج به في غيره وهذه قاعدة أصولية)، وهذه القاعدة قل الكلام عنها في كتب أصول الفقه، وإنما لها بعض الإشارات عند تعارض الأدلة.
(3)
وقد سبق تحرير هذه القاعدة في كتاب الطهارة.
(4)
أخرجه مسلم (869).
- وأمره للنساء بالخروج وتخصيصهن بالوعظ.
- وهكذا يلاحظ نقل ماهو جديد عن صلاة الجمعة، وماعدا ذلك فهو على ما في الجمعة
(1)
، ومنها الخطبة (لجريان العمل عليها بينهم، كما هو بين أئمة الرواية والدراية عن سلفهم عن سلفهم، وأكبر برهان على ذلك أنه لم ينقل قول واحد أنها خطبة واحدة، في مقابل اتفاقهم أنها خطبتان)
(2)
.
- ومما يدل على نحو هذا الصنيع أن ابن المنذر ذكر بعض الأحكام في كتاب العيدين ثم أحال على ما لم يذكره إلى ما ذكره في الجمعة، ومنها الخطبة، فقال:(وقد ذكرنا في كتاب الجمعة أبواباً من كتاب الخطبة تركت إعادتها في هذا الموضع)
(3)
.
- وهناك ما هو أظهر من استدلالهم مما يدل على الخطبتين، وهو ماجاء عن ابن جريج عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال:«إن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء، فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة» قلت لعطاء: أترى حقا على الإمام الآن: أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ؟ قال: إن ذلك لحق عليهم وما لهم أن لا يفعلوا)
(4)
، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يُجلّس الرجال بيده، ثم أقبل يشُقّهم، حتى أتى النساء مع بلال، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ
(1)
انظر: تنبيه الوسنان ص (23 - 24).
(2)
المرجع السابق ص (20).
(3)
الأوسط (4/ 285).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (961) واللفظ له، ومسلم (885).
عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} حتى فرغ من الآية كلها
…
» الحديث
(1)
.
- والشاهد منهما موعظة النساء بعد موعظة الرجال، وظاهر هذا أنها خطبة ثانية، وقول ابن عباس:«فكأني أنظر إليه يُجلّس الرجال» ، دليل على أنها (خطبة أخرى يجلس لها الرجال، أي: يستحب للرجال أن يجلسوا لها فتكون هي الخطبة الثانية)
(2)
.
- ثم يقال وهو الأهم: مَن فهِم من السلف من هذه النصوص أن المراد منها مشروعية الخطبة الواحدة؟ وهل أخطأ السلف في فهم هذه الأحاديث؟ (وبقيت هذه السنة في غموض عن إحيائها، حتى هيأ الله لها)
(3)
بعض المعاصرين ليحيوا هذه السنة؟!
- ويقال كما قال الشاطبي: (هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛ قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (4895)، ومسلم (884).
(2)
شرح زاد المستقنع للخليل (8/ 82) الشرح المفرغ في المكتبة الشاملة، وقد يكون تجليسه للرجال من أجل أن يبقوا لينصرف النساء؛ لئلا ينظروا إليهن، وقد يُفهم من هذا أنه إذا لم تكن نساء ساغ الاكتفاء بواحدة.
(3)
صرّح بذلك يحيى الحجوري في تقديمه لرسالة ""فتح الحميد المجيد في بيان الراجح في خطبة العيد" ص (4)
لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصلاح؛ فهو الضلال بعينه)
(1)
.
- والفقيه ابن عثيمين مع أنه خالف في هذه المسألة ولم يذكر من سبقه، قد قال في مسألة أخرى، وهي عودة الحاج محرماً بعد تحلله إذا لم يطف للإفاضة قبل الغروب:(فحكم شرعي لم يعمل به إلا واحد من التابعين، لا يمكن أن يقال: إنه حديث صحيح؛ وذلك أن الأمة لا يمكن أن تخالف مثل هذا الحديث الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله والعمل به، لأنه من المعلوم أنه ليس كل الحجيج يطوفون طواف الإفاضة في يوم العيد)
(2)
، ولعله لم يستحضر مثل هذا الكلام هنا وهو أولى
(3)
.
- وقد صحّ عن التابعي الجليل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: (يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، ثم يخطب، وفي الثانية سبع تكبيرات)
(4)
، وهو من الفقهاء السبعة
(1)
الموافقات (3/ 284)، وانظر كذلك (3/ 280 - 281)، وقد قال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى (21/ 291):(كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)، وقال تلميذه ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (1/ 318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه).
(2)
الشرح الممتع (7/ 342).
(3)
ستأتي مسألة عودة الحاج محرماً بعد تحلله في كتاب الحج، وكون مسألتنا أولى بهذا الكلام؛ لأنه لم يرد فيها حديث كحديث أم سلمة في عودة الحاج محرماً، ولم ينقل عن أحد أنه خطب خطبة واحدة، بينما حديث أم سلمة قيل: إنه عمل به عروة، وسيأتي مناقشة النسبة إليه.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور ونقله عنه ابن قدامة في المغني (2/ 286)، قال سعيد: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله به، وهذا الإسناد صحيح، ووالد يعقوب وهو عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد القاري المدني وثقه ابن معين، ووجدت له سماعاً من عبيد الله كما أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 320) بسند صحيح عن يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني عن أبيه قال: كنت أسمع عبيد الله بن عبد الله يقول: ما سمعت حديثاً قط فأشاء أن أعيه إلا وعيته.
ومن بحور العلم، روى عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة.
- وقال الإمام مالك: (من السنة أن يكبر الإمام إذا صعد المنبر في العيدين، ويكبر في الخطبة الثانية)
(1)
.
- قال الإمام الشافعي: (وبقول عبيد الله بن عبد الله نقول، فنأمر الإمام إذا قام يخطب الأولى أن يكبر تسع تكبيرات تترى لا كلام بينهن فإذا قام ليخطب الخطبة الثانية أن يكبر سبع تكبيرات تترى لا يفصل بينهن بكلام)
(2)
، وهما من أتباع التابعين.
- وصحّ عن إسماعيل بن أمية -فقيه مكة من أتباع التابعين ومن أصحاب نافع- أنه قال: (سمعت أنه يكبر في العيد تسعاً وسبعاً)
(3)
، وترجم له عبدالرزاق:(باب التكبير في الخطبة).
- وقال الإمام أحمد: (قال عبيد اللَّه: من السنة أن يكبر الإمام علَى المنبر في العيدين تسعاً قبل الخطبة، وسبعاً بعدها)
(4)
، و ظاهر
(1)
البيان والتحصيل (1/ 300)، ومما يثبت الخطبتين عن مالك ماسبق نقله عنه من المدونة، وقال أيضاً كما في المدونة (1/ 247 - 248):(أهل القرى يصلون صلاة العيدين كما يصلي الإمام، ويكبرون مثل تكبيره، ويقوم إمامهم فيخطب بهم خطبتين).
(2)
الأم (1/ 273).
(3)
أخرجه عبدالرزاق (5671) عن معمر عن إسماعيل به، وهو كقول عبيدالله يدل عليه ماأخرجه الشافعي في الأم (1/ 273) قال: أخبرنا إبراهيم قال أخبرني إسماعيل بن أمية: (أنه سمع أن التكبير في الأولى من الخطبتين تسع، و في الآخرة سبع).
(4)
كما في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 187) قال: (قال عبداللّه بن أحمد: قال أبي
…
) الخ، ونقله عن أحمد عدد من الحنابلة كما في الفروع (3/ 205)، والمبدع (2/ 190)، ودقائق أولي النهى (1/ 327)، مطالب أولي النهى (1/ 802)، حاشية ابن قاسم (2/ 511)، مع إثبات ماتفرع عنه من أحكام كالخطبتين والتكبير فيهما.
صنيع الإمام أحمد الاحتجاج به، وقد أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة وبنحوه عند عبدالرزاق
(1)
.
- وقد قال أبوداود عن شيخه الإمام أحمد: (سمعته، سئل: إذا جاء الشيء عن رجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي= يلزم الرجل أن يأخذ به؟ قال: لا، ولكن لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
- وسبق ما نقله عطاء -عمن سبق- حين سئل: متى كان من مضى يخرج أحدهم من بيته يوم الفطر للصلاة؟ فكان من قوله: (إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى)
(3)
، فقوله:(الأولى) يعني: في الخطبة الأولى، ويقابله الخطبة الثانية، وانظر إلى قوة السؤال (متى كان من مضى)، وقوة مافي الجواب (إنما كانوا) ودلالتهما على الفعل العام.
- فهؤلاء نجوم السنة وأعلام الأمة، في القرون الأولى، لايختلفون في الخطبتين للعيد، فمن الناس بعدهم؟!
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (5866) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن القاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال:(من السنة أن يكبر الإمام على المنبر، على العيدين، تسعاً قبل الخطبة، وسبعا بعدها) وهو عند عبدالرزاق (5672) عن معمر، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنه قال: يكبر الإمام يوم الفطر قبل أن يخطب تسعاً حين يريد القيام وسبعا في. عالجته على أن يفسر لي أحسن من هذا فلم يستطع - فظننت أن قوله -: حين يريد القيام في الخطبة الآخرة).
(2)
مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص (368 - 369).
(3)
أخرجه عبدالرزاق (5650).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أن نسبة القول بأن المشروع في العيد الاقتصار على خطبة واحدة إلى الشذوذ صحيحة، لمخالفته للإجماع، ولما عليه عمل المسلمين في القرون المتتابعة، ولم يثبت بعد البحث مخالف يصح أن يُخرم به الإجماع، ولا يعرف عن السابقين رواية ضعيفة ولا شاذة ولا موضوعة في الاكتفاء بخطبة واحدة، وقد أطبق أهل الحديث والفقه، والأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم على القول بسنية الخطبتين، وهي من العبادات الظاهرة العامة المتكررة، فلو لم تكن الخطبتان هي السنة في العيد، لاستنكر ذلك حماة الدين الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ومن الباطل أن يكون الحق قد خفي على جميعهم ثم تظهر السنة للمتأخر بعد قرون طويلة من زمن التشريع.
ولا يُعرف من قرّر القول بأن المشروع في العيد خطبة واحدة قبل المعاصرين في آخر القرن الرابع عشر الهجري، حتى الظاهرية لم يقولوا بذلك، وهو محتمل في كلام الصنعاني، و (كل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ)
(1)
، والله أعلم.
(1)
الموافقات (3/ 281).
يقول سفيان الثوري:
(نحن اليوم على الطريق، فإذا رأيتمونا قد أخذنا يميناً وشمالاً فلا تقتدوا بنا).
أخرجه المرّوذي في أخبار الشيوخ ص (82)
المبحث السابع عشر: جواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة
(ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه).
ابن عبدالهادي رحمه الله
الصارم المنكي (1/ 318)
المطلب الأول: صورة المسألة وتحرير محل الشذوذ:
الجنازة في اللغة: مشتقة من الجنز وهو الستر
(1)
، و (الجِنازة بالكسر: السرير
(2)
، والجَنازة بالفتح: الميّت)
(3)
، وقيل:(الجنازة بالكسر والفتح: الميت بسريره)
(4)
.
والمقصود بصلاة الجنازة: الدعاء للميت على صفة مخصوصة، مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم
(5)
، وفي صلاة الجنازة تكبيرات، وقراءة، ودعوات، وليس فيها ركوع ولا سجود.
وهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
1.
…
(التكبيرات الأربع أركان لا تصح هذه الصلاة إلا بهن وهذا مجمع عليه)
(6)
.
(1)
انظر: جمهرة اللغة (1/ 472)، مقاييس اللغة (1/ 485)، وقال الأزهري في الزاهر ص (89):(وقد جنز الميت تجنيزاً إذا هيئ أمره وجهز، وشد على السرير، وأصل التجنيز تهيئة الميت وتكفينه وشده على السرير).
(2)
قال الأزهري في الزاهر ص (89): (ولا يسمى جنازة حتى يشد الميت مكفنا عليه) انتهى، وإلا فهو نعش أو سرير.
(3)
تهذيب اللغة (10/ 329)، وانظر: لسان العرب (5/ 324).
(4)
النهاية لابن الأثير (15/ 73).
(5)
انظر: التعريفات الفقهية للبركتي ص (130).
(6)
المجموع (5/ 230)، وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (13/ 211):(لا خلاف بين الفقهاء في أن تكبيرات الجنازة أركان لا تصح صلاة الجنازة إلا بها)، وجاء فيها:(24/ 71): (لا خلاف بين الفقهاء في أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات لا يجوز النقص منها)، وقد تُعقب النووي على دعوى الإجماع هنا، ففي النجم الوهاج (3/ 43):(قال في "شرح المهذب": وهي أركان بلا خلاف. وكأنه لم ير ما في "اللباب" و "الرونق" أن الفرض تكبيرة الإحرام، والثلاث سنة) انتهى، لكن الأربع هي ما استقرت عليه المذاهب وماذهب إليه أكثر العلماء، وبعضهم يثبت الثلاث تكبيرات وهي أقل ماقيل وورد، كما في النقلين الآتيين عن ابن حزم وابن عبد البر، ومنهم من يحمل الثلاث على ماسوى تكبيرة الإحرام.
2.
وقال ابن حزم: (لم نجد عن أحد من الأئمة تكبيراً أكثر من سبع، ولا أقل من ثلاث)
(1)
.
3.
وقال ابن عبدالبر: (وذكرنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في التكبير على الجنائز من سبع إلى ثلاث، وقد روي عن بعضهم تسع تكبيرات، ثم انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع)
(2)
، وذهب بعض المعاصرين إلى مشروعية الزيادة على أربع تكبيرات، و قد حُكم على هذا القول بالشذوذ، وهذا هو الرأي المراد بحثه، وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
(1)
المحلى (3/ 351)، وقال:(وأما ما دون الثلاث وفوق السبع فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا علمنا أحداً قال به فهو تكلف)، وقال ابن بطال في شرح البخاري (3/ 341):(اختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع)، وقال القاضي عياض في إكمال المعلم (3/ 416):(واختلف السلف من الصحابة فى ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع)، وقال ابن قدامة في المغني (2/ 383):(لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا أنقص، من أربع، والأولى أربع لا يزاد عليها).
(2)
الاستذكار (3/ 31)، في رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار ص (323):(ويمكن الجمع بأن الزيادة تخص البدري والهاشمي، والثلاث غير تكبيرة الإحرام).
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
أبرز من قال بهذا الرأي من المعاصرين:
الألباني (ت 1420)
(1)
، وابن عثيمين (1421)
(2)
، وابن جبرين (ت 1430)
(3)
، ومحمد بن علي الإثيوبي
(4)
.
(1)
قال في أحكام الجنائز ص (111): (ويكبر عليها أربعاً أو خمساً، إلى تسع تكبيرات، كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فأيها فعل أجزأه، والأولى التنويع، فيفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما هو الشأن في أمثاله مثل أدعية الاستفتاح وصيغ التشهد والصلوات الإبراهيمية ونحوها، وإن كان لابد من التزام نوع واحد منها فهو الأربع؛ لأن الأحاديث فيها أكثر).
(2)
قال في الشرح الممتع (5/ 339): (وقوله: «أربعٌ» أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد. لكن الثابت في صحيح مسلم إلى خمس
…
ولهذا ينبغي للأئمة أحياناً أن يكبروا على الجنازة خمس مرات إحياءً للسنة)، وفي فتاويه (17/ 134):(تكبيرات الجنازة تكون أربعاً وتكون خمساً، وقد وردت أحاديث أوصلتها إلى السبع، لكن الثابت في صحيح مسلم إلى الخمس فيكبر أربعاً، أو خمساً، والذي ينبغي أن يكبر الإنسان في أكثر أحيانه أربعاً).
(3)
قال في الدرر المبتكرات شرح أخصر المختصرات (1/ 443): (التكبير على الجنائز أربع تكبيرات، ولكن قد يجوز عند المناسبة الزيادة عليها، فقد روي التكبير خمساً وروي ستاً وأكثر ماروي سبعاً).
(4)
قال في ذخيرة العقبى (19/ 301): (الأولى أن يكبّر أربعًا، فلو بلغ خمسًا، فلا بأس، لصحة الحديث بذلك).
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:
1/ مخالفة الإجماع المحكي، وسيأتي توثيقه في المطلب الرابع.
2/ النص على شذوذه، وقد نص على شذوذه:
- ابن بطال (449) بقوله: (واختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع، وما سوى الأربع شذوذ لا يلتفت إليه
…
فيحتمل أن يكون ما روى عن الصحابة من خلاف فى ذلك كان قبل اجتماع الناس على أربع، وحديث النجاشى أصح ما روى فى ذلك. وقد صلى أبو بكر الصديق على النبى صلى الله عليه وسلم فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن عليّ علَى عليّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه)
(1)
.
- وابن عبدالبر (ت 463) بقوله: (اختلف السلف في عدد التكبير على الجنازة ثم اتفقوا على أربع تكبيرات وما خالف ذلك شذوذ يشبه البدعة والحدث)
(2)
، وقوله: (اتفق الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار على أن التكبير على الجنائز أربع لا زيادة على ما جاء في الآثار المسندة من نقل الآحاد الثقات، وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه اليوم ولا يعرج عليه؛ فإذا كان السلف في مسألة على
(1)
شرح صحيح البخاري (3/ 314).
(2)
التمهيد (6/ 334).
قولين أو أكثر ثم أجمع أهل عصر في آفاق المسلمين بعدهم على قول من أقاويلهم وجب الاحتمال عليه والوقوف عنده والرجوع إليه، وهذه مسألة من مسائل الأصول)
(1)
.
- وقال ابن العربي (ت 543) -في متابعة الإمام على الزيادة عن أربع تكبيرات-: (قال أحمد وأهل الحديث: إنه يكبر معه خمساً وسبعاً إن كبّر، لقوله: «لا تختلفوا عليه»، ولقوله: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا»، وهذه من المحدِّثة وَهلَةٌ لا مردَّ لها)
(2)
، ولو لم تكن التكبيرات الزائدة على أربع عندهم جائزة ومن الصلاة، لم يجوزوا متابعة الإمام في غير الجائز والزيادة التي ليست من الصلاة.
(1)
الاستذكار (3/ 30).
(2)
المسالك شرح موطأ مالك (3/ 528).
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بعدم جواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أ/ حديث أبي هريرة رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات»
(1)
، وحديث جابر رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً»
(2)
، وحديث الشيباني عن الشعبي قال: أخبرني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم: «أتى على قبرٍ منبوذ
(3)
، فصفهم، وكبر أربعاً»، قلت: من حدثك، قال: ابن عباس رضي الله عنهما
(4)
.
ب/ قول أنس رضي الله عنه: (كبرت الملائكة على آدم أربعاً، وكبر أبو بكر
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1333)، ومسلم (951).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1334)، ومسلم (952)، وترجم عليهما البخاري:(باب التكبير على الجنازة أربعاً).
(3)
قال ابن الجوزي في كشف المشكل (2/ 373): (المنبوذ هاهنا: المفرد عن القبور. وقد رواه قوم: «على قبرِ منبوذ» بكسر الراء مع الإضافة، وفسروه باللقيط وهذا ليس بشيء؛ لأن في بعض الألفاظ:«أتى قبراً منبوذاً» .
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري (1319) واللفظ له، ومسلم (954)، وأشار مسلم إلى إعلال ذكر التربيع في حديث ابن عباس هذا حيث روى التربيع من طريق عبدالله بن إدريس عن الشيباني به، ثم روى الحديث من طريق هشيم، وعبدالواحد بن زياد، وجرير بن عبدالحميد، وسفيان، ومعاذ العنبري، وشعبة بن الحجاج وقال:(كل هؤلاء، عن الشيباني، عن الشعبي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وليس في حديث أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم «كبر عليه أربعاً»، ثم ذكر متابعة عالية فرواه من طريق إسماعيل بن أبي خالد وأبي حصين كلاهما عن الشعبي وقال: (نحو حديث الشيباني، ليس في حديثهم: «وكبر أربعاً»، وربما كان في ترك البخاري إيراد هذه االزيادة في: (باب التكبير على الجنازة أربعاً) إشارة إلى الاختلاف، والله أعلم.
على النبي أربعاً، وكبر عمر على أبي بكر أربعاً، وكبر صهيب على عمر أربعاً، وكبر الحسن على علي أربعاً، وكبر الحسين على الحسن أربعاً)
(1)
(2)
.
ج/ وقال عمر رضي الله عنه: (كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً، فاجتمعنا على أربع في التكبير على الجنازة)
(3)
، وفي لفظ: (كل ذلك قد كنا نفعل نكبر أربعاً وخمساً،
(1)
أخرجه الدارقطني (1816)، والحاكم (1423)، من طريق الهيثم بن جميل، ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس به، قال الدارقطني:(محمد بن الوليد هذا ضعيف)، ومحمد بن الوليد هو الراوي عن الهيثم عند الدارقطني، ولم يروه الحاكم من طريقه، ولذلك قال الحاكم بعده:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، والمبارك بن فضالة من أهل الزهد والعلم بحيث لا يجرح مثله، إلا أن الشيخين لم يخرجاه لسوء حفظه، ولهذا الحديث شاهد) انتهى، والشاهد الذي ذكره هو حديث ابن عباس الآتي، وتعقبه الذهبي بقوله:(مبارك ليس بحجة)، وقال ابن حجر في التلخيص (2/ 284) عن حديث أنس:(وفيه موضعان منكران)، فذكرهما ثم قال:(وروي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة).
(2)
أخرجه الدارقطني (1818)، والحاكم (1424) وغيرهما، من طريق الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس به، قال الدارقطني:(فرات بن السائب متروك الحديث)، وقال الحاكم:(لست ممن يخفى عليه أن الفرات بن السائب ليس من شرط هذا الكتاب، وإنما أخرجته شاهداً)، وقال البيهقي في الكبرى (4/ 62):(وقد روي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة، إلا أن اجتماع أكثر الصحابة رضي الله عنهم على الأربع كالدليل على ذلك).
(3)
أخرجه البغوي في "الجعديات"(95)، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (3/ 384)، والبيهقي في الكبرى (6946) من طريق علي بن الجعد قال: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت سعيد بن المسيب، يحدث عن عمر به، وإسناده صحيح، أما قول ابن حزم في المحلى (3/ 384):(وعلي بن الجعد ليس بالقوي، وسعيد لم يحفظ من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن على المنبر فقط، فكل ذلك منقطع أو ضعيف)، أما قوله في ابن الجعد فإن قصد الحفظ فليس بسديد، وهو من رجال البخاري لكن عنده بدعة وليس في الأثر مايؤيد بدعته، وقد قال الذهبي عنه في "من تكلم فيه وهو موثق" ص (139):(شيخ البخاري حافظ ثبت لكنه فيه بدعة وتجهم)، وقد تابعه أبوعمر الحوضي كما في الرواية الآتية، وأما انقطاعه بين سعيد وعمر فإن سعيداً له اختصاص بعمر رضي الله عنه، لقيه صغيراً وسمع منه يسيراً، وحديثه عنه مقبول، بل (كان يسمى راوية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته) قاله يحيى بن سعيد كما في تهذيب الكمال (11/ 74)، وقال أبو طالب:(قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيب؟ فقال ومن كان مثل سعيد بن المسيب؟ ثقة من أهل الخير، قلت سعيد عن عمر حجة قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟) كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 61).
فأمر الناس بأربع على الجنازة)
(1)
، وعن أبي وائل قال:(كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وخمساً وستاً -أو قال: أربعاً - فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر كل رجل بما رأى، فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة)
(2)
، وجاء عن إبراهيم النخعي: (قدم رجل من أصحاب معاذ، فكبر على جنازة خمساً، فعجب منه أصحاب عبد الله، فقال عبد الله: كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً،
(1)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (5/ 430) قال: حدثنا يحيى، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر به، قال ابن حجر في الفتح (3/ 202):(بإسناد صحيح)، ولسعيد متابعة كما في الأثر الآتي عن أبي وائل شقيق بن سلمة وهو من كبار التابعين.
(2)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (5/ 430)، والبيهقي في الكبرى (6947) من طريق سفيان، قال حدثني عامر بن شقيق الأسدي، عن أبي وائل به، قال ابن حزم في المحلى (3/ 347):(الخبر لا يصح؛ لأنه عن عامر بن شقيق وهو ضعيف)، قلت: عامر حديثه مما يحتمل التحسين، ولذلك قال ابن حجر في الفتح (3/ 202):(روى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وستاً وخمساً وأربعاً، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة).
فاجتمعنا على أربع)
(1)
.
وجه الاستدلال:
- أن هذه الأدلة فيها دلالة على أن المشروع في التكبير على الجنائز هو أربع تكبيرات، وأن (السنة التي هي أظهر من شمس النهار المروية من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعاً
…
فالذي ينبغي الاعتماد على ما هو الأعم الأغلب مما ثبت عنه ولا سيما بعد إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه)
(2)
.
- و لذلك (مرجحات أربعة: الأول: أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى منهم الخمس. الثاني: أنها في الصحيحين. الثالث: أنه أجمع على العمل بها الصحابة كما تقدم، الرابع: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كما أخرج الحاكم من حديث ابن عباس)
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال:
- بأنه (لا شك أن الأربع أقوى وأصح من حيث الدليل)
(4)
، لكن
(1)
أخرجه البغوي في الجعديات (634)، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (3/ 384) حدثنا علي، أنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم به، قال ابن حزم:(إبراهيم لم يدرك ابن مسعود)، قلت: وهذا مما يحتمل خاصة وأنه يروي هنا عن أصحاب ابن مسعود: (فعجب منه أصحاب عبدالله)، ولكن رواية مغيرة عن إبراهيم إذا لم يصرح بالتحديث فيها خلاف. انظر: تهذيب الكمال (28/ 399)، وقد أخرج الأثر أيضاً ابن أبي شيبة (11436) قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، قال:(كنا نكبر على الميت خمسا وستا، ثم اجتمعنا على أربع تكبيرات) وعلته كسابقه، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضاً (11425)، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: سئل عبد الله عن التكبير على الجنائز فقال: (كل ذلك قد صنع ورأيت الناس قد أجمعوا على أربع) وإسناده صحيح ويبقى الإنقطاع اليسير بين إبراهيم وابن مسعود، والأصح عن ابن مسعود هو تجويز الزيادة وسيأتي.
(2)
السيل الجرار ص (217).
(3)
نيل الأوطار (4/ 72).
(4)
عون المعبود (8/ 349).
الزيادة واردة أيضاً في المرفوع والموقوف
(1)
، (فلا موجب للمنع منها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابه من بعده)
(2)
.
- قال البرهان ابن مفلح: (ويمكن الجمع بينهما، فإن المداومة على أربع تدل على الفضيلة، وغيرها يدل على الجواز)
(3)
.
- وعليه يحمل ما جاء من الاجتماع في عهد عمر رضي الله عنه ولذلك فإن ابن مسعود -إن صح ماورد عنه هنا عن النخعي- فإن (صاحب معاذ المذكور كبر خمساً، ولم ينكر ذلك عليه ابن مسعود)
(4)
، وجاء عن (زيد بن أرقم أنه كبر بعد عمر خمساً)
(5)
.
- أما المرجحات الأربعة فـ (يجاب عن الأول من هذه المرجحات والثاني منها: بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض، ولا تعارض بين الأربع والخمس؛ لأن الخمس مشتملة على زيادة غير معارضة. وعن الرابع: بأنه لم يثبت، ولو ثبت لكان غير رافع للنزاع؛ لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه، وغاية ما فيه جواز الأمرين، نعم المرجح الثالث، أعني: إجماع الصحابة على الأربع هو الذي يعول عليه في مثل هذا المقام إن صح)
(6)
، ودليل الإجماع وتحريره هو دليلهم الثاني الآتي.
2/ الدليل الثاني هو: الإجماع.
وقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من العلماء:
6.
قال الطحاوي (321): (فهذا عمر رضي الله عنه قد ردّ الأمر في ذلك إلى
(1)
كما سيأتي في أدلة القول الآخر.
(2)
زاد المعاد (1/ 489).
(3)
المبدع (2/ 258).
(4)
المحلى (3/ 349).
(5)
المرجع السابق.
(6)
نيل الأوطار (4/ 73).
أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
كما أجمعوا عليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في التوقيت على حد الخمر، وترك بيع أمهات الأولاد، فكان إجماعهم على ما قد أجمعوا عليه من ذلك حجة، وإن كانوا قد فعلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه. فكذلك ما أجمعوا عليه من عدد التكبير بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة فهو حجة وإن كانوا قد علموا من النبي صلى الله عليه وسلم خلافه. وما فعلوا من ذلك، وأجمعوا عليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو ناسخ لما قد كان فعله النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
7.
قال ابن بطال (ت 449): (صلى أبو بكر الصديق على النبى صلى الله عليه وسلم فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن عليّ علَى عليّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه)
(2)
.
8.
وقال الماوردي (ت 450): (الأربع أصحها وأولاها
…
عمل الصحابة رضي الله عنهم له وانعقاد إجماعهم عليه
…
فكان انعقاد الإجماع مزيلاً لحكم ما تقدم من الخلاف، وكان أبو العباس بن سريج يجعل ذلك من الاختلاف المباح، وليس بعضه بأولى من بعض، وهذا قريب من مذهب ابن مسعود، وما ذكرنا من انعقاد الإجماع يبطل هذا المذهب)
(3)
.
(1)
شرح معاني الآثار (1/ 495).
(2)
شرح صحيح البخاري (3/ 314).
(3)
الحاوي الكبير (3/ 53 - 55).
9.
وقال ابن عبدالبر (ت 463): (لا نعلم من فقهاء الأمصار أحداً قال يكبر الإمام خمساً إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: يكبر الإمام خمساً
…
وهو قول زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وعلي بن أبي طالب، إلا أن علياً كان يكبر على أهل بدر ستاً وربما كبر خمساً ويكبر على سائر الناس أربعاً
…
ثم انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع)
(1)
، وقال:(اختلف السلف في عدد التكبير على الجنازة ثم اتفقوا على أربع تكبيرات)
(2)
، وقال:(ما ذكرنا من إجماع الصحابة واتفاقهم على الأربع دون ما سواها، والتكبير على الجنائز أربع هو قول عامة الفقهاء إلا ابن أبي ليلى وحده فإنه قال خمساً ولا أعلم له في ذلك سلفا إلا زيد بن أرقم، وقد اختلف عنه في ذلك وحذيفة وأبو ذر وفي الإسناد عنهما من لا يحتج به)
(3)
.
10.
وقال الباجي (ت 474): (الإجماع قد انعقد على بطلان الخامسة)
(4)
، وقال:(التكبيرات الأربع هي أركان صلاة الجنازة كركعات الصلاة، وبها شبهها عمر بن الخطاب حين أجمعوا على أنها أربع تكبيرات)
(5)
.
11.
و قال السمرقندي (ت 540): (هذا الذي ذكرناه قول عامة العلماء
(1)
الاستذكار (3/ 31).
(2)
التمهيد (6/ 334).
(3)
المرجع السابق (6/ 336)، على أن ابن عبدالبر في آخر كلامه على المسألة في التمهيد (6/ 340)، ذكر أن التكبيرات الأربع من العمل المستفيض وعليها الجمهور وهم الحجة، فلم يثبته إجماعاً، وكلام ابن عبدالبر عن الاحتجاج بالجمهور نبهت عليه في المبحث السابع من كتاب الطهارة، وذكرت أمثلة عليه.
(4)
المنتقى (2/ 12).
(5)
المرجع السابق (2/ 15).
وعليه الإجماع، فإنه روي عن عبد الله بن مسعودأنه قال: كل ذلك قد كان -حين سُئل عن تكبيرات الجنازة- لكن رأيت الناس أجمعوا على أربع تكبيرات)
(1)
.
12.
وقال الكاساني (ت 587): (ثم يكبر أربع تكبيرات وكان ابن أبي ليلى يقول: خمس تكبيرات وهو رواية عن أبي يوسف، وقد اختلفت الروايات في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي عنه الخمس والسبع والتسع، وأكثر من ذلك إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات
…
فاتفقوا على ذلك فكان هذا دليلا على كون التكبيرات في صلاة الجنازة أربعا؛ لأنهم أجمعوا عليها حتى قال عبد الله بن مسعود حين سئل عن تكبيرات الجنازة: كل ذلك قد كان، ولكني رأيت الناس أجمعوا على أربع تكبيرات، والإجماع حجة)
(2)
.
13.
وقال محمود البخاري (ت 616): (ما زاد على الأربع صار منسوخاً بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا متابعة في المنسوخ)
(3)
.
14.
وقال النووي (ت 676): (كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس أم أربع أم غير ذلك، ثم انقرض ذلك الخلاف وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات، بلا زيادة ولا نقص)
(4)
.
15.
وقال قاضي صفد محمد بن عبدالرحمن الدمشقي (ت بعد 780 هـ): (وتكبيرات الجنازة أربع بالاتفاق، ويحكى عن ابن سيرين ثلاث،
(1)
تحفة الفقهاء (1/ 249).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 312 - 313).
(3)
المحيط البرهاني (2/ 179).
(4)
المجموع (5/ 230).
وعن حذيفة بن اليمان خمس)
(1)
.
16.
وقال العيني (ت 855): (روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: "جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقالوا: كبَّر النبي عليه السلام سبعًا وخمسًا وأربعًا، فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة"، فهذا إجماع فلا يجوز خلافه، والله تعالى أعلم بالصواب)
(2)
.
ونوقش هذا الاستدلال بالإجماع:
- بعدم التسليم، فالاختلاف في عدد التكبير ثابت عن السلف، قال ابن تيمية:(تارة يكبرون على الجنازة أربعاً، وتارة خمساً، وتارة سبعاً، كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة)
(3)
.
- فالصحابة كما قال العيني: (كبروا أكثر من أربع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون إجماعاً؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (88).
(2)
نخب الأفكار (15/ 550)، وقد اعترض على الإجماع في كتابه البناية، والظاهر أن النخب تأليفه متقدم على البناية.
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 197).
(4)
البناية شرح الهداية (3/ 221)، العيني نقل الإجماع في النخب واعترض عليه في البناية، وله جواب عن بعض الاعتراض في عمدة القاري (8/ 117) حين قال:(فإن قلت: كيف ثبت النسخ بالإجماع؟ لأن الإجماع لا يكون إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأوان النسخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم للاتفاق على أن لا نسخ بعده؟ قلت: قد جوز ذلك بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النص به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النسخ يجوز بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى، على أن ذلك الإجماع منهم إنما كان على ما استقر عليه آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد رفع كل ما كان قبله مما يخالفه، فصار الإجماع مظهراً لما قد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فافهم).
- وقال ابن حزم: (أُفٍّ لكل إجماع يخرج عنه: علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك، وابن عباس، والصحابة بالشام رضي الله عنهم، ثم التابعون بالشام، وابن سيرين وجابر بن زيد وغيرهم بأسانيد في غاية الصحة، ويدعي الإجماع بخلاف هؤلاء
…
فمن أخسر صفقة ممن يدخل في عقله أن إجماعاً عرفه: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وخفي علمه على: علي، وابن مسعود، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وابن عباس، حتى خالفوا الإجماع؟ حاشا لله من هذا؟
- ولا متعلق لهم بما رويناه من أن عمر كبر أربعاً، وعلياً كبر على ابن المكفف أربعاً، وزيد بن ثابت كبر على أمه أربعاً، وعبد الله بن أبي أوفى كبر على ابنته أربعاً، وزيد بن أرقم كبر أربعاً، وأنساً كبر أربعاً: فكل هذا حق وصواب، وليس من هؤلاء أحد صح عنه إنكار تكبير خمس أصلاً، وحتى لو وجد لكان معارضاً له قول من أجازها، ووجب الرجوع حينئذ إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه عند التنازع، من القرآن والسنة، وقد صح أنه عليه السلام كبر خمساً وأربعاً، فلا يجوز ترك أحد عمليه للآخر)
(1)
.
المسألة الثانية: أدلة القائلين بجواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازة خمساً، فسألته فقال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها»
(2)
، وحديث الشعبي قال: حدثني عبد الله بن معقل، أن
(1)
المحلى (3/ 350 - 351).
(2)
أخرجه مسلم (957).
علياً، صلى على سهل بن حنيف فكبّر عليه ستاً، ثم التفت إلينا فقال:(إنه بدري)، قال الشعبي: وقدم علقمة من الشام، فقال لابن مسعود: إن إخوتك بالشام يكبرون على جنائزهم خمساً، فلو وقّتم لنا وقتاً نتابعكم عليه، فأطرق عبد الله ساعة ثم قال:(انظروا جنائزكم فكبروا عليها ما كبر أئمتكم، لا وقت ولا عدد)
(1)
، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه:(كان يكبر على أهل بدر ستاً، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً)
(2)
، وغيرها من الآثار.
ونوقش هذا الاستدلال:
- أما الحديث المرفوع فقد قال النووي: (هذا الحديث عند العلماء منسوخ، دل الإجماع على نسخه
(3)
، وقد سبق أن ابن عبد البر وغيره نقلوا الإجماع على أنه لا يكبر اليوم إلا أربعا وهذا دليل
(1)
أخرجه بهذا التمام عبدالرزاق في مصنفه (6403)، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (3/ 349) عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به، وإسناده صحيح بل قال ابن حزم:(في غاية الصحة)، وأخرجه مختصراً ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مختصراً أيضاً الإمام البخاري في صحيحه (4004) دون ذكر العدد ولفظه: أن علياً رضي الله عنه، كبّر على سهل بن حنيف فقال:(إنه شهد بدراً)، واحتج بالوارد عن ابن مسعود الإمام أحمد كما ذكر ابنه عبدالله في مسائله ص (139):(قال: سمعت أبي سئل عن الصلاة على الجنازة كم يكبر؟ فقال ابن مسعود: كبر ما كبر إمامك).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (11454)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2851)، والدارقطني (1823)، والبيهقي في الكبرى (6944) وغيرهم من طريق حفص بن غياث، عن عبد الملك بن سلع الهمداني، عن عبد خير، قال:(كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه صلى الله عليه وسلم خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً)، قال العيني في نخب الأفكار (7/ 359)(بإسناد صحيح)، وفي عبدالملك بن سلع كلام يسير، ولم أقف على من أعل الأثر وقد سكت عنه الطحاوي والبيهقي وابن حجر في الفتح (3/ 202).
(3)
قال المرداوي في التحبير شرح التحرير (6/ 3063): (في الحقيقة حيث وجد إجماع على خلاف نص فيكون قد تضمن ناسخاً لا أنه هو الناسخ).
على أنهم أجمعوا بعد زيد بن أرقم والأصح أن الإجماع بعد الخلاف يصح)
(1)
.
- قال المازري: (وهذا المذهب الآن متروك لأن ذلك صار علماً على القول بالرفض)
(2)
، يعني: الخمس تكبيرات
(3)
.
وأجيب عن المناقشة:
- أما الإجماع فقد سبق الجواب عنه، وأما النسخ ففعل زيد وعلي وابن مسعود متأخر و (ابن مسعود مات في حياة عثمان رضي الله عنهما، فإنما ذكر له علقمة ما ذكر عن الصحابة رضي الله عنهم الذين بالشام)
(4)
فكيف يكون منسوخاً؟!
- قال ابن سيد الناس: (فقهاء الحجاز والعراق الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى يتشددون في الزيادة على أربع تكبيرات على الجنائز ويأبون من ذلك، وهذا لا وجه له؛ لأن السلف كبروا سبعًا وثمانيًا وستًّا وخمسًا وأربعًا وثلاثًا، وقال ابن مسعود: كبر ما كبر إمامك، وبه قال أحمد بن حنبل
…
، وكل ما وصفت لك قد نقلته الكافة من الخلف عن السلف، ونقله التابعون عن السابقين نقلًا لا يدخله غلط ولا نسيان؛ لأنها أشياء ظاهرة معمول بها في بلدان الإسلام زمنًا بعد زمن، يعرف ذلك علماؤهم وعوامهم من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرًّا، فدل على أن ذلك مباح كله وسعة ورحمة)
(5)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (7/ 26)، وانظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص (268).
(2)
المعلم بفوائد مسلم (1/ 488).
(3)
قال ابن العربي في المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 528): (والشيعة تكبر على الجنازة خمساً).
(4)
المحلى (3/ 349).
(5)
النفح الشذي (4/ 516).
المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته فالذي يظهر أن نسبة القول بجواز الزيادة على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة إلى الشذوذ غير صحيحة؛ لأنه لم يخالف إجماعاً صحيحاً، ولم يعارض نصّاً في المسألة، وهو فعل دائر بين فاضل و مفضول، وقد ثبت عن السلف أنهم (تارة يكبرون على الجنازة أربعاً وتارة خمساً وتارة سبعاً، كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة
…
فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزاً. وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة كما يكون ترك الراجح أرجح أحياناً لمصلحة راجحة)
(1)
، (ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور: التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع. وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه)
(2)
.
قال الإمام أحمد: (صلى علي رضي الله عنه على جنارة أبي قتادة فكبر عليها سبعاً، وهو أكثر ما جاء فيه من التكبير على الجنارة فلا يزاد على السبع)
(3)
، وقد سبق أن الأصح والأكثر هو الأربع، (وما جمع عمر عليه الناس أصح وأثبت، مع صحة السنن فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر أربعاً، وهو العمل المستفيض بالمدينة، ومثل هذا يحتج فيه بالعمل؛ لأنه قلّ يوم أو جمعة إلا وفيه جنازة، وعليه الجمهور)
(4)
، فـ (الأربع أولى؛ لاستقرار الأمر عليها)
(5)
، (والنجاشي مع كونه له مزية كبيرة اقتصر عليه
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 197 - 198).
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 70).
(3)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبدالله ص (139).
(4)
التمهيد (6/ 340).
(5)
العزيز شرح الوجيز (2/ 435)، تنبيه علي رضي الله عنه على أنه بدري حين زاد دليل على استقرار الأمر على أربع؛ لأنه لو كان معروفاً عندهم لم ينبه عليه، ولما كبر زيد رضي الله عنه خمساً سئل عن هذه الزائدة؛ لأن المعروف عندهم أربع.
الصلاة والسلام في التكبير عليه بأربع)
(1)
.
ولايبعد أن تكون الزيادة خاصة بأهل بدر
(2)
، أو يمكن أن تكون خاصة بأهل الفضل، قال ابن حجر:(روى سعيد بن منصور من طريق الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً وستاً وسبعاً)
(3)
، وقال:(وقول علي رضي الله عنه: "لقد شهد بدراً" يشير إلى أن لمن شهدها فضلاً على غيرهم في كل شيء، حتى في تكبيرات الجنازة، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عندهم أن التكبير أربع، وهو قول أكثر الصحابة)
(4)
، وقال الشوكاني:(في فعل علي دليل على استحباب تخصيص من له فضيلة، بإكثار التكبير عليه)
(5)
، والله أعلم.
(1)
فتاوى ابن باز (13/ 148).
(2)
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 500): (ما زاد على التكبيرات الأربع، فإنما كان لمعنى خاص، خص به بعض الموتى، ممن ذكرنا، من أهل بدر، على سائر الناس. فثبت بما ذكرنا أن التكبير على الجنازة أربعاً على الناس جميعاً، من بعد أهل بدر إلى يوم القيامة).
(3)
التلخيص الحبير (2/ 284).
(4)
فتح الباري (7/ 318).
(5)
نيل الأوطار (4/ 74).
(وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحداً بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه).
ابن تيمية رحمه الله
مجموع الفتاوى (11/ 512)