الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة فضيلة الشيخ المحدِّث الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي حفطه الله ورعاه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وآله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن كتاب "الأبواب والتراجم للجامع الصحيح للبخاري"، تأليف شيخنا الإمام الحافظ شيخ الحديث والمحدثين، العلامة محمد زكريا الكاندهلوي المدني (المتوفى سنة 1402 هـ بالمدينة المنورة - على صاحبها ألف ألف صلاة وسلام -) هو كتاب جامع للنفائس العلمية، والمباحث اللطيفة، والتحقيقات العجيبة، لبيان أسرار الأبواب والتراجم للجامع الصحيح للإمام البخاري، بيَّن فيه الربط بين الحديث الوارد في الباب والآثار الواردة في الأبواب وبين الترجمة.
ولا شك أن "الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز، وقام أعيان العلماء والمحدِّثون في كل عصر إلى اليوم بشرحه والتعليق عليه، وشرح تراجمه، وبيان أسراره وفوائده، ولطائفه، حديثًا وفقهًا وعربيةً وبلاغة وما إلى ذلك، ولم تعتن الأمة الإسلامية بعد الاعتناء بكتاب الله العزيز الحكيم مثل الاعتناء بـ "صحيح البخاري"، فبلغوا غاية الجهد في إبراز علومه ومعانيه من خزائنه.
قال سماحة الشيخ العلامة أبي الحسن الندوي في "مقدمة لامع الدراري": "لا نعلم كتابًا من كتاب البشر في المكتبة الإسلامية العالمية، تناوله العلماء والمؤلفون بالشرح والتحشية والتعليق مثل ما تناولوا هذا الكتاب".
وقد ذكر الشيخ عصام الحسيني ما تيسَّر به من الشروح والتعليقات على "صحيح البخاري"، فعدد ما بلغ (375) مؤلَّفًا في كتاب له بعنوان "إتحاف القاري بمعرفة جهود العلماء على صحيح البخاري"
(1)
، ربما يكون عددها أكثر من هذا، وفي الزوايا خفايا لم تقع عليها عين ولم تطلع عليها شمس.
ولا شك أنَّ لكل تأليف في الصِّحاح الستّة من المزايا والخصائص، ولكن كتاب الإمام البخاري "الجامع الصحيح" لا يلحقه غيره كائنًا من كان من أصحاب الأمهات.
قال العلَّامة ابن خلدون (المتوفى سنة 808 هـ) في "مقدمة تاريخه"، (ص 254):"قد سمعت كثيرًا من شيوخنا يقولون: (شرح كتاب البخاري دَين على علماء الأمة)، يعنون أن أحدًا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له بهذا الاعتبار".
وادَّعى الإمام السخاوي في "الضوء اللامع" أنَّ شيخَنا شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 هـ) قد قضى هذا الدَّين بتأليف كتاب "فتح الباري".
وأما تراجم "صحيح البخاري" فأودع فيها الإمام البخاري من الأسرار والمعاني ما حُيِّرت به الأفكار وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه المرتبة وفازت بهذه الحظوة لسبب عظيم أوجب عظمها أن الإمام البخاري حوَّل تراجم جامعه يعني بيَّضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين
(2)
.
(1)
طبع الكتاب في سنة 1407 هـ في بيروت.
(2)
انظر: مقدمة "فتح الباري"(ص 13).
ولأهمية هذه التراجم في "صحيح البخاري" وصعوبة فهمها، اعتنى شرَّاح البخاري بشرحها في مؤلفاتهم قديمًا وحديثًا، وقام بعض أجلَّة المحدِّثين وفحول العلماء بتأليف مؤلَّفات لبيان مقاصد التراجم
(1)
، ولكن لم يكن منها كتاب شامل لجميع الأبواب والتراجم.
وذكر العلَّامة محمد يوسف البنوري في تقديم "لامع الدراري": كان شيخنا - هو العلامة المحدِّث محمد أنور الكشميري - يقول: إن دَيْن التراجم لا يزال باقيًا على رقاب الأمة لم يقضه أحد إلى اليوم، وكنت قديمًا أقول: إن كتاب "شرح الأبواب والتراجم" لشيخ الهند لو تم لقضي هذا الدَّين، ولكنه للأسف لم يتم.
وكانت الحاجة ماسَّة إلى تأليفٍ أكملَ وأشملَ وأجمع، يفي بالهدف المطلوب لأداء دَيْن شرح التراجم الباقي على علماء هذه الأمة.
فالله سبحانه وتعالى وفَّق شيخنا الإمام المحدِّث محمد زكريا الكاندهلوي لهذا العمل الجليل، فألَّف كتابًا لبيان هذه التراجم وتحقيق مزاياها، وبيان ما وهبه سبحانه من العلوم والأسرار في هذا الصدد.
فقد فصل أصول التراجم في بداية الكتاب، واستفاد ما تبيَّن من كلام الشارحين المبعثر في الكتب من غير مظانِّها، وما وقف عليه من كلام مشايخه أو مشايخ مشايخه في الدروس، أو منَّ الله سبحانه على المؤلف، فشرح صدره لإبداعها، فبلغت أصول هذه التراجم إلى سبعين أصلًا، وقد استقصى هذه الأصول من الكتب المؤلفة في هذا الموضوع قديمًا وحديثًا، ومن شروح البخاري، وضمَّ إليها أصولًا جديدةً ألهمه الله إياها بطول ممارسته لهذا الفن الشريف، ومباشرته لتدريس هذا الكتاب الجليل مصداقًا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
(1)
وقد ذكر شيخنا الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي أسماء هذه المؤلَّفات في مقدمة هذا الكتاب.
ثم تصدَّى لشرح أبواب الكتاب وتراجمه بابًا بابًا، وترجمةً ترجمةً، ما ترك بابًا ولا أثرًا إلا تكلَّم عليه، وذكر غرض الباب ومناسبة الأثر بالترجمة، فأصبح هذا الكتاب موسوعة في ما يتصل بالأبواب والتراجم في "الجامع الصحيح".
لذا قال العلامة محمد يوسف البنوري في تقديم "لامع الدراري": إن هذه السعادة الأزلية كانت مقضية بأن يقوم الشيخ محمد زكريا، ويقضي هذا الدَّين، فأرجو أن يكون هذا الدَّيْن قد قُضي بخدمته لشرح "الأبواب والتراجم" إن شاء الله تعالى.
ولما اشتغلت بخدمة حاشية الإمام المحدِّث أحمد علي السهارنفوري مع المقارنة بعشر نسخ خطية، منها نسخة الصَّغاني (المتوفى 650 هـ)، أردت أن أُدخل هذه الدُّرر والغُرر من "الأبواب والتراجم" لشيخنا في ثنايا شرح الأبواب، ولكني كنت خائفًا أن يثقل هذا الكتاب، وربما يقع الخلل في حاشية الكتاب، فلهذا قررت أن يُنشر هذا الكتاب مستقلَّا بحاله، وكلَّفت لهذا العمل ولدي العزيز الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث وعلومه المشارك بكلية الدراسات الإسلامية بدبي، فبذل جهدًا كبيرًا في تحقيق وإخراج هذه الموسوعة العلمية الشاملة لشرح أبواب صحيح البخاري وتراجمه، وقام بهذا العمل الجليل تحت إشرافنا بالتعاون مع مركز الشيخ أبي الحسن الندوي للبحوث والدراسات الإسلامية.
وفي الختام، نسأل الله أن يتقبل منه ومن جميع من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وأن يجعل هذا الكتاب نبراسًا للباحثين والدارسين.
والله ولي التوفيق
الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي
مدينة العين
25/ 2/ 1432 هـ - 30/ 1/ 2011 م
مقدمة الكتاب بقلم فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء، لكنهو (الهند)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وتقريره مصدر ثان للشريعة الإسلامية بعد مصدرها الأول وهو كتاب الله العزيز والفرقان الحميد الذي هو وحي من الله متلو، وجاء على أثره الوحي غير المتلو الذي هو حديثُ آخِر رسل الله تعالى وأنبيائه محمد بن عبد الله الأمين، الذي أكمل الله عليه الدين، وأتم عليه نعمته التي ينال بها الإنسان خيري الدنيا والآخرة بالأخذ مما اشتمل عليه هذان المصدران للشريعة الإسلامية - كتاب الله تعالى، وحديث رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ويؤدي بذلك المسؤولية العظمى التي كلف الله تعالى بها الإنسان، وجعل فوزه وفلاحه تابعًا لأدائه الأمانة التي وضعها رب العالمين عِليه بقوله:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
وقد وعد الله تعالى بحفظ وحيه المتلو - القرآن المجيد - ليعرف الإنسان من كلامه الصراط المستقيم لحياته، وجعل المصدر الثاني - حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم معاونًا له، وأمر اللهُ تعالى العمل به أيضًا مثل عمله بكتابه العزيز.
ولأهمية هذا المصدر الثاني أيضًا جعل الله تعالى حفظه تابعًا لحفظ المصدر الأول، وهيأ لحفظه أيضًا أسبابًا قوية مع تهيئته أسباب الحفظ للمصدر الأول القرآن الكريم، فقد سخَّر الله تعالى لحفظ هذا المصدر الثاني - الحديث النبوي الشريف - رجالًا من الأمة الإسلامية كرَّسوا حياتهم لخدمة روايات الحديث الشريف تحقيقًا وتنقيحًا ليكون موثوقًا كاملًا، ومصدرًا واسعًا جامعًا لهذا الدين؛ فاهتم العلماء بخدمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم منذ وصوله إليهم، فجمعه الرواة الثقات في كتب من الصحاح عديدة، وكذلك قاموا بتنقيح رواياته وتحقيق متونه مهتمين بذلك اهتمامًا لا يوجد له نظير في أي دين أو أمة في التاريخ الإنساني.
وقد بلغ عمل تنقيح الروايات وتحقيق صحتها إلى أعلى مكانة الثقة والكمال في كتاب إمام المحدثين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي (194 هـ - 256 هـ) من بين كتب الحديث الصحاح الموثوق بها الأخرى.
ولا شك أن لكل تأليف في الصحاح الست من المزايا والخصائص ما تستحق كل تقدير، ولكن كتاب الإمام البخاري الجامع الصحيح لا يلحقه في الصحة غيره من أمهات الكتب، فقد حل بذلك هذا الكتاب درجة أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
والمنهج الذي اختاره الإمام البخاري في كتابه الصحيح امتاز بخصائص تمتاز على ما في كتب الأحاديث الأخرى، ومنها ذكر تراجم الأبواب لما رواه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يشير بها إلى معان مفيدة، ويشرح مفهوم الحديث الشريف مدعمًا بآيات من كتاب الله العزيز، وقد أودع فيها الإمام البخاري من الأسرار والمعاني ما يحير العقول والأفكار، فالدارس لكتابه الصحيح يستفيد من تراجم أبوابه أيضًا كما يستفيد من متون الحديث الشريف وروايته.
وقد اعتنى العلماء بهذه التراجم لقيمتها العلمية، وألفوا كتبًا في شرحها وإيضاحها، فمنها كتاب العلامة الكبير المحدث الجليل سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله رحمة واسعة، الرئيس السابق لقسم علوم الحديث الشريف في جامعة مظاهر العلوم بسهارنفور، فإنه ألف كتابًا قيمًا في تراجم الأبواب لصحيح الإمام البخاري، ذكر فيه ما تبين له من خصائصها وفوائدها خلال تدريسه لصحيح الإمام البخاري مدة طويلة، وما اطلع عليه في كتب شروح الحديث ومؤلفات أخرى، فإنه ذكر أصول التراجم هذه في بداية الكتاب، ثم ذكرها بتفصيل، وجمع فيه كلام الشارحين لكتب الحديث المختلفة، وكذلك مما سمعه من مشايخه في الدرس، وما منّ الله به عليه وشرح صدره لفهمها، فشرح فيه أبواب الكتاب وتراجمه بابًا بابًا وترجمة ترجمة، وذكر فيه غرض الباب ومناسبة الأثر بالترجمة، وذكر أصول التراجم، وبَلغ عددها نحو سبعين أصلًا، فجاء كتابه كموسوعة في هذا الصدد.
واقتفى أثر سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في تحقيق الحديث تلميذه البار الباحث لعلم الحديث الدكتور تقي الدين الندوي، فصدرت بتحقيقه كتب عديدة في الحديث الشريف، وأراد إصدار أفضل نسخة لكتاب الإمام البخاري، فاعتنى بحاشية العلامة المحدث أحمد علي السهارنفوري، ولا يزال الدكتور الشيخ مشتغلًا في عمله على هذه النسخة الجليلة
(1)
، وكان يريد أن يقوم أيضًا بعمل التحقيق والتعليق على كتاب العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في بحث الأبواب والتراجم لصحيح البخاري، فلم يجد في وقته فسحة لهذا العمل، فأسند العمل إلى نجله الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف وعلومه بكلية الدراسات الإسلامية بدبي، وهو باحث محقق أيضًا، أدى أعمالًا علمية مختلفة،
(1)
بحمد الله قد طبع الكتاب في خمسة عشر مجلدًا من دار البشائر الإسلامية - بيروت.
وصدرت كتب عديدة بتحقيقه، فقد تربى على والده المحدث الجليل فضيلة الدكتور الشيخ تقي الدين الندوي، فقام الدكتور ولي الدين بالتعليقات والتحقيقات المفيدة على هذا الكتاب تحت إشرافه، فجاء هذا الكتاب بتحقيق وتعليق مفيدين، فسيكون الانتفاع به انتفاعًا واسعًا.
أرجو أن يكون عمله هذا مساعدًا كبيرًا للاستفادة من كتاب سماحة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في تراجم أبواب الصحيح للإمام البخاري، تقبل الله تعالى عمله هذا وجزاه خير الجزاء.
20/ 8/ 1432 هـ - 23/ 7/ 2011 م
محمد الرابع الحسني الندوي
رئيس جامعة ندوة العلماء، لكهنؤ الهند
تقديم فضيلة الأستاذ الشيخ سعيد الأعظمي الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ظلَّ الجامع الصحيح للبخاري موضع اعتناء واهتمام كبيرين منذ القرن الثالث الهجري من خلال البحث والتحقيق في مجال السُّنَّة ومكانتها، فقد توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي في عام 256 هـ، وكان قد وفِّق من الله تعالى إلى جمع الأحاديث الصحيحة في كتاب واحد، سمَّاه:"الجامع الصحيح" للبخاري ولا يخفى على علماء الحديث ومؤرِّخيه مكانة الإمام البخاري في تنقية الأسانيد والتحديث بما كان يتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقيق ما صدر من الرواة الأمناء والرجال الموفقين من الله تعالى لهذا العمل العظيم.
كان الإمام البخاري مُلْهَمًا من الله تعالى لإنجاز هذا المشروع الحديثي الجليل، وذلك هو السبب فيما وضعه الله تعالى له من القبول العام، وأحلَّه مكان الصدارة بين دواوين الأحاديث الصحيحة، والجوامع والسنن والمسانيد، قد اجتمع حوله جماعة كبيرة من التلاميذ الذين قرأوا عليه هذا الجامع الصحيح، وروَوه إلى الآخرين.
وكان من بين من قرأ عليه: المحدِّث الثقة أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفِرَبري (ت 320 هـ)، وقد سمع منه بطريق مباشر مرتين، مرة في مدينة فربر سنة 248 هـ، ومرة ببخارى سنة 252 هـ، وهو من أشهر رواة الجامع الصحيح، ومنه استفاد عدد كثير من المحدثين.
ونحن الآن في بيان "الأبواب والتراجم" التي وضعها الإمام البخاري لاستنباط المسائل والأفكار الحديثية، التي توجد عليها دلالة من أي جهة
وطريق، ولذلك نرى أنه يعقد الأبواب والتراجم بحسب ما يظهر له في الحديث من النواحي الفكرية والقضايا العلمية، ويذكر حديثًا واحدًا تحت تراجم وأبواب عديدة، وفق ما بدا له في حديث واحد من الدلالات المنوّعة والمعاني اللطيفة، لذلك نراه أنه يذكر حديثًا واحدًا في مواضع متعددة من الجامع الصحيح، وتحت أبواب وتراجم مختلفة.
وما هذا إلا على سبيل الذكر فحسب، فإن علماء الهند وغيرهم ممن كان لهم شغف كبير بدراسة وتدريس الجامع الصحيح للبخاري ألَّفوا شروحًا للجامع الصحيح مع الإشارة إلى أسرار الأبواب والتراجم للبخاري، ضمن الأبواب والتراجم.
هذا، والموضوع يتطلب التعمق في معاني الحديث ومفاهيم السُّنَّة النبوية، ويفرض على كل شخص يريد أن يبدي آراءه حول الأبواب والتراجم للبخاري، أن يكون على جانب كبير من التذوق والمناسبة الكاملة لدراسة وتدريس علوم النبوة وشرح مفاهيم السُّنَّة السَّنِيَّة.
وقد كان شيخنا الجليل علَّامة الهند المحدث الشهير، حضرة شيخنا محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي - صاحب "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك"، ومؤلفات كثيرة أخرى، مما يتصل بموضوع الحديث، والتحقيق والتعليق لكتب الحديث ودواوينه - أكرمه الله تعالى بالتوفيق الكامل لدراسة وتدريس "الجامع الصحيح" للبخاري إلى حد أنه تفانى في خدمة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم دراسة وتدريسًا وتعليقًا وشرحًا، وبيانًا، فكان ممن يُشد إليه الرحال لقراءة الحديث الشريف عليه، والحصول على الإجازة منه في رواية الحديث.
ثم لما سافر إلى المدينة المنوَّرة للاستنشاق من رياحها وعطرها الذي يملؤ الأجواء؛ جاء إليه العلماء وتلاميذ الأحاديث النبوية الشريفة لكي يتمتعوا برؤية محيَّاه والاستغراف من بحر العلم الذي يموج في جوانبه، ومن حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي يشغل قلبه، ومن المعرفة والإحسان - «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» - الذي يمثله بظاهره
وباطنه، وكلما رأيته أنا شخصيًّا ذكرت ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم:"من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبَّه"، ولقد ألهم الله في قلبه أثناء إقامته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم تكميل "كتاب حجة الوداع وعمرات النبي صلى الله عليه وسلم"، كما خطر بباله أن يعيد النظر على ما كان ألقاه على تلاميذه أيام تدريس الجامع الصحيح للبخاري حول تراجمه، فأتمَّ الله سبحانه وتعالى بمجرد فضله ونعمته هذين الكتابين، وطُبعا في تلكم الأيام، وقد كان من حسن حظي أن الله سبحانه وتعالى أسعدني وشرفني بطبع هذين الكتابين في مطابع ندوة العلماء بحروف حديدية واضحة جميلة.
إن كتاب "الأبواب والتراجم للبخاري" تم طبعه في عام 1391 هـ، الموافق 1971 م، ونال إعجاب العلماء والمحدثين في الهند وخارجها، ذاك أنه يحتوي على الأبواب والتراجم التي عقدها الإمام البخاري في الجامع الصحيح لغايات مهمة قد لا يتفطن إليها القارئ ما لم يتعمق في دراستها، وفي الإتيان بحديث واحد تحت أبواب وتراجم متعددة.
ولبيان أهمية الموضوع يسعدني أن أقتطف عبارة لشيخنا العلامة المحدث الكبير، والمربِّي الجليل، الإمام محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي من خلال ما كتب في هذا الكتاب في بيان التراجم فقال:
"إن موضوع التراجم من أهم مقاصد الإمام البخاري في صحيحه، حتى أجمع العلماء كلهم سلفًا وخلفًا أن معظم مقصود البخاري في صحيحه مع الاهتمام بصحة الأحاديث: استخراج المعاني الكثيرة من المتون؛ ولذا كرر الأحاديث في كتابه في الأبواب المختلفة، وذكر بعضًا من الأحاديث أكثر من عشرين مرة؛ كحديث عائشة في قصة بريرة وغير ذلك، وفي الكثرة على العشرة كثيرة، ولذا اشتهر قول جمع من العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
وسيأتي في الفائدة الثانية عن الكرماني أن هذا قسم عجز عنه الفحول البوازل من الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأمصار، فتركوها بأعذار، ولذلك اهتم جمع من السلف والخلف ببيان تراجمه وأفردوا لها التصانيف واجتهدوا في بيان المناسبات وإبداء الاحتمالات الكثيرة في التراجم.
وأخيرًا بدا لصديقنا الكريم العلَّامة المحدث، التلميذ المحبب للمحدِّث الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي، أن يجدد طبع هذا الكتاب تحقيقًا وتخريجًا وتعليقًا، فأسند هذا العمل المهم إلى نجله العزيز فضيلة الأستاذ الدكتور ولي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف وعلومه المشارك بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، فقام بذلك خير قيام، وتحدث في مقدمة الكتاب عن المؤلفات التي أفردت بتراجم وأبواب صحيح البخاري وهي تتجاوز ثلاثة عشر مؤلفًا، ومن أهمها كتاب شيخ المشايخ العلامة المحدث محمد زكريا الكاندهلوي المهاجر المدني، وذكر التميزات التي يتميز بها هذا المؤلَّف الجليل، وسيقرؤها القارئ الكريم في مقدمة المحقق.
والكتاب يتحلى بمقدمة ضافية لسماحة أستاذنا وشيخنا العلَّامة الإمام السيد الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي يرحمه الله (رئيس ندوة العلماء سابقًا)، كتبها للطبعة الثانية لهذا الكتاب الجليل، كما قد وفق صديقنا الجليل العلامة المحدث تقي الدين الندوي لتقديم هذا الكتاب، وكتابة مقدمة نافعة، تكون نبراسًا للمشتغلين بالحديث، أساتذة وطلابًا.
وإنني إذ أهنئه ونجله الكريم على هذه المنزلة العالية الموهوبة من الله تعالى في مجال السُّنَّة الشريفة وعلوم الحديث، أتمنى على الله تعالى أن يوسع نطاق الإفادة والاستفادة والتعليم والدراسة عن طريق هذه المجهودات العلمية الحديثية التي أكرمهما الله تعالى بمجرد فضله وأتم عليهما نعمته، فقد قال الله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
كتبه العبد العاجز الضعيف
المفتقر إلى فضل الله تعالى
سعيد الأعظمي الندوي
مدير دار العلوم ندوة العلماء لكهنؤ
رئيس تحرير مجلة "البعث الإسلامي"
15/ 4/ 1432 هـ - 20/ 3/ 2011 م
مُقدّمةُ المُحَقِّق
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن كتاب "الجامح الصحيح" لأمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، يُعد أصحَّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل، لذا عني العلماء والمحدِّثون به عناية كبيرةً، وظهرت حوله دراسات كثيرة في مختلف الجوانب، ولا تزال هذه الدراسات قائمة وجارية، وقد ذكرت في بحثي المنشور في حولية كلية أصول الدين بالأزهر الشريف أن الكتب التي أُفردت بالتأليف حول تراجم وأبواب صحيح البخاري هي أكثر من ثلاثة عشر كتابًا، ومن أهم هذه الكتب كتاب شيخ مشايخنا، المحدث محمد زكريا الكاندهلوي المدني رحمه الله تعالى، الذي يتميز بعدة أمور من أهمها:
أولًا: إن المحدث الكاندهلوي جمع في كتابه هذا ما كتبه الأئمة، منهم: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، والعيني في "عمدة القاري" والقسطلاني في "إرشاد الساري"، والإمام الشاه ولي الله الدهلوي في كتابه "شرح تراجم البخاري"، والشيخ محمود حسن الملقب بـ "شيخ الهند" في كتابه "الأبواب والتراجم"، وعمله هذا ليس مجرد نقل وتلخيص، وإنما تظهر شخصيته فيما يذكره من آراء العلماء، وما يناقشه مع ترجيح ما يراه صوابًا أو قريبًا منه.
ثانيًا: ألمَّ المحدِّث الكاندهلوي بجميع الأبواب والتراجم، لذا أصبح هذا العمل سِفرًا عظيمًا.
ثالثًا: يميطُ المحدِّث الكاندهلوي اللثام عن المسائل العويصة التي يتحير فيها كثير من المحدِّثين وشرَّاح الحديث، ويحيلون ذلك على خطأ النساخ، فبيّن فقهَ البخاري وحكمته في وضع هذه التراجم والأبواب كما صنع في "باب صلاة الليل".
نتيجة لهذه الأهمية الكبيرة، توجَّه والدي الجليل المحدِّث الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي حفظه الله لتحقيق هذا الكتاب، لكن حال دون عمله هذا تحقيق كتاب صحيح البخاري بحاشية المحدث السهارنفوري، فكلَّفني أن أقوم بخدمة هذا الكتاب، وساعدني على ذلك بعض الإخوان الذين يعملون في مركز الشيخ أبي الحسن الندوي للبحوث والدراسات الإسلامية بالهند، فجزاهم الله الخير في الدارين.
فعزمت وتوكلت على الله ربي، حامدًا ومصليًا، فهو حسبي ونعم الوكيل.
عملي في هذا الكتاب
1 -
كتبت ترجمةً وافيةً للمحدِّث الدهلوي، وذكرت تعريفًا موجزًا لمؤلفاته في علم الحديث.
2 -
عزوتُ نصوصَ الكتاب لمصادرها بقدر الإمكان.
3 -
علَّقت على مواضعَ في الكتاب لمزيد من الفائدة.
4 -
خرَّجت الأحاديث التي تحتاج إلى التخريج.
5 -
صحَّحت الأخطاء المطبعية.
6 -
رتّبت الكتب والأبواب ورقّمتها على ترتيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
كتبه
د. وليّ الدّين بن تقي الدّين النّدوي
يوم الجمعة - مدينة العين
18/ 2/ 2011 م
الإمام المحدِّث
محمّد زكريا الكاندهلوي
وآثاره في علم الحديث الشريف
بقلم
د. وليّ الدّين النّدوي
مقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه دراسة عن الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، وعن مؤلفاته وآثاره في علم الحديث الشريف، ولا شك أن الهند أصبحت في العصور الأخيرة مركزًا كبيرًا للحديث الشريف، وعُرف علماء الهند بشغفهم بالعلوم الدينية، وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث وشرح متونه، حتى قال العلامة محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب "مفتاح كنوز السُّنَّة":"لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال في أمصار الشرق، وقد ضعفت في مصر والشام منذ القرن العاشر الهجري".
ولا شك أن الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي يُعد من أعلام المحدثين في الهند، وله إسهام كبير في خدمة السُّنَّة، فلذلك أردت أن أقدم دراسة عن حياته ومؤلفاته.
وقسَّمت هذه الدراسة إلى تمهيد وثلاثة مباحث:
تمهيد في عصره:
أ - الحالة السياسية.
ب - الحالة العلمية.
المبحث الأول: نشأته وحياته.
تتبعت فيه مراحل حياته؛ فذكرت اسمه ونسبه ولقبه ونشأته العلمية ووفاته والثناء عليه.
والمبحث الثاني: شيوخه وتلاميذه ومؤلفاته.
ذكرت فيه شيوخه الذين تلقى عنهم العلم أو حصل منهم على إجازات، ثم تلاميذه، ثم ذكرت مؤلفاته في علوم وفنون شتى مع بيان المخطوط منها والمطبوع.
المبحث الثالث: آثاره في علم الحديث الشريف.
ذكرت فيه مؤلفات هذا الإمام مع التعريف بكل منها.
وإني لأرجو الله عز وجل أن يحقق الغاية من البحث وينفع به، إنه خير مسؤول.
* * *
تمهيد في عصر الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي
أ - الحالة السياسية:
عاش الإمام الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي في الحقبة التي تعد من أخطر العصور في تاريخ الهند السياسي، حيث عاصر استقلال الهند من الاحتلال الإنجليزي الغاشم وتقسيم الهند إلى دولتين: الهند وباكستان.
ولقد اشترك المسلمون والهندوس في تحرير البلاد من سيطرة الاستعمار، وأقاموا لذلك ثورة عام 1857 م لكنها باءت بالإخفاق. ثم لما قام المؤتمر الوطني عام 1884 م شاركوا فيه، وشاركوا في حركة عدم التعاون، أو العصيان المدني عام 1921 م، التي نادى بها غاندي مع جميع الطوائف من شعب الهند، ورأت البلاد عهدًا من الألفة والمحبة والتعاون، لم يمر مثله في تاريخها
(1)
.
هنا اختار الإنجليز طريقة "فرِّق تسد"، وبثوا سموم التفرقة بين الهندوس والمسلمين وسلّطوا هذا السلاح الرهيب على الشعب حتى لا تعود البلاد إلى وحدتها
(2)
.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: أقنع الحاكم العام الإنجليزي ورجال الحكومة أحد الزعماء الوطنيين الهنادك بضرورة الدعوة إلى الديانة
(1)
انظر: "كفاح المسلمين في تحرير الهند"(ص 139).
(2)
انظر: المصدر السابق.
الهندوكية، وإرجاع من دخل من أهل البلاد في الدين الإسلامي إلى ديانتهم القديمة، وتنظيم الشعب الهندوكي على أساس ديني قومي حزبي، ومن هنا ظهرت الدعوة والتبشير بالديانة البرهمية والآرية، وانتشر دعاتهم في الهند، وظهرت إزاء ذلك حركة الدعوة إلى الإسلام وتنظيم المسلمين على أساس مستقل، وبدأت المناظرات الدينية والخطب العاطفية والحماسية، وانفجرت الاضطرابات الطائفية في شبه القارة الهندية، واستمرت الاضطرابات، وعنفت حتى كان في سنة 1927 م في بضعة شهور فقط خمسة وعشرون اضطرابًا
(1)
.
وهنا بدأ المسلمون يبتعدون شيئًا فشيئًا عن المؤتمر باعتباره مؤسسة هندوسية، وإن كان فيها بعض عناصر من المسلمين، إلا أنها لم تستطع إيقاف الدافع العدواني على المسلمين من الهندوس
(2)
.
وأما علماء الهند المسلمون فلم يكونوا بمعزل عن الاستقلال، بل شاركوا حركة التحرير مشاركة قيادية فعالة، فمن العلماء البارزين الذين شاركوا في التحرير العلامة محمود حسن الملقب بـ "شيخ الهند"، والعلامة حسين أحمد المدني، والشيخ عزيز كل - وقد أسرتهم الحكومة الإنجليزية ونفتهم وزملاءهم وتلاميذهم إلى جزيرة مالطا -، ومولانا عبد الباري الفرنجي محلي، ومولانا محمد علي، ومولانا شوكت علي، ومولانا أبو الكلام آزاد وغيرهم
(3)
.
لكن لما حان وقت الاستقلال اختلف المسلمون والهندوس في التقاسم على السلطة، وأدى هذا الاختلاف إلى اضطرابات طائفية شديدة بين المسلمين والهندوس، ووقعت المذابح التي راحت ضحيتها الآلاف
(1)
"المسلمون في الهند"(ص 164).
(2)
"كفاح المسلمون في تحرير الهند"(ص 151).
(3)
انظر: "المسلمون في الهند"(ص 162)، وانظر:"مسيرة الحياة" لأبي الحسن الندوي (1/ 169).
من الطرفين، ولم يعد هناك مفر من التسليم بالأمر الواقع، والخضوع لفكرة التقسيم، التي أصبحت عقيدة المسلمين وحياتهم
(1)
.
واختلف العلماء والناس في قضية التقسيم، فبعضهم كان لا يرى تقسيم الهند مفيدًا وضروريًّا؛ بل سيكون أضرارًا وأخطارًا كبيرة على الدعوة الإسلامية، وسيُفقد المسلمين نفوذهم السياسي وتأثيرهم الديني في الهند.
ورأى البعض الآخر أن التقسيم لا بد منه؛ لأن السلطة ستكون للمسلمين فقط لا يشاركهم فيها غيرهم، ويعيش المسلمون فيه حياة العز والكرامة.
فمن العلماء الذين أيدوا فكرة التقسيم وبذلوا جهودًا كثيرة في تأسيس دولة إسلامية: شيخ الإسلام مولانا ظفر أحمد التهانوي، ومولانا شبير أحمد العثماني، والمفتي محمد حسن الأمر تسري وغيرهم
(2)
.
فبدأ الناس يهاجرون من الهند إلى باكستان، ووقعت حينئذٍ الاضطرابات الطائفية الدموية التي تقشعر الجلود من سماع أحوالها في دلهي، وبنجاب الشرقية والمدن الأخرى.
واجتمع الشيخ المجاهد حسين أحمد المدني، والشيخ الرباني عبد القادر الرائي فوري، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، وقرروا عدم الهجرة إلى باكستان وعزموا على البقاء في الهند والموت فيها، وكانوا يحثون الناس على الثبات والبقاء في الهند مهما كلّفهم ذلك من ثمن، وكانوا يحرِّضونهم على تحمل الشدائد والمكاره، والإيمان بالله، فقرر كثير من الذين آثروا الهجرة أن يتخلوا عن نيتها
(3)
، وأبدى هؤلاء العلماء ثباتًا لا نظير له، مع الهمة العالية والثقة الكاملة بوعد الله سبحانه وتعالى.
(1)
انظر: "باكستان في ماضيها وحاضرها"(ص 51).
(2)
انظر: "آب بيتي"(في الأردية)(5/ 26).
(3)
انظر: "آب بيتي"(في الأردية)(5/ 29).
وقد ترك هذا التقسيم في نفوس مسلمي الهند اليأس وعدم الثقة، يقول العلامة أبو الحسن الندوي: عدنا في أواخر يناير/ كانون الثاني 1938 م - حيث كان في الحجاز عند التقسيم -؛ فوجدنا الدنيا غير الدنيا، والأوضاع غير الأوضاع، ورأينا البقية الباقية من المسلمين في الهند - وقد كان عددهم كبيرًا جدًا - مصابين - إلا من رحم ربك - باليأس ومُركب النقص، فقد خذلهم قادتهم القوميون فأصبحوا يجهلون رسالتهم ودعوتهم ونفعهم، كأنهم يعيشون في ظلام قاتل لا يبصرون شيئًا من النور، تسودهم الدهشة والحيرة
(1)
.
وهبّ علماء المسلمين للدفاع عن الإسلام والمسلمين ولإيجاد الثقة فيهم، فهذا المجاهد الشيخ حسين أحمد المدني والشيخ حفظ الرحمن السيوهاروي، والمفتي كفاية الله، ومولانا أبو الكلام آزاد، وغيرهم وقفوا مع قادة الأكثرية كالند للند، وكانت هذه المواجهة البطولية مضربًا للأمثال، وكان لها دورٌ كبيرٌ وفائدةٌ لا تنكر في إيجاد الثقة والاعتماد
(2)
.
ونشطت الدعوة الإسلامية بكل قوة وصرامة، فهذا الشيخ محمد يوسف - أمير جماعة التبليغ - وأتباعه خرجوا في طول الهند وعرضها، بل تجاوزوا إلى باكستان والدول الأخرى، لبثِّ الشعور الديني فيهم وإثارة عاطفة الخشوع والإنابة والتوجه إلى الله، وكان الشيخ محمد يوسف يقول: إن قلوبهم في هذا الوقت منكسرة، فإن أنابوا إلى الله وتابوا إليه توبة نصوحًا فإن هذه السحب الكثيفة التي تتراكم ستنقشع ويرفع الله العذاب عنهم
(3)
.
وأما الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، فقد كان مشرفًا على جماعة التبليغ وموجهًا لها، حيث كان يقيم في مركزها في نظام الدين بدلهي
(1)
"مسيرة الحياة" لأبي الحسن الندوي (1/ 203).
(2)
انظر في: "مسيرة الحياة" للندوي (1/ 205)، و"المسلمون في الهند"(ص 167).
(3)
"تذكرة الشيخ محمد يوسف"(بالأردية)(ص 285).
عدة أيام، يوجه الجماعة ويشرف على المدارس الإسلامية الأهلية التي كانت قائمة، والتي أقيمت في عصره، ويسافر إليها ليتفقد أحوالها ويوجهها بآرائه السديدة
(1)
، وكذا قام بالرد على الملحدين والفرق الباطلة ردًا علميًا وفكريًا مقنعًا، فمن ذلك كتابه "إسلام المشرقي"، و"القاديانية".
ب - الحالة العلمية:
يعد الإمام ولي الله الدهلوي مسند الهند بإجماع العلماء، سافر الإمام الدهلوي إلى الحجاز، وأخذ الحديث عن الشيخ أبي طاهر محمد بن إبراهيم المدني الكردي
(2)
(ت 1145 هـ)، وغيره من علماء الحديث، وعاد إلى الهند وقصر همته على نشر الحديث الشريف، وأقام دولة الحديث في هذه البلاد، وأصبحت المدرسة الرحيمية التي أسسها والده الشاه عبد الرحيم الدهلوي أكبر مدرسة حديثية في الهند، تهافت عليها طلاب علم الحديث من كل أنحاء الهند وأصقاعها تهافت الفراش على النور
(3)
، وخرّج علماء ورجالًا، يقومون بهذه المهمة، فقام بعده نجله الأكبر سراج الهند الشيخ عبد العزيز الدهلوي
(4)
(ت 1239 هـ) فدرَّس وألَّف، وخرّج وخلّف التلاميذ الكبار والعلماء الفحول في الحديث الشريف، من أشهرهم سبطه الشيخ إسحاق بن محمد أفضل العمري المتوفى سنة (1262 هـ)، قال المؤرخ عبد الحي الحسني: أخذ عنه ناس كثير، حتى لم يبق في الهند سند للحديث غير هذا السند، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(5)
.
(1)
انظر: "آب بيتي"(5/ 19)، و"تذكرة الشيخ محمد زكريا"(ص 226).
(2)
انظر ترجمته في: "إنسان العين في مشايخ الحرمين" للدهلوي (ص 13)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 27).
(3)
"رجال الفكر والدعوة" لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي (4/ 149).
(4)
"نزهة الخواطر" للسيد عبد الحي الحسني (7/ 59).
(5)
"نزهة الخواطر"(7/ 59، 60).
ثم تفرعت مدرسة الإمام ولي الله الدهلوي بعد الشيخ إسحاق إلى فرعين يمثلان مدرستين فكريَّتين رئيسيتين في الهند:
الفرع الأول: مدرسة الأحناف:
وكان على رأسها الشيخ عبد الغني المهاجر المدني (ت 1296 هـ)
(1)
، أخذ الحديث عن الشيخ إسحاق الدهلوي، وكان من أشهر تلاميذه المصلح الكبير العلَّامة رشيد أحمد الكنكوهي (ت 1323 هـ)
(2)
، والإمام محمد قاسم النانوتوي (ت 1298 هـ)
(3)
من مؤسسي جامعة دار العلوم ديوبند، وأخذ عنه إجازة رواية الحديث المحدث خليل أحمد السهارنفوري (ت 1346 هـ) صاحب "بذل المجهود"، والعلَّامة محمود حسن الديوبندي الملقب بشيخ الهند (ت 1339 هـ)
(4)
، والعلَّامة المحدث أنور شاه الكشميري (ت 1352 هـ)
(5)
صاحب "فيض الباري شرح صحيح البخاري"، والمحدث شبير أحمد العثماني (ت 1369 هـ)
(6)
صاحب "فتح الملهم في شرح صحيح مسلم"، والمحدث ظفر أحمد التهانوي (ت 1394 هـ)
(7)
، صاحب "قواعد في علوم الحديث"، والمحدث فخر الدين أحمد المرادآبادي (ت 1392 هـ)
(8)
، وغيرهم من العلماء.
(1)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 163).
(2)
"نزهة الخواطر"(7/ 320).
(3)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 480).
(4)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 491).
(5)
انظر ترجمته في: "نفحة العنبر في حياة إمام العصر الشيخ أنور" للمحدث محمد يوسف البنوري، و"العناقيد الغالية"(ص 129)، و"تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي" للشيخ عبد الفتاح أبو غدة (ص 13 - 81).
(6)
انظر: "العناقيد الغالية"(ص 56).
(7)
"العناقيد الغالية"(ص 250)، ومقدمة "قواعد في علوم الحديث" للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
(8)
انظر ترجمته في: "العناقيد الغالية"(ص 60).
الفرع الثاني: مدرسة أهل الحديث (الذين يرون عدم التقليد للأئمة الأربعة):
وكان على رأسها الشيخ نذير حسين الدهلوي (ت 1320 هـ) الذي أخذ الحديث عن الشيخ إسحاق الدهلوي، والمحدث محمد بشير السهسواني (ت 1323 هـ)
(1)
، والمحدث شمس الحق العظيم آبادي (ت 1329 هـ) صاحب "غاية المقصود شرح سنن أبي داود"، والمحدث عبد الرحمن المباركفوري (ت 1353 هـ)
(2)
صاحب كتاب "تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي"، والشيخ عبيد الله المباركفوري (1327 - 1414 هـ)
(3)
صاحب كتاب "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"، وغيرهم من العلماء.
وأما في العلوم والمعارف الأخرى، فقد برز كل من الشيخ المصلح الكبير والمربي الشهير مولانا أشرف علي التهانوي (ت 1362 هـ)
(4)
، والعلامة محمود حسن خان التونكي (ت 1366 هـ)
(5)
صاحب "معجم المصنفين"، والعلامة مناظر أحسن الكيلاني (ت 1375 هـ)، وغيرهم من العلماء الربانيين
(6)
.
وعلى الرغم من انحطاط المسلمين سياسيًا واقتصاديًا وتدهور الحالة الاجتماعية، فقد نشطت الحركة العلمية بوجود هؤلاء العلماء تدريسًا وتأليفًا في هذا العصر، وكان لهم الفضل في إنشاء العديد من مدارس العلوم الشرعيّة، في الهند التي لها آثارها إلى اليوم.
(1)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 437).
(2)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 259).
(3)
انظر ترجمته في: مقدمة "مرعاة المفاتيح"(ص 9)، وانظر: جريدة "الرائد" أول مارس/ آذار 1989 م، ومجلة "البعث الإسلامي" عدد رقم (1) مجلد رقم (34).
(4)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 65).
(5)
انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 490).
(6)
"المسلمون في الهند"(ص 37).
المبحث الأول: نشأته وحياته
اسمه ونسبه:
هو محمد زكريا بن محمد يحيى بن محمد إسماعيل بن الطبيب غلام حسين بن كريم بخش بن الطبيب غلام محيي الدين بن محمد ساجد بن فيض محمد بن شاه محمد شريف بن محمد أشرف بن جمال محمد بن نور محمد المعروف بابن شاه بن بهاء الدين بن شيخ محمد
(1)
، ينتهي نسبه إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(2)
لقبه:
لُقِّب "بشيخ الحديث"، وذلك لعمق نظره في الحديث الشريف وعلومه، لقّبه به شيخه خليل أحمد السهارنفوري لما رأى فيه من دقة النظر وسعة الاطلاع في الحديث وعلومه
(3)
.
(1)
"تذكرة شيخ الحديث كي أجداد"(أجداد شيخ الحديث) مجلة الفرقان 1982 م، (ص 39)، وانظر:"حالات مشايخ كاندهلة"(ص 1009)، وانظر: مقدمة "أوجز المسالك"(ص 56).
(2)
انظر: "الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي" للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي (ص 9)، و"مجلة أحوال وآثار كاندهلة"(بالأردية)(ص 44).
(3)
مجلة الفرقان "مقال عاشق رسول" لزين العابدين سجاد الميرتهي (ص 191).
مولده:
ولد الشيخ محمد زكريا في قرية "كاندهله"
(1)
(kandhala) لعشر خلون من رمضان سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف (1315 هـ)، الموافق 12/ فبراير/ شباط 1898 م ليلة الخميس في الساعة الحادية عشرة، فسُمي باسمين: محمد موسى ومحمد زكريا، فغلب الآخر على الأول
(2)
.
أسرته:
أسرة الشيخ محمد زكريا مشهورة بالعلم والتدين والصلاح والورع، فقد كان والده الشيخ محمد يحيى من كبار العلماء في الهند في المنقول والمعقول، وكان حاملًا لعلوم شيخه رشيد أحمد الكنكوهي، فجمع أماليه التي أملاها في أثناء تدريس "صحيح البخاري"، و"جامع الترمذي"، وغيرهما من الكتب الستة.
درَّس في مدرسة مظاهر العلوم بسهارنفور مدة من الزمن، ولم يأخذ أجرة على هذا العمل، بل أنشأ مكتبة تجارية سمَّاها:"محمد يحيى تاجر كتب دينية" ليعود نفعها عليه
(3)
.
قال الشيخ أبو الحسن الندوي: ولد - أي: الشيخ محمد زكريا - في بيت عريق في العلم والدين، وامتاز رجاله وأسلافه بعلو الهمة وشدة المجاهدة، والتمسك بالدين والصلابة فيه، أشهرهم في الأولين الشيخ العلامة المفتي إلهي بخش الكاندهلوي (1162 - 1245 هـ) تلميذ الشيخ
(1)
وهي إحدى القرى الجامعة في مديرية مظفر نجر في ولاية أترابراديش بالهند، ينسب الشيخ إلى هذه القرية فيقال له: الكاندهلوي.
(2)
"تذكرة شيخ الحديث مولانا محمد زكريا"(ص 49)(بالأردية)، وانظر: مقدمة "أوجز المسالك"(ص 56).
(3)
انظر: "سيرة مولانا يحيى" لمحمد عزير الندوي (ص 166)، و"تذكرة الخليل" لعاشق إلهي الميرتهي (ص 202).
عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي، وخليفة المجاهد الشهير السيد أحمد الشهيد البريلوي، وأشهرهم في الآخرين الداعي إلى الله المشهور في الآفاق عمّه الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي صاحب دعوة "التبليغ"(ت 1363 هـ)، ودرَّس وجاهد في سبيل الله غير واحد من أفراد هذه الأسرة، وجده الشيخ محمد إسماعيل (1315 هـ) من الذين اتفقت الألسنة على إخلاصه وصلاحه وزهده
(1)
.
وأما جدته صفية بنت ضياء الحسن فكانت حافظةً للقرآن، وقد حفظته بعد الزواج، حين كان ابنها الشيخ محمد يحيى رضيعًا، كانت تتلو القرآن كله وعشرة أجزاء زيادة عليه في كل يوم من شهر رمضان المبارك، وعلى ذلك كانت تتلو القرآن في كل رمضان أربعين مرة، وذلك بجانب القيام بشؤون البيت ووظائفه
(2)
.
نشأته وطلبه العلم:
نشأ الإمام في بيت علم ودين وصلاح، وانتقل مع والده إلى قرية "كنكوه" في مديرية "سهارنفور" بأترابراديش، حيث حمله والده إلى العالم الرباني المصلح رشيد أحمد الكنكوهي، وسعد بحنانه وعطفه الأبوي لما بينه وبين والده من اختصاص، فلما بلغ الثامنة من عمره توفي الشيخ رشيد الكنكوهي (ت 1323 هـ) فنشأ في هذه البيئة العلمية الدينية، وبدأ بتعلُّم حروف الهجاء على الطبيب عبد الرحمن المظفر نكري - وكان من أصحاب الشيخ الكنكوهي - وحفظ القرآن على والده، وقرأ الكتب الفارسية على عمِّه الشيخ محمد إلياس - مؤسس جماعة التبليغ - وكتب الصرف والنحو على والده
(3)
.
(1)
مقدمة "الأوجز"(ص 16).
(2)
"الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي" لأبي الحسن الندوي (ص 10).
(3)
انظر: "ولي كامل" للمفتي عزيز الرحمن (ص 121)، و"تذكرة شيخ الحديث محمد =
قال الشيخ أبو الحسن الندوي: نشأ في بيئة من أفضل البيئات في ذلك الزمان وأكثرها محافظة على الآداب والسنن، وأبعدها عن الفساد الذي بدأ ينتشر في البلاد
(1)
.
ولما بلغ اثني عشر عامًا من عمره انتقل مع والده إلى "سهارنفور" المركز العلمي الكبير، وهنا بدأ يقرأ على والده أكثر الكتب في الصرف والنحو والأدب والمنطق.
ثم توجه إلى أخذ الحديث من والده سنة (1332 هـ)، فاغتسل الشيخ محمد يحيى وصلّى ركعتين وبدأ تدريس "مشكاة المصابيح"، ثم دعا دعاءً طويلًا لنفسه ولولده، من ذلك اليوم أصبح الحديث غايته ومقصده، وقرأ الكتب الستة على والده - ما عدا السنن لابن ماجه - ثم قرأ "صحيح البخاري"، و"سنن الترمذي" على العالم الجليل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري
(2)
، وكان يهتم بأن لا يقرأ أي رواية دون وضوء
(3)
.
تدريسه:
عُين مدرسًا في مدرسة "مظاهر علوم" بسهارنفور في المحرم سنة 1335 هـ، وفوِّض إليه تدريس كتب في النحو والصرف والفقه، وبعض
= زكريا" لأبي الحسن الندوي (ص 54)، و"تذكرة شيخ الحديث مولانا محمد زكريا" للشيخ يوسف اللدهيانوي (ص 86)، و"آب بيتي" (2/ 27).
(1)
مقدمة "الأوجز"(ص 17).
(2)
هو من كبار العلماء الصالحين، وكبار الفقهاء والمحدِّثين، وحصل على الإجازة من كبار المشايخ والمسندين كالشيخ محمد مظهر النانوتوي، والشيخ عبد القيوم البُدهانوي، والشيخ عبد الغني المجددي، التقى به الشيخ رشيد رضا المصري وتأثر بشخصيته وأثنى على علماء الهند، توفي سنة (1346 هـ) في المدينة المنورة. انظر:"نزهة الخواطر"(8/ 145).
(3)
انظر: "تذكرة شيخ الحديث مولانا محمد زكريا" لأبي الحسن الندوي (ص 61)، وكتاب "تذكرة شيخ الحديث" للدهيانوي (1/ 97)، و"آب بيتي"(2/ 60).
الكتب في اللغة العربية، ثم فوِّض إليه بعض الكتب المهمة في الأدب والفقه، وفي سنة 1341 هـ فُوِّض إليه تدريس ثلاثة أجزاء من "صحيح البخاري" بأمر من الشيخ خليل أحمد السهارنفوري وإلحاحه، وظل يُدرس "مشكاة المصابيح" إلى سنة 1344 هـ
(1)
.
قال الشيخ أبو الحسن الندوي: وهو من أصغر الأساتذة، وأُسند إليه تدريس كتب لا تسند عادةً إلى أمثاله في العمر، ولا في أول التدريس، وأثبت المدرِّس الشاب جدارته وقدرته على التدريس
(2)
.
ثم سافر سنة 1345 هـ إلى الحجاز وأقام هناك لمدة عام، ودرّس في المدينة المنورة بمدرسة العلوم الشرعية "سنن أبي داود" لبعض الطلبة من بلاد المغرب
(3)
وغيرها.
ورجع من الحجاز في 18 صفر 1346 هـ، وبدأ تدريس "سنن أبي داود"، و"سنن النسائي"، و"الموطأ" برواية الإمام محمد، والنصف الثاني من "صحيح البخاري" في مدرسة "مظاهر علوم"، ثم انتقل إليه "صحيح البخاري" كله بعد وفاة مدير المدرسة الشيخ عبد اللطيف الذي كان يقوم بتدريس النصف الآخر من "صحيح البخاري"، فدرّس الشيخ محمد زكريا إلى سنة 1388 هـ، ثم توقف عن التدريس بسبب نزول الماء في عينيه، وقد درّس في هذه المدة "سنن الترمذي"، و"الجامع الصحيح" لمسلم، و"شمائل" الترمذي، وغيرها من الكتب
(4)
.
(1)
انظر: "تذكرة شيخ الحديث مولانا محمد زكريا" لأبي الحسن الندوي (ص 67)، "ولي كامل"(ص 36)، و"مجلة الفرقان"(ص 232).
(2)
مقدمة "الأوجز"(ص 18).
(3)
"مجلة الفرقان"(ص 233)، وانظر:"علماء مظاهر علوم وخدماتهم العلمية والتأليفية"(ص 302).
(4)
"مجلة الفرقان"(ص 33).
ودرّس المجلد الأول من "صحيح البخاري" خمسًا وعشرين مرة، و"صحيح البخاري" كاملًا ست عشرة مرة، و"سنن أبي داود" ثلاثين مرة.
ولم يكن يُدرس الحديث فقط مثل عامة الأساتذة، بل صار الحديث ذوقه وروحه وغذاءه، حيث شغفه حبه واختلط بلحمه ودمه
(1)
.
استفادته من شيخه لتأليف الكتب الحديثية:
كان مما أكرمه الله به أن شيخه أبدى رغبته وحرصه الشديد على وضع شرحٍ لسنن أبي داود، وطلب من الشيخ محمد زكريا أن يساعده في ذلك، وأن يكون له فيه عضده الأيمن وقلمه الكاتب، وكان ذلك مبدأ سعادته وإقباله ووسيلة وصوله إلى الكمال، واختصاص لا مزيد عليه بالشيخ، فكان الشيخ خليل أحمد يرشده إلى المظان والمصادر العلمية التي يلتقط منها المواد، فيجمعها الشيخ محمد زكريا ويعرضها على شيخه، فيأخذ منها ما يشاء، ويترك ما يشاء، ثم يُملي عليه الشرح فيكتبه، وهكذا تمّ تأليف كتاب، "بذل المجهود في حَلّ سنن أبي داود".
وفتح ذلك قريحته في التأليف والشرح، ووسَّع نظره في فن الحديث، ثم اهتم بطبعه في المطابع الهندية، والعناية بتصحيحه وإخراجه بإخلاص كامل، ومجاهدة شديدة، فنال بذلك رضا شيخه وحاز ثقته، حتى انتهى ذلك إلى ما انتهى إليه من خلافة ونيابة، وإقبال القلوب والنفوس إليه، وما وُفق له من بعد من جلائل الأعمال وفضائل الأخلاق
(2)
.
وقد ذكر ذلك المحدِّث خليل أحمد السهارنفوري في مقدمة "بذل المجهود"
(3)
فقال: "وأعانني عليه بعض أحبائي، منهم عزيزي وقرة عيني وقلبي، الحاج الحافظ المولوي محمد زكريا بن مولانا الحافظ المولوي محمد يحيى الكاندهلوي رحمه الله، فإني كنت لا أقدر على الكتابة ولا على
(1)
"العناقيد الغالية من الأسانيد العالية"(ص 119).
(2)
مقدمة "أوجز المسالك"(ص 17).
(3)
(ص 40).
التتبع، لرعشة حدثت في يدي وضعف في دماغي وبصري، فكنت أملي عليه وهو يكتب، ويتتبع المباحث المشكلة من مظانها، فيَسهُل عليَّ إملاؤها، فشكر الله سعيه وأحسن جزاءه، وما بذل فيه من جهد، وأكرمه الله تعالى بعلومه الباطنة والظاهرة النافعة في الدنيا والآخرة، وبالأعمال المبرورة المتقبلة الزاهرة".
فكان لهذا أكبر الأثر في تكوين شخصيته العلمية، وفتح له الطريق في مستقبل حياته حتى صدرت عنه مؤلفات كثيرة وتحقيقات نادرة.
وفاة والده:
في 10 من ذي القعدة سنة 1334 هـ، انتقل والده الشيخ محمد يحيى إلى رحمة الله، ونزلت هذه الكارثة كالصاعقة على الشيخ، وكان لها أكبر الأثر في نفسه، حيث لم يكن والدًا له فحسب، بل كان والدًا ومربيًا وأستاذًا، فحزن لذلك حزنًا شديدًا لم يفارقه قط
(1)
.
رحلته إلى الحرمين:
وفقه الله سبحانه وتعالى للحج أكثر من مرة، ففي شعبان سنة 1338 هـ لما أراد الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أن يسافر للحج، وبلغ الشيخ محمد زكريا هذا الخبر، ثار فيه الحنين إلى الحج، وكان يحول بينه وبين تلك الأمنية العزيزة اللذيذة عوائق وصعوبات في مقدمتها توفير النفقة وما تكلفه الرحلة الكريمة، ولكن الله الحكيم يسَّر له المهمة، وذلَّل له الصعاب، ووفَّر له كل سهولة، واستطاع أن يحوز هذه السعادة ويتمتع بمعية شيخه ومربيه
(2)
.
واستفاد الشيخ بهذه الرحلة المباركة فوائد كثيرة روحيًا وعلميًّا.
(1)
انظر كتاب: "ولي كامل"(ص 118)(بالأردية).
(2)
انظر: "الشيخ محمد زكريا" لأبي الحسن الندوي (ص 73)(بالأردية)، و"آب بيتي"(4/ 234).
وقد عثر الشيخ خليل أحمد السهارنفوري على نسخة خطية لـ "مصنَّف عبد الرزاق"، فأراد أن يشتريها فطلب صاحبها ثمنًا باهظًا؛ فتركها الشيخ خليل أحمد لعدم وجود نقود كافية لشرائها، فلما عرف الشيخ محمد زكريا هذا طلب من صاحب المخطوطة السماح بنسخها فأجازه؛ لأنه رأى أنه لم يبق للسفر - أي: للرجوع إلى الهند - إلا عشرة أيام تقريبًا، فهم لا يستطيعون نسخها، فأخذ الشيخ المخطوطة إلى مقره وجعل ينقل هذه المخطوطة، وشاركه بعض زملائه حتى أنهم أكملوا نسخها ومراجعتها كاملة خلال عشرة أيام، فتعجب الشيخ السهارنفوري من علو همة تلميذه ونباهته وجهده، ودعا له
(1)
.
ثم سافر للحج في شوال سنة 1344 هـ في رفقة الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أيضًا، واستفاد من شيخه في هذا السفر الميمون، وهنا تم تأليف كتاب "بذل المجهود" الذي صبَّ فيه الشيخ السهارنفوري مهجة نفسه، وعُصارة عمله، وحصيلة دراسته، ثم توفي في الحجاز سنة 1346 هـ ودفن في البقيع.
وفي المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، بدأ الشيخ بتأليف كتابه "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك"، وهو في التاسعة والعشرين من عمره
(2)
. وقد تشرف الشيخ محمد زكريا بزيارة الحرمين الشريفين أكثر من مرة، وكان لذلك أكبر الأثر في تكوين شخصيته.
أعماله اليومية:
رتَّب الشيخ أوقاته وحافظ عليها بكل دقة وشدة، حيث كان يستيقظ قبل أذان الفجر بساعة ويشتغل بالتهجد والتلاوة، ثم يصلّي صلاة الفجر، وبعد الصلاة يشتغل بحزبه وورده حتى الشروق، ثم يخرج إلى بيته، ويجلس
(1)
انظر: "آب بيتي"(4/ 234).
(2)
انظر: "شخصيات وكتب" لأبي الحسن الندوي (ص 44).
مع الناس ويتناول الشاي دون فطور وأكل، ويكثر عدد الناس في هذا الوقت، ثم يصعد إلى غرفة مطالعته، فيشتغل بالمطالعة والتأليف، ولا يزوره في هذا الوقت إلا من يطلبه أو من يكون مستعجلًا من الضيوف، فإذا كان وقت الغداء نزل وجلس مع الضيوف الذين هم عادة من طبقات شتى، فيؤنسهم ويكرمهم، ثم يقيل، فإذا صلَّى الظهر اشتغل بإملاء الرسائل والرد عليها قليلًا، يتراوح عدد الرسائل التي تأتيه من أنحاء مختلفة بين أربعين وخمسين رسالة، ثم يخرج إلى الدرس، وكان يشتغل به ساعتين كاملتين قبل العصر، فإذا صلَّى العصر جلس للناس، وقدَّم لهم الشاي وهم في عدد كبير، فإذا صلَّى المغرب اشتغل طويلًا بالتطوع والأوراد، ولا يتناول العَشاء عادة إلا إكرامًا لضيف كبير
(1)
.
التفاني في حب الله ورسوله:
كان الشيخ حريصًا على اتباع السُّنَّة في كل أمر صغير وكبير، حرصًا يندر وجوده في كثير من العلماء، وكان لديه حبٌّ شديد للرسول صلى الله عليه وسلم ولمدينته، فكلَّما ذُكر شيء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أو الأولياء، أو أُنشد بيت رقيق مرقق فاضت عيناه، وتملَّكه البكاء وهو يغالبه ويخفيه، فتنمُّ عنه الدموع، وليس الحديث له صناعة وعلمًا فحسب، بل هو ذوق وحال يعيش به ويعيش فيه
(2)
.
ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: سافر على جناح الشوق والحنين المرة الخامسة إلى الحجاز في صفر 1389 هـ، وكأنه مدفوع إلى ذلك لا يملك صبرًا ولا قرارًا، وقد نذر صوم شهرين متتابعين شكرًا على هذه النعمة.
واستطرد الشيخ الندوي قائلًا: وقد أسعد الله كاتب هذه السطور
(1)
انظر: مقدمة "الأوجز"(ص 19).
(2)
مقدمة "الأوجز"(ص 20).
بمرافقته في هذه الرحلة، فرأى من علوِّ همته وقوة إرادته، وشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة حبه له وشوقه إليه، ومن علوِّ استعداده ومداركه، وما أكرمه الله به في هذه المدة من القرب والاختصاص، ما جدَّد ذكرى الأقدمين، وصدّق ما جاء في كتب أخبار السلف الصالحين
(1)
.
وقد ذكر تلامذته أنه كلما جاء ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء تدريسه لسنن أبي داود أو البخاري، اغرورقت عيناه وغصَّ صوته وخضع للبكاء، وكان لبكائه تأثير سريع، فيقول تلامذته: فكنا نحن الشباب نبكي بصوت عال
(2)
.
زواجه:
تزوج الشيخ محمد زكريا مرتين: المرة الأولى كان زواجه من بنت الشيخ رؤوف الحسن في "كاندهله"، ولكنها توفيت في 5 ذي الحجة 1355 هـ.
ثم تزوج بعدها ببنت الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، مؤسس جماعة التبليغ في 8 ربيع الآخر سنة 1356 هـ
(3)
.
أولاده:
رزقه الله من زوجته الأولى خمس بنات وثلاثة ذكور، ورُزق من زوجته الثانية بنتين وذكرًا، وهو الشيخ محمد طلحة الكاندهلوي
(4)
.
صفاته الخَلقية والخُلقية:
ذكر العلامة أبو الحسن الندوي صفاته فقال: هو مربوع القامة، جسيم وسيم، أبيض اللون مشرب بالحمرة، كأنما فُقِء في وجنتيه حب الرمان،
(1)
مقدمة "الأوجز"(ص 20).
(2)
انظر: "تاريخ جامعة مظاهر علوم"(ص 78).
(3)
انظر: "آب بيتي"(3/ 87، 3/ 161، 162).
(4)
انظر: "مجلة الفرقان"(ص 29).
كثير النشاط لا يعرف الكسل، خفيف الروح، بشوش ودود، كثير الدُّعابة مع الذين يأنسهم أو يحب أن يؤنسهم
(1)
.
فنرى في الإمام الخلق الحسن، والتسامح مع الناس، والتواضع النادر، وأن تكون تلك الخلال والصفات محكومة بالإيمان والاحتساب، منسجمة مع مبادئ الإسلام متوافقة مع روح الشريعة المطهرة، فذاك شيء من القلة بالمكان الذي يصعب مناله.
زهده وتوكله على الله:
ورث الشيخ محمد زكريا الزهد والورع والتوكل والأخلاق الحميدة من والده رحمه الله. وقد عُرضت عليه عدة وظائف للتدريس براتب كبير يزيد على راتبه الرمزي في "مظاهر علوم" بأَضعاف مضاعفة، وكان امتحانًا شديدًا لإخلاصه وعلو همته، فقد كانت هذه الوظائف مما يتنافس فيها المتنافسون، ويتهالك عليها الطالبون، فاعتذر عنها في صرامة وعزم، وفي ثقة وإيمان، أذكرها بإيجاز:
1 -
كانت لأسرة الشيخ محمد زكريا علاقة بجامعة "عليكراه"
(2)
من يوم تأسيسها؛ لأن مؤسِّس هذه الجامعة السيد أحمد خان كان تلميذًا للشيخ نور الحسن الكاندهلوي
(3)
، وقد التحق كثير من الشباب الأذكياء بهذه الجامعة لإكمال دراستهم في تلك الأيام، وكان منهم الشيخ بدْر الحسن الذي تخرج في هذه الجامعة وكان في سنّ الشيخ محمد زكريا ومن أقربائه وبلغ في وظيفته إلى درجة القاضي، وصار عضوًا في مجلس الأمناء لجامعة عليكراه، فلما علم أن راتب الشيخ خمس عشرة روبية، وهي لا تكفي
(1)
مقدمة "الأوجز"(ص 20).
(2)
هي جامعة مدنية حكومية تحت إشراف المسلمين.
(3)
وهو من أسرة الإمام محمد زكريا الكاندهلوي، انظر ترجمته في:"أحوال وآثار كاندهلة"(ص 28).
أسرته ذات المكانة الكبيرة، ألحَّ على الشيخ محمد زكريا أن يستعد للتقدم للاختبارات في العلوم الجديدة، فإن اجتازها تمكن من الحصول على وظيفة راتبها ثلاثمائة روبية، وقد أيَّد هذه الفكرة كثير من أقربائه، لكن الشيخ رفض هذا الاقتراح وخاطبهم بقوله:"إنني لا أستطيع أن أغير منهج حياتي واشتغالي بتدريس العلوم الشرعية والرزق بيد الله هو الذي يعطي الرزق ويمنحه". فلما رأى الشيخ بدر الحسن توكل الشيخ وعزيمته القوية فرح بذلك وتركه على حاله.
2 -
وقد وقع في حياته ابتلاء آخر وهو أنه قد صار معروفًا في تدريسه وهو شاب، بسبب مشاركته في تأليف "بذل المجهود في حل سنن أبي داود"، ثم تدريسه "سنن أبي داود"، فقرر مجلس الأمناء لدائرة المعارف بحيدرآباد أن يطلب الشيخ محمد زكريا لتحقيق بعض كتب السُّنَّة ويكون راتبه ثلاثمائة روبية مع سيارة وسكن مؤثث، وكل سنة تكون له علاوة، ولما وصل هذا الطلب إلى الشيخ اعتذر وكتب إلى المجلس:"إني لا أستطيع أن أترك هذا المركز العلمي".
3 -
كذلك طلبت المدرسة العالية في "كلكته"، وهي تعد جامعة رسمية، أن يكون الشيخ فيها على وظيفة "شيخ الحديث"، وقرر المجلس راتب الشيخ بمقدار ألف ومائتي روبية، وأرسلوا رسالة ثم برقية للاستعجال، فرد الشيخ على برقيتهم:"إني لست أهلًا لذلك، ومن رشح اسمي وأثنى عليّ فهو بسبب حُسن الظن بي، أرجو قَبول اعتذاري عن ذلك".
ولم يأخذ الشيخ محمد زكريا مرتبًا على اشتغاله بالتدريس طول حياته، بل عمل طوال هذه المدة تطوعًا وتبرعًا، لم يأخذ أجرًا ولا جزاء، وقد ثبت أنه أخذ مرتبًا قليلًا في بداية حياته التدريسية من المدرسة، ثم قام بحساب هذا المبلغ ورده إلى المدرسة بمجموعه.
يقول العلَّامة أبو الحسن الندوي: بهذا الإيثار والتوكل وأسلوب
الحياة رفع الله شأنه وصار عَلَمًا من أعلام المحدثين والربَّانيين في الهند
(1)
.
وفاته:
كان يتمنَّى من الله سبحانه وتعالى أن يلقى ربه في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجد مكانًا في البقيع بجوار الصحابة وأهل البيت الكرام، وقد حقَّق الله سبحانه وتعالى أمنيته، إذ وفقه للإقامة بالمدينة المنورة، وانتقل إلى جوار رحمة الله تعالى فيها، وذلك يوم الاثنين غرَّة شعبان المعظم 1402 هـ، الموافق 24/ 5/ 1982 م وصلَّى عليه صلاة الجنازة عبد الله زاحم إمام الحرم المدني، وشُيِّعت جنازته في جم غفير، ودفن بالبقيع بجوار شيخه المحدث خليل أحمد السهارنفوري غفر الله ورفع درجاته
(2)
.
ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه كثير من علماء العرب والعجم، واعترفوا بعلمه وفضله.
قال العلامة المحدث محمد يوسف البنوري: إن هناك بقايا من السلف ظهروا في عهد الخلف، وُفقوا لجهود مشكورة في أبواب العلم والفقه، يمثلون عهد سلف، قد مضوا بعلمهم وفضلهم وورعهم وتقواهم، ويذكرون ذلك العهد الميمون المبارك، ومن هؤلاء العلماء شخصية فذة مغتبطة بكمالاته العلمية والعملية، صاحب التأليفات النافعة الجيدة، والتعليقات الممتعة في غاية الحسن والجمال، حضرة مولانا الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي السهارنفوري، نزيل المدينة المنورة زادها الله نورًا، المدعو بـ "شيخ الحديث"، زاحم القدماء من المحدثين والفقهاء في التأليف
(3)
.
(1)
انظر: "تذكرة الشيخ محمد زكريا" للندوي (ص 57)، و"علماء مظاهر العلوم وخدماتهم العلمية والتأليفية"(ص 167).
(2)
"مجلة الفرقان"(ص 35).
(3)
انظر: مقدمة "جزء حجة الوداع"(ص 28).
وقال الشيخ سعيد أحمد الأكبر آبادي رئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة عليكراه: الشيخ المحدث محمد زكريا، يتضح لمن اطلع على مؤلفاته أنه كان في نبوغ العلم وكثرة التأليفات مثل الإمام ابن الجوزي والإمام الغزالي في هذا العصر! ولا أعرف أحدًا من علماء عصره مثيلًا له في هذا إلا الإمام عبد الحي الفرنكي محلي اللكنوي
(1)
.
وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عنه: الشيخ الإمام الجليل، والفقيه المحدث النبيل، ريحانة الهند والحجاز، ولسان أهل الحقيقة والمجاز، مولانا وبركتنا
(2)
.
وقال الدكتور السيد محمد بن علوي المالكي: صاحب الفضيلة العلامة المحدث، وبقية السلف وزينة الخلف، البركة الإمام الداعي إلى الله، سيدي وشيخي الشيخ محمد زكريا
(3)
.
ووصفه المحدث الحافظ التيجاني بقوله: شيخ الحديث، حضرة العلامة محمد زكريا الكاندهلوي، العلامة الفاضل، المدقق المحقق
(4)
.
وذكره العلامة السيد سليمان الندوي في رحلته إلى الحجاز فقال: إني قابلت في سنة 1369 هـ في الحرم المكي فضيلة الشيخ السيد علوي المالكي وهو يثني على "أوجز المسالك" ومؤلفه، ويقول: لا نظير لهذا الشرح في كتب المتقدمين
(5)
.
وذكر الشيخ أبو الحسن الندوي أن الشيخ علوي المالكي كان يقول: إن مؤلف الكتاب حينما يذكر مذهب المالكية وأقوالهم وأدلتهم، نستغرب نحن المالكية ونتعجب من هذا النقل الصحيح الموصوف بالدقة والأمانة،
(1)
انظر: "مجلة الفرقان" عدد سبتمبر/ أيلول إلى ديسمبر/ ك 1 1985 م (ص 99).
(2)
"تأليفات الشيخ"(1/ 82).
(3)
المصدر السابق (1/ 346).
(4)
انظر: تقريظه على "بذل المجهود"(13/ 692).
(5)
"تأليفات الشيخ"(1/ 45).
ويقول: ولو لم يذكر المؤلف في مقدمة كتابه أنه حنفي، فإني لا أعرف أنه حنفي، بل أقول إنه مالكي؛ لأنه نقل في "الأوجز" فروع المالكية من كتبهم التي لا نحصل عليها فيها بسهولة
(1)
.
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي عنه: "وليس الحديث له صناعة وعلمًا فحسب، بل هو ذوق وحال يعيش به ويعيش فيه"
(2)
.
وقال الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: له "أوجز المسالك" في ستة مجلدات، وفيه جهد كبير لجمعه وتوسعه في النقل من كتب الحديث والفقه، مما جعل صاحبه يستحق الثناء
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "تذكرة الداعي إلى الله الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي"(ص 137)، ومقدمة "حجة الوداع"(ص 18)، و"تذكرة شيخ الحديث" لأبي الحسن الندوي (ص 243).
(2)
مقدمته على "أوجز المسالك"(1/ 39).
(3)
مقدمة "موطأ الإمام محمد"(ص 21).
المبحث الثاني: شيوخه وتلاميذه ومؤلفاته
أ - شيوخه
سبق أن ذكرت أن الشيخ محمد زكريا لم يأخذ العلم إلا عن أساتذة معدودين، لكن قلة شيوخه لم يؤثر في مكانته العلمية؛ لأن أساتذته الذين أخذ عنهم العلم كانوا في القمة، علمًا وتحقيقًا، وتأليفًا وتدريسًا، وورعًا وتقى، ثم البيئة التي عاش فيها كانت من أفضل البيئات في تلك الأيام علمًا وعملًا.
ومن الأساتذة المشهورين الذين تلقى الشيخ عنهم العلم:
1 -
الشيخ محمد إلياس بن الشيخ محمد إسماعيل الكاندهلوي:
هو عم الإمام محمد زكريا، درس عند شقيقه الشيخ محمد يحيى وغيره من العلماء، وتخرَّج في التزكية على المصلح الكبير الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، والشيخ خليل أحمد السهارنفوري، وأخذ الحديث الشريف من العلامة الشيخ محمود حسن المعروف بـ "شيخ الهند"، وقد أسَّس حركة التبليغ والدعوة لما رأى ما أصاب المسلمين من التحلل والإفلاس في الإيمان والشعور الديني، وما أثرت فيهم الحكومة الإنجليزية والحضارة الغربية، والتعليم المدني، وغفلة الدعاة، والاشتغال الزائد بالحياة والانهماك في المادة.
توفي في 11 رجب سنة 1363 هـ، ودفن في مركز جماعة
التبليغ بدهلي
(1)
.
قرأ عليه الإمام الكتب العربية الابتدائية.
2 -
الشيخ عبد اللطيف البرقاضوي:
ولد رحمه الله في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وقرأ الكتب الابتدائية على والده، ثم التحق بمدرسة "مظاهر علوم" وأخذ الحديث الشريف من المحدث خليل أحمد السهارنفوري، والشيخ عنايت علي السهارنفوري، وغيرهما من العلماء، ثم عُيّن مدرسًا في مظاهر علوم، وأخيرًا مديرها، فظل يفيد ويدرِّس إلى آخر حياته، وتوفي في 2/ ذي الحجة سنة 1373 هـ بسهارنفور
(2)
.
قرأ عليه الإمام محمد زكريا علم المعقول.
3 -
والده الشيخ محمد يحيى:
ولد في سنة 1287 هـ، وحفظ كتاب الله وكان عمره سبع سنين، أمره والده أن يقرأ القرآن المجيد من أوله إلى آخره كل يوم، وقرأ الكتب العربية على والده وعلى الشيخ يد الله السنبهلي، ثم قرأ الحديث على العالم الربَّاني الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، ودرَّس كتب الحديث وغيرها في مدرسة مظاهر علوم بسهارنفور، وتوفي فيها في العاشر من ذي القعدة سنة 1334 هـ.
وكان للشيخ محمد يحيى طريقة خاصة في التعليم والتربية، فلم يكن يُدرّس في المراحل الابتدائية الكتب الدراسية، بل كان يملي القواعد والمبادئ الصرفية والنحوية، على الترتيب والتدريج، وكان يركز على اللغة والأدب والتضلع منهما منذ البداية، وكان يهتم بتعميق القدرة العلمية وغرس
(1)
انظر ترجمته في "الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي" للشيخ أبي الحسن الندوي.
(2)
انظر ترجمته في "العناقيد الغالية"(ص 115)، و"تاريخ مظاهر علوم"(ص 108).
حب الدراسة في قلب الطالب، ولم يعتن بإنهاء المقررات الدراسية، بل كان يهتم بتقريب المادة إلى ذهن الطالب، ولم يكن ينتقل من كتاب إلى آخر إلا حين يطمئن إلى أنه أصبح يقدر على فهم وتفهيم صفحات الكتاب دون مساعدة من أستاذه، ويولي عناية خاصة لإتقان اللغة العربية وتكوين القدرة العلمية لدى الطالب، من هنا كان المتخرج عليه يتمتع بالإتقان والتعمق والكفاءة العلمية
(1)
.
قرأ الشيخ محمد زكريا عليه كتب السُّنَّة وغيرها، وحصلت له منه إجازة الحديث.
وقد أخذ الشيخ محمد يحيى الحديث الشريف عن الإمام المحدث رشيد أحمد الكنكوهي، الذي أخذ الحديث عن الشيخ المحدث عبد الغني المجددي، وقد أخذ الحديث عن الشاه أبي سعيد الدهلوي، الذي أخذ الحديث عن الشاه عبد العزيز الدهلوي، والأخير أخذ الحديث عن الشاه ولي الله الدهلوي
(2)
.
4 -
المحدث خليل أحمد السهارنفوري:
ولد في "نانوته" من أعمال سهارنفور في سنة تسع وستين ومائتين وألف من الهجرة، وقرأ العلم على خاله الشيخ يعقوب بن مملوك العلي النانوتوي والشيخ محمد مظهر النانوتوي، وعلى غيرهما من العلماء في "دار العلوم" ديوبند، و"مظاهر علوم".
وأخذ الحديث عن الشاه عبد الغني المجددي، والشيخ عبد القيوم البدهانوي، وقد أخذ الحديث عن الشاه إسحاق الدهلوي تلميذ الشاه عبد العزيز الدهلوي.
(1)
"تذكرة الشيخ محمد إلياس" لأبي الحسن الندوي (ص 12).
(2)
"العناقيد الغالية"(ص 134)، وانظر أسانيد الشيخ محمد زكريا وإجازاته في "مقدمة الأوجز"(ص 60).
كذلك حصل على إجازة الحديث من الشيخ محمد مظهر النانوتوي، الذي تصل سلسلة إسناده إلى الشاه عبد العزيز الدهلوي، درّس الحديث الشريف في "دار العلوم" ديوبند، و"مظاهر علوم"، قال المؤرخ عبد الحي الحسني عنه:"كانت له الملكة القوية والمشاركة الجيدة في الفقه والحديث، واليد الطولى في الجدل والرسوخ التام في علوم الدين"
(1)
.
وتخرَّج على يده جمعٌ من العلماء والمشايخ، منهم: الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، والشيخ عاشق إلهي الميرتهي، ولازمه الشيخ محمد زكريا مدة من الزمن، وحصل منه على إجازة الحديث.
ألَّف الشيخ السهارنفوري مؤلفات عديدة من أهمها "بذل المجهود"، و"المهند على المفند".
توفي في المدينة المنورة يوم الأربعاء في السادس عشر من ربيع الآخر سنة 1346 هـ، ودفن بالبقيع.
5 -
مولانا الشيخ عنايت إلهي:
وحصل الشيخ محمد زكريا على الإجازة من الشيخ مولانا عنايت إلهي، عن الشيخين الجليلين مولانا محمد مظهر النانوتوي، وشارح "صحيح البخاري" مولانا أحمد علي المحدث السهارنفوري رحمهم الله تعالى
(2)
.
ب - تلاميذه
أما تلاميذه الذين نهلوا من علمه واستفادوا منه فعددهم كثير، وما زالوا يخدمون الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويجدهم السائح في المدارس الإسلامية، ولا سيما في الهند وباكستان، وبنغلاديش وإنكلترة وكندا، وأمريكا، وجنوب إفريقيا، وغيرها من البلدان.
(1)
"نزهة الخواطر"(8/ 147)، وانظر ترجمته في "العناقيد الغالية"(ص 124)، و"بذل المجهود"(20/ 245، 1/ 25 - 34)، ومقدمة "أوجز المسالك"(ص 59).
(2)
مقدمة "أوجز المسالك"(ص 60).
وقد برز منهم في الحديث:
الداعية المحدث محمد يوسف الكاندهلوي (ت 1384 هـ) صاحب كتاب "أماني الأحبار شرح معاني الآثار" للطحاوي
(1)
.
والشيخ إنعام الحسن الكاندهلوي (ت 1416 هـ) صاحب كتاب "الأبواب والتراجم للبخاري"
(2)
.
والشيخ عبد الجبار الأعظمي صاحب كتاب "إمداد الباري شرح صحيح البخاري".
والمفتي محمود حسن الكنكوهي (ت 1417 هـ).
والشيخ تقي الدين الندوي المظاهري.
والشيخ محمد يونس الجونفوري، شيخ الحديث بجامعة مظاهر علوم.
والشيخ محمد عاقل السهارنفوري وغيرهم.
وأخذ عنه إجازة الحديث كثير من العلماء وطلبة العلم، من أشهرهم:
الدكتور مصطفى السباعي.
والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
والدكتور محمد علوي المالكي.
والشيخ محمد طه البركاتي وغيرهم
(3)
.
ج - مؤلفاته
ألَّف الشيخ في أكثر الفنون، وشتى العلوم، مؤلفات تدل على غزارة علمه، ورجاحة عقله، وعلو منزلته، وتتميز كتبه بالضبط التام، والتحقيق
(1)
انظر ترجمته في: "تذكرة الداعي إلى الله الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي" للشيخ الشريف محمد الثاني الحسني.
(2)
قاد حركة جماعة التبليغ من 1384 هـ إلى 1416 هـ.
(3)
"علماء مظاهر علوم وخدماتهم العلمية والتأليفية"(ص 303).
والإتقان والدقة، وعمق البحث والاستيفاء والإنصاف، والاعتدال والتواضع البابغ، والصبر والأناة، وكثرة المصادر وتنوع المعارف.
وقد اهتم الشيخ بالتأليف كما اهتم بالتدريس، فيرى المتتبع لأحوال حياته أنه لم ينقطع عن التأليف في حله وترحاله ومرضه، وهذا كتابه "حجة الوداع" أكمله في يوم وليلة ونصف ليلة، عدا عن الحواشي التي أضافها في الأوقات المتفرقة
(1)
، وأكمل كتابه "شرح الشمائل للترمذي" خلال يومين أو ثلاثة
(2)
.
ويلاحظ المتتبع لحياته أنه بدأ يؤلف في أيام دراسته، فكان أول كتاب ألَّفه "شرح ألفية ابن مالك" في علم النحو في ثلاثة أجزاء بـ "اللغة الأردية"، وكان عمره حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة
(3)
.
ولعل أبلغ ما يشير إلى ذلك كثرة مؤلفاته التي تجاوزت المائة، مما يدل دلالة واضحة على اهتمام الشيخ محمد زكريا بتأليف الكتب وتصنيفها منذ الصغر.
كذلك يلاحظ القارئ عند مطالعته لكتبه أنه معترف بفضل المتقدمين، وإن اختلف معهم اختلف بكل أدب واحترام.
يقول العلامة الندوي: يمتاز كتابه بمعرفته لفضل المتقدمين، والأدب معهم، وإيتاء كل ذي حق حقه، والتصريح بأسمائهم، وبالمصادر التي ينقل عنها، والرد عليهم، ويُبين بعض أوهامهم في أدب جم، وتواضع ظاهر، وأسلوب علمي نزيه، وذلك شعار العلماء المتقدمين في كل عصر وطبقة
(4)
.
وقد قرر الشيخ أن لا يأخذ حقوق الطبع من دور النشر التي نشرت كتبه، وأعلن في الجرائد والصحف أنه ألَّف هذه الكتب ابتغاء لوجه الله
(1)
انظر: "حجة الوداع"(ص 205).
(2)
"آب بيتي"(2/ 131).
(3)
"آب بيتي"(2/ 125).
(4)
مقدمة "حجة الوداع" لأبي الحسن الندوي (ص 81).
تعالى، فلا يطلب عوضًا ماليًا من الجهة التي قامت بطباعة كتبه، ويجيز لكل من يريد طباعة كتبه، بشرط أن لا يغيّر موضوعات الكتاب، ويهتم بالتصحيح
(1)
.
لذلك نرى أن كتبه وجدت رواجًا وقبولًا بين الناس في العرب والعجم، وقد تُرجمت إلى عدة لغات في العالم، ومنها: كتابه "فضائل القرآن" الذي ترجم إلى إحدى عشرة لغة، و"فضائل الصلاة" إلى خمس عشرة لغة، و"فضائل رمضان" إلى اثنتي عشرة لغة، وهكذا كتبه الأخرى الكثيرة، ونفع الله بها خلائق لا يُحْصَون
(2)
.
ألَّف الشيخ في علوم وفنون شتى، واختار لذلك اللغة الأردية والعربية، فكان له نحو مائة مؤلف، منها ما هو للمختصِّين، ومنها ما هو لعامة الناس.
أسماء كتب الشيخ حسب العلوم والفنون
(3)
:
أ - التفسير والتجويد:
1 -
تحفه الإخوان في بيان أحكام تجويد القرآن (الأردية)، مطبوع.
2 -
تبويب أحكام القرآن، ذكره الشيخ في (آب بيتي)
(4)
.
3 -
تفسير موجز للقرآن (العربية)، مطبوع.
4 -
شرح الجزرية (العربية)، مخطوط.
ب - الحديث وعلومه:
1 -
الأبواب والتراجم لصحيح البخاري (العربية)، مطبوع.
(1)
"تذكرة شيخ الحديث" للدهيانوي (1/ 202).
(2)
انظر: "تذكرة شيخ الحديث" للدهيانوي (1/ 200).
(3)
انظر: "آب بيتي"(2/ 169)، و"مجلة الفرقان"(ص 125).
(4)
(/ 169).
2 -
أوجز المسالك إلى موطأ مالك (العربية)، مطبوع.
3 -
أصول الحديث على مذهب الحنفية (مخطوط).
4 -
أوليات القيامة (العربية)، مخطوط.
5 -
تبويب تأويل مختلف الحديث (العربية)، مخطوط.
6 -
تبويب مشكل الآثار (العربية)، مخطوط.
7 -
تخريج الجامع (العربية)، مخطوط.
8 -
تقارير كتب الحديث (الأردية)، مخطوط.
9 -
تقرير مشكاة (شرح مشكاة المصابيح)(العربية)، مخطوط.
10 -
تقرير نسائي (المسمَّى: الفيض السمائي على سنن النسائي)(العربية) مطبوع.
11 -
تلخيص "بذل المجهود"(العربية)، مخطوط.
12 -
جامع الروايات والأجزاء (العربية)، مخطوط.
13 -
جزء أفضل الأعمال (العربية)، مخطوط.
14 -
جزء أنْكحته صلى الله عليه وسلم (العربية)، مخطوط.
15 -
جزء إنما الأعمال بالنيات (العربية)، مخطوط.
16 -
جرء تخريج حديث عائشة رضي الله عنها.
17 -
جزء الجهاد (العربية)، مخطوط.
18 -
جزء روايات الاستحاضة (العربية)، مخطوط.
19 -
جزء رفع اليدين (العربية)، مخطوط.
20 -
جزء صلاة الاستسقاء (العربية)، مخطوط.
21 -
جزء صلاة الخوف (العربية)، مخطوط.
22 -
جزء صلاة الكسوف (العربية)، مخطوط.
23 -
جزء ما جاء في شرح ألفاظ الاستعاذة (العربية)، مخطوط.
24 -
جزء ما قاله المحدثون في الإمام الأعظم (العربية)، مخطوط.
25 -
جزء ما يشكل على الجارحين (العربية)، مخطوط.
26 -
جزء المبهمات في الأسانيد والروايات (العربية)، مخطوط.
27 -
جزء مُكفرات الذنوب (العربية)، مخطوط.
28 -
جزء المعراج (العربية)، مخطوط.
29 -
حجة الوداع وعمرات النبي صلى الله عليه وسلم (العربية)، مطبوع.
30 -
حواشي المسلسلات (العربية)، مطبوع.
31 -
حواشي وتعليقات بذل المجهود (العربية)، مطبوع.
32 -
حواشي ذيل التهذيب، مخطوط.
33 -
ذيل التيسير (تيسير الوصول إلى جامع الأصول)(العربية)، مخطوط.
34 -
شذرات الحديث (وهي تعليقات على بعض كتب الحديث)(العربية)، مخطوط.
35 -
شذرات أسماء الرجال (العربية)، مخطوط.
36 -
فضائل زبان عربي (فضائل اللغة العربية)(الأردية)، مطبوع.
37 -
الكوكب الدرِّي على جامع الترمذي (العربية)، مطبوع.
38 -
لامع الدراري على جامع البخاري (العربية)، مطبوع.
39 -
معجم الصحابة الذين أخرج عنهم أبو داود الطيالسي في مسنده (العربية)، مخطوط.
40 -
ملتقط الرواة عن المرقاة (العربية)، مخطوط.
41 -
مختصات المشكاة (العربية)، مخطوط.
42 -
معجم رجال تذكرة الحفاظ للذهبي
(1)
.
(1)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 168).
43 -
معجم المسند للإمام أحمد
(1)
.
44 -
مقدمات كتب الحديث (العربية)، بعضها مطبوعة وبعضها مخطوطة.
جـ - الفقه وأصوله:
1 -
اختلاف الأئمة (الأردية)، مطبوع.
2 -
جزء المناط (العربية)، مخطوط.
3 -
جزء خلاف الأئمة في الصلاة (العربية)، مخطوط.
4 -
جزء رفع يدين (العربية)، مخطوط.
5 -
شذرات - أي: تعليقات - على "الهداية"، و"نور الأنوار"، و"الدر المختار"، و"الحسامي"، وهذه مجموعة من المذكرات كتبها الشيخ باللغة العربية، وهي مخطوطة.
6 -
وجوب إعفاء اللحية (الأردية) و (العربية)، مطبوع.
د - التاريخ والسير:
1 -
أبجد الوقائع (الأردية)، مخطوط.
2 -
أكابر كا رمضان (الأردية)، مطبوع.
3 -
آب بيتي (مسيرة الحياة)(الأردية)، مطبوع.
4 -
أكابر علماء ديوبند (أي: تراجم كبار علماء ديوبند)(الأردية)، مطبوع.
5 -
تاريخ مشايخ جشت (الأردية)، مطبوع.
6 -
تاريخ مظاهر العلوم (الأردية)، مطبوع.
7 -
تذكرة القراء السبعة (العربية)، مطبوع.
(1)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 163).
8 -
جزء أمراء المدينة المنورة (العربية)، مخطوط.
9 -
جزء طرق المدينة المنورة (العربية)، مخطوط.
10 -
جزء وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (العربية)، مخطوط.
11 -
الحواشي على الإشاعة في أشراط الساعة
(1)
(العربية)، مطبوع.
12 -
حكايات الصحابة (العربية)، مطبوع.
13 -
خصائل نبوي (شرح الشمائل)(الأردية)، مطبوع.
14 -
رسائل استرائك (رسالة فيما يتعلق بإضراب الطلبة عن الدراسة)(الأردية)، مطبوع.
15 -
سيرة الصدِّيق رضي الله عنه (الأردية)، مطبوع.
16 -
قرآن عظيم أور جبرية تعليم (الأردية)، مطبوع.
17 -
مجددين ملت (مجددو الدين)(العربية)، مخطوط
(2)
.
18 -
مشايخ التصوف (الأردية)، مخطوط.
19 -
ميري محسن كتابين (كتب عشت فيها)(الأردية)، مخطوط.
20 -
المؤلفات والمؤلفون (فهرس المؤلفات والمؤلفين من كتب الأخبار والمحدثين)(العربية)، مخطوط.
21 -
نظام مدرسة مظاهر علوم (الأردية)، مخطوط.
22 -
المؤلفات والمؤلفون (فهرس المؤلفات والمؤلفين من كتب الأخبار والمحدثين).
23 -
نتائج حج (أثر الحج)(الأردية)، مطبوع.
24 -
الوقائع والدهور (العربية)، مخطوط.
(1)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 161).
(2)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 165).
هـ - العقيدة:
1 -
إسلام لا نـ كا طريقه (طريقة الدخول في الإسلام)(الأردية)، مطبوع.
2 -
التقدير (مخطوط)
(1)
.
3 -
تين مكتوب (ثلاث رسائل)(الأردية)، مطبوع.
4 -
موت كي ياد (ذكر الموت)(الأردية)، مطبوع.
و - الزهد والرقاق:
1 -
شريعت وطريقت كا تلازم (الأردية)، مطبوع، وطبع باللغة العربية باسم (الشريعة والطريقة).
2 -
ضمائم خوان خليل (الأردية)، مطبوع.
3 -
فضائل التجارة (الأردية)، وترجم إلى اللغات الأخرى.
4 -
فضائل درود شريف (الأردية) مطبوع، وترجم إلى العربية باسم (فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) كما ترجم إلى لغات أخرى.
5 -
فضائل الذكر (الأردية)، مطبوع.
6 -
فضائل القرآن (الأردية) مطبوع، وترجم إلى العربية واللغات الأخرى.
7 -
فضائل الحج (الأردية)، مطبوع.
8 -
فضائل التبليغ (الأردية)، مطبوع.
9 -
فضائل الصدقات (الأردية)، مطبوع، وترجم إلى اللغات المختلفة.
10 -
فضائل الصلاة (الأردية)، مطبوع، وترجم إلى اللغات الأخرى.
(1)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 159).
11 -
نسبت وإجازات (النسبة والإجازة)(الأردية)، مطبوع.
12 -
وصايا وتعليمات (العربية والأردية)، مطبوع.
ز - الصرف والنحو والمنطق:
1 -
إضافة بر أشكال إقليدس (إضافة على أشكال أقليدس)(الأردية)، مخطوط.
2 -
شرح ألفية ابن مالك (الأردية)، مخطوط.
3 -
شرح سُلَّم العلوم (الأردية)، مخطوط.
حـ - الفرق والحركات:
1 -
الاعتدال في مراتب الرجال (الأردية)، مطبوع.
2 -
تبليغي جماعت بر اعتراضات كي جوابات (انتقادات الناس على جماعة التبليغ والجواب عنها)(الأردية)، مطبوع.
3 -
فوائد حسيني (العربية)، مخطوط.
4 -
فتنة مودوديت (الأردية) مطبوع، وترجم إلى العربية باسم (الأستاذ المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره).
5 -
مشرقي كا إسلام
(1)
(إسلام المشرقي)، ألَّفه الشيخ في الرد على عناية الله المشرقي الملحد.
6 -
مطالعة قادنيت (الرد على القاديانية)(الأردية)، مخطوط.
* * *
(1)
ذكره الشيخ في: "آب بيتي"(2/ 166).
المبحث الثالث: آثاره في علم الحديث الشريف
لمَّا كان موضوع البحث "المحدث محمد زكريا وآثاره في علم الحديث"، فقد أفردت لآثاره الحديثة عنوانًا مستقلًا كي أفصِّل القول فيها حتى يقف القارئ على جهوده في هذا الجانب المهم.
وأذكر هنا أولًا الكتب المطبوعة ثم الكتب المخطوطة:
أ - الكتب المطبوعة
1 -
أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك:
يعد هذا الكتاب أوفى شرح للموطأ حديثًا وفقهًا، وخدمة للقارئ، وتوضيحًا للمراد، وهو مؤلَّف جامع يغني عن كثير من الشروح والحواشي، ويمكن عدَّه موسوعة ضخمة في علم الحديث النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، تعلن دون غموض سعة علم المؤلف وصفاء ذهنه، ورحابة صدره في ذكر الدلائل والحجج، وتحرِّيه للصحة والدقة في نقل المذاهب، وفهمه العميق، وهو يستوفي شرح أسماء الرجال، وبيان المذاهب الأربعة وما عداها في المسائل الخلافية من كتب موثوقة عند أهلها، ويهتم في شرح الحديث، ويذكر أقوال مشايخه وأعيان المحدثين في الهند
(1)
.
وعليه مقدمة ضافية ذكر فيها المصنف أولًا سبب تأليف هذا الشرح مع بيان خطته فيها.
(1)
انظر: مقدمة "أوجز المسالك"(1/ 9).
ثم قسَّم مقدمته إلى سبعة أبواب، وأدرج تحتها فوائد عديدة.
فجعل الباب الأول في علم الحديث الشريف، ذكر فيه تعريف علم الحديث رواية ودراية، وشرافة هذا العلم وأهله والثناء عليه، ثم تطرق لبيان كتابة السُّنَّة في العهد النبوي وتدوينها.
وأما الباب الثاني، ففيه فصلان: جعل الفصل الأول في ترجمة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، فذكر فيه اسمه ونسبه ونسبته وولادته ووفاته وصفاته الخلقية ولباسه وأولاده وثناء العلماء عليه، ثم ذكر مشايخه الذين أخذ عنهم العلم وتلامذته الذين نهلوا من علمه، وختم هذا الفصل بذكر مؤلفاته غير الموطأ.
وجعل الفصل الثاني في بيان أفضلية الموطأ وثناء العلماء عليه، وسبب تسميته بالموطأ، ومنهجه فيه، ثم تطرق إلى بيان تعريف رواة الموطأ ونسخه، وأهمية نسخة يحيى بن يحيى المصمودي الأندلسي، مع بيان عدد روايات الموطأ، ثم ذكر المراسيل، والبلاغات الواردة فيه مع بيان حكمها، ثم ذكر الكتب التي أُلفت حول الموطأ مع تعريف وجيز للمؤلِّف والمؤلَّف.
وأما الباب الثالث: فخصَّصه للتعريف بنفسه وشيوخه، وذكر أسانيده بالتفصيل، مع تعريف بكبار علماء الهند.
وجعل الباب الرابع: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وشيوخه وتلاميذته والدفاع عنه، وذكر في الباب الخامس بعض أصول الحديث المهمة.
وأما الباب السادس: فجعله في بيان آداب المحدِّث ومراتب أهل الحديث، وآداب الطالب، وطرق التحمل والأداء.
وأما الباب السابع: فجعله في بيان نُكت في علوم الحديث.
وطبع الكتاب بتحقيق والدنا الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي في (18) مجلدًا.
2 -
لامع الدراري على جامع البخاري:
هو مجموعة من الإفادات الثمينة، والتحقيقات النادرة، للإمام الربَّاني، شيخ الفقهاء والمحدثين في عصره، رشيد أحمد الكنكوهي،
المتوفى سنة 1323 هـ، في أثناء تدريس "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، قيَّدها تلميذه النجيب الوفي الشيخ محمد يحيى بن محمد إسماعيل الكاندهلوي المتوفى سنة 1334 هـ، وهو عُصارة دراسات الشيخ ولباب تأملاته، وعكوفه الطويل على علم الحديث دراسة وتدريسًا.
وقد جاء دور الشيخ محمد زكريا فنقَّحها وهذَّبها، وتناولها بالشرح والإيضاح، والكشف والإبانة، وضمَّ إليها ما فتح الله به عليه من نكت بديعة، وإشارات لطيفة، وتحقيقات نادرة، وتطبيقات فائقة، وسمَّاه:"لامع الدراري على جامع البخاري"، وألَّف على الكتاب مقدمة ضافية، ذكر فيها أولًا لتعريف بالشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، وطريقة تدريسه للكتب الستة، وإجازاته لطلبة الحديث، ثم بيَّن سبب تأليف هذا الكتاب.
ثم قسَّم المقدمة إلى أربعة فصول:
أما الفصل الأول: فخصَّصه لدراسة حياة الإمام البخاري من نواح شتى بكل إتقان وإنصاف، وأبرز الجوانب المهمة من حياته، ومن ذلك قوله في بيان مذهبه الفقهي بعد ذكر آراء العلماء فيه: كذلك الإمام البخاري المعروف أنه شافعي، ولذا عدّوه في الشافعية، والأوجه عندي أنه مجتهد مستقل كما يظهر من إمعان النظر في "الصحيح"، فإن إيراداته على الشافعية ليست بأقل من إيراداته على فروع الحنفية، إلا أنه إذا أورد على الحنفية يشدد الكلام لعوارض معلوماته
(1)
.
وعندما تعرَّض الإمام لذكر شيوخ البخاري، قال بعد ذكر شيوخه من الحنفية: أكثر ثلاثيات البخاري من شيوخه الحنفية
(2)
.
وأما في الفصل الثاني: فتناول فيه التعريف بكتابه "الصحيح"، فذكر
(1)
مقدمة "لامع الدراري"(ص 59)، وهنا ذكر الإمام بحثًا لطيفًا في "مذاهب أئمة الحديث الفقهية".
(2)
مقدمة "لامع الدراري"(ص 62).
اسمه والباعث على تأليفه وثناء العلماء عليه، وشروطه وخصائصه، ومنهجه في الأبواب والكتب والأحاديث المكررة، ومكانة الصحيح بين كتب الحديث، وكتب الحديث التي أُلِّفت قبل البخاري، وغيرها من الأمور المهمة.
ثم تحدث عن أنواع كتب الحديث والتعريف بكل نوع منها، وعن رواة البخاري والأحاديث المنتقدة في البخاري والجواب عنها.
وأما الفصل الثالث: فجعله دراسة عن تراجم صحيح البخاري، فذكر خصائصها والكتب المؤلفة فيها، وغيرها من الأمور التي تتعلق بهذه التراجم.
وفي الفصل الرابع: تحدث عن الكتب والشروح التي ألفت حول صحيح البخاري والتي بلغت مائة وواحدًا وثلاثين كتابًا حسب إحصائية الإمام
(1)
.
من أجل هذا كله أصبحت هذه المقدمة موسوعة عن الإمام البخاري وكتابه "الصحيح"، وتستحق أن تكون كتابًا مستقلًا كما قال العلامة أبو الحسن الندوي: لقد أصبحت هذه المقدمة كتابًا مستقلًا مفيدًا يستحق أن ينشر بمفرده، فقد أصبحت مقدمة ضافية في علوم الحديث، ودائرة معارف فيما يتصل بالإمام البخاري وسيرته وأخباره، ودقائق حياته وجلائلها، ومنهجه في التأليف، وما التزمه من التزامات وشروط في وضع الكتاب، وبما تلقمه هذه الأمة من اعتناء به وقَبول
(2)
.
وعندما توجَّه الإمام إلى شرح صحيح البخاري، جعل إفادات الإمام الكنكوهي أصلًا ومتنًا، ثم علَّق واستدرك عليها، ولم يتطرق الكنكوهي في إفاداته إلى الخلافات المذهبية، والتعريف بالرواة، وبيان غريب الحديث وغيرها، إنما تطرق إلى شرح الأبواب والأحاديث من حيث المراد
(1)
مقدمة "لامع الدراري"(ص 5 و 470).
(2)
مقدمة "لامع الدراري"(ص 2).
والمفهوم، من ذلك قول البخاري: باب إدخال البعير في المسجد لعلة
(1)
، قال الكنكوهي: يعني ذلك أنهم ينهون عنه لما فيه من احتمال تلويث المسجد، فإذا احتيج إلى إدخال شيء من الدواب فيه أو حصل الأمن من بوله وروثه لكونه مدرَّبًا فلا بأس
(2)
.
وعلَّق عليه الإمام الكاندهلوي بقوله: أشار الشيخ بذلك إلى أن لفظ العلة في الترجمة معناه الحاجة، قال الحافظ
(3)
: قوله: للعلة، أي: الحاجة، وفهم بعضهم أن المراد بالعلة الضعف، وقال العيني
(4)
: قوله: للعلة، أي: للحاجة، وهي أعم من أن تكون للضعف وغيره.
ومن ذلك قوله في شرح ألفاظ الحديث: {فَاطَّهَّرُوا} ، قال الكنكوهي: والصيغة لما فيها من المبالغة لا تَصْدُق إلا على الغُسل
(5)
.
وعلَّق عليه الإمام الكاندهلوي بقوله: قال العيني
(6)
: {فَاطَّهَّرُوا} ، أي: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة.
وقال الحافظ: قدَّم الآية التي في سورة المائدة على الآية التي في سورة النساء لدقيقة وهي أن لفظ الآية التي في المائدة {فَاطَّهَّرُوا} في إجمال، ولفظ التي في النساء فيه تصريح بالاغتسال وبيان للتطهير المذكور، فدلَّ على أن المراد بقوله تعالى:{فَاطَّهَّرُوا} ، هو: فاغتسلوا.
أكثر ما اعتنى به الشيخ الكنكوهي في إفادته هو شرح تراجم البخاري وبيان المقصود منها، من ذلك قوله في "باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء":"لا يُقدم الرفع على التكبير ولا يؤخره عنه، ودلالة الرواية عليه لكون الرفع في الرواية قد وقع طرفًا للافتتاح أو جزءًا له، وأيًّا ما كان فالاتصال ثابت".
(1)
"صحيح البخاري"(1/ 116).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 49).
(3)
"فتح الباري"(1/ 558).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 519).
(5)
"لامع الدراري"(2/ 207).
(6)
"عمدة القاري"(3/ 3).
وأما الإمام الكاندهلوي
(1)
فشرح هذه الترجمة بقوله: الأوجه عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى مسألتين خلافيتين شهيرتين، الأولى: رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، أشار إليها بالجزء الأول، هذا الرفع فيه اختلاف معروف وإن كان مجمعًا عليه عند الجمهور حتى حُكي عليه الإجماع.
ثم شرح الكاندهلوي الجزء الثاني من الترجمة وهو "الافتتاح سواء" بقوله: قال الحافظ
(2)
: يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وفي رواية شعيب الآتية بعد باب "يرفع يديه حين يكبّر": فهذا دليل المقارنة. . إلخ.
نستنتج من هذا كله أن الإمام الكاندهلوي أكمل علوم العلَّامة الكنكوهي وفسَّرها واستدرك عليها، ولذلك أصبحت تعليقات الإمام الكاندهلوي خمسة أضعاف إفادات الكنكوهي، أودع فيها الفوائد الحديثية والفقهية والنكت اللطيفة.
قال العلَّامة محمد يوسف البنوري في تقديم "لامع الدراري": "اللامع" مختص بحل مشكلات البخاري، وما يتعلق بأحاديثه في غير الخلافيات الفقهية، وجاء البحث عنها نادرًا، نعم استدرك هذا صاحب التعليقات إكمالًا لفوائدها، وشفاء لغليل الرواد الذين اقتصرت أنظارهم على اللامع، فإذن "اللامع" بتعليقاته اللامعة، وأبحاثه الساطعة أصبح شرحًا وافيًا بالمقصود من كل جهة في الباب
(3)
.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 254).
(2)
"فتح الباري"(2/ 218).
(3)
مقدمة "لامع الدراري"(ص ط)، أقول: وقد طبع الكتاب في ثلاثة مجلدات كبار من القطع الكبير طباعة حجرية بالهند، ثم أعيدت طباعته في باكستان في عشرة مجلدات من القطع المتوسط.
وقد قرر صاحب المكتبة الإمدادية بمكة المكرمة طبع هذا الكتاب مع متن "صحيح البخاري"، وصدر بإذن الله في أربعة وعشرين مجلدًا باسم "الكنز المتواري".
3 -
كتاب "الأبواب والتراجم" للبخاري:
هذا هو الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه، يحتوي على بحث واف لكل ما يتصل بالأبواب والتراجم للبخاري، كان المؤلف رحمه الله ذكر في كتابه كل ما جاء من أصول الإمام المحدث ولي الله الدهلوي، والقواعد الكليَّة للتطبيق بين الأبواب والتراجم، وأبواب لا ترجمة لها، وكذلك كل ما جاء في رسالة العلامة محمود حسن الديوبندي، وكل ما وجد من فوائد في دروس الإمام الرباني مولانا رشيد أحمد الكنكوهي، والمحدّث الجليل أحمد السهارنفوري، وما وجد من أصول وقواعد في كلام شرّاح البخاري فاستوعبها وزاد عليها مما كان خاطرة أبا عذرته، ولم يسبق إليه، حتى بلغ عدد هذه الأصول والقواعد الكلية سبعين أصلًا وقاعدة.
4 -
الكوكب الدري على جامع الترمذي:
هذا الكتاب مجموع إفادات وأمالي المحدّث الرباني رشيد أحمد الكنكوهي.
وهو بالمذكرات أشبه منه بشرح ضافٍ وافٍ لجامع الترمذي، وعلى وجازته وقلة حجمه وعدم استيفائه شَرَح الكتاب من أوله إلى آخره، يشتمل على فوائد كثيرة لا يعرف قيمتها إلا من اشتغل بتدريس الجامع طويلًا، وعرف مواضع الدقة والغموض التي لا يرتاح فيها المدرس الحاذق والطالب الذكي، إلى ما جاء في عامة الشروح والتعليقات، ويتوق فيها ويتطلع إلى ما يحل العقدة، ويروي الغلة بكلام فصل لا فضول فيه ولا تقصير، هذا إضافة إلى فوائد في اللغة وغريب الحديث وعلم الرجال والأصول ومقاصد الشريعة، وفيه بعض النكت التي يعين عليها صفاء النفس وإشراق القلب والحب، والقول السديد في ترجيح بعض الوجوه على بعض، وتعيين معنى من المعاني بالذوق والممارسة، وجواب للإيراد على المذهب الحنفي.
وقد علَّق على هذا الكتاب الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي
وأضاف إلى صلب الكتاب
(1)
ما جاء من فوائد في شروح للكتب الأخرى كـ "بذل المجهود"، و"لامع الدراري" وغيرهما، وسماه:"الكوكب الدري على جامع الترمذي"
(2)
. وطبع الكتاب في مطبعة ندوة العلماء بالهند عام 1395 هـ (1975 م)، ثم طبع عام 1407 هـ من إدارة القرآن بباكستان في أربعة مجلدات.
5 -
حجة الوداع وعمرات النبي صلى الله عليه وسلم
-:
هذا الكتاب موسوعة صغيرة فيما يتصل بحجة النبي صلى الله عليه وسلم التي تسمَّى "حجة الوداع".
ويمتاز هذا الكتاب أولًا بالاستيعاب الشامل لكل ما يتصل بهذه الرحلة المباركة والركن العظيم من قريب أو بعيد، من بيان المناسك ونقل المذاهب، واختلاف الأئمة وآراء الشراح ومباحث المحدثين والفقهاء، وتحديد المنازل وتعيين أسمائها ومواضعها في ضوء العلم الحديث، والتغيرات التي طرأت عليها، واقتباس أحسن ما كتب في هذا الموضوع في القديم والحديث، واستعراض النقول المفيدة عن كتب المتقدمين حتى يحار القارئ ويملكه العجب من الاستقصاء.
والكتاب يقع في جزئين، تناول الإمام في الجزء الأول حجته صلى الله عليه وسلم، والجزء الثاني جعله في عمراته صلى الله عليه وسلم وعددها وتحديدها وتفاصيلها، وما اشتملت عليه من أحكام فقهية وبحوث تاريخية وفوائد علمية وتحقيقات حديثية.
وقد لخص الإمام في "كتاب حجة الوداع" رحلة حجه صلى الله عليه وسلم بكل دقة، وجعلها متنًا لهذا الكتاب، ثم شرح هذا المتن، فمن ذلك قوله في المتن:"ولبَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه"
(3)
، وقال الكاندهلوي في شرح هذه الجملة
(4)
:
(1)
مقدمة "الكوكب الدري"(ص 9).
(2)
مقدمة "الكوكب الدري"(ص 18).
(3)
أخرجه أبو داود (رقم 1748) من حديث ابن عمر، ورجاله ثقات.
(4)
(ص 41).
كذا في "الهدي"
(1)
، و"مرآة الحرمين"، وظاهر سياقهما أن التلبيد كان بعد الإحرام، وإليه يظهر ميل الحافظَين ابن حجر والعيني
(2)
.
طبع ونشر هذا الكتاب بتحقيقنا من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بأبو ظبي عام 1420 هـ - 1999 م.
6 -
تعليقات على كتاب بذل المجهود في حَلِّ أبي داود:
سبق أن ذكرت أن الشيخ شارك أستاذه خليل أحمد المدني في تأليف "بذل المجهود"، لكنه أضاف بعد ذلك بعض التعليقات، وهي مستفادة من الكتب التي لم تطبع في حياة شيخه، أو لم يتسنَّ الوصول إليها.
فجاءت هذه الاستدراكات والتعليقات من نواح شتى، من أهمها:
أولًا: المباحث الفقهية التي فاتت المحدِّث السهارنفوري، ومن ذلك قوله في مسألة الطهارة للصلاة: قلت: هناك بحث آخر ذكر في "عارضة الأحوذي"
(3)
، وهو أن الكافر إذا أسلم هل يجب عليه الغسل؟ قال أحمد ومالك: نعم، لهذا الحديث
(4)
، وقال الشافعي: يستحب، وقال أبو حنيفة: لا
(5)
.
ومن ذلك أيضًا قوله في "باب تخليل اللحية"
(6)
: قال في "عارضة الأحوذي": للعلماء فيه أربعة أقوال: لا يستحب، به قال مالك، يستحب، به قال ابن حبيب، الثالث: إن كانت كثيفة لم يجب وإلا يجب إيصال الماء، الرابع: يغسل وجوبًا ما قابَلَ الذقن وما تحته استحبابًا.
(1)
"زاد المعاد"(2/ 148).
(2)
"فتح الباري" و"عمدة القاري"(5/ 9/ 159).
(3)
(1/ 9).
(4)
ما رواه الترمذي رقم (5) من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول".
(5)
"بذل المجهود"(1/ 150).
(6)
"بذل المجهود"(1/ 355)، "عارضة الأحوذي"(1/ 49).
ثانيًا: تناول الكاندهلوي في هذه التعليقات بعض المباحث الحديثية، ومن ذلك تعليقه على الراوي المجهول: اختلف في قبول روايته، فقيل: يقبل مطلقًا، وقيل: لا مطلقًا، وقيل: فيه تفصيل، وهو إن كان ممن لا يروي إلا عن عدل يقبل، وإلا فلا
(1)
.
ومن ذلك قوله في تعليقه على سند من طريق موسى بن إسماعيل، نا حماد بن سلمة بن دينار، قال السيوطي
(2)
: إن موسى إذا أطلق حمادًا أراد به ابن سلمة لأنه قليل الحديث عن ابن زيد، حتى قيل: إنه لم يرو عن حماد بن زيد إلا حديثًا واحدًا، فقط
(3)
.
ثالثًا: أحيانًا يشير إلى ضبط الأسماء والأنساب، فمن ذلك قوله:"التبوذكي"
(4)
، بفتح التاء، نسب إليه لأنه اشترى بتبوذك دارًا فنُسب إليه، وقال: إني مولى بني منقر، إنما نزل داري قوم من تبوذك فسمُّوني التبوذكي.
رابعًا: أحيانًا يبيِّن درجة الصحة والضعف
(5)
.
خامسًا: اهتم بشرح الألفاظ الغريبة
(6)
.
سادسًا: إنه قارن نسخ سنن أبي داود وبيّن الاختلاف فيها، وهي كثيرة
(7)
.
وهي تعليقات ذات قيمة علمية
(8)
.
(1)
"بذل المجهود"(1/ 7).
(2)
"عون المعبود"(1/ 20).
(3)
"بذل المجهود"(1/ 6).
(4)
انظر: "بذل المجهود"(1/ 1، 6/ 248).
(5)
انظر: "بذل المجهود"(1/ 1، 8/ 2، 69/ 3، 283/ 304).
(6)
"بذل المجهود"(2/ 260، 2/ 2، 292/ 388).
(7)
انظر: (1/ 262، 264، 268، 273) وغيرها.
(8)
طبعت مع كتاب "بذل المجهود" في القاهرة 1973 م.
7 -
الفيض السمائي على سنن النسائي:
هو مجموع إفادات أفادها الإمام الربَّاني الشيخ رشيد أحمد الكنكوهى، وقد زاد عليها العلامة المحدث محمد زكريا، ولكنه ترك بياضًا في كثير من المواضع، فأكملها الشيخ محمد عاقل وهو من أرشد تلاميذ الشيخ، فجاء الكتاب في أحسن صورة من التحقيق والتعليق، وهذه إشارة إلى خصائصه:
1 -
يذكر اختلاف نسخ الكتاب وأحيانًا يرجع بعضها على بعض
(1)
.
2 -
اعتنى ببيان مطابقة الأحاديث لترجمة الباب
(2)
.
3 -
حقق بعض رجال الإسناد حيث كانت الحاجة ماسة إليه، لأجل اختلاف الروايات أو لأجل اختلاف الناسخين
(3)
.
4 -
اعتنى بحل العبارات الغامضة والمشكلة في الكتاب، وكثير منها لم يتعرض لها السندي والسيوطي
(4)
.
5 -
أحيانًا يذكر مذاهب الأئمة الأربعة مع بيان أدلتهم
(5)
.
8 -
تعليقات على شمائل الترمذي:
علَّق على هذا الكتاب تعليقات أنيقة، ثم نقل الكتاب إلى اللغة الأردية وطبع باسم "خصائل نبوي"، وعلى هوامشه هذه التعليقات
(6)
.
(1)
انظر: (104 و 116 و 125 و 203) وغيرها.
(2)
انظر: (91 و 95 و 134 و 184 و 210 و 224).
(3)
انظر: (101 و 76 و 99 و 68 و 111 و 116 و 117 و 94 و 96) وغيرها.
(4)
انظر: (66 و 78 و 105 و 96).
(5)
انظر: (101 و 143 و 144 و 152 و 154 و 188 و 198) وغيرها. أقول: وقد طبع الجزء الأول من الكتاب، والأجزاء البقية ستصدر قريبًا بإذن الله.
(6)
طبع هذا الكتاب في الهند وباكستان مرارًا.
9 -
حواشي المسلسلات (العربية):
ألَّف الإمام الشاه ولي الله الدهلوي ثلاث رسائل في الأحاديث المسلسلة: الأولى: الفضل المبين في المسلسلات من حديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، والثانية: الدر الثمين في مبشرات النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، والثالثة: النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر صلى الله عليه وسلم.
وكان من عادة الشيخ وشيوخه أنهم يهتمون بقراءتها بعد ختم البخاري، فرأى الشيخ الإمام أن هناك بعض الأمور تحتاج إلى شرح، وعمل فهرس للأحاديث والرجال، وإضافة بعض الأحاديث المسلسلة التي لم تذكر في هذه الرسائل الثلاث، فقام بهذا العمل
(1)
.
ب - الكتب المخطوطة
(2)
1 -
أصول الحديث على مذهب الحنفية:
حاول الإمام فيه جمع القواعد الحديثية على مذهب الحنفية كما هو واضح من مسمَّى الكتاب، بدأ الإمام تأليفه في 8/ جمادى الأولى سنة 1343 هـ، لكنه لم يكتمل.
2 -
أوليات القيامة:
حاول الإمام في هذه الرسالة جمع الأحاديث التي تتحدث عن أول أمر يُسأل عنه العبد في يوم القيامة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، وأول ما يُسأل العبد يوم القيامة عن النعيم. ."، يبدو من مخطوط الكتاب أنه لم يكتمل.
(1)
وطبع الكتاب بمكتبة إشاعة العلوم بسهارنفور، الهند.
(2)
هذه الكتب المخطوطة موجودة في المكتبة الخاصة بالإمام الكاندهلوي في سهارنفور بالهند، والتي يشرف عليها ابنه الوحيد الشيخ محمد طلحة الكاندهلوي.
3 -
تبويب تأويل مختلف الحديث:
رتَّب الإمام فيه الأحاديث الواردة في كتاب "مختلف الحديث" لابن قتيبة على الأبواب الفقهية، فجاء الكتاب في عشر صفحات من القطع المتوسط، ولكنه لم يكتمل، ألَّفه في ليلة الجمعة بتاريخ 5/ جمادى الأولى سنة 1342 هـ
(1)
.
4 -
تبويب مشكل الآثار (العربية):
رتَّب الإمام فيه موضوعات كتاب "مشكل الآثار" للطحاوي على الأبواب الفقهية، وقد جاء الكتاب في أربع وثلاثين صفحة بالقطع المتوسط، لكنه لم يكتمل ولم يهذَّب.
5 -
تخريج الجامع (العربية):
بدأ الإمام بتخريج أحاديث جامع الأصول للإمام ابن الأثير الجزري (ت 606 هـ)، والتعليق عليه عند استفادته منه، لكنه لم يكتمل.
6 -
تقارير كتب الحديث (الأردية):
حينما قرأ الإمام كتب الحديث على شيخه ووالده محمد يحيى الكاندهلوي كتب الإمام إفاداته وضبطها، كذلك إفادات الشيخ خليل أحمد السهارنفوري عند قراءته كتب الحديث عليه
(2)
.
7 -
تقرير مشكاة (شرح مشكاة المصابيح)(العربية):
وهو شرح لـ "مشكاة المصابيح"، جمع فيه أمالي شيوخه الذين قرأ عليهم الكتاب، ثم أضاف إليها تعليقاته حينما بدأ يدرس "المشكاة" حتى بلغ أكثر من ألف صفحة بالقطع المتوسط، وقد استفاد من هذه المذكرة
(1)
"آب بيتي"(2/ 168).
(2)
"تأليفات"(1/ 220).
العلمية كثير من الطلبة والأساتذة
(1)
.
8 -
تلخيص "البذل"(العربية):
سبق أن ذكرنا أدن الإمام كان خير مُعين لشيخه في تأليف كتاب "بذل المجهود في حل سنن أبي داود"، فكلّما كتب الشيخ خليل أحمد السهارنفوري في هذا الكتاب كان الإمام يقوم بتلخيصه في ألفاظه وأسلوبه، حتى جاء تلخيصه في أربعة مجلدات ضخام، فرغ من للخيصه في 25/ ربيع الأول 1343 هـ
(2)
.
9 -
جامع الروايات والأجزاء (العربية):
حاول المؤلف في جمع أطراف الحديث من كتب السُّنَّة، و"موطأ الإمام مالك"، و"الموطأ" برواية الإمام محمد، و"مستدرك الحاكم"، و"السنن الكبرى" للبيهقي، وغيرها من الكتب، لكنه لم يكتمل.
10 -
جزء إنما الأعمال بالنيات (العربية):
تناول الإمام فيه بالشرح الحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فذكر طرقه وأهميته وما يستفاد منه من الأحكام، يبدو من المخطوط أن الإمام لم يهذبه ولم يكمله
(3)
.
11 -
جزء أنكحته صلى الله عليه وسلم (العربية):
جمع فيه الإمام الروايات التي وردت في زواجه صلى الله عليه وسلم، وكذلك خطبته صلى الله عليه وسلم بعض النساء وإن لم يتم الزواج، بدأ الإمام تأليفه في 23/ ذي الحجة 1345 هـ، ولكنه لم يهذب ولم يكتمل
(4)
.
(1)
"تأليفات"(1/ 197).
(2)
"آب بيتي"(2/ 241).
(3)
"تأليفات"(1/ 267).
(4)
"آب بيتي"(2/ 165).
12 -
جزء أفضل الأعمال (العربية):
جمع فيه الإمام الروايات والأحاديث التي وردت في بيان "أفضل الأعمال" كقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله"، وقد بلغت هذه الروايات ثلاثين رواية
(1)
.
13 -
جزء تخريج حديث عائشة رضي الله عنها (العربية):
جمع الإمام فيه الروايات التي تتعلق بالصحابية بريرة رضي الله عنها، وخاصة رواية عائشة رضي الله عنها، وحاول الجمع بين الأحاديث المختلفة
(2)
14 -
جزء الجهاد (العربية):
جمع فيه المؤلف الروايات التي تتعلق بالجهاد، ثم بيّن شرطه وجوازه، وحكم مشاركة النساء في الجهاد، وآداب الجهاد وغيرها من المباحث، يبدو من مخطوط الكتاب أنه لم يكتمل
(3)
.
15 -
جزء رفع اليدين (العربية):
تناول فيه المؤلف مسألة رفع اليدين في الصلاة، فجمع الروايات الواردة فيه من كتب الصحاح والسنن والمسانيد مع دراسة أسانيد تلك الروايات، ورجح فيه ما ذهب إليه الحنفية
(4)
.
16 -
جزء صلاة الاستسقاء (العربية):
ذكر فيه الروايات الواردة في صلاة الاستسقاء مع دراسة هذه الروايات، وكذلك تعرَّض لبيان المذاهب الفقهية في هذه المسألة.
جاء هذا الكتاب في ست عشرة صفحة بالقطع المتوسط
(5)
.
(1)
"آب بيتي"(2/ 156).
(2)
"آب بيتي"(2/ 157).
(3)
"آب بيتي"(2/ 165).
(4)
"آب بيتي"(2/ 157).
(5)
"آب بيتي"(2/ 156)، "تأليفات"(1/ 273).
17 -
جزء صلاة الخوف (العربية):
أورد فيه الروايات التي وردت في مشروعية صلاة الخوف، وتعرض لبيان المواضع والغزوات التي أقيمت فيها صلاة الخوف، يشتمل هذا الكتاب على ست عشرة صفحة، بالقطع المتوسط
(1)
.
18 -
جزء صلاة الكسوف (العربية):
ذكر فيه الأحاديث التي تدل على مشروعية صلاة الكسوف مع بيان اختلاف الروايات ومذاهب العلماء فيها
(2)
.
19 -
جزء ما جاء في شرح ألفاظ الاستعاذة (العربية):
جمع فيه أحاديث الاستعاذة، مع دراسة هذه الأحاديث من حيث القبول والرد، وشرح ألفاظ الحديث.
20 -
جزء ما يشكل على الجارحين (العربية):
جمع فيه التعارض الذي وقع في كلام بعض أئمة الجرح والتعديل في شأن بعض الرواة وحاول إزالته، من ذلك قول الذهبي في "ميزان الاعتدال" في ترجمة الحسن بن عمارة: قد بلغه أن الأعمش يقع فيه فبعث إليه بكسوة، فلما كان بعد ذلك مدحه الأعمش
(3)
.
21 -
جزء ما قال المحدثون في الإمام الأعظم (العربية):
جعل المؤلف هذه الرسالة في جزئين:
الجزء الأول: تناول فيه ما قاله المحدثون من جرح وتعديل في شأن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مع دراسة لهذه الأقوال والآراء.
(1)
"تأليفات"(1/ 273).
(2)
"آب بيتي"(2/ 156).
(3)
"ميزان الاعتدال" للذهبي (1/ 514).
الجزء الثاني: جعله فيما قاله المؤرخون في شأن الإمام أبي حنيفة، أكمل المؤلف هذه الرسالة في أربعين صفحة بالقطع المتوسط.
22 -
جزء المبهمات في الأسانيد والروايات (العربية):
بيّن فيه الإمام الأسماء المبهمة التي وقعت في كثير من الأحاديث والآثار في السند أو في المتن، بدأ تأليفه في شوال عام 1341 هـ، يحتوي هذا الكتاب على سبعين صفحة بالقطع المتوسط.
23 -
جزء المعراج (العربية):
جمع فيه المصنّف الروايات والآثار التي وردت في ذكر الإسراء والمعراج مع دراسة المتون والأسانيد، بدأ تأليفه في ربيع الآخر سنة 1344 هـ، ولكنه لم يكمل ولم يهذّب.
24 -
حواشي وذيل "التهذيب"(العربية):
أراد الإمام أن يكتب ذيلًا لتهذيب التهذيب لكنه لم يتمكن، إنما علَّق على بعض المواضع منه، وقد استفاد من هذه التعليقات الوجيزة الشيخ محمد أيوب المظاهري في كتابه "تصويب التقليب الواقع في تهذيب التهذيب"
(1)
.
25 -
ذيل التيسير (العربية):
ألَّف الإمام ابن الأثير الجزري (ت 606 هـ) كتابه المشهور "جامع الأصول"، ثم لخصه الإمام ابن الديبع الشيباني (ت 944 هـ) وسمَّاه:"تيسير الأصول إلى جامع الأصول"
(2)
، وقد استفاد الشيخ الإمام من كتاب "تيسير الأصول" عند تأليف "بذل المجهود"، وأراد أن يعمل ذيلًا على كتاب
(1)
"آب بيتي"(2/ 153).
(2)
"الرسالة المستطرفة" للكتكاني (ص 142).
"التيسير"، واستدراكًا عليه، لكنه لم يتمكن من ذلك، فعلَّق على مواضع متفرقة من الكتاب.
26 -
شذرات أسماء الرجال:
مثلما اختلف المحدِّثون في ثبوت السماع لبعض الرواة عن بعض، كذلك اختلفوا في بيان الأنساب لبعض الرواة، فألَّف الإمام هذا الكتاب لدراسة مثل هذه المواضيع، ودفع التعارض بين الأقوال المختلفة.
يشتمل هذا الكتاب على مائة صفحة من القطع المتوسط، لكن الشيخ ترك بياضًا في بعض الصفحات، وكأنه لم يستطع أن يكمل بعض الموضوعات.
27 -
شذرات الحديث (العربية):
حينما بدأ الإمام مساعدة شيخه في تأليف "بذل المجهود"، خصَّص كرَّاسة لكل من البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، و"مستدرك الحاكم"، وابن ماجه، و"الموطأ" برواية محمد، و"الموطأ" برواية يحيى المصمودي، و"شرح معاني الآثار" للطحاوي، و"سنن النسائي"، ورَمز لكل منهم؛ فالبخاري رمز له (شيخ)، والمراد به شذرات البخاري، ومسلم رمز له (شم)، والمراد به شذرات مسلم، وهكذا عمل في غيرهما من الكتب.
وكان الغرض من ذلك تخريج الأحاديث والآثار وشرحها وتعريف الرجال والأماكن وغيرها، وكان الإمام يسجل هذه الأمور في هذه الكرَّاسة، فجاءت كرَّاسة شذرات البخاري في عدة أجزاء، والتي ضُمَّت إلى "لامع الدراري" و"الأبواب التراجم"، وكراسة غيره من الكتب جاءت مختصرة مفيدة، وكراسة شذرات الترمذي وصلت إلى اثني عشر جزءًا.
28 -
مختصَّات المشكاة (الأردية والعربية):
درَّس الإمام "مشكاة المصابيح" مدة طويلة، فقد كان في أثناء تحضيره
لدرس المشكاة يستفيد من كتب شروح الحديث، وقد أشار الإمام فيه إلى الموضوعات التي كانت تهمه مع ذكر المصادر والمراجع، وتناول هذه الموضوعات أحيانًا بالأردية، وأحيانًا كثيرة بالعربية.
29 -
معجم رجال تذكرة الحفاظ للذهبي (العربية):
عمل الإمام فهرسًا لرواة الذين ترجم لهم الإمام في "تذكرة الحفاظ" ورتّبهم على حروف التهجِّي
(1)
.
30 -
معجم الصحابة الذين أخرج عنهم أبو داود الطيالسي في مسنده (العربية):
هذا الكتاب فهرسٌ لأسماء الصحابة الذين أخرج عنهم أبو داود الطيالسي في كتابه "المسند"، فرغ الإمام من ترتيبه وتصحيحه في الثامن من ذي القعدة سنة 1339 هـ.
31 -
معجم المسند للإمام أحمد (العربية):
عمل الإمام فهرسًا لأحاديث "المسند" لكل صحابي أخرج حديثه، مع ذكر الصفحة والجزء
(2)
.
32 -
مقدمات كتب الحديث (العربية):
كَتَبَ الإمام مقدمات عديدة على كتب شروح الحديث وكتب السُّنَّة، بعضها مخطوطة وبعضها مطبوعة، تناول فيها الإمام تعريف الكتاب وأهميته وخصائصه والتعريف بمؤلفه، وغير ذلك من الأمور المهمة.
من ذلك مقدمة علم الحديث التي طُبعت مع "أوجز المسالك"،
(1)
"آب بيتي"(2/ 168).
(2)
"تأليفات"(3/ 360)، "آب بيتي"(2/ 163).
ومقدمة البخاري التي طبعت مع "مقدمة لامع الدراري"، وكذلك مقدمة "بذل المجهود" التي طبعت مع "بذل المجهود"
(1)
.
وأما مقدماته التي لم تطبع فمقدمته على الترمذي وشمائله، ومقدمته على النسائي، ومقدمته على الطحاوي.
33 -
ملتقط الرواة عن المرقاة (العربية):
عمل فيه المؤلف فهرس الرواة الذين ترجم لهم أو عرَّفهم العلامة نور الدين مُلَّا علي القاري (ت 1014 هـ) في كتابه: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"، مع ذكر الصفحة والجزء، ووقع هذا الكتاب في عشرين صفحة بالقطع المتوسط.
34 -
ملتقط المرقاة (العربية):
لخَّص فيه الإمام بعض الموضوعات من كتاب: "مرقاة المفاتيح" تلخيصًا مختصرًا.
هذا ما تيسَّر لي من الكلام على
حياة شيخ الحديث محمد زكريا الكاندهلوي وآثاره
ولعله يكون مقدمة لدراسة أشمل وأعمق، ومن الله التوفيق.
* * *
(1)
وذلك بالمكتبة الخليلية بسهارنبور، الهند.
الجزء الأول
من
الأبواب والتراجم للبُخاري
1
الأَبْوَابُ وَالتَّرَاجِمُ
لِصَحِيْحِ البُخَارِيِّ
تأليف
الإمامِ المحدّث محمّد زكريّا بن يحيى الكاندهلوي
المتوفى 1402 هـ
حَقَّقَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
د. وليّ الدّين بن تقي الدّين النّدوي
بإشْرَافِ
للأستاذ الدكتور تقيِّ الدّين النَّدوي
تقديم الكتاب
بقلم
العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فممَّا تقرر عند المشتغلين بصناعة الحديث تدريسًا وتصنيفًا، وشرحًا وتحقيقًا، أن الأبواب والتراجم في "الجامع الصحيح" لأمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، من أدقِّ البحوث والمطالب، ومن أعمقها غورًا، وأبعدها مدى، حتى اشتهر بين العلماء أن فقه البخاري في تراجمه، وأصبح ذلك شعارًا لهذا الكتاب، يتميز به عن أقرانه الصحاح على جلالة قدرها، وفخامة شأنها.
وأصبح مقياسًا لفطنة العلماء، وتوقد ذكائهم، وسيلان ذهنهم، وبُعد غورهم، واقتدارهم على فهم هذا الكتاب الجليل، وحلّ غوامضه، وفتح أغلاقه، والتوصل إلى مقاصد المؤلِّف؛ لا يشهد لمؤلِّفٍ أو مدرِّسٍ ببراعةٍ في العلم، وتفوق في التدريس، وسعة اطلاع على الشروح والحواشي، وأقوال الأئمة والفحول من المحدثين، وطول ممارسة لتدريس هذا الكتاب الشريف، وإضناء القوى، وإفناء العمر في ذلك، حتى يجتمع له الشيء الكثير من هذا الباب.
وينفرد بتوجيهات، وتعليلات تنحل بها الألغاز، وتنفتح بها الأقفال، وتخلو عنها بطون الأسفار.
ولذلك عُني بهذا الموضوع العلماء قديمًا وحديثًا، وأجالوا فيه قداحهم، وأركضوا في هذا السباق جيادهم، واعتصروا في ذلك عقولهم الراجحة، وعلومهم الراسخة، ولا نعرف أديبًا أو لغويًا تعمَّق في فهم بيت من الأبيات، ومعرفة معنى من المعاني الشعرية والوصول إلى غايات الشعراء، مثل تعمق شراح "الجامع الصحيح" والمشتغلين بتدريسه في فهم مقاصد المؤلف، وشرح كلامه.
ولا نعرف - على طول اشتغالنا بالتاريخ العلمي - مؤلَّفًا من مؤلَّفات العلماء أو الحكماء عُني به رجال ذلك الفن، وعكفوا على حلِّ غوامضه، وفكِّ مشكلاته، حتى شقّوا فيه الشَّعْرَة، مثل ما عُني علماء الحديث بـ "الجامع الصحيح"، وما ذلك إلا لإخلاص مؤلفه لعلم الحديث الشريف، وانقطاعه إليه، وجهاده في سبيله، وتفانيه في ذلك، كما بيَّنا ذلك في تقديمنا لمقدمة "لامع الدراري".
وما ذلك كذلك إلا لشدة اعتناء الأمة الإسلامية بكل ما يتَّصل بالحديث النبوي، ويتَّصل بالشخصية النبوية، التي ضَمِنَ الله لها برفع الذكر، وتخليد الأثر، وارتفاع المنار، ولسان صدق في العالمين، حتى تخطَّت هذه البركة وسرت إلى من اتصل بها عن قريب أو بعيد، فأدركت كل من انخرط في سلك الرواة على مدى العصور والأجيال، فرفعت عنه اللثام، وأزالت عنه لوثة النكارة، أو وصمة الجهالة، فدوِّن في كتب أسماء الرجال اسمه واسم أبيه، وذُكر كثير من أخباره، وبُحث عن نسبه ونسبته، ودراسته ونشأته، وأمانته وعدالته، حتى أصبح عَلَمًا يعرف، ومعرفةً لا تنكر، وفاق في ذلك على كثير من المصلحين في أمم أخرى، وكثير من العظماء والأبطال، ومؤسِّسي الحكومات، حتى قال أحد المستشرقين الكبار وهو العالم الألماني المعروف بـ "اسبرنجر" في مقدمته بالإنجليزية على كتاب
"الإصابة" المطبوع في كلكته سنة 1853 - 1864 م: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة - كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة -، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر، الذي يتناول أحوال خمس مائة ألف رجل وشؤونهم"
(1)
.
لم يقتصر هذا البر والرفد على الأولياء والمحبِّين من أمته، والخادمين لدينه وعلمه، بل تعدَّى ذلك إلى الأعداء الكاشحين، والمناوئين لدينه، فعرف به العالم كثيرًا من أعدائه الألداء ممن طوتهم الجاهلية وطمستهم الأيام، فبقيت أسماؤهم، وكثير من أخبارهم بفضل السيرة النبوية والحديث النبوي، ولولاهما لذهبت أخبارهم أدراج الرياح، وطارت بأسمائهم العنقاء، فلا عجب إذا كان العصر الغابر، والتاريخ الماضي يتمثلان ببيت الشاعر العربي
(2)
، ويخاطبان هذه السحابة التي مرت بهما فأفاضت عليهما الحياة والنماء، وينشدان:
فَاذْهَبْ كما ذهبَتْ غَوادِي مُزُنَة
…
أَثْنى عَلَيْهَا السَّهْلُ وَالْأَوْعَارُ
ونعود إلى الحديث فنقول:
وكان مظهرًا من مظاهر هذه العناية الفائقة بهذا الكتاب الفذِّ، عناية العلماء بتراجم الأبواب في "الجامع الصحيح"، فتناوله كل من شرح هذا الكتاب، أو علَّق عليه، أو عكف على تدريسه، وأفرد بعضهم له تأليفات فات كثيرًا من المؤرخين أسماؤها شأن العلوم الأخرى.
ومن المؤلَّفات التي حُفظت أسماؤها، وجاءت الإشارة إليها، ثلاثة مؤلفات في هذا الموضوع، ذكرها الكاتب الجلبي المشهور باسم الحاج
(1)
"الرسالة المحمدية" لأستاذنا العلَّامة السيد سليمان الندوي، (تعريب الأستاذ محمد ناظم الندوي)[طُبعت مرارًا].
(2)
هو مسلم بن الوليد، قاله في رثاء يزيد بن مزيد، انظر:"وفيات الأعيان"(6/ 339).
خليفة (ت 1067 هـ) في كتابه الشهير "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"
(1)
، وهي:
1 -
كتاب للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم المعروف بـ "ابن المنُيِّر" الإسكندراني، المتوفى سنة (683 هـ)
(2)
، سمَّاه "المتواري على تراجم أبواب البخاري"
(3)
.
2 -
"ترجمان التراجم" لأبي عبد الله محمد بن عمر بن رُشَيد الفهري السبتي، المتوفى سنة (721 هـ)
(4)
، قال الجلبي: وهو على أبواب الكتاب، ولم يكمله.
3 -
"فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة"، وهي مائة ترجمة، للفقيه أبي عبد الله محمد بن منصور بن حمامة المغراوي السِّجلْماسِيّ، المتوفى سنة (370 هـ).
4 -
وأضاف إلى هذه الكتب الثلاثة مسند الهند وأستاذ الأساتذة فيها الشيخ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي (م 1239 هـ) كتابًا رابعًا في كتابه المفيد "بستان المحدثين"، وهو "تعليق المصابيح على أبواب الجامع الصحيح" لأبي عبد الله بن محمد بن أبي بكر عمر القرشي المخزومي الإسكندراني الملقب ببدر الدين المعروف بالدمامينى المتوفى سنة (828 هـ)
(5)
.
(1)
"كشف الظنون"(ص 365).
(2)
ترجمته في "شذرات الذهب"(5/ 381)، و"الوافي بالوفيات"(1/ 149).
(3)
طبع هذا الكتاب باسم: "المتواري على تراجم أبواب البخاري" بتحقيق علي حسن علي في المكتب الإسلامي بيروت سنة 1411 هـ، وبتحقيق صلاح الدين مقبول أحمد في مكتبة المعلا الكويت سنة 1407 هـ.
(4)
ترجمته في "الإحاطة" لابن الخطيب (3/ 135)، و"الديباج المذهب"(1/ 310).
(5)
قال الشيخ عبد الحي الحسني في ترجمة الدماميني في "نزهة الخواطر"(الجزء الثالث): وله شرح على "صحيح البخاري"، سمَّاه "مصابيح الجامع"، أوَّله:"الحمد لله الذي في خدمة السُّنَّة النبويّة أعظم سيادة"، ذكر فيه أنه ألّفه للسلطان =
هذا ما أُثر عن المتقدمين والأئمة المحققين في البلاد الإسلامية العربية
(1)
.
ومن المعروف أن علماء الهند قد سمت همتهم في خدمة علم الحديث، وتفنَّنوا فيها كل تفنُّن، فكانت لهم في كل فنٍّ من فنونه، وغرض من أغراضه، جولة، وقد انتهت إليهم رئاسة علم الحديث، والصدارة في تدريسه ونشره في العصر الأخير، فلا بد أن تكون لهم مؤلفات لم تصل إلينا أسماؤها.
وجزى الله عنا وعنهم مؤلف كتاب: "الثقافة الإسلامية في الهند"؛ إذ حفظ لنا الشيء الكثير من مؤلفات علماء الهند في علم الحديث، واستقصاها استقصاءً كبيرًا، ولكنه لم يذكر بما ألف في موضوع الأبواب والتراجم، إلا رسالة
(2)
لشيخ مشايخ الهند، وأستاذ الأساتذة، وناشر علم الحديث في هذه الديار، الإمام ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي
(3)
، المتوفى سنة (1176 هـ)، وهي رسالة وجيزة المباني غزيرة المعاني، تكاد تكون كلها أصولًا كلية، ونكتًا حِكَمية، واللُّبُّ اللُّباب في فهم التراجم والأبواب، شأنه في كل موضوع يطرقه، وبحث يتناوله.
= أحمد شاه المذكور، وعلّق على أبواب منه ومواضع يحتوي على غريب وإعراب وتنبيه، وقد دخل ابن الدماميني مدينة أحمد آباد سنة 820 هـ، ولا بد أن يكون هذا الكتاب قد ألف بين سنتي 820 هـ و 828 هـ. [وقد طبع هذا الكتاب من دار النوادر بدمشق سنة 2010 م].
(1)
ويوجد تأليف العلَّامة بدر الدين بن جماعة (المتوفى 733 هـ) باسم: "مناسبات تراجم أبواب البخاري" أيضًا، وهو مطبوع بالهند.
(2)
طبعتها باسم "رسالة شرح تراجم صحيح البخاري" دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد سنة 1323 هـ، وهي تقع في 129 صفحة بالقطع المتوسط. [وطبعت في القاهرة وبيروت أيضًا سنة 1420 هـ].
(3)
هو الإمام الهمام حجة الله بين الأنام، شيخ الإسلام قطب الدين ولي الله أحمد بن عبد الرحيم العمري الدهلوي، انظر ترجمته في "نزهة الخواطر"(6/ 398 - 415).
ومن المرجَّح أن مؤلف "الثقافة"
(1)
لم يطَّلع على رسالة
(2)
العلامة الشيخ محمود حسن الديوبندي (م 18 ربيع الأول سنة 1339 هـ) المعروف بشيخ الهند، فإنما طُبعت بعد وفاة مؤلف "الثقافة"(م سنة 1341 هـ).
وهذا جُلُّ ما انتهى إلينا من أخبار الكتب والرسائل في موضوع الأبواب والتراجم للبخاري في الماضي.
* وسرُّ الغموض في هذه الأبواب والتراجم: تنوُّع مقاصد المؤلف الإمام، وبُعد مراميه، وفرط ذكائه وحِدَّة ذهنه، وتعمُّقه في فهم الحديث، وحرصه على الاستفادة منه أكبر استفادة ممكنة، فهو كنحلة حريصة توَّاقة، تجتهد أن تتشرَّب من الزهرة آخر قطرة من الرحيق، ثم تحولها إلى عسل مصفًّى فيه شفاء للناس.
وشأن الإمام البخاري مع الحديث النبوي شأن العاشق الصادق، والمحب الوامق، مع الحبيب الذي أسبغ الله عليه نعمة الجمال والكمال، وكساه ثوبًا من الروعة والجلال، فهو لا يكاد يملأ عينيه منه، وهو كلَّما نظر إليه اكتشف جديدًا من آيات جماله، فازداد افتتانًا وهُيامًا، ورأى جماله يتجدَّد في كل حين، وإذا الوجه غير الوجه، والجمال غير الجمال، فلا قديم في الحب، ولا إعادة عند المحب، وصدق الشاعر:
يَزِيْدُكَ وَجْهُهُ حُسنًا
…
إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرًا
ولذلك نرى الإمام البخاري لا يكاد يشبع من استخراج المسائل، واستنباط الفوائد، والنزول إلى أعماق الحديث، والتقاط الدرر منه، والخروج على قرائه بها، حتى يذكر حديثًا واحدًا أكثر من عشرين مرة.
(1)
هو كتاب "الثقافة الإسلامية في الهند"، للمؤرخ العلَّامة عبد الحي الحسني، المتوفى سنة 1341 هـ، وطبع هذا الكتاب من المجمع العلمي بدمشق.
(2)
والكتاب يقع في (72) صفحة، وهو في اللغة الأردية، وفي آخره نحو أربع صفحات بالعربية، وهو بمذكرات معلم أشبه منه بكتاب مستقل، طبع في مطبعة الأمان في نكَينه (بجنور).
وقد روى حديث بريرة عن عائشة أكثر من اثنتين وعشرين مرة، واستخرج [منه] أحكامًا وفوائد جديدة.
وروى حديث جابر قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأبطأ بي جملي وأعيا" الحديث، أكثر من عشرين مرة.
وروى حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل ورهنه درعًا من حديد، في أحد عشر موضعًا، وعقد له أبوابًا وتراجم لها
(1)
.
وروى قصة موسى والخضر في أكثر من عشرة مواضع.
وأخرج حديث كعب بن مالك في تخلُّفه من غزوة تبوك في أكثر من عشرة مواضع، وفوائده أكثر من خمسين.
وروى حديث أسماء في كسوف الشمس وخطبته صلى الله عليه وسلم في عشرة مواضع.
وروى حديث: "إن من الشجر لشجرة لا يسقط ورقها" الحديث، واستخرج منه فوائد جديدة
(2)
.
فكأنه تأخذه النشوة والطرب عند رواية الحديث، فلا يملُّ من إعادته، وينشد بلسان الحال:
أَعِدْ ذِكْرَ نَعْمَانٍ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ
…
هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
وكأنه يتمثل ببيت الشاعر:
وَحَدَّثْتنَا يا سَعْدُ عَنْهُمُ فَزِدْتَنَا
…
شُجُونًا فَزِدْنَا مِنْ حَدِيثِكَ يا سَعْدُ
ثم يشتعل ذكاؤه - الذي ضرب فيه بسهم وافر - ويتوقد ذهنه، وتسيل
(1)
"عمدة القاري" للعلَّامة العيني (5/ 415).
(2)
نشكر لهذه الإحصائيات فضيلة الشيخ عبد الستار الأعظمي [المعروفي]، مدرِّس الحديث الشريف في دار العلوم، ندوة العلماء.
قريحته، فيفلت زمام التأليف، ويرسل النفس على سجِيَّتها، ويستخرج من حديث واحد نتائج وفوائد لا تدور بِخَلَدِ
(1)
كثير من الأذكياء، وما ذلك إلا لحدَّة ذهنه، وإفراط حبِّه، ولم يزل الحب مُلْهِمًا للبدائع، مُلهبًا للقرائح، والمحبُّ يقع على ما لا يقع عليه المتأمل، المرهق لجسمه، المُتعِب لعقله.
* وسرٌّ آخر للغموض في تراجم الأبواب: أن المؤلفَ الإمام غير خاضع للأساليب التأليفية، والقوانين الوضعية، التي جرى عليها المؤلفون في فنِّ الحديث في عصره وبعد عصره، بل هو واضع طريقة خاصة في التأليف، وإمام مذهب خاص، وهو لم يقتصر على ما يتبادر إليه الذهن من الأحكام الفقهية المستخرجة من الأحاديث، شأن أقرانه ومن سبقه من المؤلفين في علم الحديث والفقه، بل يستخرج من الأحاديث فوائد علمية وعملية لا تدخل تحت باب من أبواب الفقه المعروفة.
وقد أحسن الإشارة إلى ذلك أكبر شُرَّاح كتابه، وأعرفهم بمراده، العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه الفريد "فتح الباري" حيث قال: "ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحِكَمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة، فرَّقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة.
قال الشيخ محيي الدين - نفع الله به -: ليس مقصود البخاري ألاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرًا من الأبواب عن إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله:"فيه فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلَّقًا.
وإنما يفعل هذا؛ لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها، وأشار
(1)
خَلَدٌ: القلب والبال.
إلى الحديث لكونه معلومًا، وقد يكون مما تقدم وربما تقدم قريبًا.
ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ما فيه حديث واحد، وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله، وبعضها لا شيء فيه البتة، وقد ادَّعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدًا، وغرضه أن يبيِّن أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه، ومن ثمة وقع في بعض من نسخ الكتاب ضمُّ باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب، فأشكل فهمه على الناظر فيه"
(1)
.
وقد زاد على ذلك حكيم الإسلام الشيخ ولي الله الدهلوي، فأحسن وأجاد، وأوضح التفاوت الواقع بين أفهام العلماء ومقاصد المؤلف الإمام، وكأنه يقول بلسان الشاعر:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِيْ قَبَائِلَ هَاشِمٍ
…
وَنَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ
قال رحمه الله: وكثيرًا ما يستخرج الآداب المفهومة بالعقل، من الكتاب والسُّنَّة، والعادات الكائنة في زمانه صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا يدرك حُسنه إلا من مارسَ كتب الآداب، وأجال عقله في ميدان آداب قومه، ثم طلب لها أصلًا من السُّنَّة
(2)
.
ومن أكثَرَ قراءةَ "الجامع الصحيح" درسًا وتدريسًا، وأنعمَ النظر فيه، شهد بصدق شيخ الإسلام فيما قاله، وإصابته الصميم، ووجد شيئًا كثيرًا مما يتأدَّب به، ويتخلَّق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعادات الصحابة، منثورًا في ثنايا هذا الكتاب العظيم، حتى يستطيع أن يستخرج منه كتابًا آخر، ويسميه:"الأدب المفرد" أو بما شاء، وقد يستهين المختص بالفقه والحديث بقيمة هذه الثروة العظيمة، وقد يلتوي عليه فهمها وحكمة وضعها في هذا الكتاب الذي أفرد لجمع الأحاديث الصحيحة على شروط الإمام البخاري، ولكن
(1)
مقدمة "فتح الباري"(ص 8).
(2)
"شرح تراجم أبواب صحيح البخاري"(ص 5)، طبع في حيدر آباد 1323 هـ.
نظر المحب يختلف عن نظر غيره، وقد أراد الإمام البخاري أن يكون هذا الكتاب نبراسًا للساري، وصورة لما كان عليه الصحابة والمسلمون في عصر النبوة.
والسبب الثاني لتعقُّد بعض ما أورده في هذا الكتاب من الأبواب والتراجم، والتوائها على فَهم كثير من الشرَّاح والمدرِّسين - حتى قال الكرماني
(1)
: "إن هذا قسمٌ عجز الفحول البوازل
(2)
في الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأمصار، فتركوها [واعتذروا عنها] بأعذار" - هو عدم اطلاع أكثرهم على ما كان يسود في عصره من آراء وأقوال يشتدُّ حولها الخصام، ويكثر فيها القيل والقال، وما ذهب إليه بعض معاصريه، ومن تقدمه بقليل من مذاهب، فإنه يعقد بابًا ويأتي بترجمة، وما قصده من ذلك إلا نقض ما انتشر في الناس، وجرى عليه العامة، أو نقل عن عالم، وهو عنده مخالف للحديث وما ثبت من السُّنَّة، فهو يُوَرِّي بذلك، أو ينظر إليه من طرف خفي، ولا يستملح
(3)
ذلك، ولا يفهم سر إيراده له، إلا من اتَّسع علمه، وأحاط بأكثر ما كان يوجد في عصره من الأخلاق والعادات، والأقوال والآراء، وكذلك اطلع على كتب معاصريه، أو من سبقه بقليل، كـ "مصنف عبد الرزاق" و"مصنف ابن أبي شيبة" وغيرهما.
وقد أشار إلى هذه النكتة الشيخ ولي الله الدهلوي في بعض مباحثه في كتابه المتقدم ذكره، إذ قال:"وأكثر ذلك تعقبات وتبكيتات على عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في تراجم مصنفيهما، إذ شواهد الآثار تروى عن الصحابة والتابعين في مصنَّفَيهما، ومثل هذا لا ينتفع به إلا من مارس الكتابين، واطلع على ما فيهما"
(4)
.
(1)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(1/ 4).
(2)
البازل: الرجل الكامل في تجربته.
(3)
كذا في الأصل، والظاهر:"ولا يستلمح".
(4)
"رسالة شرح التراجم" للشاه ولي الله الدهلوي (ص 5).
وسبب آخر لهذا الغموض والتعقد، وعجز العلماء والشرَّاح عن حلَّه، ومعاناتهم في ذلك الشدة والمشقة، حتى التجأ كثير منهم إلى تأويلات وتكلُّفات لا يُسيغها الذوق السليم، حتى قال الباجي: وإنما أوردت هذا ههنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في ذلك من تعسُّف التأويل ما لا يسوغ، هو أن الكتاب لم يزل في دور التنقيح والتهذيب، والحذف والزيادة، شأن الكتب التي يُعنى بها أصحابها أشد عناية، ويَصُبُّون فيها علمهم، ويعتبرونها عمدة بضاعتهم ورأس مالهم، وزادهم في الآخرة، وشأن العلماء الذين لا يزال عقلهم في نبوغ، وعلمهم في نمو، فلا يزال عقلهم مشغولًا بهذا الكتاب، ولا يزال قلمهم يتناوله بالتحسين والتحبير، وحياة الإمام البخاري لم يكن فيها هدوء واستقرار، بل كان ينتقل من بلد إلى بلد، ومن محنة إلى محنة، ومن جفاء إلى جفاء، حتى لقي ربَّه.
ويدلُّ على ذلك ما نقله الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في "أسماء رجال البخاري"، فقال:"أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي، قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيَّضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعضَ ذلك إلى بعض"، قال الباجي:"ومما يدلّ على صحة هذا القول: أن رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السَّرَخسي، ورواية أبي الهيثم الكُشميهني، ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طُرة أو رُقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث"
(1)
.
(1)
مقدمة "فتح الباري"(ص 8).
وأيَّده العلامة الحافظ ابن حجر صاحب "فتح الباري" فقال: "وهذه قاعدة حسنة يُفزع إليها حيث يتعسَّر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدًّا"
(1)
.
وعلى كلٍّ، فهذه بعضُ أسباب لتعقُّد الأبواب والتراجم في هذا الكتاب الذي اعتنت به الأمة أشدَّ اعتناءٍ بعد كتاب الله، وصلت إليها دراسة قاصرة لمن لم يكن صاحب اختصاص في فنِّ الحديث، وقد يكون أكثر من ذلك، ولا آخر في عالَم التأمل والبحث، وفوق كل ذي علم عليم.
ولم يزل الموضوع غضًّا طريًّا يطرقه كل باحث في علم الحديث، وكل دارس ومدرِّس لـ "الجامع الصحيح"، وكان الموضوع في حاجة - بعد ضياع كتب المتقدمين الأربعة التي تقدم ذكرها - إلى كتاب أكمل وأشمل، وأجمع وأوعى، فجاء هذا الكتاب - والحمد لله - وافيًا بالغرض، مُسعِفًا بالحاجة، يصدِّق قولَ الأولين:(كم ترك الأول للآخر).
وكان المؤلف - بارك الله في حياته - قد ذكر في كتابه "مقدمة كتاب لامع الدراري": كل ما جاء من أصول الشيخ الإمام ولي الله الدهلوي، والقواعد الكلية للتطبيق بين الأبواب والتراجم، وأبواب لا ترجمة لها، وكذلك كل ما جاء في رسالة الشيخ العلامة محمود حسن الديوبندي، وكل ما وجد من فوائد في دروس الشيخ الكبير مولانا رشيد أحمد الكَنكَوهي، وكذلك كل ما وجده من أصول وقواعد في كلام الحافظ ابن حجر، والقسطلاني، والحافظ العيني، فاستوعبها، وزاد عليها مما كان خاطره أبا عذره، ولم يسبق إليه، حتى بلغ عدد هذه الأصول والقواعد الكلية إلى سبعين أصلًا وقاعدة، فاحتوى على علم غزير، لم نجده في كتاب واحد - والغيب عند الله -، فاقترحت على المؤلف، كما اقترح كثير من تلاميذه تجريد هذا الجزء وطبعه ككتاب مستقل، فقبل هذا الاقتراح مشكورًا محسنًا
(1)
مقدمة "فتح الباري"(ص 8).
إلى المشتغلين بتدريس هذا الكتاب العظيم بصفة خاصة، والخادمين لعلم الحديث بصفة عامة، مستحقًّا ثناءهم وتقديرهم ودعواتهم الصالحة، وما عند الله أوفى وأبقى، وأعظم وأجل.
وكان قد تناول كل كتاب من كتب "الجامع الصحيح"، وتكلم على أبوابها وتراجمها بابًا بابًا، وترجمة ترجمة، فجاء الكتاب سفرًا ضخمًا قد يقع في عدة أجزاء، وأصبح الكتاب موسوعة أو دائرة معارف بالتعبير الحديث في كل ما يتصل بالأبواب والتراجم في "الجامع الصحيح" للبخاري مغنيًا عن غيره، وبذلك أغنى طلبة علم الحديث، ومدرسيه عن تتبع هذا الموضوع في كل كتاب، والتقاط الدرر من كل بحر، ووفر عليهم وقتًا طويلًا وعناءً كبيرًا، ولا يعرف قيمة هذا الكتاب وما فتح الله به على مؤلفه من الرأي السديد، والقول الصواب، وما أتى به فيه من لباب النقول، وصفوة الأقوال، ومحصول العقول والألباب، إلا من مارس هذه الصناعة، واشتغل بتدريس الكتاب مدة طويلة، ولقي الجهد والعناء في حلِّ غوامضه، وفكِّ مشكلاته، وقد قال القائل:
إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ
…
مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ
وندعو الله أن ينفع بهذا الكتاب طلبة العلم، وأساتذة الحديث، كما نفع بمؤلفاته الأخرى، وأن يبارك في حياته، وينفع به المسلمين، ويعزّ به العلم والدين.
وفي الأخير نعترف لزميلنا العزيز الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي بالإخلاص وبذل الجهد في طبع هذا الكتاب، والإشراف على تصحيحه شأنه في مؤلفات الشيخ الأخرى التي سعد بنشرها وطبعها في مطبعة ندوة العلماء، وتقبَّل الله سعيه وجزاه خيرًا.
أبو الحسن علي الحسني الندوي
المسجد الجامع رأي بريلي - الهند
يوم الأربعاء، 11 جُمادى الآخرة 1391 هـ
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي على رسوله الكريم
الحمدُ لله الذي قال وما أصدق قوله الكريم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على من قال الله عزَّ اسمُه في حقه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال عزَّ اسمُه تبجيلًا له:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة الهداة للدين المتين.
وبعد:
فيقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الجليل، عبدهُ زكريا بن يحيى بن إسماعيل: إن هذا العاجزَ مكث بفضل الله وكرمه من آخر سنة إحدى وثلاثين وثلاث مائة وألف، إلى سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة وألف من الهجرة مشغولًا بالحديث الشريف درسًا وتدريسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، ومن فضل الله تعالى وكرمه وإحسانه أنه جعلني مع أدناسي وأنجاسي الظاهرة والباطنة مشتغلًا بكلام رسوله المطهَّر المبارك.
ولكنه لكثرة الأمراض الروحانية والبدنية في سنة ثمان وثمانين في العاشر من ربيع الأول عند الفراغ من تأليف "لامع الدراري" حرمت
من التصنيف والتأليف، وفي شوال من السنة المذكورة لشدة نزول الماء بالعين الذي كان بدؤه منذ عشر سنين حُرمت من تدريس "صحيح البخاري" كذلك، فقدمت متأسفًا على حرماني من الاشتغال بالحديث النبوي إلى المدينة المنورة رجاء التمتع ببركاتها.
وفي أثناء إقامتي ها هنا جاشَ خاطري لطبع تأليفي القديم "جزء حجة الوداع" الذي كتبته سنة اثنتين وأربعين كما ذكرت ذلك مفصَّلًا في اختتام التأليف المذكور، وعند رجوعي إلى الهند سمعته من بعض أعزّائي، كما ذكر في اختتامه أيضًا، فبعد توضيح مجملاته وتفصيل إشاراته طبع مرتين في سنة تسعين بمجرد لطف الله وكرمه مع إلحاق جزء العمرات إليه
(1)
.
ثم في أواخر سنة تسعين قُدِّر لي الحضور عند الأقدام العالية، فجال بخاطري مستبركًا بهذه البقعة المباركة أن أستمع الملاحظات التي جمعتها عند تدريسي لـ "صحيح البخاري" مما يتعلق بتراجمه من عزيزي الحاج المولوي عبد الحفيظ المكي سلَّمه الله تعالى، والرجاء من الباري الكريم أن يقدر لطباعته سبيلًا، فيكون هذا أيضًا نافعًا إن شاء الله تعالى، فإن "جزء حجة الوداع" أيضًا هكذا أسمعنيه بعض أصدقائي فقد طبع، وبهذا الرجاء شرعت في استماعه اليوم الساعة الرابعة ضحى الأربعاء في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة تسعين وثلاث مائة وألف عند أقدامه العالية المباركة الشريفة في المسجد النبوي على صاحبه ألف ألف صلاة وتحية، ولو كمل هذا السعي الجميل فلا يستبعد أن يكون تأويل رؤياي التي رأيتها بالمدينة المنورة في أوائل سنة أربع وثمانين وثلاث مائة وألف من الهجرة، وسيأتي تفصيلها حيث نذكر الكلام على عدم ذكر الإمام البخاري الحمد والصلاة في بداية كتاب "الجامع الصحيح" إن شاء الله تعالى.
(1)
وقد طبع هذا الكتاب بتحقيقنا على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ورأيت المناسب ها هنا أن أدرج أولًا الأصول السبعين المتعلقة بتراجم البخاري المستنبطة من كلام المشايخ التي ذكرتها في "مقدمة لامع الدراري" حتى تجتمع مواد التراجم كلها في موضع واحد، وقد ذكرت في بدايتها أن المشايخ قد ألَّفوا في تراجم البخاري تأليفات كثيرة، ولكن في يومنا هذا ليست لدينا إلا رسالتين فقط، إحداهما تأليف أستاذ الأساتذة مسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي، رسالة وجيزة مسماة "بشرح تراجم البخاري"، وستأتي جملة ما بها من المعاني في مواضعها من هذا التأليف إن شاء الله تعالى، والرسالة الثانية من تأليف أستاذ الهند شيخ المشايخ مولانا الحاج محمود حسن المعروف بشيخ الهند، رئيس المدرسين بالجامعة القاسمية المعروفة بدار العلوم بديوبند، المسمَّاة بـ "الأبواب والتراجم"، وقد شرح التراجم إلى آخر كتاب العلم إلا الترجمة الأخيرة منها باللغة الأردية، وقد أدرجتها بأسرها في هذه الرسالة، وأيضًا قد ذكر حضرة شيخ الهند في رسالته بتحقيقه وتنقيحه وتفحُّصه فهرسًا لبعض أبواب البخاري، وليس فيها شيء من كلامه، إنما هي إشارات فقط، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله تعالى.
وقد استوعبت بتوضيح تراجم شيخ الهند قُدِّس سرُّه لرؤيا رأيتها في بداية دراسة البخاري، فإني قد قرأت "صحيح البخاري" وأكثر كتب الحديث مرتين، كما ذكرت ذلك في بداية مقدمة "لامع الدراري" في ذيل أسانيد هذا الفقير، أولًا: في سنة أربع وثلاثين من الهجرة على والدي المرحوم قدّس الله سرّه العزيز، وثانيًا: من سنة خمس وثلاثين في سنين متفرقة على شيخي ومرشدي حضرة مولانا الحاج خليل أحمد المحدث السهارنفوري المهاجر المدني شارح أبي داود قدّس الله سرّه العزيز، وقد ذكرت تفصيل ذلك في رسالتي المسمَّاة بآب بيتي (يعني: قصة حياتي) باللغة الأردية، وهذا تعريبه مختصرًا:
إني كنت قد عزمت أولًا أن أقرأ جامعَي البخاري والترمذي على شيخي المكرم حضرة المحدث السهارنفوري؛ إذ كان رحمه الله مختصًا
بتدريسهما بالجامعة الشهيرة بمظاهر العلوم بسهارنفور، والكتب الباقية كان يدرِّسها والدي المرحوم، فلما شرعت في القراءة على والدي كتب الحديث سوى البخاري والترمذي فتركتهما للشيخ رحمه الله؛ لأنه كان أولًا في سفره للحجاز المقدس، ثم أسرته الحكومة الإنجليزية وحبسته في سجن "نَيْني تال"
(1)
مدة لقيامه بحركة تحرير بلاده ضد الاستعمار الغاشم، ولكن بعدئذ نبَّهني بعض أقربائي على أن والدي متألم لعدم قراءتي عليه الجامعَيْن، فحرَّضني ذلك على قراءتهما عليه أيضًا.
وقد اهتم والدي نوَّر الله مرقده بتدريس البخاري اهتمامًا بليغًا حتى إنه وسع في وقت تدريس البخاري بضم ساعة [سنن] النسائي إليه، وجعل يدرِّس النسائي يوم الجمعة، وأنا أيضًا بالغت في الاهتمام به حتى إنه لم يفتني أي حديث، ولم أقرأ حديثًا إلا على وضوء، وقد التزمت في ذلك الزمان أن أصلي العشاء بوضوء الظهر.
ثم إن والدي رحمه الله رحمة واسعة لبَّى داعي ربه في ذي القعدة من تلك السنة فازداد قلبي حبًا وشغفًا به، وقد جرت العادة بأن المرء يعرف قدر النعمة بعد زوالها كما قيل:
فَقَدْتُ زَمَانَ الْوَصْلِ وَالْمَرْءُ جَاهِلٌ
…
بِقَدْرِ لَذِيذِ الْعَيْشِ قَبْلَ المْصَائِبِ
وكنت عازمًا في حياة والدي أن لا أقرأ جامعَي البخاري والترمذي إلا على شيخي حضرة المحدث السهارنفوري، ولذا لم أشرع فيهما عند والدي رحمه الله تعالى في أول الأمر كما تقدم، ثم كما ذكرت آنفًا أني اضطررت في القراءة عليه، ولكنه درَّسنيهما بصورة استأصلَتْ كل فكرة عن دراستهما مرة أخرى عند غيره رحمه الله تعالى، وبعد وفاته زاد هذا الأثر، حتى ثبت عكس ما قال في البداية.
(1)
بفتح نون وسكون مثناة تحتية ونون مكسورة بعدها مثناة تحتية وتاء مثناة فوقية ثم ألف ثم لام: مصيف معروف في الهند.
ثم إنه لما قدم حضرة المحدث السهارنفوري من سجن "نيني تال" بعد وفاة والدي بشهر، أمرني أن أقرأ عليه جامعَي البخاري والترمذي مرة أخرى، فشرعت فيهما ممتثلًا لأمره الكريم، وأثناء هذه الدراسة رأيت في المنام أن حضرة شيخ الهند مولانا محمود حسن الديوبندي قدّس الله سرّه العزيز يقول لي:"اقرأ عليَّ البخاري" فتحيرت من هذه الرؤيا العجيبة جدًّا؛ لأن حضرة شيخ الهند رحمه الله كان حينئذ أسيرًا في مالطه (مالتا) حيث سجنه الاستعمار البريطاني لقيادة حركة التحرير ضده، فذكرتها لسيدي حضرة الشيخ خليل أحمد المحدث السهارنفوري، فقال: تأويلها أن تقرأ عليَّ البخاري، وكان هذا التأويل في محله ولا شك فيه؛ إذ لا يكون مصداق شيخ الهند في الحديث إلا سيدي حضرة المحدث السهارنفوري في ذاك الزمان بالهند.
ولكن الآن عند استماعي لهذه التراجم، خطر ببالي أن الأخد بتراجم حضرة شيخ الهند رحمه الله ونشرها، إنما هو في حكم القراءة عليه رحمه الله، فيمكن أن يكون هذا أيضًا من جملة تعبير تلك الرؤيا، ويناسب هذا على قول أحد أعزائي المخلصين عزيزي المولوي محمد يوسف متالا: إن الزمان الذي رأيت فيه هذه الرؤيا كان حضرة شيخ الهند رحمه الله حينئذ يصنِّف فيه هذه التراجم في سجن مالطة.
ولا يذهب عليك أنه قد ذكر في مقدمة "لامع الدراري" بحث طويل عن التراجم، لا بد من نقله ها هنا تكميلًا للفائدة، ومما يجب التنبيه عليه ما قال النووي
(1)
: معنى الترجمة فهو التعبير عن لغة بلغة، قال الشيخ ابن الصلاح: ليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى، فقد أطلقوا على قولهم باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبّر عما يذكر بعده، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(2)
: إن التراجم بكسر الجيم، أي: ما ترجم به
(1)
"شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 221).
(2)
(1/ 489).
من الكتب والأبواب، جمع ترجمة، وسُمِّي ما ذكر تراجم؛ لأنه مترجِم عما بعده؛ لأن ما يذكر في الباب مثلًا تنبئ عنه الترجمة وتُبَيِّنُهُ [كذا في "نيل الأماني شرح مقدمة القسطلاني"]، وفي "شرح الإقناع": التراجم إن كان في تراجم المصنفين فتكسر فيه الجيم، وإن كان في الرمي بالحجارة مثلًا فتضم الجيم، انتهى.
قلت: لأن الآخر تفاعل من الرجم الثلاثي، والأول رباعي كما أشار إليه المجد
(1)
، إذ قال في باب الميم وفصل التاء: التُّرْجُمانُ، كزَعْفَرَانٍ وعُنْفُوَانٍ وَرَيْهُقَانٍ: المُفَسِّر للسان، وقد ترجمه، وعنه، والفعل يدلُّ على أَصَالةِ التاء"، انتهى.
* * *
(1)
"القاموس"(ص 976).
فَصْلٌ في بيان التراجم
إن موضوعَ التراجم من أهم مقاصد الإمام البخاري في "صحيحه"، حتى أجمع أهل العلم كلُّهم سلفًا وخلفًا أن معظم مقصود البخاري في "صحيحه" - مع اهتمامه بصحة الأحاديث - استخراج المعاني الكثيرة من المتون، ولذا كرر الأحاديث في كتابه في الأبواب المختلفة وذكر بعضًا من الأحاديث أكثر من عشرين مرة؛ كحديث عائشة في قصة بريرة وغير ذلك، وفي الكثرة على العشرة كثرة، ولذا اشتهر قول جمع من العلماء:"فقه البخاري في تراجمه".
وسيأتي في الفائدة الثانية عن الكرماني: أن هذا قسم عجز عنه الفحول البوازل في الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأنصار، فتركوها واعتذروا عنها بأعذار، انتهى.
ولذلك اهتم جمعٌ من السلف والخلف لبيان تراجمه، وأفردوا لها التصانيف، واجتهدوا في بيان المناسبات وإبداء الاحتمالات الكثيرة في التراجم.
فأفردت لذلك فصلًا مستأنفًا محتويًا على أربع فوائد:
* * *
الأولى في ذكر بعض من صنف في ذلك تآليف مستقلة من السلف والخلف
منهم: الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنيِّر الإسكندراني، شرح البخاري في تأليف كبير نحو عشرة مجلدات، وصنف رسالة مستقلة في الكلام على التراجم سماها:"المتواري على تراجم أبواب البخاري" ذكرها صاحب "كشف الظنون"، وقال القسطلاني في مقدمة "شرحه"
(1)
: ولابن المنيِّر حواش على ابن بطال، وله أيضًا كلام على التراجم سمّاه:"المتواري".
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن رُشيد الفهري السبتي، المتوفى سنة (721 هـ)، ألَّف رسالة في التراجم سمَّاها:"ترجمان التراجم"، وهي على أبواب الكتاب ولم تكمل، كذا في "الكشف"، وذكرها أيضًا القسطلاني في مقدمة "شرحه" بقوله: وكذا لأبي عبد الله بن رُشيد "ترجمان التراجم"، انتهى.
قلت: وذكر ابن فهد في "لحظ الألحاظ"
(2)
ترجمة ابن رُشيد هذا فقال: هو الإمام المحدث ذو الفنون، محب الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر، إلى أن أوصل بوسائط إلى رُشيد الفهري السبتي عالي الإسناد صحيح النقل تام العناية بصناعة الحديث، مولده سنة (657 هـ)، توفي في محرم (721 هـ)، وعدَّ في مؤلفاته "ترجمان التراجم على أبواب البخاري"، قال: أطال فيه النفس ولم يكمل، قلت: وسيأتي في كلام الحافظ أنها وصلت إلى كتاب الصيام بسط ترجمة ابن رشيد صاحب "الديباج"
(3)
.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 74).
(2)
"لحظ الألحاظ"(1/ 97).
(3)
"الديباج المذهب"(2/ 297).
ومنهم: الفقيه أبو عبد الله محمد بن منصور بن حمامة المغراوي السِّجِلْمَاسي، ألَّف رسالة سمَّاها:"حل الأغراض المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة"، شرح فيها مائة ترجمة للبخاري، ذكرها القسطلاني في مقدمة "شرحه"
(1)
، وكذا ذكرها صاحب "كشف الظنون"
(2)
وغيره، وسيأتي في كلام الحافظ، وسمَّاها:"فك أغراض البخاري".
ومنهم: القاضي بدر الدين بن جماعة، كما سيأتي في كلام الحافظ.
وذكر في "بستان المحدثين"
(3)
: "تعليق المصابيح على أبواب الجامع الصحيح"، لأبي عبد الله بن محمد بن أبي بكر عمر القرشي المخزومي الإسكندراني الملقب ببدر الدين المعروف بالدماميني، ويظهر من اسمه أنه على تراجم الأبواب، ولم يذكره صاحب "الكشف"، بل ذكره في شروح البخاري إذ قال
(4)
: ومنها شرح العلامة بدر الدين محمد بن أبي بكر الدماميني، المتوفى سنة (828 هـ)، سمَّاه "مصابيح الجامع"، أوله: الحمد لله الذي جعل في خدمة السُّنَّة النبوية أعظم سيادة، إلى آخره، ذكر أنه ألفه للسلطان أحمد شاه ابن محمد بن مظفر شاه من ملوك الهند، وعلَّقه على أبواب منه، ومواضع تحتوي على غريب [وإعراب] وتنبيه.
قلت: لم يذكر الدماميني في ديباجة شرحه هذا الذي نقله المؤلف، لكن قال في آخر نسخة قديمة: وكان انتهاء هذا التأليف بزَبيد من بلاد اليمن، قبل ظهر يوم الثلاثاء العاشر من شهر ربيع الأول سنة (828 هـ)، على يد مؤلفه محمد بن أبي بكر عمر بن أبي بكر الدماميني المخزومي، انتهى ما في "الكشف"
(5)
.
ولا يبعد أن يكون له تأليفان: "المصابيح في شرح البخاري" و"تعليق المصابيح على التراجم".
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 47)، وفيه:"فكّ الأغراض. . ." إلخ.
(2)
انظر: "كشف الظنون"(1/ 551).
(3)
(ص 310).
(4)
انظر: "كشف الظنون"(1/ 549).
(5)
انظر: "مصابيح الجامع"(10/ 281).
قال الحافظ في مقدمة "الفتح"
(1)
: وقد جمع العلامة ناصر الدين أحمد بن المنيِّر خطيب الإسكندرية من ذلك أربع مائة ترجمة، وتكلم عليها، ولخَّصها القاضي بدر الدين بن جماعة
(2)
، وزاد عليها أشياء، وتكلم على ذلك أيضًا بعض المغاربة، وهو محمد بن منصور بن حمامة السجلماسي، ولم يكثر من ذلك، بل جملة ما في كتابه نحو مائة ترجمة، وسمَّاه:"فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة"، وتكلَّم أيضًا على ذلك زين الدين علي بن المنيِّر أخو العلامة ناصر الدين في شرحه على البخاري، وأمعن في ذلك، ووقفت على مجلد من كتاب اسمه:"ترجمان التراجم" لأبي عبد الله بن رُشيد السبتي يشتمل على هذا المقصد، وصل فيه إلى كتاب الصيام، ولو تم لكان في غاية الإفادة، وإنه لكثير الفائدة مع نقصه، انتهى.
ولا يوجد في ديارنا إلا رسالتان مختصرتان:
إحداهما: "رسالة شرح تراجم البخاري" للعارف الرباني شيخ المشايخ مسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي، المولود سنة (1114 هـ)، المتوفى سنة (1176 هـ)، تقدمت ترجمته مختصرًا في مقدمة "الأوجز"
(3)
.
ومما يجب التنبيه عليه أن في دهلي رجلًا آخر معروفًا بالشيخ ولي الله الدهلوي طالما يلتبس أحدهما بالآخر، قال مولانا السيد عبد الحي في "نزهة الخواطر"
(4)
: الشيخ الفاضل، ولي الله الحنفي الدهلوي، أحد العلماء المشهورين، كان سبط الشيخ عبد الأحد السرهندي، برع في الشعر والتصوف والتفسير، وسمَّى نفسه "اشتياق" في الشعر على طريق الشعراء، له مصنفات منها تفسير القرآن الكريم، وقد ظن شبلي الأعظم كَرهي في حاشيته على "كَلشن هند" أنه هو الشيخ ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي، وهذا خطأ فاحش، فإن الشيخ ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي، وإن كان
(1)
"هدي الساري"(ص 14).
(2)
وسمَّاها: "مناسبات تراجم البخاري"، وطبع في الدار السلفية بومباي، الهند سنة 1404 هـ.
(3)
"أوجز المسالك"(1/ 157).
(4)
(6/ 858).
شاعرًا لكن اسمه في الشعر "أمين"، وهذا الشيخ ولي الله وإن كان محدثًا لكنه كان من أسباط الشيخ عبد الأحد، وكان يسكن بـ "كوتله فيروز شاه"، وأين هذا من ذاك؟ توفي هذا في سنة خمسين ومائة وألف، انتهى مختصرًا.
وذكر في موضع آخر
(1)
وفاة الشاه ولي الله بن عبد الرحيم حجة الإسلام يوم السبت سلخ شهر الله المحرم سنة ست وسبعين ومائة وألف.
و"رسالة تراجم البخاري" لمسند الهند حجة الإسلام هذا الثاني دون الأول، وهي رسالة وجيزة بلسان عربي، طُبعت
(2)
ببلدة حيدر آباد دكن في سنة (1323 هـ)، ذكر المؤلف قُدِّس سرُّه فيها أولًا أصولًا جامعة مطردة للتراجم، سيأتي ذكرها في الفائدة الثانية قريبًا، ثم تكلم على تراجم الأبواب مفصَّلة بالاختصار من أول الكتاب إلى آخره.
والثانية: رسالة وجيزة في اللغة الأردية لشيخ المشايخ مولانا الحاج محمود حسن
(3)
المعروف بشيخ الهند، رئيس المدرسين بدار العلوم ديوبند، المولود سنة ثمان وستين وألف ومائتين، المتوفى صبيحة يوم الثلاثاء في الثامن عشر من أولى الربيعتين سنة تسع وثلاثين بعد ألف وثلاث مائة في دهلي، المدفون صبيحة يوم الأربعاء في ديوبند سنة (1339 هـ)، طبعت في الهند، ذكر فيها أيضًا خمسة عشر أصلًا مجملة، ثم شرع الكلام على التراجم بالتفصيل، لكن الأسف كل الأسف على أنه اخترمته المنية قبل تكميلها ولم يزد على "باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله" من كتاب العلم، وذكر في آخرها عدة أصول مجملة بالعربية، وبعد ذلك ذكرها فهرس الأبواب مُعْلِمًا عليها بالإشارات المشعرة إلى أغراض المصنف لا سيما في الأبواب الخالية عن التراجم، وستأتي مفصلة في أواخر الأصل العشرين، والله الموفق لما يحب ويرضى.
(1)
انظر "نزهة الخواطر"(6/ 398).
(2)
وطبعت أيضًا من دار الكتاب المصري القاهرة، ومن دار الكتاب اللبناني بيروت، سنة 1427 هـ - 2006 م.
(3)
انظر ترجمته في "نزهة الخواطر"(8/ 1377)، و"العناقيد الغالية"(ص 94 - 98).
الفائدة الثانية في أصول التراجم التي ذكرها شرَّاح الحديث والمشايخ في كتبهم مجملة
وتقدم في الفائدة الثالثة من الفصل الثاني
(1)
ما قال الحافظ في مقدمة "الفتح"
(2)
في موضوع "كتاب البخاري" والكشف عن مغزاه فقال:
"تقرر أنه التزم فيه الصحة وأنه أصل موضوعه، ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحِكَمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرَّقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة.
قال الشيخ محيي الدين - نفع الله به -: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرًا من الأبواب عن إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله:"فيه فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم" أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلَّقًا.
وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها، وأشار إلى الحديث لكونه معلومًا، وقد يكون مما تقدم وربما تقدم قريبًا، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ما فيه حديث واحد، وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله؛ وبعضها لا شيء فيه البتة، وقد ادَّعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدًا، وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه.
ومن ثمة وقع من بعض من نسخ الكتاب ضمُّ باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب، فأشكل فهمه على الناظر فيه.
(1)
راجع: مقدمة "لامع الدراري"(1/ 85).
(2)
"هدي الساري"(ص 8).
وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في "أسماء رجال البخاري"
(1)
، فقال: أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت "كتاب البخاري" من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض
(2)
.
قال الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول
(3)
، أن رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السرخسي، ورواية أبي الهيثم الكشميهني، ورواية أبي زيد المروزي، مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، ويبيِّن ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث.
قال الباجي: وإنما أوردت هذا ههنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلُّفهم في ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ".
(1)
سمَّاه الكرماني في أول "شرحه": "كتاب التعديل والتجريح لرجال البخاري"(ز). [قلت: قد طبع هذا الكتاب باسم: "التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح" في ثلات مجلدات، في الرياض، سنة 1406 هـ].
(2)
انظر: "كتاب التعديل والتجريح"(1/ 287).
(3)
ويشكل عليه أن ما تقدم من كلام المستملي لا يدل على التقديم والتأخير بل يدل على ضم أبواب بعضها إلى بعض بدون ترك البياض، نعم يوافقه ما حكى شيخ المشايخ في تراجمه في (باب إذا لم يتم السجود)، نقل عن الضريري [كذا في الأصل، والصواب على الظاهر: "الفربري"] أن بعض أوراق الكتاب كان غير ملتصق بالكتاب، فوقع الخطأ من بعض النساخ في إلحاق تلك الأوراق فألحقوها في غير محلها، إلى آخر ما قال. . . . (ز).
قال الحافظ: "وهذه
(1)
قاعدة حسنة يُفزع إليها؛ حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدًا.
ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار، إن وجد حديثًا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي، ووافق شرطه، أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلحة لموضوع كتابه، وهي "حدثنا" وما قام مقام ذلك، و"العنعنة" بشرطها عنده، وإن لم يجد فيه إلا حديثًا لا يوافق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرًا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه، ومن ثَمَّ أورد التعاليق، وإن لم يجد فيه حديثًا صحيحًا لا على شرطه ولا على شرط غيره، وكان مما يُستأنس به ويقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك ومعناه ترجمةَ باب، ثم أورد في ذلك إما آية من كتاب الله تشهد له، أو حديثًا يؤيد عموم ما دل على ذلك الخبر.
وعلى هذا فالأحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام، وسيأتي تفصيل ذلك مشروحًا.
ثم قال بعيد ذلك
(2)
:
"ولنذكر ضابطًا يشتمل على بيان أنواع التراجم فيه، وهي: ظاهرة وخفية.
أما الظاهرة:
فليس ذكرها من غرضنا هنا، وهي أن تكون الترجمة دالَّة بالمطابقة لما يورد في مضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأنه يقول: هذا الباب الذي فيه كيت وكيت، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلًا.
(1)
قلت: وأورد عليها القسطلاني في "مقدمة شرحه"(1/ 43) إذ قال: وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه، ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبًا مبوبًا، فالعبرة بالرواية لا بالمسوَّدة التي ذكر صفتها، وسيأتي كلام الباجي هذا في الفائدة الرابعة أيضًا، (ز).
(2)
"هدي الساري"(ص 13).
1 -
وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو بمعناه:
وهذا في الغالب قد يأتي من ذلك ما يكون في لفظ الترجمة احتمال لأكثر من معنى واحد، فيعيِّن أحد الاحتمالين بما ذكر تحتها من الحديث.
2 -
وقد يوجد فيه ما هو بالعكس من ذلك، بأن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة:
والترجمة ههنا بيان لتأويل ذلك الحديث نائبة مناب قول الفقيه مثلًا: المراد بهذا الحديث العام المخصوص، أو بهذا الحديث الخاص العموم، إشعارًا بالقياس لوجود العلة الجامعة، أو أن ذلك الخاص المراد به ما هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى، ويأتي في المطلق والمقيد نظير ما ذكرنا في الخاص والعام، وكذا في شرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل الظاهر، وتفصيل المجمل.
وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه.
3 -
وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثًا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به ويستنبط الفقه منه.
4 -
وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مُضْمَره واستخراج خبيئه.
5 -
وكثيرًا ما يفعل ذلك، أي: هذا الأخير
(1)
، حيث يذكر الحديث المفسِّر لذلك في موضع آخر متقدمًا أو متأخرًا، فكأنه يحيل عليه ويومئ بالرمز والإشارة إليه.
6 -
وكثيرًا ما يترجم بلفظ الاستفهام
(2)
كقوله: "باب هل يكون كذا،
(1)
يريد تفسير الغامض وتأويل الظاهر، كذا في شرح "مقدمة القسطلاني"، وسيأتي ذلك في الأصل السابع والعشرين، (ز).
(2)
سيأتي ذلك في الأصل الثاني والثلاثين، (ز).
أو من
(1)
قال كذا؟ " ونحو ذلك:
وذلك حينئذ لا يتجه له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت، فيترجم على الحكم، ومراده ما يتفسر
(2)
بعد من إثباته أو نفيه أو أنه محتمل لهما.
7 -
وربما كان أحد الاحتمالين أظهر:
وغرضه أن يبقى للنظر مجالًا، وينبه على أن هناك احتمالًا أو تعارضًا يوجب التوقف حيث يعتقد أن فيه إجمالًا، أو يكون المدرك مختلفًا في الاستدلال به.
8 -
وكثيرًا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوى، لكنه إذا حقَّقه المتأمل كان أجدى:
كقوله: "باب قول الرجل: ما صلينا"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك، ومنه قوله:"باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة"، وأشار بذلك إلى الرد على من كره إطلاق هذا القول.
9 -
وكثيرًا ما بترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادي الرأي:
كقوله: "باب استياك الإمام بحضرة رعية"، فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل بعض الناس يتوهم أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استاك بحضرة الناس، دلَّ على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر، نبّه على ذلك ابن دقيق العيد
(3)
.
(1)
سيأتي هذا في الأصل الثالث.
(2)
كذا في الأصل، وفي "مقدمة القسطلاني" بدله "ما يفسر" وهو أوضح، (ز) [انظر:"إرشاد الساري"(1/ 44)].
(3)
زاد في "مقدمة القسطلاني" بعد ذلك قال الحافظ ابن حجر: ولم أر هذا في البخاري، فكأنه ذكره على سبيل المثال، انتهى [انظر:"إرشاد الساري"(1/ 44)]، هكذا فيه، وليس هذا الكلام في مقدمة "الفتح" التي بأيدينا، والكلام صحيح، =
10 -
وكثيرًا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤدِّي معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي:
من ذلك قوله: "باب الأمراء من قريش"، وهذا لفظ حديث
(1)
يروى عن علي، وليس على شرط البخاري، وأورد فيه حديث
(2)
"لا يزال والٍ من قريش".
ومنها قوله: "باب اثنان فما فوقهما جماعة"
(3)
، وهذا حديث
(4)
يروى عن أبي موسى الأشعري، وليس على شرط البخاري، وأورد فيه:"فأذّنا وأقيما"
(5)
.
11 -
وربما اكتفى أحيانًا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرًا أو آية:
فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي.
وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض، ومن تأمل ظفر، ومن جدَّ وجد، انتهى.
وذكر الحافظ في بادي الرأي أحد عشر أصلًا في كلامه هذا، لكنه يتضمن أكثر من أحد عشر كما يظهر في الفائدة الثالثة.
= فإن هذه الترجمة لم أرها أيضًا في البخاري، نعم ترجم النسائي في "سننه":"باب هل يستاك الإمام بحضرة رعيته؟ "، انتهى، وسيأتي البسط في ذلك في الأصل الرابع والخمسين، (ز).
(1)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1/ 425)(رقم 564)، والبزار في "مسنده"(759).
(2)
أخرجه البخاري في الأحكام (ح: 7140).
(3)
انظر: "صحيح البخاري""كتاب الأذان"، باب 35.
(4)
أخرجه ابن ماجه (ح: 972)، والبيهقي في "الكبرى"(3/ 69)، وأبو يعلى في "مسنده"(13/ 189).
(5)
أخرجه البخاري في "الأذان"(ح: 658).
وحكى كلامَ الحافظِ هذا القسطلانيُّ في مقدمته، سواء مع التغيير في حرف أو زيادة قول نبهت عليهما في الحاشية، زاد القسطلاني في آخره
(1)
: "وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض
(2)
، وبالجملة فتراجمه حيَّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، ولقد أجاد القائل:
أعيا فحول العلم حل رموز ما
…
أبداه في الأبواب من أسرار
وإنما بلَغَت هذه المرتبة، وفازت بهذه المنقبة، لما روي أنه بيَّضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وأنه كان يصلي لكل ترجمة ركعتين"، انتهى.
وقال السندي
(3)
في أول "شرحه":
اعلم أن تراجم "الصحيح" على قسمين:
قسم يذكره للاستدلال بحديث الباب عليه.
وقسم يذكره ليجعل كالشرح لحديث الباب، ويبين به محمل حديث الباب مثلًا، لكون حديث الباب مطلقًا قد عُلم تقييده بأحاديث أخر، فيأتي بالترجمة مقيدة، لا ليستدل عليها بالحديث المطلق، بل ليبين أن محمل الحديث هو المقيد، فصارت الترجمة كالشرح للحديث
(4)
، والشرَّاح جعلوا الأحاديث كلها دلائل لما في الترجمة، فأشكل عليهم الأمر في مواضع، ولو جعلوا بعض التراجم كالشرح خلصوا عن الإشكال في مواضع.
وأيضًا كثيرًا ما يذكر بعد الترجمة آثارًا لأدنى خاصية بالباب
(5)
، وكثير من الشرَّاح يرونها دلائل للترجمة فيأتون بتكلُّفات باردة لتصحيح الاستدلال
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 45).
(2)
في الأصل: "بلا تمييز"، والتصويب من القسطلاني.
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 5).
(4)
هو الأصل الثالث والعشرون من الأصول الآتية في الفائدة الثالثة، (ز).
(5)
هذا هو الأصل الرابع والعشرون، (ز).
بها على الترجمة، فإن عجزوا عن وجه الاستدلال عدُّوه اعتراضًا على صاحب "الصحيح"، والاعتراض في الحقيقة متوجه عليهم، حيث لم يفهموا المقصود.
وأيضًا كثيرًا ما يكون ظاهر الترجمة معنًى فيحملون الترجمة عليه
(1)
، والحديث لا يوافقه، فيعدّون ذلك إيرادًا على صاحب "الصحيح"، مع أنه قصد معنًى يوافقه الحديث قطعًا
(2)
، وقد يكون معنى الترجمة ما فهموا ولكن تطبيق الحديث عليه يحتاج إلى فضل تدقيق، فكثيرًا ما يغفلون عنه ويعدّونه اعتراضًا، وأنت إذا حفظت وراعيت ما ذكرنا لك، لَسَهُلَ عليك مواضع عديدة مما صعبت عليهم"، انتهى.
وقال الكرماني في أول "شرحه"
(3)
: وبيَّنت - أي: في شرحي - مناسبة الأحاديث التي في كل باب لما ترجم عليه، ومطابقتها بما عقد له وأشير إليه، وهو قسم عجز عنه الفحول البوازل في الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأمصار
(4)
، فتركوها واعتذروا عنها بأعذار، من جملتها ما قال القاضي أبو الوليد الباجي، فذكر كلامه المذكور قريبًا في كلام الحافظ ابن حجر.
ثم قال الكرماني: والبخاري رحمه الله، وإن كان من أعلم الناس بصحيح الحديث وسقيمه، فليس ذلك من علم المعاني وتحقيق الألفاظ بسبيل، كيف وفيها روى أبو إسحاق العلة في ذلك - كما تقدم في كلام الباجي - وبيَّنَها: أن الحديث يلي الترجمة ليس بموضوع لها، وإنما هو موضوع ليأتي قبل ذلك بترجمة، ويأتي للترجمة التي قبله من الحديث بما يليق بها، انتهى.
(1)
كذا فيه، (ز).
(2)
هذا هو الأصل الرابع والخامس من أصول شيخ الهند الآتية في الفائدة الثالثة، (ز).
(3)
(1/ 5).
(4)
كذا في الأصل، وفي "الكرماني":"من الأنصار"، والظاهر ما في الأصل.
أصول التراجم عند الإمام ولي الله الدهلوي
وذكر شيخ مشايخنا الشاه ولي الله الدهلوي في أول رسالته في التراجم أصولًا بالإجمال، وهذا نصُّه، فقال بعد الحمد والصلاة:
يقول الفقير إلى رحمة الله الكريم، أحمد المدعو بولي الله بن عبد الرحيم - كان الله لهما -:
أول ما صنَّف أهل الحديث في علم الحديث جعلوه مدوَّنًا في أربعة فنون:
فن السنة، أعني الذي يقال له: الفقه، مثل:"موطأ مالك"، و"جامع سفيان".
وفن التفسير، مثل:"كتاب ابن جريج".
وفن السير، مثل:"كتاب محمد بن إسحاق".
وفن الزهد والرقاق، مثل:"كتاب ابن المبارك".
فأراد البخاري أن يجمع الفنون الأربعة في كتاب، ويجرده لما حكم له العلماء بالصحة قبل البخاري وفي زمانه، ويُجرِّده للحديث المرفوع المُسْند، وما فيه من الآثار وغيرها إنما جاء به تبعًا لا أصالة، ولهذا سمَّى كتابه بـ "الجامع الصحيح المسند".
وإنما أراد أيضًا أن يفرغ جهده في الاستنباط من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستنبط من كل حديث مسائل كثيرة جدًا، وهذا أمر لم يسبق إليه غيره، غير أنه استحسن أن يفرق الأحاديث في الأبواب، ويودع في تراجم الأبواب سر الاستنباط.
وجملة تراجم أبوابه تنقسم أقسامًا:
1 -
منها: أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شروطه، ويذكر في الباب حديثًا شاهدًا له على شرطه.
2 -
ومنها: أنه يترجم بمسألة استنبطها من الحديث، بنحوٍ من الاستنباط من نصِّه، أو إشارته، أو عمومه، أو إيمائه.
3 -
ومنها: أن يترجم بمذهب من ذهب إليه قبل، ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة شاهدًا، ويكون له في الجملة من غير قطع بترجيح ذلك المذهب، فيقول: باب من قال كذا.
4 -
ومنها: أنه يترجم بمسألة اختلفت فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها. مثاله:"باب خروج النساء إلى البراز"
(1)
، جمع فيه حديثين مختلفين.
5 -
ومنها: أنه قد تتعارض الأدلة، ويكون عند البخاري وجه التطبيق بينها بحمل كل واحد على محمل، فيترجم بذلك المحمل إشارةً إلى وجه التطبيق. مثاله: "باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وما يحذر من الإصرار على النفاق
(2)
والعصيان"، ذكر فيه حديث: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"
(3)
.
6 -
ومنها: أنه قد يجمع في باب أحاديث كثيرة، كل واحد منها يدل على الترجمة، ثم يظهر له في حديث واحد فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها، ويُعْلِمُ على ذلك الحديث علامة الباب، وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه، وجاء الباب الآخر برأسه، ولكن قوله:"باب" هنالك بمنزلة ما يكتب أهل العلم على الفائدة المهمة لفظ: "تنبيه"، أو لفظ:"فائدة"، أو لفظ:"قف". مثاله: قوله في "كتاب بدء الخلق": "باب قول الله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] "، ثم قال بعد أسطر:"باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" وأخرج هذا الحديث
(4)
بسنده، ثم ذكر حديث:"والفخر والخيلاء في أهل الخيل"، ثم ما ليس فيه ذكر الغنم، فكأنه أعلم على هذا الحديث بأنه مع دخوله في الباب فيه فائدة أخرى مع منقبة للغنم.
(1)
"صحيح البخاري""كتاب الوضوء"، باب (13).
(2)
في الأصل: "التقاتل" وهو تحريف.
(3)
صحيح البخاري (ح: 48).
(4)
"صحيح البخاري"(ح: 3300).
7 -
ومنها: أنه قد يكتب لفظة "باب" مكان قول المحدثين: "وبهذا الإسناد"، وذلك حيث جاء حديثان بإسناد واحد، كما يكتب (ح) حيث جاء حديث بإسنادين.
مثاله: "باب ذكر الملائكة"، أطال فيه الكلام حتى أخرج حديث:"الملائكة يتعاقبون: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"
(1)
برواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، ثم كتب:"باب إذا قال: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه"، ثم أخرج حديث:"إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة"
(2)
، ثم ما ليس فيه ذكر آمين إلا بعد كثير، قال الإسماعيلي في موضع الباب:"وبهذا الإسناد"، كأنه يشير إلى أن لفظة "باب" علامة لقوله:"وبهذا الإسناد".
8 -
ومنها: أنه قد يترجم بمذهب بعض الناس، وبما كان يذهب إليه بعضهم، أو بحديث لم يثبت عنده، ثم يأتي بحديث يستدل به على خلاف ذلك المذهب والحديث، إما بعمومه أو غير ذلك.
9 -
ومنها: أنه يذهب في كثير من التراجم إلى طريقة أهل السير في استنباطهم خصوصيات الوقائع والأحوال من إشارة طرق الحديث، وربما يتعجَّب الفقيه من ذلك لعدم ممارسته لهذا الفن، ولكن أهل السير لهم اعتناء شديد بمعرفة تلك الخصوصيات.
10 -
ومنها: أنه يقصد التمرن على ذكر الحديث وفق المسألة المطلوبة، ويهدي طالب الحديث على هذا النوع.
مثاله: ذكر "الصواغ" في "باب ذكر الحناط"
(3)
، وقد فرق البخاري
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 3223).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 3224).
(3)
نبه المؤلف في الأصل العاشر على ذلك وقال: لم أجد هذا الباب فيما عندي من نسخة الجامع الصحيح، فلعله يكون في نسخة الشيخ قدس سره، قلت: يوجد في النسخ المطبوعة: "الخياط".
في تراجم الأبواب علمًا كثيرًا من شرح غريب القرآن، وذكر آثار الصحابة، والأحاديث المعلقة.
11 -
وقد يذكر حديثًا لا يدخل هو بنفسه على الترجمة أصلًا، لكن له طرق، وبعض طرقه يدل عليها إشارةً أو عمومًا، وقد أشار بذكر الحديث إلى أنَّ له أصلًا صحيحًا يتأكد به ذلك الطريق، ومثل هذا لا ينتفع به إلا المهرة من أهل الحديث.
12 -
وكثيرًا ما يترجم لأمر ظاهر قليل الجدوى، ولكنه إذا تحقق المتأمل أجدى، كقوله:"باب قول الرجل: ما صلينا"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك.
قلت: وأكثر ذلك تعقُّبات وتبكيتات على عبد الرزاق وابن أبي شيبة في تراجم "مصنفيهما"؛ إذ شواهد الآثار تروى عن الصحابة والتابعين في "مصنفيهما"، ومثل هذا لا ينتفع به إلا من مارس الكتابين، واطلع على ما فيهما.
13 -
وكثيرًا ما يستخرج الآداب المفهومة بالعقل من الكتاب والسُّنَّة بنحو من الاستدلال والعادات الكائنة في زمانه صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا لا يدرك حسنه إلا من مارس كتب الآداب، وأجال عقله في ميدان آداب قومه، ثم طلب لها أصلًا من السُّنَّة.
14 -
وكثيرًا ما يأتي بشواهد الحديث من الآيات، ومن شواهد الآية بالأحاديث تظاهرًا، ولتعيُّن بعض المجملات دون البعض. فيكون كقول المحدث: المراد بهذا العام المخصوص، أو بهذا الخاص العموم، ونحو ذلك.
ومثل هذا لا يدرك إلا بفهم ثاقب، وقلب حاضر.
فهذه مقدمة لا بد من حفظها لمن أراد أن يقرأ "البخاري" ويفهم.
والحمد لله أولًا وآخرًا، انتهى كلام شيخ المشايخ.
أصول التراجم عند شيخ الهند
وذكر شيخ الهند قُدِّس سرُّه خمسة عشر أصلًا بالبسط في اللغة الأردية في مبدأ تراجمه، يأتي بيانها في الفائدة الثالثة مفصلًا معربًا، وذكر في آخرها عدة أصول في العربية، وهذا نصه، فقال:
اعلم أن المؤلف رحمه الله مرّة يصرِّح بالترجمة، لكن غرضه لا يكون ظاهر العبارة، بل ما يثبت بالالتزام أو بالإشارة، جليًّا كان أو خفيًّا، يظهر مقصوده بعد التأمل في أحاديث الباب، فمن لم يتأمل وقصر على الظاهر يقع في التكلف والتخبُّط.
مثلًا: قال رحمه الله: "باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب"، وذكر فيه حديث
(1)
استئجار أهل الكتابين واستئجار هذه الأمة، فأشكل التطبيق على الشرَّاح، وتكلفوا فيه.
والتحقيق: أن غرض المؤلف من هذه الترجمة بيان آخر وقت العصر، فظهر التطبيق، فافهم، ولو قال:"باب تأخير العصر إلى الغروب" كما صرح في الصفحة السابقة: "باب تأخير الظهر إلى العصر"، ما تكلف أحد هذه التكلفات البعيدة.
وهكذا قال بعد ورقة: "باب من أدرك من الفجر ركعة"، فالمقصود منه أيضًا بيان آخر وقت الفجر لا ظاهر الترجمة، والله أعلم.
وهكذا قال في محل آخر: "باب ما يقول بعد التكبير"، وأدخل فيه حديث الكسوف
(2)
أيضًا، فأشكل التوفيق فتكلَّفوا.
والوجه عندنا أن بعد التأمل في أحاديث الباب يُفهم أن غرض المؤلف في هذا الباب إثبات التوسع في دعاء الافتتاح وتركه رأسًا، وعدم تعيين الدعاء المخصوص لزومًا، وأن الدعاء ثابت بعد التكبير متصلًا ومنفصلًا، فحينئذ ينطبق جميع الأحاديث المذكورة في الباب، فافهم، والله أعلم، وليس غرضه من هذا الباب تعيين الدعاء.
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 448).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 748).
وتارة يذكر الباب
(1)
بلا ترجمة، ويذكر فيه حديثًا، فالشرَّاح رحمهم الله يذكرون في مثل هذا المقال احتمالات أكثرها بعيدة عن شأن المؤلِّف والمؤلَّف كليهما، كما لا يخفى على المهرة، وأحسن أعذارهم أنه كالفصل من الباب السابق، لكن هذا العذر أيضًا لا يتمشَّى في بعض المواضع.
مثلًا قال في الأبواب المتعلقة بأحكام البول: "باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله"، وذكر فيه حديث إنسانين يعذبان في قبورهما، ثم قال بعده:"باب ما جاء في غسل البول"، وذكر في الترجمة هذا الحديث
(2)
، ثم بعد ذلك الباب قال:"باب" بلا ترجمة، وذكر فيه هذا الحديث أيضًا، فكيف يقال: إنه كالفصل من الباب السابق؟ لأن هذا يمكن إذا كان الثاني مغايرًا للأول بوجه، وههنا لا تغاير أصلًا، فافهم.
وعندنا لا بد أن يقال: إن المؤلف أحيانًا يترك الترجمة عمدًا ويذكر حديثًا، ومقصوده أني أخرجت من هذا الحديث حكمًا أو أحكامًا، فينبغي أن تخرجوا منه حكمًا غير ذلك بشرط أن يكون مناسبًا لتلك الأبواب، ويفعل هكذا تشحيذًا للأذهان، وتنبيهًا وإيقاظًا للناظرين، كما هو دأبه في أمور كثيرة.
فعندنا - والله أعلم - هذا الاحتمال أقوى وأليق. وأنفع مهما أمكن.
نعم، إذا كان مانع منه في موضع ما، فلا بدَّ أن يتوجَّهوا إلى احتمال آخر يناسب ذلك المقام.
فعلى هذا يقال ههنا مثلًا: ينبغي أن تكون الترجمة كون البول موجبًا لعذاب القبر وما يماثلها، والله أعلم بالصواب، لا يقال: إن في أبواب القبر يقول: "باب عذاب القبر من الغيبة والبول"، فتتكرر الترجمة؛ لأنا نقول: المقصود هناك بيان حكم القبر، وها هنا المقصود ذكر حكم البول، فأين التكرار؟
(1)
سيأتي في الأصل الخامس والعشرين، (ز).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 218).
ونظائره كثيرة عند المؤلف لا تخفى على الناظرين، مثلًا: قال في أبواب الإيمان: "أداء الخمس من الإيمان"، ثم قال في أبواب الخمس:"أداء الخمس من الدِّين"، وهكذا قال المؤلف رحمه الله في آخر أبواب التيمم:"باب" بلا ترجمة، ثم ذكر حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا معتزلًا لم يصل في القوم، فقال:"يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ "، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال:"عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"
(1)
.
فعلى ما ذكرنا سابقًا يفهم من التراجم المذكورة في هذه الأبواب، أن الترجمة ههنا ينبغي أن تكون:"إذا لم يجد الجنب ماء يتيمم"، ولا حاجة إلى سهو الناسخين، أو عدم توفيق المؤلف رحمه الله.
وتارة يذكر بابًا
(2)
مع الترجمة، لكن لا يذكر حديثًا عكس الصورة الأولى، وفيه وجهان، مرة يذكر تحت الترجمة آية، أو حديثًا، أو قولًا من الصحابة والتابعين دالًّا على الترجمة، وهو كثير، ومرة لا يذكر شيئًا منها أيضًا، كما لا يذكر حديثًا مسندًا بل يذكر الترجمة فقط، فيحمله الشرَّاح على سهو الناسخين، أو سهو المؤلف، أو عدم تيسر إرادته بوجه من الوجوه، ولا يخفى استبعاده.
والتحقيق عندنا في هذه المواضع التفصيل:
أما الصورة الأولى: فظاهر أن الترجمة مدلَّلة بالآية أو الحديث أو غيرهما المذكور في ذيل الترجمة، فالترجمة تثبت ما تركها غير ثابتة، واكتفى المؤلف بهذا القدر بوجه ما، إما لأن حديثًا على شرط المؤلف ليس عنده، وإما لقصد التمرين.
وأما الصورة الثانية: فلا يختارها المؤلف إلا في موضع يكون دليل الترجمة مذكورًا قبلها في الباب السابق أو بعدها، مع أن هذه الصورة قليلة
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 348).
(2)
يأتي في الأصل السابع والعشرين، (ز).
جدًا، فلا تكون الترجمة غير ثابتة، بل ثابتة بالدليل المذكور في الكتاب، وإن لم يذكر مع الترجمة لقصد التمرين والتنبيه وغيرها من الأسباب.
نعم، وجدنا في جملة الكتاب بابًا أو بابين، جعل رحمه الله الآية فيه ترجمة، واكتفى بها، ولم يذكر معها حديثًا ولا قولًا، فالأَولى أن يقال: لما جعل الترجمة آية القرآن وهو دليل فوق جميع الأدلة، فهذه الترجمة دعوى دليلها معها، لا يحتاج إلى دليل آخر، فاكتفى بها، فلا يقال: الدعوى بقيت بلا دليل، ولا يحتاج إلى أن يجعل حديثًا أو قولًا المذكور في الأبواب السابقة أو اللاحقة دليلًا لها، فالله أعلم.
هذا ما عندنا من التفصيل، فعليك بالتأمل الصادق والإنصاف اللائق، فإن كان حقًا فمن العزيز الرحيم، وإلا فمني ومن الشيطان الرجيم، انتهى.
وأشار الكرماني في مواضع من "شرحه"
(1)
: أن الإمام البخاري يقتفي مشايخه في تراجم "صحيحه".
وتعقبه الحافظ في "الفتح"
(2)
ورد عليه في "باب طرح الإمام المسألة" إذ قال: وأما دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجم مصنفاتهم فإنها غير مقبولة، ولم نجد عن أحد ممن عرف حال البخاري وسعة علمه، وجودة تصرفه، حكى أنه كان يقلِّد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره، وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه، والذي ادَّعاه الكرماني يقتضي أنه لا مزية له في ذلك؛ لأنه مقلد فيه لمشايخه، وأعاد الكرماني هذا الكلام في "شرحه" مرارًا، ولم أجد له سلفًا في ذلك، والله المستعان، انتهى مختصرًا.
* * *
(1)
انظر: "صحيح البخاري بشرح الكرماني"(2/ 13).
(2)
"فتح الباري"(1/ 148).
الفائدة الثالثة في تفاصيل الأصول من الأصول المذكورة في كلام الشرَّاح أو المشايخ المذكورين، أو من كلامهم في الشروح أو الدروس من غير ما ذكر سابقًا، أو مما كان خاطري أبا عُذْرَه
ونقدم من تلك الأصول الخمسة عشر التي تقدمت في كلام شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي قُدِّس سرُّه مع الزيادة عليها من كلامه رحمه الله في تراجمه، ثم بعد ذلك الأصول الخمسة العشر
(1)
التي ذكرها شيخ الهند رحمه الله باللغة الأردية في مبدأ تراجمه، ثم الأصول الأُخَر التي ظفرت بها.
ولما أردت أن أذكر كلام الشيخين الجليلين المذكورين مسلسلًا وقع التفريق في بيان الأصول المتناسبة التي كان حقها أن تذكر مسلسلة كما سترى في التفصيل:
1 -
الأول: يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه:
من الأصول التي ذكرها شيخ المشايخ في مبدأ تراجمه -:
أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شروطه، ويذكر هنا حديثًا شاهدًا له على شرطه، انتهى.
وهذا أصل مطَّرد، كثير الشيوع في "صحيحه"، وتقدم هذا الأصل في كلام الحافظ في "مقدمته"
(2)
الذي رقمت عليه (10)، ومثَّل له الحافظ بـ "باب الأمراء من قريش"، وبـ "باب الاثنان فما فوقهما جماعة"، وتبع القسطلاني في "مقدمته"
(3)
في ذلك الأصل الحافظ.
(1)
هكذا في الأصل، وقد تقدم أن أصول التراجم عند الإمام ولي الله الدهلوي أربعة عشر أصلًا، فتدبَّر.
(2)
انظر: "هدي الساري"(ص 14).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 45).
قلت: ومن أمثلته:
"باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" حديث لـ "الأوسط"
(1)
بضعف، ذكر له البخاري شاهدًا.
و"باب الأذان مثنى مثنى"، قال الحافظ
(2)
: لفظ [هذه] الترجمة في حديث مرفوع لابن عمر رضي الله عنهما أخرجه الطيالسي. . . إلخ.
و"باب الإقامة واحدة"، قال الحافظ
(3)
: ولم يقل واحدة واحدة مراعاة للفظ الخبر الوارد في ذلك، وهو عند ابن حبان في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه:"الأذان مثنى والإقامة واحدة"
(4)
.
و"باب الصعيد الطيب وضوء المسلم"، قال الحافظ
(5)
: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البزار
(6)
بسنده عن أبي هريرة مرفوعًا. . . إلخ.
و"باب من قال لا يقطع الصلاة شيء"، قال الحافظ
(7)
: الجملة المترجم بها أخرجها الدارقطني
(8)
مرفوعًا لكن إسنادها ضعيف. . . إلخ.
و"باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، قال الحافظ
(9)
: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن
(10)
. . . إلخ.
قلت: ونظائره كثيرة في الكتاب، ولا يلتبس هذا الأصل بالأصل الحادي والأربعين الآتي في محله.
(1)
"المعجم الأوسط"(1/ 147)(رقم 465).
(2)
"فتح الباري"(2/ 72).
(3)
"فتح الباري"(2/ 84).
(4)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(رقم 1677).
(5)
"فتح الباري"(1/ 446).
(6)
"مسند البزار"(9/ 387)(رقم 3973).
(7)
"فتح الباري"(1/ 588).
(8)
"سنن الدارقطني"(1/ 268).
(9)
"فتح الباري"(2/ 149).
(10)
"صحيح مسلم"(ح: 709)، و"سنن النسائي" (ح: 865)، و"سنن أبي داود" (ح: 572)، و"سنن الترمذي" (ح: 327)، و"سنن ابن ماجه" (ح: 775).
2 -
الثاني: الترجمة بنوع من الدلالات:
أنه يترجم بمسألة استنبطها من الحديث بنحو من الاستنباط من نصِّه، أو إشارته، أو عمومه، أو إيمائه، انتهى.
ذكره شيخ المشايخ أصلًا واحدًا فاقتفينا أثره، وإلا فهو أصل متضمن لأربعة أصول كما لا يخفى، وأشار الحافظ في "الفتح"
(1)
في آخر "باب فضل صلاة الفجر في جماعة" إلى هذ الأصل، وبه أثبت المناسبة بالروايات.
وأثبت شيخ المشايخ في تراجمه بهذا الأصل مناسبة كثير من الروايات، كما قال في "باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. . ." إلخ: إنه رضي الله عنه أثبت ذلك بحديثي الباب بالدلالة الالتزامية، وقال في "باب الوضوء من النوم": استدل المؤلف بظاهر الحديث. . . إلى أن قال: وأمثال هذه الاستدلالات للمؤلف كثيرة، فاحفظ فإنه ينفعك.
وكذا في "باب عرق الجنب"، وكذا في "باب من صلى في الثوب الذي يجامع فيه"، إذ قال: احتاج في هذا الباب إلى هذا النوع من الاستدلال بالإيماءات والإشارات الخفية؛ لأنه لم يرد فيه نص يدل عليه، انتهى.
وكذا في "باب ذكر البيع والشراء في المسجد"، وكذا في "باب سُنَّة الصلاة على الجنازة"، وكذا في "باب المزايدة"، و"باب إيجاب التكبير"، أثبت بعضها بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء.
وهذه الأنواع وسيعة في تراجم الإمام البخاري، وأخذ بذلك العيني في المواضع الكثيرة، مثلًا: قال
(2)
في حديث أبي موسى في "باب من أدرك ركعة من العصر": مطابقته للترجمة بطريق الإشارة لا بالتصريح. وكذا قال في الباب الذي بعده "باب وقت المغرب".
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 138).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(4/ 57 و 77).
3 -
الثالث: من قال كذا:
أنه يترجم بمذهب ذهب إليه قبل، ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة من غير قطع بترجيح ذلك المذهب، فيقول:"باب من قال كذا"، انتهى.
قلت: هذا أصل معروف عند المشايخ جارٍ على ألسنتهم كثيرًا، وتقدمت الإشارة إليه في كلام الحافظ فيما رقمت عليه السادس، إذ قال: وكتيرًا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله: "باب هل يكون كذا؟ أو من قال كذا"، ونحو ذلك؛ وذلك حينئذ لا يَتجه له الجزم بأحد الاحتمالين. . . إلى آخر ما تقدم من كلامه.
ولذا قال الحافظ في "الفتح"
(1)
في "باب من انتظر الإقامة": أوردها مورد الاحتمال تنبيهًا على اختصاص ذلك بالإمام، انتهى.
وتبعه القسطلاني أيضًا في هذا الأصل في مقدمة "شرحه"
(2)
.
ولا يذهب عليك الفرق بين كلام شيخ المشايخ - إذ قال: إنه إشارة إلى مذهب من غير قطع بترجيحه -، وبين كلام الحافظ - إذ قال: إنه لعدم الجزم بأحد الاحتمالين -، ومع ذلك كله فليس هذا الأصل بمطَّرد، فإنه طالما يترجم بذلك في الإجماعيات، كما في "باب من بنى مسجدًا"، وفي "باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء"، و"باب من قال: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين".
نعم، ما قال الحافظ: إن غرضه بذلك التنبيه على الثبوت متجه في أكثرها، فإن المبدوء بلفظ:"باب من قال كذا" في جميع الكتاب عشرة أبواب
(3)
، والتنبيه على الثبوت محتمل في أكثرها بل كلها.
(1)
"فتح الباري"(2/ 109).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 44).
(3)
بل اثنا عشر بابًا.
4 -
الرابع: عدم جزم الحكم في الروايات المختلفة:
قد يترجم بمسألة اختلفت فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها.
مثاله: "باب خروج النساء إلى البراز"، جمع فيه حديثين مختلفين، انتهى.
قلت: هذا أصل مطَّرد معروف عند الشرَّاح، يعبِّرون عنه بأن الروايات التي لا تترجّح إحداهما على الأخرى عند المصنف لا يجزم بالحكم في الترجمة. وأخذ شيخ المشايخ في تراجمه في "باب إذا حنث ناسيًا في الإيمان"، إذ قال: جمع البخاري في هذا الباب أحاديث، بعضها يدل على أن الناسي والجاهل لا يؤاخذان بما فعلا، ومن قضيتها أن لا تجب الكفارة. وبعضها يدل على أنهما يؤاخذان ببعض فعلهما، إلى آخر ما قال. وبهذا الأصل جزم ابن المنيِّر في الباب المذكور إذ قال: أورد الأحاديث المتجاذبة ليفيد الناظر مظانَّ النظر، ومن ثَمَّ لم يذكر الحُكم في الترجمة، بل أفاد مراد الحكم، والأصول التي تصلح أن يقاس عليها، إلى آخر ما في "الفتح"
(1)
.
ويدخل في هذا الأصل عندي: "باب الصلاة على الشهيد"، إذ لم يجزم فيه المصنف بالحكم، وأورد فيه حديثين متعارضين، و"باب رفع الصوت في المسجد" لم يجزم فيه بحكم، وأورد الروايتين المختلفتين، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالأصل الخامس والثلاثين؛ لظهور الفرق بينهما؛ فإن عدم جزم الحكم ها هنا لمكان اختلاف الروايات وهناك لمكان اختلاف أهل العلم، وكذا لا يلتبسان هذان بالأصل السابع والأربعين، فإن عدم الجزم بالحكم فيه للتوسع في الحكم، فتميّز كل أصل عن أخويه، ولا تلتبس الثلاثة بالثامن والستين، فإن عدم الجزم فيه لمجرد الاحتمال.
(1)
"فتح الباري"(11/ 551).
5 -
الخامس: تطبيق:
أنه قد تتعارض الأدلة ويكون عند البخاري وجه التطبيق بينها بحمل كل واحد على محمل.
مثاله: "خوف المؤمن أن يحبط عمله وما يحذر من الإصرار على النفاق"
(1)
، كما تقدم مفصلًا في كلام شيخ المشايخ.
وهذا الأصل مطَّرد كثير الشيوع في الكتاب، أخذ به شيخ المشايخ في عدة مواضع من تراجمه، فقال في "باب قوله
(2)
: لا تستقبل القبلة بغائط. . ." إلخ: في هذه المسألة القول معارض للفعل، فأشار المصنف بضم الاستثناء في الترجمة إلى وجه الجمع إلى أن القول في الصحراء، والفعل بالأبنية.
وكذا قاله الشيخ قُدِّس سرُّه في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببكاء أهله"، قال: غرضه من هذا الباب الجمع بين ما روي عن عمر بن الخطاب وأمية رضي الله عنهما، وبين ما ناقضت به عائشة رضي الله عنها، على طبق ما حكي عن الشافعي رحمه الله من وجه الجمع بينهما، انتهى.
قلت: ومن ذلك "باب النوم قبل العشاء لمن غلب. . ." إلخ، و"باب من سأل الناس تكثرًا".
6 -
السادس: باب في باب:
أنه يجمع في باب أحاديث كثيرة دالة على الترجمة، ثم يظهر له في حديث فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها، فيُعلم على ذلك الحديث بعلامة: الباب، وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه، إلى آخر ما تقدم من كلامه مفصلًا.
(1)
في الأصل: "التقاتل" وهو تحريف.
(2)
"قوله" كذا في الأصل، وهو مقحم، انظر:"صحيح البخاري"، "كتاب الوضوء".
وهذا أصل مطَّرد كثير الوقوع في كتابه، أخذ بذلك جمع من المشايخ، معروف في ألسنتهم بـ "باب في باب"، ونظائره في "صحيحه" لا سيما في "كتاب بدء الخلق" في "باب قوله تعالى:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]" كثيرة، والعجب من عامة الشرَّاح أنهم لا يأخذون بهذا الأصل، ولذا مال الحافظ في "الفتح"، والعيني والقسطلاني في "شرحيهما" إلى أن الأَولى حذف هذه الأبواب، ولا حاجة إلى ذلك، فإنه أصل معروف ومطَّرد، ولا يضطر على قَبول هذا الأصل المطَّرد إلى تغليط النسَّاخ في ذكر الأبواب الكثيرة من هذا النوع في "الصحيح".
ولذا أورد عليهم شيخ المشايخ في تراجمه في "باب من مضمض من السويق" إذ قال: هذا الباب من قبيل الباب في الباب؛ لأنه يشتمل على ما عقد له الباب السابق مع فائدة أخرى إلى أن قال: فاحفظ هذا التقرير فإنه ينفعك في مواضع من البخاري، وأكثر الشرَّاح في أمثال هذا المقام قد خبطوا كثيرًا، انتهى.
وبذلك جزم في "باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد"، إذ قال: دلالة الحديث على جواز ذلك ظاهرة، والحديث الذي في الباب الثاني أظهر في ذلك، ولهذا ينبغي أن يقال: إنه باب في الباب على نحو ما مرَّ سابقًا في مواضع عديدة، إلى آخر ما قال، وقال في "باب فضل صلاة الفجر في جماعة": هذا الباب في الباب، فلا إشكال في ربط الحديثين الآخرين فيه مع الترجمة فتدبر، انتهى، وقال في "باب المدبر": هذا باب في باب، انتهى.
والشرَّاح لما لم يأخذوا بهذا الأصل المطَّرد، جهدوا بربط هذين الحديثين بالترجمة جهدًا شديدًا، وذكروا في المطابقة توجيهات بعيدة، ثم لا يذهب عليك أن هذا الأصل المذكور غير الآتي في التاسع والخمسين.
7 -
السابع: "باب" مكان (ح):
قد يكتب لفظ الباب مكان قول المحدثين: "بهذا الإسناد"، كما يكتبون (ح)، إلى آخر ما تقدم من كلامه قُدس سرُّه مفصَّلًا
(1)
.
وهذا الأصل وضعه الشيخ رحمه الله لهذا الموضع خاصة، وليس له نظير آخر في نظري القاصر في جميع الكتاب، وليس الباب ههنا في نسخة الحافظ، وقال في "شرحه"
(2)
: ووقع في كثير من النسخ ههنا: "باب إذا قال أحدكم آمين" إلى آخر الحديث، فصار ترجمة بغير حديث، وصارت الأحاديث التي تتلوه لا تعلى لها به، فأشكل أمره جدًا، وسقط لفظ الباب من رواية أبي ذر فخفف الإشكال، لكن لو قال: وبهذا الإسناد، أو: وبه قال، أو نحو ذلك، لزال الإشكال، وقد صنع ذلك الإسماعيلي فإنه ساق حديث "يتعاقبون"، فلما فرغ قال: وبهذا الإسناد "إذا قال أحدكم"، فساقه من طريقين عن أبي الزناد كذلك، وظهر بهذا أن الحديث وما بعده من الأحاديث بقية ترجمة ذكر الملائكة، انتهى.
قلت: وبصنيع الإسماعيلي أخذ الشيخ قُدِّس سرُّه هذا الأصل، وما يخطر في بال هذا العبد الضعيف أن هذا الباب ليس بمثبَت - بفتح الموحدة - حتى يحتاج له إلى حديث، بل هو مثبِت - بكسر الموحدة - كأنه أشار إلى أن "باب قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قال أحدكم: آمين" بجميع رواياته المروية بالألفاظ المختلفة مثبِت للترجمة السابقة، وهي "ذكر الملائكة"، فلو جعل هذا أيضًا [أصلًا] مستقلًا، وهو أنه قد يترجم بباب، لا لإثباته بل هو مثبت للباب السابق، كان جديرًا لتفنن طبع المصنف قُدِّس سرُّه.
ثم رأيت أن السِّندي قد مال إلى ذلك التوجيه الذي سنح في خاطر هذا الفقير، فللَّه الحمد والمنة.
(1)
انظر (ص 20).
(2)
انظر: "فتح الباري"(6/ 314).
قال السندي
(1)
: قوله: "باب إذا قال أحدكم: آمين" لعل مراده أن من جملة الأدلة على وجود الملائكة هذا الباب، أي: ما ذكر فيه وما يتعلق به من الأحاديث، فلم يأت بالباب ليذكر أحاديثه، والله أعلم، نعم ذكر بعض أحاديثه ليستدل به على وجود الملائكة فيما بعد أيضًا في جملة سائر الأحاديث لهذا المطلوب، والله تعالى أعلم، انتهى.
وحينئذ فلم يبق لي مانع أن أذكره أصلًا مستقلًّا، ولذا ذكرته أصلًا مستقلًّا كما سيأتي في الأصل الستين، وسيأتي هناك بعض أمثلته.
8 -
الثامن: الحديث بضد الترجمة:
أنه قد يترجم بمذهب بعض الناس، وبما كان يذهب إليه بعضهم، أو بحديث لم يثبت عنده، ثم يأتي بحديث يستدل به على خلاف ذلك المذهب والحديث، إما بعمومه أو غير ذلك، انتهى.
كذا في مبدأ تراجم الشيخ قدِّس سرُّه ولم يمثل له بمثال، وما ذكر هذا الأصل في موضع من تراجمه المفصلة، ومع ذلك هذا أصل مشهور على ألسنة المشايخ.
ويمكن عندي أن يمثل له بـ "باب إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وهو قطعة من حديث معروف، وذكر بعده الإمام البخاري:"وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه بالناس وهو جالس"، ثم أورد في الباب حديثًا
(2)
طويلًا في مرضه صلى الله عليه وسلم، وفيه:"فجعل أبو بكر رضي الله عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد"، قال الشيخ في "التراجم": قوله: "وصلى النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، أشار بإيراد هذا القول في تعاليق الباب إلى نسخ هذا القدر من الحكم، انتهى.
(1)
"صحيح البخاري" بحاشية السندي (2/ 74).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 687).
ويمكن أيضًا أن يمثل له بـ "باب جهر المأموم بالتأمين"؛ إذ أورد فيه حديث تأمين المأموم
(1)
مطلقًا بدون قيد الجهر، فكأنه لم يجهر المأموم بالتأمين على إحدى التوجيهات العديده في توافق الحديث بالترجمة.
وهكذا ترجم بـ "باب بيع العبد الزاني"، وأورد فيه حديث
(2)
زنا الأَمَة، على إحدى التوجيهات.
وكذا ترجم بـ "باب [وقت] الجمعة إذا زالت الشمس"، وأورد فيه حديث
(3)
التبكير بها والقيلولة بعدها.
وترجم بـ "باب من كفن بغير قميص"، وأورد فيه حديث
(4)
ابن أُبَي المنافق الدال على القميص.
وترجم بـ "باب تحري ليلة القدر في الوتر"، وأورد فيه عن ابن عباس
(5)
: "التمسوا في أربع وعشرين".
وهذا الأصل غير الأصول الآتية في 43 و 55 و 64، فلا تلتبس الأربعة، وكذلك هذا الأصل بمعزل من الأصل الثالث كما لا يخفى.
9 -
التاسع: استنباط الأحوال التاريخية:
يذهب في كثير من التراجم إلى طريقة أهل السير في استنباطهم خصوصيات الوقائع والأحوال من إشارة طرق الحديث، وربما يتعجب الفقيه من ذلك. . .، إلى آخر ما قال.
ويوضح كلامه هذا ما تقدم من كلامه مبسوطًا في آخر الفائدة الثالثة عشرة في "باب ذكر قحطان".
ويمكن عندي أن يمثل له بـ "باب كيف كان بدء الحيض"؛ إذ
(1)
أخرجه البخاري (ح: 780).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 2152).
(3)
أخرجه البخاري (ح: 905).
(4)
أخرجه البخاري (ح: 1269).
(5)
أخرجه البخاري (ح: 2022).
استنبط الإمام رضي الله عنه كونه من زمن آدم عليه السلام بحديث
(1)
عائشة رضي الله عنها في الحج.
وهذا الأصل بمعزل من الآتي في الرابع والخمسين والتاسع والخمسين.
10 -
العاشر: التمرن:
ما قال قُدِّس سرُّه: قد يقصد التمرن على ذكر الحديث وفق المسألة المطلوبة، ويهدي طالب الحديث إلى هذا النوع.
مثاله ذكر الصوَّاغ في "باب ذكر الحناط"، هكذا أفاد الشيخ، ولا ريب في قصد التمرن من الإمام البخاري في جميع كتابه، ومع ذلك لم أجد هذا الباب فيما عندي من نسخة "الجامع الصحيح"، فلعله يكون في نسخة الشيخ قُدِّس سرُّه.
11 -
الحادي عشر: الاشارة إلى بعض طُرق الحديث:
قد يذكر حديثًا لا يدل هو بنفسه على الترجمة أصلًا، لكن له طرق، وبعض طرقه يدل عليها إشارةً أو عمومًا، وقد أشار بذكر الحديث إلى أن له أصلًا يتأكد به ذلك الطريق. ومثل هذا لا ينتفع به إلا المهرة من أهل الحديث، انتهى.
هكذا أفاد الشيخ قُدِّس سرُّه، وجعل كله أصلًا واحدًا، وإلا ففي الحقيقة هما أصلان مطَّردان كثيرا الوقوع في "الجامع":
الأول: أنه يشير به إلى بعض طرقه الواردة في "الصحيح" في الموضع الآخر، وأشار إلى ذلك الشيخ بأول كلامه.
والثاني: أن يشير بذلك إلى بعض طرقه الواردة في الكتب الأخر
(1)
أخرجه البخاري (ح: 294).
من غير "الجامع"، وإليه أشار الشيخ بآخر كلامه بقوله: أشار على أن له أصلًا صحيحًا. . . إلخ.
وجعلهما شيخ الهند رحمه الله أيضًا في أصول تراجمه أصلًا واحدًا، وباتّباعهما قُدِّس سرُّهما جعلته أصلًا واحدًا، وإلا فهما أصلان متغايران جدًّا، جديران بأن يُفْرَدَ كلُّ واحد منهما عن الآخر.
وبسَطَ الكلام على ذلك شيخ الهند رحمه الله في الأصل السادس من أصول تراجمه إذ قال: قد يذكر المصنف في الباب حديثًا لا تعلق له بالترجمة أصلًا، لكنه رحمه الله يذكر هذا الحديث في باب آخر من "صحيحه"، ويكون فيه ما يثبت الترجمة الأولى صريحًا، ومن لم يعرف ذلك يتكلف في التطبيق بين الترجمة الأولى وحديثها تكلفات باردة.
مثاله: أنه ترجم في أول كتابه "باب السمر في العلم"، وأورد فيه حديث ابن عباس
(1)
: "بِتُّ في بيت خالتي ميمونة رضي الله عنها. . ." إلخ، ولا ذكر فيه للسمر أصلًا، فاضطر الشرَّاح في ذلك إلى تأويلات باردة كلها بمعزل من الحقيقة.
وأجاد في ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في "شرحه" إذ قال: إن المصنف أخرج الحديث في كتاب التفسير، وفيه زيادة وهي قوله:"فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة"
(2)
، وهذه الجملة نص في إثبات الترجمة الأولى، انتهى.
قلت: وتمام كلام الحافظ
(3)
في الباب المذكور بعد ذكره التوجيهات العديدة عن الشرَّاح الأخر، وكل ذلك معترض، والأَولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهذا يصنعه المصنف كثيرًا، يريد به تنبيه الناظر في كتابه على
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 117).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 4560).
(3)
"فتح الباري"(1/ 213).
الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة؛ لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن.
وإنما أراد البخاري ههنا ما وقع في بعض طرق هذا الحديث مما يدل صريحًا على حقيقة السمر، وهو ما أخرجه في التفسير بلفظ:"تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد. . ." الحديث، فصحَّت الترجمة صريحًا - بحمد الله - من غير حاجة إلى تعسف ولا رجم بالظن، انتهى مختصرًا.
قلت: هو كذلك فإن الإمام البخاري رحمه الله أخرج بهذه الزيادة في باب قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164].
ثم قال شيخ الهند رحمه الله في هذا الأصل السادس المذكور: وتارة يكون الحديث الذي فيه جملة مثبتة للترجمة لا يكون على شرط المؤلف وإن كان صحيحًا، لكنه لمَّا لم يكن على شرطه لا يذكره المؤلف في "صحيحه"، ولا يظفر بذلك إلا من تتبع كتب الحديث، انتهى مختصرًا.
وهذان الأصلان مطَّردان في "صحيحه" قد أخذ بهما الحافظ ابن حجر في المواضع التي لا تحصى من "شرحه"، منها: ما قال في "باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان": الذي يظهر لي من تصرُّف البخاري أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه صريحًا
(1)
، ثم ذكر الطرق المصرِّحة بذلك، وقال في "باب دلك المرأة. . ." إلخ: جرى على عادته في الترجمة بما تضمَّنه بعض طرق الحديث
(2)
، وقال في "باب أمور الإيمان، وقول الله عز وجل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا} الآية [البقرة: 177] ": وجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق
(3)
وغيره، ورجاله ثقات، ولم يسقه
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 553).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 414).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(رقم 20110).
المصنف؛ لأنه ليس على شرطه، فإن قيل: ليس من المتن ذكر التصديق، أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تامًّا
(1)
، انتهى ملخصًا، وهذا من الأصل الثاني من هذين الأصلين.
وقال أيضًا في "باب الفتيا وهو واقف على الدابة" في "كتاب العلم": فإن قيل: ليس في سياق الحديث ذكر الركوب، فالجواب أنه أحال به على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج
(2)
فقال: "كان على ناقته" ترجم له: "باب الفتيا على الدابة"
(3)
، انتهى، وهذا من الأصل الأول من الأصلين المذكورين.
والعجب من العلَّامة العيني قُدِّس سرُّه أنه أورد على الحافظ في الباب المذكور، إذ قال
(4)
: وأجاب بعضهم بأنه أحال به على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج، وبُعد هذا الجواب كبُعد الثرى من الثريا، فكيف يعقد باب بترجمة ثم يحال ما يطابق ذلك على حديث يأتي في باب آخر؟ انتهى.
وأشد التعقب على الحافظ في "باب السمر في العلم" فقال رادًّا على كل جزء من كلامه
(5)
: وأما قوله: والأَولى من هذا كله إلى آخره، فكلام ليس له توجيه أصلًا، فضلًا عن أن يكون أولى من غيره، لأن من يعقد بابًا بترجمة ويضع فيه حديثًا هل يقال: مناسبة الترجمة في هذا الباب تستفاد من ذلك الحديث الموضوع في باب آخر؟ فما أبعد هذا الكلام، وأبعد من هذا البعيد أنه علَّله بقوله: لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن، فسبحان الله، هؤلاء ما فسَّروا الحديث، بل ذكروا مطابقة الحديث بالترجمة، وما ذكره هو الرجم بالظن، انتهى ملخصًا.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 51).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 1736).
(3)
"فتح الباري"(1/ 180).
(4)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 122).
(5)
انظر: "عمد القاري"(2/ 251).
ومع هذا كله، فقد أخذ بهذا الأصل بنفسه أيضًا، إذ قال في "باب من حمل جارية صغيرة على عنقه": وقد أخرج فيه البخاري حديث أبي قتادة في صلاته صلى الله عليه وسلم حاملًا أُمامة بنت زينب، فقال العيني
(1)
: مطابقته ظاهرة، فإن قلت: أين الظهور وقد خص الحمل بكونه على العنق، ولفظ الحديث أعم من ذلك؟ قلت: كأنه أشار بذلك إلى أن الحديث له طرق أخرى، منها لمسلم
(2)
من طريق بكر، وصرَّح فيه "على عنقه"، وكذا لأبي داود وأحمد
(3)
من طريق أخرى، انتهى مختصرًا.
وهكذا أخذ العلامة العيني بذلك في "باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها" إذ قال
(4)
: مطابقته للترجمة في لفظ التسوية ظاهرة وليس فيه ما يطابق بقوله: "عند الإقامة وبعدها"، ولكنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرق الحديث ما يدل على ذلك.
وقال في "باب التقاضي والملازمة": وجه مطابقة الحديث للترجمة في التقاضي ظاهر
(5)
، وأما في الملازمة فبوجهين، ثانيهما: أنه أخرج هذا الحديث
(6)
في عدة مواضع، منها في "باب الصلح" و"باب الملازمة" بلفظ:"فلزمه" فكأنه أشار بالملازمة إلى الحديث المذكور على أن ما ذكره في عدة مواضع كلها حديث واحد، وله عادة في بعض المواضع يذكر التراجم بهذه الطريقة، انتهى ملخصًا.
فجُملة الكلام أن هذين الأصلين مطَّردان في "صحيحه"، أخذهما الشرَّاح قاطبةً، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالأصل الثامن والثلاثين ولا الحادي والأربعين.
(1)
"عمد القاري"(3/ 604).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 846).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 920 و 921)، "مسند أحمد"(5/ 310).
(4)
"عمد القاري"(4/ 352).
(5)
"عمدة القاري"(3/ 502).
(6)
أخرجه في: باب الصلح (ح: 2706، 2710)، وفي: باب الملازمة (ح: 2424).
12 -
الثاني عشر: [ما يترجم لأمر ظاهر قليل الجدوى]:
وكثيرًا ما يترجم لأمرٍ ظاهر قليل الجدوى، لكنه إذا تحقق المتأمل أجدى.
كقوله: "باب قول الرجل: ما صلينا"، فإنه أشار به إلى الردِّ على من كره ذلك، انتهى.
قلت: أخذ الشيخ قُدِّس سرُّه هذا الأصل من كلام الحافظ المذكور فيما سبق عن المقدمة
(1)
، ورقمت عليه "الثامن"، وزاد الحافظ في مثاله: ومنه قوله: "باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة"، وأشار بذلك إلى الرد على من كره إطلاق هذا القول، انتهى.
وتبعه القسطلاني في "مقدمة شرحه"
(2)
في ذكر هذا الأصل، وهو أصل مطَّرد، ويظهر بالتأمل وتفتيش المذاهب والآثار الواردة في ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما.
وذكر هذا الأصل شيخ الهند رحمه الله أيضًا في الأصل الحادي عشر، ووجَّهه بوجوه كما سيأتي في محله.
الثالث عشر: [تعقبات على مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة]:
ما قال: وأكثرها تعقبات على مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة في تراجم مصنفَيهما، ومثله لا ينتفع به إلا من مارس الكتابين واطَّلع على ما فيهما، انتهى.
قلت: وهو كذلك، ويظهر ذلك بمطالعة "فتح الباري" والعيني، فإنهما يصرِّحان بذلك في كثير من التراجم أن غرضه الرد على قول فلان، أخرجه فلان، وذكره شيخ الهند رحمه الله أيضًا، لكنه لم يذكره أصلًا مستقلًّا،
(1)
انظر: "هدي الساري"(ص 14).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 44).
بل أدمجه في الأصل الثاني عشر المذكور فيما سبق، وذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل الحادي عشر من أصوله، وأضاف فيه احتمالات أُخر أيضًا.
وقال الحافظ في "باب السترة بمكة" بعد ذكر توجيه ابن المنيّر: والذي أظن أنه أراد أن يُنَكِّتَ على ما ترجم به عبد الرزاق حيث قال: "باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء"، إلى آخر ما بسط الحافظ
(1)
.
وقال أيضًا في "باب الصلاة على الحصير"
(2)
: النكتة في ترجمة الباب: الإشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق شُريح بن هانئ أنه سأل عائشة رضي الله عنها: "أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي على الحصير، والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]، فقالت: لم يكن يصلي على الحصير"
(3)
، فكأنه لم يثبت عند المصنف، أو رآه شاذًّا مردودًا لمعارضة ما هو أقوى منه، إلى آخر ما قال.
وقال العيني
(4)
في "باب الاستنجاء بالماء": قصد بهذه الترجمة الرد على من كره الاستنجاء بالماء، وعلى من نفى وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه ابن أبي شيبة
(5)
بأسانيد صحيحة إلى آخر ما ذكر.
وقال الحافظ
(6)
في "باب أذان الأعمى": روى ابن أبي شيبة
(1)
"فتح الباري"(1/ 576).
(2)
"فتح الباري"(1/ 491).
(3)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(7/ 426)(رقم 4448)، وذكره ابن حجر في "المطالب العالية"(ح 364).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 408).
(5)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"، "باب من كان لا يستنجي بالماء ويجتزئ بالحجارة".
(6)
"فتح الباري"(2/ 99).
وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى.
وقال الحافظ
(1)
في "باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد": كأنه يشير إلى ما رواه عبد الرزاق
(2)
بإسناد صحيح: "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يؤذن للصبح في السفر أذانين".
وقال
(3)
في "باب الأذان للمسافرين. . ." إلخ: وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير، فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها، وأما غيرهم فإنما هي الإقامة، وحكي نحو ذلك عن مالك، انتهى.
وهذا الأصل يختصُّ بالكتابين المذكورين، بل الإمام البخاري كثيرًا ما يترجم في "صحيحه" على رد الروايات التي لا تصح عنده، سواء كانت في الكتابين المذكورين أو غيرهما من كتب السنن وغيرها، وخصَّ الشيخ قُدِّس سرُّه الكتابين المذكورين لكثرة التعقبات عليهما، ولا يمتري في ذلك من مارس التراجم، وأمعن النظر في الكتابين المذكورين.
قال الحافظ
(4)
في "باب الدفن بالليل": أشار بهذه الترجمة إلى الرد على منع ذلك محتجًا بحديت جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلًا، إلا أن يضطر إلى ذلك"، أخرجه ابن حبان
(5)
، إلى آخر ما قال.
قلت: ويدخل في ذلك الأصل: "باب موت الفجأة" على ما قال ابن رُشيد كما حكاه عنه في "الفتح"
(6)
.
(1)
"فتح الباري"(2/ 110).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(رقم 1897).
(3)
"فتح الباري"(2/ 111).
(4)
"فتح الباري"(3/ 207).
(5)
"صحيح ابن حبان"(ح: 3168).
(6)
"فتح الباري"(3/ 254).
14 -
الرابع عشر: الآداب والعادات المسلوكة:
ما قال: وكثيرًا ما يستخرج الآداب المفهومة بالعقل من الكتاب والسُّنَّة والعادات الكائنة في زمانه صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا يدرك حُسنه إلا من مارس كتب الآداب، وأجال عقله في ميدان آداب قومه، ثم طلب لها أصلًا من السُّنَّة، انتهى.
قلت: وهو كذلك، لا مراء في ذلك ولا امتراء، ويتضح ذلك بمطالعة الأبواب مفصلًا، لا سيما في كتاب العلم والجهاد والنكاح والأطعمة والآداب وغيرها، ويمثل له بالأبواب المسلسلة في "كتاب العلم" من "باب من سئل علمًا وهو مشتغل. . ." إلخ، و"من رفع صوته بالعلم"، و"طرح الإمام المسألة"، و"القراءة [والعرض] على المحدث"، و"من قعد حيث ينتهي به المجلس"، و"ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلهم بالموعظة"، و"من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة"، و"الفتيا على الدابة"، و" [من أجاب] الفتيا بإشارة اليد والرأس"، و"الغضب في الموعظة"، و"من برك على ركبتيه"، وغير ذلك من الأبواب الكثيرة في الكتب المتفرقة.
15 -
الخامس عشر: ذكر الشواهد من الآيات لإرادة الخصوص من العموم:
ما قال: وكثيرًا ما يأتي بشواهد الحديث من الآيات، ومن شواهد الآية من الأحاديث تظاهرًا، ولتعيُّن بعض المجملات دون البعض، فيكون كقول المحدث: المراد بهذا العام المخصوص، أو بهذا الخاص العموم ونحو ذلك.
ذكره شيخ المشايخ قُدِّس سرُّه أصلًا واحدًا، وإلا ففي الحقيقة هي ثلاثة أصول مختلفة:
أحدها: التظاهر.
والثاني: إرادة العام بالخصوص.
والثالث: عكسه.
وقد تقدم نحو ذلك في كلام الحافظ
(1)
المذكور في الفائدة الثانية، ورقمت عليه (1) و (2)، لكنه خصَّه بالترجمة، ولذا أدخلته في الأصل الثلاثين.
ولا يلتبس هذا بالأصل الأربعين لجزم الحكم ههنا، وعدم جزمه في الأربعين لإظهار اختيار المؤلف، والشواهد ههنا لتعيين محتملات الحديث، وفي الأربعين لإظهار اختيار المؤلف، وكذا الفرق بينه وبين الثامن عشر واضح، لإرداة الخصوص بالعموم ههنا وعكسه في الثامن عشر، فالجملة ههنا عدة أصول متقاربة يظهر الفرق بينها بالتأمل، وهي (18) و (24) و (40) و (53)، والمقصود ههنا ذكر الشواهد من الآيات للتظاهر أو لتعيين بعض المحتملات.
فهذه خمسة عشر أصلًا
(2)
، ذكرها شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي قُدِّس سرُّه في مبدأ تراجمه.
وأخذ في ذيل تراجمه عدة أصول أُخر، نُلحقها بكلامه، منها:
16 -
السادس عشر: الترجمة بكلِّ محتمل:
أن من دأب الإمام البخاري الاستدلال بكل المحتمل.
قال شيخ المشايخ
(3)
في "باب الرجل يأتم بالإمام. . ." إلخ: هذا يحتمل معنيين، وذهب المؤلف إلى كلا الاحتمالين. . . إلخ.
(1)
انظر: "هدي الساري"(ص 13).
(2)
لكنه ذكر أربعة عشر أصلًا فقط.
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 227).
وقال في "باب الْعَلَم بالمصلى": ولما كان ظاهر لفظ الحديث يحتمل أن يكون العلم في زمانه صلى الله عليه وسلم بنى المؤلف عقد الباب عليه، انتهى
(1)
.
وقال في "باب إذا قيل للمصلي: تقدم. . ." إلخ: استنباط المؤلف مستصعَب عند الشرَّاح غاية الصعوبة، وحله عندي أن دأب البخاري أن يستدل بكلا احتماليه، وهذا في كتابه كثير، انتهى.
وكذا قال في "باب العرض في الزكاة": من أن قوله: "وأما خالد. . ." إلخ
(2)
، استدلال ببعض محتملاته. . . إلخ.
قال الشيخ أيضًا في "باب من نام عند السحر": استدل المؤلف بقول عائشة على ترجمة الباب استدلالًا ببعض محتملاته، وهذا من دأبه، يفعله كثيرًا في كتابه، وأخذ الشيخ قُدِّس سرُّه أيضًا بهذا الأصل في "باب العرض في الزكاة" إذ قال: واستدلال المؤلف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما خالد. . ." إلخ، استدلال ببعض محتملاته، إلى آخر ما أفاده، وهذا الأصل جارٍ على ألسنة المشايخ كثيرًا.
17 -
السابع عشر: تعدد الطرق:
ما قال في "باب حك المخاط بالحصى": وههنا توجيه آخر مطَّرد في أكثر المواضع، وهو أجود التوجيهات عندي، وهو: أنه من دأب المصنف أن يورد حديثًا واحدًا متعدد الطرق مرارًا متعددة، ويعقد كل ترجمة بلفظ آخر واقع في ذلك الحديث، ومقصوده ليس إلا إكثار طرق الحديث، كما وقع في هذا المقام، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 285)، وانظر:"فتح الباري"(2/ 539).
(2)
انظر: "فتح الباري"(3/ 313)، و"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 315).
وأخذ بذلك الأصل في "باب صلاة التطوع على الحمار" أيضًا.
قلت: ويستأنس هذا الأصل مما قالت الشرَّاح في "باب طرح الإمام المسألة على أصحابه": فإن مؤدَّى كلام الكرماني
(1)
وتبعه العيني وغيره، أن المقصود ذكر الحديث بطريقيه اللتين سمعهما عن شيخيه.
ويستأنس ذلك أيضًا عمَّا قال الحافظ في "باب الصلاة على الخُمرة"
(2)
، أفردها بترجمة لكون شيخه أبي الوليد حدَّثه بالحديث مختصرًا، وبذلك جزم العيني
(3)
في "باب إتيان مسجد قباء راكبًا وماشيًا": لو قلنا: إفراد هذه الترجمة لبيان تعدد سنده لكان فيه الكفاية، انتهى.
وإلى ذلك الأصل أشار الحافظ في "مقدمته"
(4)
مجيبًا عن تكرار الروايات: أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم، فحدَّث راوٍ بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدَّث آخر، فعبَّر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحَّت على شرطه، ويفرد لكل لفظ بابًا مفردًا، انتهى.
18 -
الثامن عشر: إرادة العام بالترجمة الخاصة:
ما قال في "باب رفع البصر إلى الإمام": عقد هذا الباب لما تقرر أن الأولى أن ينظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، ومع ذلك لو رأى إلى إمامه ولم ينظر إلى ذلك الموضع لم تفسد عليه صلاته.
وقد مر غير مرة أن البخاري ربما يعقد الترجمة لأمر خاص من بين
(1)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(2/ 13).
(2)
"فتح الباري"(1/ 491).
(3)
"عمدة القاري"(5/ 574).
(4)
"هدي الساري"(ص 15).
العام، مع أن مراده إثبات ذلك العام، وذلك لتعيين صورة من بين صوره المحتملة كما قلنا ههنا، فإن مراده رحمه الله نفي لزوم النظر إلى موضع السجود وهو عام، ومن صوره المحتملة اختيار صورة خاصة وهي حالة النظر إلى الأمام مع أن الغرض إثبات العام، فاحفظ هذا التحقيق فإنه مما ينفعك في مواضع شتّى من هذا الكتاب، انتهى.
وإلى ذلك الأصل أشار الحافظ في "الفتح"
(1)
في "باب غسل المرأة أباها الدم"، إذ قال: هذه الترجمة معقودة لبيان أن إزالة النجاسة ونحوها يجوز الاستعانة فيها، وبهذا يظهر مناسبة أثر أبي العالية، انتهى.
وبذلك الأصل أخذ شيخ المشايخ في "باب من دعي لطعام في المسجد" إذ قال: غرضه من عقد هذا الباب جواز الكلام المباح في المسجد، إلى آخر ما قاله.
وكذا في "باب هل يَتَتَبَّعُ المؤذِّن فاه؟. . ." إلخ إذ قال: غرضه أن الأذان غير ملحق بالصلاة في الأحكام، ولا يشترط فيه الاستقبال، وبهذا تتحقق المناسبة بين الترجمة والآثار، انتهى
(2)
.
وبذلك أخذ في "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت" إذ قال: ذكر الأهل لمجرد تصوير صورة، والمقصود إثبات جواز النعي مطلقًا.
وبذلك أخذ في "باب الصدقة باليمين" إذ قال: مقصود الترجمة الإعطاء بنفسه، فلا خفاء لمناسبة الحديث الثاني، انتهى.
والأوجه عندي أن هذا الباب من الأصل السادس والخمسين، وقد عرفت في الخامس عشر أن ههنا عدة أصول متقاربة فلا تلتبس عليك، لا سيما هذا الأصل بالأصل الثلاثين.
(1)
"فتح الباري"(1/ 355).
(2)
"فتح الباري"(2/ 115).
19 -
التاسع عشر: الإثبات بالأولوية:
أن الإمام البخاري يذكر في الترجمة أمرين، يثبت أحدهما بالنص، والآخر بالأولوية، كما أفاده شيخ المشايخ في "باب ما يذكر في المناولة. . ." إلخ، إذ قال: ذكر في الترجمة أمرين: المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، وأثبت بحديثي الباب الأمر الثاني، فثبوت الأمر الأول بالطريق الأَولى فافهم، انتهى.
قلت: قد أخذ شيخ المشايخ بهذا الأصل في عدة مواضع من تراجمه فقال في "باب التيمُّن في الوضوء والغسل": ثبت بأول حديث الباب التيمُّن في غسل الميت، فثبت التيمُّن في غسل الحي بالطريق الأولى لكونه الأصل.
وذكره في "باب البول قائمًا وقاعدًا": أثبت بالحديث الأَولَ، والثانيَّ بالطريق الأولى، وهكذا قرره الشرَّاح، ثم ذكر توجيهًا آخر، واختاره ههنا خاصّةً.
وما حكاه الشيخ عن الشرَّاح حكاه الحافظ في "الفتح"
(1)
عن ابن بطَّال: دلالة الحديث على القعود بالطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز قائمًا فقاعدًا أجوز، وأخذ شيخ المشايخ بهذا الأصل في "باب التسمية على كل حال. . ." إلخ، إذ قال: لمَّا لم يكن الحديث الذي روى في باب التسمية قبل الوضوء على شرط المؤلف، أثبت التسمية للوضوء بالحديث الذي أورده في الباب لدلالته على الاستحباب في الوضوء بالطريق الأَولى، انتهى مختصرًا ملخصًا.
وأخذ العيني
(2)
هذا الأصل في الباب المذكور بوجه آخر، وهو أن إثبات التسمية عند الوقاع نص، وعلى كل حال بالأَولى، وحكاه الحافظ في
(1)
"فتح الباري"(1/ 328).
(2)
انظر: "عمد القاري"(2/ 378).
"باب وجوب القراءة" تحت حديث قصة سعد عن الكرماني إذ قال
(1)
: وأبدى الكرماني لتخصيص العشاء بالذكر حكمة، وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة، كان ذلك في غيرها بطريق الأولى، انتهى.
وذكر شيخ الهند رحمه الله أيضًا في مبدأ تراجمه هذا الأصل، لكنه رحمه الله ذكر له وجهًا آخر، إذ قال في الأصل الثالث عشر: إنه قد يذكر في الترجمة أمران، والوارد فيه مُثْبِت للواحد فقط، فيتوهم منه أن الأمر الثاني لم يثبت، وليس كذلك، بل يكون مقصود المؤلف جزءًا واحدًا لا الآخر، لظهوره واتفاق العلماء عليه، فيذكره تبعًا واستطرادًا، انتهى ما قاله معربًا مختصرًا.
وأخذ شيخ الهند قُدِّس سرُّه عن العيني إذ اختاره في الباب المذكور، أي:"البول قائمًا وقاعدًا" بعد التعقب على توجيه ابن بطال: والأحسن أن يقال: لما ورد في الباب جواز البول قائمًا وقاعدًا بأحاديث كثيرة، أورد البخاري حديث الفصل الأول، وفي الترجمة أشار إلى الفصلين، إما اكتفاءً بشهرة الفصل الثاني وعمل أكثر الناس به، أو إشارة إلى أنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه
(2)
، انتهى مختصرًا.
وهذا الأصل غير الأصلين الآتيين في 38 و 39، وغير الذي تقدم في الحادي عشر كما لا يخفى.
20 -
العشرون: باب بلا ترجمة للفصل:
ما اختاره في تراجمه مرارًا، أن الباب الخالي عن الترجمة يكون بمنزلة الفصل عن الباب السابق.
ذكره الشيخ في "باب" خال عن الترجمة بعد "باب إدخال البعير في
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 238).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 620).
المسجد"، وفي "باب" بعد "باب الصلاة بين السَّواري".
وقال العيني
(1)
: إن البخاري جرت له عادة أنه إذا ذكر لفظ "باب" مجرد عن الترجمة، يدل ذلك على أن الحديث الذي يذكر بعده ليكون له مناسبة بأحاديث الباب الذي قبله، انتهى.
وقال الحافظ في الباب المذكور
(2)
: كذا في الأصل بلا ترجمة، وكأنه بيَّض له فاستمر كذلك، وأما قول ابن رُشيد: إن مثل ذلك إذا وقع للبخاري كان كالفصل من الباب، فهو حسن حيث يكون بينه وبين الباب الذي قبله مناسبة بخلاف مثل هذا الموضع، وكذا قال شيخ المشايخ في "باب" بعد "باب الصلاة بين السواري": إن هذا الباب لا ترجمة له فهو كفصل الباب الأول.
وقال الحافظ في الباب المذكور
(3)
: كذا للأكثر بلا ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، انتهى.
والجملة أن هذا الأصل مطَّرد معروف في الشروح، ذكره الشرَّاح مرارًا في شروحه، وذكره شيخ الهند رحمه الله أيضًا في أصول تراجمه في الموضعين، الأول في الأصل الثامن، ثم أعاده في آخر كتابه في الأصول العربية، وحكى عن الشرَّاح هذا الذي تقدم، لكنه رحمه الله أبدع له وجهًا آخر أيضًا نذكره في الأصل الخامس والعشرين والسادس والعشرين، وينظر 37 و 57.
هذه عشرون أصلًا ذكرها شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي في تراجمه.
وذكر شيخ الهند رحمه الله في مبدأ رسالته في التراجم في اللغة الأردية خمسة عشر أصلًا نذكرها على ترتيبها، إلا أن بعضًا منها تقدم في كلام شيخ المشايخ، فلا نذكره إلا مجملًا تكميلًا لعدده، وإبقاءً لترتيب كلامه،
(1)
"عمدة القاري"(3/ 521).
(2)
"فتح الباري"(1/ 558).
(3)
"فتح الباري"(1/ 579).
ولا نذكر له رقم العدد في عدادنا للتكرار، فالعدد الأول يكون لشيخ الهند، والثاني لعدادنا.
وسيأتي قريبًا في الأنواع الثلاثة من الأبواب المجردة في كلام شيخ الهند رحمه الله أنه جعل مثل هذه الأبواب ثلاثة أنواع سيأتي تفصيلها في محلها.
1/ 21 -
الحادي والعشرون: المدلول اللفظي:
أن الإمام البخاري رحمه الله كثيرًا ما يترجم بجزء من الحديث أو بكلام آخر، ولا يريد بلفظ الترجمة مدلوله الأصلي اللفظي الصريح، بل يريد مدلوله الالتزامي الثابت بالإشارة والإيماء.
فما يورد في الباب يكون موافقًا للثاني، ومن أراد تطبيقه بالأول، أي: المدلول اللفظي يقع في التخبط، كما يظهر من أول أبوابه "باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنه رحمه الله ذكر فيه ستة أحاديث ليس في بعضها ذكر الوحي أصلًا، وليست كيفية البدء إلا في حديث واحد، وهو حديث حِراء، ولذا اضطر بعض الشرَّاح إلى قولهم: إن كثيرًا من أحاديث الباب لا يتعلق إلا بالوحي لا ببدء الوحي، فكيف جعل الترجمة "باب بدء الوحي"، وتكلف بعضهم في التوجيهات الباردة.
والحق أن غرض الترجمة لم يكن ما هو ظاهر من اللفظ، بل الغرض كان بيان عظمة الوحي، وكونه واجب الاتباع، وخلوَّه عن الخطأ والسهو، وغير ذلك من الأمور التي تناسب عظمة الوحي، انتهى.
قلت: وبسط الشيخ الكلام على ذلك في ذيل تراجمه أيضًا، وبسطه أشد البسط، وذكر الأصل المذكور في آخر كتابه أيضًا كما تقدم كلامه العربي في الفائدة الثانية مفصلًا، ومثَّل له هناك بـ "باب من أدرك ركعة من العصر"، وغير ذلك كما تقدم كلامه بلفظه.
2/ 22 -
الثاني والعشرون تكرار الترجمة:
أن من المسلَّمات المجمع عليها، أن الإمام البخاري لا يكرِّر عمدًا في "صحيحه" حديثًا ولا ترجمة، ومع ذلك فإن ظهر في موضع تكرار الترجمة - مثلًا ذَكَرَ "باب فضل العلم" في الموضعين من "كتاب العلم" -، فلا بد من أن يجعل لهما محملًا يميزهما. ولذا أجمعوا على أن المراد بالفضل في أحدهما غير المراد في الثاني.
وأيضًا لا يخرج عن التكرار تغير السياق والألفاظ، كما ترجم بـ "باب كيف كان بدء الوحي. . ." إلخ في أول كتابه، وبـ "باب كيف نزول الوحي"، و"أول ما نزل" في "كتاب فضائل القرآن"، فهذا تغير السياق لا يخرجه عن التكرار حتى يفرق بينهما بغرض الترجمة ومقصودها، انتهى ملخَّصًا معربًا.
وهذا واضح، ولذا اضطر الشرَّاح في شروحهم، والمشايخ في دروسهم، إلى بيان الفرق بين التراجم المكررة لفظًا، وهي كثيرة في "الصحيح"، مثلًا:
ترجم بـ "السمر بالعلم" في "كتاب العلم"، ثم ترجم بـ "السمر في الفقه والخير" قبيل "كتاب الأذان".
وترجم بـ "السؤال والفتيا عند رمي الجمار" في "كتاب العلم"، ثم ترجم بـ "الفتيا على الدابة عند رمي الجمار" في "كتاب الحج".
وترجم بـ "المرأة تحيض بعد الإفاضة" في "كتاب الحيض"، ثم ترجم في الحج "إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت".
وترجم بـ "شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين"، ثم ترجم في العيد "خروج النساء الحيَّض إلى المصلى".
وترجم بـ "الصلاة بمنى" في "أبواب تقصير الصلاة"، ثم ترجم بذلك اللفظ في "الحج".
وترجم بـ "الصلاة" على النفساء وسُنَّتها" في "الحيض"، ثم ترجم بـ "الصلاة على النفساء" في "الجنائز".
وترجم بـ "التكبير أيام منى"، و"إذا غدا إلى عرفة" في "العيدين"، ثم ترجم في "الحج" بـ "التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة".
وترجم في "الصلح" بـ "قول الإمام: اذهبوا بنا نُصْلِح"، ثم ترجم في "الأحكام" بـ "الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم".
وترجم في "الجمعة""لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه"، ثم ترجم في "الاستئذان" بـ "باب لا يُقيم الرجل الرجل من مجلسه. . ." إلخ، وترجم بلفظ:"لا هامة" في موضعين من "كتاب الطب"، وترجم فيه أيضًا بـ "باب السحر" في موضعين. قال الحافظ
(1)
: كذا وقع للكثير، وسقط لبعضهم وهو الصواب. . . إلخ. وغير ذلك من الأبواب الكثيرة المكررة ظاهرًا.
ويستأنس ذلك الأصل من كلام شيخ المشايخ في "باب صلاة التطوع على الحمار"، إذ قال: إنه ترجم بذلك لزيادة الاهتمام.
3/ 23 -
الثالث والعشرون: الترجمة الشارحة:
أن الأصل في التراجم أن تكون دعاوى والأحاديث الواردة في الباب تكون دلائلها مثبتة للترجمة، لكن الإمام البخاري كثيرًا ما يترجم بما يكون بمنزلة شرح للحديث، كما تقدم بسط ذلك في الفائدة الثانية من كلام
(1)
"فتح الباري"(10/ 185).
السِّندي إذ قال: إن تراجم "الصحيح" على قسمين: قسمٌ يذكره للاستدلال بحديث الباب، وقسمٌ يذكره ليجعل كالشرح لحديث الباب، والشرَّاح جعلوا الأحاديث كلها دلائل للترجمة، فأشكل عليهم الأمر، إلى آخر ما تقدم في كلام السندي.
وذكر السندي أيضًا في "باب أحب الأسماء إلى الله عز وجل"، ومثَّل له شيخ الهند رحمه الله بـ "باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض" فقال: إن زيادة لفظ "غير أيام الحيض" بمنزلة الشرح للحديث جمعًا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها: "لا، حتى ترين القصة البيضاء"، انتهى.
قلت: كون بعض التراجم شارحة معروفة مطَّردة عند الشرَّاح، كثيرة الوقوع في "الصحيح"، ومع ذلك المثال الذي أفاده شيخ الهند قُدِّس سرُّه من "باب الصفرة" لو جعل داخلًا في الأصل الخامس لكان أوضح.
وشيخ الهند قُدِّس سرُّه لما أدخل المذكور في هذا الأصل تبعًا للسندي صحَّ تمثيله قُدِّس سرُّه بذلك على أصله.
ويمثّل لذلك الأصل بـ "باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى"، فقوله:"لتكون أنقى" بيَّن بذلك علة مسح اليد بالتراب مع الإشارة إلى الاختلاف في ذلك.
وكقوله: "باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض"، أشار بذلك إلى عدم التخصيص بالمسك.
وكقوله: "باب الإقامة واحدة. . ." إلخ، شرح بذلك قوله في الحديث:"يوتر الإقامة".
وكقوله: "باب الذكر بعد الصلاة"، شرح بذلك لفظ "الدبر" الوارد في أحاديث الأدعية ردًّا على من قال بأن هذه الأدعية في التشهد قبل السلام للفظ الدبر.
وترجم بـ "باب كلام الميت على الجنازة" شرح بذلك لفظ الجنازة الواردة في الحديث.
وكقوله: "باب بركة السحور من غير إيجاب"، فإن هذا القيد نبّه على أن الأوامر الواردة فيه للاستحباب.
وكقوله: "باب رفع معرفة ليلة القدر"، فإن لفظ المعرفة نبّه على معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"رفعت" ردًّا على من قال: "إن ليلة القدر رفعت".
4 -
*
المعنى الخفيّ للترجمة:
ذكر شيخ الهند رحمه الله أصلًا رابعًا: أن الترجمة قد يكون لها معنى ظاهر واَخر خفي. فالشرَّاح لما حملوها على الأول اضطربوا في التطبيق.
والحق أن مراد المصنف كان معنًى خفيًّا، ومثَّل له بـ "باب ما يقول بعد التكبير"، فإنهم لما حملوا الترجمة على الدعاء بعد تكبير الافتتاح تكلفوا في ذلك، والحق أن مراد المؤلف رحمه الله كان التوسع في الدعاء، وبسط في ذلك، وبسطه أيضًا في كلامه العربي في آخر التراجم، كما تقدم مفصلًا في الفائدة الثانية.
ولما لم يظهر لي فرق واضح بينه وبين ما تقدم في (1/ 21) الأصل الأول من أصوله، لم أجعل له عددًا مستقلًا.
وهذا الأصل والذي بعده مأخوذان من كلام العلَّامة السندي، كما تقدم في كلامه من قوله: وكثيرًا ما يكون لظاهر الترجمة معنًى فيحملون الترجمة عليه، والحديث لا يوافقه فيعدون ذلك إيرادًا على صاحب "الصحيح"، مع أنه قصد معنًى يوافقه الحديث، وقد يكون معنى الترجمة ما فهموا ولكن تطبيق الحديث به يحتاج إلى فضل تدقيق، انتهى.
5 -
*
الترجمة بإشارة خفية:
وهكذا ذكر شيخ الهند قدِّس سرُّه أصلًا خامسًا، وهو: أن يكون معنى الترجمة ظاهرًا، لكن الاستدلال بالحديث يكون بإشارة خفية.
ومثَّل له بـ "باب ما يذكر في الفخذ"، والاستدلال فيه بحديث زيد بن ثابت.
ولما دخل هذا الأصل في الأصل الثاني من أصول شيخ المشايخ لم أجعل له عددًا مستأنفًا.
6 -
*
قد يذكر في الباب حديثًا لا يوافق الترجمة:
وذكر الشيخ قُدِّس سرُّه أصلًا سادسًا أنه قد يذكر في الباب حديثًا لا يوافق الترجمة، لكن يأتي في باب آخر ما يثبت به الترجمة.
ومثَّل له بـ "باب السمر في العلم"، ولما تقدم هذا الأصل في الأصل الحادي عشر من أصول شيخ المشايخ لم أجعل له أيضًا عددًا مستقلًا.
7/ 24 -
الرابع والعشرون: ذكر الآثار لأدنى مناسبة:
ما ذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل السابع أن الإمام البخاري رحمه الله كثيرًا ما يذكر في الترجمة آثار الصحابة وغيرها، فمنها ما يكودن مثبِتًا للترجمة، ومنها ما يذكر لأدنى مناسبة، فإن الشيء بالشيء يذكر، فمن جعل كلها دلائل وقع في التكلفات الباردة، انتهى.
قلت: أخذه الشيخ قُدِّس سرُّه من كلام السِّندي كما تقدم في الفائدة الثانية إذ قال: وأيضًا كثيرًا ما يذكر بعد الترجمة آثارًا لأدنى خاصيَّة بالباب، وكثير من الشرَّاح يرونها دلائل للترجمة، فيأتون بتكلُّفات باردة لتصحيح الاستدلال بها على الترجمة، فإن عجزوا عن وجه الاستدلال عدوُّه اعتراضًا على صاحب "الصحيح"، والاعتراض في الحقيقة متوجه عليهم حيث لم يفهموا المقصود، انتهى.
وأخذ الإمام الكَنكَوهي هذا الأصل بمواضع من "تقريره"، منها في
"باب تقضي الحائض المناسك كلها"، إذ قال
(1)
: ويمكن إيرادها - أي: الآثار - ههنا لمناسبة ما جرى من ذكر صوم الحائض وصلاتها. . . إلخ.
وبذلك جزم شيخ المشايخ في تراجمه في الباب المذكور، إذ قال: أورد تعليقات الباب لأدنى مناسبة كما لا يخفى، ومثل هذا كثير عند المؤلف، انتهى.
وبذلك أخذ العيني في الآثار المذكورة في هذا الباب إذ قال
(2)
: وإذا وجد التطابق بأدنى شيء يكتفى به، والتطويل فيه يؤول إلى التعسف، انتهى.
قلت: وهكذا قال بعضهم في الآثار الواردة في "باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره"، وإلى ذلك أشار الكرماني في الآثار الواردة في "باب وضوء الرجل مع امرأته" إذ قال
(3)
: غرض البخاري ليس منحصرًا في ذكر المتون. . .، إلى آخر ما قال، [فقصد ههنا بيان التوضؤ بالماء الذي مسَّته النار دفعًا لما قال مجاهد، وبالماء الذي من بيت النصرانية ردًّا لما قال: إن الوضوء بسؤرها مكروه].
وقال العيني
(4)
في الآثار الواردة في "باب هل يتتبع المؤذن فاه ههنا وههنا": وأدنى المناسبة كافٍ؛ لأن المقام إقناعيٌّ غير برهاني، انتهى.
وقال شيخ المشايخ في "الصلاة في مسجد السوق": ولهذا القدر من المناسبة أورد المؤلف تعليقات الأبواب بل بأدنى من ذلك، انتهى.
ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالخامس عشر الماضي، ولا بالأربعين الآتي.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 251).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 121).
(3)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(3/ 40).
(4)
"عمدة القاري"(4/ 208).
8/ 25 -
الخامس والعشرون: حذف الترجمة تشحيذًا للأذهان:
ما ذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل الثامن، وأعاده في آخر رسالته في العربية أيضًا، إذ قال: إن المصنف قد يذكر الباب بلا ترجمة، والشرَّاح يذكرون في ذلك احتمالات أكثرها بعيدة عن شأن المؤلِّف والمؤلَّف كليهما، وأكثر أعذارهم أنه كالفصل من الباب السابق، لكن هذا لا يتمشَّى في بعض المواضع، إلى آخر ما تقدم من كلامه مفصلًا في آخر الفائدة الثانية، ورقمت عليه (2).
فقال مثلًا: ترجم بـ "باب" بلا ترجمة بعد "باب ما جاء في غسل البول"، وذكر فيه الحديث المذكور سابقًا، فكيف يقال: إنه كالفصل من الباب السابق؛ لأن هذا يمكن إذا كان الثاني مغايرًا للأول بوجه، وههنا لا تغاير أصلًا.
وعندنا لا بد أن يقال: إن المؤلف أحيانًا يترك الترجمة عمدًا، ومقصوده: أني أخرجت من هذا الحديث حكمًا أو أحكامًا، فينبغي أن تخرجوا منه حُكمًا غير ذلك مناسبة لتلك الأبواب، ويفعل هكذا تشحيذًا للأذهان، وتنبيهًا وإيقاظًا للناظرين، كما هو دأبه في أمور كثيرة، فعندنا هذا الاحتمال أقوى وأليق وأنفع.
مثلًا: تكون الترجمة ههنا "كون البول موجبًا لعذاب القبر وما يماثلها"، وكذلك في "باب" بلا ترجمة في آخر أبواب التيمم، ينبغي أن تكون الترجمة:"إذا لم يجد الجنب ماءً وتيمم"، انتهى ملخصًا.
واقتصرت التلخيص؛ لأن كلامه هذا تقدم في الفائدة الثانية بلفظه، وزاد في هذا الأصل الثامن في الأردية، فمهما يوجد "باب" بلا ترجمة، ننظر أولًا: هل له مناسبة بالباب السابق؟ فإن كان فهو المرام، وإلا فنجعل له ترجمة مستقلة بشرطين:
أحدهما: أنها لا تتكرر بترجمة المصنف.
والثاني: أن تكون مناسبةً للمقام، وطالما يظهر بالتدبر أن الحديث محتمل لعدة تراجم جديدة، فحينئذ يحتمل أن المؤلف حذفها تكثيرًا للفائدة، انتهى ملخصًا.
وهذا الأخير أجعله أصلًا مستأنفًا كما سيأتي، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالعشرين الماضي، فإن حذف الترجمة فيه كان على ما هو المشهور عند الشرَّاح والمشايخ لكونه فصلًا من الباب السابق في هذا الأصل تشحيذًا للأذهان، تنبيهًا على وضع الترجمة الجديدة، وفي الآتي تكثيرًا للفائدة، ووضعًا لعدة تراجم، فتميز الأصول الثلاثة.
8/ 26 -
السادس والعشرون: حذف الترجمة لتعدد الفوائد:
ذكره شيخ الهند رحمه الله استطرادًا في الأصل الثامن، وهو أجدر أن يُعَدَّ أصلًا مستأنفًا، وهو: أن الإمام البخاري قد يحذف الترجمة تكثيرًا للفوائد، فإن الحديث الوارد في الباب تستنبط منه مسائل عديدة مناسبة لهذا المحل، فيحذف الترجمة تشحيذًا للأذهان، وتنبيهًا وإيقاظًا للناظرين أن يُخرجوا منه تراجم عديدة مناسبة لهذه الأبواب.
وأخذ شيخ الهند رحمه الله بهذا الأصل في تراجمه أيضًا، وما في "باب" بلا ترجمة بعد "باب سؤال جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام. . ." إلخ، فقال بعد بسط التقرير في ذلك: إنه يحتمل أن حذف المصنف الترجمة يكون لتعدد الفوائد.
9/ 27 -
السابع والعشرون: حذف الحديث لذكره قريبًا:
ما ذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل التاسع، وذكره في آخر رسالته في العربية أيضًا، وتقدم في آخر الفائدة الثانية، ورقمت عليه (3).
إذ قال: وتارة يذكر بابًا مع الترجمة، لكن لا يذكر فيه حديثًا.
وفيه وجهان: مرة يذكر تحت الترجمة آية، أو حديثًا، أو قولًا من الصحابة والتابعين، دالًّا على الترجمة، فالترجمة مثبتة بذلك.
واكتفى المصنف بذلك، إما لأن حديثًا على شرطه ليس عنده، أو لقصد التمرين.
ومرة لا يذكر في الباب شيئًا منها ولا حديثًا فيحمله الشرَّاح على سهو الناسخين أو سهو المصنف، أو عدم تيسر إرادته بوجه من الوجوه، ولا يخفى استبعاده.
والتحقيق عندنا أن المؤلف لا يفعل ذلك إلا في موضع يكون دليل الترجمة مذكورًا قبلها في الباب السابق أو بعدها، مع أن هذه الصورة قليلة جدًا، فلا تكون الترجمة غير ثابتة، بل ثابتة بالدليل المذكور وإن لم يذكره مع الترجمة لقصد التمرين، انتهى مختصرًا، تقدم كلامه بلفظ في الفائدة الثانية، وبسطه في الأصل التاسع في الأردية، وذكر أن مثل هذه المواقع قريب من عشرة فقط.
ويستأنس هذا الأصل من كلام الحافظ المذكور في الفائدة الثانية، ورقمت عليه (5).
قلت: وعلى هذا الأصل يحمل ما قال شيخ المشايخ في تراجمه: قوله: قال إبراهيم: اكتفى في هذا الباب بإيراد الحديث المعلق؛ لأنه سيذكر في موضع آخر يتعلق به هذا الحديث تعليقًا شديدًا، وإنما قلنا: هذا معلق؛ لأن إبراهيم بن طهمان ليس من شيوخ المؤلف، ومثل هذا يفعل المؤلف كثيرًا، انتهى.
ومما يجب التنبيه عليه أن مراد الشيخ من قوله: سيذكره، هو حديث مال البحرين
(1)
؛ فقد أخرجه البخاري في المغازي
(2)
، وأما تعليق البخاري
(1)
انظر: "صحيح البخاري"(رقم 421، 3049، 3165).
(2)
بل في الجهاد والسير، انظر (رقم 3049، 3165).
فلم يصله المصنف، بل وصله الحاكم وغيره كما في "الفتح"
(1)
ومقدمته، وعلى ذلك حمل شيخ المشايخ "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها" إذ قال: والمؤلف اكتفى بحديث الباب؛ لأن راتبة قبل الجمعة قد علم سنِّيتها سابقًا صريحًا عن حديث جابر رضي الله عنه أنه دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، انتهى، وبنحو ذلك استدل في "باب حمل الرجال الجنازة"، والفرق بين هذا الأصل والآتي في الثاني والخمسين ظاهر، فتأمل.
10/ 28 -
الثامن والعشرون: تكرار التراجم لفوائد شتى:
منها: إثبات دعوى واحد:
ما ذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل العاشر: أن الإمام البخاري رحمه الله، طالما يكرر التراجم لفوائد شتى، كالإجمال في ترجمة سابقة، والتفصيل في أخرى، أو إثباتها في الأولى بغير حديث مسند، وفي الثانية بحديث مسند، وتارة ما يكرر التراجم لإثبات دعوى واحدة، وقد يكون في إثبات المدعى بالحديث الوارد في الترجمة الأولى نوع تقصير فيتداركه بالترجمة الثانية، وقد يكون في الحديث الوارد في الترجمة الأولى مسألة مستأنفة يترجم لها الثانية ولا يذكر الحديث اكتفاء بالأولى، وقد يذكر في الترجمة أمورًا متعددةً، ويذكر الحديث متعلقًا ببعضها اكتفاءً بالآثار الواردة في الباب، أو إشارةً إلى إثباتها بالقياس، وقد يكون في الترجمة بعض إجمال يوضحه الحديث الوارد فيها، انتهى ملخصًا معربًا.
وأنت خبير بأن هذا الأصل يتضمَّن أصولًا عديدةً يأتي بيان بعضها في الأصول الآتية، ونأخذ من هذا كله أصلًا واحدًا، وهو: أن الإمام كثيرًا ما يعالج لإثبات مسألة واحدة مهمَّة عنده بالتراجم العديدة المختلفة، كما فعل في أبواب الخُمس في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مالكًا لخُمسه، بل كان له
(1)
انظر، "هدي الساري"(ص 25)، و"فتح الباري"(1/ 516).
قسمه، وكما فعل في آخر الكتاب في مسألة خلق القرآن، ويستأنس ذلك بمسألة طهارة بول ما يؤكل لحمه، وهذا غير الأصل المتقدم في السابع عشر.
11 -
*
القليل الجدوى:
ذكر شيخ الهند رحمه الله في الأصل الحادي عشر: أن الإمام البخاري كثيرًا ما يترجم بأمر قليل الجدوى، لا فائدة في ذكرها على الظاهر.
ويكون ذلك لعدة وجوه، منها: ما أفاده الشاه ولي الله رحمه الله أنه أراد الرد على "مصنف ابن أبي شيبة" و"عبد الرزاق"، وطالما يكون الغرض دفع توهم ناشٍ في ذلك المحل، أو تكون الإباحة ظاهرًا، لكنه يشير إلى ندبه أو إثبات الحكم بالنص فقط، ولم أذكر ذلك مستقلًا؛ لأنه تقدم في الأصل الثاني عشر والثالث عشر من كلام شيخ المشايخ.
12 -
*
لا تكفي لإثبات المقصود:
وذكر شيخ الهند رحمه الله الأصل الثاني عشر: أن الإمام البخاري قد يترجم مقصودةً له، لكن الروايات الواردة فيها لا تشفي الغليل، ولا تكفي لإثبات المقصود، فيكرر الترجمة.
قلت: وهذا داخل في الأصل العاشر من كلامه رحمه الله فلم أذكر له عددًا.
13 -
*
لا يورد الحديث إلا لواحد منهما:
وذكر شيخ الهند رحمه الله الأصل الثالث عشر: أن البخاري قد يذكر في الترجمة أمرين، ولا يورد الحديث إلا لواحد منهما.
وتقدم ذلك في الأصل التاسع عشر.
14/ 29 -
التاسع والعشرون: الاستطراد للحديث الأول:
ما ذكره شيخ الهند رحمه الله في الأصل الرابع عشر: أن الإمام البخاري
قد يورد بعد الترجمة حديثًا يوافقها، ثم يذكر بعد ذلك حديثًا لا يوافقها، بل قد يخالفها، ويكون ذكر هذا الحديث الثاني لمصلحة الحديث الأول، كتوضيح إجمال ما في الحديث الأول.
وذكر هذا الأصل الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه أيضًا في مبدأ "تقريره" كما سيأتي في أول باب منه، إذ قال
(1)
: إن المؤلف كثيرًا ما يورد من الروايات ما لها أدنى مناسبة بالحديث الوارد في الباب، وإن لم يكن لها مناسبة بالباب والترجمة، انتهى.
وأخذ بذلك الأصل شيخ المشايخ في تراجمه كثيرًا، كما أوضحت أمثلته في حاشية "اللامع"، منها: ما قال في "باب ترك القيام للمريض" من أن حديث أبي نعيم الذي أورده أولًا في هذا الباب يدل صريحًا على الترجمة، وأما الحديث الثاني، أي: حديث محمد بن كثير، فليس له دلالة ظاهرة على ما يناسب الترجمة، وإنما أورده ههنا إشارةً إلى أن الرواة اختلفوا على سفيان، إلى آخر ما قال.
وإلى ذلك أشار الحافظ في "الفتح"
(2)
إذ قال: استشكل أبو القاسم بن الورد مطابقة حديث جندب للترجمة، وتبعه ابن التين فقال: احتباس جبرئيل ليس ذكره في هذا الباب في موضعه، انتهى. قال الحافظ: وقد ظهر بسياق تكملة المتن وجه المطابقة، وذلك أنه أراد أن ينبه على أن الحديث واحد لاتحاد مخرجه، إلى آخر ما قال.
وكذلك قال العيني
(3)
: إن المطابقة للترجمة من حيث إن هذا من تتمة الحديث السابق، ويدفع بهذا ما قاله ابن التين. . . إلخ.
وكذلك أخذ بذلك الأصل شيخ المشايخ في "باب النهي عن تلقي الركبان" إذ قال: قوله: "عياش بن الوليد" إنما أتى بهذا
(1)
"لامع الدراري"(1/ 488).
(2)
"فتح الباري"(3/ 9).
(3)
"عمدة القاري"(5/ 451).
الحديث في هذا الباب، إشارةً إلى مسألة حديثية في حديث ابن عباس المذكور سابقًا، وهي: أنه اختُلف في هذا الحديث على معمر، فعبد الواحد عنه يذكر:"لا تلقوا الركبان"، وعبد الأعلى عنه لا يذكره. وذكر الاختلاف من مهمات مسائل المحدثين، والبخاري يعتني به في هذا الكتاب كثيرًا، انتهى.
وقال الحافظ في "الفتح"
(1)
: وليس فيه للتلقي ذكر، وكأنه أشار - على عادته - إلى أصل الحديث، فقد سبق قبل بابين من وجه آخر عن معمر، وفي أوله:"ولا تلقوا الركبان"، انتهى.
قلت: وعلى ما قاله الحافظ يكون الحديث من الأصل الحادي عشر بخلاف ما أفاده شيخ المشايخ.
15/ 30 -
الثلاثون: الترجمة مطلقة والحديث مقيد:
ما ذكره شيخ الهند في الأصل الخامس عشر: أن الإمام البخاري كثيرًا ما يأتي بالترجمة مطلقة، ويذكر الحديث مقيدًا، فطالما يظهر ذلك وضوحًا، وقليلًا ما يخفى ذلك على الناظرين، فيوردون على البخاري عدم انطباق الحديث بالترجمة، فينبغي إذ ذاك أن يلاحظ في الترجمة قيدًا مناسبًا للحديث، انتهى.
قال الكرماني
(2)
في "باب ليبصق عن يساره": فإن قلت: الترجمة مطلقة والحديث مقيَّد بكونه في الصلاة عكس الباب المتقدم، فإن ترجمته مقيدة بالصلاة، والحديث الذي فيه مطلق! قلت: المطلق محمول على المقيد في الموضعين عملًا بالدليلين. فإن قلت: لفظة الترجمة مقيدة بالقدم إليسرى، ولفظ القدم في الحديث لا تقييد فيه! قلت: تقيد به عملًا بالقاعدة المقررة من تقييد المطلق. فإن قلت: كان المناسب أن يذكر هذا الحديث
(1)
"فتح الباري"(4/ 374).
(2)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(4/ 73).
في ذلك الباب، وذلك الحديث في هذا الباب! قلت: لعل غرضه بعد معرفة نفس الأحكام بيان استخراج الأحكام ومعرفة طرق استنباطها أيضًا تكثيرًا للفائدة، إلى آخر ما قاله.
وطرق الاستنباط من أهم أصول البخاري كما تقدم في الأصل الثاني.
قلت: ولم يمثل شيخ الهند قُدِّس سرُّه لأصله هذا بمثال، ويمكن عندي أن يمثل بـ "باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، فأتى بالترجمة مطلقة، وذكر الحديث فيه مقيدًا بصلاة الفجر، ولذا أشكل على الشرَّاح التطابق، ووجَّهوه بوجوه، وعلى الأصل المذكور ينبغي أن يلاحظ القيد في الترجمة.
ويستأنس ذلك من كلام الحافظ إذ قال
(1)
: ويحتمل أن تكون اللام في الترجمة عهدية فيتفقان، انتهى، أي: يتفق الحديث مع الترجمة، إذ أريدت في الترجمة أيضًا صلاة الفجر.
قلت: وأشار إلى ذلك الأصل الحافظ في مقدمة "الفتح"
(2)
أيضًا كما حكيت كلامه في الفائدة الثانية، ورقمت عليه (1)، وحاصله: الاحتمال في الترجمة، والتقييد في الحديث. وهذا آخر الأصول التي ذكرها شيخ الهند قُدِّس سرُّه في مبدأ تراجمه، وقد وجد في كلام الشرَّاح والمشايخ العظام قُدِّست أسرارهم أصول كثيرة غير ما سبق بها.
31 -
الحادي والثلاثون: الاستدلال بالمجموع على المجموع:
ما أفاده شيخ الشيوخ الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في مبدأ تقريره هذا: أن المقصود كثيرًا ما يحصل بالنظر إلى مجموع الروايات الموردة في الباب، ولا تستقل كل رواية بإفادة ما وضعت عليه الترجمة، وعلى هذا
(1)
"فتح الباري"(2/ 149).
(2)
انظر: "هدي الساري"(ص 14).
فلا إشكال فيما يورده المؤلف من الروايات التي لا تنطبق على الترجمة، بأسرها
(1)
، انتهى.
قلت: وهذا أصل مطَّرد معروف عند الشرَّاح، أخذوا به في كثير من التراجم.
قال الكرماني في "باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟. . ." إلخ
(2)
: ولا يخفى أنه لا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة، بل لو دل البعض بحيث تُعلم كل الترجمة من كل ما في الباب لكفاه، انتهى.
وبه أخذ في حديث هرقل في أول الكتاب إذ قال
(3)
: فإن قلت: هذا في آخر عهد البعثة، فما مناسبته لما ترجم عليه الباب وهي كيفية بدء الوحي! قلت: المراد منه أن يعلم من جميع ما في الباب لا من كل حديث منه، انتهى مختصرًا.
وبه أخذ في "باب من قال: إن الإيمان هو العمل" مجيبًا عن إشكال عدم التطابق، قلت: المراد به المجموع، والاستدلال عليه بمجموع الآيات والحديث، إذ يدل كل واحد من القرآن والسُّنَّة على بعض الدعوى بحيث يدل الكل على الكل، انتهى
(4)
، ونظائره في شرحه كثيرة.
وذكره العلامة العيني بحثًا في أول باب "الصحيح"
(5)
: أو المراد بالباب بجملته بيان كيفية بدء الوحي، لا من كل حديث منه، فلو علم من مجموع ما في الباب كيفية بدء الوحي من كل حديث شيء مما يتعلق به صحَّت الترجمة، انتهى.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 489).
(2)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(5/ 55 - 56).
(3)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(1/ 54).
(4)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(1/ 124).
(5)
"عمدة القاري"(1/ 36).
وأخذ بذلك الأصل في مواضع من "شرحه"، منها: ما قال في حديث هرقل في الأسئلة والأجوبة: الأول ما قيل: إن قصة أبي سفيان مع هرقل إنما كانت في أواخر عهد البعثة، فما مناسبة ذكرها لما ترجم عليه الباب وهو كيفية بدء الوحي؟ أجيب: بأن كيفية بدء الوحي تعلم من جميع ما في الباب، وهو ظاهر لا يخفى، انتهى.
وبذلك جزم الحافظ في "باب من قال: إن الإيمان هو العمل"
(1)
إذ قال: مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع؛ لأن كل واحد منها بمفرده دالٌّ على بعض الدعوى، ثم بسط في تطابق الأجزاء بالأجزاء، وإلى ذلك أشار في "باب ما يقع من النجاسات. . ." إلخ، إذ قال
(2)
: وهذا الذي يظهر من مجموع ما أورده في الباب من أثر وحديث، وبذلك جزم في "باب الحلوى والعسل"، إذ قال
(3)
: ولا يشترط أن يشتمل كل حديث في الباب على جميع ما تضمَّنته الترجمة، بل يكفي التوزيع، انتهى.
وبذلك طابق السندي روايات "باب فضل صلاة الفجر في جماعة" إذ قال: هذا الحديث يدل على عظم فضل الجماعة، فإذا ضم ذلك إلى فضل صلاة الفجر المعلوم بالحديث المتقدم، يلزم أن لصلاة الفجر في الجماعة فضلًا عظيمًا، انتهى، والجملة أن هذا الأصل أخذه جميع الشرَّاح مرارًا في شروحه.
32 -
الثاني والثلاثون: الترجمة بقوله: هل:
ما تقدم من كلام الحافظ في "مقدمته"
(4)
، ورقمت عليه (6): أن الإمام البخاري كثيرًا ما يترجم بلفظ الاستفهام، كقوله: "باب هل يكون
(1)
"فتح الباري"(1/ 77).
(2)
"فتح الباري"(1/ 342).
(3)
"فتح الباري"(9/ 558).
(4)
"هدي الساري"(ص 14).
كذا
(1)
، أو من قال: كذا"، ونحو ذلك، وذلك حينئذ لا يتجه له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه: بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت؟ فيترجم على الحكم ومراده ما يفسر بعد من إثباته أو نفيه، أو أنه محتمل لهما، انتهى.
وأخذ بذلك الأصل الحافظ في شرحه كثيرًا، كما قال في "باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ "
(2)
: إنما ترجم بلفظ الاستفهام ليُنَبِّهَ على أن فيه احتمالًا كعادته؛ لأن النفخ يحتمل أن يكون لشيء علق بيده.
وقال في "باب هل يقال: مسجد بني فلان؟ "
(3)
: إنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام ليُنَبِّهَ على أن فيه احتمالًا، إلى آخر ما بسطه.
وقال في "باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟ "
(4)
: كأنه استعمل الاستفهام في الترجمة للاحتمال.
وقال في "باب هل تكفن المرأة في إزار رجل؟ "
(5)
: قال ابن رُشيد: أشار بقوله: "هل" إلى تردد عنده في المسألة، فكأنه أومأ إلى احتمال اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم. . .، إلى آخر ما بسطه من الاحتمالات العديدة.
وترجم البخاري "باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة؟ "، وبسط الحافظ في الاحتمالات الكثيرة في هذه المسألة، تظهر بمراجعة "الفتح"
(6)
.
وترجم بـ "باب هل يشتري الرجل صدقته؟ "، قال الزين بن المنير: أوردها بالاستفهام؛ لأن تنزيل [حديث] الباب على سببه يضعف معه تعميم المنع؛ لاحتمال تخصيصه بالشراء بدون القيمة؛ لقوله: "وظننت أنه يبيعه برخص"، إلى آخر ما في "الفتح"
(7)
.
(1)
تقدم ذلك في الأصل الثالث، (ز).
(2)
"فتح الباري"(1/ 443).
(3)
"فتح الباري"(1/ 515).
(4)
"فتح الباري"(2/ 382).
(5)
"فتح الباري"(3/ 13).
(6)
"فتح الباري"(3/ 579).
(7)
"فتح الباري"(3/ 353).
وترجم بـ "باب من أين تؤتى الجمعة. . ." إلخ، قال الحافظ
(1)
: يعني أن الآية ليست صريحة في بيان الحكم المذكور، فلذلك أتى في الترجمة بصيغة الاستفهام.
ويدخل في هذا الأصل عندي "باب هل ينبش قبور مشركي الجاهلية، وتتخذ مكانها مساجد؟ "، فإن الشرَّاح قاطبة جعلوا لفظ "هل" ههنا بمعنى "قد"؛ لأن الرواية الواردة في الباب نصٌّ في نبش قبور المشركين، والأوجه عندي أن لفظ "هل" ههنا بمعناه، وزاده الإمام البخاري على هذا الأصل الذي نحن بصدده، وذلك لأن مقتضى حديث الباب وهو نبش القبور ظاهر، لكن القصة لمبدأ الهجرة، السنة الأولى منها، وما سيأتي قريبًا من "باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب" وقعت السَّنَة التاسعة في غزوة تبوك، فالظاهر عندي أن الإمام البخاري لَمَحَ بلفظ "هل" إلى ذلك؛ فإن قبور المشركين محل العذاب لا محالة.
33 -
الثالث والثلاثون: فيه عن فلان:
ما قال القسطلاني في مقدمة شرحه
(2)
في بيان موضوعه وتفرُّده بمجموعه، وتراجمه البديعة المثال، والمنيعة المنال: إنه رحمة الله عليه التزم مع صحة الأحاديث استنباط الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرّقها في أبوابه بحسب المناسبة، وانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارات إلى تفسيرها السبل الوسيعة، ومن ثَمَّ أخلى كثيرًا من الأبواب عن ذكر إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله: فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك؛ انتهى مختصرًا.
قال الشارح: قوله: و"من ثم أخلى" أي: من كون غرضه الاستنباط منها، والاستدلال لأمور أرادها، لا خصوص ذكر الأحاديث فقط، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 385).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 43).
قلت: أخذ القسطلاني هذا من كلام الحافظ كما تقدم من كلامه في أول الفائدة الثالثة من الفصل الثاني، وهذا الأصل مطَّرد معروف في "الصحيح" كثير الشيوع في كتابه؛ فإنه رحمه الله اقتصر في "باب استواء الظهر في الركوع" على قوله: "وقال أبو حميد في أصحابه: ركع النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، ثم هصر ظهره" فقط، واقتصر في "باب يستقبل بأطراف رجليه القبلة" على قوله: "قال أبو حميد: عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(2)
، وقال في "باب الصلح مع المشركين":"فيه عن أبي سفيان"
(3)
، انتهى.
واقتصر في "باب من غزا وهو حديث [عهد] بعرسه" على قوله: "فيه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(4)
، وفي "باب من اختار الغزو بعد البناء" على قوله:"فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(5)
، وقال في "باب تزويج اليتيمة":"فيه سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(6)
، وغير ذلك من الأبواب الكثيرة.
34 -
الرابع والثلاثون: زيادة لفظ: "أو غيرها
":
ما قال حافظ الحديث مولانا السيد أنور شاه في "فيض الباري" في "باب الفتيا وهو واقف على ظهر الدابة أو غيرها"
(7)
: قد استفدت من عادة البخاري أن الحديث إذا اشتمل على جزء مخصوص، ويكون الحكم عامًّا
(1)
"صحيح البخاري" 10 - "كتاب الأذان"، (120)، باب استواء الظَّهر في الركوع.
(2)
"صحيح البخاري" 10 - "كتاب الأذان"، (131)، باب يستقبل بأطراف رجليه القبلة.
(3)
"صحيح البخاري" 53 - "كتاب الصلح"(7)، باب الصلح مع المشركين.
(4)
"صحيح البخاري" 56 - "كتاب الجهاد والسير"(114)، باب من غزا وهو حديث عهد بعرسه.
(5)
"صحيح البخاري" 56 - "كتاب الجهاد والسير"(115)، باب من اختار الغزو بعد البناء.
(6)
"صحيح البخاري" 67 - "كتاب النكاح"(44)، باب تزويج اليتيمة.
(7)
"فيض الباري"(1/ 264).
عنده، فيصنع البخاري هناك هكذا، ويضع لفظ "أو غيرها" دفعًا لإيهام التخصيص، وإفادةً للتعميم، ثم لا يخرج له دليلًا فيما بعد.
فالمصنف رحمة الله عليه ههنا أخرج من الحديث مسألة الدابة فقط، وإنما أضاف "أو غيرها" إفادة لتعميم الحكم، فهذا فقه وبيان مسألةٍ احتراسًا، فطلب الدليل على هذا الجزء في كلامه بعيد عندي، انتهى.
قلت: وهذا الأصل قريب مما تقدم في الأصل الثالث والعشرين، وأفردته بالذكر؛ لأن تبويب الإمام البخاري بلفظ "غيره" مطَّرد شائع في كتابه، وأيضًا فرق ما بين شرح الحديث بالترجمة وبين الإشارة إلى عدم التخصيص بلفظ "غيره" في الترجمة، وهذا السياق كثير الشيوع في البخاري.
مثلًا: ترجم "إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره" قال الحافظ
(1)
: استدل البخاري على أن بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النجاسة وغيرها لا يضر، فلذا ترجم:"إذا غسل الجنابة أو غيرها. . ." إلخ. وترجم "باب الإهلال من البطحاء وغيرها. . ." إلخ، إشارةً إلى عدم التخصيص بالبطحاء. وترجم:"هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم. . .؟ " إلخ، إشارة إلى عدم التخصيص بأصحاب السقاية. وترجم "باب العمرة ليلة الحسبة وغيرها"، إشارة إلى عدم التخصيص بليلة الحسبة، وإن كانت عمرة عائشة رضي الله عنها فيها. وكقوله:"باب الفطر بما تيسر بالماء وغيره".
35 -
الخامس والثلاثون: عدم الجزم لاختلاف العلماء:
ما قال الحافظ في "الفتح"
(2)
في "باب كتابة العلم": طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف، أن لا يجزم فيها بشيء، بل يوردها على
(1)
"فتح الباري"(1/ 334).
(2)
"فتح الباري"(1/ 204).
الاحتمال، وهذه الترجمة من ذلك؛ لأن السلف اختلفوا في ذلك عملًا وتركًا، وإن كان الأمر استقر، والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم إلى آخره.
وقال في "باب إذا صلى ثم أمَّ قومًا": قال الزين ابن المنيِّر: لم يذكر جوابَ "إذا" جريًا على عادته في ترك الجزم بالحكم المختلف فيه
(1)
، انتهى.
وقال في "باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة"، أي: هل يجب إجابتها أم لا؟ وإذا وجبت هل تبطل الصلاة أو لا؟ في المسألتين خلاف، ولذلك حذف المصنف جواب الشرط
(2)
، انتهى.
ويمثل هذا أيضًا بـ "باب الوضوء من غير حديث" لمكان الاختلاف فيه في السلف، كما بسطه الحافظ
(3)
: وإن استقر الإجماع بعدُ على عدم الوجوب.
وهذا الأصل مطَّرد كثير الشيوع في "الصحيح"، وهذا غير الأصل الرابع، كما لا يخفى؛ فإنه تقدم فيه أنه رحمه الله لا يجزم بالحكم لاختلاف العلماء، ولا يأتي بالروايات المختلفة، كما ترى في هذه الأمثلة، فإنه لم يذكر في هذه الأبواب إلا روايةً واحدةً، كما في "باب إذا صلى ثم أمَّ قومًا".
وكتب مولانا الشيخ محمد حسن المكي عن شيخه الإمام الكَنكَوهي قَدَّس الله أسرارهما: إن الدأب الشائع للبخاري الروايات، فيأتي بالروايات على اختلافها، وها هنا عدم الجزم إشارة إلى اختلاف أنه يضع الترجمة ولا يذكر معها الحكم، إما لاشتباه الحكم عليه، أو للإحالة إلى فهم الناظر، ثم يورد لها أحاديث متفقة على حكم واحد، أو متعارضة من غير تطبيق بينها، فيذكرها على سبيل التعداد، ويحيل التطبيق إلى فهم الناظر،
(1)
"فتح الباري"(2/ 203).
(2)
"فتح الباري"(3/ 78).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 232، 316).
فكأنه يختبره، فلذلك ذكر "باب سؤر الكلب" مطلقًا، ثم أورد فيه مذهب الزهري، ثم أورد حديثًا منابذًا له؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فليغسله سبعًا"، ثم أورد حديثين معارضين لذلك الحديث مؤيدين لمذهب الزهري، وهما: حديث الخف، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فكل. . ." إلخ، يعني حديث الصيد الآتي في الباب الثاني، وكلامه قُدِّس سرُّه هذا يشتمل أصولًا، منها هذا الأصل والأصل الرابع، لقوله: ثم يأتي لها أحاديث متفقة أو متعارضة، فتأمل.
وأدخل شيخ المشايخ في هذا الأصل "باب الصلاة على الشهيد"، إذ قال: فيه اختلاف العلماء، وإنما عقد المؤلف الباب للإشارة إلى أن الدلائل في هذا الباب متعارضة، فمن مثبت ومن ناف، ومن دأبه الإشارة إلى تعارض أدلة المسألة أيضًا، وعقد الباب لمجرد ذلك، كما لا يخفى على متتبع كتابه حق التتبع، انتهى.
والأوجَه عندي أن هذا الباب من الأصل الرابع لذكر الروايتين المختلفتين في ذلك، وإن كان فيه اختلاف العلماء أيضًا.
36 -
السادس والثلاثون: التعليل بالعلة البعيدة تاركًا العلةَ القريبةَ:
ما أفاده شيخ المشايخ في تراجمه في "باب الوضوء من النوم".
وحاصله: أن التعليل بالعلة البعيدة تاركًا العلةَ القريبةَ، دليل على أن العلة القريبة غير مؤثرة، قال: وأمثال هذه الاستدلالات للمؤلف كثيرة، فاحفظ فإنه ينفعك، انتهى.
وسيأتي تمام كلام الشيخ في هامش "التقرير"
(1)
في هذا الباب.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 162).
37 -
السابع والثلاثون: باب بلا ترجمة، تنبيه على اختلاف طرق الرواية:
ما قال العيني
(1)
في "باب" بلا ترجمة بعد "باب ما جاء في غسل البول"، وقد ذكر فيه البخاري حديث الرجلين يعذبان في القبر: هذا الحديث في نفس الأمر هو الحديث الذي ترجم له البخاري بقوله: "باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله"؛ لأن مخرجهما واحد، غير أن الاختلاف في السند وبعض المتن؛ لأن هناك عن مجاهد عن ابن عباس، وها هنا عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. . . إلى آخر ما قال.
وحاصله: أنه ذكر الباب بلا ترجمة تنبيهًا على الاختلاف في الرواية، والفرق بينه وبين الأصول العشرين، والخامس والعشرين، والسابع والخمسين لا يخفى، وهكذا هذه كلها بمعرض من الأصل السابع.
38 -
الثامن والثلاثون: عدم الذكر لأحد جزئي الترجمة إشارة إلى ما ورد:
إن من دأب البخاري المطَّرد في كتابه أنه طالما يترجم بترجمتين، ولا يذكر الحديث إلا لواحد منهما، ويترك الأخرى سدى.
وميل الحافظ في هذه الأبواب: أنه رحمه الله أشار بالترجمة الثانية إلى روايات ليست على شرطه؛ فقد قال في "باب غسل المني وفركه. . ." إلخ: لم يُخرِّج البخاري حديث الفرك، بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته
(2)
، انتهى.
وقال في "باب البول قائمًا وقاعدًا"، ولم يذكر البخاري حديث الجزء الثاني، فقال
(3)
: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث
(1)
"عمدة القاري"(2/ 604).
(2)
"فتح الباري"(1/ 332).
(3)
"فتح الباري"(1/ 328).
عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما، انتهى. وقد حمله ابن بطَّال على الأصل التاسع عشر، كما تقدم.
وقال الحافظ
(1)
في "باب إذا غسل الجنابة أو غيرها": ذكر في الباب حديث الجنابة، وألحق غيرها بها قياسًا، أو أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود
(2)
وغيره من حديث أبي هريرة في سؤال خولة عن ثوب الحيض.
وقال
(3)
في "باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان": والذي يظهر لي من تصرُّف البخاري، أنه أشار بكل ذلك إلى ما ورد في بعض طرقه صريحًا - ثم ذكر الروايات المصرحة بهذه الأجزاء - وقال في آخره: وتكلف من لم يطلع على ذلك، فزعم أن حكم الترجمة يؤخذ من إتيان النبي صلى الله عليه وسلم القبر حتى صلى عليه، قال: فيؤخذ من ذلك الترغيب في تنظيف المسجد.
وقال في "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها": ولم يذكر البخاري حديثًا قبلها، فقال الحافظ
(4)
بعد ذكر توجيهات الشرَّاح الأخر: والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب، وهو ما رواه أبو داود وابن حبان، فذكر الحديث.
ونظائرها كثيرة في "الفتح"، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالأصل الحادي عشر، والتاسع عشر، فإن الفرق بينها واضح.
39 -
التاسع والثلاثون: عدم الذكر لأحد جزئي الترجمة إشارة إلى عدم الثبوت:
ما قالوا في النوع المذكور - يعني: إذا ذكر جزئين في الترجمة ولم
(1)
قلت: ذكر الحافظ قوله هذا في: باب غسل المني وقوله. . . إلخ لا في: باب إذا غسل الجنابة. . . إلخ، انظر:"فتح الباري"(1/ 334).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 365).
(3)
"فتح الباري"(1/ 553).
(4)
"فتح الباري"(2/ 426).
يذكر الحديث إلا لواحد منها -: أن الإمام البخاري يشير بذلك إلى أن أحد الجزئين ثابت والثاني لا يثبت، فكأن البخاري رد عليه بالترجمة وأنكره.
جزم بذلك الكرماني في "باب غسل المني وفركه"، إذ قال
(1)
: فإن قلت: الحديث لا يدل على الفرك، قلت: عُلم من الغسل عدم الاكتفاء بالفرك، والمراد من الباب حكم المني غسلًا وفركًا في أن أيهما ثبت في الحديث وما الواجب منهما، انتهى.
وعلى ذلك حمل الشيخ ابن القيم في "الهدي"
(2)
ترجمة البخاري "باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها"، وبسط الكلام على أن لا صلاة قبل الجمعة، قال: ولم يرد البخاري إثبات السُّنَّة قبل الجمعة، وإنما مراده: هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء؟ ثم ذكر هذا الحديث، أي: أنه لم يرو عنه فعل السُّنَّة إلا بعدها، ولم يرد قبلها شيء، انتهى.
ويدخل في ذلك "باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد"، إذ أورد الحديث للأول دون الثاني، وأشكل على الشرَّاح إثبات الثاني.
وقال العيني
(3)
: لعل غرض البخاري رحمه الله أن لا يصلى عليها في المسجد. . . إلى آخر ما قال.
وإلى ذلك الأصل أشار العيني في "باب البول قائمًا وقاعدًا" احتمالًا، إذ قال
(4)
: وإما إشارة إلى أنه وقف على أحاديث الفصلين، ولكنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه، انتهى.
يعني: أحاديث الفصل الثاني لم تكن على شرطه، ولا يلتبس هذا بالأصل الخامس والخمسين.
(1)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(3/ 81).
(2)
"زاد المعاد"(1/ 433).
(3)
"عمدة القاري"(6/ 182).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 620).
40 -
الأربعون: يؤخذ مختار البخاري من الآثار:
ما يستنبط من كلام الحافظ في باب "في كم تصلي المرأة من الثياب؟ ": أن من عادة البخاري أنه طالما لا يذكر في الترجمة حكمًا، لكن مختاره يظهر عمَّا ذكر في الباب من الآثار.
إذ قال بحثًا: إنه لم يصرح بشيء، إلا أن اختياره يؤخذ في العادة من الآثار التي يودِعها في الترجمة
(1)
، انتهى.
وتبعه القسطلاني
(2)
في ذلك، وبذلك الأصل أخذ العيني
(3)
في الباب المذكور، إذ قال: واختياره يؤخذ في عادته من الآثار التي يترجم بها، انتهى.
وإلى ذلك أشار الحافظ في "باب سؤر الكلب"، إذ قال
(4)
: والظاهر من تصرُّف المصنف أنه يقول بطهارته، انتهى.
وقريب من ذلك ما قال
(5)
في "باب أبواب الإبل والدواب": لم يفصح المصنف بالحكم كعادته في المختلف فيه، لكن ظاهر إيراده حديث العُرنيين يشعر باختياره الطهارة، انتهى.
وقلت: قريب من ذلك؛ لأنه ليس فيه الأثر بل الحديث، لكنه مُشعر إلى الأصل المذكور، ويدخل في ذلك عندي "باب الصلاة في الجبة الشامية. . ." إلخ؛ فإنه يحتمل مسألة النجاسة ومسألة التشبه، لكن الآثار التي أوردها في الباب تؤيد الثاني، قال الحافظ
(6)
: هذه الترجمة معقودة لجواز الصلاة في ثياب الكفار ما لم يتحقق نجاستها، انتهى.
قلت: ويؤيده أثر معمر، وبذلك الأصل أخذ الحافظ في "باب وجوب
(1)
"فتح الباري"(1/ 482).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 39).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 309).
(4)
"فتح الباري"(1/ 282).
(5)
"فتح الباري"(1/ 335).
(6)
"فتح الباري"(1/ 473).
صلاة الجماعة"، إذ قال
(1)
: أطلق الوجوب، وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يُشعر بكونه يريد أنه وجوب عين، انتهى.
وهذا اللفظ - أي: تعيين المراد بالوجوب - عنده غرضي ههنا بذكر كلامه، وإلَّا فقد تقدم كلامه في الخامس عشر لأصل آخر.
وقال الكرماني
(2)
في "باب هل يتتبع المؤذن فاه. . ." إلخ في قول البخاري: "ويُذْكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه"، وكان ابن عمر لا يجعل: ميل البخاري إلى عدم الجعل؛ لأن التعليق الأول ذكره بصيغة التمريض، والثاني بصيغة التصحيح، انتهى.
وسيأتي قول الكرماني هذا في الأصل الخامس والأربعين لغرض آخر.
وهكذا قال العيني
(3)
: يعني ذكر الأول بصيغة التمريض، والثاني بصيغة التصحيح، فكان ميله إليه.
وقال الحافظ في "باب كيف الإشعار للميت"، وقال الحسن. . . إلخ: وبقول الحسن قال زفر. وكأن المصنف أشار بذلك إلى موافقة قول زفر
(4)
، انتهى.
وقال الحافظ
(5)
: عادة البخاري في موضع الاختلاف مهما صدَّر به من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره، انتهى.
والفرق بين هذا الأصل وبين الأصول التي ذكرت في الأصل الخامس عشر واضح لا يخفى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 125).
(2)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(5/ 29). وحديث بلال أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 467)(رقم 1806) وحديث ابن عمر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 470)(رقم 1816) وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 210).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 206).
(4)
"فتح الباري"(3/ 133).
(5)
"فتح الباري"(9/ 374).
نعم، الفرق بين ذلك وبين ما تقدم في الخصيصة السادسة من خصائص البخاري في الفائدة الثانية من الفصل الثاني دقيق، ذُكر هناك.
41 -
الحادي والأربعون: يقوي حديثًا بالترجمة ليس على شرطه:
من عادته المستمرة المعروفة أنه رحمه الله كثيرًا ما يقوي بالترجمة معنى حديث ليس على شرطه، لكن معناه صحيح عنده، فيستدل بالرواية التي هي على شرطه على صحة معنى حديث ليس على شرطه.
والفرق بين هذا الأصل وبين الأصل الأول من هذه الأصول، أن المذكور في الترجمة هناك كان لفظ الحديث، وههنا الترجمة ليست بلفظ حديث، بل ههنا أشار بالترجمة إلى صحة معناه.
وتقدمت الإشارة إلى ذلك الأصل في كلام الحافظ في "مقدمته"
(1)
الذي حكيته في الفائدة الثانية، ورقمت عليه العاشر، إذ قال: وكثيرًا ما يُترجم بلفظ يُومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه، إلى آخر ما قال: فهذا الثاني تقدم في الأصل الأول، والأول من نوعي الحافظ.
هذا، ويمثل لذلك بما قاله شيخ المشايخ في تراجمه في "باب صيام أيام البيض": ثبت حديث الترجمة في السنن، وليس على شرط البخاري، فاستخرج له حديثًا على شرطه يشهد له، كذا للزركشي، انتهى.
قلت: ولفظ الترجمة مروي بألفاظ مختلفة ذكرها الحافظ في "الفتح"
(2)
.
قلت: ويمثل لذلك الأصل بـ "باب كم بين الأذان والإقامة"، فإن المعروف أنه رحمه الله أشار بذلك إلى رواية جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال:"اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله"،
(1)
"هدي الساري"(ص 14).
(2)
انظر: "فتح الباري"(4/ 226).
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم
(1)
، لكن إسناده ضعيف، وله شواهد ذكرها الحافظ
(2)
.
ويمثل لذلك أيضًا بـ "باب الصلاة في النعال"، قال الحافظ
(3)
: روى أبو داود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعًا
(4)
: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم. . ." إلخ، ثم ترجم الإمام البخاري بـ "باب الصلاة في الخفاف"، قال الحافظ
(5)
: يحتمل أنه أراد الإشارة إلى حديث شدَّاد بن أوس المذكور لجمعه بين الأمرين.
وترجم الإمام البخاري بـ "باب المساجد في البيوت" وهو عندي إشارة إلى حديثي عائشة وسمرة رضي الله عنهما أخرجهما أبو داود في "سننه"
(6)
، وترجم عليهما بـ "باب اتخاذ المساجد في البيوت"، فيهما الأمر ببنائها في الدور.
وترجم البخاري بـ "باب يلبس أحسن ما يجد"، وقد ورد في معنى ذلك عدة روايات ذكرها الحافظ في "الفتح"
(7)
.
وترجم "باب من تمطر في المطر. . ." إلخ، قال الحافظ
(8)
: لعله أشار إلى ما أخرجه مسلم
(9)
عن أنس قال: "حسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه المطر، وقال: لأنه حديث عهد بربه".
وترجم بـ "باب الثياب البيض للكفن"، قال الحافظ
(10)
:
(1)
انظر: "سنن الترمذي"(ح: 195)، و"المستدرك"(1/ 320).
(2)
انظر: "فتح الباري"(2/ 106).
(3)
"فتح الباري"(1/ 494).
(4)
أخرجه أبو داود في "سننه"(ح: 652)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 260).
(5)
"فتح الباري"(1/ 494).
(6)
"سنن أبي داود"(ح: 455، 456).
(7)
"فتح الباري"(2/ 374).
(8)
"فتح الباري"(2/ 520).
(9)
"صحيح مسلم"(ح: 898).
(10)
"فتح الباري"(3/ 135).
كأن البخاري لم يثبت على شرطه الحديث الصريح في الباب، وهو ما رواه أصحاب السنن
(1)
من حديث ابن عباس، بلفظ:"البسوا ثياب البيض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم"، صحَّحه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة، ذكره الحافظ.
وترجم "باب حمل الرجال الجنازة دون النساء"، قال الحافظ
(2)
: لعله أشار إلى ما أخرجه أبو يعلى
(3)
من حديث أنس فذكره.
وترجم بـ "باب ما ذكر في الحجر الأسود"، قال الحافظ
(4)
: أورد فيه حديث عمر رضي الله عنه، وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد ورد فيه أحاديث فبسطها.
وترجم بـ "باب ما جاء في زمزم"، قال الحافظ
(5)
: كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث، إلى آخر ما قال.
والفرق بين هذا الأصل، وبين الحادي عشر، واضح لا يخفى.
42 -
الثاني والأربعون: ترجمة غير متعلقة بالكتاب:
أن من دأبه المعروف المطَّرد، أنه قد يُنَبِّه بالترجمة على مسألة مهمة غير متعلقة بالكتاب استطرادًا، فيشكل على الناظرين توفيق هذه الترجمة بالكتاب.
مثلًا: ترجم في أبواب المساجد "باب الاغتسال إذا أسلم"، وأشكل على الشرَّاح قاطبة إدخاله في "أبواب المساجد".
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 4061، 3878)، و"سنن ابن ماجه" (ح: 1472، 3566)، و"سنن الترمذي" (ح: 994).
(2)
"فتح الباري"(3/ 182).
(3)
مسند أبي يعلى (رقم 4056، 4274).
(4)
"فتح الباري"(3/ 462).
(5)
"فتح الباري"(3/ 493).
قال الحافظ
(1)
: الاغتسال إذا أسلم لا تعلق له بأحكام المساجد إلا على بُعْدٍ، وهو أن يقال: الكافر جُنُب غالبًا، وهو ممنوعٌ من المسجد إلا لضرورة، فلما أسلم لم تبق ضرورة للُبثه في المسجد جنبًا، فاغتسل لتسوغ له الإقامة في المسجد، إلى آخر ما بسط من التوجيهات البعيدة، حتى قال: يحتمل أن يكون بيَّض للترجمة فَسَدَّ بعضهم البياض بما ظهر له، وحكى عن بعضهم ههنا التراجم، ولو أمعنوا النظر في عادات المصنف تخلصوا عن الإشكال.
فالأوجه عندي أن يقال: إن الحديث من الباب السابق، ولذا نبَّه عليه بربط الأسير أيضًا، وذكر مسألة الاغتسال استطراد اهتمامًا بشأنها لشدة اختلاف الأئمة الأربعة في تلك المسألة حتى لم يتفق اثنان منهم على قول واحد، بل لكل واحد من الأربعة مسلك مستقل في تلك المسألة.
ولما كانت المسألة مستنبطة بحديث الباب، نَبَّهَ عليها بالترجمة كالتنبيه، ثم رأيت أن هذا الأصل أخذه مولانا السيد أنور شاه نوَّر الله مرقده أيضًا، فللَّه الحمد والمنة، فقد قال في "فيض الباري"
(2)
في "باب فضل صلاة الفجر والحديث": هذا من عادات المصنف رحمه الله تعالى: أن الحديث إذا اشتمل على فائدة ويريد أن ينبِّه عليها، فإنه يذكرها في الترجمة وإن لم يناسب سلسلة التراجم، أعني به: أن التراجم إذًا تكون عنده مسلسلة، ثم تبدو له فائدة في الأحاديث المستخرجة ويراها مهمة، فلا ينتظر أن يبوِّب لها [بابًا] مستقلًّا، ولكن يفرِّغ عنها في ذيول هذه التراجم، وأسمِّيه: إنجازًا.
فقوله: "والحديث"، أي: الحديث بعد العشاء وإن لم يناسب ذكره ههنا؛ لأنه عقد الترجمة لفضل صلاة الفجر، ولا مناسبة بينه وبين الحديث بعد العشاء، إلا أنه لما كان مذكورًا في الحديث المترجم له ذكره إنجازًا، وقد اضطرب في توجيهه الشارحون، ولم يأتوا بشيء، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 555).
(2)
"فيض الباري"(2/ 174).
قلت: وما وجَّه - أي: الشيخ الكشميري رحمة الله عليه - للفظ الحديث، يأتي الكلام عليه في محله من "اللامع"
(1)
، وما اختاره في توجيهه هو أقرب التوجيهات عند هذا العبد الضعيف أيضًا، لكن مع التفحُّص الكثير لم أجد بعدُ في رواية نصًّا بأن هذا الكلام كان بعد العشاء فليتفحَّص، وعلى هذا الأصل حمل شيخ المشايخ في تراجمه "باب نفض اليدين من الغسل"، إذ قال: وغرضه عندي إثبات طهارة الغسالة، إذ النفض لا يخلو عن إصابة الرشاش بالبدن، انتهى.
43 -
الثالث والأربعون: الترجمة بخلاف لفظ الحديث:
أن من دأبه المعروف أنه كثيرًا ما يذكر الترجمة بخلاف لفظ الحديث، ويكون الغرض منه الإشارة إلى اختلاف ألفاظ الرواية الواردة في الباب.
وهذا مطَّرد في كتابه، وأمثلته كثيرة في "الصحيح"، منها: أنه ترجم بـ "باب من أدرك من الصلاة ركعة"، وأورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ:"من أدرك ركعة من الصلاة"، قال الحافظ
(2)
: أخرجه البيهقي وغيره
(3)
بلفظ ترجمة الباب، قدّم قوله:"من الصلاة" على قوله: "ركعة".
وقد وضح لنا بالاستقراء أن جميع ما يقع في تراجم البخاري مما يترجم بلفظ الحديث، لا يقع فيه شيء مغاير للفظ الحديث الذي يورده، إلا وقد ورد من وجه آخر بذلك اللفظ المغاير، فللَّه درُّه ما أكثر اطلاعه، انتهى.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 59)، فيه كلام لطيف.
(2)
"فتح الباري"(2/ 57).
(3)
انظر: "صحيح مسلم"(ح: 607)، و"سنن النسائي" الكبرى (ح: 1742)، و"سنن أبي داود" (ح: 1121)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 386)(رقم 1684).
قلت: ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالأصل الآتي: الرابع والستين.
44 -
الرابع والأربعون: التوافق بجزء من الترجمة:
ما اختاره العيني في "شرحه"
(1)
في كثير من التراجم أن التوافق بجزء من الترجمة يكفي للمطابقة، كما قال في "باب فضل صلاة الفجر في الجماعة" في ذيل حديث أم الدرداء.
فإن قلت: الترجمة في فضل الصلاة بالجماعة في الفجر: والذي يفهم من الحديث أعم من ذلك، فكيف يكون التطابق؟
قلت: إذا طابق جزء من الحديث الترجمة يكفي، ومثل هذا وقع له كثيرًا في هذا الكتاب، انتهى.
وقال في "باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره"
(2)
: مطابقة حديث ابن عمر للترجمة في أحد جزئيها، واكتفى البخاري بدلالته على بعض الترجمة حيث دل حديث أبي هريرة على تمامها، ثم قال بعد ذلك في حديث أبي موسى: مطابقته للترجمة في أحد جزئيها، كما قلنا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، انتهى.
وقال في "باب الأذان للمسافرين. . ." إلخ، بعد حديث أبي ذر
(3)
: إن قلت: لا دلالة ههنا على الإقامة، والترجمة مشتملة على الأذان والإقامة معًا! قلت: المقصود هو الدلالة في الجملة، ولا يلزم الدلالة صريحًا على كل جزء من الترجمة، انتهى.
وبهذا الأصل أثبت مناسبة حديث ابن عباس بـ "باب الخطبة بعد العيد"، إذ قال
(4)
: مطابقته للترجمة تأتي بالتكلف من حيث إن الترجمة
(1)
"عمدة القاري"(4/ 235).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 549، 547).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 202).
(4)
"عمد القاري"(5/ 175).
مشتملة على العيد، والمراد منه صلاة العيد، وأشار بالحديث إلى أن صلاة العيد ركعتان، انتهى.
وإن كان عندي في وجه المطابقة ههنا ما قاله الكرماني
(1)
من أن الأمر للنساء بالصدقة من تتمة الخطبة أوجه مما قاله العيني، لكن العيني طابق الحديث بجزء الترجمة.
وقال الحافظ في "باب هل يصلي الإمام بمن حضر. . ." إلخ
(2)
: وحديث أنس رضي الله عنه لا ذكر للخطبة فيه، ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل ما في الترجمة، انتهى.
وأخذ بذلك أيضًا في "باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء" إذ قال
(3)
: وحاصله: أن حديث ابن عمر يدل على بعض الترجمة، وحديث عائشة على جميعها، انتهى.
وأخذ بذلك الأصل شيخ المشايخ في "باب مسح الرأس كله"، إذ قال: وتعلق قول ابن المسيب بالباب إنما هو لمجرد ذكر المسح فيه، ولا تعلق له بخصوص الترجمة، ومثل ذلك في تعاليق البخاري كثير، انتهى.
45 -
الخامس والأربعون: ما يذكر بصيغة التمريض:
ما هو المعروف في الشروح جُلَّة، وعلى ألسنة المشايخ قاطبةً: أن ما يذكره البخاري في تراجمه بصيغة التمريض إشارة إلى ضعفه.
قال النووي في مبدأ شرحه: قال العلماء المحققون من المحدثين وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل،
(1)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(6/ 70).
(2)
"فتح الباري"(2/ 185).
(3)
"فتح الباري"(4/ 325).
أو أمر، أو نهى، أو شبه ذلك من صيغ الجزم، وكذا لا يقال: روى أبو هريرة، أو ذكر، أو قال شبه ذلك، وكذا لا يقال ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفًا، فلا يقال شيء من ذلك بصيغة الجزم، وإنما يقال في الضعيف بصيغة التمريض، فيقال: روي عنه، أو نُقِلَ، أو ذُكِرَ، أو يُروى، أو يحكى، أو جاء عنه، أو بلغنا عنه.
قالوا: وإذا كان الحديث أو غيره صحيحًا أو حسنًا، عيّن المضاف إليه بصيغة الجزم، ودليل ذلك: أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا يطلق إلا على ما صح وإلا فيكون في معنى الكاذب.
وهذا التفصيل مما يتركه كثير من المصنفين في الفقه والحديث وغيرهما، وقد اشتد إنكار الإمام البيهقي فيمن خالف هذا من العلماء: هذا التساهل من فاعله قبيح جدًا، فإنهم يقولون في الصحيح بصيغة التمريض، وفي الضعيف بالجزم، وهذا حيدٌ عن الصواب.
وقد اعتنى البخاري رحمه الله بهذا التفصيل في "صحيحه"، فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض، وبعضه بجزم، مراعيًا ما ذكرنا، وهذا مما يزيدك اعتقادًا في جلالته وتحرِّيه، وورعه واطلاعه، وتحقيقه وإتقانه، انتهى.
قلت: هذا هو المعروف في عامة الشروح، لكن الحافظ في "مقدمته"
(1)
بسط الكلام على ذلك الأصل بسطًا كثيرًا لا يسعه هذا المختصر، وذكر عدة أمثلة للأنواع المختلفة من الجزم والتمريض، وبسط الكلام عليهما.
(1)
انظر: (ص 19).
وقال في "باب الرجل يأتم بالإمام"
(1)
: قوله: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتموا بي"، الحديث، هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري قال:"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا. . ." الحديث، أخرجه مسلم وأصحاب السنن
(2)
، قيل: وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض؛ لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه.
وهذا عندي ليس بصواب، لأنه لا يلزم من كونه على شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحًا للاحتجاج به عنده، وليس هو على شرط "صحيحه" الذي هو أعلى شروط الصحة. والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعيف، بل قد تستعمل في الصحيح أيضًا، بخلاف صيغة الجزم، فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح، انتهى.
وتعقب العيني إذ قال
(3)
: قال الكرماني: "ويُذكر" تعليق بلفظ التمريض. . .، ثم ذكر العيني قول الحافظ، ثم قال: قلت: وهذا الذي ذكره يخرم قاعدته؛ لأنه إذا لم يكن على شرطه كيف يحتج به؟ وإلا فلا فائدة لذلك الشرط، إلى آخر ما ذكره.
والجملة أن المعروف عند الشرَّاح ما يذكره البخاري بصيغة التمريض إشارة إلى ضعفه، ولا أقل من أنه إشارة إلى أنه ليس على شرطه.
وأخذ الحافظ أيضًا بهذا الأصل في مواضع من شرحه، قال في "باب الجمع بين السورتين في ركعة" في قوله:"ويُذكر عن عبد الله بن السائب" بعد ما ذكر الاختلاف في إسناده على ابن جريج: وكأن البخاري علقه بصيغة "ويذكر" لهذا الاختلاف
(4)
، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 204).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 438)، و"صحيح ابن خزيمة"(رقم 1612)، و"سنن أبي داود" (ح: 680)، و"سنن النسائي" (ح: 795)، و"سنن ابن ماجه" (ح: 978).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 348).
(4)
انظر: "فتح الباري"(2/ 256).
ولذلك جزم العيني إذ قال
(1)
: وذكره البخاري على صيغة المجهول، وهو صيغة التمريض؛ لأن في إسناده اختلافًا، ثم ذكر الاختلاف، وأمثلة ذلك في الشروح كثيرة.
قال الكرماني: في "باب هل يتبع المؤذن فاه ههنا"، ويذكر عن بلال أنه جعل أصبعيه في أذنيه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يجعل. . . إلخ: ميل البخاري إلى عدم الجعل؛ لأن التعليق الأول ذكره بصيغة التمريض، والثاني بصيغة التصحيح
(2)
، انتهى.
تقدم قول الكرماني هذا في الأصل الأربعين لغرض آخر، وهو بيان ميل البخاري، وههنا بصيغتي التمريض والتصحيح.
ويقرب منه ذكر الإمام البخاري التراجم بصيغة التمريض، كما في قوله:"باب ما يذكر في المناولة"، وله نظائر كثيرة في التراجم، والفرق بين هذا وبين ما تقدم: أن التمريض فيما تقدم كان في ذكر الحديث وههنا في الترجمة.
46 -
السادس والأربعون: بتّ الحكم مع الاختلاف:
أن الإمام البخاري طالما يبتّ الحكم في الترجمة في مسألة خلافية شهيرة أيضًا، لثبوت الجزم عنده في هذه، كما قالوا في "باب وجوب صلاة الجماعة".
قال الحافظ
(3)
: هكذا بتّ الحكم في هذه المسألة، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 487).
(2)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(5/ 29).
(3)
"فتح الباري"(2/ 125).
وقال في "باب التيمم للوجه والكفين"
(1)
: أتى بذلك بصيغة الجزم مع شهرة الاختلاف؛ لقوة دليله.
وقال في "باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس"
(2)
: جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيه؛ لضعف دليل المخالف عنده.
وهكذا قالوا في "باب التكبير على الجنازة أربعًا"، قال الزين ابن المنيِّر: أشار بهذه الترجمة إلى أن التكبير لا يزيد على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمة أخرى، ولا خبرًا بالباب، وقد اختلف السلف في ذلك، كما حكى أقوالهم الحافظ في "الفتح"
(3)
.
وقد أكثر الحافظ بهذا الأصل في شرحه.
47 -
السابع والأربعون: عدم الجزم للتوسع:
أن الإمام البخاري كثيرًا لا يجزم بالحكم في الترجمة إشارة إلى التوسع في ذلك، فيذكر الروايات المختلفة في الباب إشارةً إلى جواز كل ذلك، ذكر هذا الأصل مولانا الشيخ محمد حسن المكي عن شيخه الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّهما في "باب ما يقرأ بعد التكبير"، كما سيأتي في محله
(4)
.
وعلى هذا الأصل يُحمل قول ابن المنذر في "باب ما يقول إذا سمع المنادي"، قال الحافظ
(5)
: قال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول: تارة كذا وتارة كذا، انتهى.
قلت: ويدخل في ذلك "باب ما جاء في الوتر"، لم يجزم في الترجمة بحكم وارد في الباب ما يدل على الوصل والفصل معًا، وأخذ بذلك الأصل شيخ الهند - رحمة الله عليه - أيضًا في أصوله، كما
(1)
"فتح الباري"(1/ 444).
(2)
"فتح الباري"(2/ 387).
(3)
"فتح الباري"(3/ 202).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 246).
(5)
"فتح الباري"(2/ 91).
تقدم في الأصل الرابع من أصوله، إلا أنه جعل عنوان الأصل معنى خفيًا للترجمة، كما تقدم في كلامه، ولا يلتبس هذا بالأصل الثامن والستين.
48 -
الثامن والأربعون: الإشارة إلى حديث آخر لهذا الصحابي:
ما قالوا: إن الإمام البخاري قد يشير بذكر حديثٍ لصحابي لا يناسب الترجمة إلى حديث آخر لذلك الصحابي مناسب للترجمةِ، وهذا من أشد تشحيذاته للأذهان.
فقد ترجم البخاري في "صحيحه""باب طول القيام في صلاة الليل"، وأورد في آخره حديث حذيفة رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك"، وأشكل على الشرَّاح قاطبةً مناسبة هذا الحديث بالباب.
قال الحافظ
(1)
: استشكل ابن بطال دخوله في هذا الباب فقال: لا مدخل له ههنا؛ لأن التسوك بالليل لا يدل على طول الصلاة، قال: ويمكن أن يكون ذلك من غلط الناسخ، فكتبه في غير مواضعه، أو أن البخاري أعجلته المنية قبل تهذيب كتابه، فإن فيه مواضع مثل هذا تدل على ذلك.
ثم قال الحافظ بعد ذكر عدة توجيهات عن الشرّاح: وقال بدر بن جماعة: يظهر لي أن البخاري أراد بهذا الحديث استحضار حديث حذيفة الذي أخرجه مسلم
(2)
"أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، وكان إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، أو سؤال سأل، أو تعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع نحوًا مما قال. . ." إلى آخر الحديث، قال: وإنما لم يخرجه البخاري لكونه على غير شرطه، فإما أن يكون أشار إلى أن الليلة واحدة، أو نَبَّهَ بأحد حديثي حذيفة على الآخر، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(3/ 19).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 772).
قلت: وعلى هذا الأصل يمكن أن يقال: إن الإمام البخاري نَبَّهَ بذكر حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين"، في "باب ما يقرأ بعد التكبير"، إلى حديث أنس في "الاستفتاح بسبحانك اللهم"، قال العيني
(1)
: وفي الباب عن أنس أخرجه الدارقطني، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، ثم قال - أي: الدارقطني -: ورجال إسناده كلهم ثقات، انتهى.
وفي "المغني"
(2)
في ذكر تخريج هذا الحديث: ورواه أنس، ورجال إسناد حديثه كلهم ثقات، رواه الدارقطني، انتهى، ولا فرق بين هذا وبين ما اختاره البدر بن جماعة.
49 -
التاسع والأربعون: الإثبات بالعادة:
أن الشرَّاح كثيرًا ما يثبتون الترجمة بالعادة المعروفة عنه صلى الله عليه وسلم.
وأخذ بذلك الأصل شيخ المشايخ في التراجم في "باب دفع السواك إلى الأكبر"، إذ قال: وجه الدلالة من الحديث: أن عادته صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء يسير أن يعطيه صغير السن، وإذا أهدي إليه شيء ذو خطر أن يعطيه الكبير، وأعطى السواك أولًا نظرًا إلى الظاهر الصغير، فقيل له: كَبِّر، ففهم منه فضيلة السواك وكونه ذا خطر، انتهى.
وقال الحافظ تحت حديث ابن مسعود في "باب طول القيام في صلاة الليل"
(3)
: كذا للأكثر، وللحموي والمستملي: "باب طول الصلاة في قيام
(1)
"عمدة القاري"(4/ 412).
(2)
"المغني"(2/ 144).
(3)
"فتح الباري"(3/ 19).
الليل"، وحديث الباب موافق لهذا؛ لأنه دال على طول الصلاة لا طول القيام بخصوصه، إلا أن طول الصلاة يستلزم طول القيام؛ لأن غير القيام - كالركوع مثلًا - لا يكون أطول من القيام، كما عُرف بالاستقراء من صنيعه صلى الله عليه وسلم، انتهى، هكذا أفاد الحافظ رحمة الله عليه.
والأوجه عندي: أنَّ الترجمة ههنا واضحة، والغرض: أن الحافظ استعمل الأصل المذكور ههنا، وقال أيضًا في حديث حذيفة في هذا الباب: استشكل ابن بطال دخوله في هذا الباب، فقال: لا مدخل له ههنا.
ثم حكى الحافظ التوجيهات العديدة من الشرَّاح، ومن جملتها: قال ابن رُشيد: الذي عندي أن البخاري إنما أدخله لقوله: "إذا قام للتهجد"، أي: إذا قام لعادته، وقد تبيَّنت عادته في الحديث الآخر.
ثم قال الحافظ بعد ذكر التوجيهات الأخر: وأقربها توجيه ابن رُشيد، انتهى.
وقال العيني
(1)
في حديث جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه. . . الحديث، أخرجه البخاري في "باب وجوب القراءة": قال: قال الكرماني: فإن قلت: ما وجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: وجهه أن ركود الإمام يدل على قراءته عادة، انتهى.
وتبعه القسطلاني
(2)
في ذلك، إذ قال: والركود يدل على القراءة عادة، كما سيأتي في هامش "اللامع"
(3)
.
وقال الحافظ
(4)
في "باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟ ": أما مطابقة حديث أبي سعيد فمن جهة أن العادة في يوم المطر أن يتخلف بعض الناس. . . إلخ.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 438).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 452).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 257).
(4)
"فتح الباري"(2/ 158).
وقال العيني
(1)
في "باب كيف حَوّل النبي صلى الله عليه وسلم ظَهرَه إلى الناس" بعد ذكر توجيهات الشرَّاح الأخر: قلت: يمكن أن تؤخذ الكيفية من حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يعجبه التيمن في شأنه كله. . . إلخ.
وأخذ بذلك الأصل شيخ المشايخ في "باب التماس الوضوء. . ." إلخ، وابن بطال في "باب يلبس أحسن ما يجد، أي: في الجمعة".
50 -
الخمسون: الاستدلال بالعموم:
ما هو معروف مطَّرد عند الشرَّاح والمشايخ أن الإمام البخاري رحمه الله كثيرًا ما يستدل على الترجمة بالعموم، وأخذ بذلك الأصل الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه بمواضع من "تقريره"، منها: ما قال في "باب وجوب القراءة للإمام": استدل على مدعاه بأن الوارد مطلق عن تقييد بشيء من الصلوات أو المصلين،
(2)
انتهى.
وأخذ بذلك الأصل الحافظ ابن حجر أيضًا في الباب المذكور، إذ قال
(3)
: وقد يؤخذ السفر والحضر من إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لم يفصل بين الحضر والسفر"، انتهى.
وأخذه الشيخ قُدِّس سرُّه أيضًا في "باب التشهد في الآخرة"، إذ قال
(4)
: دلالة الرواية عليه من حيث إن المذكور فيها غير مقيد بالأولى والآخرة فلا يتقيد بشيء منهما. . . إلخ.
وقال العيني
(5)
في "باب التيمن في دخول المسجد في حديث
(1)
"عمدة القاري"(5/ 277).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 260).
(3)
"فتح الباري"(2/ 239).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 269).
(5)
"عمدة القاري"(3/ 423).
عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع"، الحديث: مطابقته للترجمة من حيث عمومه؛ لأن عمومه يدل على البداية باليمين في دخول المسجد، انتهى.
وبذلك الأصل أخذ النووي أحاديث "باب الدعاء قبل السلام"، كما حكى عنه الحافظ
(1)
، إذ قال بعد ذكر أقوال الشرَّاح الأخر: وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله: "في صلاتي" يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
في "باب فضل صلاة الفجر في جماعة": تفنَّن المصنف بإيراد الأحاديث الثلاثة في الباب، إذ تؤخذ المناسبة من حديث أبي هريرة بطريق الخصوص، ومن حديث أبي الدرداء بطريق العموم، ومن حديث أبي موسى بطريق استنباط، انتهى.
وقال شيخ المشايخ
(3)
في "باب ما جاء في غسل البول": قوله: "إذا تبرز لحاجته. . ." إلخ، التبرز وإن كان في متفاهم العرف يحمل على الغائط، لكن الصحابي لما حكى فعله وهو الذهاب إلى الفضاء، والذهاب إليه قد يكون للبول أيضًا، فبالنظر إلى هذا العموم استدل البخاري بالحديث على ثبوت الغسل من البول، ومثل هذا الاستدلال كثير شائع عند المؤلف، كما نبَّهناك مرارًا، انتهى.
ويدخل في هذا الأصل أيضًا، ما قال في "باب ذكر البيع والشراء في المسجد": إذ استدل بذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم على جواز البيع في المسجد بدون إحضار المبيع بعموم اللفظين، وقال: مثل هذه الاستدلالات كثيرة في "البخاري"، كما مر غير مرة، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 320).
(2)
"فتح الباري"(3/ 138).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 93).
51 -
الحادي والخمسون: المبدوء بباب كيف كان:
أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ترجم في "صحيحه" بـ "باب كيف كان" أصالة: ثلاثون ترجمة، عشرون منها في النصف الأول، وعشر في النصف الثاني.
والمراد بقولي: أصالةً: أن المترجم بذلك تبعًا في الأبواب الأخر، وراء من ذلك، ولا تثبت الكيفية في أكثر هذه التراجم، واضطربت أقوال الشرَّاح في إثبات الكيفية من أحاديث هذه الأبواب.
والأوجه عندي في هذه الأبواب الخالية عن بيان الكيفية أن الإمام البخاري لم يرد في هذه الأبواب إثبات الكيفية، بل أراد إثبات ما بعد لفظ كيف، نَبَّهَ بلفظ كيف على الاختلاف الوأرد في كيفية هذه الأمور.
مثلًا ترجم بـ "باب كيف كان بدء الحيض؟ " وليس في الحديث بيان كيفية بدئه، بل الوارد فيه الاختلاف في وقت بدئه، وعلى ذلك حمل عامة المشايخ الترجمة، والأوجه عندي أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى اختلافهم في كيفية البدء، هل كان بدؤه مصلحة أو عذابًا.
واستنبط ذلك من كلام شيخ المشايخ في تراجمه أيضًا، إذ قال: قوله: "كتبه الله. . ." إلخ: أنه شيء كتبه الله على بنات آدم تغذية لأجنَّتهن. خلافًا لبعضهم، إذ قالوا: أول ما أرسل الحيضر على نساء بني إسرائيل ابتلاء لهن. . . إلخ.
وترجم "كيف تهل الحائض بالحج والعمرة؟ "، قال شيخ المشايخ في "التراجم": قال الشارح القسطلاني
(1)
في معناه: ليس المراد بالكيفية الصفة، بل بيان صحة إهلال الحائض، وعندي أنه على الظاهر، والغرض إثبات صفة الإهلال إذا أهلت الحائض، وهي أن يكون إهلالها مقرونًا
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 651).
بالغسل، وإن كان ذلك الغسل في أثناء الحيض، وغسل عائشة رضي الله عنها يحتمل ذلك، انتهى.
قلت: ما حكاه الشيخ قُدِّس سرُّه عن الشارح أخذه الشارح المذكور عن "الفتح"
(1)
، إذ قال: مراده بيان صحة إهلال النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى "كيف" في الترجمة: الإعلام بالحال بصورة الاستفهام، لا الكيفية التي يراد بها الصفة.
وبهذا التقرير يندفع اعتراض من زعم أن الحديث غير مناسب للترجمة، إذ ليس فيها ذكر صفة الإهلال، انتهى.
وقال العيني
(2)
: المراد من الكيفية الحال من الصحة والبطلان والجواز وغير الجواز، فكأنه قال: باب صحة إهلال الحائض بالحج. . . إلخ.
ومؤدَّى كلام هؤلاء المشايخ كلهم أن لفظ "كيف" حشو في كلام الإمام الهمام، وأنت خبير بأن هذا بعيد كل البعد عن جلالة شأنه ودقائق تدبُّره.
فالأوجه عندي على الأصل المذكور أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى نَبَّهَ بذلك على الاختلاف الواقع في كيفية هذا الغسل باعتبار الحكم، هل هو سُنَّةٌ مؤكدةٌ كما عند مالك، أو مستحب كما عند بقية الأئمة الثلاثة.
ففي "الأوجز"
(3)
: هذا الغسل سُنَّة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا يرخص في تركه إلا لعذر، وهو آكد اغتسالات الحج إلى آخر ما بسط فيه، ومال ابن حزم إلى أن هذا الغسل فرض للحائض المتمتع والنفساء، قال العيني
(4)
: قال ابن حزم: لا يلزم الغسل فرضًا في الحج إلا المرأة تُهِلُّ بعمرة تريد التمتع فتحيض قبل الطواف بالبيت، فهذه تغتسل، ولا بدّ والمرأة
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 419).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 152).
(3)
"أوجز المسالك"(6/ 339).
(4)
"عمدة القاري"(7/ 83).
تلد قبل أن تهل بالعمرة أو بالقران، ففرض عليها أن تغتسل وتُهل، انتهى.
وترجم بـ "باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة؟ "، وليس في حديث الباب بيان كيفية الاعتماد، ولذا تكلف الشرَّاح في إثبات الكيفية من الحديث ولا يثبت، فالأوجه عندي أن الإمام البخاري لم يُرد بالباب إثبات الكيفية، بل أراد إثبات الاعتماد على الأرض فقط، وأما لفظ "كيف" فلمجرد التنبيه على اختلاف العلماء في كيفية الاعتماد.
وهكذا ترجم الإمام البخاري "باب كيف حوَّل النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس؟ "، وأتى فيه بحديث لا يدل على كيفية التحويل بل فيه ذكر التحويل فقط، ولذا اضطربت أقوال الشرَّاح في إثبات الكيفية من الحديث.
والأوجه عندي أن المقصود بالترجمة هو التحويل فقط، وهو ثابت بالحديث نصًّا وأشار بلفظ "كيف" إلى الاختلاف الواقع في كيفية ذلك التحويل باعتبار وقته، فعند الصاحبين من الحنفية: بعد الخطبتين، وعند الشافعية: إذا مضى الثلث من الخطبة الثانية، وعند المالكية في المشهور: بعد الخطبتين، وقال الباجي: اختلف فيه قول مالك فذكر القولين في ذلك، وعند الحنابلة: خطبة الاستسقاء واحدة على الأصح، ويستقبل القبلة في أثنائه، كما بسط اختلاف الأئمة في ذلك في "الأوجز"
(1)
.
فالأوجه عندي أن البخاري لم يرد في ترجمته إثبات الكيفية، حتى يضطر إلى إثباتها بالحديث، بل نَبَّهَ بلفظ "كيف" على الاختلاف في الكيفية، هل يحوِّل ظهره في أثناء الخطبة أو بعدها عند الدعاء، أو عند الخطبة؟ وغير ذلك كما في "الأجز"
(2)
.
ونظير ذلك عندي قوله: "باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة" وتحير الشرَّاح في لفظ "متى" ههنا، وأي معنى للسؤال.
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 138).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 128).
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: أظهر تأويلات هذه الترجمة أن يقال: إن قوله: "إذا رأوا الإمام" جواب "متى" يعني: يقومون إذا رأوا الإمام عند الإقامة، انتهى.
ولا مراء في أن ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أقرب مما قالت الشرَّاح في ذلك.
وعند هذا المبتلى بالسيئات، والمعترف بالتقصيرات، الراجي واهب الحسنات بدل السيئات، أن لفظ "متى" ليس للإثبات حتى يحتاج إلى التوجيهات، بل الترجمة "يقوم الناس. . ." إلخ، وزاد لفظ "متى" كزيادة لفظ "كيف" تنبيهًا على الاختلاف الوارد في أنهم متى يقومون؟ مع الإقامة ومع رؤية الإمام أيضًا، فالمعروف عند المالكية من أول الإقامة، وعند الشافعية بعد تمام الإقامة، وعند الحنفية على قول المؤذن:"حي على الصلاة"، وعند الحنابلة على قوله:"قد قامت الصلاة". كما بسطت تلك الأقوال في "الأوجز"
(2)
، عند قول الإمام مالك رحمه الله تعالى: لم أسمع فيه بحد [يقام له] إلا أَنِّي أرى ذلك على قدر طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف، ولا يستطيعون أن يكونوا كرجل واحد، انتهى.
وهكذا ترجم "باب كيف الإشعار للميت"، وذكر فيه: قال الحسن: الخرقة الخامسة، قال الحافظ
(3)
: وقول الحسن في الخرقة الخامسة، قال به زفر، وقالت طائفة: تُشَدُّ على صدرها لتضم أكفانها، وكأن المصنف أشار إلى موافقة قول زفر، انتهى.
وذكر ابن عابدين
(4)
الاختلاف في ذلك، ثم قال: ومفاد هذه العبارات الاختلاف في عرضها، وفي محل وضعها، وفي زمانه، فتأمل، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 23) ط: الهند.
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(2/ 46).
(3)
"فتح الباري"(3/ 133).
(4)
"رد المحتار"(3/ 99).
وهكذا ذكر الاختلاف فيه غير الحنفية أيضًا، قال الموفق
(1)
: فعلى قول الخرقي: تُشَدُّ الخرقة على فخذيها أولًا، ثم تؤزّر بمئزر،. . . إلخ.
فالأوجه عندي أن الإمام البخاري نَبَّهَ بلفظ "كيف" على الاختلاف، فلا بد للتدبر في الأبواب المبدوءة بلفظ "كيف" من الوقوف على اختلاف العلماء في كيفية هذه الأمور، واختلاف الأئمة المجتهدين رحمهم الله وشكر سعيهم - وخاطري أبو عذرة هذا الأصل.
52 -
الثاني والخمسون: إثبات الأبواب العديدة بحديث واحد:
ما ظهر أيضًا لهذا الفقير المحتاج إلى رحمة ربه العليا، أن الإمام البخاري طالما يجمع الأبواب العديدة، ويأتي بعد تلك الأبواب بحديث واحد يُثبت الأبواب السابقة كلها، ويفعل ذلك تشحيذًا للأذهان.
ومن لم يُمعن النظر في ذلك يعدّ الأبواب السابقة خالية عن الحديث، ويأتي لذلك بتوجيهات بعيدة، كسهو المؤلف، أو عدم وجدانه للحديث، أو تحريف من الناسخ، وغير ذلك من التوجيهات العامة المعروفة.
ومثال ذلك: أنه رحمه الله تعالى ترجم بـ "باب الرياء في الصدقة"، ثم ترجم بـ "باب لا يقبل الله صدقة من غُلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب"، ثم ترجم بـ "باب الصدقة من كسب طيب"، ولم يذكر حديثًا في الأولين، وذكر في الثالث؛ ولم يتعرض لذلك الشرَّاح إلا بقولهم: تخلو الترجمة عن الحديث، اقتصارًا على الاستدلال بالآية، انتهى، وهذا الذي اختاره شيخ الهند قُدِّس سرُّه في الأصل التاسع من أصوله، وتقدم في الأصل السابع والعشرين من هذه الأصول.
والأوجه عندي أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى، أثبت بالحديث
(1)
"المغني"(3/ 391).
الوارد بعد الباب الثالث البابين السابقين أيضًا، فإنه رحمه الله أورد فيه حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله تعالى يتقبلها [بيمينه]، ثم يُرَبِّيها لصاحبه"
(1)
الحديث، فإن قوله:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب" ثالث التراجم، وقوله:"لا يقبل الله إلا الطيب" ثانيها، وقوله:"فإن الله تبارك وتعالى يربيها حتى تكون مثل الجبل"، يشير إلى أولها بالضد، فإن التربية تنافي الإبطال، والاستدلال بالأضداد من أصول التراجم، كما في التاسع والستين.
وسيأتي في أول "الجنائز"
(2)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله دخل النار"، قلت: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه استنبط الثاني لكونه ضد الأول.
ومن ذلك الأصل أن الإمام البخاري ترجم "باب صدقة العلانية"، ثم "باب صدقة السر"، وذكر فيه حديثًا معلقًا، ثم "باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم"، ولم يأت بالحديث مسندًا للأولين، وأتى في الباب الثالث بحديث أبي هريرة:"قال رجل: لأتصدقن بصدقة. . ." الحديث، وقال الحافظ وتبعه غيره في الباب الأول
(3)
: سقطت هذه الترجمة للمستملي وثبتت للباقين، وبه جزم الإسماعيلي، ولم يثبت فيها لمن أثبتها حديث، وكأنه أشار إلى أنه لم يصح فيها شيء على شرطه، انتهى، وهكذا قال العيني وغيره.
والأوجه عندي: أنه ثبتت بحديث أبي هريرة المذكور التراجم الثلاثة، الصدقة على الغني ظاهر، ولما لم يكن في بعض النسخ الباب الثالث مستقلًّا وأدمجه بالباب الثاني، فوجَّه الحافظ مناسبة حديث أبي هريرة بالباب
(1)
أخرجه البخاري ب (رقم 1410).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 1238).
(3)
"فتح الباري"(3/ 289).
الثاني؛ بقوله: إن الصدقة بالمذكورة وقعت بالليل، لقوله في الحديث:"فأصبحوا يتحدثون"، بل وقع في "صحيح [مسلم] " التصريح بذلك، لقوله فيه:"لأتصدقن الليلة"، فدل على أن صدقته كانت سرًّا، إلى آخر ما قال.
قلت: ولما أصبحوا يتحدثون صارت علانية باعتبار المآل، فثبتت التراجم الثلاث.
ولا يلتبس هذا الأصل بالأصل السابع والعشرين، فإنه ليس فيه تسلسل الأبواب وذكر الحديث بعدها.
53 -
الثالث والخمسون: إثبات الترجمة بالنظير والقياس:
من عادة الإمام البخاري الشائعة في كتابه، كثيرَ الوقوع في تراجمه، أنه كثيرًا ما يثبت الترجمة بالنظير والقياس.
وهذا الأصل معروف عند المشايخ والشرَّاح، أخذ بذلك الأصل الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه بمواضع من إفادته، منها: ما قال في "باب القراءة في الظهر"
(1)
: دلالة الرواية على الترجمة على تقدير نسخة العشي ظاهرة، وعلى النسخة المكتوبة في المتن، وهو قوله:"صلاتي العشاء"، فالمدعى حاصله بالقياس، انتهى.
وقال العيني في "باب الدخول على الميت [بعد الموت] أدرج في أكفانه"، وقد ذكر فيه البخاري حديث دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مُسَجًّى ببردةٍ.
فقال العيني
(2)
: مطابقته للترجمة ظاهرة؛ قيل: لا نُسَلِّم الظهور؛ لأن الترجمة في الدخول [على الميت] إذا أدرج في الكفن، ومتن الحديث:"وهو مُسَجًّى ببردةٍ"، لم يكن حينئذٍ غسل، فضلًا عن أن يكون مدرجًا في
(1)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 266).
(2)
"عمدة القاري"(6/ 18).
الكفن!! وأجيب: بأن كشف الميت بعد تسجيته مساوٍ لحاله بعد تكفينه. . . إلخ.
وقال الحافظ في الباب المذكور
(1)
: دلالة الحديث الأول، وهو حديث أبي بكر المذكور، والحديث الثالث وهو حديث جابر قال:"لما قتل أبي جعلت أكْشِفُ الثوبَ عن وجهه. . ." الحديث، مشكلة؛ لأن أبا بكر إنما دخل قبل الغسل فضلا عن التكفين، ولأن جابرًا كَشَفَ الثوبَ قبل تكفينه؛ فقال بعد ذكر الأجوبة المختلفة: وقال ابن رُشيد: المعنى الذي في الحديثين من كشف الميت بعد تسجيته مساوٍ لحاله بعد تكفينه، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
أيضًا في "باب القسمة وتعليق القنو في المسجد": لم يذكر البخاري في الباب حديثًا في تعليق القنو، فقال ابن بطال: أغفله، وقال ابن التين: أُنسيه. وليس كما قالا، بل أخذه من جواز وضع المال في المسجد، بجامع أن كلًّا منهما وُضِع لأخذ المحتاجين منه، انتهى.
وقال أيضًا في "باب فضل صلاة الفجر في جماعة"، وقد أورد فيه البخاري حديث أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم مشيًا. . ." الحديث
(3)
، فقال الحافظ
(4)
: استشكل إيراد حديث أبي موسى في هذا الباب؛ لأنه ليس فيه لصلاة الفجر ذكر، بل آخره يشعر بأنه في صلاة العشاء، ووجَّهه ابن المنيّر وغيره بأنه دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، إلى آخر ما قال.
وأيضًا ترجم البخاري رحمه الله تعالى "باب الخطبة أيام منى"، وأورد في جملة أحاديثه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات".
(1)
"فتح الباري"(3/ 115).
(2)
"فتح الباري"(1/ 516).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 651).
(4)
"فتح الباري"(2/ 138).
قال الحافظ
(1)
ناقلًا عن ابن المنير: أراد البخاري أن يبين أن الراوي قد سمَّاها خطبة، كما سمَّى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة بعرفات، فكأنه ألحق المختلف فيه بالمتفق عليه، انتهى.
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
في "باب تفريق الغسل": أي: التفريق في أفعال الوضوء والغسل، إشارة إلى جوازه، خلافًا لمن اشترط الموالاة، ويثبت بالحديث التفريق في الوضوء، فثبت في الغسل أيضًا بالمقايسة، إذ لا فرق بينهما في الأركان والآداب، انتهى.
وقال
(3)
: في "باب تقضي الحائض المناسك كلها": قوله: وقال الله تعالى. . . إلخ، هذا بمنزلة المقدمة الثانية للدليل، يعني أن الذبح جائز مع الجنابة، مع أنه لا يجوز بدون ذكر الله، وحكم الجنابة والحيض سواء بالإجماع، انتهى.
وحكى شيخ المشايخ في "تراجمه" في "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها" أنه قال: يعلم راتبة قبل الجمعة من حديث الباب بالقياس على راتبة الظهر.
54 -
الرابع والخمسون: الإشارة إلى وقائع مخصوصة:
ما تقدم في كلام الحافظ في المقدمة، ورقمت عليه "التاسع": أن الإمام البخاري كثيرًا ما يترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادئ الرأي، كقوله:"باب استياك الإمام بحضرة رعيته"، فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل بعض الناس يتوهم أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استاك بحضرة الناس، دلَّ على أنه من باب التطيُّب لا من الباب الآخر، نبّه على ذلك ابن دقيق
(1)
"فتح الباري"(3/ 574).
(2)
(ص 112).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 124).
العيد
(1)
، انتهى.
هكذا في مقدمة "الفتح"، وحكاه القسطلاني في مقدمته وزاد فيه
(2)
: قال الحافظ ابن حجر: لم أر هذا في "البخاري"، فكأنه ذكره على التمثيل، انتهى.
قلت: هو كذلك، لم أره أيضًا في "البخاري"، نعم ترجم النسائي في "سننه""باب هل يستاك الإمام بحضرة رعيته؟ "، انتهى.
ولو أدخل هذا الأصل في الأصل الثاني عشر كان كافيًا، إلا أن الحافظ في "المقدمة" ذكرهما أصلين مستقلين، كما تقدم في كلامه.
ويمثل لذلك الأصل عندي بـ "باب دفع السواك إلى الأكبر"، فإنه إشارة إلى واقعة خاصة في اليقظة أو في المنام.
وترجم البخاري "باب علامة المنافق"، وأورد فيه حديث:"آية المنافق ثلاث".
حكى الخطابي
(3)
عن بعضهم: أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول، فيقول: فلان منافق، إنما يشير إشارة، انتهى. كذا في "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث".
ويمكن أن يدخل فيه باب "علامة المنافق"، وذكر فيه حديث أبي هريرة:"آية المنافق ثلاث".
وفي "البيان والتعريف": أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم، عن أبي هريرة، وحكى الخطابي عن بعضمهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول، فيقول: فلان منافق، إنما يشير إشارةً، كقوله:"ما بال أقوام يفعلون كذا"، انتهى.
(1)
انظر: "هدي الساري"(ص 14).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 44).
(3)
"أعلام السنن"(1/ 141).
وترجم الإمام البخاري "باب الأرواح جنود مجندة"، وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بذلك اللفظ، ويمكن التلويح بذلك إلى ما في "البيان والتعريف"، إذ قال: أخرجه الحاكم عن سلمان، والشيخان بلفظ "الأرواح جنود مجندة. . ." الحديث، وسببه عنه أن امرأة كانت تُضحك النساء بمكة قدمت المدينة، فنزلت على امرأة تُضحك النساء بالمدينة، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:"الأرواح. . ."، فذكره، انتهى.
ويشكل عليه أن الحافظ في "الفتح"
(1)
ذكر قصة المرأة هذه بلفظ آخر، برواية "مسند أبي يعلى"
(2)
عن عمرة قالت: كانت امرأة بمكة مزَّاحة فنزلت على امرأة مثلها بالمدينة، فبلغ ذلك عائشة قالت:"صدق حِبِّي، سمعته صلى الله عليه وسلم"، فذكر مثله، انتهى. وفيه أن الأول من حديث سلمان، والثاني من حديث عائشة.
ولا يبعد عندي أيضًا، أن يمثَّل هذا الأصل بـ "باب المؤمن يأكل في مِعًى واحد"، فإن هذه الترجمة بوَّب لها البخاري بابين، ويشكل على الشراح تكرار الترجمة، واختلفت التوجيهات في التكرار، حتى مال كثير منهم إلى غلط النساخ، ولا يبعد عندي أن الإمام أشار بإحدى الترجمتين إلى أمر مختص ببعض الوقائع.
قال الحافظ
(3)
: وقع في "مسلم"
(4)
عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر، فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له بشاة فشرب حلابها، ثم بأخرى فلم يستتمّها. . ." الحديث، وهذا الرجل يُشبه أن يكون جهجاه الغفاري.
(1)
"فتح الباري"(6/ 370).
(2)
"مسند أبي يعلى"(رقم 4381).
(3)
"فتح الباري"(9/ 538).
(4)
"صحيح مسلم"(ح: 2063).
فأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى
(1)
وغيرهما عنه أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم[المغرب]، فلمَّا سلَّم قال:"ليأخذ كل رجل بيد جليسه"، فلم يبق غيري، وكنت رجلًا عظيمًا طويلًا لا يقدم عليَّ أحدٌ، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فحلب لي عنزًا فأُتيتُ عليه، ثم [حلب لي] آخر، حتى حلب لي سبعة أعنز؛ فأُتيتُ عليها، ثم أُتيت بصنيع بَرمة فأَتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مه يا أم أيمن، أكَلَ رزقه، ورِزقُنا على الله".
فلما كانت الليلة الثانية وصلّينا المغرب صنع ما صنع في التي قبلها، فحلب لي عنزًا ورويت وشبعت، فقالت أم أيمن: أليس هذا ضيفنا؟ قال: "إنه أكل في مِعًى واحد الليلة وهو مؤمن، وأكل قبل ذلك في سبعة أمعاء، الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعًى واحد"، ثم ذكر قصة أخرى بنحوها. فلا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بإحدى الترجمتين إلى وقعة مخصوصة في ذلك.
55 -
الخامس والخمسون: الترجمة بحديث لا يثبت إشارة إلى أنه لم يجد فيه حديثًا:
ما تقدم أيضًا في كلام الحافظ عن "المقدمة"
(2)
، ورقمت عليه الحادي عشر، ولفظه: وربما اكتفى أحيانًا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرًا أو آية، فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي.
وللغفلة من هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض، انتهى.
(1)
انظر: "مسند ابن أبي شيبة"(2/ 109)(رقم 605)، و"مسند أبي يعلى"(رقم 916)، و"الآحاد والمثاني"(2/ 244).
(2)
انظر: "هدي الساري"(ص 14).
قلت: وبذلك جزم في "باب فضل العلم، وقول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ} الآية"[المجادلة: 11]، إذ قال بعد ذكر أقوال الشرَّاح الأُخر: وعن بعض أهل العراق: أنه تعمَّد بعد الترجمة عدم إيراد الحديث؛ إشارة إلى أنه لم يثبت فيه شيء على شرطه.
والذي يظهر لي أن هذا محله حيث لم يورد فيه آية ولا أثرًا، أما إذا أورد [آية أو أثرًا] فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه، وما دلت عليه الآية كاف في الباب
(1)
، انتهى.
وقريب من ذلك: ما قال الحافظ في "باب صدقة العلانية، وقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] "، قال: سقطت هذه الترجمة للمستملي وثبتت للباقين، وبه جزم الإسماعيلي، ولم يثبت فيها لمن أثبتها حديث، وكأنه أشار إلى أنه لم يصح فيها على شرطه شيء
(2)
، انتهى.
وقلت: قريب من ذلك؛ لأن لفظ الترجمة ليس لفظ حديث، وكذا قوله:"باب صدقة الكسب والتجارة، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية [البقرة: 267] "، ولم يذكر فيه حديثًا؛ كأنه لم يجده على شرطه، وترجم بـ "باب زكاة البقر"، ولم يذكر في الباب حديثًا نصًّا على ذلك.
حكى الحافظ عن الزين بن المنيِّر
(3)
: لم يذكر في الباب شيئًا مما يتعلق بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه، انتهى.
وترجم "باب العدل بين النساء: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 129] "، ولم يذكر فيه حديثًا، كأنه لم يجده على شرطه.
(1)
"فتح الباري"(1/ 141).
(2)
انظر: "فتح الباري"(3/ 289).
(3)
"فتح الباري"(3/ 324).
قال الحافظ
(1)
: وقد أخرج الأربعة عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل. . ." الحديث
(2)
.
وهذا الأصل ضد الأصل الأول.
والفرق بين هذا الأصل والأصل الثامن أيضًا واضح، فإن المذكور في الثامن كان ذكر الحديث بخلاف الترجمة، وههنا عدم ذكر الحديث إشارة إلى أنه لم يجد فيه حديثًا على شرطه، كما رأيت في كلام الحافظ.
وأيضًا الفرق بين هذا وبين التاسع والثلاثين أيضًا واضح، فإن المذكور فيه كان أمرين، والاستدلال فيه كان لأحد الجزئين فقط، كما تقدمت أمثلته.
56 -
السادس والخمسون: تقييد الأحاديث المطلقة:
ما قال الحافظ
(3)
في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه. . ." إلخ، قال: هذا تقييد من المصنف لمطلق الحديث، وحملٌ منه لرواية ابن عباس المقيدة بالبعضية على رواية ابن عمر المطلقة، كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في رواية ابن عباس بأنه النَّوح، انتهى.
وهذا غير الأصل الخامس، فإن التطبيق بين الروايتين غير حمل المطلق على المقيد؛ لأن فيه بقاء الحديث المقيد على حاله، ويقيد به الحديث المطلق، بخلاف حمل الحديثين معًا على محمل، وهذا معروف عند المشايخ.
(1)
"فتح الباري"(9/ 313).
(2)
أخرجه أبو داود (ح: 2134)، والترمذي (ح: 1140)، والنسائي في "الكبرى"(رقم 8891)، وابن ماجه (رقم 1971)، وابن حبان في "صحيحه"(رقم 4205)، والحاكم في "المستدرك"(رقم 2761).
(3)
"فتح الباري"(3/ 152).
وبذلك الأصل أخذ الحافظ في "باب ما جاء في غسل البول"، إذ قال
(1)
: قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله في رواية الباب: "كان لا يستتر من البول" بول الناس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها، ومحصل الرد أن العموم في رواية من البول أريد به الخصوص، لقوله:"من بوله"، أو الألف واللام بدل من الضمير، انتهى.
ويمكن أن يدخل في هذا الأصل "باب الصدقة باليمين"، فكأنه أشار بالترجمة إلى تقييد الأحاديث المطلقة باليمين للروايات المقيدة.
57 -
السابع والخمسون: باب بلا ترجمة رجوع إلى الأصل:
ما هو المعروف على ألسنة المشايخ أن الباب بلا ترجمة كثيرًا ما يكون رجوعًا إلى الأصل.
وأخذ بذلك الحافظ في "باب" بلا ترجمة، بعد "باب فضل ربنا لك الحمد"، إذ قال
(2)
: كذا للجميع بلا ترجمة إلا للأصيلي فحذفه، والراجح إثباته؛ لأن الأحاديث المذكورة فيه لا دلالة فيها على فضل "اللّهم ربنا لك الحمد" إلا بتكلف، فالأولى أن يكون بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، كما تقدم في عدة مواضع، وذلك أنه لما قال أولًا:"باب ما يقول الإمام ومن خلفه. . ." إلخ، وذكر فيه قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم ربنا لك الحمد"، استطرد إلى ذكر فضل هذا القول بخصوصه، ثم فصل بلفظ "باب" لتكميل الترجمة الأولى، فأورد بقية ما ثبت على شرطه مما يقال في الاعتدال، انتهى.
ويدخل في ذلك أيضًا "باب" بلا ترجمة، بعد "باب قطع الشجر
(1)
"فتح الباري"(1/ 321).
(2)
"فتح الباري"(2/ 284).
والنخل"؛ فإنه ذكر في هذا الباب حديث رافع بن خديج، ولا تعلق له بقطع الشجر أصلًا، فهو رجوع على ما قبله من "باب المزارعة"، وهو "باب إذا قال: اكفني. . ." إلخ.
ويدخل في ذلك أيضًا "باب" بلا ترجمة بعد "باب حديث الخضر مع موسى عليه السلام"، فإن المذكور بعد الباب الثاني لمَّا لم يكن له تعلقٌ ما بقصة الخضر، بل كان له تعلق بقصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، نَبَّهَ على ذلك بـ "باب" بلا ترجمة رجوعًا إلى الأصل.
ونظائره كثيرة في "الصحيح".
وهذا غير الأصل العشرين، والفرق بينهما واضح، فإن المذكور في العشرين كالفصل لما سبق، فإن مؤدَّاه أن له تعلقًا بالباب السابق، وميّز عنه بالباب لنوع من الفرق، بخلاف هذا فإنه رجوع إلى الباب الذي تقدم قبل ذلك.
وهكذا الفرق بين هذا الأصل وبين الخامس والعشرين والسابع والثلاثين ظاهر.
58 -
الثامن والخمسون: الإشارة إلى حديث في تفسير الآية:
ما يستنبط من كلام الحافظ في "باب قوله عز وجل {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} الآية [الأحقاف: 29] "، أن الإمام البخاري أشار بذكر الآية إلى حديث تفسيرها، إذ قال
(1)
: لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثًا، واللائق به حديث ابن عباس الذي تقدم في صفة الصلاة في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ واستماع الجن لقراءته، وقد أشار عليه المصنف بالآية التي صدَّر بها هذا الباب، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(6/ 347).
وقال أيضًا في "باب أمور الإيمان، وقول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية [البقرة: 177] ": وجه الاستدلال بهذه الآية، ومناسبتها لحديث الباب تظهر من الحديث
(1)
الذي رواه عبد الرزاق وغيره: أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فتلا عليه: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآية
(2)
، انتهى.
وقال أيضًا في "باب فضل العلم، وقول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية [المجادلة: 11] "، بعد ذكر أقوال الشرَّاح الأُخر: والذي يظهر لي أن هذا - أي: الذي قالته الشرَّاح - محلّه حيث لم يورد فيه آية ولا أثرًا، أما إذا أورد آية أو أثرًا، فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه
(3)
، انتهى.
وقال أيضًا في "باب صدقة الكسب والتجارة، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا} الآية [البقرة: 267] "، هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرًا على الآية بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية، قال: من التجارة الحلال، إلى آخر ما بسطه
(4)
.
وقال العيني
(5)
في "باب قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ": وجه إدخال هذه الترجمة في أبواب الاستسقاء؛ لأن هذه الآية فيمن قالوا: الاستسقاء بالأنواء؛ على ما روى عبد بن حميد الكشي في تفسيره، فذكر الحديث عن ابن عباس بسنده.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(رقم 20110)، والحاكم في "المستدرك"(رقم 3077).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 50).
(3)
"فتح الباري"(1/ 141).
(4)
"فتح الباري"(3/ 307).
(5)
"عمدة القاري"(5/ 292).
59 -
التاسع والخمسون: الإشارة إلى مبدأ الحكم:
ما ظهر لهذا الفقير إلى مغفرة ربه أن الإمام البخاري كثيرًا ما يذكر في مبدأ الكتاب ما يدل على مبدأ الحكم المذكور في الكتاب، كما قال في مبدأ "كتاب الصلاة":"باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء"، وقال ابن عباس: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل. . . إلخ، قال الحافظ
(1)
: وفيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة؛ لأن أبا سفيان لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاءً يتهيأ له معه أن يكون آمرًا له بطريق الحقيقة، انتهى.
وترجم الإمام البخاري في مبدأ "كتاب الوضوء": "باب ما جاء في قوله الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] "، وبسط الحافظ الاختلاف الكثير في تفسير الآية ومبدأ حكم الوضوء، وقال في ذيل ذلك: وتمسَّك بالآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، إلى آخر ما بسطه
(2)
، وترجم "كتاب التيمم"، وذكر فيه حديث بدء التيمم مفصَّلًا.
وترجم في مبدأ "كتاب الجمعة": "باب فرض الجمعة لقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} الآية [الجمعة: 9] "، قال الحافظ
(3)
: استدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في "الأم"، واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر على أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة وهي مدنية، انتهى.
قلت: وهذا وإن كان مخالفًا للحنفية، فإنها فرضت عندهم بمكة، لكن الإمام البخاري ليس بمقلد للحنفية، فإشارته بتلك الآية إلى ما هو المختار عنده واضح.
(1)
"فتح الباري"(1/ 460).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 232).
(3)
"فتح الباري"(2/ 354).
وترجم بـ "كتاب الزكاة"، وذكر في مبدئه أيضًا حديث ابن عباس في قصة هرقل، وعلى ما تقدم قريبًا في كلام الحافظ في مبدأ الصلاة يستأنس ههنا أيضًا الإشارة إلى مبدأ فرضيتها.
وقال في مبدأ "كتاب الحج": "باب وجوب الحج، وقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} الآية [آل عمران: 97] "، ففيه إشارة إلى فرضية الحج بعد الهجرة ردًّا على من قال بفرضيتها قبل الهجرة؛ لأن سورة آل عمران مدنية.
وبدأ "كتاب الصوم" بـ "باب وجوب صوم رمضان، وقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية [البقرة: 183] "، قال الحافظ
(1)
: أشار بذلك إلى مبدأ فرض الصيام، انتهى.
قلت: والبقرة أيضًا مدنية، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالأصل التاسع، ولا بالرابع والخمسين، فإن الأصول الثلاثة متمايزة.
60 -
الستون: التراجم المثبتة للترجمة السابقة:
ما يظهر من التدبر في تراجمه، أنه قد يذكر ترجمة لإثبات الترجمة السابقة، فهي تكون مثبِتة - بكسر الموحدة لا بفتحها - حتى يحتاج لها إلى دليل.
وقد جزم بذلك السندي أيضًا، كما تقدم من كلامه في الأصل السابع، وأدخل السندي في هذا الأصل "باب إذا قال أحدكم: آمين"، كما تقدم، وهو الأوجه عندي في هذه الترجمة.
وكذا يدخل في هذا الأصل عندي التراجم الواردة في "باب وجوب الثياب" من قوله: "ومن صلَّى ملتحفًا في ثوب واحد"، فإن الشرَّاح اضطربوا
(1)
"فتح الباري"(4/ 103).
في إثباتها بالحديث، وأتوا لذلك بتوجيهات عديدة لإثباتها ولدفع التكرار عنها، فإن هذه الترجمة ستأتي قريبًا مستقلة، وليست الترجمة عندي مثبَتة - بفتح الموحدة - حتى يقال فيها ما قالوا، بل هي مثبِتة - بكسر الموحدة - لوجوب الثياب.
وكذلك قوله: "ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه" مثبت لما سبق، فلا يحتاج لإثباته إلى دليل.
وهكذا قوله: "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان"، يشكل عليه بوجهين:
أحدهما: عدم ثبوته بالحديث الوارد في الباب، والثاني: أن المسألة من "كتاب الحج"، وسيأتي في محله "باب لا يطوف بالبيت عريان"، وعلى ما اخترته في ذلك من أنه ليس بمقصود بالذكر، بل ذكره مبالغةً في وجوب الثياب للصلاة، فإنه صلى الله عليه وسلم منع الطواف بالبيت عريانًا، والطواف بالبيت صلاة حكمًا، فكيف بالصلاة حقيقة.
وهكذا ترجم الإمام البخاري "باب فضل استقبال القبلة"، وذكر فيه قوله:"يستقبل بأطراف رجليه القبلة"، وأورد عليه بوجوهٍ، منها: عدم الثبوت، وأيضًا أي تعلق لاستقبال الأطراف بفضل الاستقبال.
وأشدّ منهما أن الترجمة ستأتي مستقلة في محلِّها في "صفة الصلاة".
وتزول الإشكالات كلها على ما اخترته من أن الترجمة مثبِتة لفضل الاستقبال، بأنه إذا روعي الاستقبال في أطراف الرِّجلين أيضًا فما بال استقبال الوجه، وأما إثباتها فسيأتي في محلها من "صفة الصلاة".
وهكذا ترجم الإمام البخاري "باب هل ينبش قبور المشركين؟. . ." إلخ، وذكر فيه: وما يكره من الصلاة في القبور.
ويشكل هذا الجزء على الشرَّاح جدًّا لوجهين:
الأول: عدم الثبوت بالحديث الوارد فيه.
والثاني: التكرار، فإنه سيأتي قريبًا "باب كراهية الصلاة في المقابر".
ووجّهوا لدفع هذين الإيرادين بوجوه عديدة بعيدة عندي من دقة نظر الإمام البخاري.
ومنشأ الإيرادات كلها أنهم رضي الله عنهم أجمعين - جعلوا عطفه على قوله: "هل ينبش"، وجعلوه ترجمة مستقلة، فأشكل الأمر عليهم.
والأوجه عند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه: أنه معطوف على لفظ قوله النبي صلى الله عليه وسلم تحت اللام، فهو دليل للترجمة السابقة، أي: ينبش قبور المشركين لقوله صلى الله عليه وسلم، ولما يكره من الصلاة في القبور، وهو واضح عندي.
ولا يرد عليه حينئذ إيراد أصلًا حتى يحتاج لدفعه إلى توجيهات، ولا يذهب عليك أن لفظة "هل" في الترجمة بمعنى "قد" عند الشرَّاح، وهو في معناه عند هذا العبد الضعيف، كما تقدم في الأصل الثاني والثلاثين.
61 -
الحادي والستون: تغيير الترجمة على حديث:
ما ظهر أيضًا لهذا المبتلى بالسيئات - غفر الله له الزلَّات -: أن الإمام البخاري قد يغيّر سياق التراجم على الأحكام الواردة في الأحاديث على نسق واحد.
مثلًا: وردت في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها الروايات على سياقين:
أحدهما: النهي عن الصلاة عند الطلوع والغروب مطلقًا كما في حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب"
(1)
، وهكذا ورد في روايات عديدة.
والسياق الثاني ما أورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 581).
"لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها"
(1)
.
والإمام البخاري رضي الله عنه أورد السياقين معًا في "صحيحه"، لكنه ترجم على النهي عند الطلوع بالإطلاق، فقال:"باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس"، وترجم على الثاني "باب لا تتحرى الصلاة عند غروب الشمس"، ولم يتعرض لذلك الشرَّاح، إلا ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
أنه رحمه الله تعالى نبَّه بذلك إلى اختلاف المذاهب، ومال السندي إلى توجيه أحاديث التحرِّي إلى أحاديث الإطلاق.
والأوجه عندي: أن ذلك فعله الإمام البخاري قصدًا وتنبيهًا، على أنه لم يرد في أحاديث الصلاة عند الطلوع ما يخالف حديث النهي، فرجَّح في ذلك أحاديث الإطلاق، ووقع في الصلاة بعد العصر ما سيأتي في "باب ما يصلى بعد العصر" من ثبوت الصلاة بعد العصر على شرط البخاري، فرجَّح الإمام في الجزء الأول - أي: الفجر - أحاديث النهي مطلقًا، ورجح في الجزء الثاني أحاديث التحرِّي.
وهكذا روى الإمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: "أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يَسجد على سبعة أعظم، ولا يكفّ شعره ولا ثوبه"
(3)
بسياق واحد في الفعلين، وغيَّر الإمام البخاري سياق الترجمتين، فترجم "باب لا يكفّ شعرًا" و"باب لا يكفّ ثوبه في الصلاة" تنبيهًا على الاختلاف في الثاني، هل هو مقيّد بالصلاة أو لا؟ كما بسط في الشروح، وهكذا ورد في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل"
(4)
، هكذا ورد في روايات عديدة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأمرين على سياق واحد.
وغيّر الإمام البخاري سياق الترجمتين، فترجم أولًا "باب لبس الخفين
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 582).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 64).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 815).
(4)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 5804)، و"صحيح مسلم" (ح: 1179).
للمحرم إذا لم يجد النعلين"، وترجم ثانيًا "باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل"، وحملوا ذلك على تفنن الإمام رحمه الله، وليس كذلك، بل لما كان لبس الخفين لمن لم يجد النعلين اختيارًا، إن شاء لبس وإن شاء لم يلبس، ولا مانع في الاحتفاء، ترجم عليه الإمام البخاري ما يدل على الجواز، وكان لبس السراويل لمن لا يجد الإزار حتمًا واجبًا لوجوب ستر العورة، ترجم على ذلك بلفظ "فليلبس" الدال على الوجوب.
ونظائر هذا الأصل - الذي خاطري أبو عذره - كثيرة في "الصحيح"، تظهر من التدبر في تراجمه.
مثلًا: ترجم "باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"، وذكر فيه حديث شدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد، ولم يذكر في الترجمة الصلاة ببيت المقدس مع كونها في الحديث، ثم ترجم "باب مسجد بيت المقدس"، ولم يذكر في الترجمة لفظ الصلاة، وذكر فيه أيضًا حديث شدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد.
ومثلًا: ترجم "باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء" مطلقًا، ولم يقيده بقيد، وترجم للجمع بين الظهر والعصر مفصلًا بترجمتين، فترجم "باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس"، ثم ترجم "باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب".
والمسألة خلافية شهيرة ليس هذا محلها، وغرضي من ذلك التنبيه على تغير سياق التراجم على الأحكام الواردة في الأحاديث بنسق واحد، كما ترجم "باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غيرَ مفسد"، ثم ترجم "باب أجر المرأة إذا تصدقت. . ." إلخ، فقيَّد الأولى بأمر صاحبه دون الثانية، مع اتحاد سياق الرواية من التراجم الكثيرة في "الصحيح" تظهر بأدنى تأمل.
ويقرب من ذلك الأصل، وإن لم يكن داخلًا فيه، تغيُّر التراجم في الخطب، إذ ترجم في الجمعة "باب استقبال الناس الإمام إذا خطب" وفي "العيد"" [باب] استقبال الإمام الناس في خطبة العيد"، وفي "الاستسقاء""باب استقبال القبلة في الاستسقاء"، ووجوه تلك كلها واضحة.
62 -
الثاني والستون: تغيير الترتيب الوجودي:
ما ظهر أيضًا، أن الإمام البخاري طالما يغيّر الترتيب الوجودي لمصلحة شحذ الأذهان ليتدبر في ذلك الناظر، ولم أر من نَبَّهَ على ذلك الأصل من كلام المشايخ المذكورين في الفائدة الثانية.
مثاله: أنه ترجم "باب الأذان بعد الفجر" على الأذان قبل الفجر، قال الزين بن المنيِّر: قدَّم المصنف ترجمة الأذان بعد الفجر على ترجمة الأذان قبل الفجر، فخالف الترتيب الوجودي؛ لأن الأصل في الشرع أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، فقدم ترجمة الأصل على ما ندر عنه، وأشار ابن بطال إلى الاعتراض على الترجمة، بأنه لا خلاف بينه وبين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر.
والذي يظهر لي أن مراد المصنف بالترجمتين أن يُبَيِّن أن المعنى الذي كان يؤذَّن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذَّن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، كذا في "الفتح"
(1)
.
وهذا هو الوجه عندي: أن الأذان بعد الفجر لما كان أصل أذان الصلاة بخلاف الأذان قبل الفجر - فإنه لم يكن للصلاة، بل لمصالح أُخر، الواردة في الأحاديث - قدم الذي هو الأصل.
ومن ذلك الأصل: أنه قدم الرواتب البعدية على الرواتب القبلية سوى ركعتي الفجر، فإنه رحمه الله ترجم أولًا "باب التطوع بعد المكتوبة"، ثم ترجم "باب الركعتين قبل الظهر"، ونَبَّهَ على ذلك الحافظ إذ قال
(2)
: "باب التطوع بعد المكتوبة"، ترجم أولًا بما بعد المكتوبة، ثم ترجم بعد ذلك بما قبل المكتوبة، انتهى. كذا قال، ولم يذكر الحافظ له وجهًا.
والأوجه عندي أن الإمام البخاري نَبَّهَ بذلك على الاختلاف في ترتيب
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 101).
(2)
"فتح الباري"(3/ 50).
الأفضلية في الرواتب بعد اتفاقهم على أن راتبة الفجر آكدها، ولذا قدَّمها الإمام البخاري، ثم اختلفوا في الرواتب الباقية، كما بسط الاختلاف في ذلك في "الأوجز"
(1)
.
وترجم "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها"، قدّم البعد على القبل، بخلاف "باب الصلاة قبل العيد وبعدها". قال الحافظ
(2)
: قال ابن المنيِّر في الحاشية، كأنه يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدَّمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد، انتهى.
ووجه العناية المذكورة ورود الخبر في البَعد صريحًا دون القبل، انتهى.
ويقرب من ذلك أنه رحمه الله قدّم نوم المرأة في المسجد على نوم الرجال، وكان مقتضى الظاهر عكسه، ولم يتعرض لذلك الشرَّاح، والأوجه عندي أنه رحمه الله فعل ذلك قصدًا؛ لأن الجواز في المرأة كان أبعد لاحتمال الفتنة والطمث وغير ذلك.
ويقرب من ذلك أيضًا ما قال الحافظ إذ قال: قدّم الإمام البخاري الآية التي من سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أن الكلمة التي في المائدة {فَاطَّهَّرُوا} فيها إجمال، والكلمة التي في سورة النساء:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، فيها تصريح بالاغتسال وبيان للتطهير المذكور، إلى آخر ما قال الحافظ
(3)
.
وكذلك قدم "باب الإبراد بالظهر"، وهو صفة من صفات الأوقات على "باب وقت الظهر".
وعندي في ذلك دقيقة تأتي في هامش "اللامع"
(4)
في محلها.
(1)
"أوجز المسالك"(3/ 438).
(2)
"فتح الباري"(2/ 426).
(3)
"فتح الباري"(1/ 359).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 16).
وهكذا أخّر "باب زكاة البقر" عن زكاة الإبل والغنم، فإنه ترجم أولًا للإبل ثم للغنم، ثم ترجم لزكاة البقر، وكان حقها التوسط.
قال الزين ابن المنيِّر
(1)
: أخَّرها لأنها أقل وجودًا ونُصُبًا، ولم يذكر في الباب شيئًا مما يتعلق بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه.
وترجم في "كتاب الصوم": "باب الحائض تترك الصوم والصلاة" على خلاف الحديث، فقد قدّم في الحديث الصلاة على الصوم، وغير ذلك من التراجم الكثيرة.
63 -
الثالث والستون: إدخال الباب الأجنبي في التراجم المناسبة:
أنه رحمه الله طالما يدخل الباب الأجنبي بين الأبواب المتناسقة للتنبيه على لطيفة يرشد الناظر إلى التدبر في ذلك.
مثاله: أنه رحمه الله أدخل "باب الجهاد من الإيمان" بين "باب قيام ليلة القدر من الإيمان"، و"باب تطوع قيام رمضان من الإيمان".
قال الحافظ
(2)
: أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلق أحدهما بالآخر ظاهر، فلنكتة لم أر من تعرَّض لها، بل قال الكرماني
(3)
: صنيعه هذا دالٌّ على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكها في كونها من خصال الإيمان.
قال الحافظ: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة بالتماس ليلة
(1)
"فتح الباري"(3/ 324).
(2)
"فتح الباري"(1/ 92).
(3)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(1/ 159).
القدر حسنة جدًا؛ لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظةً زائدة ومجاهدةً تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا، وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلّا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا، فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرًا، والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرًا، انتهى.
ويدخل في ذلك الأصل عندي "باب احتساب الآثار" بين "باب فضل التهجير إلى الظهر" و"باب فضل صلاة العشاء في الجماعة"، والأوجه عندي أنه رحمه الله ذكر "باب الاحتساب" بعد "باب فضل التهجير" تنبيهًا على أنه لا ينبغي له تطويل الأقدام والسعي لشدة الحر، فإنه ينافي الوقار والسكون في المشي إلى الصلاة، بل ينبغي له أن يمشي بتقارب الأقدام على هيئة السكون والوقار المطلوبين، المأمور بهما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا" الحديث، أخرجه البخاري
(1)
في "باب ما أدركتم فصلُّوا"، وغير ذلك من الروايات العديدة المختلفة في كون الوقار والسكون مأمورين في المشي إلى الصلاة.
وقد ترجم أبو داود "باب الهدي في المشي إلى الصلاة"، وأخرج فيه عن كعب بن عجرة مرفوعًا النهي عن التشبيك لمن خرج عامدًا إلى الصلاة
(2)
، وعن رجل من الأنصار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حَطّ الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد. . ."
(3)
الحديث، فترجم الإمام البخاري بـ "باب الاحتساب" تنبيهًا على تقارب الخطا الموجب لكثرة الأجر.
(1)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 636).
(2)
انظر: "سنن أبي داود"(ح: 562).
(3)
أخرجه أبو داود (ح: 563).
ويدخل في هذا الأصل عندي "باب قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} " الآية [البقرة: 197]، بين أبواب مواقيت الحج تنبيهًا على أن التقوى مطلوب في سفر الحج كله، لكنه فيما بين المواقيت أشد اهتمامًا.
وهكذا عندي توسيط "باب صوم الدهر" بين أبواب الحقوق داخل في هذا الأصل.
وهكذا إدخال "باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم" بين أبواب النهي عن شق الجيوب والحلق وغيرهما.
ويقرب من ذلك الأصل عندي فصل الأبواب العديدة بين بابي "الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة" و"الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب"، فإن الجدير باتباع الآية وهي قوله تعالى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] كان أن يذكر البابان متصلًا، لكن الإمام البخاري رحمه الله لعله أشار بالتفريق بينهما إلى أنهما حُكمان مستقلان، الأول للقريب، والثاني للبعيد عن الإمام، لذا بَعَّدَ الباب الثاني عن الأول.
ويستأنس ذلك من كلام شيخ المشايخ في "تراجمه"، إذ قال:"باب الإنصات. . ." إلخ، عقد المؤلف الباب السابق لاستماع الخطبة، وهذا الباب للإنصات وقت الخطبة، إذ لا تلازم بينهما؛ لأن من يكون بعيدًا عن الإمام لا يجب الاستماع عليه، وإنما يجب الإنصات، انتهى.
وتراجم أبواب الوضوء جلّها داخلة عندي في هذا الأصل، وما أورد الشراح جلّهم على الإمام البخاري من عدم المناسبة بين أبواب الوضوء ليس بصحيح عندي، بل كلها متناسبة فيما بينها، إلا أنه رحمه الله على دأبه في النظر إلى الدقائق يُنبِّه بذلك إلى نكات لطيفة جديرة بشأن تفنُّن البخاري.
مثلًا: أوردوا على "باب غسل الوجه باليدين"، بأنه في غير محلِّه، وليس كذلك، بل الغرض منه التنبيه على تكميل الباب السابق بأن الإسباغ قد يتم بمعاونة اليدين، ولا يحتاج إلى كثرة الماء، فلذا قيده بغرفة واحدة.
وهكذا أوردوا على "باب التسمية" بأن حقه كان التقديم على الباب السابق، وليس كذلك عندي، بل هو في محله، وإنما أراد البخاري منه التسمية عند الدخول في الخلاء، ولذا قدمه على "باب ما يقول عند الخلاء"، والوضوء عندي لم يشرع بعد.
وهكذا أوردوا على "باب غسل الأعقاب"، فإنه في غير محلِّه جدًا، وليس كذلك عندي، بل ذكره بعد المضمضة، إشارة إلى ندب الغرغرة في المضمضة.
وليس باب منها إلا وله مناسبة لطيفة بالمحل الذي ذكره فيه البخاري، إلا أنه إذا ذكر مسألة في محلٍّ لمناسبة لا يعيدها مرة أخرى في محله تحرزًا عن التكرار، فللَّه ما أدقّ نظره!
وسيأتي شيء من ذلك في أول أبواب الوضوء في هامش "اللامع"
(1)
، ولا يلتبس عليك هذا الأصل بالسابع والستين.
64 -
الرابع والستون: تبديل لفظ الحديث في الترجمة لبديعة:
ما ظهر لهذا الفقير أيضًا أن الإمام البخاري قد يُغَيِّر لفظ الحديث في الترجمة لبديعة يرشد إليها الناظر شحذًا لذهنه في أنواع الاستخراج من الحديث.
مثلًا: ورد في الحديث ولفظه للبخاري: "من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نُزُله من الجنة كلما غدا أو راح"
(2)
، وترجم عليه في نسخة "الفتح"
(3)
وغيره: "باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح"، قالوا: هذه الترجمة أقرب وأوضح لموافقة سياق الحديث.
لكن النسخ التي بأيدينا فيها: "باب فضل من خرج إلى المسجد
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 93).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 662).
(3)
انظر: "فتح الباري"(2/ 148) و"عمدة القاري"(4/ 253).
ومن راح"، وهذا السياق أوجه عندي وأجدر بشأن البخاري، وغيّر لفظ "غدا" الوارد في الحديث بلفظ "خرج" في الترجمة لبديعةٍ، وهي: أن المعروف في اللغة: الغدوة: المضي من بكرة النهار، والرواح: من الزوال.
وعلى هذا فمقتضى الحديث: فضل من أكثر الخروج إلى المسجد، لكن الغدو قد يطلق على الخروج مطلقًا، كما هو معروف، والرَّواح قد يطلق على الرجوع.
قال الحافظ
(1)
: "باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح" هكذا للأكثر موافقًا للفظ الحديث في الغدو والرواح، ولأبي ذر بلفظ "خرج" بدل "غدا". وعلى هذا، فالمراد بالغدو: الذهاب، وبالرواح: الرجوع، انتهى.
قلت: وهذا الذي أراد البخاري عندي، وأشار بذلك إلى الفضل في الخروج إلى المسجد والرجوع منه، وكأنه أومأ بذلك إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود
(2)
واللفظ له عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رجل لا أعلم أحدًا من الناس ممن يصلي القبلة من أهل المدينة أبعد منزلًا من المسجد من ذلك الرجل، وكان لا تخطئه صلاة في المسجد، فقلت: لو اشتريت حمارًا تركبه في الرمضاء والظلمة، فقال: ما أحب أن منزلي إلى جنب المسجد، فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك، فقال: أردت يا رسول الله أن يكتب لي إقبالي إلى المسجد، ورجوعي إلى أهلي إذا رجعت، فقال: أعطاك الله ذلك كله، أنطاك الله ما احتسبت كله أجمع".
وعزاه السيوطي في "الدر"
(3)
إلى ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، وابن مردويه، ولفظه: فقال: يا رسول الله! كيما يكتب أثري وخطاي ورجوعي إلى أهلي وإقبالي وإدباري: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطاك الله ذلك كله، وأعطاك ما احتسبت أجمع".
(1)
"فتح الباري"(2/ 148).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 663)، و"سنن أبي داود" (ح: 557).
(3)
انظر: "الدر المنثور"(7/ 47).
فهذا الحديث لما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه بالتغير في سياق الترجمة، ولا التباس بين هذا الأصل وبين الأصل الثالث والأربعين.
65 -
الخامس والستون: لا يترجم على بعض أجزاء الحديث لعدم أخذه به:
ما هو الظاهر من النظر إلى تراجم البخاري، والروايات الواردة في هذه التراجم، أن البخاري كثيرًا ما يورد الروايات المتضمِّنة لأحكام عديدة، لكنه لا يأخذ بجملتها، فيترجم على بعضها دون بعض:
مثلًا: أخرج رواية صدقة الفطر وذكر فيها صاعًا من طعام، وصاعًا من شعير، وصاعًا من تمر، وصاعًا من أقط، وغير ذلك، وترجم لتلك الأنواع مستقلًا، ولم يترجم للأقط.
قال الحافظ
(1)
: كأن البخاري أراد بتفريق هذه التراجم الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع إلا أنه لم يذكر الأقط، وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئًا في حال وجدان غيره، كقول أحمد، وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك أو لم يقدر على غيره، انتهى.
وقال العيني
(2)
: ولما كان حديث أبي سعيد الخدري مشتملًا على خمسة أصناف، وضع لكل صنف ترجمةً غير الأقط تنبيهًا على جواز التخيير بين هذه الأشياء في دفع الصدقة، ولم يذكر الأقط، كأنه لا يراه مجزئًا عند وجود غيره، كما هو مذهب أحمد، انتهى.
وأنت خبير بأن الوارد في الحديث ذكر الأقط على منوال الأصناف الأخر.
وترجم البخاري للجمع بين المغرب والعشاء مطلقًا، وفصل الترجمتين
(1)
"فتح الباري"(3/ 372).
(2)
"عمدة القاري"(6/ 586).
في الجمع بين الظهرين، ولم يترجم لهما، كالجمع بين العشائين، وأغفل عن ذلك الحافظ على دأبه لكونه خلاف مسلكه.
وكذلك لم يترجم بـ "باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" في أواخر التشهد مع إخراجه روايات الصلاة في "كتاب الدعوات" كثيرًا.
ولم يترجم لتعدد الركوع في "أبواب الكسوف" مع تخريجه رواية التعدد، بل الرواية التي ذكرها في "باب الصلاة في كسوف الشمس" من مستدلات الحنفية في عدم التعدد، وتخلَّص الحافظ عن ذلك لكونه خلاف مسلكه، بقوله: ابتدأ البخاري أبواب الكسوف بالأحاديث المطلقة في الصلاة بغير تقييد بصفة، إشارةً منه إلى أن ذلك يعطي أصل الامتثال، وإن كان إيقاعها على الصفة المخصوصة عنده أفضل
(1)
، انتهى.
وأنت ترى أي مانع كان للإمام الهمام عن التنبيه على اختيار الأفضل منه، وهكذا لم يذكر قنوت الفجر في أبواب صلاة الفجر، بل ذكر القنوت في الوتر، وهل هذا إلا إيماء منه أنه يرى القنوت في الوتر دون الفجر.
66 -
السادس والستون: بعض التراجم تفصيل لما أجمل أوَّلًا:
ما ظهر لي أيضًا أن بعض تراجمه قد يكون تفصيلًا لما أجمل أولًا، فحينئذ لا يحتاج إلى توجيه تلك التراجم المفصَّلة، وإثبات غرض خاص بها.
مثلًا: ترجم أولًا "باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلّها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت"، ثم ذكر الأبواب الكثيرة تفصيلًا لذلك الباب، فلا يحتاج إلى إثبات غرض لكل باب، ولا يرد ما أوردوا على الإمام في بعض الأبواب أنه لا فائدة في ذكر هذا الباب.
(1)
"فتح الباري"(2/ 529).
مثلًا: ترجم بعد ذلك "باب الجهر في المغرب" و"باب الجهر في العشاء"، وقال الحافظ في "باب الجهر في المغرب"
(1)
: اعترض الزين ابن المنيِّر على هذه الترجمة والتي بعدها بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه، وهو عجيب؛ لأن الكتاب موضوع لبيان الأحكام من حيث هي، وليس هو مقصورًا على الخلافيات، انتهى.
وأنت خبير بأنهم إذا أجمعوا على دقائق تراجم البخاري، وعلى أن فقه الإمام في تراجمه، وأن تراجمه لا تكون مثل تراجم الكتب الأخر لمجرد إثبات الأحكام، فلا عجب في إيراد الزين ابن المنيِّر، وقد أقرّ بذلك الحافظ بمواضع من "شرحه"، وحكى العيني
(2)
في "باب لا يقبل الله صدقة من غلول" عن ابن المنيِّر عادة البخاري الاستدلال بالخفي وترك الجلي.
وتقدم في الفائدة الثالثة من الفصل الثاني عن الحافظ
(3)
: أن الإمام البخاري رأى أنه لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحِكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة، إلى آخر ما تقدم، وحكى فيه عن الشيخ محيي الدين: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها، وغير ذلك من أقاويل العلماء: إن غرض البخاري من تأليفه ليس مجرد ذكر الروايات، بل غرضه دقائق الاستنباط، فالتفصِّي عندي عن إيراد الزين ابن المنيِّر أن هاتين الترجمتين ليستا بمستقلتين، بل هما تفصِّلان لما أجمل أولًا.
وهكذا ترجم أولًا "باب فرض مواقيت الحج والعمرة"، وهو جدير لشأن البخاري لعدة أبحاث في ذلك، ثم فصَّل ذلك بأبواب المواقيت للبلاد، فلا يحتاج حينئذ إلى إثبات وجه جديد لميقات أهل المدينة، أو أهل نجد، أو غير ذلك.
(1)
"فتح الباري"(2/ 248).
(2)
"عمدة القاري"(6/ 368).
(3)
انظر: "هدي الساري"(ص 8).
وكذلك ترجم "باب قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] " الآية، ثم فصَّل ذلك في عدة أبواب.
ولا ينافي ذلك أن في بعض هذه التراجم المفصَّلة أيضًا إشارات وتنبيهات ذكرها اهتمامًا بشأنها، وإلا فالغرض كان تفصيلًا لما أجمل أولًا لئلا يرد على الإمام الهمام ما أوردوا في هذه التراجم من عدم الفائدة بذكرها.
67 -
السابع والستون: التراجم في غير محلها:
ما ظهر لهذا الفقير أيضًا: أن الإمام البخاري قد يذكر التراجم في غير محلِّها.
مثلًا: ذكر بابي السجود في أبواب الثياب، وذكر بابي الثياب في أبواب صفة السجود، وحملت الشراح ذلك على وهم الإمام أو غلط النساخ.
قال الحافظ في أبواب الثياب: قوله: "باب إذا لم يتم السجود"
(1)
، كذا وقع عند أكثر الرواة هذه الترجمة وحديث حذيفة فيها، والترجمة الآتية، وحديث ابن بحينة
(2)
فيها موصولًا ومعلقًا، ولم يقع عند المستملي شيء من ذلك، وهو الصواب؛ لأن جميع ذلك سيأتي في مكانه اللائق به، وهو "أبواب صفة الصلاة"، ولولا أنه ليس من عادة المصنف إعادة الترجمة وحديثها معًا لكان يمكن أن يقال: مناسبة الترجمة الأولى لـ "أبواب ستر العورة" الإشارة إلى أن من ترك شرطًا لا تصح صلاته كمن ترك ركنًا، ومناسبة الترجمة الثانية: الإشارة إلى أن المجافاة في السجود لا تستلزم عدم ستر العورة فلا تكون مبطلة للصلاة، وفي الجملة إعادة هاتين الترجمتين ههنا وفي "أبواب السجود" الحمل فيه عندي على النساخ بدليل سلامة رواية
(1)
"فتح الباري"(1/ 495).
(2)
"صحيح البخاري"(ح 390).
المستملي من ذلك وهو أحفظهم، انتهى. وإلى ذلك مالت الشرَّاح عامة.
وقال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
: قوله: "باب إذا لم يتم السجود"، نقل عن الفربري أن بعض أوراق الكتاب كان غير ملتصق بالكتاب، فوقع الخطأ من بعض النُّسَّاخ في إلحاق تلك الأوراق، فألحقوها في غير الموضع الذي أراد المصنف إلحاقها فيه في نفسه، وهذا الباب في هذا المقام من هذا القبيل، وكذا الأبواب الآتية؛ لأنها في الحقيقة من أبواب صفة الصلاة فاحفظ، انتهى.
وأنت خبير بأن ما أورده الحافظ من تكرار الترجمة والحديث يتمشى في بابي السجود، لكن لا يتمشى في بابي الثياب، فإنه ترجم في "صفة السجود" بـ "باب عقد الثياب وشدها. . ." إلخ وبـ "باب لا يكف ثوبه في الصلاة"؛ فإن هذين البابين لم يتكرَّرا لا ترجمةً ولا حديثًا، فبقي الإيراد بذكرهما في صفة السجود.
وما أفاد شيخ المشايخ يشكل عليه أيضًا أنه لو كان الأمر كما حكي عن الفربري كانت الترجمتان في موضع واحد لا في موضعين، وأيضًا يشكل عليه وعلى ما قاله الحافظ أيضًا تغيير الترتيب في الترجمتين، فإنه قدَّم في أبواب الثياب "باب إذا لم يتم السجود"، وأخَّرَ "باب يبدي ضبعيه" بخلاف ما في صفة السجود، فإنه قدم فيها الثاني وأَخَّر الأول.
فالظاهر عندي: أن ذلك كله من بدائع دقائق البخاري، فَعَلَ كل ذلك عمدًا للطائف ليس هذا محلها، وسيأتي شيء منها في هامش "اللامع"
(2)
.
وهكذا ذكر الإمام البخاري في أواخر "صفة الصلاة""باب ما جاء في الثوم النِّيء والبصل والكراث. . ." إلخ، وأورد عليه أن محله كان في "أبواب المساجد".
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 159).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 446)، وانظر:"الكنز المتواري"(4/ 76).
وهكذا ترجم بعد ذلك "باب وضوء الصبيان. . ." إلخ، وأوردوا عليه أيضًا أن محله كان "كتاب الطهارة" لا "أبواب صفة الصلاة".
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري لم يذكر الباب الأول في أبواب المساجد إشارةً إلى أن المنع منه لا يختص بالمساجد، وترجم بالثاني ههنا إفرادًا لمسائل الصبيان لكونهم غير مكلفين، فذكر أحكامهم المتفرقة من الطهارة والصلاة وحضورهم العيد والجنائز في باب واحد، فهو بمنزلة باب مسائل شتى أفرد أحكامهم المتعلقة بالصلاة في باب واحد، وجعله تتمةً للصلاة؛ لأن الأبواب الآتية تتعلق بصلوات خاصة من الجمعة والعيدين وغيرهما، وسيأتي شيء من ذلك في هامش "اللامع"، وأجاد في ترتيب هذه الأبواب من ذكر أحكام الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء على ترتيب صفوفهم في الصلاة.
وعلى هذا الأصل حمل شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
"باب القنوت قبل الركوع وبعده" إذ قال: هذا الباب في الأصل من متعلقات أبواب صلاة الفجر؛ لأن الأحاديث الواردة إنما تدل على القنوت فيها، وإيراده ههنا باعتبار أن بعض العلماء قال بالقنوت في الوتر، انتهى، كذا أفاد قُدِّس سرُّه، وقد عرفت فيما سبق أن هذا الباب عندي داخل في الأصل الخامس والستين.
نعم! يقرب من هذا الأصل "باب الأمر باتباع الجنائز"، فإنه ذكره في مبدأ "كتاب الجنائز"، والميت لم يغسل بعد ولم يُكَفَّن، فكيف الأمر باتباعه، وسيأتي في محله "باب فضل اتباع الجنائز".
فالأوجه عندي: أن المراد بالاتباع في مبدأ الكتاب ليس المشي خلف الجنازة، لئلا يرد ما تقدم من ذكره في غير محله، بل المراد فيه الاهتمام بتجهيزه، والمبادرة في غسله وتكفينه، كما يقال: الجيش يتبع السلطان،
(1)
(ص 293).
أي: يتوخى موافقته، وإن تقدم كثير منهم في المشي والركوب، كما حمل عليه الحديث القسطلاني
(1)
مجيبًا للحنفية، إذ استدلوا بالحديث على أن المشي خلفها أفضل.
وعلى هذا، فلا يرد على الإمام البخاري أيضًا أنه ذكر الأمر باتباعها في أولها، والفضل في اتباعها بعد أبواب كثيرة؛ لأن المراد بالاتباع في الثاني المشي خلفها، فذكره في محله، والمراد بالاتباع في أول الكتاب غير المشي، وهذا وإن كان مخالفًا لما اختاره الحنفية إلا أن البخاري ليس بمقلد لهم.
وهذا الأصل غير الأصل الثاني والأربعين والثالث والستين، فبين الثلاثة فرق واضح لا يلتبس عليك أحدها بالآخر.
68 -
الثامن والستون: عدم الجزم للاحتمال:
أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -، قد لا يجزم في الترجمة بالحكم؛ شحذًا للأذهان؛ لمجرد الاحتمال الناشئ من غير دليل، فكأنه يُنَبِّهُ الناظر على أن يجيل نظره، ويسبق فكره في الاحتمالات الناشئة من النصوص.
مثلًا: ترجم "باب إذا اشتدّ الحر يوم الجمعة"، ولم يذكر فيه حكمًا، وأورد فيه حديث أنس يقول:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتدّ الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة"
(2)
، وقد أخرج قبل ذلك عن أنس رضي الله عنه قال:"كنا نُبَكِّر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة"
(3)
، قال الحافظ
(4)
: لم يجزم المصنف بحكم الترجمة للاحتمال الواقع في قوله: "يعني الجمعة" لاحتمال أن يكون من كلام التابعي، أو من دونه، وهو ظن
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(3/ 342).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 906).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 605).
(4)
"فتح الباري"(2/ 389).
ممن قاله، والتصريح عن أنس في الرواية الماضية أنه كان يبكر بها مطلقًا، إلى آخر ما بسطه الحافظ.
وقال أيضًا في "باب الصلاة قبل العيد وبعدها"
(1)
: أورد فيه أثر ابن عباس: أنه كره الصلاة قبل العيد، وحديثه المرفوع في ترك الصلاة قبلها وبعدها، ولم يجزم بحكم ذلك؛ لأن الأثر يحتمل أن يراد به منع التنفل أو نفي الراتبة، وعلى المنع فهل هو لكونه وقت كراهة أو لِأَعَمّ من ذلك؟ ويؤيد الأول الاقتصار على القبل، وأما الحديث فليس فيه ما يدل على المواظبة، فيحتمل اختصاصه بالإمام دون المأموم، أو بالمصلَّى دون البيت، وقد اختلف السلف في جميع ذلك، انتهى.
كذا أفاد، وكأنه حمل عدم الجزم بالحكم على الاحتمالات الواردة في الأثر والحديث، كما صرح بذلك، لكن الأوجه عندي أن هذا الباب من الأصل الخامس والثلاثين، فإن الحافظ أقرَّ بنفسه اختلاف السلف في جميع ذلك.
وقال الحافظ أيضًا في "باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمِّي أو الحربي"
(2)
، ولم يجزم بالحكم، لإشكاله. بل أورد الترجمة مورد السؤال فقط، وقد جرت عادته أن دليل الحكم إذا كان محتملًا لا يجزم بالحكم، انتهى.
قلت: ولهذا الأصل أيضًا نظائر في "الصحيح"، وهذا غير الأصل الرابع، إذ عدم الجزم فيه كان لاختلاف الروايات، وغير الأصل الخامس والثلاثين أيضًا؛ لأن عدم الحكم فيه كان لاختلاف العلماء في ذلك، وكذا غير السابع والأربعين إذ فيه عدم الجزم للتوسع، فلا التباس بين الأصول الثلاثة.
(1)
"فتح الباري"(2/ 476).
(2)
"فتح الباري"(9/ 420).
69 -
التاسع والستون: ذكر الأضداد:
من عادة البخاري المطَّردة في كتابه ذكر الأضداد في الكتب كما ذكر في "كتاب الإيمان" أبواب الكفر والنفاق، قال الحافظ في "باب كفران العشير"، بعد نقل بديعة عن ابن العربي في تخصيصه من بين الذنوب: يؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان، وذلك من جهة كون الكفر ضد الإيمان
(1)
، انتهى.
وذكر في "كتاب الاستسقاء": "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها سنين كسني يوسف"، قال العيني
(2)
: فإن قلت: ما وجه إدخال هذا الباب في أبواب الاستسقاء؟ قلت: للتنبيه على أنه كما شُرع الدعاء في الاستسقاء للمؤمنين، كذلك شُرع الدعاء بالقحط على الكاذبين؛ لأن فيه إضعافهم وهو أنفع للمسلمين، انتهى.
وكذا قال الحافظ
(3)
وزاد: لما فيه من نفع الفريقين بإضعاف عَدَوِّ المؤمنين ورقّة قلوبهم ليذلّوا للمؤمنين، وقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم برفع القحط، كما في الحديث الثاني، ويمكن أن يقال: إن المراد أن مشروعية الدعاء على الكافرين في الصلاة تقتضي مشروعية الدعاء للمؤمنين فيها، فثبتت بذلك صلاة الاستسقاء خلافًا لمن أنكرها، انتهى.
قلت: ولا يحتاج إلى هذه التوجيهات عندي لما علم من دأبه ذكر الأضداد، فإنَّ بضدها تتبيَّنُ الأشياء، وقد أخرج البخاري
(4)
: في أول "الجنائز" عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله دخل النار"، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، فهذا استدلال منه رضي الله عنه بالضد، واستنباط بالحديث حكم خلافه.
70 -
السبعون: التراجم المستقلة على أجزاء الحديث الواحد:
من دأبه المطَّرد في "صحيحه" أنه إذا كان في حديث واحد أوامر
(1)
"فتح الباري"(1/ 83).
(2)
"عمدة القاري"(5/ 246).
(3)
"فتح الباري"(2/ 493).
(4)
"صحيح البخاري"(1238).
عديدة، أو النهي عن أمور عديدة، يترجم لكل من ذلك ترجمةً مستقلةً تنبيهًا على استقلال كل ذلك من المأمورات أو المنهيات.
مثلًا: وَرَدَ في الحديث: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"
(1)
، فترجم الإمام لكل من تلك الأمور تراجم مستقلةً، وهكذا ورد في حديث أبي سعيد الخدري:"كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب"
(2)
، فترجم الإمام لكل من تلك ترجمةً مستقلةً غير الأقط، ولم يذكر للأقط عندي للأصل الخامس والستين، وإلا فلا وجه لتركه من الجملة الواردة في الحديث، وهكذا ترجم في "كتاب البيوع" لجميع أجزاء حديث الربا، ونظائر ذلك في "كتاب اللباس" عديدة.
وهذا آخر ما اكتفيت به من الأصول المفصَّلة رعاية لعدد السبعين المرعية في كثير من الأحاديث، وإلا فدقائق استنباطه وأصول تراجمه كثيرة غير ما تقدم، كالفرق بين المترجم له والمترجم به، كما أشار إليه الحافظ
(3)
في "باب يهوي بالتكبير حين يسجد"، وكاختيار أهون الأمرين، والأخذ بالاستصحاب، وإطلاق أحد اللفظين على الآخر لغةً، كإطلاق الحيض على النفاس، وغير ذلك، يظهر لمن سهر الليالي للخوض في بحر اللآلي، ومع ذلك كم من تراجم له لا يروي الغليل ما قيل فيها من الأقاويل، وإنْ أَكثَرَ العلماءُ فيها من التعاليل، كـ "باب من بدأ بالحلاب والطيب"، و"باب فضل صلاة الفجر والحديث"، و"باب ميمنة المسجد والإمام"، وغير ذلك من التراجم الصعبة، وإن اخترعت فيها أيضًا نكات اتباعًا للأسلاف، شكر الله سعيهم وجزاهم عني وعن سائر طلبة [صحيح] البخاري أحسن الجزاء.
(1)
أخرجه البخاري (ح: 1297)، ومسلم (ح: 103).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 1506)، ومسلم (ح: 985).
(3)
انظر: "فتح الباري"(2/ 291).
الفائدة الرابعة في الوجوه العامة الشائعة على ألسنة المشايخ المسطورة في الشروح من غلط النسَّاخ، أو الوهم من الإمام البخاري، أو عدم تبييضه للكتاب، لما قد اخترمته المنية قبل التبييض، أو وصْل الرواة لما كان في الأصل من البياضات، وغير ذلك من الأمور التي اضطروا إليها عند العجز عن التوافق بين الترجمة والحديث
ولم يظهر لهذا العبد الضعيف الفقير إلى رحمة ربه العليا شيء من ذلك.
فما من ترجمة من التراجم في "البخاري" إلا وهو داخل في أصل ما من الأصول السبعين المذكورة في الفائدة الثالثة، إلا أنه لما كانت هذه الأمور معروفة عند الشراح والمشايخ أفردت ذكرها في فائدة مستقلة.
وقد تقدم في أول الفائدة الثانية ما حكى الحافظ في "المقدمة"
(1)
عن الشيخ محيي الدين، أنه لم يقع في بعض التراجم شيء من الحديث وغيره، وقد ادَّعى بعضُهم أنه صنع ذلك عمدًا، وغرضه أن يُبَيِّن أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه، ومن ثمة وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب، فأشكل فهمه على الناظر فيه.
وقد أوضح السبب في ذلك الإمام الباجي المالكي
(2)
، إذ حكى عن المستملي أنه قال: انتسخت البخاري من أصله الذي كان عند الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيَّضة، منها تراجم لم يُثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض.
(1)
انظر: "هدي الساري"(ص 8).
(2)
"كتاب التعديل والتجريح لرجال البخاري"(1/ 310).
قال الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية المستملي والسرخسي والكشميهني وأبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين أو أكثر من ذلك متصلةً ليس بينها أحاديث.
قال الباجي: وإنما أوردت هذا ههنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث، وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ، قال الحافظ: وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، انتهى مختصرًا.
تقدم كلامه هذا في أول الفائدة الثانية من هذا الفصل، وذكرت في هامشه ما أورد القسطلاني عليه إذ قال
(1)
: وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه، ولا ريب أنه لم يُقرأ عليه إلا مرتبًا مبوبًا، فالعبرة بالرواية لا بالمسوَّدة التي ذكر صفتها، انتهى.
قلت: ويؤيد ذلك أيضًا ما قال القسطلاني في ترجيح نسخة
(2)
اعتمد عليها في "شرحه"
(3)
: ولقد عوّل الناس عليه في روايات الجامع لمزيد اعتنائه وضبطه ومقابلته على الأصول المذكورة وكثرة ممارسته له، حتى إن الحافظ شمس الدين الذهبي حكى عنه أنه قابله في سنة واحدة إحدى عشرة مرة، إلى آخر ما بسط من الاهتمام في المقابلة والتصحيح.
ويؤيد الباجي ما قال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(4)
في "باب إذا لم يتم السجود": نقل عن الفربري أن بعض أوراق الكتاب كان غير
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 43).
(2)
هي نسخة الحافظ شرف الدين اليونيني، المتوفى سنة 701 هـ.
(3)
"مقدمة إرشاد الساري"(ص 68).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 159).
ملتصق بالكتاب، فوقع الخطأ من بعض النساخ في إلحاق تلك الأوراق، فألحقوها في غير الموضع الذي أراد المصنف إلحاقها فيه في نفسه، وهذا الباب في هذا المقام من هذا القبيل، انتهى.
وقال الحافظ في "باب طول القيام في صلاة الليل"
(1)
، وقد أخرج فيه البخاري حديث السواك: استشكل ابن بطال دخوله في هذا الباب فقال: لا مدخل له ههنا؛ لأن التسوك في صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة، قال: ويمكن أن يكون ذلك من غلط الناسخ، فكتبه في غير موضعه، أو أن البخاري أعجلته المنية قبل تهذيب كتابه، فإن فيه مواضع مثل هذا تدل على ذلك، انتهى.
وقد تقدم في الفائدة السادسة من الفصل الثاني ما قالوا في التراجم الخالية عن الأحاديث أن البخاري أراد كتابة الحديث، ولم يتفق له لعوارض، أو لم يجد على شرطه فيه، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
في "باب يعكفون على أصنام لهم": وقد أخرج البخاري فيه حديث جابر رضي الله عنه: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث. . ." الحديث، ولا تعلق له بالترجمة، فقال: والذي يهجس في خاطري أنه كان بين التفسير وبين الحديث بياض أُخلي لحديثٍ يدخل في الترجمة، ولترجمةٍ تصلح لحديث جابر، ثم وصل ذلك كما في نظائره، انتهى.
وقال الكرماني في "باب فضل العلم"
(3)
: واقتصر فيه البخاري على الآية، ولم يذكر فيه حديثًا، قال: فإن قلت: هذا هو ترجمة الباب فأين ما هذا ترجمته إذ لم يذكر فيه حديثًا أصلًا، فضلًا عما يدل على المترجم عليه؟ قلت: قال بعض الشاميين: بوّب البخاري الأبواب وذكر التراجم، وكان يلحق بالتدريج إليها الأحاديث المناسبة لها، فلم يتفق له أن يلحق إلى
(1)
"فتح الباري"(3/ 19).
(2)
"فتح الباري"(6/ 439).
(3)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(2/ 2).
هذا الباب ونحوه شيئًا منها، إما لأنه لم يثبت عنده حديث يناسبه بشرطه، وإما لأمر آخر، وقال بعض أهل العراق: ترجم ولم يذكر فيه شيئًا قصدًا منه ليعلم أنه لم يثبت في ذلك شيء عنده، انتهى.
وقال الحافظ في الباب المذكور: فإن قيل: لم لم يورد في هذا الباب شيئًا من الحديث؟ فالجواب: أنه إما أن يكون اكتفى بالآيتين الكريمتين، وإما بيَّض له ليلحق فيه ما يناسبه فلم يتدبر، وإما أورد فيه حديث ابن عمر الآتي بعد "باب رفع العلم" ويكون وضعه هناك من تصرُّف بعض الرواة، وفيه نظر.
ونقل الكرماني عن بعض أهل الشام، فذكر ما تقدم من قوله، ثم قال: والذي يظهر لي أن هذا محله، حيث لا يورد فيه آية ولا أثرًا، أما إذا أورد آية أو أثرًا فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه، وما دلت عليه الآية كافٍ في الباب، وإلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوى به طريق المرفوع، وإن لم يصل في القوة إلى شرطه، انتهى.
وذكر العيني
(1)
ما حكى الكرماني عن بعض الشاميين والعراقيين، ثم قال: وهذا كله كلام غير سديد لا طائل تحته، إلى آخر ما قاله.
وقال القسطلاني
(2)
: اكتفى المصنف بهاتين الآيتين؛ لأن القرآن العظيم أعظم الأدلة، أو لأنه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه، أو اخترمته المنية قبل أن يلحق بالباب حديثًا يناسبه؛ لأنه كتب الأبواب والتراجم، ثم كان يلحق فيها ما يناسبها من الحديث على شرطه، فلم يقع له شيء من ذلك، انتهى.
وسيأتي قريبًا في "اللامع"
(3)
ما اختاره الإمام الكَنكَوهي في الباب المذكور، وفي هامشه ما اختاره هذا العبد الفقير إلى مغفرة ربه، والغرض
(1)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 4).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 265).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 2).
من سرد هذه الأقاويل أجوبتهم العامة في أمثال هذه المواقع من أنه من تصرُّف الرواة، أو كان بياضًا فلم يتفق له، أو اخترمته المنية من قبل التبييض، أو تنبيهًا على أنه لم يجد فيه شيئًا على شرطه، وقد عرفت فيما سبق أنه ليس عندي شيء من ذلك، بل كل التصرُّفات فعلها البخاري عمدًا، وكل ذلك داخل في أصل ما من الأصول السبعين المتقدمة في الفائدة الماضية، انتهى ما في مقدمة "اللامع".
ثم اعلم أن شيخ الهند
(1)
رحمه الله ذكر في آخر تراجمه إشاراتٍ إلى التراجم التي ليس لها حديث مسند، وجعلها ثلاثة أنواع، وهذا تعريبه:
"لقد ذُكرت في مواقع كثيرة مع الباب الترجمة فقط بدون ذكر الحديث المسند، فهذه سَنُعَبِّر عنها بالتراجم المجرَّدة، وقد ذكر الشرَّاح المحققون في هذه أيضًا عدة احتمالات، فحيثما تأتي التراجم المجردة يحومون حولها.
ولكن الذي يظهر بعد الخوض والفحص أن التفصيل فيها أحق بالقبول، فنقول:
إن التراجم المجردة نوعان:
أولهما: التراجم التي ذكرت في ذيلها آية أو حديث أو قول أحد، وإن لم يذكر فيها حديث مسند، فهذه نسمِّيها التراجم المجردة غير المحضة، ونظائرها كثيرة في الكتاب.
وثانيهما: التراجم التي لم يذكر في ذيلها شيء، يعني: كما أنه لم يذكر في ذيلها حديثًا مسندًا، فكذلك لم يأت بأي آية أو حديث أو أثر، فما هي إلا دعوى فقط دون أي شيء آخر، فهذه نرى أن نسمِّيها التراجم المجرّدة المحضة، وهذه نظائرها قليلة جدًا.
(1)
هو الشيخ العالم الكبير العلَّامة المحدث محمود حسن الديوبندي، أعلم العلماء في العلوم النافعة، توفي سنة 1339 هـ، انظر ترجمته في:"الإعلام بمن في الهند من الأعلام"(ص 1377).
وتوجد في القسم الثاني - أي: التراجم المجردة المحضة - بعض الأبواب جعل فيها المؤلف رحمه الله نفس الآيات ترجمة للباب.
فأصبحت الآن التراجم المجردة ثلاثة أنواع:
الأول: التراجم المجرَّدة غير المحضة.
والثاني: التراجم المجردة المحضة، التي جعلت فيها الآيات القرآنية ترجمة، وهذه نسمِّيها التراجم المحضة الصورية.
والثالث: التراجم المجردة المحضة، وهي التي جعل المؤلف رحمه الله فيها قول نفسه - أي: دعواه - ترجمة، وهذه نسمِّيها التراجم المحضة الحقيقية.
وأقول بعد هذا التفصيل:
إن القسم الأول - أعني: التراجم المجردة غير المحضة - بما أنه يذيِّلها بآية، أو حديث، أو قول مسند صالح للاحتجاج به، فكل من هذه كافٍ جدًّا لإثبات المدَّعى، فظاهر أنه لا ينتظر من المؤلف شيء آخر لإثبات دعواه حتى يكون الإتيان بدليل آخر ضروريًا، فلا إشكال إذًا مطلقًا على اكتفاء المؤلف بالدلائل المذكورة.
وكذا القسم الثاني - يعني: التراجم المحضة الصورية -، وإن كان في الظاهر أنه لم يذكر بذيلها دليلًا ما، ولكن لما كانت الترجمة نفسها هي آية قرآنية وهي دليل فوق كل دليل، فلا يحتاج لإثبات نفسه إلى أي دليل آخر، فهي في ظاهر النظر ترجمة محضة، ولكنها في الحقيقة مصداق قولهم:"دعوى دليلها نفسها"، فهذا النوع من التراجم ينبغي أن تكون حالها بدون تكلف بل بالطريق الأولى مثل حال القسم الأول كما ذكرناه.
فمن ظَنّ أن دعوى المؤلف في هذين القسمين من غير دليل، فظنه فاسد.
بقي أنه لِم لم يذكر في هذين القسمين الحديث المسند كعادته المستمرة واكتفى بالآية ونحوها؟
فاعلم أن ذلك قد يكون لأنه لم يجد حديثًا على شرطه، وقد يكون موجودًا إلا أنه ذكره في موضع آخر، ولا يذكره حذرًا عن التكرار، وقد لا يذكر بقصد التمرين وتشحيذًا للأذهان.
والآن لم يبق إلا النوع الثالث، أي: التراجم المحضة الحقيقية التي لم يذكر بذيلها أيّ دليل، وهي بنفسها كذلك لا تعد حجة ولا دليلًا، فهي على الظاهر دعوى محضة لا دليل معها.
فنقول: إننا لم نجد مثل هذه التراجم بعد تقليب الأوراق مرة بعد أخرى، إلا في مواضع قليلة معدودة لا يبلغ عددها عشرة، ويمكن أن يُزاد على هذا العدد شيءٌ ما لاحتمال قصور نظرنا ولأجل أختلاف النسخ، ولكن على هذا يمكن أن ينقص أيضًا.
ثم أكثر هذه التراجم ذكر الحديث المطابق لها صراحة، إما في الباب السابق له أو اللاحق به سوى عدة أبواب، اثنان أو أكثر من ذلك، لم يظهر لنا الحديث المطابق لها في الأبواب القريبة منها، ولكنه موجود في الأبواب البعيدة منها.
والراجح عندنا بعد إدارة النظر على ذلك أن المؤلف عمدًا اقتنع في هذه المواضع بالتراجم المحضة، واكتفى بتلك الأحاديث الموجودة في الأبواب القريبة منها والبعيدة احترازًا عن التكرار، أو تشحيذًا للأذهان، أو لكليهما.
هذا ما عندنا من التفصيل، والله أعلم بالصواب وبمراد العباد". انتهى.
ويقول العبد الفقير زكريا:
إنه عندي أيضًا كذلك، فقد تفحَّصت فوجدت أن الأبواب التي ليس بذيل تراجمها حديث، فالأصل الكلي في أغلبها أن يكون الحديث المطابق له قريبًا قبله أو بعده، كما سيأتي ذلك في التراجم المفصَّلة في مواقعها، إن شاء الله تعالى.
والظاهر عندي أيضًا أن الإمام البخاري ترك الحديث ههنا تشحيذًا للأذهان، والله تعالى أعلم بالصواب.
وهذا جدول الأبواب التي ذكرها شيخ الهند رحمه الله في تراجمه من الأنواع الأربعة:
وكتب شيخ الإسلام حضرة الحاج مولانا السيد حسين أحمد المدني المبيِّض والطابع لهذه التراجم، فقال ما تعريبه:
"إنه وجد في مسوَّدات شيخ الهند رحمه الله، فهرسًا متضمنًا للجداول الثلاثة الآتية، وكتب قبله: أنه لم يتيسر له إبراز ما كان عنده من الرأي بأجمعه مما يتعلق بتراجم "البخاري" وأغراضها.
ولكن وُجد في مسوَّداته فهرس قد أتى فيه أكثره على وجه الإجمال والرمز والإشارة.
وهذا الفهرس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
فالقسمان الأوَّلان - أي: التراجم المجردة والتراجم غير المجردة - أشير فيهما إلى مواضع التراجم برقم الصفحة والمجلد - بأن جعل رقم الصفحة فوق علامة الصفحة وهي صفـ، ورقم المجلد تحتها، مثلًا كتب بعد "باب فضل الصدقة" هكذا: صفـ 161/ 1، ومعناه: أن هذا في المجلد - الأول من "البخاري" على صفـ 161.
وهذا هو حال القسم الثاني من المسمَّى بالتراجم غير المجردة.
وأما القسم الثالث - أي: الأبواب بلا ترجمة - فتجد بإزاء بعض الأبواب رمز (نـ) وبإزاء بعضها (ـــتـ)، قد كتبها شيخ الهند قُدِّس سرُّه هكذا على وجه الرمز والإشارة ليبسطها ويفصلها إذا بلغ إليها وحان وقتها، فالباب الذي رمز بإزائه (نـ) (أي: نقطة واحدة)، فكان رأي شيخ الهند فيه أن المصنف ترك الترجمة لقصد التمرين وتشحيذًا للأذهان، والباب الذي رمز بإزائه (ـــتـ) (أي: علامة ـــتـ فوقها نقطتان)، فكان رأي الشيخ فيه أنه
تركت الترجمة فيه لكون الحديث الذي فيه يتعلق بالباب السابق.
وقد وجد في هذه المسودة رمز (ـــثـ)(أي: علامة ـــثـ فوقها ثلاث نقاط)، وقد كتب فوقها لفظ الخطأ، ولكن لم يوجد هذا الرمز في هذا الفهرس، ومقصوده واضح، وهو أن الباب الذي كتب بإزاء هذا الرمز خطأ، ولكن لا يتعين الخطأ ممن هو، والذي ينساق إليه أذهاننا أن المراد به خطأ الناسخين.
وهذا القسم الثالث قد وضع رقم المجلد بإزاء علامة الصفحة وكتب تحتها الأبواب التي يوجد فيها هذا الباب.
وقد قدَّمتُ أن شيخ الهند قُدِّس سرُّه لم يكن عنده إلا نسخة مطبوعة بمصر، فالذي كتبه فهو من تلك النسخة المصرية، وقد وَجَدْت في هذا الفهرس أبوابًا بلا ترجمة لم يرقم لصفحاتها، ولكن كتب بإزائها رقم المجلد، ولم يذكر رمز نقطة واحدة أو اثنتين، ووجهه ظاهر.
وقد كان سهلًا عليَّ أن أُعلِّم بعلامة الصفحات من النسخة المصرية، ولكن لم أتجاسر عليه لأمرين:
الأول: أنه لا يمكن تعيين مقصد شيخ الهند قُدِّس سرُّه في تلك الأبواب المتروكة التراجم، أكان يظنها متروكة الترجمة لقصد التمرين أو للتعلق بالباب المقدم؟
والثاني: أن قلة بضاعتي في العلم لم يأذن لي أن أتصرف في تصنيف الشيخ بنوع من التصرف.
وبالجملة، أن هذه الرسالة إن لم تكن بدرًا كاملًا لكونها لم تتم، فلا أقلّ من أن تكون قمرَ عشرِ ليال".
حسين أحمد المهاجر المدني
(1)
(1)
هو المحدث الكبير السيد حسين أحمد المدني، الشهير بشيخ الإسلام المدني، المتوفى سنة 1377 هـ، وصلَّى عليه مؤلف الأبواب والتراجم للبخاري في جمع غفير لا يحصى، انظر:"العناقيد الغالية"(ص 107)، و"نزهة الخواطر"(8/ 1234).
الجدول رقم (1) التراجم المجردة المحضة (التي ليس فيها حديث، ولا ذكر مع الترجمة شيئًا من الآيات والآثار)
. . . . . . . .
…
النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
(1)
1
…
باب فضل الصدقة من كسب
…
1/ 161
(2)
…
1/ 189
(3)
…
3/ 422
2
…
باب التعجيل إلى الموقف
…
1/ 190
…
1/ 226
…
4/ 15
3
…
باب الخروج في الفزع وحده
…
2/ 101
…
1/ 417
…
6/ 229
4
…
باب جوائز الوفد
…
3/ 109
…
1/ 429
…
6/ 331
5
…
باب ذكر مصعب بن عمير
(4)
…
2/ 185
…
1/ 530
…
-
6
…
باب إذا أعتق عبدًا بينه وبين آخر
…
4/ 99
…
2/ 994
…
13/ 169
7
…
باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني وإثم من انتفى من ولده 4/ 104
…
2/ 1001
…
13/ 233
8
…
باب عمود الفسطاط تحت وسادته
…
4/ 130
…
2/ 1038
…
13/ 650
9
…
باب إثم من قذف مملوكه (ليس في محله)
…
4/ 53
(5)
…
-
…
-
(1)
زدنا صفحات النسخة الهندية للطبعة الجديدة بتحقيق والدي الأستاذ الدكتور تقي الدين الندوي - حفظه الله ورعاه - في خمسة عشر مجلدًا.
(2)
هكذا في تراجم شيخ الهند، وهو صفحات النسخة المصرية، والأسف على أنني لم أظفر بالنسخة المصرية التي كانت عند شيخ الهند قُدِّس سرُّه، فلم أقدر على تصحيح الصفحات التي كتبت في الأصل، وقد وقع فيها تحريف من النساخ، فلم أجد بدًّا إلا في اتباعه (ز). [كان في الأصل رقم الصفحة هكذا (صفـ) فغيرناه هكذا 1/ 161 حسب الطباعة الجديدة].
(3)
وهي صفحات النسخة الهندية، ليست في أصل الكتاب بل زدتها تسهيلًا للطلبة الهندية (ز).
(4)
ليس هذا في أصل النسخ الهندية بل في هامشه (ز).
(5)
كذا في الأصل، ولم نجد هذا الباب في الهندية.
الجدول رقم (2) التراجم المجردة (لكن جعل الآية ترجمة)
. . . . . . .
…
النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
1
…
باب قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}
…
2/ 81
…
1/ 387
…
5/ 741
2
…
باب {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ}
…
2/ 136
…
1/ 465
…
6/ 666
3
…
باب قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ}
…
1/ 182
…
1/ 216
…
3/ 663
4
…
باب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} إلخ.
…
1/ 195
…
1/ 232
(1)
…
4/ 73
5
…
باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}
…
2/ 147
…
1/ 480
(2)
…
7/ 27
6
…
باب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} إلخ.
…
2/ 151
…
1/ 484
…
7/ 65
7
…
باب {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي} إلخ.
…
2/ 151
…
1/ 485
…
7/ 73
8
…
باب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} إلخ.
…
2/ 153
…
1/ 487
…
7/ 95
9
…
باب قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ} إِلَى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}
…
4/ 111
…
2/ 1011
…
13/ 333
10
…
باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ.
…
4/ 114
…
2/ 1015
…
13/ 383
11
…
باب قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ} إلخ.
…
4/ 115
…
2/ 1017
…
13/ 398
12
…
باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} إلخ.
…
2/ 150
…
1/ 483
…
7/ 57
13
…
باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}
…
2/ 157
…
1/ 492
…
7/ 146
14
…
باب قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} إلخ.
…
3/ 117
…
2/ 718
…
9/ 757
(1)
كذا في نسخة الحاشية، وفي الأصل حديث (ز).
(2)
في الأصل حديث، وفي الحاشية باب آخر لم يذكر فيه حديث (ز).
الجدول رقم: (3) التراجم غير المجردة التي ليس فيها حديث مسند، لكن ذكر في الترجمة آيةً أو حديثًا أو أثرًا
. . . . . . . .
…
النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
1
…
باب كيف كان بدء الحيض
…
1/ 41
…
1/ 43
…
1/ 557
2
…
باب استواء الظَّهر في الركوع
…
1/ 94
…
1/ 109
…
2/ 390
3
…
باب يستقبل بأطراف رجليه القبلة
…
1/ 97
…
1/ 112
…
2/ 412
4
…
باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً
…
1/ 111
…
1/ 129
…
2/ 570
5
…
باب من صفَّق جاهلًا من الرجال. . . إلخ
…
1/ 138
…
1/ 162
…
3/ 167
6
…
باب الرياء في الصدقة
…
1/ 161
…
1/ 189
…
3/ 421
7
…
باب لا يقبل الله صدقة من غلول
…
1/ 161
…
1/ 189
…
3/ 422
8
…
باب صدقة العلانية
…
1/ 162
…
1/ 191
…
3/ 438
9
…
باب صدقة السر
…
1/ 162
…
1/ 191
…
3/ 438
10
…
باب المنَّان بما أعطى
…
1/ 163
…
1/ 192
…
3/ 450
11
…
باب المُحْصَر وجزاء الصيد
…
1/ 203
…
1/ 243
…
4/ 171
12
…
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء"
…
1/ 217
…
1/ 259
…
4/ 326
13
…
باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ببيع أرضهم
…
2/ 18
…
1/ 297
…
4/ 476
14
…
باب من رمى جمرة العقبة ولم يقف
…
1/ 198
…
1/ 236
…
4/ 109
15
…
باب الإهلال من البطحاء
…
1/ 189
…
1/ 224
…
3/ 735
16
…
باب إذا وقف في الطواف
…
1/ 185
…
1/ 220
…
3/ 698
17
…
باب صدقة الكسب والتجارة
…
1/ 165
…
1/ 194
…
3/ 467
18
…
باب من استأجر أجيرًا فبين له الأجل. . . إلخ
…
2/ 21
…
1/ 301
…
4/ 720
.. النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
19
…
باب في الشرب
(1)
…
2/ 31
…
1/ 316
…
5/ 109
20
…
باب من أَخَّرَ الغَريمَ إلى الغد
…
2/ 36
…
1/ 323
…
5/ 177
21
…
باب الانتصار من الظالم
…
2/ 41
…
1/ 331
…
5/ 249
22
…
باب عفو المظلوم
…
2/ 42
…
1/ 331
…
5/ 250
23
…
باب إماطة الأذى
…
2/ 43
…
1/ 334
…
5/ 274
24
…
باب ما جاء في البينة على المدعي
…
2/ 61
…
1/ 359
…
5/ 499
25
…
باب إذا وقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره
…
2/ 79
…
1/ 385
…
5/ 726
26
…
باب إذا قال: داري صدقة لله
…
2/ 80
…
1/ 382
…
5/ 728
27
…
باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}
…
2/ 81
…
1/ 388
…
5/ 746
28
…
باب من غزا وهو حديث عهد بعُرسه
…
2/ 101
…
1/ 416
…
6/ 227
29
…
باب من اختار الغزو بعد البناء
…
2/ 101
…
1/ 416
…
6/ 227
30
…
باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
…
2/ 105
…
1/ 423
…
6/ 284
31
…
باب هل للأسير أن يقتل ويخدع. . . إلخ
…
2/ 105
…
1/ 423
…
6/ 258
32
…
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: "أسلموا تسلموا"
…
2/ 110
…
1/ 430
…
6/ 340
33
…
باب ما يعطى البشيرُ
…
2/ 112
…
1/ 433
…
6/ 368
34
…
باب إذا قالوا: صبأنا. . . إلخ
…
2/ 124
…
1/ 450
…
6/ 511
35
…
باب الموادعة من غير وقت
…
2/ 126
…
1/ 452
…
6/ 530
36
…
باب في النجوم
…
2/ 127
…
1/ 454
…
6/ 550
37
…
باب خلق آدم وذريته
(2)
…
2/ 138
…
1/ 468
…
6/ 693
38
…
باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا. . .} إلخ
(3)
…
2/ 140
…
1/ 470
…
6/ 710
(1)
فيه اختلاف بين المصرية والهندية في الترجمة وذكر الحديث، فليحرر (ز).
(2)
وفي الهندية فيه حديث مسند، فليحرر (ز).
(3)
وفي الهندية فيه حديث مسند، فليراجع إلى النسخة المصرية (ز).
.. النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
39
…
باب {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
…
2/ 170
(1)
…
1/ 470
…
6/ 717
40
…
باب قصة إسحاق بن إبراهيم
…
2/ 146
…
1/ 478
…
6/ 784
41
…
باب {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ}
…
3/ 75
…
2/ 660
…
9/ 99
42
…
باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. . .} إلخ
…
3/ 71
…
2/ 655
…
8/ 159
43
…
باب {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}
…
3/ 80
…
2/ 667
…
9/ 177
44
…
باب تفسير سورة المائدة
…
3/ 76
…
2/ 662
…
9/ 122
45
…
باب قال ابن عباس. . . إلخ
…
3/ 90
…
2/ 681
…
9/ 340
46
…
باب قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ}
…
3/ 61
…
2/ 683
…
9/ 362
47
…
باب ما يحل من النساء وما يحرم
…
3/ 149
…
2/ 765
…
10/ 420
48
…
باب قول الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ. . .} إلخ
…
3/ 151
…
2/ 768
…
10/ 446
49
…
باب العدل بين النساء
…
3/ 160
…
2/ 785
…
10/ 586
50
…
باب إذا قال: فارقتك. . . إلخ
…
3/ 165
…
2/ 792
…
10/ 652
51
…
باب لا طلاق قبل النكاح
…
3/ 166
…
2/ 793
…
10/ 664
52
…
باب إذا قال لامرأته وهو مكره. . . إلخ
…
3/ 166
…
2/ 793
…
10/ 666
53
…
باب الظهار
(2)
…
3/ 169
…
2/ 797
…
10/ 708
54
…
باب {وَاللَّائِي يَئِسْنَ}
…
3/ 172
…
2/ 801
…
10/ 749
55
…
باب قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ. . .} إلخ
…
3/ 172
…
2/ 802
…
10/ 753
56 -
باب وقال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} إلخ
…
3/ 176
…
2/ 807
…
11/ 18
57
…
باب الطاعم الشاكر. . . إلخ
…
3/ 185
…
2/ 820
…
11/ 152
(1)
كذا في الأصل (ز).
(2)
وفي الهندية في الحاشية: "باب الظهار"، وفي الأصل:"باب قد سمع الله. . ." إلخ، فليلاحظ، انتهى (ز).
. .
…
النسخة المصرية
…
النسخة الهندية
…
النسخة المحققة
58
…
باب أكل المضطر
…
3/ 193
…
2/ 832
…
11/ 272
59
…
باب رفع الأيدي في الدعاء
…
4/ 65
…
2/ 938
…
12/ 472
60
…
باب الدعاء إذا هبط واديًا
…
4/ 68
…
2/ 944
…
12/ 520
61
…
باب رؤيا يوسف
…
4/ 147
…
2/ 1035
…
13/ 611
62
…
باب رؤيا إبراهيم
…
4/ 127
(1)
…
2/ 1035
…
13/ 614
63
…
باب متى يستوجب الرجل القضاء
…
4/ 144
…
2/ 1061
…
14/ 45
64
…
باب ذكر الله بالأمر. . . إلخ
…
4/ 183
…
2/ 1121
…
14/ 660
65
…
باب فضل العلم
…
1/ 13
…
1/ 14
…
1/ 285
66
…
باب ما جاء في العلم
(2)
…
1/ 14
…
-
…
-
67
…
باب العلم قبل القول والعمل
…
1/ 15
…
1/ 16
…
1/ 303
68
…
باب ما جاء في قول الله تعالى
…
{إِذَا قُمْتُمْ. . .} إلخ
(3)
…
1/ 25
…
1/ 25
…
-
(1)
كذا في الأصل.
(2)
ليست هذه الترجمة في الهندية.
(3)
هكذا في الحاشية، وفي الأصل "باب الوضوء"، فليلاحظ.
الجدول رقم: (4) أبواب بلا ترجمة
. . . . . . . [الكتب]
…
النسخة المصرية
…
[موضعه في النسخة الهندية]
…
النسخة المحققة
1
…
بَابٌ
…
الإيمان
…
1/ 7
…
نـ
…
ص: 7 قبله "بَابٌ علامة الإيمان حب الأنصار".
…
1/ 225
2
…
بَابٌ
…
الإيمان
…
1/ 12
…
نـ
…
ص: 12 قبله "باب سؤال جبرئيل عليه السلام".
…
1/ 273
3
…
بَابٌ
…
الوضوء
…
1/ 31
…
ـــتـ
…
ص: 31 قبله "باب استعمال فضل وضوء الناس".
…
1/ 451
4
…
بَابٌ
…
في أحكام البول
…
1/ 34
…
نـ
…
ص: 35 قبله "باب ما جاء في غسل البول. . ." إلخ. 1/ 480
5
…
بَابٌ
…
الحيض
…
1/ 45
…
ـــتـ
…
ص: 47 قبله "باب الصلاة على النفساء وسُنَّتها".
…
1/ 597
6
…
بَابٌ
…
التيمم
…
1/ 48
…
نـ
…
ص: 50 قبله "باب التيمم ضربة".
…
1/ 624
7
…
بَابٌ
…
مواضع الصلاة
…
1/ 57
…
ـــتـ
…
ص: 62 قبله "باب الصلاة في البيعة".
…
1/ 726
8
…
بَابٌ
…
الصلاة
…
1/ 60
…
نـ
…
ص: 66 قبله "باب إدخال البعير في المسجد".
…
2/ 26
9
…
بَابٌ
…
أبواب السترة
…
1/ 64
…
نـ
…
ص: 72 قبله "باب الصلاة بين السواري في غير جماعة".
…
2/ 73
10
…
بَابٌ
…
الركوع
…
1/ 95
…
نـ
…
ص: 109 قبله "باب فضل: اللهم ربنا لك الحمد".
…
2/ 395
11
…
بَابٌ
…
الجمعة
…
1/ 104
…
نـ
…
ص: 121 قبله "باب فضل الجمعة".
…
2/ 497
12
…
بَابٌ
…
صلاة الخوف
…
1/ 111
…
ـــتـ
…
ص: 129 ليس في الأصل باب، ولكن في الحاشية في الهندية.
13
…
بَابٌ
…
صلاة الليل
…
1/ 132
…
ـــتـ
…
ص: 154 قبله "باب ما يكره من ترك قيام الليل. . ." إلخ.
…
3/ 95
14
…
بَابٌ
…
الجنائز
…
1/ 147
…
ـــتـ
…
ص: 172 قبله "باب ما يكره من النياحة على الميت". 3/ 262
[الكتب]
…
النسخة المصرية
…
[موضعه في النسخة الهندية]
…
النسخة المحققة
15
…
بَابٌ
…
الجنائز
…
1/ 158
…
ـــتـ
…
ص: 185 قبله "باب ما قيل في أولاد المشركين".
…
3/ 378
16
…
بَابٌ
…
الزكاة
…
1/ 162
…
ـــتـ
…
ص: 191 قبله "باب فضل صدقة الشحيح الصحيح"، هكذا في أصل الهندية. وفي هامشه:"باب أي الصدقة أفضل"، وهكذا في المصرية.
…
3/ 436
17
…
بَابٌ
…
الحج
…
1/ 175
…
نـ
…
ص: 207 هكذا في هامش الهندية، وفي أصلها "باب الصلاة بذي الحليفة".
18
…
بَابٌ
…
فضائل المدينة
…
1/ 212
…
نـ
…
ص: 253 في هذه الصفحة بابان بلا ترجمة في المصرية والهندية كلتيهما.
…
4/ 265، 4/ 268
19
…
بَابٌ
…
الصوم
…
1/ 218
…
نـ
…
ص: 261 قبله "باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر".
…
4/ 340
20
…
بَابٌ
…
المزارعة
…
2/ 29
…
نـ
…
ص: 312 قبله "باب قطع الشجر والنخل".
…
5/ 76
21
…
بَابٌ
…
المزارعة
…
2/ 30
…
نـ
…
ص: 313 قبله "باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة".
…
5/ 82
22
…
بَابٌ
…
المزارعة
…
2/ 31
…
نـ
…
ص: 314 قبله "باب من أحيا أرضًا مواتًا".
…
5/ 93
23
…
بَابٌ
…
اللقطة
…
2/ 41
…
نـ
…
ص: 329 قبله "باب من عرّف اللقطة".
…
5/ 236
24
…
بَابٌ
…
الهبة
…
2/ 60
…
نـ
…
ص: 357 قبله "باب لا يحل لأحد يرجع. . ." إلخ.
…
5/ 482
25
…
بَابٌ
…
الشهادات
…
2/ 67
…
ـــتـ
…
ص: 368 في نسخة الحاشية قبله "باب من أمر بإنجاز الوعد".
…
5/ 81
[الكتب]
…
النسخة المصرية
…
[موضعه في النسخة الهندية]
…
النسخة المحققة
26
…
بَابٌ
…
الجهاد
…
2/ 106
…
نـ
…
ثلاثة أبواب ص: (407 و 424 و 451)
…
6/ 152
27
…
باب
…
بدء الخلق
…
2/ 150
…
ـــتـ
…
…
28
…
بَابٌ
…
ذكر بني إسرائيل
…
2/ 157
…
ـــتـ
…
ص: 493 قبله "باب حديث الغار".
…
7/ 153
29
…
بَابٌ
…
المناقب
…
2/ 160
…
ـــتـ
…
ص: 496 قبله "باب المناقب".
…
7/ 188
30
…
بَابٌ
…
المناقب
…
2/ 161
…
نـ
…
ص: 497 قبله "نسبة اليمن إلى إسماعيل".
…
7/ 200
31
…
بَابٌ
…
المناقب
…
2/ 164
…
نـ
…
ص: 501 قبله "باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم".
…
7/ 237
32
…
بَابٌ
…
فضائل أبي بكر
…
2/ 175
…
ـــتـ
…
ص: 516 قبله "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا خليلًا".
…
7/ 385
33
…
بَابٌ
…
مناقب أسامة
…
2/ 184
…
ـــتـ
…
ص: 428 على الحاشية.
34
…
بَابٌ
…
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
…
2/ 206
…
ـــتـ
…
ص: 561 قبله "كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه".
…
7/ 781
35
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 3
…
نـ
…
ص: 564 قبله "باب قول الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} " 8/ 17
36
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 5
…
ـــتـ
…
ص: 567 قبله "باب فضل من شهد بدرًا".
…
8/ 42
37
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 7
…
ص: 570 قبله "باب شهود الملائكة بدرًا".
…
8/ 58
38
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 16
…
ـــتـ
…
ص: 583 قبله "باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح".
…
8/ 157
39
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 39
…
نـ
…
ص 615 قبله "باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح".
…
8/ 416
40
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 40
…
ـــتـ
…
ص: 615 قبله "باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم".
…
8/ 422
. [الكتب]
…
النسخة المصرية
…
[موضعه في النسخة الهندية]
…
النسخة المحققة
41
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 56
…
نـ
…
ص: 626 قبله "باب وفد بني تميم".
…
8/ 523
42
…
بَابٌ
…
المغازي
…
2/ 60
…
ـــتـ
…
ص: 641 قبله "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم".
…
8/ 667
43
…
بَابٌ
…
الشهادات
…
2/ 66
…
نـ
…
ص: 367 قبله "باب اليمين على المدعى عليه".
…
5/ 568
44
…
بَابٌ
…
فضائل المدينة
…
1/ 212
…
نـ
…
هذا مكرر تقدم برقم (18)، ولعله من الناسخ، لأنه تقدم هناك بابان بلا ترجمة في هذه الصفحة.
45
…
بَابٌ
…
المغازي
…
3/ 60
…
نـ
…
ص: 642 قبله "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة".
…
8/ 670
46
…
بَابٌ
…
سورة اقرأ
…
2/ 133
…
نـ
…
ص: 739 قبله سورة اقرأ.
…
10/ 199.
47
…
بَابٌ
…
النكاح
…
3/ 154
…
نـ
…
ص: 774 قبله "باب الصفرة للمتزوج".
…
10/ 495
48
…
بَابٌ
…
النكاح
…
3/ 159
…
نـ
…
ص: 782 قبله "باب لا تأذن المرأة".
…
10/ 565
49
…
بَابٌ
…
الطلاق
…
3/ 259
…
نـ
…
ص: 795 قبله "باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم".
…
10/ 691
50
…
بَابٌ
…
ههنا بياض في الأصل
…
3
…
نـ
51
…
بَابٌ
…
الطب
…
4/ 8
…
نـ
…
ص: 851 قبله "باب اللدود".
…
11/ 487
52
…
بَابٌ
…
اللباس
…
4/ 22
…
نـ
…
ص: 872 قبله "باب خاتم الفضة".
…
11/ 682
53
…
بَابٌ
…
الدعوات
…
4/ 63
…
ـــتـ
…
ص: 935 قبله "باب التعوذ والقراءة عند النوم".
…
12/ 446
54
…
بَابٌ
…
الرقاق
…
4/ 80
…
نـ
…
ص: 963 قبله "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة".
…
12/ 686
55
…
بَابٌ
…
الفتن
…
4/ 139
…
نـ
…
ص: 1052 قبله "باب الفتنه التي تموج كموج البحر".
…
13/ 789
56
…
بَابٌ
…
الحيل
…
4/ 124
…
نـ
…
ص: 1030 قبله "باب إذا غصب جارية".
…
13/ 554
[الكتب]
…
النسخة المصرية
…
[موضعه في النسخة الهندية]
…
النسخة المحققة
57
…
بَابٌ
…
الفتن
…
4/ 139
…
نـ
…
ص: 1052 على الحاشية قبله باب بلا ترجمة.
58
…
بَابٌ
…
الفتن
…
4/ 140
…
نـ
…
ص: 1054 قبله "باب خروج النار".
…
13/ 813
59
…
بَابٌ
…
الأحكام 4/ 151
…
نـ
…
ص: 1072 قبله "باب الاستخلاف".
…
14/ 149
60
…
بَابٌ
…
صـ
…
4
61
…
بَابٌ
…
صـ
…
4
62
…
بَابٌ
…
صـ
…
4
63
…
بَابٌ
…
صـ
…
4
…
انتهى ما في تراجم شيخ الهند من الجداول الأربعة.
ولا يذهب عليك أني بسطت الكلام في مقدمة "الأوجز"
(1)
على مقدمة علم الحديث من تعريفه (حدّه) وموضوعه وشرفه وفضله، وبيان بداية كتابة علم الحديث واستمداده ومبادئ العلم، وذكرت فيه أحوال الإمامين الهُمامين أبي حنيفة ومالك، [و] من ترجمة الإمام أبي حنيفة، وبيان فضله وثناء الناس عليه والبحث عن تابعية الإمام، وبيان علو مرتبته في الحديث، وبيان سبب قلة روايته على الطريق المعروفة، والرد على ما نقم عليه، وبيان مشايخه وتلامذته، وبيان ما بنى عليه مذهبه.
وذكرت فيها شرح ألفاظ كثر استعمالها في كتب الحديث، وبيان مصطلحاتهم:
منها: المتن وأنواعه الاثنا عشر.
ومنها: السند والإِسناد والإِرسال.
وبيان المرسل وأنواعه، وحكمه من القبول والرد.
وبيان الفرق بين التحديث، والإِخبار، وطرق التحمل الأربعة، والفرق بين مراتبها.
(1)
(1/ 53 - 172).
وبيان التحويل.
وبيان المرفوع، والموقوف، والأثر، واختلافهم في قبول رواية المجهول.
وبيان قولهم: أُمرنا بكذا، ونُهينا عن كذا.
والبحث عن الرواية بالمعنى.
وبيان الموصول والمقطوع.
وغير ذلك من الأبحاث الكثيرة مما تتعلق بالحديث.
وبسطت الكلام في مقدمة "اللامع"
(1)
على ترجمة أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري من ولادته وفاته، وأحواله التاريخية، وبيان مشايخه، وبيان سعة حفظه، ومناقبه، ومما ابتلي به الإمام البخاري، وبيان رد ما نقم عليه، لا سيما الكلام على مسألة خلق القرآن.
وبيان مسالك أئمة الحديث من الاجتهاد والتقليد.
وبيان علماء الحنفية في مشايخ البخاري، وبيان جماعة من العلماء انتقلوا من مسلك إلى مسلك آخر.
وبيان مؤلفات الإمام البخاري غير هذا "الجامع الصحيح"، وفضل كتاب البخاري، وسبب تأليفه، وثناء الناس على الكتاب، وبيان موضوعه ومعظم مقصوده بالتراجم، وبيان شروط البخاري في كتابه، وبيان طبقات الرواة، وبيان خصائص "الجامع الصحيح"، وبيان ثلاثيات البخاري، وأنها اثنان وعشرون حديثًا، ومشايخ الإمام البخاري في العشرين منها الحنفية، وبيان قول البخاري: أردت أن أدخل فيها غير معاد
(2)
، والإيراد عليه، والجواب عنه، وبراعة الاختتام في آخر كل كتاب عند الحافظ ابن حجر نوَّر الله مرقده.
(1)
(ص 24 - 483).
(2)
انظر: "فتح الباري"(3/ 515).
وعند هذا العبد الضعيف من أن الإشارة إلى آخر الكتاب عند الحافظ قُدِّس سرُّه، والتنبيه على تذكير الموت وهاذم اللَّذات عند هذا العبد الضعيف.
وبيان ما اهتم به الإمام البخاري من الغسل والصلاة عند كتابة كل رواية، ومدة زمان تأليف "الجامع الصحيح" عند هذا العبد الضعيف، والكلام على عدد ما في البخاري من الروايات.
وبيان مرتبة "الجامع الصحيح" في كتب الحديث.
ونقلت فيها رسالة تسمَّى بـ "ما يجب حفظه للناظر" لشيخ مشايخ الحديث في الهند الشاه عبد العزيز الدهلوي
(1)
نور الله مرقده فيها بيان مراتب كتب الحديث واختلافهم في السادس من الكتب الستة.
وبيان أنواع كتب الحديث، وأنها تسعة وعشرون نوعًا فيما تفحصت، وهي:
1 -
الجامع، و 2 - السنن، و 3 - المعجم، و 4 - المشيخة، و 5 - الأجزاء، و 6 - الرسائل، و 7 - الأربعينة، و 8 - الأفراد والغرائب، و 9 - المستدرك، و 10 - المستخرج، و 11 - العلل، و 12 - الأطراف، و 13 - التراجم، و 14 - التعاليق، و 15 - الترغيب والترهيب، و 16 - المسلسلات، و 17 - الثلاثيات، و 18 - الأمالي، و 19 - الزوائد، و 20 - المختصرات، و 21 - التخاريج، و 22 - شرح الآثار، و 23 - أسباب الحديث، و 24 - الترتيب، و 25 - التأليف على ترتيب حروف المعجم من ألفاظ الحديث، و 26 - الكتب المؤلفة في الموضوعات، و 27 - الكتب المؤلفة في الأدعية المأثورة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، و 28 - الناسخ والمنسوخ، و 29 - متشابه الحديث.
هذه تسعة وعشرون نوعًا من أنواع التأليف، ذكرت في "مقدمة اللامع"
(2)
الكلام المفصل على كل نوع من هذه الأنواع.
(1)
انظر ترجمته في: "أبجد العلوم"(3/ 44)، و"نزهة الخواطر"(7/ 268).
(2)
(ص 142 - 204).
وذكرت في "المقدمة" أيضًا تفصيل نسخ الكتَّاب والرواة عن البخاري والأسانيد إليه.
وبيان ما انتقد في "الجامع الصحيح" من الروايات.
وفيه أيضًا: بيان ما انتقد عليه شيخي وأستاذي حضرة الحاج خليل أحمد السهارنفوري
(1)
قُدِّس سرُّه مؤلف "بذل المجهود في حل أبي داود" وأيضًا بيان ما انتقد في "الجامع الصحيح" من الرواة والجواب عنه، وهذا الجواب يمشي فيما انتقد على الأئمة المجتهدين أيضًا.
وبيان مناسبة الكتب والأبواب في "الجامع الصحيح" عند الحافظ ابن حجر، وعند هذا العبد الضعيف.
وبيان شروح البخاري ومتعلقاته، وهي مائة ونيف وثلاثون، أشهرها خمسة: الفتح، والعيني، والقسطلاني، والكرماني، وقطعة من النووي، وبيان تفصيل هذه الشروح الخمسة.
وفيها ترجمة مصدر "لامع الدراري" وترجمة جامعه.
ونبهت ههنا على هذه الأبحاث المذكورة في مقدمة "الأوجز" ومقدمة "اللامع" تكميلًا للفائدة، وتنبيهًا لمن أراد البسط في نوع من الأبحاث المذكورة، فليرجع إلى هاتين المقدمتين.
والله الموفق لما يحب ويرضى.
تم الجزء الأول من"الأبواب والتراجم" للبخاري
ويتلوه الجزء الثاني، أوله:
"باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(1)
انظر ترجمته في: "مقدمة بذل المجهود"(ص 67)، و"نزهة الخواطر"(8/ 145).