الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلِّي على رسوله الكريم
اعلم أولًا: أنه وُضع تبييض هذه التراجم في الثامن من شهر الله المحرم المبارك، سنة إحدى وتسعين بعد ثلاثمائة وألف، في آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر، عند الأقدام العالية في المسجد النبوي، تقبَّل الله عني بشرف البقعة المباركة، كما تقدم مفصلًا في مبدأ الجزء الأول.
وثانيًا: أن الإمام البخاري افتتح كتابه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اقتداءً بالقرآن العظيم، وتخلُّقًا بأخلاق العزيز العليم، واقتفاءً للنبي الكريم حيث قال:"كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ [فيه] بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهو أقطع"، رواه الخطيب وعبد القادر الرهاوي بهذا اللفظ في كتاب "الجامع"
(1)
كما في "القسطلاني" و"الجامع الصغير"
(2)
.
ثم الباء جاء لأربعة عشر معنًى، والمناسب هنا الاستعانة، وهي متعلقة بمقدر، فقدّره البصريون: اسمًا مقدَّمًا، أي: ابتدائي به، والكوفيون: فعلًا مقدمًا، أي: أبدأ، وقَدّره الزمخشري: فعلًا مؤخَّرًا، أي: باسم الله أقرأ؛ اهتمامًا لشأن اسمه تعالى، وهو أولى وأتم شمولًا؛ لاقتضائه أن التسمية واقعة على القراءة كلها، وتقدير "أبدأ" يقتضي مصاحبتها لأول القراءة دون باقيها، إلى آخر ما بسطه "القسطلاني"
(3)
.
وأجاد في جواب ما أورد على الزمخشري من أن في تقديره لا تقع البداية باسمه: بأن مراد الحديث البداية به، وهو حصل بالفعل، ولم يقل في الحديث: كل أمر لا يقال فيه أبدأ بسم الله. . . إلى آخر ما بسطه.
(1)
"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(رقم 1231).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 81)، و"الجامع الصغير"(رقم 6284).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 79).
وقال القاري
(1)
: لكن قالى العارف الجامي: حقيقة الابتداء باسمه سبحانه عند العارفين، أن لا يُذكر باللسان ولا يخطر بالجَنان في الابتداء غير اسمه سبحانه، لا إثباتًا ولا نفيًا، فإِن صورة نفي الغير ملاحظة للغير، فهو أيضًا ملحوظ في الابتداء، فليس الابتداء مختصًا باسمه سبحانه، فلا حاجة إلى تقدير المحذوف مؤخرًا إلا أن يكون اسم الله سبحانه في التقدير أيضًا مقدمًا كما أنه في الذكر مقدم، انتهى.
وثالثًا: أن الإمام البخاري لم يفتتح كتابه بالحمد مع ما ورد من الحديث كما في هامش "اللامع"
(2)
، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجزم"، رواه أبو داود والنسائي
(3)
. وفي رواية ابن ماجه
(4)
: "كل أمر ذي بال لم يُبدأ فيه بالحمد أقطع"، ورواه ابن حبان
(5)
وأبو عوانة في "صحيحيهما". وقال ابن الصلاح: هذا حديث حسن بل صحيح، انتهى.
وأجاب عنه العيني
(6)
بسبعة أوجه:
الأول: أن الحديث ليس على شرطه.
الثاني: أن الحديث مخصوصٌ بالخطب زجرًا عمَّا عليه أهل الجاهلية من البداية بالأشعار.
الثالث: [أن الحديث] منسوخ؛ لما أنه عليه السلام في صلح الحديبية اكتفى بالبسملة.
الرابع: أن كتاب الله عز وجل وكُتُبَ رسوله صلى الله عليه وسلم مفتتحة بالتسمية، فقاس به البخاري.
(1)
"مرقاة المفاتيح"(1/ 44).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 487).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 4840)، "سنن النسائي الكبرى" (ح: 10331).
(4)
"سنن ابن ماجه"(ح: 1894).
(5)
"صحيح ابن حبان"(ح: 1).
(6)
"عمدة القاري"(1/ 34 - 35).
الخامس: أنَّ أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ} [العلق: 1]، و {الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]، وهما خاليتان عن الحمد.
السادس: تركه عمدًا لقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، فلم يقدِّم على كلامه صلى الله عليه وسلم شيئًا من عند نفسه من الحمد وغيره.
السابع: أنه اكتفى بالحمد باللسان.
ثم قال بعد ما أورد على كلٍّ واحد من الأجوبة المذكورة: والأحسن ما سمعتُ عن بعض أساتذتي الكبار: أن الحمدَ موجودٌ في مسوَّدته، أسقطه بعض المبيِّضِين.
وردَّ على هذا الأخير الحافظُ أشدَّ الردّ، إِذ قال
(1)
: وأبعد من ذلك كله قولُ من ادَّعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعضُ من حمل عنه الكتابَ. وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري وشيوخ شيخه وأهل عصره، كمالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق في "المصنف"، وأحمد في "المسند"، وأبي داود في "السنن"، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدِّم في ابتداء تصنيفه [خطبةً]، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنه حذفوا ذلك؟ كلا، بل يُحمل ذلك من صنيعهم على أنهم حمدوا لفظًا.
ويؤيده ما رواه الخطيب في "الجامع"
(2)
عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إِسراعٌ أو غيرُه، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصًّا بالخُطَب دون الكتب كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبةٍ حَمدَ وتشَهَّد كما صنع مسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(1)
"فتح الباري"(1/ 9).
(2)
"الجامع لأخلاق الراوي"(رقم 568).
وقال القسطلاني
(1)
: لم يأت المصنف بخطبةٍ تنبئ عن مقاصد كتابه هذا مبتدَأة بالحمد والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقتداءً بالكتاب وعملًا بما تقدم من الحديث؛ لأنه صدَّر كتابه بترجمة "بدء الوحي"، وبالحديث الدالِّ على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية، فكأنه قال: قصدت جَمْعَ وحي السُّنَّة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسنُ عملي فيه من قصدي، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فاكتفى بالتلويح عن التصريح.
وهذا ذكره الحافظ أيضًا، لكنه ذكره علَّةً لعدم ذكر الخطبة، والقسطلاني ذكره علَّةً لعدم الخطبة وعدم الحمدلة معًا، كما يدل عليه قولُه: أو اكتفى بالنطق؛ فتأمل.
واختار الشيخ الكَنكَوهي قدَّس الله سرُّه في "اللامع"
(2)
، أن ذكر أوصاف الكمال من الله أو الرحمن أو الرحيم، داخل في الحمد، لا سيما فيه التأسي بما كثر وشاع من كتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
ومن العجائب أني عندما قَدِمتُ للحج عام 1384 هـ بإِصرار من العزيز المرحوم مولانا الحاج محمد يوسف
(3)
أمير التبليغ نوّر الله مرقده وأعلى مراتبه، وأقمت معه عدة أشهر بالحرمين الشريفين، فرأيت ببركته ورفاقته رؤًى كثيرة عجيبة جدًّا في تلك السفرة.
ومن جملتها أني لمَّا خرجتُ من مكةَ صبيحةَ يوم السبت، ووصلتُ إِلى بدرٍ، أقمتُ بقيةَ اليوم والليلة المقبلة بها، ثم ترحَّلْتُ فوصلتُ البلدةَ
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 81).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 1).
(3)
هو: الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي، صاحب "حياة الصحابة"، وابن العالم الرباني مؤسِّس جماعة الدعوة والتبليغ محمد إِلياس الكاندهلوي رحمهما الله، ولد سنة 1335 هـ وتوفي سنة 1384 هـ. انظر ترجمته في كتاب "الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي حياته ومنهجه في الدعوة" للشيخ محمد الثاني الحسني.
الطاهرةَ المدينةَ المنورةَ صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بعد الألف، فرأيت رؤيا في إقامتي بتلك البلدة المباركة كأني واقف بالمسجد النبوي بين باب السعود وباب عمر بجانب المكان الذي كان الشيخ محمد يوسف رحمه الله يخطب فيه كل يوم خطبته التبليغية قريبًا من باب عمر، ورأيت جمعًا كثيرًا من العلماء من العرب والعجم، وكلهم يصرُّون عليّ أن أدرِّسَهم "الجامع الصحيح" للبخاري، وأنا لقلة بضاعتي ونقصان باعي أعتذر إليهم بأني لستُ بأهلٍ لهذا، وأيضًا لم أصحب معي الزاد العلميَّ من الكتب ونحوها؛ لأني لم أحضر بقصد القيام الطويل، بل بنية الزيارة لعدة أيام فقط.
ثم رأيت أنَّ حضرة الإمام البخاري رحمه الله متفضِّل بالجلوس عن يميني ويقول: نعم دَرِّسْ وأنا بجوارك، وحيث تكون الحاجة سأرشدك. فجلست في موضعي تلبيةً لأمره السامي، وبدأت بتدريس "جامع البخاري"، وبيَّنتُ وجوهَ عدم ذكر الخطبة والحمد والصلاة، فذكرتُ الوجوهَ السبعةَ، وكذا الوجوهَ الأُخَرَ التي تُذْكَر عند الشروع في "الكافية" لابن حاجب، فقال حضرة الإمام البخاري: إن حقيقة الأمر في هذا: هو أني لم أؤلِّفْ هذا "الجامع الصحيح" على الصورة الكتابية بحيث أن يكون تأليفه من أوله إلى آخره جملةً كما هي العادة في تأليف الكتب، وإنما هي مجموعةُ كراساتٍ فيها أبواب وكتب مختلفة جُمعت بعدئذ فصارت كتابًا. انتهت الرؤيا.
قُلتُ: لا شك أن هذا التوجيه لطيف.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
كتاب الوحي
(1 -
باب)
أصله "بَوْبٌ" قُلبت الواو ألفًا لفتح ما قبلها بدليل جمعه على أبواب، كذا في العيني
(1)
.
قال القاري في "شرح الشمائل"
(2)
: هو لغةً: اسم لمدخل الأمكنة كباب البلد وباب الدار، وعند البلغاء يقال لِمَا يُتوصل منه إلى المقصود، وهو ها هنا: معرفة أحاديث جاءت في هذا المعنى.
ونوقش أن الباب اسم لطائفة من الكتاب، له أول وآخر معلومان، وليس مدخلًا لشيء
(3)
، بل هي بيت من المعاني.
نعم لو كان البابُ اسمًا للجزء الأول منها لكان له وجه، فالأوجه
(4)
أن يقال: إنه بمعنى الوجه إذ هو من معانيه، كما في "القاموس"، إذ قال: كل باب وجه من وجوه الكلام، سُمي بابًا للاختلاف بينه وبين باب آخر كاختلاف الوجوه.
والأظهر عندي أن الكتاب بمنزلة الجنس، والباب بمنزلة النوع، والفصل بمنزلة الصِّنف، ومن باب التشبيه بالمحسوس أن الكتاب بمنزلة الدار المتضمِّنة للبيوت، فكل نوع من المسائل كبيت وأوله كبابه، انتهى مختصرًا.
(1)
"عمدة القاري"(1/ 36).
(2)
انظر: "جمع الوسائل"(1/ 8).
(3)
في "جمع الوسائل": ليست مدخلًا في شيء.
(4)
كذا في الأصل، وفي"جمع الوسائل": فالوجه.
قال القسطلاني
(1)
: الكتاب من الكَتْب، وهو الجمع والضم، ومن ثَم اسُتعمل جامعًا للأبواب، انتهى.
فيطلق الكتاب على مختلف الأنواع، والباب على متَّحِد الأنواع، والفصل على متَّحِد الأصناف.
قال الكرماني
(2)
: فيه وفي نظائره ثلاثة أوجه: رفعٌ مع التنوين، أو بدون التنوين على الإضافة، وعلى هذين الوجهين هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب، والثالث: بالوقف على سبيل التعداد، فلا إعراب له، انتهى.
وأورد القاري في "شرح الشمائل"
(3)
على هذا الأخير أن التعداد في عُرف البلغاء إنما يكون لضبط العدد من غير فصل بين أجزاء المعدود بشيء آخر، فضلًا عن إيراد الأحوال الكثيرة بين المعدودات، انتهى.
وأجمل الكلام في "اللامع"
(4)
على إضافة الباب إلى "كيف كان بدء الوحي" وقطع الإضافة، فارجع إليه.
ثم لم يترجم المصنف بلفظ الكتاب واختار لفظ الباب، بل ليس في بعض النسخ الباب أيضًا، بل بدأ بـ "كيف كان بدء الوحي. . ." إلخ، وذكر في هامش المطبوعة الهندية: لم يذكر كتاب بدء الوحي؛ لأنه ليس تحته أبواب.
قال الحافظ
(5)
: هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير "باب"، وثبت في رواية غيرهما، انتهى.
وهذا على النسخ التي بأيدينا، وأما في نسخة "فتح الباري"، فليس فيها باب أيضًا، فقال في "مقدمة الفتح"
(6)
: قال شيخنا البُلقيني: لم يقل فيه الإمام: الكتاب ولا الباب؛ لأن بدء الوحي من بعض
(7)
ما يشتمل عليه الوحي.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 144).
(2)
"صحيح البخاري بشرح الكرماني"(1/ 13).
(3)
انظر: "جمع الوسائل"(1/ 8).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 490).
(5)
"فتح الباري"(1/ 8).
(6)
انظر: "هدي الساري"(ص 480).
(7)
في الأصل "باب"، وهو تحريف.
قال الحافظ: ويظهر لي إنما عرّاه من باب؛ لأن كل باب يأتي بعده ينقسم منه، فهو أمُّ الأبواب فلا يكون قسيمًا لها، وبدأ به؛ لأنه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع، انتهى.
وقد أجاد ما أفاده مولانا محمد يوسف البنوري في أول أبواب الترمذي في "معارف السنن"
(1)
إذ قال: ويظهر فقه المحدث من تراجمه كما قيل: فقه البخاري في تراجمه.
ولهذا القول عند شيخنا - يعني: مولانا العلامة محمد أنور شاه الكشميري - محملان:
الأول: أن المسائل التي اختارها من حيث الفقه أظهر من تراجمه.
والثاني: أن تفقهه وذكاءَه ودقة فكره يظهر في تراجمه.
قال شيخنا: الإمام البخاري هو سَبّاق الغايات في وضع التراجم، بحيث ربما تنقطع دون فهمها مطامع الأفكار.
قال: ثم يتلوه في التراجم أبو عبد الرحمن النَّسائي، وربما أرى في مواضع أن تراجمهما تتوافق كلمةً كلمةً، وأظن أن النسائي تلقَّاها من شيخه البخاري، حيث إن التوارد يُستبعد في مثل هذا، ولا سيما إذا كان البخاري من شيوخه.
ثم يتلوه تراجم أبي داود، وتراجم أبي داود أعلى من تراجم الترمذي.
نعم، إن أسهل التراجم وأقربها إلى الفهم تراجم الترمذي.
قال الشيخ: وأما الإمام مسلم فلم يضع [هو] نفسه التراجم، والتراجم الموجودة في كتابه من وضع شارحه الإمام النووي، انتهى.
(كيف كان. . .) إلخ، وأشكل على تقدير إضافة الباب بأن لفظ "كيف"
(1)
"معارف السنن"(1/ 23).
يقتضي الاستئناف، قال القسطلاني
(1)
تبعًا للحافظ: لا تخرج بذلك عن الصدرية؛ لأن المراد من كون الاستفهام له الصدر أن يكون في صدر الجملة التي هو فيها. . . إلى آخر ما بسطه.
قال النووي: لا بد من تقدير المضاف، أي: باب جواب "كيف كان"؛ لأن المذكور في الباب جواب "كيف كان" لا سؤال "كيف كان".
ثم لا يذهب عليك ما في هامش "اللامع"
(2)
وهو: أعلم: أن الإمام البخاري بدأ أبوابه بلفظ "كيف" في سائر كتابه في ثلاثين موضعًا أصالة، العشرون منها في النصف الأول، والعشرة في النصف الثاني. والمراد بقولي:"أصالة" إخراج ما ذكرها تبعًا، وأكثر المواضع من هذه الثلاثين خالية عن ذكر الكيفية.
فما يخطر بالبال بمطالعة هذه الأبواب كلها أن غرض الإمام فيها ليس إِثبات الكيفية حتى يجهد في إِثبات الكيفية في كل حديث حديثٍ، بل الغرض عندي الإشارة والتنبيه إلى اختلاف العلماء، أو اختلاف الروايات في كيفية هذه الأمور التي ترجم عليها بلفظ "كيف"؛ فتأمل، فإِن خاطري أبو عذره.
ثم رأيت أن شيخ مشايخنا الشاه ولي الله الدهلوي [رحمه الله] أشار إلى ذلك في تراجمه إذ قال: قوله: "بدء الوحي" من البداية، وتخصيصه أن إِيراد "كيف" في الترجمة من قبيل إيراد التنبيه في أثناء الباب إفادة زيادة فائدة على أصل المقصود من الباب، إذ المقصود إثبات أصل الوحي.
ويمكن أن يقال: إن المراد بالوحي الحديث، وبدؤه مبدؤه الذي صدر منه وهو الله تعالى.
فمعنى "كيف كان بدء الوحي"، أي: كيف كان مبدؤ ما روي عنه صلى الله عليه وسلم؛ فأثبت بأحاديث الباب أنه كان بالوحي وتوسُّط الملَك.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 82).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 486).
فكأنه أثبت أنا أخذنا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عن جبرئيل عليه السلام، وهو عن الله تعالى.
فبهذين الوجهين ينحلُّ ما يورَد ههنا من أنه ليس في أكثر أحاديث الباب إثبات كيفية بدء الوحي، بل ذكر أصله، وإنما هو في حديث [واحد] فتذكر، انتهى.
وفي تراجم شيخ الهند قُدِّس سرُّه ما تعريبه ملخصًا: أنا قد قَدَّمْنا في الأصول أن المصنف قد لا يقصد بالترجمة مدلولَها المطابقيَّ، بل يشير إلى غرض خاص يقصد إثباته بأحاديث الباب كما فعل ههنا.
ويظهر ذلك بأمرين:
الأول: أنه صدَّر الكتاب بباب بدء الوحي، مع أنه ذكر كتاب فضائل القرآن في محله كما ذكره المحدثون في كتبهم، وأورد هناك عدة أبواب تتعلق بنزول الوحي، فما الذي ألجأه إلى إفراد هذا الباب ها هنا من تلك الأبواب؟ وما الذي حَرَّضه على اختيار هذا الطريق الجديد؟
فالذي يظهر من أدنى عناية، أن جميع الأصول والفروع الإسلامية، حتى نبوَّة النبي، لَمّا كانت تتوقف صحتُه على الوحي، كان ذكرُه في أول الكتاب حتى قبل الإيمان والعلم أنسبَ، كما نبَّه عليه بعض الشرَّاح المحققين.
فاستبان بذلك أن غرضَ المؤلف في هذا الباب، أن الوحي لَمّا كان مدارَ الأمور الإسلامية، وهو الدليل الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو أن جميع العقلاء والحكماء بل جميع الخلق اجتمعوا على أن يأتوا بما يعارض حكمًا من أحكامه، لَمَا قدروا على ذلك، وهو المحك الكامل والمعيار الذي يُعرف به الجيدُ من الرديء، والصوابُ من الخطأ، فكل ما وافقه فهو الصواب، وكل ما خالفه فهو الباطل، سواء كانت العقائد، أو الأعمال، أو الفروع، أو الأصول، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق، أو الأحوال.
فالوحي هو البرهان الساطع والدليل القاطع الذي لا يعتبر بجنبه أيّ دليل، فلذا قدَّم المصنفُ الوحيَ، ويذكر صدقه وعظمته وعصمته، ثم يذكر سائر الأمور، فإن كلها مأخوذة من الوحي، حتى إن الأحوال المتعلقة بالوحي أيضًا تكون مأخوذةً من الوحي، فإنه المعتمد في الباب.
والأمر الثاني: أن المصنفَ أورد في الباب ستة أحاديث، ولا يناسب بظاهر الترجمة إلا حديثٌ واحد، فالذي يظهر أن غرضه ليس هو ظاهر الترجمة، بل هو أمرٌ آخر ينبغي استخراجه من النظر في أحاديث الباب، ويكون ذلك الأمر مشتركًا في الكلِّ مناسبًا بالمقام.
فالذي يظهر بالتأمل أن المصنف بصدد بيان عظمة الوحي كما لا يخفى على المتأمِّل المتفطِّن.
ثم البدء عام: البدء الزماني والمكاني كما يظهر من الأحاديث، وكذا الوحي يعم المتلوَّ وغيرَه كما صرَّح به الشاه ولي الله، بل المقصود الأعظم هو الوحي غير المتلو، بل لو أريد به الوحي المتلو لكان منافيًا لغرض المصنف مع كونه يخلّ في المطابقة بالأحاديث، فالحذر كل الحذر.
والخلاصة: أن هذا الباب مقدمة الكتاب وتتلوه المقاصد، انتهى.
وأفاد عزيزي مولانا محمد يونس شيخ الحديث بمظاهر علوم بسهارنفور ما نصُّه:
والذي كان يخطر ببالي منذ زمان، أن غرض الإمام البخاري بهذا الباب بيان كيفية ابتداء الوحي، وما صادف الوحي في بدئه من الأمور والوقائع والأحوال والكيفيات والأزمان، فيعم البدء ابتداءه من الله تبارك وتعالى ووصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما عرض له صلى الله عليه وسلم من الخوف والدهش ورجف البوادر وتحريك الشفتين وإتيان الوحي في صورة الصلصلة، وكذا يعم ما عرض للوحي بعد ظهوره في الناس من تكذيبهم ومخالفتهم وتمادي ذلك إلى صلح الحديبية، ففي البدء امتداد، وليس المراد بدءًا آنيًّا وما يتعلق بالحصة الابتدائية، كما يقال: كان الإسلام في أول أمره غريبًا لا يقبله إلا
واحد بعد واحد، ويخالفهم الأكثرون، ويؤذونهم، ويخرجونهم من أوطانهم، وغير ذلك، وعلى هذا فمطابقة آية:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ظاهرة؛ لأن قومه كذّبوه وخالفوه، وهكذا الأمم بعدهم.
ثم راجعت الكرماني؛ ففيه ما يؤيده أو يصرِّح به حيث قال: والمراد من حال ابتداء الوحي حالُه مع كل ما يتعلق بشأنه، أيَّ تعلُّقٍ كان، كما في التعلُّق الذي للحديث الهرقلي، وهو أن القصة وقعت في أحوال البعثة ومبادئها
(1)
، انتهى.
(بدء الوحي) قال الحافظُ
(2)
: قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو، من الظهور، قال الحافظ: ولم أره مضبوطًا في شيء من الروايات التي اتصلت بنا، إلا أنه وقع في بعضها "كيف كان ابتداء الوحي"، فهذا يرجح الأول.
ثم الوحي لغةً: الإعلامُ الخفيُّ، وشرعًا: إعلامٌ بالشرع، وقد يُطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه، أي: الموحى، وهو كلام الله تعالى المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبسط في هامش "اللامع"
(3)
الكلام على أنواع الوحي.
وقال الحليمي
(4)
: أنواعه ستة وأربعون.
وقال السهيلي
(5)
: سبعة: الأولى: المنام، والثانية: كصلصلة الجرس، والثالثة: أن ينفث في روعه، والرابعة: أن يتمثل الملك رجلًا، والخامسة: أن يتراءى جبرئيل عليه السلام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، له ستمائة جناح، والسادسة: أن يكلِّمه الله تعالى من وراء حجاب، السابعة: وحي إسرافيل، انتهى مختصرًا.
(1)
"شرح صحيح البخاري" للكرماني (1/ 15).
(2)
"فتح الباري"(1/ 9).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 494).
(4)
انظر: "فتح الباري"(1/ 20).
(5)
"الروض الأنف"(1/ 400).
قلت: السابعة داخلة في الرابعة والخامسة، وإلا فوحي الملائكة غير إسرافيل أيضًا ثابت في الروايات، كملك الجبال وغيره، فالأوجه عندي اقتصارها على أربعة: أحدها: سماع الكلام القديم، الثانية: بواسطة الملك، الثالثة: التلقي بالقلب، الرابعة: وحي منام، وباقي الأقسام يرجع إِلى هذه الأربعة.
وما قيل: إنها تبلغ إلى ستة وأربعين نوعًا، مستدلًا بحديث:"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"
(1)
- وقد بسط الكلام على هذا الحديث في "الأوجز"
(2)
أشدّ البسط -؛ يشكل عليه أن هذه الرؤيا التي رُئيت ستة أشهر كانت قبل النبوة، فكيف عُدَّتْ من أجزائها؟
ويمكن التفصي عنه أنهم قالوا: بدء النبوة في ربيع الأول سنة أربعين من مولده، ففي "الأوجز"
(3)
: وقد كان ابتداء الوحي على رأس الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم، كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وذلك في ربيع الأول، ونزول جبرئيل عليه السلام[إِليه] وهو في غار حراء كان في رمضان، وبينهما ستة أشهر، انتهى.
ثم قدَّم الإمامُ الوحيَ على الإيمان أيضًا إشارةً إلى أن كل ما يأتي من العقائد والأحكام وغيرها كلها متفرِّع عن الوحي ومرتب عليه، وأيضًا فإن الوحي قطعي لكونه منه عَزّ اسمه، فالثابت به كله قطعي، ومن المناسبات أن يقال: إن المصنف صدَّر ببدء الوحي، ثم ذكر الإيمان، ثم العلم، ثم الطهارة؛ لأنه جمع في هذا الكتاب وحي السُّنَّة التي هي ينبوع الشريعة، وكان الوحي لبيان الأحكام الشرعية، صدَّره بحديث الأعمال، والعمل يحتاج إلى العلم، والعلم لا يعتبر به إلا بعد الإيمان، فلذا عقَّب الوحي بالإيمان، ثم عقبه بالعلم، ثم عقبه بالطهارة التي هي شرط لأفضل الأعمال وهي الصلاة.
(1)
أخرجه البخاري (ح: 6989).
(2)
"أوجز المسالك"(17/ 120).
(3)
"أوجز المسالك"(17/ 127)، وانظر:"فتح الباري"(12/ 364).
ومما يجب التنبيه عليه أيضًا أنه سيأتي في آخر التفسير "باب كيف نزل الوحي"، قال الحافظُ: الترجمة الثانية أخص من الأولى.
وعندي، ما أفاده الحافظُ نَوّر الله مرقده متعلق بالجزء الثاني من الترجمة.
والظاهر عند هذا العبد الضعيف أن بين الترجمتين - بين قوله: "كيف كان بدء الوحي"، وبين قوله:"كيف نزل الوحي" -، عمومًا وخصوصًا من وجه، فإن المنظور في الأول بدء الحديث أعم من أن يكون قرآنًا أو غيره، والمنظور هناك كيفية نزول القرآن كما يدل عليه ذكره في كتاب فضائل القرآن أعم من أن يكون بدءًا أولًا كما يظهر من ملاحظة الروايات الواردة في الباب، فتدبَّر.
وقد تقدم في مبدأ الباب، وكذا في الأصول، أن الترجمة عند شيخ الهند من الأصل الحادي والعشرين، وليس غرضه إلا بيان عظمة الوحي على طريق الالتزام، واستنبط ذلك أيضًا من قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163]، إذ ذكره بلفظ صيغة الجمع الدالة على التعظيم، وقد بسط الكلام على ذلك في الأصل الحادي والعشرين من أصول التراجم.
(إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) الإضافة للعهد الخارجي، والمراد سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجملة وإن كانت خبريةً لكنها بمعنى الإنشاء، وينبغي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كُلّما ذكر، والخلاف في ذلك مشهور، والأصل الاختلافُ في مؤدَّى قوله عزّ اسمه:{صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] أن الأمر للتكرار أم لا؟
وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"
(1)
وفيه: قال الحافظ في "الفتح"
(2)
: أما حكمها فحاصل ما وقفتُ عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(3/ 395).
(2)
"فتح الباري"(11/ 152).
(وقول الله عز وجل) بالرفع على حذف الباب عطفًا على الجملة؛ لأنها في محل الرفع، وكذا على تنوين "باب"، وبالجر عطفًا على "كيف" وإثبات "باب" بغير تنوين، والتقدير: باب معنى قول الله تعالى [كذا]، أو الاحتجاج بقوله تعالى كذا، ولا يصح تقدير كيفية قوله تعالى؛ لأن كلامه تعالى لا يكيَّف، قاله عياض، ويجوز الرفع على القطع وغيره، كذا في "الفتح"
(1)
.
({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا}) مناسبة الآية بالترجمة واضحة من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين، ومن جهة أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نعيم في "الدلائل"، كذا في "الفتح"
(2)
، أو التشبيه في وحي الرسالة فيكون بدؤه كبدء وحيهم، كذا في "اللامع"
(3)
، أو احتراز عن وحي غير الرسالة، كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] كذا في حاشية "اللامع" عن السندي، أو بيان لمرسِلِ الوحي وهو الله عز وجل.
فإن الوحي يتضمن ثلاثة أشياء: المرسِل، والواسطة، والمرسَل إليه، فهذا بيان للثلاثة، فللأول: أي مبدأ الوحي بقوله: إنا، وللثالث بقوله: إِليك، وللواسطة بقوله: كما أوحينا، فإن الوحي إلى الأنبياء كان عامًّا بواسطة الملَك.
وعندي التشبيه في جميع أنواع الوحي - من المنام والتكلم من وراء حجاب وغيرهما -، فالمعنى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى جميعهم بجميع أنواع الوحي.
وقال الكرماني
(4)
: ذكر البخاري الآية الكريمة؛ لأن عادته أن يستدل للترجمة بما وقع [له] من قرآن أو سُنَّة مسندة وغيرها، وأراد أن الوحي سُنَّة الله في أنبيائه.
(1)
"فتح الباري"(1/ 9).
(2)
"فتح الباري"(1/ 9).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 491).
(4)
"شرح الكرماني"(1/ 14).
وقال ابن بطال: معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى سائر الأنبياء وحي رسالة لا وحي إلهام؛ لأن الوحي ينقسم إلى وجوه، انتهى.
({إِلَى نُوحٍ. . .} إلخ)، التشبيه بنوح لا يخرج غيره، كما أن تشبيه الأسود بالغراب لا يخرج تشبيهه بالفحم وغيره، أو التشبيه بأُولي العزم من الرسل، فإن ما قبل نوحٍ كانوا أنبياءَ، واختلف في كونهم رُسُلًا، أو التشبيه بكونه رسولًا إلى الكفار، فإِن الكفر قبل نوح لم يَشعْ كشيوعه في زمان نوح، كذا في "اللامع"
(1)
، أو لأنه أول رسول آذاه قومُه كما وقع مثلُه لنبينا صلى الله عليه وسلم، كذا في "القسطلاني"
(2)
، أو لأنه أول الآباء بعد الطوفان، ذكره العيني
(3)
.
أو لأن الوحي إلى نوح ومن بعده كان في الأحكام الشرعية، وقبله كان في الأحكام المدنية، والوحي إليه صلى الله عليه وسلم كان من قبيل الأول دون الثاني، فإنهم قالوا: إن العالم كله بمنزلة شخص كان إلى زمن نوح زمان الطفولية، ولذا كان الوحي من قبيل الزراعة والصناعة، وكان زمن نوح ومن بعده زمان الشباب والتكليف، وزمان إبراهيم ومن بعده زمان الكهولية، ولذا خلق في هذا الزمان الفلاسفة واليونانيون، كذا أفاده شيخ الإسلام مولانا حسين أحمد المدني نوَّر الله مرقده في "تقريره"، وقد سبق إليه شيخ الهند في "تراجمه" مختصرًا.
وفي "الفيض"
(4)
: خص نوحًا عليه السلام بذكر دون آدم؛ لأن الوحي قبله كان في الأمور التكوينية، ولم يكن فيه كثير من أحكام الحلال والحرام، كما ذكره الشاه ولي الله في رسالته "تأويل الحديث". وذكر الشاه عبد العزيز رحمه الله: أنه لما هبط آدم عليه السلام من الجنة أعطي بذورًا للزرع، وأكثر
(1)
"لامع الدراري"(1/ 491).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 83).
(3)
"عمدة القاري"(1/ 40).
(4)
"فيض الباري"(1/ 79).
أحكامه كان من هذا القبيل، ثم تغيرت شاكلته من زمن نوح، فنزلت الأحكام والشرائع، كما يعلم من التفاسير: أن الكفر إنما ظهر في السبط السادس من قابيل، وأول رسول بعثه الله لِزَهْقِه هو نوح عليه الصلاة والسلام، ولم يكن قبله كفرٌ، ومن هنا صار لقبه:"نبي الله"، فإنه أول نبي بُعِثَ لإزهاق الكفر، والناس كلهم الآن من نسلِه، فهو آدم الثاني، ومنه نشر العالم بعد لَفِّه، كذا ذكره المؤرخون، انتهى.
({وَالنَّبِيِّينَ}) والجمع المحلّى باللام يفيد الاستغراق، فأشار إلى أن جميع أنواع الوحي إلى جميع الأنبياء يوحى إليك.
(حدثنا الحميدي) مصنِّفٌ مشهور: أبو بكر عبد الله بن الزبير المكي القرشي
(1)
، بدأ المصنف بروايته لكونه قرشيًا، وقال عليه الصلاة والسلام:"قَدِّموا قريشًا"
(2)
فبدأ به، أو لكونه مكيًّا وبدأ الوحي في مكة. وثَنّى برواية مالك؛ لأنه مدني، وثنَّى الوحي في المدينة، كذا في "الفتح"
(3)
.
ومن المناسبات في أول سند هذا الكتاب وآخر السند منه: أنهما مشتملان على مادة الحمد، فبدؤه من الحميدي، وانتهاؤه إلى أحمد بن إشكاب، فكأن فيه إشارةً إلى كون الابتداء والانتهاء محمودَيْنِ، وإشارةً إلى حسن نية المصنف في الأول والآخر، وقد يكون إشارةً إلى المداومة على الحمد ما ورد في آخر الحديث من قوله:"سبحان الله وبحمده"، فالإِنسان يحمده تعالى إلى أن يكون منتهاه الجنة التي دعوى أهلها: الحمد لله رب العالمين.
(1)
انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(10/ 616)، و"تهذيب التهذيب"(5/ 214)، و"فتح الباري"(1/ 10)، و"عمدة القاري"(1/ 42).
(2)
"مسند الإمام الشافعي"(1/ 278)، (ح 1354)، وقال الحافظ في "التلخيص" (2/ 151): وقد جمعتُ طرقَه في جزء كبير.
(3)
"فتح الباري"(1/ 10).
(حدثنا سفيان) هو ابن عيينة المكي
(1)
، يقال: إن الإمام جمع في أول سنده جميع أنواع التحمل من التحديث والإخبار والعنعنة والسماع، كذا في "الفتح"
(2)
، وليست العنعنة في نسخنا الهندية ولكنها موجودة في نسخة "الفتح" بين سفيان ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبسط الكلام في مقدمة "الأوجز"
(3)
على الفرق بين ألفاظ التحمل هذه الأربعة، وبيانِ الفرق بين مراتبها من أن الإخبار والتحديث والإنباء كلها سواء في المرتبة، أو فيها فرق في الأولوية؟ فارجع إليه إن شئت التفصيل، وسيأتي شيء من الكلام على ذلك في كتاب العلم في "باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا. . ." إلخ.
(حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري)
(4)
: هكذا في النسخ الهندية، وقد عرفت أنها في نسخة "الفتح" بلفظ العنعنة: عن يحيى بن سعيد، ويقال: إن الحديث متواتر عنه، فروى عنه مائتان وخمسون، وقيل: أكثر من ثلاثمائة، وقيل: سبعمائة، قال الحافظ
(5)
: لكني تتبعته منذ سمعت هذا فلم يبلغ مائة، انتهى.
قلت: الحديث غريبٌ فردٌ باعتبار أوله، مشهور باعتبار آخره، وليس بمتواتر كما قيل، فإنه لم يَرْوِه غيرُ عمر رضي الله عنه، ولم يرو عنه إلا علقمةُ، ولم يرو عنه غيرُ التيمي، ولم يرو عنه غيرُ يحيى بن سعيد واشتهر عنه، كذا في العيني
(6)
.
قال الحافظ
(7)
: هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة
(1)
انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(8/ 454)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 264)، و"تهذيب التهذيب"(4/ 117).
(2)
"فتح الباري"(1/ 10).
(3)
"أوجز المسالك"(1/ 212).
(4)
انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(5/ 468)، و"تهذيب التهذيب"(11/ 221)، و"شذرات الذهب"(1/ 212).
(5)
"فتح الباري"(1/ 11).
(6)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 45).
(7)
"فتح الباري"(1/ 11).
المشهورون إلا "الموطأ"، ووهم من زعم أنه في "الموطأ" مغترًا بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك.
وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودًا لكونه فردًا؛ لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرَّد به مَن فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي وجماعة.
وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يُعْرَف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين:
أحدهما: الصحة؛ لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وغيره.
قلت: بسط العيني
(1)
في طرقها وأسماء الصحابة الذين روي عنهم هذا الحديث.
وتعقب السيوطي كلام الحافظ، إذ قال في شرح "الموطأ"
(2)
: في رواية محمد بن الحسن عن مالك، أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها حديث الأعمال بالنيات، انتهى، كذا في "السعاية"، وهو كذلك، فالحديث في آخر "الموطأ" لمحمد في باب النوادر.
وما قال الحافظ: وهم من زعم. . . إلخ، أراد به الحافظ ابن دحية.
قال الحافظ
(3)
: ثانيهما - أي: ثاني القيدين -: السياق؛ لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحَّتْ في مطلق النية، كحديث:"يُبْعَثُون على نياتهم"، وحديث:"ولكن جهادٌ ونية"، وحديث:"رُبَّ قتيل بين الصفين، الله أعلم بنيته"، وحديث:"من غزا وهو لا ينوي إلا عقالًا فله ما نوى"، ذكر الحافظ تخريج هذه الروايات، ثم قال: وغير ذلك مما يتعسَّر حصرُه.
وعُرِفَ بهذا التقرير غلطُ من زعم أن حديث عمر رضي الله عنه متواتر، إلا إن
(1)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 46).
(2)
"تنوير الحوالك"(1/ 10).
(3)
"فتح الباري"(1/ 11).
حُمِلَ على التواتر المعنوي فيُحتمل، نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد. . . إلى آخر ما بسطه.
وقد نقل المنذري في "الترغيب"
(1)
عن بعض المتأخرين تواتُرَه ثم ردَّه، وزعم أبو عبد الله الأُبيُّ أن ابن الصلاح ادعى تواتره، وهذا وهمٌ، فإن ابن الصلاح ادعى انحصار المتواتر في حديث:"من كذب عليّ متعمدًا" كما ذكره الحافظُ ابن حجر
(2)
، وتلميذه السخاوي
(3)
. وقال النووي في "شرح مسلم"
(4)
: قال الأئمة: ليس هو متواترًا وإن كان مشهورًا عند الخاصة والعامة؛ لأنه فقد شرط التواتر في أوله، انتهى.
ومن العجائب أن الحديث الأول من جامع البخاري على القول المشهور غريب كما رأيتَ، والحديث الآخر من الكتاب وهو:"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن"، الحديث أيضًا غريب. كما ذكر في آخر هامش "اللامع"
(5)
: أن الحديث تفرد به محمد بن فضيل وشيخه وشيخ شيخه وصحابيه كما في "الفتح"
(6)
، فلا يتوحش من ينظر كثيرًا بين سطور "الهداية" في الفقه الحنفي لفظ "قلت: غريب"؛ لأن الغرابة لا تستلزم الضعف، وإن كان الغريب قد يستعمل بمعنى الشاذ أيضًا، فتنبه لذلك.
(على المنبر) وُضِعَ سنة سبع أو ثمان، ورجّحه في "البذل"، وفيه أقوال عديدة: من الثانية إلى التاسعة، بسطت في هامشي على "البذل"
(7)
وأكثر منها في رسالتي "الوقائع والدهور"، يقال: إن عمر رضي الله عنه لما ذكره في الخطبة كما يدل عليه لفظ "على المنبر" أقام الإمام البخاري الحديث مقام خطبة الكتاب.
قال العيني
(8)
في بيان تعلق الحديث بالترجمة: الثالث: إنما أتى به على قصد الخطبة.
(1)
"الترغيب"(1/ 57).
(2)
انظر: "نزهة النظر"(ص 18).
(3)
انظر: "فتح المغيث"(3/ 39).
(4)
"شرح صحيح مسلم"(7/ 62).
(5)
"لامع الدراري"(10/ 406).
(6)
"فتح الباري"(13/ 540).
(7)
انظر: "بذل المجهود"(5/ 97).
(8)
"عمدة القاري"(1/ 42).
وقال محمد بن إسماعيل التيمي: لما كان الكتاب معقودًا على أخبار النبي عليه السلام طلب المصنف تصديره بأول شأن الرسالة وهو الوحي، ولم ير أن يقدِّم عليه شيئًا لا خطبةً ولا غيرَها، بل أورد حديث:"إنما الأعمال بالنيات" بدل الخطبة.
وقال بعضهم: ولهذه النكتة اختار سياق هذه الطريق؛ لأنها تضمنت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بهذا الحديث على المنبر، فلما صلح أن يدخل في خطبة المنابر كان صالحًا أن يدخل في خطبة الدفاتر. ولكن تَعَقَّبَ على هذا التوجيه العينيُّ، فارجع إليه لو شئت.
وأيضًا ورد أنه عليه السلام خطب به حين قدم المدينة مهاجرًا، فناسب إيراده في بدء الوحي؛ لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدِّمة لها.
(سمعته يقول) أي: حال كونه يقول؛ لأن "سمعت" لا يتعدى إلى مفعولين، واختار الفارسي أن ما بعد "سمعت" إن كان مما يُسْمَعُ، كسمعتُ القرآن، تَعَدَّت إلى مفعول واحد، وإلا كما هنا تَعَدَّتْ إلى مفعولين، فجملة "يقول" على هذا مفعولٌ ثانٍ، انتهى مختصرًا من "القسطلاني"
(1)
.
وقال القاري في "المرقاة"
(2)
: الأول قول الجمهور، انتهى.
(إنما الأعمال بالنيات): كذا ها هنا بمقابلة الجمع بالجمع، يعني كل عمل بنيته، وقال بعضهم: كأنه أشار إلى أن النية أيضًا تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وَجْهَ الله عز وجل، أو تحصيلَ موعوده، أو الاتقاءَ لوعيده، ووقع في معظم الروايات بإفراد النية.
ووجهه: أن النية فعل القلب وهو واحد، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد، كذا في "الفتح"
(3)
، ثم أورد على الإمام عدمُ المناسبة من بين الحديث والترجمة.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 89).
(2)
"مرقاة المفاتيح"(1/ 188).
(3)
"فتح الباري"(1/ 12).
ووُجِّهَ بوجوه:
فقيل: الحديث بمنزلة الخطبة كما تقدم، وقيل: لمجرد تصحيح نية القارئ، وقيل: تنبيه على أن المصنف راعى في الكتاب حسن نيته.
وأورد على الثلاثة المذكورة أنه كان حقه أن يقدم على الترجمة.
وأجيب: بأنه أَخَّرَ الحديث عن الوحي تنبيهًا على أن المنويَّ المذكورَ في الحديث هو الذي يعتبر عند الشارح، ومداره على الوحي، ووُجِّهَ اهتمامًا بشأن الآية.
وقيل: من الناسخين، وتعقب: بأن النُّسَخ متوافرة على ذلك.
ووُجِّهَ: بأن الحديث أيضًا من الوحي، وتعقب: بأن الباب بدء الوحي، فالأوجه في الجواب أن الترجمة بمدلول التزاميٍّ عظمة الوحي، وثبت بالوحي لخلوص نيته صلى الله عليه وسلم كما مرّ في الأصل الحادي والعشرين من الأصول السبعين.
وأجاد في "اللامع"
(1)
في بيان المناسبة، وبسط الكلام عليها.
وحاصلها: أن بعض الأعمال كثيرًا ما يترتب عليها بعض الفواضل، ويدلُّك عليه قولُه عليه الصلاة والسلام:"أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير"
(2)
.
وعلى هذا فالحديث بيان لبدء الوحي، أن السبب في بدء الوحي إليه ما جُبِلَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إخلاص النية وخلوص النصيحة لله ربِّ العالمين، ولسائر خليقته، والتوجيه المذكور فيه مبني على أن لفظة "كيف" كما يسأل بها عن كيفية الشيء وصفته، فكذلك هي مسؤولة بها سببُ وجود الأمر وحدوثه، يقال: كيف جئتَ؟ والمقصود ليس هو استفسار كيفية مجيئه بل سبب إتيانه. . . إلى آخر ما بسط في "اللامع"
(3)
.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 493).
(2)
أخرجه مسلم (ح: 194).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 492).
وفي الحديث مسألة شهيرة خلافية وهي: الصحة أو الإثابة، ويؤيدنا: أن إزالة النجاسة عن الثوب مثلًا لا تحتاج إِلى النية في الطهارة، وله نظائر تُنْظَر من "القسطلاني"
(1)
، فكذا الحدث لا يحتاج إلى إزالته إلى النية عندنا بخلاف غيرنا كما هي مبسوطة في كتب الفقه.
وكتب الشيخ في "البذل"
(2)
: لفظ "إنما" للحصر، فالتقدير: إنما الأعمال تعتبر إذا كانت بنية، ولا تعتبر إذا كانت بلا نية، ولا يمكن ها هنا نفس الأعمال لثبوتها حِسًّا وصورةً من غير اقتران النية بها، فلا بد من إضمار شيء يتوجه إليه النفي، ويتعلق به الجار، فقيل: التقدير: صحيحة أو تصح، كما هو رأي الشافعي وأتباعه، وقيل: كاملة أو تكمل، على رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والأظهر أن المقدَّر: معتبرة أو تعتبر، ليشمل الأعمال كلَّها، سواء كانت عباداتٍ مستقلاتٍ كالصلاة والزكاة، فإن النية تعتبر لصحَّتها إجماعًا، أو شروطًا في الطاعات كالطهارة وستر العورة، فإنها تعتبر لحصول ثوابها اتفاقًا لعدم توقف الشروط على النية في الصحة، خلافًا للشافعي في الطهارة، فعليه بيان الفرق، أو أمورًا مباحة، فإنها قد تنقلب بالنيات حسناتٍ، كما أنها قد تنقلب سيئات بلا خلاف، غاية ما في الباب أن متعلق الصحَّة والكمال يعرف من الخارج ولا محظور فيه.
قال القاري
(3)
: واستثني بعضُ الأعمال من هذا العموم كصريح الطلاق والعتاق؛ لأن تعيين الشارع هذه الألفاظَ لأجل هذه المعاني بمنزلة النية، ولا يخفى أن هذه إنما هو بالنسبة إلى الصحة والجواز، وأما بالنسبة إلى الثواب فلا بد من تصحيح النية، انتهى.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 91).
(2)
"بذل المجهود"(8/ 199).
(3)
"مرقاة المفاتيح"(1/ 99).
والحديث المذكور أحد الأحاديث الأربعة التي انتخبها الإمام أبو داود
(1)
من خمسمائة ألف، وهذا أحدها.
والثاني: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه".
والثالث: "من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه".
والرابع: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهة" الحديث، وقد روي بألفاظ مختلفة، انتهى.
وسبقه الإمام أبو حنيفة إذ انتخب من خمسمائة ألف، وزاد على الأربعة المذكورة حديثًا خامسًا، وهو:"المسلم من سَلِمَ المسلمون" الحديث، ولعل الإمام أبا حنيفة زاده اهتمامًا لشأنه، والإمام أبو داود حذفه لدخوله في الحديث الثاني:"لا يكون المؤمن مؤمنًا" الحديث، وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"
(2)
.
وفيه قال شيخ مشايخنا الشاه عبد العزيز الدهلوي في "البستان"
(3)
بعد قول أبي داود: هو كذلك، فإن الأول يكفي لتصحيح العبادات، والثاني لمعرفة الحقوق، والثالث لمحافظة الأوقات، والرابع لرفع الشك والتردد من اختلاف العلماء وغيره، انتهى.
وقال الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل: حديث النيات ثُلُث العلم، قاله النووي في "شرح البخاري"
(4)
.
وقال المتأخرون: مدار الإسلام على حديث واحد وهو حديث جرير: "الدين النصيحة".
كما بسط الكلام عليه في هامش "اللامع"
(5)
في آخر كتاب الإيمان، وفيه: قال الحافظ
(6)
: هذا من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أحد أرباع
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 95).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 188).
(3)
"بستان المحدثين"(ص 81).
(4)
انظر: "فيض الباري مختصر شرح صحيح البخاري"(ص 11).
(5)
"لامع الدرارى"(1/ 612).
(6)
"فتح الباري"(1/ 138).
الدين، وممن عدَّه فيها الإمامُ محمدُ بنُ أسلم الطوسي، وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها، انتهى.
(وإنما لكل امرئ ما نوى): جنح القرطبي إلى أنها مؤكِّدة للجملة الأولى، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، كما بسط الحافظ في "الفتح"
(1)
أشد البسط.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الجملة الأولى: بيان لمدار الثواب على العبادة، فلا يحصل إلا بالنية، والجملة الثانية: تعميم لكثرة النية في عمل واحد، كما بسطه الشيخ قطب الدين في "مظاهرِ حق"
(2)
على "المشكاة" بالأردية أشد البسط أيضًا: أن الرجل مثلًا إذا نوى في دخول المسجد الاعتكافَ، والتجنبَ عن المعاصي، وانتظارَ الصلاة، والتبتلَ إلى الله تبارك وتعالى، وتحصيلَ العلم، ومجالسةَ الصالحين، ولقاءَ المسلمين، وغيرَ ذلك من الأمور الكثيرة، فيحصل له ثواب كل ما نوى، انتهى.
وما يَرِدُ عليه أن من صام رمضان نفلًا يقع فرضًا، بسط في جوابه القسطلاني
(3)
وقال: لا يرد على دعوى الحصر نحوُ صوم رمضان بنية قضاء أو نذر، حيث لم يقع له ما نوى؛ لعدم قابلية المحل. . . إلى آخر ما بسطه.
(فمن كانت هجرته إلى دنيا. . .) إلخ، واختلف في أن حَذْفَ الجملة الأولى وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" من البخاري أو من شيخه الحميدي؟ وقد روي عن الحميدي بكلتا الجملتين كما بسطه الحافظ
(4)
، انتهى.
والدنيا مشتق من الدنو بمعنى القرب والدناءة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 14).
(2)
"مظاهر حق"(1/ 18).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 91).
(4)
"فتح الباري"(1/ 15).
واختلفوا في حقيقة الدنيا كما بسطه أهل السلوك، وقالوا: إن الدنيا غفلة عن الله تبارك وتعالى، لا المال والأهل والمتاع.
قال العارف الرومي:
جيست دنيا از خدا غافل بودن
…
نى قماش ونقره وفرزند وزن
قال النووي
(1)
: ذكر الإمام البخاري الحديث المذكور في سبعة مواضع من "صحيحه"، فذكره هنا، ثم في "الإيمان"، وفي "النكاح"، و"العتق "، و"الهجرة"، و"ترك الحِيَل"، و"النذور"، انتهى.
قلت: ذكر الإمام الحديث في ستة مواضع بكلتا الجملتين، وحذف الأولى في الموضع الأول، وأورد عليه حبيبي المولوي بدر عالم المهاجر المدني المرحوم لَمّا حضرتُ المدينةَ المنورةَ في سنة ثلاث وثمانين، وقال: كان حق المؤلف أن يذكر الحديث في أول موضعه بتمامه ويختصر فيما بعدُ، وقال: لم أظفر على جوابٍ شافٍ لهذا، فوقع في نفسي على سؤاله أن دفع المضرة لمَّا كان أهمَّ من جلب المنفعة، وكان هذا موضع البداية، فلعل المصنف رحمه الله أراد أن يُنَبِّهَ الطالبين على التحرز عن فساد النية في أول كتابه.
وقد قال الحافظ
(2)
: فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على "البخاري": إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية ردّ علمها إلى الله تعالى، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عَرَّضَ إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهَي التقسيم مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام، انتهى ملخصًا.
وحاصله: أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة
(1)
"شرح صحيح مسلم"(7/ 62).
(2)
"فتح الباري"(1/ 15).
تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حَذَفَ الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارًا من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضًا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي بمقتضى نيته، انتهى.
وقد اشتُهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس، المروية في "المعجم الكبير"
(1)
للطبراني بإِسنادٍ رجالُه ثقات: عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبَتْ أن تتزوَّجه حتى يهاجِرَ، فهاجَرَ فتزوَّجها، فكنا نسميه مهاجِرَ أم قيس".
ولم يقف ابن رجب على من خَرّجه فقال: ذكره كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر له أصلًا بإسناد صحيح، هكذا قال القسطلاني
(2)
، لكن ذكر ابن رجب في "شرح الأربعين" حديث مهاجر أم قيس، ثم قال: رواه وكيع في كتابه، وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا يصح، انتهى.
ومال إليه الحافظ إذ قال بعد ذكر حديث أم قيس: لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك
(3)
، انتهى.
واسم المرأه: قَيْلَة، وأما الرجل فلم يسمِّه أحد ممن صَنَّفَ في الصحابة، وهذا السبب وإن كان خاصَّ المورد، ولكن العبرة بعموم اللفظ، والتنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، قاله النووي في "شرح البخاري"
(4)
.
(1)
"المعجم الكبير"(8540).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 94).
(3)
"فتح الباري"(1/ 10).
(4)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 94).
(أم المؤمنين) تغليبًا، وتدخل فيه النساء، ولكن صح عن عائشة رضي الله عنها:"أنا أمُّ رجالكم لا أمُّ نسائكم"، وهي باعتبار الشرافة والكرامة وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة وتحريم نكاح بناتهن، كذا في "القسطلاني"
(1)
، لا يقال: إن الآية: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] قطعية، فلم تتناول جميع الأحكام؛ لأن الآية الأخرى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] تدل على إيجاب الحجاب، فالجمع بين الآيتين يدل على ما تقدم.
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن"
(2)
: اختلف الناس هل هن أمَّهات الرجال والنساء، أم هنَّ أمَّهات الرجال خاصة؟
فقيل: ذلك عام في الرجال والنساء، وقيل: خاص للرجال؛ لأن المقصود بذلك إِنزالُهن منزلةَ أمهاتهم في الحرمة حيث يتوقع الحِلّ، والحِلّ غير متوقع بين النساء، فلا يحجب بينهن بحرمة.
وقد روي أن امرأة قالت لعائشة: يا أماه، فقالت: لستُ لكِ بأمٍّ، إنما أنا أم رجالكم، وهو الصحيح، انتهى.
وفي "الطحاوي"
(3)
عن حكّام الرازي قال: قال أبو حنيفة: كان الناس لعائشة محرمًا، انتهى.
(4)
(كيف يأتيك الوحي) أجاب عليه الصلاة والسلام بالصورتين فقط، وقد قالوا: يأتي الوحي بسبعة أوجه أو أكثر، كما تقدم، وأجاب عنه في "اللامع"
(5)
بأن الاقتصار على ذكر القسمين اقتصار على معظم أنواعه، أو يكون ذكر الأقسام الباقية أيضًا، ولكنه لم يذكرها بعض الرواة، وهذا مبني على
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 97).
(2)
"أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 542).
(3)
"شرح معاني الآثار"(2/ 116).
(4)
انظر: "الإجابة لما استدركته عائشة"(ص 132).
(5)
"لامع الدراري"(1/ 494).
أن السؤال عن كل أقسام الوحي، ولكن الظاهر أن مسألته كانت عمَّا يوحى عليه من الكيفية التي تنزَّل عليه الوحي من الله في أكثر أحيانه وغالب أزمانه.
والجواب إذ ذاك يمكن إيراده على ثلاثة أوجه: بيان كيفية الوحي لنفسه، أو الموحي وهو الملَك، أو الموحى إليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما بسط في "اللامع"
(1)
.
(وأحيانًا يأتيني مثلُ صلصلة الجرس) أصله صوت وقْع الحديد بعضه على بعض، ثم أُطلق على كل صوت له طنين، وفي مصداقه ستة أقوال:
1 -
صوته تعالى القديم، واختاره مولانا السيد أنور شاه في "الفيض"
(2)
.
2 -
تخليق الصوت من الله عز وجل في الموحى به بكمال قدرته، كذا في "الأوجز"
(3)
.
3 -
الصوت الأصلي للملَك.
4 -
صوت أجنحة جبرئيل.
5 -
وحكي عن شيخ الإسلام المدني رحمه الله، أنه صوت مجيء جبرئيل، كما يسمع صوت قطار سكة الحديد - رين إنجن - من المسافة البعيدة بنحو خمسة أميال بل أكثر من ذلك.
قلت: وأورد عليه بعض الطلبة أنه لوكان كذلك لكان ينبغي أن يكون محسوسًا للكل، ويرد هذا الإيراد على الأجنحة أيضًا، ويمكن التفصِّي عنه بأن إحساسه من باب الكشف، كما ورد أن جبرئيل يبسط أجنحته ليلة القدر، ولا يكشف هذا إلا لأهل الكشف ولا يظهر لغير أهله، كما لا يسمع الأصم الصوت.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 494، 495).
(2)
"فيض الباري"(1/ 20).
(3)
"أوجز المسالك"(4/ 256).
6 -
ومال شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي في "تراجمه" أنه أثر تعطل الحواس، إذ قال: أعلم أن من تعطلت حاسة من حواسه يظهر له في تلك الحاسة ما لا يتميز فيه، مثل من تعطلت حاسته البصرية يرى ألوانًا مختلفة متكثرة، ومن تعطلت حاسته السمعية يسمع أصواتًا ممتزجة مختلفة غير متميزة، فقوله:"مثل صلصلة الجرس"، عبارة عن تعطل حاسة السمع عن مسموعات عالم الشهادة، لكي يتفرغ لحفظ ما أوحي عليه، ويعيه كما هو حقه، فتدبر.
وأشكل عليه أن صوت الجرس مذموم لصحة النهي عنه كما في "مسلم" و"أبي داود"، فكيف يشبه به ما فعله الملك مع أن الملائكة تنفر عنه؟
وأجيب: بأنه لا يلزم من التشبيه تساوي المشبَّه والمشبَّه به في جميع الصفات، كمن شَبَّه رجلًا بالأسد فيكون التشبيه في شجاعته لا في نتن رائحة الفم، فذكر ما ألِفَ السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم كما قيل في توجيه العتمة.
فإن قيل: قد روي عن عمر عند أبي داود: "كنا نسمع عنده مثل دَويِّ النحل"
(1)
، وها هنا كصلصلة الجرس وبينهما تفاوت، أجيب: بأن ذلك بالنسبة إلى الصحابة، وهذا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كذا أفاده الشراح.
والأوجه عندي أنه ليس بحقيقة، بل تقريب وتشبيه، فلا يخالف أيضًا ما ورد:"إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربَتْ الملائكةُ بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان"، انتهى مختصرًا من "الأوجز"
(2)
.
(وهو أشده عليّ) لكون الصوت لم يفهم، أو لانقطاعه إلى عالم
(1)
لم أجده في "سنن أبي داود"، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(رقم 1439)، والمقدسي في "الأحاديث المختارة"(رقم 234)، والحاكم في "المستدرك"(42512)، وأحمد في "مسنده"(1/ 34).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 256، 257)، والحديث أخرجه:"البخاري"(ح: 4701)، و"ابن حبان"(رقم 36)، و"الترمذي" (ح: 3223).
الملكوت كما يعتري للذاكرين إذا أثّر الذكرُ فيهم، وذكر في هامش "اللامع"
(1)
في بيان شدة ما يعتري النبيَّ صلى الله عليه وسلم من التعب والكرب حتى يتفصَّد جبينه عرقًا، وقد قال عزّ اسمه:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
(فيفصم) فيه ثلاث روايات: أشهرها: فتح التحتية وكسر المهملة، والثانية: بضم أوله وكسر الثالثة، والثالثة: بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، يقال: أفصم المطر إذا أقلع، كما في "الأوجز"
(2)
.
(الملك رجلًا) نصب على المصدرية، أي: تَمَثُّلَ رجلٍ، أو حال، ورجح العيني
(3)
نصبه بنزع الخافض، والملَك مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة، هذا قول سيبويه والجمهور، وأصله: لاك، وقيل: أصله الملك بفتح ثم سكون، وهو الأخذ بالقوة، وقيل: مخفف من مالك، والبسط في هامش "اللامع"
(4)
.
(وإن جبينه ليتفصد عرقًا) يشكل عليه ما سيأتي من قوله: "زَمِّلوني" ذكر في هامش "اللامع"
(5)
الجمع بينهما، والأحسن أن يقال: إن قولها: "ليتفصد عرقًا": حالة عامة كانت في أكثر أحوال النزول، كما هو ظاهر من الأحاديث الواردة في أحوال نزول الوحي من أنه صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه الشدةُ وقت النزول حتى لو كان على بعير لبرك لشدة الثقل، وأوحي إليه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقل على زيد حتى قال زيد: خفتُ أن ترضّ فخذي، وكانت تأخذه البرحاء في اليوم الشاتي حتى إِنه ليتحدر منه مثلُ الجمان، وغير ذلك من الروايات الكثيرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "زملوني" فكان في أول الأمر، فإنه صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه الحمى في أول أمره فيحتاج إلى التزمُّل والتلفُّف، ثم لما اعتادت نفسه
(1)
"لامع الدراري"(1/ 497).
(2)
"أوجز المسالك"(4/ 258).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 78).
(4)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 258).
(5)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 497).
الشريفة ذهبت عنه تلك الهيبة التي كانت تأخذه الحمَّى بسببها، وأما الشدة فبقيت في أكثر أحوال النزول، والمناسبة بالترجمة بأن هذه الحالة الواردة في الحديث مبدأ لكل وحي يكون مثل هذا النوع.
(وكان يخلو بحراء) وهو مأخذ الصوفية في التجرُّد، ولعلَّهم خصُّوه بالأربعينية لقصة موسى عليه السلام {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} الآية [الأعراف: 142]، ولحديث النطفة والعَلَقة والمضغة، فإن التغير فيها في الأربعينات، فعُلم أن له دخلًا خاصًّا في تغير الأحوال، وبسط القسطلاني
(1)
في تخصيص جبل حراء للتعبد، قال السهيلي في "الروض"
(2)
: وهو الجبل الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني فإني أخاف أن تُقْتَلَ على ظهري فأعذَّب، فناداه حراء: إليَّ إليَّ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
(فيتحنث) من التحنُّث، وهو إلقاء الحنث، فإن التفعُّل تأتي لسلب المأخذ، وقيل: هو بمعنى يتحنَّف، أي: يتبع الحنيفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً في كثير من كلامه، وقد وقع في رواية ابن هشام في "السيرة" يتحنَّف بالفاء، كذا في "الفتح" و"القسطلاني"
(3)
.
قال ابن هشام
(4)
: تقول العرب: التَّحَنُّث والتَّحَنُف، يريدون الحنيفية، فيبدلون الفاء بالثاء، كما قالوا: جَدَفَ وجَدثَ، يريدون القبر، انتهى.
(وهو التعبد) تفسير للتحنث من أحد الرواة وهو الزهري، كما جزم به الطيبي فسَّره به مجازًا، و"الليالي" ظرف ليتحنث لا التعبد، وذكرُ الليالي يتناول الأيامَ بالأَولى، فإن البارزين إلى الفلوات يرجعون إلى بيوتهم في الليالي، فلو قال: أيامًا، لأوهم الرجوع إلى البيت في الليل، ويشكل أن العبادة لم تُشرع بعدُ، فالجواب أنهم اختلفوا في كيفية تعبُّده بناءً على أنه هل كان متعبدًا بشرع سابق أو لا؟ ففيه ثلاثة أقوال:
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 106).
(2)
"الروض الأنف"(2/ 392).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 105)، و"فتح الباري"(1/ 23).
(4)
"السيرة النبوية"(1/ 235).
الأول: أنه لم يكن متعبدًا بشرع سابق، قال في "الدر المختار" تبعًا لصاحب "البحر": وهو المختار عندنا، قال ابن عابدين
(1)
: نسبه في "التقرير الأكملي" إلى محققي أصحابنا، قال: لأنه عليه الصلاة والسلام قبل الرسالة في مقام النبوة لم يكن من أمة نبي قط، انتهى.
قلت: وعزاه القاضي عياض، والحافظ ابن حجر، وعمر بن نجيم في "النهر الفائق"
(2)
إلى الجمهور.
قال القاضي عياض في "الشفاء"
(3)
: واحتجوا بأنه لو كان كذلك لَنُقِل، ولَمَا أمكن كتمُه وسترُه في العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهْتُبِلَ به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة، وَلاحْتجوا به عليه، ولم يُؤْثَرْ شيء من ذلك جملةً.
والقول الثاني: الوقف، ذهب إليه إمام الحرمين، والغزالي، وابن الأنباري، وغيرهم، واختاره السبكي.
والقول الثالث: أنه كان متعبّدًا بشرع سابق، قال ابن بدران الحنبلي في "المدخل": كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبّدًا في الفروع بشرع مَن قبله عند القاضي والحلواني، وأومأ إليه أحمد، واختاره ابن الحاجب والبيضاوي وابن الهمام.
ثم اختلفوا في تعيينه، فقيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، واختاره ابن عقيل والمجد ابن تيمية، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: بجميع الشرائع، حكاه بعض شراح "المحصول" عن المالكية، قال ابن الهمام
(4)
: والمختار أنه متعبد بما ثبت أنه شرع إذ ذاك، إلا أن يثبتا متضادين فبالأخير لعدم معلومية طريقه فيما ركن إليه، انتهى.
(1)
"رد المحتار"(2/ 13).
(2)
"النهر الفائق"(1/ 157)، و"فتح الباري"(12/ 355)، و"الشفاء"(ص 327).
(3)
"الشفاء"(ص 327).
(4)
انظر: "تيسير التحرير"(3/ 129 - 130).
وعلى القول الأول بماذا كان يتعبد؟ قيل: بما يُلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل: بما يحصل له من الرؤيا، وقيل: بالتفكر، وقيل: باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه.
(حتى بلغ مني الجهد): برفع الدال على الفاعلية، أي: بلغ الجهد مبلغه، وبالنصب على المفعولية، أي: بلغ الغطُّ مني جهدَه، أي: غايته، أو بلغ جبرئيل جهدَه وقوتَه.
وأشكل بأن البشر لا يطيق غاية جهد الملك، ويزيد هذا الإشكال في قصة صك موسى عليه السلام وَجْهَ عزرائيل عليه السلام حتى فُقئت عينه، وقد ذكر على هذا الحديث الكلام في "اللامع"
(1)
وهامشه في "كتاب الجنائز" مفصَّلًا حتى أنكر بعض الجهلة هذا الحديث، فارجع إليه لو شئت التفصيل.
والجواب عن أصل الإشكال: بأن من تزيَّا بزيِّ غيره فإنه تنتقل إليه جميع ميزات ذلك الشيء، لذا ترى أن الجن عندما يكونون في زي الثعابين والعقارب فإنهم يموتون بضربة أو ضربتين فقط، كما تشهد عليه الوقائع الكثيرة، مع أنها لو كانت في زيها الأصلي لما استطاع أحدٌ الوقوفَ لها البتة، فكذلك لما كان جبرئيل عليه الصلاة والسلام في زيِّ رجلٍ فجهدُه لا يتعدى جهدَ الرجال المعتاد، وتحمُّلُ النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثرَ من ذلك، فلا إشكال مطلقًا، ولذا لا يشكل فقء عين عزرائيل عليه السلام بصك موسى عليه الصلاة والسلام، لكن قال القاري
(2)
: لا يلزم من تشكُّلِ الملَك بصورة الآدمي وتبدُّلِه عن أصل هيئته الملَكية سلبُ القوة عنه ونفي الغلبة منه، فإن الأمر المعنوي لا يتغير بتغير الهيكل الصوري، انتهى.
وقال الحافظ
(3)
: ما المانع أن يكون قَوّاه الله على ذلك ويكون
(1)
"لامع الدراري"(14/ 367 - 370).
(2)
"مرقاة المفاتيح"(10/ 105).
(3)
"فتح الباري"(12/ 357).
من جملة معجزاته، ثم رجَّح الحافظ رواية الرفع فقال: والترجيح هنا متعين لاتحاد القصة، ورواية الرفع لا إشكال فيها، وهي التي ثبتت عن الأكثر فترجَّحَتْ، وإن كان للأخرى توجيه، وقد رجَّح شيخُنا البُلقينيُّ بأن فاعل "بلغ" هو الغط، والتقدير: بلغ مني الغطُّ جهدَه، أي: غايته، فيرجع الرفع والنصب إلى معنى واحد، وهو أولى، انتهى.
ثم التثليث إشارة إلى أن المؤدِّب لا يزيد الضربَ على ثلاثة مرَّات، حكاه السُّهيلي
(1)
عن شريح القاضي التابعي، وقيل: الغطة الأولى للتخلي عن الدنيا، والثانية للتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
والأوجه عندي أن الأولى لحصول النسبة الإلقائية، والثانية لحصول النسبة الإصلاحية، والثالثة: لحصول النسبة الاتحادية، فالتوجه عند العارفين أربعة أنحاء: انعكاسي، وإلقائي، وإصلاحي، واتحادي، وتفصيل هذه التوجهات الأربعة في هامش "اللامع"
(3)
بذيل هذا الحديث جدير بأن يُنْظَر.
ولم يحتَجْ صلى الله عليه وسلم إلى الأولى؛ لأنها حصلت بمجرد لقاء جبرئيل عليه السلام لصفاء قلبه صلى الله عليه وسلم بالخلوة في حِراء ستة أشهر، ولا يقال: إِنه يلزم منه فضل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمر ابتدائي، وأول أحواله صلى الله عليه وسلم، ثم ترقَّى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كل يوم حتى سبق على جبرئيل بمراحل، إلى أن قال جبرئيل:
اكَر يك سر موـ> برتر برم
…
فروغِ تجلي بسوزد برم
فلما ارتقى صلى الله عليه وسلم إلى هذه المرتبة العليَّة قبل الهجرة بكثير، فما ظنك فيما ارتقى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك.
وقد يقال: إنهم ذكروا ثلاث عوالم: الأول: عالم الناسوت، والثاني: عالم الملكوت، والثالث: عالم اللاهوت.
(1)
انظر: "الروض الألف"(2/ 400).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(14/ 479).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 500).
فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت النبوة كامنة فيه، ففي حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره:"قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد"
(1)
، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرها السيوطي في "الخصائص"
(2)
، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل إتيان جبرئيل إليه في عالم الناسوت متصفًا بصفات الإنسان، فلما أتاه جبرئيل وغطّه ذهبت عنه ما هو من صفات الناسوت، ودخل في عالم الملكوت الذي هو عالم الملائكة الذي من لوازمه التجرُّدُ والانقطاعُ عن ملابسات الناس، والانخلاعُ عن لوازم البشرية، وبعد ذلك ترقَّى النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى عالم اللاهوت الذي هو كناية عن حضرة الربوبية، فحصل ما حصل مما لا يأتي في البيان، والله أعلم.
({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآية) لا يقال: فيه تكليف بما لا يطاق؛ لأنه ليس تكليف بل تلقين، كما يقول المعلِّم لتلميذه، ظنه النبي صلى الله عليه وسلم تكليفًا فقال:"ما أنا بقارئ"، وقيل: كان في يد جبرئيل عليه السلام ثوب حرير مكتوب عليه هذه الآيات، فالجواب إِذًا: أنه لم يكن داخلًا فيما لا يطاق، لكنه صلى الله عليه وسلم ظنه كذلك هضمًا لنفسه، كذا في بعض تقارير شيخ الإسلام المدني، وقصة ثوب حرير إنما وقعت في مرسل عُبيد بن عمير الليثي عند ابن إسحاق وهو منام، كما ذكره ابن إسحاق مفصَّلًا، كما في "الفتح"
(3)
وغيره.
ثم مسألة تكليف ما لا يطاق خلافية: جَوَّزَتْه الأشاعرة، ومنعته الحنفية والمعتزلة، كما في "المسايرة"
(4)
وشروحها. وفي "البداية"
(5)
بهذه الآيات لطائف ذكرها الشرَّاح، ثم اختلف في أول ما نزل، والجمهور على أنه خمس آيات من {اقْرَأْ} إلى قوله:{مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
(1)
انظر: "سنن الترمذي"(3609)، و"المستدرك"(2/ 609).
(2)
"الخصائص الكبرى"(1/ 7).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 24، 12/ 356).
(4)
انظر: "المسامرة"(ص 197).
(5)
انظر: "البداية والنهاية"(3/ 6 وما بعدها).
وورد عن علي رضي الله عنه: أول ما نزل سورة الفاتحة، وقيل: أول ما نزل {الْمُدَّثِّرُ} ، والجمع أن هذه الآيات أول ما نزل مطلقًا، ثم الفاتحة، ثم المدثر باعتبار تواتر النزول، فإنه فتر الوحي قبلها ثلاث سنين، كذا في "التفسير العزيزي"، وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"
(1)
في "كتاب التفسير" أشد البسط، والقول الأول صحَّحه القاضي ابن العربي، والقاضي عياض، وابن كثير، وابن القيم
(2)
، وقال النووي
(3)
: هذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، انتهى.
ولا يذهب عليك أنه استدل بهذا الحديث على أن البسملة ليست من السورة، وهي مسألة مشهورة أجملَ الكلام عليها في "الأوجز"
(4)
، وبسط في هامش "اللامع"
(5)
.
وحاصل المذاهب أربعة أقوال:
الأول: أنها ليست من القرآن، وهو قول مالك، ورواية عن أحمد وطائفة من الحنفية.
والثاني: أنها آية من كل سورة أو بعض آية، وهو المشهور عن الشافعي.
والثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها، وهو رواية عن الشافعي وأحمد.
والرابع: أنها آية مستقلة من القرآن ليست من السور، وهو قول ابن المبارك وداود، وهو المنصوص عن أحمد، وقال أبو بكر الرازي: هو مقتضى أبي حنيفة.
(1)
"لامع الدراري"(9/ 184).
(2)
انظر: "زاد المعاد"(1/ 84)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 528).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 480).
(4)
"أوجز المسالك"(2/ 142).
(5)
"لامع الدراري"(9/ 196).
(فرجع بها): أي: بالآيات المذكورة المحفوظة، أو بالكيفية المذكورة.
(يرجف): لثقل القراءة، أو لغط جبرئيل عليه السلام، أو لاتحاد الروح بالملكية، ولا يشكل عليه أن الاتحاد سبب التقوية لا الاضطراب؛ لأن الانتقال عن حالة معهودة وإن كان بسبب ما يقوي الطبع قد يفضي إلى مثل ذلك، كمن استعمل مسكًا كثيرًا، فإنه قد يُفضي إلى حالة سُكْرية وإن كان مقوّيًا غايةَ التقوية.
(زَمِّلوني زَمِّلوني): قال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، وذكر في "الأرواح الثلاثة": أنه سئل العارف الكبير الحاجّ إمداد الله المهاجر المكي نَوَّرَ الله مرقده عن وجه التلفُّف والتزمُّل، هل خاف النبي صلى الله عليه وسلم جبرئيل عليه السلام؟
فقال: لا، بل لما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم جبرئيل وانكشفت عليه حقيقةُ نفسه فهابها، ولم يستطع أن يتحمَّلها لعظمتها وكبرها، فإن الحقيقة تختفي في غير الجنس، فإذا ورد أحد من أبناء جنسه تنكشف عليه حقيقته، كما اشتهر أن رجلًا اقتنى جرو أسد، فكان يصبح ويمسي في أغنامه، ويروح ويسرح، كأنه فرد منها حتى شَبّ ولم يعلم نفسه ما هو، حتى إنه رأى يومًا صورته في الماء، فعلم أنه ليس من جنس الأغنام، بل هو شيء آخر ذو هيكل مهيبٌ بسلٌ شجاعٌ، فلما تحقق ذلك دخل في الأغنام فافترس هذه، وأكل أخرى، وجرح تلك، وقتل أخرى، حتى وقع الصياح والعويل فيهن، وفررن وانتشرن.
وكما أن رجلًا جميلًا ذا بهاء وسناء كأن وجهَه قطعةُ قمر، لو كان في بعض الجزائر التي يسكنها ذوو الأشكال البشعة القبيحة والوجوه الدميمة لما ظهر منه الدلال والغنج، وما هو من شؤون المحبوبين الحسان، حتى إذا ورد عنده رجل مثله في الحسن والجمال، وأظهر التدلل والتشكل والتغنج، فيظهر عليه حقيقة نفسه، ويظهر حينئذ شؤون المحبوبية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في جُهّال مكة مثل ذلك الأسد والرجل الجميل اللذَيْن لم يعرفا أنفسهما، ولم تنكشف عليه حقيقة نفسه، فلما رأى من هو من أبناء جنسه وهو جبرئيل، فإنه غُذي بلُبان العلم، ورُبِّي به، ولذا كانت سفارة الوحي إليه، كما أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - غُذُّوا بلُبان العلم، ورُبُّوا بتلك الصفة، فظهرت صورته، وله حقيقة في جبرئيل، وكانت في غاية العظمة والكمال، فلم يستطع أن يتحمَّلها، فخاف نفسه الشريفة، لا أنه خاف جبرئيل.
قال مولانا أمير شاه خان - رحمه الله تعالى - ناقل ذلك: وكان مولانا محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند يسمعه منه كرَّات ومرَّات، ويلتذ ويتمايل من الفرح والسرور.
قال حكيم الأمة مولانا أشرف علي التهانوي قُدِّس سرُّه في حاشية "الأرواح الثلاثة" ما حاصله: أن هذا التوجيه للحديث على ذوق الصوفية، وليس في النصوص ما يدفعه.
وأما توهم مصادمته لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقد خشيت على نفسي"، فمدفوع بأنه ليس معناه: خشيتُ جبرئيلَ، بل معناه: خشيتُ أن لا أتحمل أعباء الرسالة، فإنه يحتاج إلى قوة بليغة خاصة، وقد كانت تلك القوة مغلوبة في ذلك الوقت.
وأما قول خديجة رضي الله عنها: "ووالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك تَصِلُ الرحمَ. . ." إلخ، فاستدلال عقلي على أنه صلى الله عليه وسلم يُعطى من الله الكريم قوةً على تحمل ذلك، فإن هذه القوة ثمرة لتأييد الحق، وهذه الأوصاف جالبة لتأييد الحق.
وأما ذهابها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة، فكان لطلب تأييد هذا الاستدلال العقلي بالدليل النقلي.
وأما ذكر ورقةَ سيدَنا موسى عليه الصلاة والسلام فكان تنظيرًا منه لحصول التحمل في مثل ذلك، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكًّا في نبوته، ثم
إن الله تعالى قدَّر بحكمته البالغة طريقًا لحصول الصبر والتحمُّل بأن حبس الوحي أيامًا ففتر، واشتاقت نفسه الشريفة للوحي حتى إنه اغتمَّ بسبب الفترة غمًّا شديدًا، وذهب إلى شواهق الجبال لكي يُلقي نفسَه، ولكن تبدَّى له جبرئيل قائلًا إنك رسول الله حقًّا، فاطمئنت نفسُه، وسكن جأشُه، فلما اشتاق واشتد شوقُه وإن عليه تحملُ أعباء الرسالة، فإن الشيء يسهل تحملُه بعد اشتياق النفس إليه.
وقد ذكر العارف الرومي في "المثنوي المعنوي" توجيهًا نحوه لنحو تلك القصة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبرئيل أن يريه صورته الأصلية، فقال له جبرئيل: إنك لا تقدر على النظر إليّ في تلك الحال، فلما أَصَرّ عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم تَبَدَّى له جبرئيل له ستمائة جناح، قد سَدّ الأفق، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشيًّا عليه، فنزل جبرئيل واحتضنه حتى سكن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العارف الرومي ما حاصله: إن المتأثر إنما كان جسم النبي صلى الله عليه وسلم لا حقيقته وروحه، بل الحقيقة المحمدية لا يقدر جبرئيل أن يتحمَّلها، ولذلك لما تقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فوق السِّدرة، وقال لجبرئيل: تَقَدَّمْ، فاعتذر إليه جبرئيل قائلًا: إنه لو تقدم مقدار شعرة لَذَابَ واحترق، والله تبارك وتعالى أعلم، انتهى معرّبًا وملخصًا.
(لقد خشيت. . .) إلخ، اختلفوا في الخشية على اثني عشر قولًا، بسطت في "اللامع"
(1)
وهامشه، وهي: الجنون، والهاجس، والموت، والمرض، ودوامه، والعجز عن التحمُّل، والعجز عن رؤية الملَك، وعدم الصبر على الأذى، وخوف القتل، ومفارقة الوطن، وتكذيبهم، وتعييرهم.
وأوجه الأقوال: الثالث: الموت، أو السادس، ورجَّح شيخ المشايخ القطب الكَنكَوهي السادسَ، وكذا رجَّحه النووي في "شرح مسلم"
(2)
، وهي خشية عدم تحمل أعباء النبوة.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 501).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 480).
وحاصل قول العلامة السندي
(1)
: أنه عليه الصلاة والسلام لم يَخْشَ، بل قال ذلك القول لانعطاف رأفة خديجة رضي الله عنها عليه صلى الله عليه وسلم لتكون مُعينة له من أول الأمر، مخافة أن تنكر ذلك، ورجَّحه شيخ الإسلام المدني رحمه الله.
(فقالت خديجة: كلا والله. . .) إلخ، أفاد شيخ الهند رحمه الله في "تراجمه": أن الحديث ظاهر في بداية الوحي عند الشرَّاح، وهو الظاهر، والأوجه عندي - أي: عند شيخ الهند - أن مقصود الرواية بيان هذه الأوصاف الجليلة التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان بخلقته جامعًا للمَلَكات الفاضلة، والأخلاق الحميدة، والأفعال الحسنة التي هي مبدأ الوحي ومنشأ النبوة.
قلت: والأوجه عندي أن هذه الصفات التي ذكرتها خديجة عليها السلام في النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ذكرها ابن الدغنة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عند مهاجرته إلى الحبشة، وهي أصرح دليل على حصول النسبة الاتحادية لأبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان قلبه على قلبه صلى الله عليه وسلم سواء، وهي كانت موجبة لاتصال خلافته بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر شيء من ذلك في هامش "اللامع"
(2)
في كتاب الشروط في عمرة الحديبية عند قول أبي بكر: "فاستَمْسِكْ بغَرْزِه"، والبسط منه في "جزء عمرات النبي" صلى الله عليه وسلم
(3)
تحت هذا القول.
(وتكسب المعدوم) الكسب قد يتعدى إلى مفعول كقوله: كسبت المال، وقد يتعدى إلى مفعولين كما في: كسبت غيري المال، وهذا من قبيل الثاني، وروي من الإفعال فلا إشكال، وفي هامش "الهندية" عن الكرماني والعيني
(4)
: قوله: "تكسب" بفتح التاء، وهو المشهور الصحيح في الرواية، والمعروف في اللغة، ورُوي بضمها.
(1)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 7).
(2)
"لامع الدراري"(7/ 145).
(3)
(ص 329).
(4)
انظر: "شرح الكرماني"(1/ 36)، و"عمدة القاري"(1/ 90).
وفي معنى المضموم قولان: أصحهما: أن معناه تكسب غيرك المعدوم، أي: تعطيه له تبرعًا، ثانيهما: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد ومكارم الأخلاق، يقال: كسبت مالًا وأكسبت غيري. وفي معنى المفتوح قولان: أصحهما: أن معناه كمعنى المضموم، ويقال: كسبت الرجل مالًا وأكسبته مالًا، والأول أفصح وأشهر، والثاني: أن معناه تكسب المال، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم.
وقيل: المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب، [وسماه معدومًا] لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف في المعيشة، انتهى.
(على نوائب الحق) قال القسطلاني
(1)
: النوائب تكون في الخير والباطل، ولذا قيده بالحق، أو إِشارة إلى النوائب السماوية، فإن الإعانة فيها تكون مشكلة، ومن يعين فيها يكون في نوائب الدنيا أشدَّ إعانة.
(ابن عم خديجة) بالنصب بدلًا عن "ورقة"، ويجب كتابة ألف ابن، كذا في "القسطلاني"
(2)
، وقوله:"ابن عم" هكذا في "التفسير" في رواية أبي ذر الهروي، وفي رواية غيره:"يا عم" بحذف الابن، وكذا في مسلم:"أَيْ عم" بحذف لفظ ابن، وجمع بينهما النووي
(3)
بالتعدد، واستبعده الحافظ ابن حجر
(4)
لاتحاد مخرج الحديث، ومال إلى أن الرواية بحذف الابن وهم، وقال الزرقاني في "شرح المواهب"
(5)
: عندي أنها قالت: "ابن عم" على حذف حرف النداء فتصحَّفَتْ ابن بأَيْ، انتهى.
قلت: وهذا إنما يتمشى في رواية مسلم بلفظ: "أي عم"، وأما رواية البخاري فبلفظ:"يا عم"، والله أعلم.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 110).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 110).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 482).
(4)
"فتح الباري"(1/ 25).
(5)
"شرح المواهب"(1/ 398).
(وكان يكتب الكتاب) بيان لمهارته وغاية اطلاعاته على مُرادات الكتب، حتى إنه كان يترجمها، إلى آخر ما بسط في "اللامع"
(1)
وهامشه، ولا يذهب عليك أن في متن النسخة الهندية:"وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية"، وفي نسخة الحاشية بدل "بالعبرانية":"بالعربية"، وهو كذلك في كتاب التفسير، ولا تعارض بين النسختين؛ لأنه كان يقدر على اللسانين.
(الناموس) بمعنى الجاسوس، وفرَّق بعضهم بأن الأول صاحب سر الخير، والثاني: صاحب سر الشر، كما بسط في هامش "اللامع"
(2)
، قال البخاري في "كتاب الأنبياء"
(3)
: الناموس صاحب السر الذي يُطْلِعُه بما يَسْتُرُه عن غيره، انتهى.
(نزل الله على موسى) ولم يقل: على عيسى، مع كونه نصرانيًّا؛ لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على الأحكام الكثيرة ككتاب نبينا، بخلاف كتاب عيسى عليه السلام فإنه أمثال وعِبَرٌ، أو لأن نبوة موسى مسلَّمة عند اليهود والنصارى معًا، بخلاف نبوة عيسى عليه السلام فإنه ينكرها كثير من اليهود، كذا في "القسطلاني"
(4)
.
ويشكل عليه: أن ورقة لم يكن نبيًّا، فكيف عَلِمَ بهذه الأمور؟
ويمكن التفصِّي عنه: بأنه عَلِمَ مِنَ الكتب السابقة، وهذا ظاهر في أنه أقرّ بنبوته عليه الصلاة والسلام ولكنه مات قبل الدعوة، فيكون مثل بحيرا، لكن في إثبات صحبته نظر، ثم ذكر
(5)
الروايات الدالة على إسلامه، وأنه أول مؤمن، وهكذا ذكر الاختلاف العيني
(6)
، وبسط الروايات في إِسلامه مع الكلام عليه، وذكره الحافظ في القسم الأول من "الإصابة"
(7)
،
(1)
"لامع الدراري"(1/ 503).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 505).
(3)
"صحيح البخاري"(3392).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 111).
(5)
أي: القسطلاني.
(6)
"عمدة القاري"(1/ 108).
(7)
"الإصابة"(6/ 317).
وقال الحافظ
(1)
: خرج ورقة وزيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام لما كَرِهَا عبادةَ الأوثان فتنصَّرَ ورقةُ، وسيأتي ذكر زيد في "المناقب"، انتهى.
(بمثل ما جئت به) عبَّره بالماضي للتيقن.
(توفي ورقة) بمكة بعد البعث بقليل، ولا يصح ما قال الواقدي: إنه خرج إلى الشام، فلما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام أُمِرَ بالقتال رجع لينصره، حتى إذا كان ببلاد لخم وجذام أخذوه فقتلوه، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
(وفتر الوحي) واختلف في مدة الفترة على أربعة أقوال؛ فقيل: سنتان، وقيل: ونصف، وقيل: ثلاث سنين، واختار الحافظ ابن حجر
(3)
أنها كانت أيامًا، ثم الذي نزل بعد الفترة "المدثر" كما في "الصحيحين"، ووقع عند ابن إسحاق أنه "الضحى" وفيه نظر، فإنها نزلت بعد فترة أخرى كانت ليلتين أو ثلاثًا، كما هو مصرَّح في تفسير البخاري وغيره، وإنما فتر مدة كذا ليتدبر في مقتضى الآيات المنزلة مع ما في التأخير من الازدياد بالأشواق، وفي التتابع من تواتر الكَلَف عليه، فلو تتابع من أول الأمر ربما أدَّى إلى هلاكه، كما بسط في "اللامع"
(4)
وهامشه.
(قال ابن شهاب): أخبرني عروة بما سبق (وأخبرني أبو سلمة) بما سيأتي فهو عطف على "أخبرني" المقدم.
(تابعه عبد الله بن يوسف): الضمير يرجع إلى يحيى بن بكير، أي: عبد الله بن يوسف وأبو صالح تابعا يحيى بن بكير في الرواية عن الليث، فرواه عن الليث ثلاثة: يحيى، وعبد الله، وأبو صالح، قوله:"وتابعه هلال"، أي: تابع عقيلَ بنَ خالد هلالُ بنُ رَدّاد عن ابن شهاب، فالأولى: متابعة تامة، والثانية: ناقصة، والمتابعة إن كانت في أول السند تسمَّى: تامة وهي أقوى، وإن كانت في أثناء السند تسمَّى: ناقصة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 25).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 113).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 27).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 509).
قال النووي: ومما يحتاج إليه المعتني بـ "صحيح البخاري":
فائدة ننبه عليها: وهي أنه تارةً يقول: تابعه مالك عن أيوب، وتارة يقول: تابعه مالك، ولا يزيد، فإذا قال: مالك عن أيوب فظاهر، وأما إذا اقتصر على: تابعه مالك، فلا يُعْرَف لمن المتابعة إلا من يَعْرِف طبقات الرواة ومراتبهم.
وقال الكرماني
(1)
: فعلى هذا لا يعلم أن عبد الله يروي عن الليث أو غيره.
قلت: الطريقة في هذا أن تنظر طبقة المتابِع بكسر الباء، فتجعله متابِعًا لمن هو في طبقته بحيث يكون صالحًا لذلك، كذا في "العيني"
(2)
، انتهى من هامش "الهندية"، وبسط النووي في شرح هذا الموضع أنواع المتابعة.
(وكان مما يحرِّك شفتيه) والحروف كلها ليست بشفوية، فكان حقه: مما يحرك لسانه، من قبيل إرادة الكل بذكر البعض، أو من باب الاكتفاء، والأوجه عندي: أن تحريكهما ظاهر بخلاف تحريك اللسان، وسيأتي في "التفسير"
(3)
: "وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" بذكرهما معًا، فلا إشكال إِذَنْ.
(قال ابن عباس: فأنا أحركهما. . .) يشكل أن مولد ابن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، والآية في بدء النزول كما يدل عليه تبويب البخاري، ولذا لم يقل ابن عباس لفظ: كما رأيت، كما قاله سعيد بن جبير، ويحتمل أنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة، كذا في "القسطلاني"
(4)
، والأوجه عندي: أنه يستحب للمعلم أن يمثل للمتعلم بالفعل، ويريه الصورة بفعله إذا كان فيه زيادة بيان على الوصف بالقول، انتهى.
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 43).
(2)
"عمدة القاري"(1/ 115).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 4929).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 117).
(لا تحرك به لسانك) لا منافاة بينه وبين ما تقدم من قول ابن عباس رضي الله عنه: "كان يحرك شفتيه" كما بسطه القسطلاني تبعًا "للفتح" والكرماني والعيني، والأوجه عند هذا العبد الضعيف أن الثاني بيان لنهي قراءته صلى الله عليه وسلم مع جبرئيل عليه السلام، والقراءة تكون باللسان، والأول كان بيانًا لرؤية القراءة، والرؤية مما يتعلق بالشفتين كما تقدم.
(جمعه لك في صدرك) وعند الفلاسفة الحافظة في الدماغ، وعند المتكلمين والأصوليين منبع الكل القلب، كذا أفاده شيخ الإسلام المدني في بعض تقاريره، وفي "إزالة الخفاء"
(1)
: أن جمعه في الصدر تفقه من ابن عباس رضي الله عنهما.
والوجه عندي: أنه إشارة إلى جمع القرآن في المصاحف، انتهى.
ويؤيده ما أخرجه الطبري
(2)
عن قتادة أن معنى {جَمْعَهُ} تأليفه.
({ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}) وفسَّره غير ابن عباس ببيان ما أشكل من معانيه، وكان عليه السلام يسأل جبرئيل عما أشكل عليه في أثناء القراءة فقال ذلك، وفي لفظ {ثُمَّ} دليل للجمهور على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وتُعقب بأن المراد تمام القرآن للضمير، وليس كله بمجمل، فالمراد الظهور، ثم تعقب عليه بأن قوله:{بَيَانَهُ} جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وهذه المسألة خلافية شهيرة بسطها أصحاب الأصول.
وفي "التحرير" وشرحه "التقرير"
(3)
: أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى الحاجة عند الجمهور، منهم أصحابنا والمالكية وأكثر الشافعية، واختاره الرازي وابن الحاجب، وعن الحنابلة، وعبد الجبار الجبائي وابنه، وبعض الشافعية كأبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي حامد منعه، انتهى، كذا في "القسطلاني".
(1)
"إزالة الخفاء"(1/ 50).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(20/ 225).
(3)
انظر: "التقرير والتحبير"(3/ 49)، و"عمدة القاري"(1/ 123).
والحاصل: أن الأول: جمعه في صدرك، والثاني: تلاوته، والثالث: توضيحه، كذا في "القسطلاني" وابن كثير
(1)
.
والمناسبة بجزء الترجمة وهو الوحي ظاهر، وبالبدء؛ لأن حاله هذا كان في البدء قبل نزول هذه الاية، وعلى أصل شيخ الهند كونه عزَّ اسمه محافظًا للفظه وبيانه ظاهر في عظمته، وكتب حضرة شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: أنه يستفاد من الحديث عدة أمور مهمة، منها: إتيان جبرئيل عليه السلام بالوحي عليه، وكون الشدة عليه صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بنفسه مع جبرئيل عليه السلام للشدة المذكورة، وبذل جهده صلى الله عليه وسلم لضبط الوحي، وقد تكفل البارئ عَزّ اسمه بفضله ورحمته جمعه وقرآنه، فقال:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، فسهل الأمر وارتفع خوف السهو والخطأ والنسيان عنه صلى الله عليه وسلم، فحصل بذلك الاطمئنان له عليه الصلاة والسلام، وعلم بأن الذات القدسية المبدأ للوحي هي المتكفلة بحفظه، فحصل الاعتماد الكلي على الوحي، انتهى.
قلت: قال عزّ اسمه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
({إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ})، أي: في صدرك ({وَقُرْآنَهُ})، أي: قراءتك إياه وجريانه على لسانك.
({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ})، أي: عليك بقراءة جبرئيل عليه السلام ({فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ})، أي: استمع قراءته.
(ح) فيه ستة أقوال على ما تفحَّصت وبسطت في مقدمة "الأوجز"
(2)
، مرجعها إلى قولين: الأول: أنه خاء معجمة، والآخر: أنه حاء مهملة.
وعلى الأول احتمالان: أحدهما: إشارة إلى آخر الحديث، فهو مخفف من "إلخ"، وثانيهما: إشارة إلى قوله بسند آخر.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 119)، و"البداية والنهاية"(3/ 22).
(2)
انظر: "مقدمة الأوجز"(1/ 215).
وعلى الآخر فأربعة أقوال: الأول: أنه رمز الصحة يكتب دقيقًا لئلا يلتبس بالعبارة، ودفعًا لما يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، والثاني: أنه مأخوذ من التحويل، والثالث: من الحائل، والرابع: إشارة إلى قولهم: الحديث.
والمعروف عند المحدثين أنه إذا انتهى القارئ إلى هذا الموقع يقول: ح بفتح الحاء المهملة، ويستمرّ في قراءة ما بعدها، انتهى مختصرًا.
قال الحافظ
(1)
في "باب ظلم دون ظلم": هكذا وقع في النسخ صورة "ح"، فإن كان من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذ من التحويل على المختار، و [إن] كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك أو معجمة مأخوذة من البخاري؛ لأنها رمزه، أي: قال البخاري: وحدثني، انتهى.
قلت: ما أفاده الحافظ يختص بما وقع في "البخاري": "ومعمر نحوه"، والحاصل: أن عبد الله بن المبارك حدَّث عنه عبَّدان عن يونس وحده، وحدَّث [عنه] بشر عن يونس ومعمر معًا، أمَّا باللفظ: فعن يونس، وأما بالمعنى: فعن معمر، يعني: أن في لفظ "نحوه" إشارة إلى اختلاف بينهما في اللفظ، وهذا على ما هو المعروف عند أهل الأصول أنهم يقولون:"مثله" إذا اتفق الحديثان في اللفظ و"نحوه" إذا اتفقا في المعنى، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(2)
.
(أجود الناس) ولا ينافي هذا فقره عليه الصلاة والسلام؛ لأن فقره كان لشدة جوده، ولا يأتيه شيء إلا يجود به.
(وكان أجود ما يكون) حال كونه "في رمضان" برفع "أجود" اسم "كان" و"ما" مصدرية، أي: أجود أكوانه، و"في رمضان" سدّ مسدَّ الخبر، أو "أجود" مبتدأ مضاف إلى المصدر، و"في رمضان" خبره، والجملة خبر
(1)
"فتح الباري"(1/ 87).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 511).
"كان"، واسمه الضمير إليه صلى الله عليه وسلم، أو بنصب "أجود" خبر "كان" واسمه الضمير إليه صلى الله عليه وسلم، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
قال الطيبي
(2)
: فيه تخصيص بعد تخصيص للترقي، الأول: جوده على سائر الناس، الثاني: جوده في رمضان على جوده في غيره، الثالث: جوده عند لقاء جبرئيل.
(فيدارسه القرآن) والحكمة فيه ليكون سُنَّةً في عرض القرآن على من هو أحفظ منه، كذا في "القسطلاني"
(3)
، واختلف في أنه كان يدارس كل القرآن أو حسب ما نزل، والأوجه عندي الثاني، والبسط في هامش "اللامع"
(4)
، ثم الترجمة بعظمة الوحي من المدارسة واضح.
وأما على ظاهر الترجمة من البدء فلا يبعد أن يكون إشارة إلى البدء الزماني بأنه كان في رمضان، إذ يقولون بأن أول نزول جبرئيل في غار حراء كان في السابع عشر من رمضان، ولا يذهب عليك أن للكلام الإلهي مناسبة خاصة بشهر رمضان، ولذا يقولون: إن صحف إبراهيم عليه السلام نزلت في غرة رمضان، أو في الثالث منه، وأعطي داود عليه السلام الزبورَ في الثامن عشر أو الثاني عشر من رمضان، وأعطي موسى عليه السلام التوراةَ في السادس منه، وأعطي عيسى عليه السلام الإنجيلَ في الثاني عشر أو في الثالث عشر، كما ذكرتُ في رسالتي "فضائلِ رمضان" باللسان الأردي.
قال الحافظ
(5)
: أخرج أحمد والبيهقي في "الشعب" عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت التوراة لِسِتٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان"، وهكذا نقله السيوطي
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 121).
(2)
انظر: "شرح الطيبي"(4/ 209)، و"مرقاة المفاتيح"(4/ 600).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 122).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 512 - 513).
(5)
"فتح الباري"(9/ 5).
في "الإتقان"
(1)
عن الحافظ، وزاد: وفي رواية: "وصحف إبراهيم لأول ليلة".
قال السيوطي: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنه صلى الله عليه وسلم بُعِث في شهر ربيع، ويجاب عن هذا بما ذكروه أنه نبِّئ أولًا بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أوحي إليه في اليقظة، ذكره البيهقي وغيره، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": أن حديث ابن عباس في مدارسته صلى الله عليه وسلم مع جبرئيل في شهر رمضان الذي هو أفضل الشهور يظهر منه اختصاص واضح بالوحي برمضان، ويناسب قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، فكأن المصنف أشار به إلى البدء الزماني للوحي وأنه في رمضان، كما قد ورد ذلك في بعض الروايات التي ليست على شرط المؤلف.
وعلم من قوله: "كان أجود بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان" أن كمالاته صلى الله عليه وسلم كانت تتزايد كثيرًا عند نزول الوحي حتى تتعدى منافعها إلى غيره، ويظهر من جميع هذه الأمور عظمة الوحي وبركته، انتهى.
(من الريح المرسلة) قال في "اللامع"
(2)
: والفضيلة عليها في أنها لا تبقي ولا تذر شيئًا أتت عليه، فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقي شيئًا مما هو في ملكه.
(إن هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف على المشهور، ويقال أيضًا بكسر الهاء والقاف وسكون الراء، اسم عَلَم له فهو غير منصرف للعَلَمية والعجمية، وهو صاحب حروب الشام، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له: قيصر، كما أن ملك فارس يسمَّى بكسرى، وملك الحبشة بالنجاشي، وملك
(1)
"الإتقان"(1/ 54).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 513).
الترك: خاقان، وملك القبط بفرعون، وملك مصر بالعزيز، وملك حِمْير بتُبَّع، انتهى، كذا في هامش "اللامع"
(1)
عن الكرماني، وزاد العيني
(2)
ألقابًا أُخَرَ كثيرة لسلاطين الأقطار.
واختلف في إسلام هرقل، فالجمهور على أنه آثر المُلْكَ على الإيمان، وقد غزا مؤتة سنة ثمان من الهجرة، وكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يسلم، وذهب بعضهم منهم صاحب "الاستيعاب" أنه أسلم ولم يظهره للخوف على نفسه، والبسط في هامش "اللامع"
(3)
.
وهل هو الذي فتح عليه في زمن عمر رضي الله عنه، فقيل: نعم، وقيل: بل هو حفيده.
وذكر البخاري هذا الحديث مطولًا في ثلاثة مواضع: ها هنا، وفي كتاب الجهاد في "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة"، وفي التفسير في تفسير قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} الآية [آل عمران: 64]، وذكره في عشرة مواضع مختصرًا، صفحاته في المطبوعات الهندية
(4)
هي: 13 و 368 و 393 و 411 و 418 و 450 و 884 و 926 و 1068 و 1125.
ومناسبة حديث هرقل بالباب على ما قاله القسطلاني
(5)
: لما فرغ عن بدء الوحي شرع في أوصاف الموحى إليه، وقال أيضًا: فإن قصة [هرقل] متضمِّنة كيفية حاله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر.
قال الحافظ
(6)
: فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟
(1)
"لامع الدراري"(1/ 514).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 130).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 514).
(4)
انظر أرقامه في الطبعة الجديدة المرقمة من بيروت: (51، 2681، 2804، 2936، 2978، 3174، 5980، 6260، 7196، 7541).
(5)
"إرشاد الساري"(1/ 143).
(6)
"فتح الباري"(1/ 44).
فالجواب: أنها تضمَّنت كيفية حال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية [النساء: 163]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، فبان أنه أوحي إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: 64]، انتهى.
وقيل: إن الأسئلة العشرة من هرقل كلها تناسب بدءَ الوحي، وقيل: هذه الأوصاف المذكورة في الأسئلة تدل على عظمته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المشعرة لعظمة الوحي الذي أرسل إليه.
(في ركب) كانوا ثلاثين رجلًا، كما في "الإكليل" للحاكم، وعند ابن السكن: نحو من عشرين، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح إلى ابن المسيب أن المغيرة بن شعبة كان منهم، وتُعقب بأن إسلامه عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكت، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
قلت: ولا استعباد عندي؛ فإن المخاطب كان أبا سفيان ولم يتكلم بكذب، بل يمكن أن يكون خوفه عن الكذب متأثرًا عن وجود المغيرة؛ فإن أبا سفيان خاف على نفسه أن يأثر المغيرة عنه الكذب.
(وهم بإيلياء)، أي: هرقل وجماعته، وإِيلياء بتخفيف المثناة الثانية ممدودًا ومقصورًا، وبتشديد الياء مقصورًا فقط، وفي ضبطه أقوال، هو بيت المقدس، كذا في "القسطلاني"
(2)
، فإن إيل في العبرانية: الله، وياء بمعنى البيت.
وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
في ترتيب هذه الوقائع، فقال: وكان هرقل نذر إن رَدّ الله عليه مُلْكَه من كسرى أن يأتي إيلياء، فردّ الله عليه
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 125).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 126).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 515).
ملكه فأتاه، فبينا هو ناظرٌ ذات ليلة إذ رأى ما يذكر في الرواية (من ظهور ملك الختان)، واتفق أن بعث إليه مَلِك غسان برجل، فكتب هرقل إلى صاحب رومية، ولم يأت إليه جوابه، إذ وصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق بعثته صلى الله عليه وسلم عنده، وهذه الثلاث وقعت له بإيلياء، فَكَرَّ راجعًا إلى ملكه، حتى إذا وصل حمص - وهو دار السلطنة - بلغه جواب صاحب الرومية، فجمع هناك حواشيه، هكذا ينبغي ترتيب الوقائع، انتهى.
(فقال أبو سفيان: أنا أقربهم) لأن عبد مناف الأب الرابع له وللنبي صلى الله عليه وسلم، كذا في "القسطلاني" و"الفتح"
(1)
، فإنه صخر بن أمية بن عبد شمس بن [عبد] مناف، وهو صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال الحافظ - وسبقه القاضي عياض وغيره -: إنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، انتهى.
(ثم كان أول ما سألني) بنصب اللام، وبه جاءت الرواية، خبر كان واسمه ضمير الشأن، ويحتمل أن يكون "أول ما سألني" اسم مؤخر، كذا في "القسطلاني" وغيره.
(كيف نسبه فيكم؟) كذا وقع السؤال والجواب عن النسب في "الجهاد"، ووقع في "التفسير" السؤال والجواب عن الحسب، فقال:"كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب"، وهو غير النسب، فإنه الوجه الذي يحصل به الإدلاء من جهة الآباء، والحسب ما يعده المرء من مفاخر آبائه، ولم أر الحافظ تعرض عن الجواب.
والذي يترجح عندي السؤال عن النسب، فإن معمرًا هو الذي ذكر السؤال عن الحسب عند البخاري ومسلم، وأما شعيب بن أبي حمزة ها هنا،
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 34)، و"إرشاد الساري"(1/ 127).
وصالح في "الجهاد" فقالا عن الزهري: "كيف نسبه؟ "، والاثنان أولى بالحفظ من واحد، مع أن معمرًا قد ينفرد عن الزهري ببعض الألفاظ، ولعله عبَّر النسب بالحسب على جهة الرواية بالمعنى، فإن النسب الشريف يستلزم الحسب غالبًا، وقد قال النووي
(1)
: معنى قوله: "كيف حسبه فيكم؟ "، أي: نسبه.
وها هنا إشكال آخر ذكره الحافظ فقال
(2)
: واستشكل الجواب؛ لأنه لم يزد على ما في السؤال؛ لأن السؤال تضمَّن أن له نسبًا أو حسبًا، والجواب كذلك، وأجيب بأن التنوين يدل على التعظيم كأنه قال: هو فينا ذو نسب كبير، أو حسب رفيع، انتهى.
(أحد قط) بتشديد الطاء لا يستعمل إلا في النفي، واستعماله ها هنا في الإثبات نادر، وقيل: إن الاستفهام يتضمن النفي، أي: هل قاله أحد أو لم يقل أحد قط، كذا في "القسطلاني"
(3)
.
(بل ضعفاؤهم) وتخصيص الشرف ها هنا باعتبار النخوة، لئلا يخرج
(4)
نحو العمرين وحمزة وغيرهم، وتعقبه "العيني"
(5)
بأن العمرين وحمزة رضي الله عنهم كانوا من أهل النخوة، فقول أبي سفيان يبني على الغالب، كذا في "القسطلاني".
(سخطة لدينه) يخرج منه من ارتد لِحَظِّ نفسه كعُبيد الله بن جحش، كذا في "القسطلاني"
(6)
، وبسط الشيخ الكلام عليه في "اللامع"
(7)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(6/ 349).
(2)
"فتح الباري"(8/ 217).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 128).
(4)
قوله: "لئلا يخرج" كذا في الأصل، وفي "إرشاد الساري":"ليخرج"، وهو الظاهر.
(5)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 138).
(6)
"إرشاد الساري"(1/ 129).
(7)
"لامع الدراري"(1/ 524).
(ولم تمكنني كلمة أن أدخل فيها شيئًا)، أي: أنتقصه به، على أن التنقيص هنا أمر نسبي؛ لأن من يقطع بعدم عذره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يعدر
(1)
، انتهى.
(سجال) بالكسر جمع سَجل، وهو الدلو الكبير، أي: نوبةً ونوبةً.
(ينال منا وننال منه)، أي: يصيب منَّا ونصيب منه، قال البلقيني
(2)
: فيه أيضًا دسيسة؛ لأنه لم ينل منه قط، [و] غاية ما فيه قتل بعض الصحابة في أُحد، وتعقبه الحافظ
(3)
بأن الوقائع قبل ذلك ثلاثة: بدر وأُحد والخندق، وأصاب المسلمون في الأول وعكسه في الثاني، وأصيب قليل من الفريقين في الثالث، فصحَّ قول أبي سفيان، انتهى.
(يطلب ملك أبيه) بالإفراد ها هنا، وسيأتي في التفسير "ملك آبائه"، فإِفراد الأب ها هنا على الجنسية، أو لكون من يطلب ملك أبيه أَعْذَر، كذا في "القسطلاني"
(4)
.
(وهم أتباع الرسل) يؤيده قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، كذا في "القسطلاني".
(وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة ولم يعرج [هرقل] على الدسيسة التي دسَّها أبو سفيان، قاله الحافظ
(5)
، وترك ها هنا السؤال العاشر وجوابه، وسيأتي في الجهاد في "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة"، كذا في "القسطلاني"
(6)
.
قلت: وهو السؤال عن القتال وهو التاسع فيما مرَّ، وذكره بلفظ
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 35).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 130).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 36).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 131).
(5)
"فتح الباري"(1/ 37).
(6)
"إرشاد الساري"(1/ 133).
العاشر؛ لأن العاشر موجود ها هنا فبقي واحد فهو العاشر، وبسط في هامش "اللامع"
(1)
وجه تركه ها هنا، فارجع إليه لو شئت.
(فلو أعلم أني أخلص إليه) لكني أخاف أن أسلم على نفسي، كما ورد، كذا في "القسطلاني".
(ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: من وكل ذلك إليه، ولذا عدَّى إلى الكتاب بالباء، وقال العيني
(2)
: الأحسن أن يقال: ثم دعا من أتى بكتابه صلى الله عليه وسلم، كذا في "القسطلاني"
(3)
، وكان عليه السلام أرسله مع دحية الكلبي في آخر سنة ست بعد رجوعه من الحديبية، فوصل الكتاب إليه، أي: مبدأ محرم سنة سبع، كذا في "فتح الباري"
(4)
عن الواقدي، وقال النووي: كان بعثُ الكتاب ولقيه مع عظيم بُصرى في المحرم سنة سبع من الهجرة.
قال السهيلي
(5)
: إن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وكانوا يتوارثونه، وحُكي أن ملك الإفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قليج صندوقًا مصفحًا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منه كتابًا زالت أكثر حروفه، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدِّي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما زال الكتاب فينا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه، كذا في "القسطلاني"
(6)
.
(فدفعه إلى هرقل) فيه مجاز؛ لأنه أرسل به إليه صحبة عَدي بن حاتم كما في رواية ابن السكن في "الصحابة"، كذا في "القسطلاني"
(7)
.
(فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 522).
(2)
"عمدة القاري"(1/ 148).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 134).
(4)
"فتح الباري"(1/ 38).
(5)
انظر: "الروض الأنف"(7/ 365).
(6)
"إرشاد الساري"(1/ 137)، وانظر:"فتح الباري"(1/ 44).
(7)
"إرشاد الساري"(1/ 134).
وفي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الواقدي في هذه القصة: فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فقرأه، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
قلت: ويؤيد الثاني ما في أول الرواية من قوله: "ثم دعاهم ودعا ترجمانه"؛ لأنه لو كان يعرف العربية ما دعا الترجمان.
(فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد) فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة وإن كان المبعوث إليه كافرًا، فإن قلت: قد قَدَّمَ سليمان اسمه على البسملة كما في التنزيل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، أجيب: بأن سليمان عليه السلام كتب اسمه عنوانًا بعد ختمه، كذا في "القسطلاني" و"الفتح".
وفيه أن السُّنَّة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة، والحق إثبات الخلاف فيه، كذا في "الفتح"
(2)
، وسيأتي ترجمة المصنف في الاستئذان بمن يبدأ في الكتاب.
(عظيم الروم) ذكر المدائني أن القارئ لما قرأه غَضَبَ أخو هرقل وجذب الكتاب، فقال هرقل: ما لك؟ فقال: إنه بدأ بنفسه وسمَّاك صاحب الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ إن كان رسول الله فهو أحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه، كذا في "القسطلاني"
(3)
.
(أسلم) بكسر اللام، (تَسْلَم) بفتحها، فيه من غاية الإيجاز والبلاغة، وهو من باب جوامع الكلم، كذا في "الكرماني"
(4)
، وفي "الفتح": فيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي، انتهى.
(إثم الأريسيين) فيه أربع لغات: بالهمزة، وقيل: بالياء المثناة التحتية
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 134).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 38)، "إرشاد الساري"(1/ 134).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 134، 135).
(4)
"شرح الكرماني"(1/ 62).
المفتوحتين، وعلى كليهما قيل: بياء واحدة بعد السين، وقيل: بيائين، ولغة خامسة: بكسر الهمزة وشد الراء المكسورة وياء واحدة بعد السين، وهم الفلاحون، وقيل غير ذلك، ولا ينافي قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ لأن هذا إثم التسبب، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
(تعالوا إلى كلمة سواء) استدل به على جواز كتابة الآية أو الآيتين إلى الكافر، وتُعقب بأنه من قوله صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه لو كان كذلك لقال:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} والوارد في الحديث: "فإن تولوا"، كذا في "القسطلانى"، والبسط في هامش "اللامع"
(2)
.
(ابن أبي كبشة) كنية أبيه من الرضاعة.
(وكان ابن الناطور) مقولة الزهري بالسند السابق فليس بمعلَّق كما توهم، ولا برواية عبيد الله كما توهمه آخرون، ولقيه الزهري بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان كما بسط في هامش "اللامع"، و"ابن الناطور" روي بالطاء المهملة والمعجمة، وهو: الحافظ للزرع، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(3)
.
(صاحب إيلياء)، أي: حاكمها، (وصاحب هرقل)، أي: مصاحبه.
(سقف) اختلف في ضبطه أهو فعل أو اسم، وعلى الأول أهو من باب الإِفعال أو التفعيل، وعلى كليهما مبني للمفعول، وعلى الثاني قيل: هو بضم الهمزة وسكون السين وضم القاف وتخفيف الفاء، وقيل: بضم السين والقاف وشد الفاء منونًا، وقع هذا منصوبًا على الحالية، ومرفوعًا بأنه خبر مبتدأ محذوف.
(يحدث) خبر بعد خبر، كذا في حاشية الهندية.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 135، 136).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 137)، و"لامع الدراري"(1/ 527).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 528، 529).
(بطارقته) بفتح الموحدة جمع بطريق بكسر، أي: خواصه وأهل مشورته، كذا في "القسطلاني".
(قد ظهر) أي: غلب، وهو كما قال؛ لأن في هذا الزمان كان بدء ظهوره بصلح الحديبية ونزول:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، كذا في "القسطلاني" و"الفتح"
(1)
.
(ملك غسان) بالغين المعجمة والسين المهملة المشدَّدة، وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، أو ماء بالمشلَّل، والملك: هو الحارث بن أبي شمر، وهو جملة ملوك اليمن، فأخبره بأنه ظهر عنده رجل يدَّعي أنه نبي، كذا في "القسطلاني"
(2)
، وحاشية "الهندية".
(كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف، أظهر إسلامه، وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه، كذا في "القسطلاني"
(3)
.
(برومية) مدينة رئاسة الروم.
(فلم يرم حمص)، أي: لم يبرح منها، قال الداودي: أي: لم يصل إِليها وزيفوه، كذا في "الفتح"
(4)
.
(دسكرة) بمهملتين: الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة: قصرٌ حوله بيوت، كذا في "القسطلاني".
(فكان ذلك آخر شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة، أو فيما يتعلق بإِيمانه، كذا "القسطلاني"
(5)
، وقد بسطتُ الكلام على إسلامه في رسالتي "الوقائع والدهور"، وتقدم أيضًا إِجمال الكلام عليه في أول هذا الحديث.
(1)
"فتح الباري"(1/ 42)، و"إرشاد الساري"(1/ 140).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 140).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 141).
(4)
"فتح الباري"(1/ 42).
(5)
"إرشاد الساري"(1/ 142).
وفي هامش "اللامع"
(1)
ها هنا تنبيه مفيد هذا لفظه: قال الحافظ
(2)
رحمه الله: يؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، انتهى.
وهذا إشارة منه رحمه الله إلى ما تقدم في مقدمة هذه الحاشية في خصائص "البخاري" ما جزم به الحافظ من أن الإمام البخاري يذكر في آخر كل كتاب ما يدل على الختم، ويشير إلى اختتام الكتاب، وذكرت هناك أن الأوجه عندي أن الإمام البخاري يذكر في آخر كل كتاب ما ينبه على خاتمته ويذكره موته، وها هنا لفظ:"ذلك آخر شأن هرقل"، كما يشير إلى خاتمة الكتاب بلفظ آخر فهو أشد تنبيهًا إلى خاتمة كل رجل بالإِشارة إلى آخر شأن هرقل، إن صدقت نيته انتفع بها وإلا فقد خاب وخسر، انتهى.
(قال أبو عبد الله) قال الشيخ محمد حسن المكي في "تقريره" عن الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه: نسخة الفربري رواه صالح، فلفظ أبو عبد الله نسخة ابن عساكر، وقد زيد في هذه النسخة نسخة الفربري المتداولة بين شيوخنا من نسخة غيره من الكاتبين كثيرًا، وكان حقها أن تكتب في البياض، انتهى.
وابن عساكر وإن كان من تلامذة الفربري بثلاث وسائط، لكن له نسخة معروفة، كما ذكره الشيخ أحمد علي المحدث السهارنفوري في مقدمة حاشية "البخاري".
* * *
(1)
"لامع الدراري"(1/ 534).
(2)
"فتح الباري"(1/ 44).
2 -
كتاب الإيمان
وتقدم في مقدمة "اللامع" من كلام الحافظ ابن حجر نوَّر الله مرقده عن شيخه البلقيني المناسبة بين الكتب والأبواب للـ "جامع الصحيح"، فقال فيما يتعلق ببدء الوحي ما تقدم في محله، ثم قال: وقدَّم الوحي لأنه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات، ومنه عُرف الإيمان والعلوم، وكان أوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الإيمان من القراءة والربوبية وخلق الإنسان، فذكر بعده كتاب الإيمان والعلوم، وكان الإيمان أشرف العلوم فعقّبه بكتاب العلم.
والإيمان - بكسر الهمزة - لغةً: التصديق، وهو الإذعان، أي: إذعان لحكم المخبر وقَبوله وجعله صادقًا. وشرعًا: التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فهو كأنه إفعال من الأمن، أي: جعل غيره في الأمن من التكذيب، ثم استعمل في التصديق مطلقًا، قال عزَّ اسمه في قصة إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]. وفي الشرع: التصديق بما جاءت به الشريعة.
ثم قال الإمام: إن الإيمان عمل القلب واللسان معًا، والإقرار ركن أو شرط، وهو المنصوص عن الإمام الأعظم، وإِليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين، وهو المنقول عن الماتُريدي. والمعروف عن الشافعي والمحدثين: أنه مركب من التصديق والإقرار والعمل. والخلاف لفظي بين أهل السُّنَّة، بخلاف المرجئة والخوارج كما في هامش "اللامع"
(1)
.
وحاصل ما في هامش "اللامع": أن فيه أربعة مذاهب:
(1)
"لامع الدراري"(1/ 533).
1 -
أهل السُّنَّة، وقد تقدم.
2 -
والمرجئة، وقالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.
3 -
والخوارج، وقالوا: إن الأعمال أجزاء لحقيقة الإيمان داخلة في ماهيَّته، وإذا فات الجزء فات الكل.
4 -
وبعض المعتزلة القائلون: إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر، والبسط في هامش "اللامع".
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
قد يكتب قبل الكتاب، وقد يكتب بعده، وقد يكتب في غير محله، أي: في أثناء الكتاب، والوجه في ذلك أن الإمام البخاري حين يكتب هذا الكتاب كان يكتب ويكتب، فإذا وقف عن الكتابة بسبب المرض أو غيره من الأعذار تركها، ثم إذا شرع في الكتابة بعد الوقفة كتب البسملة، هذا هو المنقول عن المشايخ وإن كان ضعيفًا، انتهى، كذا في حاشية "اللامع"
(1)
من تقرير مولانا محمد حسن المكي عن الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه.
وفيه أيضًا:
قلت: ولم أتحصل بعدُ وجهَ الضعف، فإن المنقول عن الأساتذة يزيل الإشكال المعروف أن الإمام طالما يذكر البسملة فيما بين الأبواب المسلسلة من كتاب واحد، كما في أبواب التهجُّد كتب البسملة قبل "باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"، وبعد ذلك بيسير كتب البسملة على "باب استقامة اليد في الصلاة"، وليسا بكتابين مستقلين، وسيأتي ذلك في كلام الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" على "باب فضل استقبال القبلة"، وتقدم في مقدمة "اللامع" في خصائص الكتاب، ولعل وجه الضعف اختلاف النسخ في ذكر البسملة وحذفها، لكن اختلاف النسخ موجود في غير البسملة من الأبواب والتراجم وغير ذلك. نعم، بقي الإشكال في أنه قد يكتب
(1)
"لامع الدراري"(1/ 36).
البسملة قبل الكتاب وتارةً بعده كما ها هنا، وسيأتي جوابه في كلام "القسطلاني".
قال القسطلاني
(1)
: ولما فرغ المؤلف من باب الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع يذكر المقاصد الدينية وبدأ منها بالإيمان؛ لأنه ملاك الأمر كله؛ لأن الباقي مبني عليه ومشروط به، وهو أول واجب على المكلف، فقال مبتدئًا:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كأكثر كتب هذا الجامع تبركًا وزيادة في الاعتناء بالتمسُّك بالسُّنَّة، واختلفت الروايات في تقديمها هنا على كتاب أو تأخيرها عنه، ولكلٍّ وجهٌ، ووجه الثاني: بأنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، ووجه الأول ظاهر، انتهى.
(2 -
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بُنِي الإسلام على خمس. . .) إلخ
المعروف على الألسن أن هذه الأبواب كلها ردٌّ على الحنفية القائلين ببساطة الإيمان، بخلاف المحدثين والجمهور القائلين بتركيبه. وهذا ليس بصحيح، فإنه لا خلاف بين أهل السُّنَّة في هذه المسألة أصلًا، ولذا قال مولانا الشاه ولي الله الدهلوي في "تراجمه"
(2)
: اضطرب كلام الشرَّاح في بيان غرض القدماء من المحدِّثين في مسألة الإيمان، وذلك أنهم حكموا بأن من صدّق بقلبه وأقرّ بلسانه ولم يعمل عملًا قط فهو مؤمن، وحكموا بأن الأعمال من الإيمان، فأشكل عليهم أن الكلَّ لا يوجد بدون الجزء.
وأفاد مولانا شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه": أن في المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن الأعمال أجزاء حقيقة الإيمان، وإذا فات الجزء فات الكل، هذا مذهب الخوارج والمعتزلة، وثانيها: أن لا علاقة بين الإيمان
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 143).
(2)
(ص 27).
والأعمال، والإيمان قول فقط بلا عمل، وهذا مذهب المرجئة، والثالث: مذهب أهل السُّنَّة والجماعة: أن الأعمال خارجة عن حقيقة الإيمان داخلة في كماله؛ كأجزاء الإنسان من الجوارح، وما حكموا من الخلاف بين أهل السُّنَّة مبني على الخلاف اللفظي، انتهى.
وفي حاشية الهندية: نُقل عن الشافعي أنه قال: الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل، فالمخلُّ با لأول وحده منافق، وبالثاني وحده: كافر، وبالثالث وحده: فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة.
قال الإمام: هذا في غاية الصعوبة؛ لأن العمل إذا كان ركنًا لا يتحقق الإيمان بدونه، فغير المؤمن كيف يخرج من النار؟
أجيب عن هذا: بأن الإيمان قد جاء بمعنى أصل الإيمان كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته" الحديث، وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل، وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس.
والإيمان بهذا المعنى الثاني هو المراد بالإيمان المنفي في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
(1)
الحديث.
فالخلاف لفظي راجع إلى تفسير الإيمان، ولا خلاف في المعنى، فإن الإيمان المُنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين، والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السُّنَّة خلافًا للمعتزلة والخوارج، ويدل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وإن زنى وإن سرق"
(2)
الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان"
(3)
(1)
أخرجه البخاري (ح: 2475)، ومسلم (ح: 57).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 5827)، ومسلم (ح: 94).
(3)
أخرجه الترمذي (ح: 1999، 2598).
فبهذا يندفع الإشكال وتجتمع الأقوال، انتهى، ملتقط من "العيني"
(1)
.
فغرض المصنف بهذه الأبواب الردُّ على هذين الفريقين، أي: المرجئة والخوارج.
وأفاد في "اللامع" و"تراجم شيخ الهند": أن المصنف بسط في الرد على المرجئة في هذه الأبواب أشد البسط، وإن أشار في بعضها إلى رد الخوارج أيضًا، لما أن عقائد المرجئة تسدّ أبواب الأعمال بالكلية، وزاد الشيخ الكَنكَوهي في "اللامع"
(2)
بأن غرض المصنف بهذه الأبواب الرد على المرجئة القائلين بأنه لا يضرّ الإسلام معصية، والمعتزلة المثبتين منزلةً بين المؤمن والكافر.
وصرَّح في "شرح البخاري"
(3)
للنووي أن غرض المصنف من هذه الأبواب كلِّها الرد على المرجئة، فإن مذهب جميع أهل السُّنَّة من سلف الأمة وخَلَفها أن الإيمان قول وعمل. . .، إلى أن قال: فالحاصل أن الذي عليه أهل السُّنَّة أو جمهورهم أن من صدّق بقلبه ونطق بلسانه بالتوحيد، لكن قصَّر في الأعمال كترك الصلاة وشرب الخمر، لا يكون كافرًا خارجًا من الملة، بل هو فاسق، انتهى.
(وهو قول وفعل) أراد بالفعل ما يعمُّ فعل القلب والجوارح، ويمكن إرادة فعل الجوارح فقط، وعلى هذا فتركُ التصديق في الذكر لاتفاق العلماء على اعتباره في الإيمان، كذا في "اللامع"، وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"، وفيه: وفي رواية الكشميهني: "قول وعمل"، وهو اللفظ الوارد عن السلف.
وذكر في "فيض الباري"
(4)
بهذا الكلام شروحًا أربعة:
(1)
"عمدة القاري"(1/ 166).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 537).
(3)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 45).
(4)
"فيض الباري"(1/ 55، 56).
الأول: ما فهمه عامة أرباب التصانيف أن الإيمان مركب من القول والعمل، فالمخلُّ بهما كافر، والمخلُّ بالتصديق فقط منافق، والمخل بالعمل فاسق.
والثاني: أن الإيمان تصديقٌ يظهره اللسان والجوارح. وحاصله: أنه التصديق المساعد بالقول والعمل، وحينئذ لا يكون الإيمان إلا التصديق فقط، ويبقى القول والعمل ساعدًا ومساعدًا بالإيمان لا جزء له، فالتصديق الذي يخلو عن الإقرار والعمل كأنه ليس بتصديق.
والثالث: أن التصديق منسحب على القلب والجوارح، فتصديقُ القلب هو التصديق الباطني المسمَّى بالإيمان، وتصديق الجوارح يسمَّى عملًا وأخلاقًا، فالشيء واحد من هناك إلى ها هنا، وتختلف الأسامي باختلاف المواطن، فالإيمان على اللسان: قول، وعلى الجوارح: عمل.
والرابع: أن الإيمان اسم للتصديق الذي يعقبه القول والعمل، فينبغي أولًا أن يصدّق، ثم يُقرّ، ثم يعمل، فكان القول والعمل من مقتضيات الإيمان، انتهى ملخصًا.
(ويزيد وينقص) قال الشيخ العارف المحدث الكَنكَوهي في "اللامع": وزيادة الإيمان في الروايات والآيات عندنا محمولة على زيادة المؤمن به، أو على زيادة مراتب الإيقان وكيفيات التصديق لا نفسه؛ لأنه شيء بسيط. وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"
(1)
. وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من قوله: "مراتب الإيقان وكيفيات التصديق" هو بعينه ما اختاره السلف من الزيادة والنقصان.
وأجاد الإمام الرباني المجدد للألف الثاني كلامًا أنيقًا في مكتوباته الشريفة، نورده بنصِّه تبركًا بلفظه، قال:
"در زيادتي ونقصان إيمان علماء را اختلاف است، إمام أعظم كوفي رضي الله عنه مي فرمايد: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإمام شافعي رحمه الله
(1)
"لامع الدراري"(1/ 538).
سبحانه مي فرمايد كه: يزيد وينقص، وشك نيست كه إيمان عبارة أز تصديق ويقين قلبي است كه زيادتي ونقصان را در آنجا كَنجائش نيست، آنجه قبول زيادتي ونقصان كند داخل دائره ظن است نه يقين.
غاية ما في الباب: إتيان أعمال صالحه انجلاء آن يقين مي فرمايد، وأعمال غير صالحه آن يقين را مكدر مي سازد، بس زيادتي ونقصان باعتبار أعمال در انجلاء آن يقين ثابت شد، نه در نفس آن يقين جمع يقين را منجلي وروشن يافتند زياده كَفتند از ان يقيني كه آن انجلاء وروشني ندارد، كَوئياى بعضى غير منجلي يقين را يقين نه داشتند، همان بعض منجلي را يقين دانسته ناقص كَفتند، وجمع ديكَر كه حدت نظر داشتند ديدند كه اين زيادتي ونقصان راجع بصفات يقين است نه بنفس يقين.
لا جرم يقين را غير زائد وناقص كَفتند، مثل آنكه دو آئينه برابر كه در انجلاء ونورانيت وتفاوت دارند، شخصى بيند آئينه را كه انجلاء زياده دارد ونمايندكَي درو بيشتر است كَويد كه اين آئينه زياده است از آئينه ديكَر كه آن انجلاء ونمائندكَي ندارد، وشخصى ديكَر كَويد كه دو آئينه است بس نظر شخص ثاني صائب است وبحقيقت شي نافذ، ونظر شخص أول مقصور با ظاهر است واز صفت بذات نرفته و {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
ازين تحقيق كه اين فقير بإظهار آن موفق شدة اعتراضات مخالفان كه بر عدم زيادتي ونقصان إيمان نموده اند زائل كَشت، وايمان عامه مؤمنان در جمع وجوه مثل إيمان أنبياء - عليهم الصلوات والتسليمات - نشد، زيرا كه إيمان أنبياء عليهم الصلوات والتسليمات كه تمام منجلي ونوراني است، ثمرات ونتائج بأضعاف زياده دارد أز إيمان عامه مؤمنان كه ظلمات وكدورات دارد على تفاوت درجاتهم، وهمجنين إيمان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كه در وزن زياده از إيمان أمت است باعتبار انجلاء ونورانيت بايد دانست وزيادتي را راجع بصفات كامله بايد ساخت نمي بيني كه أنبياء
عليهم الصلوات والتسليمات با عامه در نفس إنسانيت برابر اند، ودر حقيقت وذات همه متحد، تفاضل باعتبار صفات كامله آمده است وآنكه صفات كامله ندارد، كَوئيان أزان نوع خارج است، وأز خواص وفضائل آن نوع محروم با وجود اين تفاوت در نفس إنسانيت زيادتي ونقصان راه نمي بايد ونمي توان كَفت كه إنسانيت قابل زيادتي ونقصان است، والله سبحانه وتعالى الملهم للصواب، انتهى.
(وقال تعالى) في سورة الفتح: ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ})[4].
(وقال تعالى) في سورة الكهف: ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى})[13].
(وقال تعالى) في سورة مريم: ({وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى})[76]
(وقال تعالى) في سورة محمد: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى})[17]
(وقال تعالى) في سورة المدثر: ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا})[31].
(وقال تعالى) في سورة براءة: ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا})[124].
(وقال تعالى) في سورة آل عمران: ({فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ})[173].
(وقال تعالى) في سورة الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَانًا})[22]
(والحب في الله) لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أُمامة
(1)
، واستدل به الإمام على الزيادة والنقصان؛ لأن الحب والبغض يتفاوتان، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) شرع في الآثار بعد ذكر الآيات والحديث، (إلى عدي بن عدي) الكندي، وهو تابعي، من أولاد الصحابة،
(1)
قوله: "من حديث أبي أمامة" كذا ذكره القسطلاني، وفي "سنن أبي داود" (ح: 4599) من حديث أبي ذر.
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 148).
كان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة، ولذا كتب إليه، كذا في هامش "اللامع"
(1)
.
(إن للإيمان فرائض) أي: أعمالًا مفروضة.
(وشرائع) أي: عقائد دينية. "وحدودًا" أي: منهيات ممنوعة.
(وسننًا) أي: مندوبات، كذا في "الفتح" و"القسطلاني"
(2)
.
وقال الشيخ المحدث الكَنكَوهي في "اللامع"
(3)
: وظاهر أن الفرائض والشرائع ليست لنفس الإيمان، إذ هو اسم للتصديق عند الكل، فلا معنى لكونه ذا فرائض إلا إذا أدخل فيه العمل أيضًا، ونقل عنه أن الإيمان فرائض، وعلى هذا فدخول الأعمال فيه أظهر، ثم لا يمكن أن يكون عمر رضي الله عنه هذا يكفر من أخلّ بشيء من الأعمال، كما هو اللازم من جعل الأعمال داخلةً في الإيمان لما فيه من مخالفة بيِّنة للنصوص القطعية، فلم يكن مراده إلا دخولها في الإيمان الكامل وهو عين مرادنا.
(فقد استكمل الإيمان): استدل به الإمام البخاري على الزيادة والنقص، لا يقال: إنه لا يدل على ذلك بل يدل على خلافه إذ قال للإيمان كذا وكذا، فجعلها غير الإيمان؛ لأنا نقول: إن آخر كلامه "فقد استكمل" يشعر إليه، كذا في "القسطلاني".
قلت: بل هو أصرح دليل لمن قال: إن هذه الأمور لاستكمال الإيمان، وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"، وفي آخره: قال الحافظ
(4)
: فالمراد أنها من المكملات؛ لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيمانًا.
(فسأبيِّنها لكم) أي: مفصَّلَة.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 539).
(2)
"فتح الباري"(1/ 47)، "إرشاد الساري"(1/ 148).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 539).
(4)
"فتح الباري"(1/ 47).
قال القسطلاني
(1)
: وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ الحاجة لم تتحقق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها ولكنه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود، وعَرّفهم أقسام الإيمان مجملًا، وأنه سيذكرها مفصلًا إذا تفرغ لها، فقد كان مشغولًا بالأهم.
(وقال إبراهيم) على نبينا وعليه السلام كما في سورة البقرة: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] أي: يزداد بصيرةً.
لا يقال: إن الشك ينافي الإيمان؛ لأن المراد ها هنا ليس نفي اليقين بل التمنِّي لعين اليقين، فإن المحقق بالمشاهدة آكد من المحقق بالعلم، أو يقال: إن السؤال لم يكن عن مجرد الإحياء بل عن كيفيته، كما يدل عليه لفظ "كيف"، وهذا هو الذي مال إليه صاحب "روح المعاني"
(2)
.
وذكر النووي له أجوبة، قال
(3)
: أظهرها أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدةً بعد العلم بها استدلالًا، فإِنَّ عِلْمَ الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوكُ في الجملة، بخلاف علم المعاينة فإنه ضروري، وهذا مذهب الأزهري وغيره.
والثاني: سأل زيادة يقين وإن لم يكن الأول شكًّا، فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فإنَّ بين العِلمين تفاوتًا، قال سهل بن عبد الله التستري: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين، وذكر وجهين آخرين.
وقال ابن الهمام في "المسايرة"
(4)
: قيل في تأويله: طلب السيد إبراهيم صلى الله عليه وسلم حصولَ القطع بالإحياء بطريق آخر، وهو البديهي الذي بداهته سببُ وقوع الإحساس به، وهذا تأويل حسن، وحاصله: أنه لما قطع بالقدرة على الإحياء اشتاق إلى مشاهدة كيفية هذا الأمر العجيب الذي جزم بثبوته،
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 149).
(2)
"روح المعاني"(2/ 26).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 461).
(4)
انظر: "المسامرة بشرح المسايرة"(ص 375).
كمن قطع بوجود دمشق وما فيها من أجِنَّة يانعة، وأنهار جارية، فنازَعَتْه نفسُه في رؤيتها والابتهاج بمشاهدتها، فإنها لا تسكن وتطمئن حتى يحصل مُنَاها، وكذا شأنُها في كل مطلوب مع العلم بوجوده، فليس تلك المنازعة والتطلب ليحصل القطع بوجود دمشق، إذ الفرض ثبوته.
قال الكمال ابن أبي شريف
(1)
: وهذا التأويل يشير إلى أن المطلوب بقول السيد إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] هو سكون قلبه عن المنازعة إلى رؤية الكيفية المطلوب رؤيتها، وهو الذي اقتصر عليه ابن عبد السلام في جواب السؤال، أو المطلوب سكونه بحصول متمنَّاه من المشاهدة المحصِّلة للعلم البديهي بعد العلم النظري، انتهى.
ولا يقال: كان المناسب للمصنف أن يذكرها في سياق الآيات؛ لأن هاتيك دلالتها على الزيادة صريحة بخلاف هذه، كذا في "القسطلاني"
(2)
، وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
: وإيرادها في غير الآيات لأنها من كلام إبراهيم عليه السلام لا من أمره تعالى، وإن كان مذكورًا في القرآن على سبيل الحكاية.
(وقال معاذ بن جبل) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": كذلك [في] قول معاذ، أي: نزد الإيمان ساعة بالمذاكرة، وكذلك قول ابن مسعود، فإن كلها دليل على ما قصده المؤلف، ولا يضرُّنا شيئًا، فإن الزيادة في الكيفيات مسلَّمة.
(اجلس بنا نُؤمِنْ ساعةً) أي: نزداد إيمانًا.
قال النووي
(4)
: أي نتذاكر الخير وأحكام الآخرة، فإن ذلك إيمان،
(1)
هو شيخ الإسلام أبو المعالي، كمال الدين محمد بن محمد، المعروف بابن أبي شريف، صاحب "المسامرة بشرح المسايرة"، ولد 822 هـ، وتوفي 906 هـ. انظر:"الأعلام" للزركلي (7/ 53).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 149).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 540).
(4)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 47).
وقال ابن العربي: لا تعلق له للزيادة؛ لأن معاذًا إنما أراد تجديد الإيمان؛ لأن العبد في أول الأمر يكون مؤمنًا، ثم يجدد دائمًا، وتعقَّبه الحافظ بأن ما نفاه أولًا أثبته آخرًا؛ لأن تجديد الإيمان [إيمان]، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
(وقال ابن مسعود) طرف من أثر رواه الطبراني وتتمته: "والصبر نصف الإيمان"، ولفظ "نصف" صريح في التجزئة، كذا في "القسطلاني".
قلت: ولا يبعد أن يقال: إن المصنف أشار إلى كل الأثر بذكر بعضه.
قال الحافظ
(2)
: جرى المصنف على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئية، وفي "الإيمان" لأحمد من طريق عبد الله بن حكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: اللهم زدني إيمانًا ويقينًا وفقهًا، وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لِمَا أشرتُ إليه، انتهى.
(اليقين الإيمان كله) أَكَّدَه بكلٍّ لدلالتها على التبعيض، كذا في "القسطلاني"، قال الشيخ العارف المحدث الكَنكَوهي في "اللامع"
(3)
: إن اليقين كل الإيمان، ففيه استدلالان: توكيد الإيمان بلفظ الكل، ولا يؤكد بالكل إلا ذو أجزاء وأبعاض، فلزم دخول الأعمال في الإيمان، إذ ليس في نفس الإيمان أجزاء، وحمل الإيمان على اليقين أو عكسه، ومراتب اليقين متفاوته، فلزم كون الإيمان كذلك، انتهى.
(قال ابن عمر) هو عبد الله، وهو المعروف بهذه الكنية في جملة أبناء عمر رضي الله تعالى عنه، معروف بشدة اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في الآداب.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 149)، و"فتح الباري"(1/ 48).
(2)
"فتح الباري"(1/ 48).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 541).
(لا يبلغ العبد حقيقة التقوى) وفي الأثر إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كُنْهَ الإيمان، وبعضهم لم يبلغه، فثبتت الزيادة والنقصان، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
قال الشيخ في "اللامع"
(2)
: "حقيقة التقوى"، فلزم أن يكون للتقوى - وهو الإيمان - مراتب بعضها أولى بتسميتها "تقوى" من بعض، أي: وقد علم أن أدنى درجات التقوى الاتقاء عن الشرك، وهو الإيمان نفسه، فكان أعلى درجاته أعلى درجاته، انتهى.
وفي هامشه: في بعض الروايات بدل "التقوى" لفظ "الإيمان".
(وقال مجاهد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ. . .}) إلخ، أشار إلى آية في سورة الشورى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية [الشورى: 13].
قال صاحب "الجمل"
(3)
: {لَكُمْ} خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة لكمال الاعتناء بالإيحاء إليه، انتهى.
وقال الشيخ في "اللامع"
(4)
: تفسير مجاهد يقتضي اتحادهما مع ما علم من اختلاف بين الشرائع والأحكام، فعلم أن الدين واحد غير أن فيه زيادة ونقصانًا، ويدل عليه الرواية "مثلي مثل من بنى دارًا"
(5)
، فإن فيه تصريحًا بأنه صلى الله عليه وسلم كمَّل من الأديان ما كان ناقصًا، إلى آخر ما بسط فيه.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 150).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 542).
(3)
"الجمل"(4/ 55، 56).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 542).
(5)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(ح: 3534) من حديث جابر مرفوعًا بلفظ: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة. . ." إلخ، ومن حديث أبي هريرة بنحوه (ح: 3535)، وفيه:"إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلَّا وضعت هذه اللبنة"، قال:"فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
وقال ابن الملقن في "التوضيح": لا يظهر موافقة هذه الآية، أي: المذكور في قول مجاهد للترجمة، وأجاب المحدث الكبير مولانا أحمد علي السهارنفوري في حاشية "البخاري"
(1)
بأن في آخر الآية: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} ، والإقامة في الدين لا تتأتى إلا بالإيمانِ بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله تعالى، فكل من كان في التصديق وطاعة الأحكام أعمل كان إيمانه أكمل، فبهذا تحصل المطابقة، والله أعلم، وسيأتي شيء مما يتعلق به في ذكر قول ابن عباس إن شاء الله، وبسط شيء من الكلام عليه في هامش "اللامع".
(يا محمد وإياه. . .) إلخ، أي: نوحًا، خصَّه بالذكر؛ لأنه أول من جاء بالتحريم والتحليل، وأول من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، كذا في "القسطلاني" لا يقال: إن "إياه" تصحيف وقع في أصل البخاري، والصواب: وأنبياءه، كما عند عبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما، وكيف يفرد مجاهدٌ الضميرَ لنوحٍ وحده مع أن في الآية ذكر جماعة من الأنبياء؟
لأنه أجيب بأن نوحًا أُفْرِد في الآية، وبقية الأنبياء عطفٌ عليه، وهم داخلون فيما وَصّى به نوحًا في تفسير مجاهد، فليس بتصحيف بل صحيح، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
قلت: ودعوى التصحيف للبُلقيني والجواب للحافظ، وغرض المصنف بذكره أنه جعل الأديان كلها دينًا واحدًا مع ما فيها من زيادة ونقص، كذا في "اللامع"
(3)
.
(وقال ابن عباس) في تفسير قوله تعالى في سورة المائدة
(4)
: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أيها الأمم {شِرْعَةً} أي: شريعة {وَمِنْهَاجًا} أي: طريقًا
(1)
(1/ 214).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 150).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 545)، و"فتح الباري"(1/ 48).
(4)
في الأصل: "براءة" وهو تحريف.
واضحًا في الدين يمشون عليه، كذا في "الجلالين"
(1)
.
قال صاحب "الجمل"
(2)
: الشريعة والمنهاج عبارة عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد، والمراد بهما الدين، وقال آخرون: بينهما فرق لطيف، وهو أن الشريعة التي أمر الله بها عباده، والمنهاج الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة، قال ابن عباس في تفسيرها: سُنَّة وسبيلًا، وقال قتادة: سبيلًا وسُنَّة، قال العلماء: وردت آياتٌ دالَّةٌ على عدم التباين، منها قوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى قوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا} ، ومنها دالَّة على حصول التباين كما في آية:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، والجمع أن كل آية تدل على عدم التباين، فهي محمولة على أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكل ذلك لم يختلفوا فيه الرسلُ، والآيات الدالة على التباين محمولة على الفروع، انتهى.
وفي "اللامع"
(3)
: ولا يبعد أن يقال: إن أثر ابن عباس ومجاهد في تفسير الآيتين مجموعهما حجة واحدة، وحاصلها: أن مجاهدًا فسَّر الآية بما حاصله اتحاد الأديان جملة، وفسَّر ابن عباس الآية الثانية بما حاصله: افتراق السنن والمناهج، وليست إلا الشرائع، فلا يمكن الجمع بين الآيتين إلا بإِهدار التفاوت في فروع الإيمان، وهي الأعمال، فعُلم أن الدين واحد غير أنه ينقص حسب ما فيه من نقص لقلة الأعمال، ويزيد حسب زيادة الأعمال، إلى آخر ما فيه.
(و {دُعَاؤُكُمْ} إيمانكم): ذكر في هامش النسخة الهندية قبل ذاك "باب"، قال القسطلاني
(4)
: وقع هنا في رواية أبي ذر وغيره لفظ "باب" بالتنوين، وهو ثابت في أصل عليه خط الحافظ قطب الدين الحلبي، لكنه ساقط في رواية الأصيلي وابن عساكر، وأيده قول الكرماني: إنه وقف على
(1)
"الجلالين"(ص 145).
(2)
"الجمل"(2/ 233).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 544).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 150).
أصل مسموع [على] الفربري، بحذفه، بل قال النووي: وقع في كثير من النسخ هنا "باب" وهو غلط فاحش، والصواب حذفه؛ لأنه لا تعلق له بما نحن فيه، ولأنه ترجم بقوله عليه السلام:"بني الإسلام" الحديث، ولم يذكره قبل هذا، بل ذكره بعده وليس مطابقًا للترجمة، انتهى مختصرًا.
وقوله: ({دُعَاؤُكُمْ} إيمانكم): من قول ابن عباس يشير به إلى قوله تعالى في آخر الفرقان: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، فسمَّى الدعاء: إيمانًا، والدعاء عمل، فاحتج به على أن الإيمان عمل وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف في التفسير حيث ينقل التفسير.
وفي هامش النسخة الهندية عن الكرماني
(1)
: فسَّره ابن عباس فقال: المراد من الدعاء الإيمان، [فمعنى ({دُعَاءَكُمْ}: إيمانكم]، يعني: تفسيره في الآيتين (أي: آية {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، وآية {دُعَاؤُكُمْ})، يدل على أنه قابل للزيادة والنقصان، أو أنه سمَّى الدعاء إيمانًا والدعاء عمل، وقال ابن بطال: معنى قول ابن عباس {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} الذي هو زيادة في إيمانكم، انتهى.
(بني الإسلام على خمس. . .) إلخ: ولقائل أن يقول: هذا الحديث لا يجديكم شيئًا في دعواكم، بل الذي يثبت عنه مغايرة الإسلام للأعمال، فإن المبني غير المبني عليه.
والجواب: أن المغايرة تجوز أن تكون مغايرة وجود الكل لوجودات الأجزاء في أنفسها، كذا في "اللامع"
(2)
.
اعلم أن المصنف استدل بهذا الباب على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، واستدلاله هذا مبنيٌّ على أن الإسلام والإيمان والدين عنده واحد، قلنا: إن أخذ الأعمال في الإيمان كالمكمل له فلا إشكال، فإن الإيمان الكامل يزيد وينقص، وقد يقال: إن المركب هو الإسلام فإنه مجموع التصديق والطاعات.
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 76).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 546).
وأما الإيمان بمعنى تصديق أمور مخصوصة كما يفيده حديث جبرئيل الآتي فهو أمر بسيط، قال شيخ الهند في "تراجمه": والثابت من الحديث هو كون الأعمال جزءًا للإسلام لا جزءًا للإيمان، والثابت هو الزيادة والنقصان في الإسلام لا في الإيمان، ولا خلاف في ذلك بين أهل السُّنَّة والجماعة.
قال القاري في "المرقاة"
(1)
: قوله: "بني الإسلام"، هو اسم للشريعة دون الإيمان، وقد يطلق على الإِذعان بالقلب والاستسلام بجميع القوى والجوارح في جميع الأحوال، وهو الذي أمر به إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال له ربُّه:{أَسْلِمْ} ، وهذا أخص من الأول، والمراد به الإسلام الكامل؛ لأن حقيقته مبنية على الشهادتين فقط، وإنما اقتصر على بيان أركانه مع إيماء إلى بقية شُعب إيمانه، انتهى.
قال شيخ الهند في "تراجمه": ثم إن المصنف أشار إلى الرد على المرجئة في أكثر أبواب كتاب الإيمان، وردَّ في بعضها على الخوارج والمعتزلة، فإن هذين الفريقين هما اللذان سلكا مسلك الإفراط والتفريط، وبالغا في مخالفة أهل الحق، فأبطل المصنف ما ذهبا إليه بالوحي المتلو وغير المتلو، ثم إنه شدد في الرد على المرجئة إما لأن مذهبهم يقتضي سد باب الأعمال لا حاجة إليها بل هي من باب الفضول، وإما لأن قولهم يباين المقصد الذي أراده المؤلف بباب بدء الوحي، انتهى.
(3 -
باب أمور الإيمان)
ذكر في "التقرير": ليس المقصود هو إثبات جزئية الأعمال أو قبول الإيمان زيادة ونقصانًا، فإن البحث قد انبرم، وإنما المقصود ها هنا تفسير بعض مقتضيات الإيمان وآثاره تنبيهًا على أن المؤمن ليس من شأنه الإخلال بها، انتهى.
(1)
"مرقاة المفاتيح"(1/ 135).
وفي تقرير مولانا حسين علي البنجابي عن الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه: أورد هذا الباب لدفع وهم أن الأجزاء هو الخمس فقط، وقال: الإيمان عندهم كلِّي مشكك، وهذه الأبواب كلها تدل على زيادة الإيمان ولا يضرنا، انتهى.
وأجمل حضرة شيخ الهند الكلام على الأبواب كلها في تراجمه فقال ما تعريبه: ثم يلاحظ أن المؤلف رحمه الله تعالى جعل في تراجم الأبواب الآتية العمل من الإيمان في بعضها، ومن الإسلام في أخرى، ومن الدين في البعض الآخر، وأتى بالآيات والأحاديث والآثار في تأييد مدعاه، ثم إنه في بعضها يأتي في الترجمة بإحدى هذه الألفاظ ويكون في الحديث لفظ آخر.
فمثلًا ذكر الإسلام في ترجمته، والمذكور في الحديث الإيمان، أو الدين، أو عكسه، فهذه الأمور كلها لا إشكال فيها البتة، فالظاهر أن غرض المؤلف رحمه الله تعالى بيان مسلك السلف الأكابر في هذا الباب، كما صرَّح به العلامة السندهي وغيره، فأظهر المؤلف رحمه الله أن السلف كانوا يتوسعون في إطلاق أجزاء الإيمان على الأعمال، وأن بين الإسلام والإيمان والدين ارتباطًا وثيقًا بحيث أن يصح أن يسمَّى أجزاء أحدها بأجزاء الآخر، فحصل بذلك الردُّ التامُّ على رأي المرجئة.
ثم تظهر إشارة لطيفة إلى أنه ينبغي لنا أن نتبع السلف في هذا الأمر، ولا حاجة إلى التعمق في المباحث الكلامية التي أوجدها المتأخرون، وإن كانت صحيحة ولم يخالف مسلك السلف، وهذه عادة المؤلف خصوصًا في المسائل الاعتقادية أنه يرد على أهل الأهواء صراحة وأحيانًا إشارة، وأما أهل الحق فإن المؤلف يشير إليهم بخفاء واحتياط بليغ، ولا يتنبه له إلا بالخوض الصحيح، ويظهر ذلك في كتاب الرد على الجهمية على وجه الكمال، انتهى مختصرًا.
وعامة الشرَّاح حملوا هذه الأبواب كلها إلى تركيب الإيمان وكونه ذا
أجزاء، فاختلفوا في هذه الأبواب كلها الآتية على أربعة أقوال:
الأول: ما قالته الشرَّاح: إن المقصود من هذه الأبواب كلها الاستدلال على زيادة الإيمان بنفسه، وكون الإيمان مركبًا.
والثاني: قول الشيخ في "اللامع"
(1)
إذ قال: إن البحث في ذلك قد انبرم، ومقصود هذه الأبواب تفصيل بعض مقتضيات الإيمان والآثار.
والثالث: مقتضى كلام شيخ الهند أن المقصود من هذه الأبواب الرد على المرجئة وإثبات مسلك السلف، كما تقدم في كلامه رحمه الله مفصلًا.
والرابع: أن المقصود أن لفظ الخمس في حديث: "بني الإسلام على خمس" ليس للحصر، وإنما بسط المصنف في الرد على المرجئة؛ لأن مسلكهم يبطل الأعمال كلها، بخلاف مسلك الخوارج فإن مسلكهم يشدِّد في أمر الأعمال.
(وقول الله عز وجل: {لَيْسَ البِرَّ} [البقرة: 177]) إلخ، قال القسطلاني
(2)
: والآية جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، فإنها بكثرتها منحصرة في ثلاثة: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان"، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية، وفي حديث أبي ذر بسند صحيح أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا هذه الآية، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: {لَيْسَ البِرَّ} أي: الإيمان؛ لأنه أعلى البر، وكذلك في قوله:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]، وأنت تعلم ما فيه، فإن العطف يقتضي المغايرة كما هو أصله إلا بدليل يقوم على خلافه، فكان المعطوف على الإيمان مغايرًا له لا داخلًا فيه، إلا أن يقال: جعل الإيمان نوعين: كاملًا: وعَبَّر عنه بالبر، وهو الإيمان وما عطف عليه،
(1)
"لامع الدراري"(1/ 549).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 154).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 548).
وناقصًا: وعبر عنه بالإيمان والمعطوفات خارجة عنه، هذا ظاهر ولا ينكره أحد.
" {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} " أي: فاز.
وهذه آية أخرى استدل بها الإمام على مرامه وهو أمور الإيمان، وساق الكرماني
(1)
الآية إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] وقال: فعُلم منها أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه هذه الأعمال المذكورة، قال ابن بطال: التصديق أول منازل الإيمان، والاستكمال إنما هو بهذه الأمور، وأراد البخاري الاستكمال، ولهذا بوَّب أبوابه عليه فقال:"باب أمور الإيمان" و"باب الجهاد"، و"باب الصلاة من الإيمان" انتهى.
وقال في "الفتح"
(2)
: ويحتمل أن يكون ساقه تفسيرًا لقوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} تقديره: المتقون هم الموصوفون بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} ، وفي رواية الأصيلي:"وقد أفلح" بإثبات الواو، وفي رواية ابن عساكر:"وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} " وفيهما رد لما قاله في "الفتح" من احتمال التفسير، انتهى ما في "القسطلاني"
(3)
.
(الإيمان بضع) أي: كماله وأثوه، وأما نفسه فغير منقسم، كذا في "اللامع"
(4)
.
و"بضع" قال القسطلاني
(5)
: بكسر الموحدة وقد تفتح، هو خاص بالعشرات إلى التسعين، فلا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف، وفي "القاموس": هو ما بين الثلاث إلى التسع، والبسط في ذلك في هامش "اللامع"، وفيه:"بضع" بدون الهاء في بعض الأصول، وفي أكثرها بالهاء
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 81).
(2)
"فتح الباري"(1/ 51).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 155).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 551).
(5)
"إرشاد الساري"(1/ 156).
بضعة، ومعناهما القطعة، واستعملا فيه العدد، وبسط فيه الاختلاف في ستين وسبعين، وجمع بأنه عليه الصلاة والسلام أعلم أولًا على بضع وستين ثم أخبر بزيادة عشرة، وعَدّها بعضهم بطريق الاجتهاد، وللبيهقي وعبد الجليل كتاب الشعب، انتهى.
ومطابقة حديث الباب للترجمة ظاهرة، وهذه الأعمال التي أشار إليها في الحديث هي عند المصنف من أجزاء الإيمان.
وأما من قال: إن أصل الإيمان هو التصديق فيقول: إنه صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ الإيمان مع الأعمال بالدوحة التي لها أغصان وفروع وساق وأصل، فالتصديق كالأصل، والساق والأعمال كالأغصان، والفروع منشعبة عنه، وكأن الأعمال آثار الإيمان، أو يقال: إن الأعمال مظاهر الإيمان، فإن إيمان الرجل إنما يعرف بهذه الأعمال، فهي دلائل عليه، وكأنه أطلق عليه أنها من شعب الإيمان من جهة أن آثار الشيء يطلق عليها اسم ذلك الشيء؛ كالشمس يطلق على الجرم وعلى الضوء، والله تعالى أعلم.
قال الشاه ولي الله رحمه الله تعالى في "حجة الله البالغة"
(1)
: وللإِيمان شُعب كثيرة، ومثله كمثل الشجرة، يقال للدوحة والأغصان والأوراق والثمار والأزهار جميعًا: إنها شجرة، فإذا قطع أغصانُها، وخُبِطَ أوراقُها، وخُرِفَ ثمارها، قيل: شجرة ناقصة، فإذا قُلِعتِ الدَّوحةُ بطل الأصل، إلى آخر ما بسطه.
والحاصل: أن هذه الأعمال مكملة للإيمان، قال التيمي: المراد من الحديث من وجدت فيه هذه الخصال فهو مؤمن على سبيل الكمال، ثم إيمان كل واحد بقدر وجود هذه الخصال فيه، انتهى.
(1)
"حجة الله البالغة"(1/ 533).
(4 -
باب المسلم من سلم. . .) إلخ
ترجم بكتاب الإيمان وذكر فيه الإسلام والدين إشارة إلى أن المعتبر في الشرع هو الإيمان مع الإسلام وهو الدين، فكل واحد من هذه الثلاثة، أي: الإيمان والإسلام والدين متلازم بالآخر عند الشرع، ولذا ذكر أحدها موضع الآخر، وقد تقدم ذلك المعنى في كلام شيخ الهند مفصلًا.
(من لسانه) ولم يذكر من كلامه ليدخل من أخرج لسانه استهزاءً لصاحبه، وقدّمه على اليد لأن إيذاءه أكثر:
جراحات السنان لها التئام
…
ولا يلتام ما جرح اللسان
كذا في "القسطلاني"
(1)
.
قلت: وهذا أحد الأحاديث الخمسة المختارة للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما تقدم في حديث: "إنما الأعمال بالنيات" مفصلًا.
(ويده) خصَّه بالذكر مع أن الفعل قد يحصل بغيره؛ لأن سلطنة الأفعال إنما تظهر بها، كذا في "القسطلاني".
(والمهاجر. . .) إلخ، قال ذلك لئلا يتكل المهاجرون على مجرَّد انتقال المكان، أو تطييبًا لقلوب من لم يهاجر، كذا في "القسطلاني" و"الكرماني" وغيرهما
(2)
، والتطابق ظاهر على الوجوه الأربعة المتقدمة من الشرَّاح باعتبار أن عمل اللسان واليد داخل في الإسلام، وكذا على رأي الشيخ قُدِّس سرُّه أن هذه الأمور تفصيل لمقتضيات الإيمان والآثار، وعلى رأي شيخ الهند: أن المقصود منه الرد على المرجئة، والرابع أن المقصود التنبيه على أن لفظ "خمس" ليس للحصر.
(قال أبو معاوية) مراده ظاهر، وهو تصريح سماع عامر بن عبد الله،
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 159).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 54)، و"شرح الكرماني"(1/ 89)، و"إرشاد الساري"(1/ 159).
وأما غرض متابعة عبد الأعلى فالتنبيه على أن عبد الله الذي أبهم فيه هو ابن عمرو كما في الرواية السابقة.
وفي هامش "اللامع"
(1)
عن مولانا محمد حسن المكي عن تقرير شيخه الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه: لما كان الشعبي تابعيًا صغيرًا فكان يختفي على بعض الناس أنه سمع من عبد الله فيكون الحديث متصلًا أم لا فيكون منقطعًا، وكان ذلك الاختفاء عليهم حقيقة، أو خاف البخاري رحمه الله عليهم فأثبت السماع لدفع توهم الانقطاع، وكذلك أشار إلى أن الشعبي وعامرًا واحد، وكذلك عادة البخاري رحمه الله أنه إذا روى معنعنًا وخاف فيه اختفاء السماع على الناس، أو ذكر فيه مدلسًا يثبت السماع بقدر الإمكان، وقوله:"قال عبد الأعلى" أورده لمجرد التقوية، انتهى.
وما أفاده الشيخ قُدَّس سرُّه من أنه تابعي صغير مبني على أن الصغر والكبر من الأمور الإضافية، وعن الحافظ في الطبقة الثالثة عن التابعين وهي الطبقة الوسطى.
(5 -
باب أي الإسلام أفضل)
وشَرْطُ "أيّ" أن تدخل على متعدد، وهو ها هنا مقدر بذوي، أَيْ: أَيّ أصحاب الإسلام أفضل، وفي الحديث عند مسلم:"أيّ المسلمين أفضل"، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
وقال النووي
(3)
: أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بغير ما أجاب به في الحديث الثاني، قال العلماء: كان الجوابان في وقتين، فأجاب في كل وقت بما هو الأفضل في حق السامع أو أهل المجلس، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: وإذا ثبت أن بعض خصال المسلمين المتعلقة
(1)
"لامع الدراري"(1/ 552).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 160).
(3)
انظر: "شرح صحيح مسلم"(1/ 286).
(4)
"فتح الباري"(1/ 55).
بالإسلام أفضل من بعض، حصل مراد المصنف بقَبول الزيادة والنقصان، فتظهر مناسبة هذا الحديث والذي قبله لما قبلهما من تعدد أمور الإيمان، إذ الإيمان والإسلام عنده مترادفان، والله أعلم.
(6 -
باب إطعام الطعام)
أي: من شعب الإسلام، وفي بعض النسخ بدل "من الإسلام""من الإيمان"، وهذا عاضد لمذهبه من اتحاد الإيمان والإسلام. كذا في "الكرماني"
(1)
.
قال الحافظ
(2)
: ولما استدل المصنف على زيادة الإيمان ونقصانه بحديث الشُّعب تتبع ما ورد في القرآن والسُّنن الصحيحة من بيانها، فأورده في هذه الأبواب تصريحًا وتلويحًا، انتهى.
قوله: "تقرأ السلام"، ولم يقل: وتُسَلِّم، ليعلم كتابة السلام في المكتوب.
(7 -
باب من الإيمان)
ويرد عليه قول سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ} الآية [ص: 35].
ويظهر الجواب بما بسطه صاحب "الجمل"
(3)
، وفي آخره عن الشهاب: ليس طلبه للمفاخرة بأمور الدنيا الفانية، وإنما كان هو من بيت نبوة ومُلك، وكان في زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك، ومعجزة كل نبي ما اشتُهر في عصره، كما غلب في عهد الكليم السحرُ، فجاءهم بما يتلقف بما أتوا به، وفي عهد نبينا صلى الله عليه وسلم الفصاحة، فأتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر سورة منه، وليس المقصود بقوله:{لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} استقلاله به بحيث لا يعطى أحدٌ مثله ليكون منافسة في الملك وحرصًا عليه، انتهى.
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 91).
(2)
"فتح الباري"(1/ 55).
(3)
"تفسير الجمل"(3/ 576).
وفيه أيضًا عن الكرخي: أو المراد لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي لبنس خاتمي وجلس على كرسيي، أو أن الله علم أنه لا يقوم غيره مقامه بمصالح ذلك المُلك، واقتضت حكمته تعالى تخصيصه به فألهمه سؤاله، فلا يرد كيف قال سليمان ذلك مع أنه يشبه الحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده بما لا يضر سليمان، انتهى.
قلت: وقد أخرج أبو داود
(1)
في "كتاب اللباس" عن أبي هريرة: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلًا جميلًا، قال: يا رسول الله! إني رجل حُبِّبَ إِليّ الجمال، وأعطِيتُ منه ما تراه، حتى ما أُحِبّ أن يفوقني أحد - إما قال: بشراك نعلي، وإما قال: بشسع نعلي - أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا، ولكن الكبر من بَطِرَ الحقَّ، وغَمِطَ الناس".
أو يقال: إن مورد الحديث هم المؤمنون، وقصد بالحديث التوجيه إلى اختيار طريق الألفة، وذلك إنما يحصل إذا كان في القلب أن الرجل يساويه في الاستحقاق، وأما إذا تنافس الناس في استحصال الفواضل أدى ذلك إلى التحاسد والتباغض والاختلاف، وأما سليمان فكان نبيًّا لا يساوقه أحد، فطلبه هذه المرتبة العليَّة لا يكون سبب المنافسة المنافرة.
(عن حسين) عطف على شعبة؛ كأنه قال: عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وأفردهما تبعًا لشيخه، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
قلت: أو لأن الأول مُعَنْعَنٌ، والثاني بالتحديث، لكن لم يكن على هذا الذكر عن أنس في الأول فائدة، لكن الإمام البخاري لا يبالي بأمثال ذلك، وهذا من وظائف مسلم وأبي داود.
(لا يؤمن أحدكم. . .) إلخ، هذا أيضًا من الأحاديث الأربعة المنتخبة لأبي داود تبعًا للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى كما تقدم في حديث:"إنما الأعمال بالنيات".
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 4092).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 162).
قال القسطلاني: رواة حديث الباب كلهم بصريون، و [إسناد] الحديث السابق مصريون، والذي قبله كوفيون فوقع التسلسل في الأبواب الثلاثة على الولاء.
(8 -
باب حب الرسول من الإيمان. . .) إلخ
عامة الشرَّاح على أن المحبة هنا عقلية، ولكن والدي نوَّر الله مرقده كان يقول: إن المحبة تعم العقلية والطبعية كليهما، ولكن المحبة الطبعية تسترها العوارض أحيانًا وتظهر عند التزاحم، ومثال ذلك: رجل يكون له ولد يحبه حُبًّا جمًّا، ولا يغفل عنه ساعة، ولكنه لو وضع هذا الطفلُ الحبيبُ قَدَمَه على القرآن الكريم فماذا سيكون؟ إن الوالد سيرمي بابنه بعيدًا ويضطرب لما حدث، هكذا لو أساء حبيبُ أحدٍ في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لمسلم أن يتحمَّل ذلك مهما بلغت محبة الحبيب.
وقد أخرج أبو داود والنسائي
(1)
عن ابن عباس: "أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المِعْولَ فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هنالك بالدم، فلما أصبح ذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: أنشد اللهَ رجلًا فعل ما فعل، لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطّى الناسَ وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المِعْوَلَ فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدُوا أنّ دمها هدر".
ومما ينبغي التنبيه عليه ما في "الأرواح الثلاثة" ما تعريبه ملخصًا
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 4361)، و"سنن النسائي" (ح: 4070).
من ذكر المفاضلة بين الحب العقلي والحب العشقي، ففضّل مولانا محمد إسماعيل الشهيد رحمه الله تعالى في كتابه "الصراط المستقيم" الحب العقلي على الحب العشقي؛ لأن الحب العشقي يضمحل بعد وصال المحبوب، بخلاف العقلي فإنه باقٍ لبقائه، وعكسه سيد هذه الطائفة مولانا الحاج إمداد الله المهاجر المكي نوَّر الله مرقده مستدلًا بأن الحب العقلي متناهٍ لتناهي العقل، ولذا قال علي رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا، وإنما قاله في الحب العقلي، بخلاف الحب العشقي فإنه لا يتناهى لعدم ذات المحبوب وصفاته.
وقال العارف المحدث الكَنكَوهي: كلا الكلامين حسنان جيدان، إلا أن الحب العشقي مع كونه معمورًا بالفضائل لا ينتظم معه الأمر، ولذا لا تبقى رعاية الحدود الشرعية معه، ولذلك أختار الحب العقلي ما دام يحتاج إلى الأعمال، وأما في وقت الوفاة فاختاروا حب غلبة الحب العشقي، انتهى.
(من والده. . .) إلخ، قَدّمه للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس، أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه في الزمان، وعند النسائي بتقديم الولد لمزيد الشفقة، كذا في "القسطلاني" و"الفتح"
(1)
، وفي "التراجم" للشاه ولي الله المحدث الدهلوي: قَدَّم الوالد للأكثرية، أو لأنه صلى الله عليه وسلم في حكم الوالد
(2)
، انتهى.
قال النووي
(3)
: ذكر ابن بطال وغيره أن المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة؛ كمحبة الولد، ومحبة استحسان واستلذاذ؛ كمحبة سائر الناس، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الألفاظ أصناف المحبة، انتهى.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 58)، و"إرشاد الساري"(1/ 163).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 28).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 291).
قال القسطلاني
(1)
: وهل تدخل النفس في عموم الناس؟ الظاهر: نعم، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، فإنك إذا قلت: جميع الناس أحب إلى زيد من غلامه، يفهم منه خروج زيد منهم، وأجيب بأن اللفظ عام، وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذ فلا يخرج، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام الآتي إن شاء الله تعالى، انتهى.
قال النووي
(2)
: قال القاضي عياض: ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرةُ سنَّته، والذبُّ عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه، انتهى.
(9 -
باب حلاوة الإيمان)
قال القسطلاني في آخر الباب السابق
(3)
: ولما ذكر المؤلف في هذا الباب أن حبَّه عليه الصلاة والسلام من الإيمان، أردفه بما يوجد حلاوة ذلك فقال:"باب حلاوة الإيمان". وقال أيضًا: والمراد أن الحلاوة من ثمراته، فهي أصل زائد عليه، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند قُدِّس سرُّه: أن المرجئة قالت: إن الإيمان لا يحتاج إلى طاعة، ولا تضره معصية، فعقد المصنف "باب حلاوة الإيمان" و"باب علامة الإيمان حب الأنصار"، وذكر في الأول حديث: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان"، وفي الثاني حديث: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"، فاستبان بذلك احتياجُ الإيمان إلى الحسنات واستضرارُه بالسيئات، انتهى.
(وجد حلاوة الإيمان) وهذا الوجدان حسِّي أو معنوي، وعلى الثاني فهو على سبيل المجاز، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يذوق حلاوته على
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 164).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 291).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 165).
ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا مّا نَقَصَ ذوقُه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يُقَوِّي استدلال المصنف على الزيادة والنقصان، انتهى من "الفتح"
(1)
.
وفي "تراجم مسند الهند" الشاه ولي الله الدهلوي: أن حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشاق في الدين
(2)
.
وقال السندي في حاشية النسائي
(3)
: قوله: "حلاوة الإيمان"، أي: انشراح الصدر به، ولذة في القلب له تشبه لذة الشيء إلى حصول في الفم، وقيل: الحلاوة الحسن، وبالجملة فللإيمان لذة في القلب تشبه الحلاوة الحسية، بل ربما يغلب عليها حتى يدفع بها أشد المرارات، وهذا مما يعلم به من شَرَحَ الله صدره للإسلام، اللّهم ارزقناها مع الدوام عليها، انتهى.
اللّهم ارزقناها مع الدوام عليها.
(10 -
باب علامة الإيمان حب الأنصار)
والحب كليٌّ مشكِّك يزيد وينقص، قال القسطلاني
(4)
: قال ابن المنيِّر: علامة الشيء لا يخفى أنها غير داخلة في حقيقته، فكيف تفيد هذه الترجمة مقصوده من أن الأعمال داخلة في مسمَّى الإيمان؟ وجوابه: أن المستفاد منها كون مجرد التصديق بالقلب لا يكفي حتى تنصب عليه علامة من الأعمال الظاهرة التي هي مؤازرة الأنصار وموادّتهم، انتهى.
قلت: ولا يخفى أن السؤال أقوى من الجواب، فإن الحديث لم يتعرض عن كون التصديق كافيًا أو غير كافٍ، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "تحفة الباري"
(5)
: ولا يقتضي الحديث أن من لم يحبهم
(1)
"فتح الباري"(1/ 60).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 28).
(3)
"سنن النسائي"(8/ 94).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 167).
(5)
"تحفة الباري"(1/ 39).
لا يكون مؤمنًا؛ لأنه لا يلزم من عدم العلامة عدم ما هي له، نعم يقتضي أن من أبغضهم يكون منافقًا وإن صدَّق بقلبه؛ لأن من أبغضهم لكونهم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون منافقًا، انتهى.
وتعقب بأن علامة الشيء يكون خارجًا عن حقيقته.
قال القسطلاني: وإنما خصُّوا بهذه المنقبة العظيمة لما فازوا به من نصره عليه الصلاة والسلام والسعي في إظهاره وإيوائه وإصحابه، ومؤاساتهم بأنفسهم وأموالهم، وقيامهم بحقهم حق القيام مع معاداتهم جميع من وُجِدَ من قبائل العرب والعجم، فمن ثَمّ كان حبهم علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق مجازاةً لهم على عملهم، والجزاء من جنس العمل، انتهى.
(11 -
باب)
بلا ترجمة، وهذا أول باب وُجِد بغير ترجمة، وقد تقدم في الأصول أن مثل هذا الباب يكون لمعانٍ كثيرة، منها: ما تقدم في الأصل السابع بدل حاء التحويل، وهذا خاص بباب واحد كما تقدم في موضعه.
والثاني: وهو الأصل العشرون: كالفصل للباب السابق، وهذا أصل مطَّرد وشائع كثير الوقوع.
والثالث: [وهو] الأصل الخامس والعشرون: تشحيذًا للأذهان ليترجم عليه بترجمة نفيسة مناسبة لشأن البخاري.
والرابع: وهو الأصل السادس والعشرون: تعميمًا وتكثيرًا للتراجم، وهذان اخترعهما شيخ الهند.
والخامس: وهو الأصل السابع والثلاثون: تنبيهًا على تعدد طرق الحديث كما قاله الشرَّاح.
والسادس: وهو الأصل السابع والخمسون: رجوع إلى الأصل، والمعروف على الألسنة أن الأكثر في مثل هذا الباب يكون له تعلق بالباب
السابق، وهو أصل مطرد كما تقدم قريبًا في الأصل العشرين.
وأفاد شيخ الهند في الأصل الثامن من أصوله: أن المصنف لا يترك الترجمة سهوًا، ولا لإرادة أن يترجم بعد ذلك، بل الأوجه أن فيه وجهين:
الأول: أن لها تعلقًا بالترجمة السابقة، مع أن مفهوم العلاقة أيضًا وسيع عند المصنف رحمه الله تعالى، والأوجه منه: أن المصنف يفعل ذلك تشحيذًا للأذهان وترغيبًا للطالبين أن يترجموا عليه ترجمةً تُنَاسِبُ الحديثَ والتراجم التي ذُكِرَتْ قبلُ مطابقةً لشأن المصنف، وبناءً على ذلك قال: هذه الترجمة أن لها مناسبة بالباب السابق بأن الاجتناب عن الكبائر أيضًا من علامات الإيمان، كما أن حبَّ الأنصار من الإيمان، أو يقال: إنه أراد التنبيه على ترجمة جديدة مناسبة لتراجمه، مثلًا الاجتناب من الكبائر من الإيمان، أو البيعة على ترك الكبائر من الإيمان.
والأولى ها هنا: أن المصنف قد أثبت في تراجم عديدة كون الأعمال من الإيمان ومن الإسلام، وهذا وإن باديه مذهب المرجئة، ولكن فيه مظنة لتقوية مذهب المعتزلة والخوارج، وهو مما يختلج في الصدر، فعقد هذا الباب بلا ترجمة، وأورد فيه حديثًا ظهر به بطلان مذهب المرجئة والخوارج والمعتزلة، فنظرًا إلى هذه الأمور يلصق بالقلب أن الباعث على ترك الترجمة هو تكثير الفوائد أيضًا، انتهى.
قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف أن الباب متعلق بما سبق خاصة، والمناسبة لبيان سبب كون حبهم من الإيمان هو بيعة العقبة؛ لأن هذه البيعة كانت أصلًا وأساسًا لنصرتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، أو أن هذا بيان لبدء تلقيبهم بالأنصار، فإنهم عاهدوا في هذه الليلة بالنصرة.
ولا يذهب عليك أن هذا الباب مذكور في الجدول الرابع من جداول شيخ الهند، ورَقَمَ عليه نقطة واحدة، وذكر هذا النوع في الأبواب التي حذف المصنف ترجمتها تشحيذًا للأذهان، فينبغي أن يترجم له على أصول شيخ الهند قُدِّس سرُّه ترجمة تناسب الحديث، وقد أشرت إليه فيما سبق،
مثلًا: يمكن أن تكون الترجمة ها هنا باب سبب كون حب الأنصار من الإيمان، ونحو ذلك، فلكلِّ أحد أن يترجم بما شاء، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
(وكان شهد بدرًا) بسط القسطلاني في إعراب هذه الجملة وما بعدها أشد البسط، وقال
(1)
: أشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث وأنه عن تحقيق وإتقان، ولذا ذكر أن الراوي شهد بدرًا وأنه أحد النقباء، والمراد به التقوية، فإن الرواية تترجَّح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه.
(أحد النقباء) جمع نقيب وهو الناظر، وكانوا اثني عشر، كذا في "القسطلاني"، وذكر صاحب "مجمع البحار"
(2)
في الحادية العشرة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم على دأبه كان يعرض نفسه على القبائل موسم الحج ويقول: "من ينصرني ويأخذني معه حتى أؤدي كلام ربي"، فلقي رهطًا من الخزرج ودعاهم فآمنوا وكانوا ستة، منهم أسعد بن زرارة، وفي الثانية كانت بيعة العقبة الأولى حيث قدم من الأنصار اثنا عشر أحدهم عبادة بن الصامت، وفي الثالثة كانت بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين، انتهى.
وهل كانت هذه البيعة الأولى أو الثانية؟ ذكرهما في بين سطور النسخة الهندية، انتهى.
وما يظهر من "العيني"
(3)
أن عُبادة كان فيهما، إذ ذكر له بيعة الثالثة بيعة الرضوان.
وقال مسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي في "تراجمه"
(4)
: النقباء جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 170).
(2)
انظر: "مجمع بحار الأنوار"(5/ 272، 273).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 234).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 29).
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، فبينا هو عند العقبة إذ لقي رهطًا من الخزرج فقال:"ألا تجلسون أكلِّمكم؟ " قالوا: بلى، فجلسوا فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فأجابوا، فلما انصرفوا إلى بلادهم وذكروه لقومهم فشا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى في العام القابل اثنا عشر رجلًا إلى الموسم من الأنصار أحدهم عبادة بن الصامت، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهي بيعة العقبة الأولى فبايعوا ثم انصرفوا، وخرج في العام القابل الآخر سبعون رجلًا منهم إلى الحج، فواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة أوسط أيام التشريق، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس لا غير، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى أمر الله مرغِّبًا إلى الإسلام تاليًا للقرآن فأجبناه للإيمان، فقلنا: ابسط يدك نبايعك عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا"، فأخرجنا من كل فرقة نقيبًا، وكان عبادة نقيب بني عوف فبايعوه، هذه هي بيعة العقبة الثانية، انتهى.
قوله: (وحوله عصابة من أصحابه فقال: بايعوني)، قال النووي
(1)
: كان ذلك في أول الأمر في ليلة العقبة قبل الهجرة من مكة، وقبل فرض الجهاد، انتهى.
وهذا الذي جزم به النووي أن هذه البيعة بيعة العقبة قد جزم به القاضي عياض والقرطبي.
وقال العيني
(2)
: إن القاضي عياض وجماعة من الأئمة الأجلَّاء قد جزم بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى، ثم استدل على ذلك بأمور ذكرها.
وأما الحافظ ابن حجر فمال إلى أنها بيعة أخرى بعد الفتح، وقال
(3)
:
(1)
"شرح صحيح مسلم"(7/ 9).
(2)
"عمدة القاري"(1/ 240).
(3)
"فتح الباري"(1/ 66).
والحق عندي أن المبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما نصُّ
(1)
ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه، وسيأتي في هذا الكتاب في كتاب الفتن، وغيره من حديث عبادة أيضًا، ثم أطال في إثبات ذلك، ولخَّص القسطلاني
(2)
تعقبَ العيني على الحافظ، ولخَّص في "فيض الباري"
(3)
كلام الحافظين فأجاد، فإن كانت هذه البيعة بيعة بعد فتح مكة فالحديث نصٌّ في بيعة السلوك، كما يدل عليه قول الراوي:"وحوله عصابة من أصحابه"؛ لأن المخاطبين حينئذ الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذه الألفاظ التي وردت في الحديث هي ألفاظ البيعة عن مشايخ السلوك، وما زاد بعضهم من بعض الألفاظ فهو لمصلحة وقتية، كما زاده النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا في بعض المواقع من عدم السؤال وعدم النياحة.
نعم لو كانت هذه البيعة بيعة العقبة فلا حجة فيه على بيعة السلوك؛ لأنها كانت بيعة الإسلام، والأوجه عند هذا العبد الضعيف أنهما بيعتان، إحداهما: بيعة العقبة، والثانية: بيعة السلوك التي يأتي ذكرها في تفسير سورة الممتحنة، واشتركت ألفاظ البيعة في كلتيهما.
وبسط الكلام مولانا النواب صدِّيق حسن خان القنوجي البهوفالي من علماء منكري التقليد، البحثَ في المبايعة في "عون الباري"
(4)
فقال: قوله: "فبايعناه على ذلك"، وقد صدرت مبايعات أخرى منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة، وأنها وقعت بعد فتح
(1)
كذا في الأصل، وفي "الفتح":"كان".
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 171، 172).
(3)
انظر: "فيض الباري"(1/ 87).
(4)
"عون الباري"(1/ 142، 143، 144).
مكة، وفي هذا الحديث دلالة على أن البيعة سُنَّة في الدين، واستفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا يبايعونه: تارةً على الهجرة والجهاد، وتارةً على إقامة أركان الإسلام، وتارةً على الثبات والقرار في معارك الكفار، وتارةً على هجر الفواحش والمنكرات كما في حديث الباب، وتارةً على التمسُّك بالسنَّة والاجتناب عن البدعة والحرص على الطاعات، كما بايع نسوة من الأنصار على أن لا يخنّ، وبايع ناسًا من فقراء المهاجرين على أن لا يسألوا الناس شيئًا، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه ولا يسأل أحدًا، رواه ابن ماجه
(1)
، وقد نطق به الكتاب العزيز كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وقوله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية [الممتحنة: 12].
ومما لا شك فيه ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فِعلٌ على سبيل العبادة والاهتمام بشأنه، فإنه لا ينزل عن كونه سُنَّةً في الدين، بقي أنه صلى الله عليه وسلم كان خليفة الله في أرضه، عالمًا بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة، معلّمًا للكتاب والسُّنَّة، مزكِّيًا للأمة، فما فَعَلَه على جهة الخلافة كان سُنَّةً للخلفاء، وما فعله على جهة كونه معلّمًا للكتاب والحكمة ومزكِّيًا للأمة كان سُنَّةً للعلماء الراسخين.
وهذا "صحيح البخاري" شاهد على أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على جرير عند مبايعته "والنصح لكل مسلم"
(2)
، وأنه بايع قومًا من الأنصار فاشترط أن لا يخافوا في الله لومة لائم ويقولوا بالحق حيث كانوا، فكان أحدهم يجاهر الأمراء والملوك بالرد والإنكار إلى غير ذلك، وكل ذلك من باب التزكية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1)
"سنن ابن ماجه"(ح: 1837، 2867)، وأخرجه أيضًا: مسلم (ح: 1043).
(2)
أخرجه البخاري (ح: 524).
فالبيعة على أقسام: منها بيعة الخلافة، ومنها بيعة الإسلام، ومنها بيعة التمسك بحبل التقوى، ومنها بيعة الهجرة والجهاد، ومنها بيعة التوثق في الجهاد، وكانت بيعة الإسلام متروكة في زمن الخلفاء، أما في زمن الراشدين منهم فلأن دخول الناس في الإسلام في أيامهم كان غالبًا بالقهر والسيف، لا بالتأليف وإظهار البرهان، ولا طوعًا ولا رغبة، وأما في زمن غيرهم فلأنهم كانوا في الأكثر ظَلَمَةَ فَسَقَة لا يهتمون، وكذلك بيعة التمسك بحبل التقوى كانت متروكة، أما في زمان الخلفاء الراشدين فلكثرة الصحابة الذين استناروا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم فتأدبوا في حضرته فكانوا لا يحتاجون إلى بيعة الخلفاء، وأما في زمن غيرهم فخوفًا من افتراق الكلمة وأن يظن بهم مبايعة الخلافة فتهيج الفتن، ثم لما اندرس هذا في الخلفاء انتهز أكابر العلماء والمشايخ الفرصةَ، وتمسَّكوا بسُنَّة البيعة، إلى آخر ما بسطه.
(تفترونه بين أيديكم وأرجلكم) خصَّ الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحًا وبعضكم يشاهد بعضًا، ويحتمل أن يكون المراد بالأيدي والأرجل القلب؛ لأنه هو الذي يترجم عنه اللسان، ويحتمل أن يكون قوله:"بين أيديكم" أي: في الحال، وقوله:"وأرجلكم" أي: في المستقبل؛ لأن السعي من أفعال الأرجل.
وقيل: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكنَّى بذلك - كما قال الهروي في "الغريبين" - عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولًا، انتهى من "الفتح"
(1)
ملخصًا، وذكر شيء من الكلام عليه في "الأوجز"
(2)
.
(ولا تعصوني في معروف) هو ما يحسن، وهو ما لم ينه الشارع عنه، ويقال: هو ما عُرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا، قاله شيخ الإسلام زكريا
(1)
"فتح الباري"(1/ 65).
(2)
"أوجز المسالك"(17/ 436).
الأنصاري
(1)
، وفي "القسطلاني"
(2)
: وقيد به مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغير المعروف، للتنبيه على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وخص ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به.
(فهو كفارة له) بسط الكلام عليه القسطلاني، وقال: قال الجمهور: هي كفارة، وتوقف بعضهم لحديث أبي هريرة عند الحاكم وصحَّحه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا أدري الحدود كفارة أم لا"، وأَوَّلَه بأنه قبل العلم، وأشكل بقتل المرتد، فإن عقوبة المرتد القتل بلا خلاف، وقتله هذا لا يكون كفارة إجماعًا.
قلت: يمكن التفصِّي عنه بأن المرتد ليس بأهل للكفارة لكونه خارجًا عن الإسلام، والكفارة إنما تكون على المعاصي غير الكفر، وقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
ومستدَلَّات الحنفية من النصوص الآيات والأحاديث ستأتي في كتاب الشهادات والحدود، منها قوله عزَّ اسمه:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية [المائدة: 38]، وفيها الحجة بوجهين: الأول: أنه جعل في الآية القطع نكالًا، وهو يكون زاجرًا، والثاني: أنه عَزَّ اسمه ذكر بعد ذلك: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} الآية [المائدة: 39]، ذكر التوبة بفاء التعقيب بعد القطع، وكذا في حد القذف ذكر:{إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 89] أي: بعد استيفاء الحد.
ومنها آية المحاربة، وفيها:{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، فقد جمع الله بين عذاب الدنيا والآخرة، وأسقط عذاب الآخرة بالتوبة في قوله:{إلا الَّذِينَ تَابُوا} الآية كما بسط في هامش "اللامع"
(3)
في كتاب الشهادات، وفيها بسط في الأحاديث
(1)
انظر: "تحفة الباري"(1/ 41).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 171).
(3)
"لامع الدراري"(7/ 65).
الدالة، منها حديث أبي داود
(1)
في قصة لصٍّ أُتي به قد اعترف، فأمر به فقطع، وجيء به فقال:"استغفر الله وتُبْ عليه"[فقال: أستغفر الله وأتوب إليه]، فلم أمره صلى الله عليه وسلم بالتوبة بعد القطع؟ وقد أخرج أيضًا في قصة ماعزٍ وقد رجم قال: ذهبوا يسبّونه، فنهاهم، وذهبوا يستغفرون له فنهاهم، قال:"هو رجل أصاب ذنبًا حسيبه الله"
(2)
، وغير ذلك من الروايات المذكورة هناك.
والجواب عن حديث الباب بأنها من عموم الكفارات، فإن كل أذى للمؤمن حتى الشوكة يشاكها كفارة للمؤمن، كما وردت في الروايات الكثيرة من باب ثواب المرض
(3)
.
(ثم ستره الله) يعم من تاب ومن لم يتب، وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، لكن لا اطلاع على قَبول التوبة، كذا في "القسطلاني"
(4)
.
(12 -
باب من الدين الفرار من الفتن)
وقد تقدم أن الإمام ذكر في كتاب الإيمان الإسلام والدين لاتحادهما مصداقًا، قال تعالى ذكره:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الآية [آل عمران: 85]، وترجم هنا بالدين، ولم يقل "من الإيمان" كما قال فيما سبق رعايةً للفظ الحديث.
وقال الطيبي: اصطلحوا على ترادف الإيمان والدين والإسلام، ولا مشاحة فيه، كذا في "تراجم مسند الهند"
(5)
، وأشكل في "اللامع"
(6)
: أن الترجمة لا تطابق الحديثَ حيث دلت الترجمة على كون الفرار من الفتن
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 4380).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 4432).
(3)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 5640)، و"صحيح مسلم" (ح: 2572)، و"سنن الترمذي" (ح: 3038).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 172).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 30).
(6)
"لامع الدراري"(1/ 554).
بعض أجزاء الدين وأبعاضه على ما هو مدلول من التبعيضية، وهو الذي كان المؤلف متصدِّيًا لإثباته، وسكت في "اللامع" عن الجواب، بل وقع البياض بعد قوله: والجواب، وذكر في هامشه كلامًا طويلًا، فارجع إليه لو شئت التفصيل.
ثم قال العيني
(1)
: وجه المناسبة بينه وبين الباب السابق أن البيعة من الأنصار في السابق كانت فرارًا بدينهم من الفتن.
(شَعَف) بمعجمة ومهملة مفتوحتين جمع شعفة بالتحريك، أي: رؤوس الجبال.
(ومواقع القطر) عطف على "شعف"، أي: بطون الأودية، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
(يفر بدينه) فالعزلة ممدوحة إلا لقادر على إزالتها، فتجب الخلطة عينًا أو كفاية، واختلف فيها عند عدمها، فمذهب الشافعي تفضيل الصحبة، وقال آخرون بتفضيل العزلة كما بسطه القسطلاني.
قلت: محل هذا البحث ما سيأتي من باب التعرب في الفتنة.
(13 -
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله)
أشكل إدخاله في كتاب الإيمان، والمسألة من كتاب العلم على الظاهر، وفي "تراجم شيخ الهند": أن الشرَّاح اختلفوا في توجيه ذلك، والمرجَّح عندي أن المصنف أراد بذلك التنبيه على الزيادة والنقصان في التصديق القلبي الذي هو فعل القلب بإثبات التفاوت في العلم الذي هو فعل القلب، وإليه أشار بقوله:"المعرفة فعل القلب".
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي رحمه الله أنه لما كان ورد في بعض الروايات بدله: "أنا أعرفكم بالله"، فسَّر المعرفة، وأشار إلى ترادف العلم
(1)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 244).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 173).
والمعرفة، وتمامه في هامش "اللامع"
(1)
.
وقال القسطلاني
(2)
في آخر الباب السابق: لما كان الفرار من الفتن لا يكون إلا على قدر قوة دين الرجل وهي تدل على قوة المعرفة شرع بذكر ذلك فقال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. . . إلخ.
وظاهر كلام الكرماني أن الغرض رد على الكرَّامية القائلة بأن الإيمان هو النطق فقط.
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": اعلم أن العلم نوعان: كسبي: وهو حاصل بالاختيار وغيره، وهو الواقع في القلب بالاضطرار، والمعتبر في الإيمان من التصديق ما كان اختيارًا منه، لا ما وقع في القلب ضرورةً وليس كسبًا له، وهو المعبَّر عنه في قوله تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].
والكسبي هو الممدوح عليه، فهو المراد في قوله:"أنا أعلمكم بالله"، ولا ريب في أنه فعل القلب لثبوت المؤاخذة عليه بالآية، فكان حاصل الترجمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أثبت لنفسه الأعلمية، والعلم هو الإيمان، ثبت التفاوت بين أفراد الإيمان والمؤمنين، ولما كان الإيمان هو الكسبي من العلم لا مطلقه احتج عليه بالآية، فإن المؤاخذة لما لم تكن إلا على الأفعال الاختيارية كان المأمور به هو العلم الكسبي لا العلم الضروري، وهو المراد في الرواية؛ لأنه مذكور في معرض المدح، ولا مدح إلا على الاختياري.
وأيضًا ففي قوله: "أتقاكم" حجة أخرى على قَبول الإيمان الزيادة والنقصان؛ لأن التقوى هو الإيمان، أو لأن التقوى اجتناب السيئات، وهو داخل في الإيمان، فكان التفاوت فيه بالزيادة والنقصان تفاوتًا بهما في الإيمان لما أن الكل يتصف بالتغير إذا تغيرت أجزاؤه، وبسط في هامش "اللامع" في شرح ما ذكر الشيخ، وفيه: يشكل على المصنف إيراد هذا الباب في كتاب الإيمان، وكان حقه كتاب العلم.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 556).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 174).
قال الكرماني
(1)
وتبعه شيخ مشايخنا مسند الهند الدهلوي في "التراجم" إذ قالا: فإن قلت: ما وجه تعلق هذه الترجمة بالإيمان؟ قلت: العلم بالله، وكذا المعرفة به هو التصديق به فهو من الإيمان؛ لأن الإيمان إما التصديق أو التصديق مع العمل، فالمقصود بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد إيمانًا منهم، وبيان أن الإيمان هو بعضه فعل القلب ردًّا على الكرَّامية، انتهى.
(14 -
باب من كره أن يعود في الكفر. . .) إلخ
من عادة المصنف ذكر الأضداد في الكتب؛ لأن بضدِّها تتبين الأشياء، ولذا ذكر الكفر في الإيمان، وذكر فيه:"باب كفران العشير وكفر دون كفر"، و"باب المعاصي من أمر الجاهلية"، و"باب ظلم دون ظلم"، و"باب علامة المنافق"، وذكر في كتاب العلم "باب رفع العلم وظهور الجهل"، وذكر في الاستسقاء "باب دعاء القحط وقول النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها سنين كسني يوسف"، ونظائرها كثيرة.
وفي "تراجم شيخ الهند": إشارة إلى أن المصنف رحمه الله أشار بذلك إلى أن الفرار من الفتن وغيره كما هو داخل في الإيمان كذلك كراهة الكفر أيضًا من الإيمان، انتهى.
قلت: أو هو إشارة إلى أن مجرد الكراهة للكفر لا تكفي، بل ينبغي الكراهة مثل كراهته من الإلقاء في النار، والأوجه: أنه أشار بذلك إلى أن الكراهة من القلب أيضًا داخل في الفرار من الفتن، فيكون مشعرًا إلى ما في أبي داود
(2)
مرفوعًا: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كان كمن غاب عنها"، كذا في "المشكاة".
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 111)، "شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 31).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 4345).
(15 -
باب تفاضل أهل الإيمان)
قال القسطلاني
(1)
: لما ذكر في الحديث السابق ثلاث خصال، والناس مختلفون فيها شرع في ذكر تفاضل الأعمال، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: قوله: "في الأعمال" في ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال، انتهى.
واختاره شيخنا الدهلوي في "التراجم"
(3)
إذ قال: وفي للتعليل، انتهى.
وذكر الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(4)
: أن المصنف رحمه الله أشار بذلك إلى إثبات ما ذهب إليه الفقهاء والمتكلمون من أن الزيادة والنقصان إنما هما باعتبار الكيفيات الزائدة والثمرات المترتبة، فأما نفس التصديق المنجي من الخلود فأمر بسيط لا يقبل الزيادة والنقصان، فزاد لفظ الأعمال في الترجمة إشارةً إلى ما ورد في الروايات مثل ذلك، كما في رواية أبي سعيد الخدري المسوقة قريبًا، فإنما هو التفاوت بحسب الأعمال، ثم إن صنيعه [هذا] وكذلك ما سلكه في أكثر الأبواب ردٌّ على المرجئة، انتهى.
والظاهر عند هذا العبد الضعيف أن المصنف مال إلى النقص والزيادة في التصديق القلبي أيضًا، كما هو ظاهر من عامة تراجمه، فإنه تقدم قريبًا "المعرفة فعل القلب"، وقرنه بقوله:"أعلمكم"، لكن قوله في الترجمة هذه لفظ:"الأعمال" يؤيد كلام الشيخ قُدِّس سرُّه، وبسط في هامش "اللامع" الكلام على شرح كلام الشيخ.
وفيه: وحكى مولانا محمد حسن المكي في تقريره: قوله: "باب
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 178).
(2)
"فتح الباري"(1/ 72).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 33).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 557 - 559).
تفاضل أهل الإيمان" المقصود من مثل هذا الباب كما سيجيء من قوله: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها"، وكذا ما مر من قوله: "يزيد وينقص"، أن الأعمال ليست بداخلة في أصل الإيمان وهو التصديق، وليست بأركان له، بل هي مكملة له، فهي أجزاء للإيمان الكامل، وهذا بعينه مذهب المتكلمين، فلا نزاع هنا أصلًا.
وقوله: "من خردل من إيمان" وصِغَرُ إيمانه هذا باعتبار الكيفية فقط، وذلك لعدم الأعمال له أصلًا، فالحاصل: أن الإيمان يزيد كيفًا بكثرة الأعمال وينقص كيفًا بقلَّتها، حتى إن من لم يكن له أعمال أصلًا يكون إيمانه في غاية الصغر كيفًا، فثبت تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.
ويمكن أن يقال: إن قوله في الترجمة "في الأعمال"، شارحة لما في الحديث "من خردل من إيمان"، وغرضه بيان أن المراد بالإيمان في الحديث هو الأعمال بدليل ما ورد في رواية أخرى بدله لفظ:"من خير"، فيكون حاصل الترجمة أن المؤمنين متفاوتون في الأعمال، فبعضهم عمله أزيد من البعض الآخر، ولكن مع ذلك مقصود البخاري واضح، فإنه بصدد إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان، وقد أثبت فيما قبلُ كون الأعمال من الإيمان، فثبت بهذا الباب التفاضل في الإيمان، والله أعلم.
(قال وهيب) أي: لم يشك وهيب كما شك مالك، بل ذكر لفظ الحياة بدون الشك، وروى لفظ "خير" بدل الإيمان، كذا في "تراجم مسند الهند"
(1)
.
(قال: الدين) كتب الشيخ في "اللامع": قوله: "الدين"، ومقتضى زيادته لفظ "الأعمال" في الترجمة أن يحمل الزيادة في دين عمر، وكذلك زيادة من تضمنه الحديث الأول على أن كمالهم في الدين هذا ناشٍ من كثرة القربات، ففيه فضل تنبيه على نفي الجزئية، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 33).
وفي هامشه: وهذا ظاهر من صنيع المصنف، إذ ذكر الحديث في التفاضل بالأعمال، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القمص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان، انتهى.
(16 -
باب الحياء من الإيمان)
أي: يمنع صاحبه عن ارتكاب المعاصي كما يمنعه الإيمان، فسُمي إيمانًا مجازًا من باب تسمية الشيء باسم ما يقوم مقامه، كذا في "تراجم مسند الهند"
(2)
، وقال القسطلاني
(3)
: كما ذكر في السابق تفاضل أهل الإيمان في الأعمال ذكر ههنا ما ينقص به الإيمان، انتهى.
قلت: أو مراتب الحياء متفاوتة جدًا، فلا بد من تفاوت درجات الإيمان.
قال النووي
(4)
في الحديث المتقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان": قال القاضي وغيره من الشرَّاح: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة؛ لأنه يكون تخلُّقًا واكتسابًا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم فهو من الإيمان بهذا، ولكونه باعثًا على أفعال الخير ومانعًا من المعاصي.
وأما كونه خيرًا كله ولا يأتي إلا بخير، فقد يستشكل من حيث إن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق رجلًا يجلّه فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 74).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 33).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 184).
(4)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 281).
والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا المانع المذكور ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز ومهانة وضعف، وإنما تسميته حياءً من إطلاق بعض أهل العرف أطلقوه مجازًا لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير في حق ذي الحق، ويدل عليه ما ذكرناه عن الجنيد، انتهى.
فقد حكى عنه قبل ذلك فقال: روينا في رسالة الإمام القشيري عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال: الحياء رؤية الآلاء، أي: النعم، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمَّى الحياء، انتهى.
(17 -
باب {فَإِنْ تَابُوا} الآية)
أي: عن الشرك، ليوافق الحديث الوارد فيه، وهو قوله:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"، كذا في "تراجم مسند الهند"
(1)
.
وفي "اللامع"
(2)
: علق التخلية على التوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فعلم أن الإيمان لا معتبر به بحسب الكمال بدونهما، فكانتا من الأجزاء للإيمان، أي: الكامل، انتهى.
ثم حديث الباب قد اعترض عليه بوجهين:
الأول: أنه قد استبعد قوم صحته من جهة أن هذا الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر رضي الله عنهما في قتال مانعي الزكاة، كما ذكر الحافظ
(3)
، وذكر الجواب عنه وبسط في هامش "اللامع"
(4)
فيما يتعلق بمانعي الزكاة في أوائل كتاب الزكاة، وذكر هناك ما يكفي عما يتعلق بهذا الإشكال، وجواب الحافظ: أن ابن عمر لعله لم يحضر المناظرة، أو حضر ولكنه لم يستحضر الحديث، وجوابه عندي: أن الحديث وارد في
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 34).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 560).
(3)
"فتح الباري"(1/ 76).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(5/ 7 - 19).
الجاحدين، والمناظرة كانت في المتأولين المقرِّين بالفرضية، المنكرين لوجوب الأداء إلى الإمام.
والإشكال الثاني: أن مقتضى حديث الباب قتال كل من امتنع عن التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟
وأجاب الحافظ عن ذلك بستة أجوبة، منها: أن يقال: إن الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام.
(18 -
باب من قال: إن الإيمان هو العمل)
يعني بذلك: أن العمل وإن كان المتبادر منه عند الإطلاق أعمال الجوارح إلا أنه كثيرًا ما يطلق على العمل القلبي أيضًا، كما استشهد عليه بالآية والرواية، فمن قال منهم في تفسير الإيمان: إنه العمل، لم يعن به عمل الجوارح حتى يرد عليه أنه كيف خالف البداهة، بل غرضه هو الإيمان والعمل القلبي، والله أعلم، كذا في "اللامع".
وقال مسند الهند في "تراجمه"
(1)
: المراد بالعمل ههنا مجموع عمل اللسان والقلب والجوارح، والاستدلال عليه بمجموع الآيات والأحاديث، إذ يدل كل من القرآن والسُّنَّة على بعض الدعوى بحيث يدل الكل [على الكل]، انتهى.
ثم رأيت أن العلامة الكرماني
(2)
سبق إلى ذلك، ولا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم ههنا "باب من قال: إن الإيمان هو العمل"، وتقدم في أول كتاب الإيمان هو قول وفعل، وظاهر ما قال شيخ الهند: أن الغرض من الأول كان إثبات أن الأعمال هي أجزاء، والمقصود ههنا أن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 34، 35).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 124).
الإيمان هو العمل، فغرض الترجمتين إثبات التلازم والعلاقة من الطرفين، أو دفع ما يتوهم من العطف في نحو قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6].
وقال القسطلاني
(1)
تحت قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] أي: فليؤمن المؤمنون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهذا يدل على أن الإيمان هو العمل كما ذهب إليه المصنف، لكن اللفظ عام ودعوى التخصيص بلا برهان لا تقبل، نعم إطلاق العمل على الإيمان صحيح من حيث إن الإيمان هو عمل القلب، لكن لا يلزم من هذا أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض البخاري من هذا الباب وغيره إثبات أن العمل من أجزاء الإيمان ردًّا على من يقول: إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان، فحينئذ لا يتم مقصوده على ما لا يخفى، وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإيمان فلا نزاع فيه؛ لأن الإيمان عمل القلب وهو التصديق، انتهى.
وقال السندهي
(2)
: لما ورد في مواضع من كتاب الله تعالى عطف العمل على الإيمان، والعطف للمغايرة، توهم أن الإيمان لا يطلق عليه اسم العمل شرعًا، فوضع هذا الباب لإثبات أن اسم العمل شرعًا يشمل الإيمان، واستدل عليه بقوله تعالى:{تِلْكَ الْجَنَّةُ} الآية [مريم: 63]، لا بناءً على أن معنى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: تؤمنون، فإنه بعيد، بل بناءً على أن الإيمان هو السبب الأعظم في دخول الجنة، فلا بد من شمول {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} له، وكذا قول عدة أهل العلم لبيان شمول العمل لقول: لا إله إلا الله، على معنى: أي حتى عن قول لا إله إلا الله، لا لبيان اقتصار العمل، والمراد - والله تعالى أعلم - عما كانوا يعملون فعلًا وتركًا، فيشمل السؤال من قال ومن ترك، وكذا قوله:{لِمِثْلِ هَذَا} . . . إلخ، العمل فيه يشمل الإيمان، لا أن المراد به الإيمان فقط.
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 186).
(2)
"حاشية السندي"(1/ 13).
والحاصل: أنه في هذه الآية وقع الاقتصار على ذكر العمل مع أن الموضع موضع ذكر الإيمان والعمل جميعًا، فلا بد من القول بشمول العمل للإيمان وهو المطلوب، وعلى هذا فما وقع في القرآن من عطف العمل على الإيمان في مواضع فهو من عطف العام على الخاص لمزيد الاهتمام بالخاص، والله تعالى أعلم، انتهى.
ويؤخذ من هذا الجوابُ لاعتراض القسطلاني على المصنف.
ومحصل الأقوال في غرض الترجمة ثلاثة:
الأول: أن المراد بالعمل هو العمل القلبي الذي هو التصديق، وهو مختار العارف الكبير المحدث الكَنكَوهي، والعلامة الكشميري
(1)
.
والثاني: أن المراد به عمل الجوارح، والغرض دفع ما يتوهم من مغايرة العمل للإيمان بسبب العطف، واستدل على عدم التغاير بآيات أوردها، وأما العطف فمن قبيل عطف العام على الخاص لمزيد الاهتمام بالخاص، وهو مختار العلامة السندي
(2)
، وإليه مال شيخ الهند.
والثالث: أن المراد به أعم من عمل القلب واللسان والجوارح، وهو الذي مال إليه الشرَّاح ومسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي، وعلى هذا فغرضه الرد على من أنكر كون العمل من الإيمان، كما صرح به القسطلاني
(3)
وابن بطال والنووي وغيرهم، وهو الغرض أيضًا على مختار السندي، والله أعلم.
(19 -
باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة)
لم يتكلم على هذا الباب مسند الهند قُدِّس سرُّه، وتكلم عليه شيخ الهند في "تراجمه"، وشيخ المشايخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "لامع
(1)
انظر: "فيض الباري"(1/ 109)، و"لامع الدراري"(1/ 561).
(2)
"حاشية السندي"(1/ 13).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 187).
الدراري"، ومآل كلامهما واحد، إلا أنهما اختلفا في التعبير والسياق، وأجاد كل منهما الكلام على ذلك، ونذكرهما تفهيمًا وتوضيحًا لتغير السياق والسباق، ونكتب أولًا ما أفاده شيخ الهند معرِّبًا لكلامه، ثم بعد ذلك نذكر كلام شيخ المشايخ من "اللامع".
قال شيخ الهند قُدِّس سرُّه: اختلف العلماء في العلاقة بين الإسلام والإيمان وكيفية النسبة بينهما، وبعضهم يرون الترادف والاتحاد، والأكثر يرجِّحون المساواة، وبعضهم يقولون بالعموم والخصوص، والآيات القرآنية والأحاديث أيضًا مختلفة الظواهر، وقد ذكرها المحدثون والمتكلمون، واستدل بهما الفريقان، لذا نقل المؤلف رحمه الله للإسلام معنيين: أحدهما: الاستسلام والانقياد الظاهري الذي يظهره صاحبه لطمع مال أو خوف قتل وأسر ونحوه، وهذا يقال له المجاز الشرعي أيضًا، والحقيقة الشرعية، أي: مجموعة الأمور الدينية كلها، فاندفع بذلك اختلاف النصوص، وأيضًا وأصبح خلاف أهل العلم فيه خلافًا لفظيًا، وكذلك الآيات والحديث مثل:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمًا" في رواية سعد بن أبي وقاص يظهر منهما المغايرة بين الإيمان والإسلام، وهذا يخالف صراحة مدعى الأبواب السابقة؛ لأن مغايرة الإسلام يستلزم مغايرة الأعمال، فبهذا الباب زالت هذه الشبهة أيضًا.
وتوضيح كلامه قُدِّس سرُّه أن للإسلام إطلاقين: فمرة يطلق مرادفًا للإيمان، وأخرى يطلق بمعنى الاستسلام الظاهر، والأول: هو الإسلام بالحقيقة، وهو المعتبر عند الشرع، والثاني: مثلًا أن يكون مخافة القتل والأسر أو لطمع في الغنيمة، وهو إسلام ظاهرًا، وإن لم يصحبه التصديق لم ينفعه، وهذا محمل ما يتراءى في الظاهر من الاختلافات بين النصوص، ولما كان الظاهر من بعض النصوص مخالفة الإيمان للإسلام، كما يفيد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد:"أو مسلمًا"، فيؤخذ منه مغايرة الإيمان للأعمال، فإن
الأعمال إسلام، وقد أثبت المصنف فيما تقدم أن الأعمال داخلة في الإيمان، فدفع بهذه الترجمة هذه الشبهة أيضًا بأن الإسلام الذي يغاير الإيمان هو الذي يكون على الظاهر لا ما كان على الحقيقة.
وقال الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: اعلم أن للإسلام المعتبر شرعًا لزومًا بالإيمان كما أن للإيمان ملازمة بالإسلام، ولو كان التسليم والانقياد حكمًا لا حقيقةً، وقد سبق بعض بيانه في أول كتاب الإيمان، ولما كان كذلك كان الإسلام والإيمان غير منفك أحدهما عن الآخر ولا متحقق كل منهما دون الثاني، إلا أن الإسلام كما يطلق على هذا المعنى المتلازم للإيمان فكثيرًا ما يطلق أيضًا على الانقياد الظاهري الذي لم يعتبر عند الشرع إلا في حق إجراء أحكام المسلمين على من اتصف به، وذلك لتعذر وقوف الناس على سرائر القلوب وضمائرها فيما بينهم، فلم يكن [بُدٌّ] من نصب علامة لهم يعرفون به المسلم عن غيره، وهذا الإطلاق للإسلام جار في عرف الشريعة، وفي كثير من الآيات والروايات، فبوَّب المؤلف بابًا لذلك إشارةً منه إلى أن الإسلام والإيمان المعتبرين وإن لم يتحقق أحدهما دون الآخر، إلا أنه قد يطلق في الشرع لفظ الإسلام بإطلاق آخر غير ما ذكرناه أولًا، فيشتبه الأمر على الناظر.
وأيضًا ففي كلامه إشارة إلى أن من ذهب منهم إلى المغايرة بينهما، فإنما غرضه التغاير بحسب المفهوم لا المصاديق، فإن المسلم صفة بحسب الظاهر، والمؤمن صفة له بحسب اعتقاده، وإن كانا متلازمين وجودًا، أو قصد بالمغايرة أنهما يتغايران بحسب ذلك الإطلاق الآخر للإسلام الذي هو غير معتبر به شرعًا كما في قوله تعالى:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، فإنهم لم يؤمروا أن ينسبوا إلى أنفسهم ذلك الإسلام الحقيقي المعتبر شرعًا، إذ لو كانوا متصفين به لما صح نفي الإيمان عنهم لِما أنهما متلازمان، بل
(1)
"لامع الدراري"(1/ 565 - 568).
أمروا أن يسندوا إليها صورة الإسلام وظاهره، وهذا هو المراد في الرواية حيث نهى سعدًا أن يحكم على رجل بالإيمان لكونه أمرًا مبطنًا عنه خفيًا أمره عليه، وكذلك الإسلام الحقيقي.
نعم إن له أن يحكم على من رآه آتيًا بأوامر الشرع مجتنبًا عن ارتكاب نواهيه بأنه مسلم بمعنى منقاد، وذلك لأنه متيقن به غير مشكوك فيه، وأما الحكم بالإيمان والإسلام الحقيقيين فلا يمكن إلا ظنًّا عبرةً للظاهر، وهو وإن كان جائزًا لِما أُمرنا به من بناء الحكم على ظواهر ما نراه، إلا أنه خلاف الأدب لكون الحكم بحسب الواقع على ما لم يعلم، فافهم فإن فيه دقة ما.
ثم إن كلمة "أو" في قوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلمًا" ظاهرها أنها بمعنى "بَل"، حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم رده عما قال فيه، وجزم إلى ما هو متيقن به منه وهو الانقياد الظاهري، وذلك لعدم تيقن سعد بما في قلبه من الإيمان والكفر، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم منه أنه مؤمن كما هو الظاهر من قوله وهو:"أحب إليّ"، ويمكن كونها أيضًا للشك، فإنه لما لم يتبين عنده إيمانه أو نفاقه والتبس عليه فلم يكن تعيين أحد الأمرين من شأنه، فكان عليه أن يقول: إني أراه مؤمنًا إن كان باطنه كظاهره، أو مسلمًا إن لم يكن كذلك، فقوله صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمًا" عطف على مفعول قوله: "أراه" ومثل ذلك في الكلام كثير، انتهى.
وفي هامشه: وفي تقرير الشيخ المكي رحمه الله عن الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه: قوله: "على الحقيقة" أي: على الحقيقة الشرعية بل يكون على الحقيقة اللغوية، وجزاء الشرط محذوف: فلا يعتبر به عند الله، و"الأعراب" المنافقون، وقوله:"أسلمنا" فإطلاق الإسلام ههنا حقيقة لغوية ومجاز شرعي، إذ لا فرق في الشرع بين الإيمان والإسلام والدين إلا بالاعتبار، وبسط في هامش "اللامع" الكلام على هذا الباب أشد البسط، وذكر فيه
أقوال الشرَّاح من السندي وغيره
(1)
.
(حدثنا أبو اليمان. . .) إلخ، الأوجه عندي: أن المصنف رحمه الله تعالى أراد بالترجمة بين الآيتين اللتين ظاهرهما المخالفة، وأراد بذكر هذا الحديث الإشارة إلى أن الرجل المتروك ليس من الأول، وأن يظهر هذا من قوله عليه السلام:"أو مسلمًا"، بل من الثاني لقوله عليه السلام:"لأعطي الرجل وغيره أحب إلي" لكنه صلى الله عليه وسلم رد على قوله: "أراه مؤمنًا" لأن الإيمان فعل القلب لا يظهر عليه غيره.
(قوله: أحب إليّ. . .) إلخ، فيه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن حبه صلى الله عليه وسلم تزايد بتزايد مراتب الإيمان كما دل عليه السياق، ثم لما أثبت للغير
(1)
ثم اعلم أن الذي ظهر لي من النظر في كلام الشرَّاح والمشايخ في غرض الترجمة ثلاثة أمور:
الأول: الجمع بين ما يفهم من التعارض بين الآيتين في إطلاق لفظ الإسلام، بأن الإسلام قد يطلق مرادفًا للإيمان، وقد يطلق بمعنى الاستسلام؛ أي: الانقياد الظاهري، وهو الذي يغاير الإيمان، هذا هو مختار شيخنا عند قراءتنا عليه "الصحيحَ"، وهو الذي أثبته في تراجمه.
والثاني: الفرق بين الإسلام النافع وغير النافع كما حكاه بعضهم.
والثالث: بيان أن للإسلام إطلاقين، ففي إطلاق يرادف الإيمان، وهو ما إذا كان مع الاستسلام الظاهر اعتقاد الباطن، وقد يطلق بمعنى الانقياد الظاهر، وهو ما إذا لم يصاحبه الاعتراف القلبي، وهذا هو الذي جنح إليه السندي (1/ 14)، والعلامة الكشميري (1/ 110)، وهو المذكور في "الفتح"(1/ 79)، ويحوم حوله كلام العارف الكَنكَوهي وغيرهما.
فمحط النظر على الأول هو دفع التعارض، وعلى الثاني بيان كونه نافعًا وغير نافع، وعلى الثالث ذكر الإطلاقين فقط، والذي يظهر لي أن ترجمة المصنف قد حوت هذه الأمور الثلاثة كلها، إلا أن الظاهر بلفظ الترجمة هو الذي جنح إليه السندي وغيره من إثبات الإطلاقين للإسلام، وهذان الإطلاقان هما محامل النصوص المختلفة، والإسلام الحقيقي هو النافع بخلاف الإسلام الظاهري، والله أعلم، انتهى. محمد يونس عفا الله عنه.
أنه أحب إليّ فكان إيمانه أزيد ممن ليس أحب إليه صلى الله عليه وسلم.
فأما مناسبة الحديث بالباب الذي وضعه فحاصلة بقوله: "مسلمًا"، حيث فرَّق بين الإيمان والإسلام، فجوَّز إطلاق الثاني دون الأول، وذلك بحسب ما له من المعنى الأعم من معناه المعتبر شرعًا، وهو، أي: المعنى الأعم الانقياد ظاهرًا، سواء وجد معه الإيمان أو لا، انتهى. كذا في "اللامع"
(1)
.
قال الحافظ
(2)
: مناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث إن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، فلا يكون مؤمنًا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصلة، انتهى.
(20 -
باب إفشاء السلام)
قال العيني
(3)
: وجه المناسبة بين البابين هو أن من جملة المذكور في الباب السابق أن الدين هو الإسلام، والإسلام لا يكمل إلا باستعمال خلاله، ومن جملة خلاله إفشاء السلام للعالَم، وفي هذا الباب يبين هذه الخلّة في الحديث الموقوف والمرفوع جميعًا، مع زيادة خلّة أخرى فيهما، وهي إطعام الطعام، وزيادة خلّة أخرى في الموقوف، وهي الإنصاف من نفسه، انتهى.
قال الكرماني
(4)
: فإن قلت: الحديث بعينه هو المتقدم - أي: في باب إطعام الطعام. . . إلخ - فلم ذكره مكررًا؟
قلت: ذكره ثمة للاستدلال على أن الإطعام من الإسلام، وههنا للاستدلال على أن السلام منه.
فإن قلت: كان يكفيه أن يقول ثمة أو ههنا: باب الإطعام والسلام
(1)
"لامع الدراري"(1/ 568).
(2)
"فتح الباري"(1/ 79).
(3)
"عمدة القاري"(1/ 295).
(4)
"شرح الكرماني"(1/ 134).
من الإسلام بأن يدخلهما في سِلك واحد ويتم المطلوب؟ ثم أجاب عن ذلك بأن البخاري تبع في وضع التراجم مشايخه.
وأنكره الحافظ ابن حجر أشد الإنكار، وقال
(1)
: الظاهر من صنيع البخاري أنه يقصد تعديد شعب الإيمان كما قدَّمناه، فخصَّ كل شعبة بباب تنويهًا بذكرها، وقصدُ التنويه يحتاج إلى التأكيد، فلذلك غاير بين الترجمتين، انتهى.
قوله: (الإنصاف من نفسك. . .) إلخ، وفي هامش "اللامع"
(2)
: وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: أي: إعطاء الإنصاف من نفسك بأن يقول للمظلوم: خُذْ ظُلمك مني، انتهى.
قلت: وهذا أوجه عندي مما قالته الشرَّاح قاطبة، ففي "القسطلاني"
(3)
تبعًا للحافظ: قوله: "الإنصاف" أي: العدل من نفسك بأن لم تترك لمولاك حقًا واجبًا عليك إلا أديته، ولا شيئًا مما نُهيتَ عنه إلا اجتنبته، وأنت خبير بأن هذا الذي قالوه هو تمام الإيمان، فأي شيء بقي بعد ذلك، والوارد في الأثر:"ثلاث من جمعهن جمع الإيمان"، فالموافق للفظ الأثر ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه.
قال العيني
(4)
: يقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، انتهى.
قال المجد
(5)
: انتصف منه: استوفي حقه منه، وتناصفوا: أنصف بعضهم بعضًا، انتهى.
(من الإقتار) بكسر الهمزة، أي: في حالة الفقر، كذا قال القسطلاني.
(1)
"فتح الباري"(1/ 82).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 569).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 192) و"فتح الباري"(1/ 83).
(4)
"عمدة القاري"(1/ 297).
(5)
"القاموس"(ص 771).
(21 -
باب كُفْرَانِ العشير وكفرٍ دون كفرٍ)
أراد بالترجمة التنبيه على أن المراد في الرواية ليس حقيقة الكفر، بل المراد كفرٌ دون كفر.
قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: هذا تصريح بما ذهبنا إليه من أن الأعمال ليست بداخلة في أصل الإيمان، إذ لو كان كذلك لما تحقق كفر دون كفر، بل كان مرتكب السيئات كافرًا، وغرضه من عقد الباب الرد على المعتزلة القائلين بإثبات المنزلة بين الإيمان والكفر، وأن مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان، وحاصل الرد: أن إطلاق المؤمن على مرتكب الكبيرة شائع في الآيات والروايات، فما ورد في مثل تلك المعاصي من لفظ الكفر فالمراد به غير ما هو نقيض الإيمان، فإن الكفر أنواع بعضها أكمل من بعض، وأقصى أنواعه الكفر المقابل للإيمان، والرواية مصرِّحة بالترجمة، انتهى.
وفي هامشه: قال بعض العلماء: الكفر أربعة أنواع: كفر إنكار، وجحود، ومعاندة، ونفاق، وهذه الأربعة من لقي الله بواحدة منها لم يغفر له، فكفر الإنكار: أن يكفر بقلبه ولسانه وأن لا يعرف ما يذكر له، وكفر الجحود: أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر المعاندة: أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان ككفر أبي طالب، وكفر النفاق ظاهر.
قال النووي
(2)
: إن الشرع أطلق الكفر على ما سوى الأربعة ككفران الحقوق والنعم، فمن ذلك حديث الباب، وحديث:"لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" وأشباهه، وهذا مراد البخاري بقوله: وكفر دون كفر، إلى آخر ما بسطه فيه.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 569).
(2)
"مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 79).
وكتب شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه" ما تعريبه: الظاهر أن لا مناسبة لترجمة الباب بكتاب الإيمان، فأشار المؤلف رحمه الله بقوله:"وكفر دون كفر" إلى المناسبة بينهما وإلى الغرض من الترجمة، والظاهر أن غرض المؤلف رحمه الله أمران:
الأول: إثبات التشكيك في الكفر؛ لأن بإثباته يثبت التشكيك في ضده وهو الإيمان؛ لأن التشكيك في شيء تشكيك في ضده.
والثاني: أن المعاصي داخلة في الكفر كما أن الأعمال الصالحة داخلة في الإيمان، وسيذكر المؤلف ذلك في الترجمة الآتية واضحًا، ثم علم من التشكيك في الكفر ودخول المعاصي في الكفر [أن] النصوص التي ورد فيها إطلاق الكفر على ترك بعض الأعمال كما في ترك الصلاة والحج هي إطلاقات حقيقية، والتأويل فيها وجعلها مجازية إنما هو تكلُّف لا حاجة إليه؛ لأن إطلاق الكلي المشكك يكون على جميع أفراده القوي والضعيف حقيقيًا لا مجازيًا، ثم إنه لما كان في الكفر تشكيك، فإن هذا التشكيك مسلّم في سلب الإيمان أيضًا، وبذلك نتخلَّص من التأويلات المتنوعة في الروايات الكثيرة، فالحمد لله.
(رأيت أكثر أهلها النساء) وظاهره أن النساء أكثر في جهنم من الرجال، ويشكل عليه ما ورد أن لكل رجل من أهل الجنة امرأتين من أهل الدنيا، ويظهر منه كثرة النساء في الجنة.
وذَكَر هذا الإيرادَ والجوابَ الشَّيْخُ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدرِّي"
(1)
فقال: قوله: "فرأيت أكثر أهلها النساء"، فإن النساء في أنفسها كثيرة نسبة إلى الرجال، فما كان منها في الجنة أكثر من الرجال، وما كان منها في النار أكثر من نساء الجنة ومن رجال النار أيضًا.
وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك إلى جواب عن إيراد وارد على
(1)
"الكوكب الدري"(3/ 325).
الحديث، وتوضيح ذلك ما قال القاري: قد يشكل عليه ما جاء في حديث الطبراني: "أن أدنى أهل الجنة يمسي على زوجتين من نساء الدنيا"، فكيف يكنّ مع ذلك أكثر أهل النار وهنّ أكثر أهل الجنة؟
وجوابه: أنهن أكثر أهلها ابتداء، ثم يخرجن ويدخلن فيصرن أكثر أهلها انتهاءً، أو المراد أنهن أكثر أهلها بالقوة، ثم يعفو الله عنهن، هذا ولا بدع أنهن يكنَّ أكثر أهلهما لكثرتهن، وتكلم على ذلك في هامش "اللامع" أيضًا.
ثم قال الحافظ
(1)
: وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو منامًا وهو غير رؤية النار، وهو في صلاة الكسوف، ووهم من وحَّدهما، وقال الداودي: رأى ذلك ليلة الإسراء أو حين خسفت الشمس، كذا قال، وبسط الكلام على حديث الباب في "الأوجز"
(2)
.
(22 -
باب المعاصي من أمر الجاهلية. . .) إلخ
كتب شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: في هذا الباب ترجمتان، ولكن المقصود هي الترجمة الأولى، والثانية كدفع دخل مقدر، والغرض أن المعاصي من أمر الجاهلية، يعني: داخلة في الأمور الشركية، كما أثبت في الأبواب السابقة أن أعمال الخير من الأمور الإيمانية، أي: داخلة في الإيمان، قد تحقق في الأبواب السابقة الحاجة إلى أعمال الخير، وثبت في هذا الباب قبح المعاصي ومضرتها، وبجمعها يبطل قول المرجئة بالكلية، ولكن يخشى أن يطمع الخوارج والمعتزلة من هذه الترجمة، لذا ذكر المؤلف المحقق بعدها:"ولا يكفر صاحبها بارتكابها"، فسدَّ بذلك بابهم، ثم قوله:"لقول النبي صلى الله عليه وسلم" متعلق بالترجمة الأولى، "وقول الله" دليل الترجمة الثانية، ثم ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه فهو بالبداهة مربوط بالترجمة الأصلية، ولما نرى أن الأحمق الجاهل أيضًا لا يمكن له أن يتكلم بحرف
(1)
"فتح الباري"(11/ 419).
(2)
"أوجز المسالك"(4/ 84).
بسبب هذه القصة في كمال إيمان أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فحينئذ نرى مطابقتها بالأمر الثاني أيضًا، وبطل بهذا الباب قول المرجئة والخوارج والمعتزلة، وقد ذكرت مراتٍ أن المؤلف لا يصرح في كثير من المواقع بغرض التمرين وتشحيذًا للأذهان، هكذا تجده يستخدم الإشارة حيث يرى التصريح خلافًا للمصلحة، أو أنه يخالف الاحتياط.
(إنك امرؤ فيك جاهلية) كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: رماه بذلك وليست الجاهلية بأهون شيء، ومع ذلك فلم يأمره بتجديد الإيمان أو بغيره من أحكام الكفر، فعلم أن ارتكاب الكبائر غير مكفر.
وفي هامشه: قال ابن بطال
(2)
: يريد أنك في تعييره بأمه على خُلُق من أخلاق الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، ولم تستحق بذلك الفعل أن تكون كأهل الجاهلية في كفرهم بالله. وغرض البخاري بهذا الردُّ على الخوارج، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر:"أعَيَّرْتَه بأمه؟ ارفع رأسك ما أنت بأفضل مما ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل في دين"
(3)
، وقد روي: أن بلالًا كان الذي عيَّره أبو ذر بأمِّه، أي: بسوادها، فانطلق بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، فلما جاء أبو ذر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شتمت بلالًا وعيرته بسواد أمه؟ "، قال: نعم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء"، فألقى أبو ذر رضي الله عنه نفسه إلى الأرض، ثم وضع خدّه على التراب، وقال: والله لا أرفع خدِّي منها إلا أن يطأ بلال خدي بقدمه، فوطأ خدّه بقدمه
(4)
، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 571).
(2)
"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 85).
(3)
أخرجه إسحاق في "مسنده"(1/ 427)(رقم 493)، والطبراني في "مسند الشاميين"(رقم 2343).
(4)
"شرح ابن بطال"(1/ 87، 88).
قال الكرماني
(1)
: الجاهلية زمان الفترة قبل الإسلام، سُميت بذلك بكثرة جهالاتهم، انتهى. إلى آخر ما بسطه فيه.
(أبو بكرة) اسمه نُفيع بالنون مصغرًا، كُنِّي بها لأنه نزل يوم الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحِصن في بكرة، كذا في "العيني"
(2)
، وفي "التهذيب"
(3)
: وإنما قيل له أبو بكرة؛ لأنه تدلى من الحصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وزاد في "الإصابة"
(4)
: تدلى ببكرة فاشتهر بأبي بكرة، انتهى.
(إذا التقى المسلمان. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(5)
: سمَّاهم مسلمَين حين اشتغلا بالمقاتلة.
وفي هامشه: وبذلك استدل البخاري في الترجمة في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الحجرات: 9]، ولهذا ذكر الحديث لأن الإيمان والإسلام في الشرع متحدان، انتهى.
(وعليه حُلة) كذا رواه أكثر أصحاب شعبة، وعند الإسماعيلي عن معاذ عن شعبة:"إذا حلة عليه ثوب وعلى عبده ثوب"، ويؤيده رواية الأعمش عن معرور الآتي في الأدب:"رأيت عليه بردًا وعلى غلامه بردًا، فقلت: لو أخذت هذا لكانت حلة"، ونحوه في "مسلم" و"أبي داود"، ويمكن الجمع بأن عليه بردًا جيدًا تحته برد خلِق، وهكذا على غلامه، فالمعنى لو أخذت الجديد منه لكانت عليك حلة جيدة، كذا في "الفتح"
(6)
.
(23 -
باب ظلم دون ظلم)
كتب شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: أورد في هذا الباب حديث ابن مسعود الذي ذكر فيه: "أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "[لقمان: 13].
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 137).
(2)
"عمدة القاري"(1/ 315).
(3)
"تهذيب التهذيب"(10/ 469).
(4)
"الإصابة"(3/ 542).
(5)
"لامع الدراري"(1/ 572).
(6)
"فتح الباري"(1/ 86).
ويظهر منه أن الظلم العظيم هو الشرك، وأما سائر المعاصي والذنوب فداخلة في مرتبة ما دون الظلم العظيم، فظهر بهذا الباب بنوع وضاحة تحقيق ما أراده المؤلف في الترجمتين السابقتين، وهما: كفر دون كفر، والمعاصي من أمر الجاهلية، وظهر أن المعاصي داخلة في الشرك والكفر، لكن لا يغفل عما قال المؤلف:"لا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك"، ويجب التمسك به بقوة وإلا فيلزم خلاف ما رامه المؤلف، ونظرًا إلى هذه الخطرات لم يفصح المؤلف، بل أشار إلى مدَّعاه في أبواب شتى بتغير العنوان وتبديل البيان، والله أعلم.
(أينا لم يظلم) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: استشكل عليهم ما يتبادر من العموم حيث وقعت النكرة تحت النفي، والتجنب بأنواع الظلم بأسرها بحيث يتناول المكروهات التنزيهية والتحريمية، والصغار من المعاصي والكبار متعذر على غير الأنبياء لعصمتهم، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن اللبس قرينة على أن المراد بالظلم معظم أفراده وهو الشرك، وأما اللمم فليست لها في جنبة الإسلام من وجود، وكذا الكبائر من المعاصي فإنها تتلاشى في زاخر الإيمان إلا الكفر، فالآية مسوقة لبيان أن الظلم يطلق على الكفر والشرك، وأنه معظم أنواعه، وأما الجواب ففي تنكير الظلم أنه للتعظيم بقرينة اللبس، انتهى.
وبسط في هامشه الكلامَ على أكثر كلام الشيخ قُدِّس سرُّه، وكتب على قوله: إنه للتعظيم بقرينة اللبس، فقال: لله در الشيخ ما أجاد فيما أفاد، فإن اللبس، أي: الخلط، يشعر إلى عظمة ما خالطه، فإن الشيء القليل الذي يتلاشى في البحر العظيم لا يقال فيه: الخلط، فكذا الإيمان بحر عظيم والمعاصي بجنبه أجزاء متلاشية، بخلاف الكفر فإنه مقابل للإيمان فيصدق عليه الخلط بداهة، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(1/ 572).
وحكى صاحب "النور الساري" عن تقرير شيخ الهند قُدِّس سرُّه في قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] إلخ: هذا الحديث مختصر، وجاء بطريق آخر أن الصحابة لما نزلت هذه الآية قالوا: أينا لم يظلم يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المراد من الظلم الشرك"، وجاء الوحي أن الشرك لظلم عظيم، قيل: ما وجه فزع الصحابة من هذه الآية؟ وما وجه تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقوله لهم ما قال؟
فالشرَّاح - رحمهم الله تعالى - قالوا: إن الصحابة فهموا ما فهموا من الآية بالنظر إلى القاعدة الكلية، وهو أن النكرة إذا وقعت تحت النفي تفيد العموم والاستغراق والشمول، فالظلم عام شامل للمعاصي والكفر جميعًا، فالتنوين في "ظلم" للتنكير، وما قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو بناءً على أن التنوين فيه للتعظيم، والظلم العظيم هو الشرك.
لكن قال الأستاذ العلامة سلَّمه الله تعالى: إن هذا التقرير يخل بفصاحتهم وبلاغتهم، وليس من شأنهم كهذا الكلام، ومع هذا فسأل منهم ما وجه عدول النبي صلى الله عليه وسلم عن القاعدة الكلية، ولا دليل على ما قال، وهذا بعيد من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن شيئًا آخر كان بينهما فعلًا للمقصود، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فهموا مطلبه، فقال الأستاذ العلامة سلَّمه الله تعالى: الأَولى والألصق بالقلب أن يقال كما قال مولانا الشاه عبد القادر الدهلوي في ترجمته للكلام المجيد تحت هذه الآية، خلاصته: أن الصحابة فهموا من هذه الآية الإيمان الكامل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"المراد من الظلم الشرك" بناءً على أن المراد من الإيمان التصديق واليقين، فالتباس الظلم به يكون إذا كان يراد منه الشرك.
وقال مولانا قاسم الخيرات - أي: مولانا الشيخ محمد قاسم النانوتوي -: إن اللبس في اللغة الاختلاط في محل واحد، والصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وقعوا في هذا، وقالوا ما قالوا؛ لأنهم فهموا معنى اللبس اتصالًا، فقالوا: أينا لم يظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشرك لظلم
عظيم" يعني: أن المراد من اللبس هو الجمع في محل واحد، وهو يتحقق إذا كان يراد من الظلم الشرك، فإن للإيمان والشرك محلًّا واحدًا، وإن شئت أن يتيسر لك المقصود فعليك أن تجمع ما قالا بأن تقول: إنهم فهموا اللبس اتصالًا والإيمان كاملًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان هو الاعتقاد واليقين، واللبس خلط شيئين في محل واحد، والله أعلم بالصواب، انتهى.
وما أفاده حجة الإسلام النانوتوي قد سبقه إلى ذلك العلامة بهاء الدين السبكي في "عروس الأفراح": وكان خطر لي قديمًا أن في الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالظلم فيها الكفر، وهو قوله تعالى:{وَلَمْ يَلْبِسُوا} ؛ لأن الذي يلبس الإيمان هو الشرك، فإنه كالممازج له ولا تلتبس بالإيمان، وعرضت هذا المعنى على والدي بدرس الشامية بـ "دمشق" فارتضاه وفرح به، انتهى.
قلت: وحاصله: أنه جعل اللبس قرينة على كون المراد بالظلم هو الشرك، فإن الخلط إنما يمكن في محل واحد، ومحل الأمرين هو القلب.
(24 -
باب علامة المنافق)
قال الحافط
(1)
: لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم، أتبعه بأن النفاق كذلك، وقال الشيخ محيي الدين: مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده، انتهى.
والأوجه عندي في غرض الترجمة: أن الأعمال الحسنة كما هي مكملات للإيمان وليست الإيمان نفسه، فكذلك مقابلها هذه الأعمال مكملات للكفر ليست هي الكفر نفسه.
وكتب الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: "باب علامة المنافق" سردها ليتجنب عنها المسلم مع ما فيه من الاحتجاج على أن
(1)
"فتح الباري"(1/ 89).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 574).
الاتصاف بها وبالذنوب سوى ذلك لا يوجب الخروج عن الإيمان، وأن النفاق في مثل تلك الروايات إنما هو نفاق العمل، أو تسميته نفاقًا بحسب صورة النفاق لا حقيقته، وذلك لأنه لم يطلق عليه لفظ المنافق، وإنما قال: إنها علامات له، فمن كانت فيه واحدة منها كان فيه من النفاق بقدرها، ومن كانت فيه زيادة منها كانت فيه زيادة منه، ولم يقل إنه منافق، وقد علم أن الإيمان غير مُتَجَزٍّ، فلا يمكن إثبات بعض الإيمان وبعض الكفر في مثل ذلك الرجل الذي فيه علامة أو علامتان أو ثلاث منها، وأيضًا: فقد ذكر فيه ما يدل على أنه لم يخرج بوجود تلك العلامات فيه من الإيمان وهو قوله: حتى يدعها، فعُلم أن نفس الموادعة والترك كافٍ ولا يفتقر إلى تجديد إيمانه، وأيضًا: ففيه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأنه لما اتصف بعلائم المنافقين كان فيه نقص في الإيمان بهذا القدر، فافهم، انتهي.
وقال حضرة شيخ الهند رحمه الله في «تراجمه» ما تعريبه: «باب علامات المنافق» ، بيَّن المؤلف رحمه الله تعالى النفاق بعد بيان الكفر والمعاصي والشرك، ويظهر من الترجمة أن علامات النفاق متعددة، والغرض بيانها، ثم ذكر في الحديث الأول ثلاثة علامات، وفي الثاني أربعة صراحة، فعُلم أن النفاق له مراتب عديدة أيضًا، ويزيد وينقص مثل الكفر، وما ذكر في الحديث الثاني قوله:«أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها» ، يظهر منه الزيادة والنقصان في النفاق ظهور الشمس، ثم يظهر هنا أمران علاوةً على الغرض المذكور:
الأول: أن في هذا الباب تأييد للأبواب السابقة؛ كباب ظلم دون ظلم وغيره.
والثاني: كما أن المعاصي من الأمور الكفرية هكذا الأفعال التي ذكرها لعلامة النفاق هي داخلة في أفعال النفاق.
فكما صح أن يطلق على كفران العشير كفرًا هكذا يجوز أن يطلق على
الكفر والخيانة نفاقًا أيضًا، وما يفعله العلماء الكرام من التأويلات المختلفة للروايات على النفاق في العمل، فبعضهم جعل النفاق قسمين: نفاق في العقيدة ونفاق في العمل، وحمل هذه الروايات على النفاق في العمل، وبعضهم يجعل مجموعة العلامات الثلاثة الموجودة في الحديث الأول ومجموعة العلامات الأربعة الموجودة في الحديث الثاني كل منهما علاقة على حدة، ويقصد أن يثبت له معني خاصًّا فيما ذكرنا لا تبقى الحاجة إلى أي ذلك، فعليك بالتأمل الصادق، والله تعالى أعلم، انتهى.
وبسط الكلام على ذلك في هامش «اللامع»
(1)
، وفيه:
قال الكرماني
(2)
: إن جماعة من العلماء عدُّوا هذا الحديث مشکلًا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم، من أن الإجماع حاصل [على] أنه لا يحكم بكفره ولا بنفاق يجعله في الدرك الأسفل من النار، انتهى.
قال النووي
(3)
: ليس في الحديث إشكال؛ لأن معناه: هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين [في هذه الخصال، و] متخلق بأخلاقهم، إذ النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهو موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه خاصًّا في حق من حدَّثه ووعده وائتمنه، لا أنه منافق في الإسلام مبطن للكفر.
وأجمل الحافظ الكلام على الأجوبة، فقال بعد جواب النووي
(4)
: ومحصل هذا الجواب في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال کالمنافق، وهو بناءً على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر، وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد به نفاق العمل، وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر رضي الله عنه لحذيفة: هل تعلم فيَّ شيئًا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل، ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله:«كان منافقًا خالصًا» .
(1)
«لامع الدراري» (1/ 575).
(2)
«شرح صحيح مسلم» (1/ 323).
(3)
«شرح الكرماني» (1/ 148).
(4)
«فتح الباري» (1/ 90).
وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال، والظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي، وذكر أيضًا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنًا، قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرار الفعل، كذا قال، والأولى ما قال الكرماني: إن حذف المفعول من حدّث يدل على العموم، أي: إذا حدّث في كل شيء كذب فيه، قال الكرماني
(1)
: ولا شك أدن مثله منافق في الدين.
وقيل: محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخفّ بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبًا، وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادَّعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: فلان منافق، بل يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم:"ما بال أقوام يفعلون كذا؟ " فههنا إشارة بالآية إليه حتى يعرف ذلك الشخص بها.
وقيل: ورد في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوا بإيمانهم فكذبوا، ووعدوا في نصر الدين فأخلفوا، وائتمنوا في دنياهم فخانوا، وتمسَّك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها تعيَّن المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي، انتهى ما في "الفتح" بزيادة.
قال الكرماني
(2)
: فلدفع الإشكال خمسة أوجه؛ لأن اللام فيه إما للجنس فهو إما على سبيل التشبيه أو المراد الاعتياد أو معناه الإنذار، وإما للعهد من منافقي زمن رسول الله، وإما من منافق خاص، وههنا وجه سادس، وهو أن المراد نفاق العمل لا نفاق الإيمان، وأحسن الوجوه وهو السابع بأن يقال: إن النفاق: شرعي، وهو ما يبطن الكفر ويظهر الإسلام،
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 148).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 149).
ونفاق عرفي، وهو ما يكون سره خلاف علنه، وهذا هو المراد إن شاء الله، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
قوله: (حتى يدعها) فعلم أن نفس الموادعة كاف ولا يفتقر إلى تجديد إيمان، وأيضًا فيه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأنه لما اتصف بعلائم المنافقين كان فيه نقص في الإيمان بهذا القدر كما تقدم عن "اللامع"
(1)
.
وفي هامشه: وبذلك جزم النووي كما حكاه الكرماني إذ قال: مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن يبين أن هذه علامة عدم الإيمان، أو يعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض.
وقال النووي
(2)
: مراد البخاري بذكر هذا الحديث أن المعاصي تنقص الإيمان كما أن الطاعة تزيده، انتهى.
(25 -
باب قيام ليلة القدر)
وفي هامش "اللامع": ذكر المصنف من "باب كفر دون كفر" خمسة أبواب تُضاد الإيمانَ، فبضدها تتبين الأشياء، ثم رجع بعد الخمسة إلى أمور الإيمان من "باب قيام ليلة القدر"، واختلف العلماء في المناسبات فيها بوجوه مختلفة كما ترى في كلام الشيخ وهذه الحواشي.
قال الحافظ
(3)
: لما بيَّن علامات النفاق وقبَّحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسَّنها؛ لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادًا، انتهى.
وقال العيني
(4)
: لما فرغ من الأبواب الخمسة التي هي ضد الإيمان
(1)
"لامع الدراري"(1/ 575).
(2)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 89)، و"فتح الباري"(1/ 89).
(3)
"فتح الباري"(1/ 91).
(4)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 334).
ذكرها استطرادًا رجع إلى الأول، ولما كان آخر أبواب الإيمان "باب السلام من الإيمان" ذكر ليلة القدر متصلًا لقوله تعالى:{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] فكان إفشاء السلام في ليلة القدر أكثر من غيرها.
قوله: (إيمانًا واحتسابًا) مناسبة الرواية بالترجمة متوقفة على أن أثر الشيء والحاصل به يلحق به، فلما كان القيام مترتبًا على الإيمان مسببًا عنه كان ملحقًا به وجزء منه، وهذا ملحوظ في كثير من التراجم بعده، ولا يبعد أن يقال في مثل هذه التراجم: إنه غير متصد لإثبات الجزئية حتى يتكلف، وإنما قصد أن يثبت ما هو من مسببات الإيمان ومقتضياته ليقبل المسلم عليه ويفعله، كذا في "اللامع"
(1)
.
وفي هامشه: وهذا مما مشى عليه الشيخ من "باب أمور الإيمان" أن غرض المصنف من هذه الأمور تحريض المسلم على الاتصاف بأمور الإيمان وشعبه.
قال الكرماني
(2)
: قوله: "احتسابًا" أي: إرادة وجه الله تعالى لا الرياء ونحوه، فقد يفعل الإنسان فعل الخير لكنه لا يفعله مخلصًا بل لرياء أو خوف ونحوه، وهو منصوب لأنه مفعول له، أو تمييز، ولا يصح أن يكون حالًا بمعنى مؤمنًا محتسبًا؛ لأنه لا يدل حينئذ على ترجمة الباب، إذ المفهوم فيه ليس القيام إلا في حال الإيمان.
فإن قلت: فالتمييز والمفعول له أيضًا لا يدلان على الترجمة؟ قلت: من للابتداء، فمعناه، أن القيام منشؤه الإيمان، فيكون للإيمان أو من جملة الإيمان، انتهى مختصرًا.
وتعقب كلامه العيني ورجَّح كونهما حالين وقال
(3)
: الترجمة غير مرتبة عليه، وإنما هي مرتبة على مباشرة عمل هو سبب لغفران ما تقدم من ذنبه،
(1)
"لامع الدراري"(1/ 578، 579).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 154).
(3)
"عمدة القاري"(1/ 337).
وهو قيام ليلة القدر، ومباشرة مثل هذا العمل شعبة من شعب الإيمان، انتهى.
وقال شيخ مشايخنا الدهلوي
(1)
: إذا قيل: قام طوعًا، فمعناه قيامًا تطوعًا، هكذا صام رمضان إيمانًا، وقام ليلة القدر إيمانًا، أي: صومًا هو الإيمان، وقيامًا هو الإيمان، فهو مفعول مطلق لحمله عليه، وإن خالف في المفهوم فطابق الترجمةَ الحديثُ، انتهى.
(26 -
باب الجهاد من الإيمان)
قال الحافظ
(2)
: أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيامه مع أنها في نسق واحد، لنكتة لم أرَ من تعرَّض لها، ثم بسطها، وحاصلها: أن التماس ليلة القدر تستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا، وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسب في أن كلًّا منهما مجاهدة، وفي أن كلًّا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا.
ثم قال: فذكر المصنف رحمه الله فضل الجهاد لذلك استطرادًا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام؛ لأن الصيام من التروك فأخَّره عن القيام لأنه من الأفعال، ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع في أول ليلة من الشهر خلافًا لبعضهم، انتهى مختصرًا.
(27 -
باب تطوع قيام رمضان)
ذكر شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: اختلف العلماء المحدِّثون الكرام وغيرهم الذين جعلوا الأعمال داخلة في الإيمان على قولين: فجماعة
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 37).
(2)
"فتح الباري"(1/ 92).
تقول: إن الفرائض فقط دون التطوعات داخلة في الإيمان، والجماعة الثانية تقول: إن الفرائض والنوافل وجملة الأعمال داخلة فيه، والظاهر أن المؤلف رحمه الله بإضافة كلمة التطوع في الترجمة أشار إلى رجحان القول الثاني.
(28 -
باب صوم رمضان. . .) إلخ
ذكر مولانا فخر الدين في "القول الفصيح": أخَّرَه عن قيام رمضان مع أن الصوم فرض وقيام رمضان تطوع؛ لأن الصوم من التروك وقيام رمضان من الأفعال؛ ولأن القيام أول عمل الشهر بعد دخوله؛ ولأنه عمل الليل؛ ولأنه تقدمة للصيام بمنزلة السنن المؤكدات قبل الفرائض؛ ولأن بالقيام قبل الصيام دخولًا في فرض الصوم من باب السُّنَّة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فرض الله عليكم صيامه وسننتُ لكم قيامه"
(1)
أو كما قال عليه السلام.
ثم بين قيام رمضان وقيام ليلة القدر فرق، فقيام رمضان لرمضان خاصة ليس من أجل ليل القدر، بخلاف قيام ليل القدر فإنه قيام من أجل تلك الليلة المباركة فلا يختص برمضان، فقد تكون في غير رمضان أيضًا، نعم أكثر ما تكون تلك الليلة في رمضان في العشرة الثالثة في أوتارها، إلى آخر ما بسط.
(29 -
باب الدِّين يسر)
ذكر شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: أن ترجمة الباب ومفهوم الحديث والتوافق بينهما ظاهر جدًّا، ولكن مع هذا تظهر فيه إشارة إلى أن الأعمال داخلة في الإيمان كما يفهم من الأبواب السابقة اللاحقة، كما أن فيه تعريضًا إلى تشديدات المعتزلة والخوارج أيضًا، انتهى.
قلت: الأوجه عندي: أن هذا الباب رد على الخوارج خاصة.
(1)
أخرجه النسائي (2209)، وابن ماجه (1328).
وأجاد الحافظ
(1)
إذ قال بعد ذكر الحديث: ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث إنها تضمَّنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبيِّن أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع، ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان، انتهى.
(ولن يشاد الدين. . .) إلخ، قال شيخ المشايخ الدهلوي في "تراجمه"
(2)
: أي: أخذه بالشدة بترك الأرفق الأيسر، وكتب الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
: أي بالتزام ما هو أعلى مراتب العزيمة إلا غلبه الدين بأن لا يمكنه الجري على ما التزمه، وذلك لما في العزيمة من عسر يشق الدوام عليها مع أن مراتب العزيمة متفاوتة، ففوق كل مرتبة مزيد، وفيه دلالة على تفاوت الإيمان زيادةً ونقصانًا، فإن من تخير أعلى مراتب العزيمة كان أقواهم إيمانًا كالأنبياء، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه على شرح قول "اللامع"، وفيه: قال الحافظ
(4)
: قال ابن المنيِّر: في هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطِّع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، ويستفاد من الحديث الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية،
(1)
"فتح الباري"(1/ 95).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 37).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 579).
(4)
"فتح الباري"(1/ 94).
فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطُّع؛ كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي إلى الضرر.
قوله: (قاربوا وأبشروا) قال شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي في "تراجمه"
(1)
: أي: خذوا العمل القريب من الطاقة، وأبشروا، أي: بالثواب على العمل وإن قَلَّ، وكذا في "الفتح"
(2)
أيضًا.
وقال التيمي: و"قاربوا"، إما أن يكون معناه قاربوا في العبادة ولا تباعدوا فيها، فإنكم إن باعدتم في ذلك لم تبلغوه، وإما أن يكون معناه ساعدوا، يقال: قاربت فلانًا إذا ساعدته، أي: ليساعد بعضكم بعضًا في الأمور، والأول أليق بترجمة الباب، كذا في "الكرماني"
(3)
.
قوله: (واستعينوا بالغدوة. . .) إلخ، قال شيخ المشايخ الدهلوي في "تراجمه"
(4)
: الغدوة: السير أول النهار، والروحة: السير بعد الزوال، والدُّلجة: السير آخر الليل، والمعنى: استعينوا، أي: واظبوا على الطاعات في هذه الأوقات، انتهى.
وقال الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(5)
: قوله: "استعينوا بالغدوة. . ." إلخ، أي: فلما لم يبق التزام أعلى مراتب العزيمة لم يجز الترك بالكلية، بل ينبغي التزام ما يمكن الدوام عليه من كثرة النوافل وغيرها من القربات في تلك الأوقات، ووجه تخصيصها غير خفي، انتهى.
وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع" أشد البسط، وفيه: الغدوة - بفتح الغين - ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والرَّواح من زوال الشمس إلى الليل، والدُّلجة - بفتح الدال وضمها - من الإدْلاج - بسكون
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 37).
(2)
"فتح الباري"(1/ 95).
(3)
"شرح الكرماني"(1/ 162).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 37).
(5)
"لامع الدراري"(1/ 580).
الدال - السير أوَّل الليل، ومن الإدِّلاج - بالدال المكسورة المشددة - سير آخر الليل.
وأما الرواية فهو بضم الدال، وهو مثل قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] كأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرًا يقطع طريقه إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأن هذه الأوقات أفضل أوقات المسافر، بل على الحقيقة: الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة، فنبَّه أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم، إلى آخر ما بسط فيه.
وفي "فيض الباري"
(1)
: وكان مولانا قطب العالم الشيخ الكَنكَوهي رحمه الله يؤوِّله بالذكر في الغدوة والروحة وشيء من الدلجة، وإن ورد الحديث في الجهاد، انتهى.
(30 -
باب الصلاة من الإيمان)
لما ذكر في الحديث السابق الاستعانة بالأوقات الثلاثة في إقامة الطاعات، والصلاة أفضل العبادات، نبَّه بذلك على الصلوات الخمس، فإن الفجر: الغدوة، والظهرين: الروحة، والعشائين: شيء من الدلجة، كذا في العيني
(2)
مختصرًا.
قوله: ({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. . .) إلخ، [البقرة: 143]، قال الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
: أيَّد به الترجمة لما فيه من إطلاق الإيمان على الصلاة إطلاق الكل على جزئه، ففيه دخول الصلاة وهي من الأعمال في الإيمان مع أن مراتب المصلين بحسب تفاوت صلواتهم في الحسن والقَبول متفاوتة، فيتطرق بذلك تفاوت في مراتب الإيمان، ولعل غرضهم - رضي الله تعالى عنهم - ليس هو السؤال عن نفس الأجر، بل المسألة إنما وقعت لأنهم لمَّا علموا أن الناسخ خير من المنسوخ
(1)
"فيض الباري"(1/ 131).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 354).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 581 - 583).
أو مثله، وقد علموا أيضًا أن إكمال الدين يومًا فيومًا يقتضي أن يكون الحكم الآتي بعد حكم أكمل منه وأفضل عند الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يحوَّل إلى الكعبة، فكان ذلك أول دليل أيضًا على فضل الصلاة إليها، فاشتبه أمر الثواب المرتب على صلاتهم إلى بيت المقدس هل يساوي أجور صلاتنا إلى الكعبة أو يكون دون ذلك؟ انتهى.
قوله: (عند البيت) وقال شيخ الهند في "تراجمه": الذي يحتاج إلى البيان والتوضيح هو قوله: "عند البيت" فإنه مما يختلج في القلب، ولذا حمله بعض الشرَّاح على التصحيف، وأَوَّلَه بعض المحققين بما لا يخلو عن تكلف، والأحسن عندنا أن لا يتكلف بأيّ تأويل، بل يجعل الظرف متعلقًا بالصلاة على ما هو الظاهر، ويكون التقدير: صلاتكم إلى البيت المقدس.
وإنما كنا نحتاج إلى التأويل أو دعوى التصحيف لو كان المصنف قال: إلى البيت، وأما قوله:"عند البيت" فقرينة على أن تلك الصلوات لم لكن إلى البيت، فإذا لم تكن إلى البيت فلا بد أن تكون إلى البيت المقدس، وهذا مما لا شك فيه، ولما كانت الصلوات التي صُلِّيت قبل الهجرة عند البيت الحرام إلى البيت المقدس كثيرة، مع كونها أُدِّيت في المسجد الحرام الذي هو مقام مقدس ومكان أفضل، فيستبعد جدًّا ضياعها، فلذا وقع التصريح بها بخلاف الصلوات التي صُلِّيت إلى البيت المقدس بعد الهجرة فإنها لم تكن بتلك الكثرة، وأيضًا ما صليت في المسجد الحرام، فلم يقع الاحتياج إلى الإشارة إليها، وأيضًا هذا أوفق وألصق بشأن النزول، فتأمل ولا تعجل، انتهى.
وقيل: هو تصحيف، والصواب: إلى غير البيت، فإنها كانت إلى بيت المقدس، وقال الحافظ
(1)
: لا تحريف بل المقصود دقيق، وهو أن الصلاة إلى غير البيت مع كونه عند البيت إذا لم تضع فهي مع البعد عنه إلى غير
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 107).
البيت كيف تضيع، كذا في "القسطلاني"، انتهى. والبسط في هامش "اللامع"
(1)
.
وقيل: المراد بالبيت مكة، وكانت الصلاة عنده إلى بيت المقدس، كذا في "الكرماني"
(2)
.
وقال السندي
(3)
: الظرف ليس متعلقًا بالصلاة حتى يرد أنه تصحيف، والصواب: صلاتكم لغير البيت، بل هو متعلق لقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ} أي: ما كان الله ليضيع صلاتكم قبل استقبال البيت، أي: لا يبطل الله صلاتكم حين استقبلتم البيت، فإن استقبال البيت خير، فلا يترتب عليه فساد الأعمال السابقة، والله أعلم.
(أول صلاة صلاها) قال الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(4)
: والذي استظهرت عليه الروايات أن التحويلة إنما وقعت في صلاة الظهر، وباقي الروايات مؤولة، فإما أن يقال: إن راوي العصر لم يصل معه الظهر، فظن أن العصر أول صلاة صلاها إلى الكعبة، أو يكون المعنى: أول صلاة صلاها من صلوات العصر لا مطلقًا، أو غير ذلك من التأويلات، انتهى.
قلت: واختلفت الروايات في ذلك كثيرًا، بُسطت في هامش "اللامع"، والبسط منه في "الأوجز"
(5)
.
والحاصل: أنه اختلفت الروايات في تعيين الصلاة: أهي الظهر أو العصر؟ وفي الموضع الذي وقع فيه التحويل: أهو المسجد النبوي، أو مسجد بني سلمة مسجد القبلتين؟
واختار الواقدي، ومحمد بن حبيب الهاشمي، وابن الجوزي في
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 214)، وانظر:"لامع الدراري"(1/ 582).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 163).
(3)
"حاشية السندي"(1/ 16).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 583 - 585).
(5)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 187).
"التلقيح": أن التحويل وقع في مسجد بني سلمة في صلاة الظهر، وقيل: وقع في المسجد النبوي في صلاة الظهر.
وقال الحافظ ابن كثير
(1)
: المشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.
وقال الحافظ ابن حجر
(2)
: التحقيق أن أول صلاة صلاها في مسجد بني سلمة - لما مات بشر بن البراء بن معرور - الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، انتهى.
والأوجه عندي: أن أول صلاة صلاها هي العصر، وكتب مولانا الشيخ محمد حسن المكي من تقرير الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه كما في هامش "اللامع"
(3)
: أن ما اشتهر أن تحويل النبي صلى الله عليه وسلم كان في وسط الصلاة فكذب وغلط فاحش، بل نزل التحويل أولًا، ثم صلى الصلاة إلى البيت، انتهى.
قوله: (وأهل الكتاب): وفي هامش الهندية بالرفع عطفًا على اليهود من عطف العام على الخاص، وقيل: المراد النصارى، وفيه نظر؛ لأنهم لا يصلون قِبَلَ بيت المقدس، فكيف تعجبهم؟ قاله السيوطي في "التوشيح"
(4)
، قال القسطلاني
(5)
: وإعجابهم ليس لكونه قبلتهم بل بطريق التبعية لهم، انتهى.
قال الحافظ
(6)
: وفيه بُعد؛ لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب والواو بمعنى مع، أي: يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس.
(1)
"تفسير ابن كثير"(1/ 193).
(2)
"فتح الباري"(1/ 97).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 585).
(4)
"التوشيح"(1/ 205).
(5)
"إرشاد الساري"(1/ 217).
(6)
"فتح الباري"(1/ 97).
(31 -
باب حسن إسلام المرء)
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: قوله: "فحسن إسلامه"، وكذلك قوله:"إلى سبعمائة ضِعف" يدلان على زيادة الإيمان ونقصه حيث كان الحُسن متفاوتًا، وكذلك تفاوت ما بين أجور الحسنات من العشرة إلى سبعمائة ضعف ينبئ عن ذلك، وكذلك في قوله تعالى من الباب السابق:{لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، دلالة على تفاوت مراتب الإيمان حسب تفاوت مراتب الصلاة في الحسن والقبول، فإن الصلاة لما كانت إيمانًا كان تفاوت درجاتها تفاوتًا في درجات الإيمان ومراتبه، وتفاوت ما بين المصلين مستغن عن البيان، انتهى.
وفي هامشه: قوله: تفاوت ما بين المصلين إلخ، ففي "أبي داود"
(2)
من حديث عمار بن ياسر رفعه: "إن الرجل لينصرف وما كُتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، وثمنها" الحديث، وما أفاده الشيخ من قوله: كان الحُسن متفاوتًا إلخ، كتب في هامش "اللامع": بذلك جزم الحافظ دون العيني، قال القسطلاني
(3)
: قول الحافظ
(4)
: إن الحديث يرد على من أنكر الزيادة النقص في الإيمان؛ لأن الحُسن تتفاوت درجاته، تعقبه العيني
(5)
بأن الحسن من أوصاف الإيمان، ولا يلزم من قابلية الوصف الزيادة والنقص، قابلية الذات، إلى آخر ما ذكره.
وفي "القول الفصيح": ثم لا يخفى أن الصلاة في أوقاتها آية باهرة لحسن إسلام المرء {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الآية [البقرة: 45]، فجاء تعقيب الصلاة بباب حسن إسلام المرء في غاية الحسن واللطافة، انتهى.
قلت: لما ذكر في الباب الأول حرص الصحابة على دينهم وشفقتهم
(1)
"لامع الدراري"(1/ 586).
(2)
"سنن أبي داود"(796).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 219).
(4)
"فتح الباري"(1/ 100).
(5)
انظر: "عمدة القاري"(1/ 374).
على إخوانهم حيث اغتموا على صلواتهم السابقة، وكذا على إخوانهم الذين ماتوا على الصلاة إلى البيت المقدس قبل التحويل، وكذا وقع له نظير ذلك في تحريم الخمر، فنزل:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]، وقوله:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] ذكر هذا الباب، فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها، كذا في "الفتح"
(1)
.
وبسط الكلام في هامش "اللامع"
(2)
على حديث الباب، وفيه الكلام أيضًا على أن الكافر هل يثاب على حسناته إذا أسلم؟ كما مال إليه إبراهيم الحربي من الحفاظ من أصحاب أحمد بن حنبل، وابن بطال، والسهيلي، والقرطبي، وابن المنيِّر من المالكية، وجزم به النووي من الشافعية، قال في "شرح المهذب"
(3)
: والصواب المختار أنه يثاب عليها في الآخرة، وقد نقل الإجماع عليه، ومن أطلق بخلاف ذلك فهو غالط مخالف للسُّنَّة الصحيحة التي لا معارض لها، انتهى.
وهكذا نقل عن اللقاني من الحنفية.
(32 -
باب أحب الدين إلى الله أدومه)
والمراد الدوام على الأعمال، ففيه إطلاق الدين على الأعمال، كذا في "شرح النووي"
(4)
، أو الدوام قابل للقلة والكثرة فهو غرض الترجمة، كذا في "القسطلاني"
(5)
، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 100).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 588).
(3)
"المجموع"(3/ 4).
(4)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 101).
(5)
"إرشاد الساري"(1/ 221).
قال الحافظ
(1)
: مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال؛ لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده، ومناسبته لما قبله من قوله:"عليكم بما تطيقون"، لأنه لما قدَّم أن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة، أراد أن ينبِّه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير مطلوب، وقد تقدم بعض هذا المعنى في "باب الدين يسر"، انتهى.
وفي "اللامع"
(2)
: قوله: "أحب الدين. . ." إلخ، والحب مختلفة مراتبه، فكذا الإيمان لترتبه عليه في الرواية، وباقي المعنى ظاهر.
وفي هامشه: قوله: "أحب الدين"، قال الكرماني
(3)
: أي أحب الأعمال، إذ الدين هو الطاعة، ومناسبة الكتاب من جهة أن الدين والإسلام والإيمان واحد، وقال الخطابي
(4)
: أحب الدين أحب الطاعة، والدينُ في كلامهم الطاعةُ، ومنه الحديث في صفة الخوارج:"يمرقون من الدين"
(5)
، أي: من طاعة الإمام، ويحتمل أن يكون أراد بذلك أحب أعمال الدين بحذف المضاف.
(33 -
باب زيادة الإيمان ونقصانه)
قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(6)
: أراد بذلك الزيادة والنقصان بحسب تزايد المؤمن به وتناقصه، كما يدل عليه قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فإن هذا الإكمال لم يكن إلا إكمال الأحكام والشرائع، وهو حق لا ريب فيه، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقوله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وذلك لأنه كلما نزل حكم آمنوا به، فكانت في إيمانهم زيادة بحسب زيادة
(1)
"فتح الباري"(1/ 101).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 589).
(3)
"شرح الكرماني"(1/ 171).
(4)
"أعلام الحديث"(1/ 174).
(5)
أخرجه البخاري (ح: 3344)، ومسلم (ح: 1064).
(6)
"لامع الدراري"(1/ 591).
الأحكام، وكذلك يراد بقول المؤلف: إنه كلما ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، أن الدين لما كان كاملًا إذ ذاك كان الإيمان بما دونه ناقصًا نسبة إلى ذلك الذي استقر عليه الأمر وقت الإكمال وإن كان كاملًا في نفسه، فلا يلزم نقصان إيمان من مات منهم قبل إكمالها، والله أعلم، وهذا نسبة إلى الإيمان التفصيلي، فلمن آمن بعد إكمال الشرائع مزية على المؤمنين الذين ماتوا قبل الإكمال.
وأما الإيمان الإجمالي، فكلهم سواء فيه حيث آمن الأولون بعين ما آمن به الآخرون، نعم لا ينطبق على هذا المعنى للترجمة ما أورد فيه من الرواية؛ لأنه لا يمكن التفريق والتفاوت بين المؤمنين باعتبار المؤمن به، فكيف يمكن أن يقال في قوله:"أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان"
(1)
: إنه تقليل باعتبار قلة المؤمن به؟ وذلك لأن الإيمان بالبعض دون البعض مما أُمرنا أن نؤمن به عين الكفر، فلا جواب إلا باعتبار التفاوت في الأعمال.
فيكون حاصل الرواية: أن المؤمنين بعد ما آمنوا بما أمروا بالإيمان به، يتفاوتون بينهم تفاوتًا كثيرًا، فمنهم من ليس له من الخير إلا ذرة، ومنهم من له فوق ذلك، فأما إذا عمَّم في الترجمة بحيث يشمل الزيادة والنقصان بحسب الكيفية، والتفاوت بحسب المؤمن به، فالتطبيق بين الترجمة والرواية سهل، فإن مراتب الكيفيات ودرجات التصديق متفاوتة، فمنهم من أشد استيقانًا ومنهم من دون ذلك، إلا أن الكل منهم متصفون بالإيمان المتوقف عليه النجاة من الخلود في النار، وهذه المراتب من الذرة أو ما فوقها فيما فوق ذلك، انتهى.
وبسط الكلام على ذلك في هامشه، وفيه:
قال الحافظ
(2)
: تقدم قبلُ بستة عشر بابًا "باب تفاضل أهل الإيمان في
(1)
أخرج البخاري (ح: 22)، ومسلم (ح: 183، 184)، والنسائي (ح: 5010).
(2)
"فتح الباري"(1/ 103).
الأعمال"، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده ههنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق ترجم لكل من الاحتمالين، وخصَّ حديث أبي سعيد بالأعمال، لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبُرة والذَّرة.
قال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قلَّ علمه كان تصديقه مثلًا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار بُرة أو شعيرة، إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل مؤمن لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة، انتهى.
وقال شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه" ما تعريبه:
لقد ذكر المؤلف رحمه الله في الترجمة الأولى من كتاب الإيمان قوله: "يزيد وينقص"، ثم أوضح تفاوت مراتب الإيمان في التراجم المتعددة بالعناوين المختلفة، وقد تقدم الكلام عليها في مواقعها، والآن هنا ترجم أيضًا بالزيادة والنقصان في الإيمان، ومفهومه أيضًا مفهوم الترجمة الأولى، بل إنه لم يغير العنوان أيضًا فهو تكرار الترجمة بعينها، لذا أقول: إنه قد تقدم في الأبواب السابقة أن المؤلف رحمه الله، أثبت في الباب الأول الزيادة والنقصان في الإيمان الكامل، يعني: مجموعة التصديق والأعمال، وفي هذا الباب يظهر بعد التأمل الشديد أنه أثبت بزيادة الشرائع والأحكام، يعني: الزيادة والنقصان في الإيمان باعتبار المؤمن به، ويمكن تصديق ما قلنا - إن شاء الله - من التعمق والخوض في الآيات والأحاديث المذكورة في الباب.
والحاصل: أن نفس الإيمان والأعمال ومجموعهما، والمؤمن به، لكل من هذه الوجوه أثبت المؤلف التفاوتَ في الإيمان والزيادةَ والنقصانَ فيه في الأبواب المختلفة بالنصوص الصحيحة، وراعى في ذلك الاحتياط واتباع السلف، والله تعالى أعلم، انتهى.
وبسط الكلام في هامش "اللامع"
(1)
على تلك المسألة، وفيه على قول الشيخ قُدِّس سرُّه:"وأما إذا عمَّم في الترجمة. . ." إلخ: وحاصل ما أفاده الشيخ أن الزيادة في ترجمة الباب تَعمّ زيادة المؤمن به كما هو نص آية الإكمال وزيادةَ التصديق القلبي كما مال إليه الحافظ تحذرًا عن تكرار الترجمة، وهذا واضح، وعلى هذا فلا يبقى إشكال تكرار الترجمة، ولا إشكال عدم التوافق بين الترجمة والآية والرواية.
قوله: (في قلبه وزن ذرة من خير) قال السيوطي
(2)
: الذرة الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس، وقيل: النملة الصغيرة، قال ابن بطال: قال المهلب: الذرة أقل الموزونات، وهي في الحديث التصديق الذي لا يجوز أن يدخله النقص، وما في البرة والشعيرة من الزيادة على الذرة فإنما هي زيادة من الأعمال يكمل التصديق بها، وليست زيادة في نفس التصديق.
فإن قيل: لما أضاف هذه الأجزاء التي في الشعيرة والبرة الزائدة على الذرة إلى القلب دلَّ على أنها زائدة من التصديق لا من الأعمال، والجواب: أنه لما كان الإيمان التام إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون بنية وإخلاص من القلب، جاز أن ينسب العمل إلى القلب، إذ تمامه بتصديق القلب، وقد عبَّر عن هذه الأجزاء من الأعمال مرة بالخير ومرة بالإيمان، وكل شائع سائغ.
وقال غير المهلب: ويحتمل أن تكون الذرة وأختاها [التي] في القلب ثلاثتها من نفس التصديق؛ لأن قول لا إله إلا الله، لا يتم إلا بتصديق القلب، والناس يتفاضلون في التصديق، إذ يجوز عليه الزيادة بزيادة العلم لقوله تعالى:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]، وكذا بزيادة المعاينة لقوله تعالى:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
(1)
"لامع الدراري"(1/ 593).
(2)
"التوشيح"(1/ 210)، وانظر:"فتح الباري"(1/ 104).
الْيَقِينِ} [التكاثر: 7]، حيث جعل له مزية على علم اليقين، كذا في "الكرماني"
(1)
.
قلت: ومال إلى الزيادة في نفس التصديق النووي
(2)
، والسيف الآمدي، والصفي الهندي، وصحَّحه الحافظ ابن رجب الحنبلي، وقال: وهو أصح الروايتين عن أحمد بن حنبل، وجمهور المتكلمين على أن نفس التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو المشهور عن الحنفية، وقالوا: لئن سلمنا الزيادة في نفس التصديق فلا نسلم أنه بمقومات الماهية بل بغيرها، وقد صرَّح القاضي عياض بأن هذه المراتب من الشعيرة والبُرة والذرة إنما هي لشيء زائد على مجرَّد الإيمان؛ لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزُّؤ لشيء زائد عليه من عمل صالح، أو ذكر خفي، أو عمل من أعمال القلب من الشفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، أو نية صادقة، والله أعلم.
قوله: (لو نزلت علينا هذه الآية) قال القسطلاني
(3)
في أول "كتاب الاعتصام": قال ابن عباس: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة، وعرفة، وعيد اليهود، والنصارى، والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، انتهى.
وما أورد عليه القاري في "الحظ الأوفر" ليس بوجيه عندي.
وفي هامش "اللامع"
(4)
قوله: "قد عرفنا. . ." إلخ، وفي تقرير مولانا الشيخ محمد حسن المكي رحمه الله تعالى، عن الشيخ الكَنكَوهي قال: يعني: قد جعل الله لنا ذلك اليوم عيدًا، يعني: العيد يكون بجعل الله لا باتخاذنا كما هو زعمكم وفعلكم، انتهى.
(1)
"شرح الكرماني"(1/ 175، 176).
(2)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 103).
(3)
"إرشاد الساري"(15/ 263).
(4)
"لامع الدراري"(1/ 594).
قلت: ويؤيد ذلك ما قال الحافظ في "الفتح"
(1)
في جواب من قال: كيف طابق الجواب السؤال في جواب عمر بمعرفة الوقت والمكان؟ فقال: عندي أن في هذه الرواية اكتفى بالإشارة؛ لأن في رواية الطبري في "التفسير" والطبراني في "الأوسط": "نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد"، وفي أخرى لهما:"وهما لنا عيدان"، وفي "الترمذي" من حديث ابن عباس:"نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة".
قال الحافظ: فإن قيل: كيف دلَّت هذه القصة على ترجمة الباب؟ أجيب: من جهة أنها بيَّنت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة حين تمت الشريعة وأركانها، والله أعلم، وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الحلال والحرام، انتهى.
(34 -
باب الزكاة من الإسلام)
وفي الحاشية الهندية
(2)
: قوله: " {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} "[البينة: 5] أي: المذكور من الأشياء دين الملة المستقيمة، ووجه قيام الآية بالترجمة أن الآية دلَّت على أن الزكاة من الدين، والدين عند الله الإسلام، فيكون الزكاة من الإسلام، كذا في "التوضيح".
قال الحافظ
(3)
: ويأتي فيه ما مضى في "باب الصلاة من الإيمان"، والآية دالة على ما ترجم له؛ لأن المراد بقوله:{دِينُ الْقَيِّمَةِ} دين الإسلام، والقيِّمة المستقيمة، وإنما خص الزكاة بالترجمة؛ لأن باقي ما ذكر في الآية والحديث قد أفرده بتراجم أخرى، انتهى.
قوله: (لا أزيد على هذا. . .) إلخ، اختلف في توجيهه على أقوال بسطت
(1)
"فتح الباري"(1/ 105).
(2)
(1/ 263).
(3)
"فتح الباري"(1/ 106).
في الصيام من "اللامع"
(1)
، والصلاة من "الأوجز"
(2)
.
والأوجه عندي: أن ما سيأتي في صيام البخاري من قوله: "والله لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض"
(3)
ينافي التأويل المشهور من التبليغ، واختلفوا في جوابه أيضًا، والأوجه فيه عندي: أن المقتصر على الواجبات دون الآتي بالتطوعات ناج بلا ريب كما صرح بذلك النووي، وسيأتي في الصيام من كلام الحافظ، ومع هذا لما كانت التطوعات مكملات للفرائض فلا بد من إتيانها، فإن إتيان الصلاة بآدابها وبكمالها عسير جدًا.
وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع يكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ "الحديث، أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي
(4)
، واللفظ له، بسط الكلام على الحديث أيضًا في "الأوجز"
(5)
.
(35 -
باب اتباع الجنائز من الإيمان)
قال الحافظ
(6)
: ختم به المصنف معظم التراجم التي وقعت له في شُعب الإيمان؛ لأن ذلك آخر أحوال الدنيا، وإنما أخَّر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنى سنذكره، انتهى.
قلت: لم نجد ما وعده الحافظ نوَّر الله مرقده من سبب تأخير باب أداء الخمس. . . إلخ فيما وعده، ومثل هذا يقع كثيرًا في "الفتح" أن قدوة
(1)
"لامع الدراري"(1/ 330).
(2)
"أوجز المسالك"(3/ 595).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 1891)، وفيه:"والذي أكرمك، لا أتطوع. . ." إلخ.
(4)
"سنن أبي داود"(ح: 864)، "سنن ابن ماجه" (ح: 1425)، "سنن الترمذي" (ح: 413).
(5)
"أوجز المسالك"(3/ 562).
(6)
انظر: "فتح الباري"(1/ 108).
المحدثين الحافظ ابن حجر نوَّر الله مرقده كثيرًا ما يَعِدُ ذكر بعض الأبحاث في موضع ثم لا نجده فيها، والظاهر أن هذا من قصور تتبعنا، ولا يبعد أنه رضي الله تعالى عنه يريد ذكره، ولما وصل إلى الموضع الموعود نسيه.
(36 -
باب خوف المؤمن أن يحبط عمله)
قال النووي في "شرحه"
(1)
: فيه رد على المرجئة في قولهم الباطل: إن الله تعالى لا يعذب على شيء من المعاصي من قال: لا إله إلا الله، ولا يحبط شيئًا من أعماله، وأن إيمان المطيع والعاصي سواء، وذكر أقوال الصحابة والتابعين الخائفين عن ذلك، انتهى.
وقال القسطلاني
(2)
: لا يقال في الباب تقوية لمذهب الإحباطية القائلين بإحباط الأعمال بالسيئات، وحكموا على العاصي بالكفر؛ لأن مراد المصنف إحباط الثواب فقط، انتهى.
بسط الشيخ قُدِّس سرُّه على هذا الباب في "اللامع"
(3)
كلامًا طويلًا لا يسعه هذا المختصر، وكذا بسط في هامشه في تأييد كلام الشيخ وتوضيح أقوال السلف، وجملة ما قال الشيخ: أشار المؤلف بذلك إلى أن المؤمن ليس من شأنه أن يأمن على نفسه الحبط والكفر، فإن المرء ما دام حيًّا يُخاف عليه الفتنة، فلا بد له من دوام المراقبة.
ثم إن للحبط مراتب: أدناها: أن لا يقع عمله على أفضل ما ينبغي أن يقع عليه، وأوسطها: أن لا يكون له قبول، وأعلى مراتب الحبط: سلب الإيمان والتأدية إلى الكفر، وبحسب هذه المراتب يتفاوت الإيمان قوة وضعفًا، وإن لم يكن لأحد من المؤمنين أمن من مراتب الحبط كلها، إلا أن غالب حاله الكون في مرتبة من تلك المراتب، وبحسبه يختلف اتصافه
(1)
انظر: "مختصر شرح صحيح البخاري" للنووي (ص 115)، وفيه:"ولا يحبط أعماله بشيء من الذنوب".
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 233).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 596).
بالإيمان، وكذلك التشبيه بإيمان جبرئيل لما لم يثبت من الصحابة علم أن بين المؤمنين بحسب إيمانهم تفاوتًا، فمن مؤمن إيمانه في أعلى مراتب اليقين، ومنهم دون ذلك، وكذلك الإصرار على الكبيرة لما كان مفضيًا إلى الكفر وحبط الأعمال كان الأبعد من الإصرار أبعد من الكفر وأقوى إيمانًا ممن هو أقرب إلى الكفر بإصراره على الكبيرة.
والرواية التي أوردها في الباب محمولة على ما وضع عليه الترجمة، فكانت الترجمة بيانًا لما هو المراد بالكفر في الرواية، وإذا خيف على المؤمن حَبْطُ أعماله بأنواعه التي ذكرت فكان الإصرار على الكبائر مفضيًا إلى الكفر كان ذلك ردًّا على المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يضر معه معصية، فكأن الباب مقصود له كما تدل عليه الرواية الموردة في الباب، انتهى.
وقال شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه:
ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب ترجمتين: الأولى: خوف المؤمن، والثانية: ما يحذر، [و] ذكر لإثبات الترجمة الأولى أقوال إبراهيم التيمي وغيره من التابعين، وللترجمة الثانية الآية القرآنية، ثم أورد روايتين يظهر علاقتهما بالترجمة الثانية واضحًا، والظاهر أن الغرض من الترجمة الأولى: هو أن المؤمن ينبغي له أن يكون خائفًا من النفاق، ومن الترجمة الثانية: المقصود فيه صريح وهو التخويف عن المعاصي.
والحاصل: أنه بعد الفراغ من أجزاء الإيمان ومكملاته أراد بيان المفسدات والمضرات الإيمانية، وهي شيئان:
الأول: النفاق، والثاني: المعاصي مع الإصرار بدون توبة. ولما لم يكن في روايات الباب ذكر الإصرار بغير توبة ذكر الآية في الترجمة لإثباته، وحصل إبطال المرجئة أيضًا، والرواية الأولى صريحة في ذلك، انتهى.
وفي "النور الساري": المناسبة بين هاتين الترجمتين بأن الترجمة
الأولى فيه أن يخاف المؤمن من حبط الأعمال، وليس فيه وجه الحبط، ولعل في الترجمة الثانية بيان سبب حبط الأعمال ووجهه، وهو الإصرار على التقاتل والعصيان، ويحتمل أن يقال: إن الترجمة الثانية عام والأولى فرد منها، وإنما أفرد الأولى بالذكر لاهتمام شأنه، والله أعلم، انتهى.
قال الحافظ:
(1)
قوله: "ما يحذر" هذه ترجمة أخرى، فصل بين الترجمتين بآثار لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان فالأول منهما يتعلق بالثانية، والثاني بالأولى، ففيه لف ونشر غير مرتب، انتهى.
قوله: (وهو لا يشعر. . .) إلخ، كأنه أشار إلى مسألة خلافية.
قال النووي: المراد بالإحباط نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر؛ لأن الرجل لا يكفر إلا بما يفعل شيئًا عالمًا أنه الكفر، ورد عليه الكرماني
(2)
، وقال: الجمهور على أنه يكفر بموجب الكفر وإن لم يعلم أنه كفر.
وقال ابن عابدين
(3)
: قال في "البحر": والحاصل: أن من تكلم بكلمة الكفر هازلًا أو لاعبًا كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده، كما صرَّح به في "الخانية"، ومن تكلم بها اختيارًا جاهلًا بأنها كفر ففيه اختلاف، انتهى.
قوله: (ابن أبي مليكة. . .) إلخ، كتب شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه" ما تعريبه: وأما قول ابن أبي مليكة: "ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرئيل وميكائيل"، فالمراد منه أن السلف لم ينقل منهم مثل هذه الكلمات، ويخشى منها المغالطة أيضًا فينبغي الاحتراز عنها، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عند ما قال بذيل تحقيق مسألة الإيمان: إيماني كإيمان جبرئيل، أضاف بعدها: ولا أقول: إيماني مثل إيمان جبرئيل، فسدَّ بذلك باب المغلطة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 111).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 187).
(3)
"رد المحتار"(6/ 358).
والإمام محمد رحمه الله عندما رأى حال الناس فأوضح وقال: لا أقول: إيماني كإيماني جبرئيل، بل أقول: آمنت بما آمن به جبرئيل، ولم يتركوا شيئًا من الاحتياط إلا وأخذوا به، ومن لم يفهم مع ذلك أيضًا فحسيبه الله.
وانظروا الإمام البخاري نفسه مع احتياطه الكامل في مسألة خلق القرآن كم لاقى من مخالفيه ومعترضيه، وما ورد في منقبة القرآن الكريم قوله تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، فقد حصل لهؤلاء الأكابر بسبب الحسَّاد من هذه المنقبة نصيبهم، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(1)
: قال صاحب "الدر المختار"
(2)
في مسألة الطلاق: إن الكاف للتشبيه في الذات، و"مِثْلٌ" للتشبيه في الصفات، ولذا قال أبو حنيفة: إيماني كإيمان جبرئيل لا مثل إيمان جبرئيل، كذا في "البحر".
قال ابن عابدين: لزيادته في الصفة من كونه عن مشاهدة فيحصل به زيادة الاطمئنان، كما أشير إليه في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]، وبه يحصل زيادة القرب ورفع المنزلة، لكن ما نقل عن الإمام هنا يخالفه ما في "الخلاصة" من قوله: قال أبو حنيفة: أكره أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبرئيل، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبرئيل، وكذا ما قاله أبو حنيفة في كتاب "العالم والمتعلم": إن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنَّا بوحدانية الله تعالى وربوبيته وقدرته، وما جاء من عند الله تعالى بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل، فمن ههنا إيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته من عجائب الله ولم نعاينه نحن، ولهم بعد ذلك علينا فضائل في الثواب على الإيمان وجميع العبادات، ولا يخفى أن بين هذه العبارات
(1)
"لامع الدراري"(1/ 600).
(2)
انظر: "رد المحتار على الدر المختار"(4/ 495).
الثلاث تخالفًا بحسب الظاهر، ويمكن التوفيق بحمل الأولى على العالِم، والثانية على غيره لقوله: أكره أن يقول الرجل، والثالثة على ما إذا فصَّل وصرَّح بالمؤمن به وإن كان بلفظ المثلية لعدم الإبهام بعد التصريح، فيجوز للعالم والجاهل، انتهى.
وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
في شرح قول ابن أبي مليكة فقال: وقيل: هذا رد على الإمام الهمام قدوة الأنام أبي حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، فيما قاله من أن إيماني كإيمان جبرئيل، فإن كان الأمر على ما زعمه صاحب القيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل، فإن الإمام رضي الله تعالى عنه لم يرم في مقالته هذه شططًا، ولم يركب فيها زيغًا عن المحجة ولا غلطًا.
أما أولًا: فلأن المقالة المعزية إليه في بعض التصانيف هي هذه: إيماني كإيمان جبرئيل، ولا أقول: مثل إيمان جبرئيل، وقد عُرف الفرق بينهما، فإن الأول: يقتضي مشاركة في أي وصف كان، والثاني يستدعي المماثلة والمساواة، وعلى هذا فلا ضير في تشبيه إيمانه بإيمانه باعتبار اتحاد المؤمَن به فيهما، فإن جبرئيل مؤمن بعين ما آمن به كل مؤمن، فالإيمان الإجمالي يتَّحد منهم أجمعين، وإنما الفرق والتفاضل بحسب تفاصيله، ولم يشبه إيمانه التفصيلي بإيمانه التفصيلي.
وأما ثانيًا: فلأن الإيمان متزايد بتزايد مراتب اليقين ومتناقص بتناقصه، وهذا بعد أن يكون داخلًا في الحدِّ المعتبر شرعًا للإيمان، وأما ما دونه الذي لم يدخل تحت التصديق واليقين فلا كلام فيه، وإنما الكلام ههنا في مراتبه، فنقول: إذا كان المناط في قوة الإيمان وضعفه هو اليقين، فأي استحالة في بلوغ أحد من العباد المؤمنين ما بلغه الملائكة من الإذعان واليقين، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين وإن كان كثيرًا شائعًا إلا أنه
(1)
"لامع الدراري"(1/ 599 - 602).
لا منع عن بلوغ بعض درجات علم اليقين من بعضهم حدًا ينتهي إليه يقين المشاهدة والعيان من الآخرين.
ويؤيده قول علي رضي الله عنه: لو كُشف الغطاء لما ازددت يقينًا، فإن ورد شيء عليه رضي الله تعالى عنه في مقالته هذه لكان وروده مسلمًا على مقالة الإمام أيضًا، إلى آخر ما بسط فيه بستة وجوه في توضيح كلام الإمام الأعظم.
وفي هامشه: أن الإيراد المذكور على الإمام أبي حنيفة منقول عن بعض مشايخ الدرس، ولم يقل أحد من الشرَّاح المعروفين من النووي والكرماني والحافظَين - ابن حجر والعيني - والقسطلاني وغيرهم، أنه ردٌّ على الإمام أبي حنيفة، ويدل على ذلك أيضًا أن المنقول في كلام الإمام البخاري: إيماني كإيمان جبرئيل وميكائيل، وليس لفظ ميكائيل في شيء من الكتب عن الإمام أبي حنيفة، ولا يبعد أن يكون هذا قول أحد من معاصري الإمام البخاري.
(37 -
باب سؤال جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له. . .) إلخ
قال شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه" ما تعريبه:
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في الترجمة ثلاثة أمور:
الأول: سؤال جبرئيل وهي الأسئلة الأربعة، وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأربعة كلها،
والثاني: أمره صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بالإيمان وشرح الإيمان لهم.
والثالث: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
أما مقصود المؤلف رحمه الله من الأمر الأول فقد أوضحه بقوله: "فجعل ذلك كله دينًا" يعني: أن الأصول والفروع، والعقائد والأعمال، والإيمان
والإسلام، والإخلاص والأخلاق، كل ذلك داخل في الدين، وهذه الترجمة الأولى هي غرض المؤلف من التراجم الثلاثة، وهي التي ذكر لها الحديث المسند، فكل الأمور المذكورة في الأبواب السابقة المتفرقة جاءت في هذا الباب الواحد مع بعض الزيادة.
والمراد بالإيمان في هذا الحديث التصديق القلبي، والمراد بقوله:"أن تعبد الله" التوحيد باللسان، وتدخل فيه كلمة الشهادة كما صرَّح العلامة السندي
(1)
.
وفي حديث عبد القيس سمَّى هذه الأمور إيمانًا، وفي الآية الكريمة أطلق على الإسلام دينًا، فثبت بهذه النصوص أن الإسلام والإيمان والدين يصح إطلاق أحدهما على الآخر، والسلف كانوا يحبون اتباع الإطلاقات الواردة في النصوص، ولا يرغبون إلى المباحث الكلامية التي استخرجها المتأخرون، كما صرَّح بها الشرَّاح، فظهر بهذا الباب صحة كل الأبواب السابقة التي وردت فيها مثل هذه الإطلاقات، والله تعالى أعلم.
قوله: (كأنك تراه. . .) إلخ، أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"
(2)
إذ كتب: وهذا جامع لمراتب الإحسان، فكلما زادت المراقبة حسن الإحسان، وقوله الآتي:"فإن لم تكن تراه فإنه يراك" بيَّنه الشارحون بحيث يكون مرتبته أدوَن من التي قبلها، فقالوا: وإن لم تقدر على ذلك فاعبده كأنه يراك، وهذا بعيد.
أما أولًا: فلأن المراقبة في ذلك أشد؛ لأنه تبارك وتعالى لما كان ناظرًا إليه ورائيًا حاله، وراقب العبد ذلك، اشتد أمر الإحسان وزاد فيه، لا أنه يكون مرتبة دونى
(3)
نسبة إلى الأولى.
وأما ثانيًا: فلأن المناسب حينئذ هو أن يقال: كأنه يراك، وهذا غير
(1)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 18).
(2)
"الكوكب الدري"(3/ 340 - 342).
(3)
مؤنث دون.
صحيح، بل الرؤية منه سبحانه محققة قطعيَّة، إلا أن يقال: المقصود أنه تعالى وإن كان رائيًا حاله إلا أن الواجب على العابد مراعاة رؤيته، والمراعاة غير محققة قطعًا، ومع ذلك ففيه بُعد كما لا يخفى، فقوله هذا ليس دليلًا إلا على القول الأول، يعني: أن المرء إذا استبعد رؤيته الرب تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه؛ لأنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فكيف تغفل [عنه]؟ وكيف تصلي وقلبك في مكان وجسمك في مكان؟ وكيف تسبِّح الله بلسانك وقلبك مشغول بفلان وفلان؟ انتهى.
وذكر القسطلاني ههنا كلامًا دقيقًا مفيدًا فقال
(1)
: هذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، إذ هو شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة، ويتضح ذلك بأن تعرف أن للعبد في عبادته ثلاث مقامات:
الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف باستيفاء الشرائط والأركان.
الثاني: أن يفعلها كذلك وقد استغرق في بحار المكاشفة حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه صلى الله عليه وسلم كما قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"
(2)
، لحصول الاستلذاذ بالطاعة والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب واشتغال السر به، ونتيجة نسيان الأحوال من المعلوم واضمحلال الرسوم.
الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا هو مقام المراقبة، وقوله:"فإن لم تكن تراه" نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي: إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية فاعبده وأنت بحيث إنه يراك، وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول؛ لأن الإحسان بالآخرين من صفة
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 241).
(2)
"سنن النسائي"(ح: 3950).
الخواص ويتعذر من كثيرين، وإنما أخَّر السؤال عن الإحسان لأنه صفة الفعل أو شرط في صحته، والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط، قاله أبو عبد الله الأبي، انتهى.
وبسط الكلام على معناه على طريق الصوفية في "الأَمم لإيقاظ الهمم" في أسانيد الكردري.
إلى هنا انتهى استماع تراجم البخاري في المدينة المنورة يوم الخميس في الخامس والعشرين من أول الربيعين، سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف، ثم بُدئ بعد الرجوع إلى سهارنفور يوم الجمعة في السادس عشر مضت من آخر الربيعين.
(38 -
باب)
بغير ترجمة، قال شيخ الهند نوَّر الله مرقده في "تراجمه" ما تعريبه: ذكر المؤلف ههنا بابًا بدون ترجمة، وذكر فيه جزءًا مختصرًا من حديث هرقل المذكور مطولًا في بدء الوحي، وهو قوله:"سألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوبَ لا يسخطه أحد"
(1)
.
وقد ذكر الشرَّاح الكرام في هذا أقوالًا مختلفة وهي موجودة في شروحهم، والمناسب المفيد في رأينا بأن المؤلف رحمه الله تعالى، قد أخاف من النفاق والحبط قريبًا في "باب خوف المؤمن. . ." إلخ، حتى إنه ذكر أن الاعتماد على إيمان نفسه من علامات النفاق، فأراد الآن مكافأة لذلك أن يبين أن الذي يرسخ في قلبه الإيمان مرة وينشرح صدره فهو مأمون العاقبة إن شاء الله، ولا يحصل الخلل في إيمانه، ولا يرتد إلا من لم يثبت
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 7).
الإيمان في داخل قلبه، وبعد شرح الصدر يأمن من الارتداد أيضًا بإذن الله، لكن المؤلف لم يصرح بذلك احتياطًا وسدًّا للذريعة، ولا يبعد أنه فعل ذلك لغرض التشحيذ والاحتياط.
فالآن لو جعلت ههنا ترجمة جديدة كما ذكرنا في الأصول بذيل الأبواب بدون التراجم فالأحسن أن نجعل آية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، أو آية:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]، ترجمة، فإنه يناسب المقام ونهج المؤلف.
ثم إنه ذكر في كلام هرقل لفظة: "وكذلك الإيمان" في موضعين، والمراد به في الأول: الدين، وفي الثاني: التصديق القلبي، فما أثبته المؤلف في الباب السابق يؤيده قول هرقل ههنا، وبهذا يمكن أن نعد هذا الباب من متعلقات الباب السابق أيضًا، ويمكن أن يكون هذا أيضًا في نظر المؤلف، وصار تعدد الفوائد موجبًا لترك الترجمة، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى.
وهذا الباب ذكره شيخ الهند في الجدول الرابع في الأبواب الخالية عن التراجم ورقم عليه نقطة واحدة، وقد تقدم أن النقطة الواحدة إشارة إلى أن حذف الترجمة للتمرين وتشحيذًا للأذهان.
وقال الحافظ
(1)
: هكذا بلا ترجمة في رواية كريمة وغيرها، وسقط الباب من رواية أبي ذر وغيره، ورجّح النووي الأول قال: لأن الترجمة السابقة - يعني: سؤال جبرئيل - لا يتعلق بها هذا الحديث، فلا يصح إدخاله فيه، قال الحافظ: نفي التعلق لا يتم بهذا؛ لأن الباب بلا ترجمة كالفصل للسابق، فلا بد له من تعلق فيقال: إنه يتعلق بقوله في الترجمة السابقة: "وجعل ذلك كله دينًا"، فسمَّى الدين إيمانًا في حديث هرقل، فيتم مراد المصنف بكون الدين هو الإيمان، انتهى.
وأجاب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
عما يرد على الإمام البخاري
(1)
"فتح الباري"(1/ 125).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 605).
أنه كيف استدل بقول هرقل وهو كافر بأنه صار حجة لتقرير عليه الصلاة والسلام؛ لأن الظاهر أن أبا سفيان حكاه بحضرته، انتهى.
وأجاب الحافظ
(1)
: بأنه قاله عن استقراء كتب الأنبياء، وأيضًا قاله بلسانه الرومي، وعبَّر عنه أبو سفيان بلسانه العربي، وألقاه إلى ابن عباس - وهو من علماء اللسان - فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظًا ومعنى، انتهى.
(39 -
باب فضل من استبرأ لدينه)
أفاد شيخ الهند نوَّر الله مرقده أن المصنف خَوّف أولًا من الإصرار عن المعاصي، فترقَّى منه إلى درجة أخرى فوق الأولى، وهي الاحتراز عن المشتبهات لحفظ الدين مع ما فيه من إشارة لطيفة إلى أنه لا ينبغي أن يرتكب أحد المعاصي اعتمادًا على التوبة، انتهى.
وفي "اللامع"
(2)
: والاستبراء متفاوت فيتفاوت الإيمان.
وفي هامشه: قال الحافظ:
(3)
كأن المصنف أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان، ولهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان، إلى آخر ما فيه، ويحتمل أن المصنف أراد بذلك تعليم طريق الإحسان بأنه يحصل بمراعاة أحوال القلب والاحتراز عن الشبهات قاصدًا بذلك اتباع الدين لا كما يفعله من لا دين عنده من الجوكَية وغيرهم، ويكون الباب أيضًا كالتكملة لما تقدم، والله أعلم.
قوله: (ألا وهي القلب) قال القسطلاني
(4)
: وهو محل العقل عندنا، وهو قول جمهور المتكلمين خلافًا للحنفية، انتهى.
قلت: واختلف في محل العقل، فقال جمهور الفلاسفة ورئيسهم
(1)
"فتح الباري"(1/ 126).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 607).
(3)
"فتح الباري"(1/ 126).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 248).
أرسطو: إنه القلب، وبه قال القاضي أبو زيد الدبوسي وشمس الأئمة السرخسي وأحمد في رواية، وترجم البخاري في "الأدب المفرد"
(1)
"باب العقل في القلب" وأخرج بسند حسن عن عياض بن خليفة عن علي رضي الله عنه أنه سمعه بصفين يقول: إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة.
وذهب الأطباء إلى أن محله الدماغ، ويُحكى عن أبي حنيفة ومالك ومحمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد، وبه قال أبو المعين النسفي الحنفي، وعزاه صدر الإسلام إلى عامة أهل السُّنَّة والجماعة.
وسبب نقل هذا القول عن أبي حنيفة ومالك ومحمد ما قالوا فيمن ضرب رأس رجل فأفسد عقله أن فيه الدية، وأجاب عنه ابن أمير الحاج الحنفي بأنه لا يمتنع زوال العقل وهو في القلب لفساد الدماغ لما بينهما من الارتباط، كما لا يمتنع عدم نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين لما بينهما من الارتباط، وبنحوه أجاب أبو عبد الله الأبي المالكي، وقد نقل ابن تيمية عن طائفة من أصحاب أحمد أن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ، والله أعلم.
(40 -
باب أداء الخمس من الإيمان)
وفي "تراجم شيخ الهند": لقد مرَّت مثل هذه الأبواب بكثرة في مواضع مختلفة، ولا يظهر في هذا الباب جديد أمر، بل غاية ما في الباب أن يكون قد أشار بلفظ الأداء إلى أنه كما مر "الصلاة من الإيمان" و"الزكاة من الإسلام" وغيرهما من الأبواب، يضاف إليها لفظ مناسب كلفظ الأداء ههنا، ولذا ترى أن حديث عبد القيس المذكور في هذا الباب ذكر في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان صراحة، والله أعلم.
(1)
"الأدب المفرد"(ص 238، رقم: 547).
ثم اعلم أن الحافظ ابن حجر وعد في "باب صلاة الجنائز من الإيمان" أنه يذكر وجه تأخير هذا الباب عن الباب المذكور في هذا الباب، ولم أجد هذا في كلامه، وقد يوجّه - والله أعلم - أن الخمس يؤخذ من الغنائم، وحصولها لا تخلو عن سبق شهادة لرجل مجاهد، فكأن هذا الحال بعد الموت وأقرب أحوال الموت التي تكون بعده صلاة الجنازة، فلذا أخَّر عنه هذا الباب، ولكن لا يخفى أنه كان ينبغي على هذا أن يؤخِّر "باب الجهاد من الإيمان" أيضًا، فإنه لا تخلو عن موت وشهادة عادة، إلا أن يجاب بأن الجهاد سابق على صلاة الجنائز، وقسمة الغنائم يؤخر عن صلاة الجنازة لأنها مما أمر بالإسراع إليها بخلاف قسم الغنيمة، والله أعلم.
وفي "اللامع"
(1)
: قوله: "أن تعطوا من المغنم الخمس" أدخله في الإيمان، فعلم زيادة الإيمان بزيادة الأعمال، وهذا على رأي من جعل الأمور المذكورة تفسيرًا للإيمان، وأن الثلاثة الباقية غير مذكورة ههنا، والمذكورة تفسير للإيمان الذي هو أحد الأربعة، انتهى.
وبسط في هامشه اختلافهم أن هذه المذكورة تفسير للإيمان أو غيره.
قوله: (أقم عندي) ذكر بين سطور الكتاب: لأنه كان يترجم لابن عباس الفارسية، انتهى.
والأوجه عندي: أن ذلك لرؤيا رآها أبو جمرة كما سيأتي النص بذلك في "كتاب الحج" في "باب التمتع والإقران" بلفظ: "قال لي: أقم عندي فأجعل لك سهمًا من مالي، قال شعبة: فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت"
(2)
، وستأتي الرؤيا في الباب المذكور.
قوله: (فأمرهم بأربع) فيه إشكال معروف أن المفسر خمسة.
وأجيب في هامش "اللامع"
(3)
عن هذا الإشكال بسبعة وجوه
(1)
"لامع الدراري"(1/ 607).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 1567).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 607).
مبسوطة، وهكذا في "الكوكب"
(1)
وهامشه، وما سيأتي من الروايات المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم عقد واحدة على شهادة أن لا إله إلا الله تعيّن أنها واحدة كما سيأتي في "باب وجوب الزكاة"، ومن "كتاب الجهاد" في "باب أداء الخمس من الدين"، وفي "باب عبد القيس" من "كتاب المغازي"، ويشكل عليه ترجمة الإمام البخاري، وأجاب عنه ابن رُشيد: بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء منها: أداء الخمس والأعمال التي تدخل بها الجنة هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان، ويشكل على الحديث أيضًا عدم ذكر الحج فيه، وأجيب عنه أيضًا بأجوبة ذكرت في هامش "اللامع" منها: أنه لم يكن فرض حينئذ، واعتمده الحافظ ابن حجر
(2)
.
(41 -
باب ما جاء أن الأعمال بالنية)
اختلفوا في غرض الترجمة، قال ابن بطال: غرض البخاري الرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان هو القول باللسان دون عقد القلب، كذا نقله الكرماني
(3)
.
وذكر شيخ الهند ما تعريبه: ذكر المؤلف رحمه الله تعالى بابين بعد الفراغ من الإيمان والأعمال والاجتناب عن المعاصي، وجملة الأمور المتعلقة بالإيمان، والظاهر أن غرضه من الباب الأول أن جملة أعمال الخير المذكورة سابقًا - ويدخل فيه الإيمان أيضًا - مدارها على النيَّة الخالصة لوجه الله تعالى، وكذا الاجتناب من المعاصي وترك المنكرات المطلوب منه ما كان ابتغاءً لوجه الله، وبدون النية الصالحة الصادقة لا يفيد أي عمل ولا يعد من الطاعات، فإن الاهتمام بالنية أهم من كل الأمور، والله أعلم.
(1)
"الكوكب الدري"(3/ 345 - 347).
(2)
"فتح الباري"(1/ 133).
(3)
"شرح الكرماني"(1/ 214).
وأفاد الحافظ وتبعه القسطلاني
(1)
وغيره: أن كون الإيمان محتاجًا إلى النية إنما هو على رأي البخاري من أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نيَّة كسائر أعمال القلوب من خشية الله وعظمته والتقرب إليه؛ لأنها متميزة لله تعالى فلا تحتاج لنية تميزها؛ لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى عن العمل لغيره رياءً، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحِمْية، ويظهر من كلام العلامة السندي
(2)
أن هذا الباب ذكره البخاري استطرادًا فإنه قال: وكأنه ذكره ههنا لتعلق النية بالقلب الذي هو محل الإيمان، انتهى.
وفي "اللامع"
(3)
: قوله: إن الأعمال بالنية، يعني: بذلك ثوابها، انتهى.
وفي هامشه: لله در الشيخ ما أجاد في هذه الجملة وملأ بحرًا عميقًا في كوزة، فأشار بالكلمة الواحدة إلى أبحاث طويلة، والمعنى: أن الإمام البخاري يريد بهذا الباب أن ثواب الأعمال بالنية كما هو رأي السادة الحنفية - شكر الله سعيهم - فإنهم قالوا: إن الثواب منوط بحسن النية، ولا يثاب الرجل على عمل بدونه، وهو الذي أراد الإمام البخاري ههنا، ولذا فسَّر النية بالحسبة.
ولله در الحنفية إذ فرقوا في الأعمال فقالوا: الأعمال التي هي عبادة محضة لا تصح بدون النية؛ لأن الأجر هو المقصود منها، والأعمال التي فيها معنى آخر غير التعبد تصح بدون النية كالوضوء وغيره، ألا ترى أن الوقف والعتق وغيرهما تصح من الكافر ولا نية له أصلًا.
قال الحافظ
(4)
: المراد بالحسبة طلب الثواب، وأيَّد الإمام البخاري
(1)
"فتح الباري"(1/ 135)، "إرشاد الساري"(1/ 254).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 20).
(3)
"لامع الدراري"(1/ 610).
(4)
"فتح الباري"(1/ 135).
مراده بالآية بقوله: "شاكلته: نيته"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة"، ولذا ذكره في الترجمة تنبيهًا على مقصده، ثم ذكره في الروايات حجةً وإثباتًا لمرامه، ولا يمكن أن يراد في هذا الباب صحة الأعمال لحديث النفقة، أفترى من أنفق على أهله رياءً وفخرًا أفلا تسقط عنه النفقة الواجبة؟
وأما اختلاف العلماء في صحة الأعمال على النية، فبمعزل عن هذا الباب يشير إليه الإمام البخاري في مواضعها، فإن الإمام ذكر حديث الأعمال بالنيات في سبعة مواضع من "صحيحه" كما تقدم ذكرها، فيظهر من النظر على هذه المواضع كلها أن المصنف يستدل بها تارة على الحسبة وأخرى على صحة الأعمال، وأراد ههنا الحسبة انتهى. وإليه أشار الشيخ.
وقال العيني
(1)
: المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو الأعمال التي يدخل بها العبد الجنة، ولا يكون العمل عملًا إلا بالنية والإخلاص، فلذا ذكر هذا الباب عقيب الباب المذكور، انتهى.
والفروع التي أشار إليها البخاري في الترجمة خلافية شهيرة بسطت في محلها، وجملتها أن قوله:(والوضوء) أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح، وخالفهم الجمهور.
(والصلاة) لا خلاف في اشتراط النية فيها.
(والزكاة) قال النووي في "شرح المهذب": لا يصح أداء الزكاة إلا بالنية في الجملة، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وإنما الخلاف في صفة النية وتفريعها، وبوجوبها قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وأبو ثور وجماهير العلماء، وشذ عنهم الأوزاعي وقال: لا تجب ويصح أداؤها بلا نية، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(1/ 455).
(والحج) لا خلاف في اشتراط النية في الحج في الجملة، إلا فيمن نوى عن غيره ولم يحج بنفسه يقع عنه لحديث ابن عباس في قصّة رجل لَبّى عن شبرمة، أخرجه أصحاب السنن
(1)
، قال ابن رجب: أخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور أن حج الإسلام تسقط بنية الحج مطلقًا، سواء نوى التطوع أو غيره، لا يشترط للحج تعيين النية، انتهى.
(والصوم) أشار به إلى خلاف من زعم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زفر، كذا في "الفتح"
(2)
.
(والأحكام) قال الحافظ
(3)
: أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج، أي: المحاكمات، فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيره، وكل صورة لم تشترط فيها النية فذاك لدليل خاص، ثم ذكر عن ابن المنيِّر ضابطًا لما يشترط فيه النية مما لا يشترط.
(42 -
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. . .) إلخ
قال شيخ الهند نَوَّرَ الله مرقدَه: نقل المؤلف رحمه الله في هذا الباب روايتين عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وورد في الأولى منهما:"الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وفي الثانية:"والنصح لكل مسلم" فقط، ولكن الرواية الأولى لما لم تكن على شرط المؤلف جعلها المؤلف حسب عادته ترجمة، وذكر الرواية الثانية مسندة، وما نقص أكمله بالآية.
وغالب الظن أن غرض المؤلف الأصلي في هذا المحل بيان "والنصح لكل مسلم"، وهو مذكور في الروايتين المرويتين في الباب، والمقصود أن النصح والإخلاص مع المسلمين داخل في الدين والإسلام، وترك النصح موجب للخلل والنقصان، وظهر عنه مضرة الغش وخداع المسلمين، ولذا
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 1811)، و"سنن ابن ماجه"(ح 2903).
(2)
"فتح الباري"(1/ 136).
(3)
"فتح الباري"(1/ 136).
ينبغي الاهتمام به أيضًا مع جملة الأمور الإيمانية، فالنصح لله ولعباده المؤمنين، وتصحيح المعاملة معهما من كمال الإيمان، والله الموفق.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: "الدين النصيحة" وهي متفاضلة فيتفاضل الدين وهو الإيمان، انتهى.
وفي هامشه: نبَّه الشيخ بذلك على مناسبة الباب بكتاب الإيمان.
وقال الكرماني
(2)
: هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام، وبسط الكلام على ذلك في هامش اللامع تحت حديث جرير.
وفي "تحفة القارئ" للأعز المحترم مولانا محمد إدريس الكاندهلوي: ختم الكتاب بباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، وأورد فيه حديثًا جامعًا لحقوق الله تعالى وحقوق رسوله وحقوق المسلمين، وشاملًا لجميع أمور الدين وشُعب الإيمان إجمالًا، فأشار البخاري إلى أن النصيحة شعبة عظيمة من شعب الإيمان إلى آخر ما بسطه، وتقدم شيء من ذلك في أول الكتاب تحت حديث "إنما الأعمال بالنيات".
وأفاد العزيز المولوي محمد يونس - سَلّمه - في وجه تأخير هذا الباب: أن المصنف لعله لَمَحَ بتأخير هذا الباب عن الأبواب الباقية إلى أنه كأنه يقول: كل ما أوردت في هذا الكتاب من المسائل الإيمانية من أنه مركب من قول وعمل، ويزيد وينقص، وغير ذلك، إنما أردت به النصيحة لله ولرسوله وللمسلمين امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقصد محض الرد على أحد، بل كان مقصودي بذلك بذل المجهود في النصح للمسلمين، والله أعلم.
قوله: (حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المتوفى المغيرة.
(فإنما يأتيكم الآن) والمراد زياد، إذ وَلّاه معاويةُ بعدَ وفاةِ المغيرة الكوفةَ، أو المراد الآن حقيقة، فيكون المراد جريرًا نفسه إذ وَلّاه المغيرة
(1)
"لامع الدراري"(1/ 612).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 217).
عند موته، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
وفي "اللامع"
(2)
: إنما أمرَهم بالتقوى؛ لأن خلو البلد عن أمير أدعى لهم إلى الفساد وارتكاب المعاصي لعدم من يقيم الحدود والتعازير، فأوصاهم بتقوى الله لذلك.
وفي هامشه: كان المغيرة واليًا على الكوفة في خلافة معاوية، وكانت وفاته سنة خمسين من الهجرة، واستناب عند موته ابنه عروة، وقيل: استناب جرير المذكور، ولهذا خطب الخطبة المذكور
(3)
، انتهى.
وقوله: "الآن" منصوب على الظرفية.
قال الكرماني
(4)
: إما أن يريد به حقيقته فيكون ذلك الأمير جرير نفسه، أو يريد به المدة القريبة من الآن، فيكون ذلك الأمير زيادًا، إذ ولَّاه معاويةُ الكوفةَ، انتهى مختصرًا.
وقال الكرماني: "الوقار" - بفتح الواو -: الحلم والرزانة، (والسكينة): السكون والدعة، و (باتقاء الله) إشارة إلى ما يتعلق بمصالح الدين، والوقار والسكينة إلى ما يتعلق بمصالح الدنيا، وإنما نصحهم بالحلم والسكون لأن الغالب أن وفاة الأمير تؤدي إلى الفتنة والاضطراب من الناس والهرج والمرج، وذكر الاتقاء لأنه ملاك الأمر ورأس كل خير، انتهى.
وتقدم الكلام في المقدمة على براعة الاختتام في آخر كل كتاب، وهي ههنا عند الحافظ في قوله:(ثم استغفر ونزل) فإن النزول إشارة إلى انقراض الخطبة وختمها.
والأوجه عندي: في ذكر موت الأمير، فإن الموت يذكِّر الموت.
* * *
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 262).
(2)
"لامع الدراري"(1/ 613، 614).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 139).
(4)
"شرح الكرماني"(1/ 220).
3 -
كتاب العلم
قال الكرماني
(1)
: إنما قدَّم هذا الكتاب على سائر الكتب التي بعده؛ لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم، وإنما لم يقدم على الإيمان لوجوبه أولًا أو لشرفه عن العلم، انتهى.
أو لأن العلم المعتبر هو المرتب على الإيمان، وإلا فهو أشد من الجهل:
علم كه راهِ حق نه نمايد جهالت است
وأما تقديم كتاب الوحي فلتوقف معرفة الإيمان وجميع ما يتعلق بالدين عليه، أو لأنه أول خير نزل من السماء إلى هذه الأمة، انتهى من هامش "اللامع"
(2)
بزيادة.
قال القاري في "المرقاة"
(3)
والعلم نور في قلب المؤمن مقتبس من مشكاة النبوة من الأقوال والأفعال والأحوال، يهتدي به إلى الله وصفاته وأفعاله وأحكامه، فإن حصل بواسطة البشر فهو كسبي، وإلا فهو العلم اللدُنِّي المنقسم إلى الوحي والإلهام والفراسة.
فالوحي لغةً: إشارة بسرعة، واصطلاحًا: كلام إلهي منزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإلهام لغة: الإبلاع، وهو علم حق يقذفه الله من الغيب في قلوب عباده {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48].
(1)
"شرح الكرماني"(2/ 2).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 1).
(3)
"مرقاة المفاتيح"(1/ 445).
والفراسة: ينكشف من الغيب بسبب تفرس آثار الصور، "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"
(1)
، فالفرق بين الإلهام والفراسة أنها كشف الأمور الغيبية بواسطة تفرس آثار الصور، والإلهام كشفها بلا واسطة، والفرق بين الإلهام والوحي أنه تابع للوحي من غير عكس، انتهى.
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)
هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر تقديم البسملة، وقدَّمنا وجهه في كتاب الإيمان، يعني: أن الثاني ظاهر، ووجه الأول أن الكتاب بمنزلة اسم السورة، والأحاديث بمنزلة الآيات، انتهى من "الفتح"
(2)
.
(1 -
باب فضل العلم)
قال القاضي أبو بكر بن العربي: بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب، وكل من القدرين ظاهر؛ لأن البخاري رحمه الله لم يضع كتابه لحدود الحقائق وتصورها، بل هو جار على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدأون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة، كذا في "الفتح"
(3)
.
قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(4)
: وفضله بالآيتين ظاهر حيث أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الزيادة منه، وجعل العلم سببًا لرفع درجات العلماء، ثم إن تركه الحديث إما للإشارة إلى استنباط المسائل بالآيات، أو لعدم خطوره بباله حينئذ، ولا يبعد أن يقال على ما يخطر بالبال، والله أعلم بحقيقة الحال: إن الرواية الموردة في الباب الثاني يثبت ما هنالك، وإيراد الباب فيما بين ذلك إثبات لفائدة جديدة كما ظهر من عادة المؤلف في تراجم
(1)
أخرجه الترمذي (ح: 3127).
(2)
"فتح الباري"(1/ 140).
(3)
"فتح الباري"(1/ 140).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 1 - 5).
عديدة، والذي يُثبِت المدعى هو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"
(1)
؛ لأنه موقوف على تبين مراتب الأمور وأهاليها، وتوقفه على العلم ظاهر، وكان حاصل المعنى: أن بقاء العالم بحذافيره موقوف على توسيد الأمور إلى أهلها، وهو موقوف على العلم، فكان فضل العلم بقاء نظام العالم، انتهى.
وبسط في هامش كلام الشرَّاح في وجوه عدم ذكر الحديث من عدم وجدان الحديث على شرطه، أو بيَّض له المؤلف ليُلحق فيه ما يناسبه فلم يتيسر له.
وقيل: ذكر فيه ههنا حديث ابن عمر الآتي بعد "باب رفع العلم"، ويكون وضعه هناك من تصرف الرواة، قال الحافظ
(2)
: فيه نظر، أو أشار إلى ما ورد في تفسير الآيتين من الأحاديث ولم تكن على شرطه، أو إلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوى به طريق المرفوع وإن لم يصل في القوة إلى شرطه، وتقدم الكلام على الأبواب الخالية عن الحديث في الفائدة الرابعة من الفصل الثالث في أصول التراجم.
وقال شيخ الهند نوَّر الله مرقده في "تراجمه": لم يذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب حديثًا مسندًا، بل اكتفى بذكر الآيتين وتكفي لإثبات الترجمة كل آية منهما على حدة كما مرَّ في الأصول، انتهى.
قلت: وهو الأصل التاسع من أصول شيخ الهند، وهو الأصل السابع والعشرون من الأصول المذكورة في المقدمة، ثم قال الشيخ: ثم إنه توجد في كتاب العلم في مواضع مختلفة الأحاديثُ المسندةُ الدالةُ على فضل العلم، وهي كلها داخلة في الباب المذكور، انتهى.
قلت: وهذا هو الأوجه عندي، لأن فضل العلم يثبت من الأحاديث الكثيرة الواردة في الباب بأنواع شتى، فلو ذكر في الباب حديثًا واحدًا أوهم
(1)
أخرجه البخاري (ح: 59 - 9496).
(2)
"فتح الباري"(1/ 141).
تخصيصه بهذا الحديث، وهذا هو الوجه عندي في أمثال هذه الأبواب أن الإمام البخاري لا يذكر الحديث قصدًا تشحيذًا للأذهان.
ثم لا يذهب عليك أن الإمام ترجم بهذه الترجمة في موضعين: الأول ههنا، والثاني قريبًا بعد "باب رفع العلم وظهور الجهل"، وسيأتي الكلام على تكرار الترجمة هناك.
ثم اختلف العلماء في أفضل الأعمال بعد الفرائض، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الاشتغال بالعلم أفضل من النوافل بعكس ما قال الشافعي على المشهور عنه، وعن أحمد روايتان: إحداهما في فضل العلم، والأخرى في فضل الجهاد، وهو المعروف عنه كما بسط في هامش "اللامع"
(1)
في أول كتاب الجهاد، وما ورد في الروايات من اختلاف في أفضل الأعمال محمول على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات كما بسطته في رسالتي في أفضل الأعمال.
(2 -
باب من سئل علمًا. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: أفاد بذلك أن جواب المستفتي لا يجب على فور مسألته ما لم يخف فوات وقته، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ: محصِّله التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلِما تضمَّنه من ترك زجر السائل بل أدبه بالإعراض عنه أولًا حتى استوفى ما كان فيه، ثم رجع إلى جواب، وأما المتعلم فلما تضمَّنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره، وبوَّب عليه ابن حبان "إباحة إعفاء المسؤول عن الإجابة على الفور"، لكن سياق القصة يدل على أنه ليس على الإطلاق.
وفي "تراجم شيخ المشايخ" الشاه ولي الله: غرض الإمام من عقد هذا
(1)
"لامع الدراري"(7/ 209).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 6).
الباب على ما استفدنا من شيخنا - دام ظلّه - أن تأخير جواب السائل لإتمام الحديث ليس من باب كتمان العلم، بل الكتمان عدم الإجابة مطلقًا، أو تأخيرها بشرط فوات وقتها
(1)
، انتهى.
وكتب شيخ الهند ما تعريبه: والمراد أن الجواب على الفور ليس بلازم، بل يمكن أن يجيب بعد الفراغ من الحاجة اللاحقة به، ثم إنه قد وردت الممانعة في بعض الروايات عن قطع حديث أهل المجلس كما في البخاري عن ابن عباس، فعرف من هذا الباب أن الممانعة حيث يقع الحرج أو يخشى السآمة على أهل المجلس يجوز الكلام المختصر للحاجة، وثبتت هذه الإجازة من تقريره صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
(3 -
باب من رفع صوته. . .) إلخ
سكت الشرَّاح عن غرض المصنف، والظاهر أنه أراد التنبيه على أدب المعلم أيضًا بأن يرفع صوته متى يحتاج ليسمع كلهم، ولا يدندن حتى لا يفهم، ويحتمل أنه أراد إثبات ندبه لما أنه وقع في عدة روايات من مدح غض الصوت والنكير على الصخب.
وحكى الحافظ
(2)
عن ابن المنيِّر
(3)
أنه قال: في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يريد أن يبلغ الغاية في تدوين هذا الكتاب، بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه، وكذلك فعل رحمه الله تعالى، انتهى.
وكتب الشيخ قُدّس سرُّه في "اللامع"
(4)
: لما كان رفع الصوت وإشادتها يُعد عيبًا في العرف، وقد ورد عنه النهي في الشرع، قال الله تعالى حكاية عن لقمان:{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، فكان فيه مظنة أن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 41).
(2)
"فتح الباري"(1/ 143).
(3)
كذا في الأصل، وهو سبق قلم، والصواب:"ابن رُشيد" كما في "الفتح".
(4)
"لامع الدراري"(2/ 7، 8).
يتوهم عدم الجواز، فعقد الباب لإثبات أنه جائز ضرورة إخبار البعداء.
وفي هامشه: وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: مقصود المؤلف أن كونه صلى الله عليه وسلم ليس بصخاب، المراد نفي كونه صخابًا في اللهو واللعب لا في إفادة العلم، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": إن الجهر المفرط لما لم يكن لائقًا بشأنه صلى الله عليه وسلم، ولا بشأن أهل العلم، نَبَّهَ بذلك على أنه لا بأس به عند الحاجة إليه، بل يندب بقدر الضرورة، وإنما المنكَر منه ما كان على جهة التجبر والتكبر أو قلة المبالاة.
(4 -
باب قول المحدث: أخبرنا. . .) إلخ
تنبيه على مسألة أصولية خلافية معروفة، والجمهور منهم الأئمة الأربعة وأكثر الحجازيين والكوفيين على أن لا فرق بينها، وإليه مَيل المصنف إذ ذكر قول ابن عيينة لا غير، ومنهم من فرَّق بينها كما هو مذهب الشافعي وأكثر أهل المشرق من تخصيص التحديث بلفظ الشيخ، والإخبار بلفظ التلميذ، والإنباء بالإجازة، كما بسطه الحافظ في "الفتح"
(2)
.
وفي "اللامع"
(3)
: يعني بذلك أن كل هذه الألفاظ تبين استعمالها في القدماء، وأنهم لا يبالون أيّ هذه الألفاظ تلفظوا، فكان إطلاق أحد الألفاظ جائزًا في محل الآخر لثبوته [بالسُّنَّة]، فأما ما فيها من الفرق الاصطلاحي فلعل أحدًا لا ينكره فضلًا عن المؤلف، فكان حاصل مقالته ههنا: جواز أن يستعمل أحدها في محل الآخر شرعًا، وإن كان الأَولى هو الفرق كما هو المصطلح عليه، إلى آخر ما في "اللامع".
وبسط في هامشه كلام الشرَّاح في ذلك وأسماء من لم يفرقوا بين هذه
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 42).
(2)
"فتح الباري"(1/ 145).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 8، 9).
الصيغ، ومنهم الأئمة الأربعة، حتى قال الطحاوي: لم نجد بين الحديث والخبر فرقًا في كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا عن الكرماني
(1)
: فإن قلت: هل يعلم من هذا الكتاب مختار البخاري في ذلك؟ قلت: حيث نقل مذهب الاتحاد من غير رد عليه وغير ذكر مذهب المخالف أشعر بأن ميله إلى عدم الفرق، انتهى.
قوله: (قال ابن مسعود. . .) إلخ، مراده من هذه التعاليق أن الصحابة قالوا تارة: حدثنا، وتارة: أخبرنا، فالظاهر أنهم لم يفرقوا بينها، وفيما يرويه عليه السلام عن ربه أن العنعنة حكمها الوصل عند ثبوت اللقاء، انتهى ملخصًا من "الفتح"
(2)
.
قوله: (عن ابن عمر) في قصة الشجرة.
مناسبته للترجمة يظهر إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظه ههنا "حدثوني"، وفي التفسير في سورة إبراهيم، "أخبروني"، وفي رواية الإسماعيلي:"أنبئوني"، وفي "باب الحياء في العلم":"يا رسول الله أخبرنا بها"، من "الفتح".
(5 -
باب طرح الإمام المسألة. . .) إلخ
لعله أراد أن ما رواه أبو داود
(3)
من حديث معاوية مرفوعًا من النهي عن الأغلوطات، قال الأوزاعي أحد رواته: هي صعاب المسائل، فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعجيز المسؤول.
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: علم من هذا الاعتناء بالعلم والاهتمام به، ويظهر منه الترغيب والتحريض للعلم، ثم قد روي النهي عن الأغلوطات، فكان يتوهم منه الممانعة عن الاختبار، فزال ذلك أيضًا، انتهى.
(1)
"شرح الكرماني"(2/ 9).
(2)
"فتح الباري"(1/ 144).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 3656).
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: مقصود ما استفدنا أن نهيه عليه الصلاة والسلام عن الأغلوطات، أي: الكلام الذي لا يفهم منه المقصود مخصوص بموضع لا يتعلق به غرض علمي، أما إذا قصد العالم امتحان فهم المخاطبين حتى يتكلم مع كل واحد على قدر فهمه فلا بأس به، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجم مصنفاته غير مقبولة، ولم نجد أحدًا يقول: إن البخاري كان يقلد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره، وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه، انتهى ملخصًا.
(6 -
باب ما جاء في العلم)
هكذا في هامش نسخة "الفتح"، ولم يتعرض له في شرحه، وليس هذا الباب في النسخ الهندية، ولا في نسخة "العيني" أيضًا.
وقال القسطلاني
(3)
: هذا ساقط في رواية ابن عساكر والأصيلي وأبوي ذر والوقت، والباب التالي له ساقط عند الأصيلي وأبي ذر وابن عساكر، انتهى.
ولم يذكروا في هذا الباب حديثًا.
وفي "تراجم شيخ الهند": إن كان هذا الباب ثابتًا، فالظاهر أن الغرض منه إثبات الضرورة والاحتياج إلى العلم بطلبه؛ لأن فضل العلم قد مرَّ سابقًا، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 42).
(2)
"فتح الباري"(1/ 148).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 275).
(-
باب القراءة والعرض على المحدث)
غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص؛ لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة؛ لأنه عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته، فهو أخص من القراءة.
وتوسع بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه ونظر فيه وأذن له بالرواية، والحق أن هذا عرض المناولة، وقد كان بعض السلف لا يعتدُّون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يُقرأ عليهم، فلهذا بوب البخاري على جوازه، كذا في "الفتح"
(1)
، وبذلك جزم العيني، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(2)
.
ولا يبعد عندي أن القراءة على المحدث ظاهر، والعرض على المحدث أن يقرأ رجل على شيخ بحضرة جماعة، فهؤلاء كلهم سوى القارئ يعرضون على المحدث.
قوله: (يقرأ على القوم) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": فإنه لا يقرأه إلا القاضي أو أحد أتباعه، ومع ذلك فيقول الشهداء: أشهدنا فلان، وينسبون الإشهاد إلى المدعي أو إلى القاضي، مع أن اللفظ ليس للمدعي فيما إذا كان القارئ أحدهما غير عين أو لنائبه عينًا، وقد نسبوه إلى القاضي، إلى آخر ما فيه.
قوله: (رواه موسى. . .) إلخ، وخولف في إسناده، فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلًا، ورجحها الدارقطني، كذا في "الفتح".
(1)
"فتح الباري"(1/ 149)، وانظر:"عمدة القاري"(2/ 23).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 10).
(7 -
باب ما يذكر في المناولة)
قال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
: ذكر في الترجمة أمرين: المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، وأثبت بحديثي الباب الأمر الثاني، فثبوت الأمر الأول بالطريق الأولى، فافهم.
وقال شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: غرض المؤلف إثبات المناولة الاصطلاحية بعد إثبات القراءة والعرض، ولما كان إثبات ذلك من الأحاديث فيه بعض الضيق، لذا عقد المؤلف ترجمةً أخرى بغرض إظهار الوسعة والسهولة فيه بقوله:"وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان"، وذكر بذيله الأحاديث المسندة، وهي تدل صراحة على الترجمة الثانية، ولكن المقصود الأصلي من كل ذلك هو إثبات الترجمة الأولى، وقد صنع المؤلف هكذا في عدة مواضع كما ذكرنا في الأصول، انتهى.
قلت: هذا الأصل الذي أشار إلي الشيخ قُدِّس سرُّه هو الأصل الثاني عشر من أصول التراجم، وقد تقدم في المقدمة في ذيل الأصل الثامن والعشرين.
وفي هامش "اللامع"
(2)
: قال الكرماني
(3)
: المناولة من أقسام طرق التحمل، وهي على نوعين:
أحدهما: المناولة المقرونة بالإجازة، كما أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلًا ويقول: هذا سماعي، فأجزت لك روايته عني، وهذه حالة محل السماع عند مالك وغيره، فيجوز إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" فيها، والصحيح أنه منحط عن درجته، وعليه أكثر الأئمة.
وثانيهما: المناولة المجردة عن الإجازة، بأن يناله أصل سماعه ولا يقول له: أجزت لك الرواية عني، ولهذا لا تجوز الرواية بها على
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 43، 44).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 13).
(3)
"شرح الكرماني"(2/ 19، 20).
الصحيح، وقال ابن أمير الحاج في "التقرير": إنها بدون الإجازة غير معتبرة، والإجازة بدونها معتبرة، انتهى.
ومراد البخاري من الباب القسم الأول.
وقوله: "إلى البلدان" على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام بالنسبة إلى أهل القرى والصحارى وغيرهما.
ولفظ الكتاب يحتمل عطفه على "المناولة" وعلى "ما يذكر"، والمكاتبة أيضًا من أقسام طريق نقل الحديث، وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئًا من حديثه، وهي أيضًا نوعان: المقرونة بالإجازة والمجردة عنها، والأولى في الصحة والقوة كالمناولة المقرونة بالإجازة، أما الثانية فالصحيح المشهور فيها أنه تجوز الرواية بأن يقول: كتب إليّ فلان قال: حدثنا فلان، وقال بعضهم بجواز حدثنا وأخبرنا فيها، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(1)
.
والمكاتبة من أقسام التحمُّل، وسَوّى المصنف بينها وبين المناولة، ورجح قوم المناولة لحصول المشافهة بها، كذا في "الفتح"
(2)
.
قلت: وفي رسالتي في أصول الحديث عن "نور الأنوار"، اشتراط البينة في الكتابة، وعن "التلويح" قائم مقام القراءة للضرورة، انتهى.
وقال الحافظ
(3)
: لم يذكر البخاري من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها، انتهى.
قوله: (حيث كتب لأمير السرية) هو عبد الله بن جحش أخو زينب أم المؤمنين، في السنة الثانية، وقوله:"حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، هكذا في حديث جندب على الإبهام، وفي حديث عروة: "إذا سرت يومين فافتح
(1)
"لامع الدراري"(2/ 13، 14).
(2)
"فتح الباري"(1/ 154).
(3)
"فتح الباري"(1/ 156).
الكتاب، قال: ففتحه هناك، فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلةً، فتأتينا من أخبار قريش ولا تستكرهن أحدًا"، إلى آخر ما في هامش "اللامع".
وفي "اللامع"
(1)
: قوله: (أن يدفعه إلى عظيم البحرين) ففيه دلالة على جواز المكاتبة، ولو لم يكن مفيدًا للعلم لما بعث به إليه، وكذا المناولة، انتهى.
وفي هامشه: دلالة الحديث على الجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، وأما الجزء الأول فدل عليه الكتاب الذي ناول أمير السرية، انتهى مختصرًا.
(8 -
باب من قعد حيث ينتهي به المجلس)
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: وضعه ليدفع به ما في الرجال من النخوة المانعة عن القعود في أواخر القوم، بأن من أدب العلم الجلوس حيث وجد مجلسًا، ولا يستحي من الجلوس هناك، ولا يعرض عن مجالس الذكر لمثل ذلك، انتهى.
وفي هامشه أيَّد كلام الشيخ بكلام الكرماني
(3)
، ثم قال الشيخ: وأما الاستحياء المذكور في الرواية فمعناه الاستحياء عن أن يزدحم الناس ويرمقهم، و"استحيا الله منه" أي: أجزل ثوابه وأوفر حظه، وهذا أولى من أن يراد بالاستحياء الاستحياء عن الإعراض؛ لأن حمل المطلق من الروايات على مقيدها، وكذلك حمل بعضها على بعض، وإن كان أمرًا كثر شيوعه فيما بين الفقهاء والمجتهدين، إلا أنه نادر بين فرق المحدثين لا سيما البخاري، فإن هؤلاء على جعل المطلق حجة على حدة من المقيد، فلا يحمل بعضها على بعض ما دام التفصي عنه ممكنًا، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 15).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 16).
(3)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 26).
وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه الكلام على هذين المعنيين للاستحياء في "الكوكب"
(1)
، ولم يرجح أحدهما على الآخر كما رجحه ههنا، وأيضًا بسط الكلام على هذا الحديث في الجزء السادس من "الأوجز"
(2)
.
وفي هامش "اللامع"
(3)
عن الحافظ: قوله: "فاستحيا" أي: ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم وممن حضر، قاله القاضي عياض، وقد بيَّن أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني، فلفظه عند الحاكم:"ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس"
(4)
، فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، انتهى.
فكأن الحافظ رجَّح الاستحياء عن الذهاب لرواية الحاكم، واختار الشيخ رحمه الله مختار القاضي عياض، وهو مختار الباجي في شرح "الموطأ" كما في "الأوجز".
وأشار الشيخ بقوله: "لأن حمل المطلق. . ." إلخ، إلى الجواب عن رواية الحاكم المذكورة في كلام الحافظ، انتهى ما في هامش "اللامع" مختصرًا.
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(5)
كلا المعنيين، ولم يرجح أحدهما على الآخر، فقال: يحتمل وجهين: إما مدحه بأنه استحيا من التفوق على الناس وتخطي رقابهم فاستحيا الله منه وجازاه على ذلك بما يليق به، أو ذمه بأنه استحيا عن أخذ العلم حق أخذه، فجازاه الله على ذلك بحرمانه، انتهى.
وكتب شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: المقصود من هذا الباب
(1)
"الكوكب الدري"(3/ 391).
(2)
انظر الطبعة الجديدة: "لأوجز المسالك"(17/ 190 - 195).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 17)، و"فتح الباري"(1/ 157).
(4)
"المستدرك على الصحيحين"(4/ 284)(رقم 7653).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 46).
بيان صور الجلوس في حلقة العلم، والحاصل: أن الجلوس في الحلقة فضل من الجلوس في خارجها، وما ذكر في الحديث قوله:"وأما الآخر فاستحيا"، ذكر الشرَّاح له معنيين: الأول: أنه لم يرد الجلوس ولكنه جلس حياءً، وبعض الروايات تؤيد هذا المعنى، والثاني: أنه استحيا من أهل المجلس فلم يزاحمهم وجلس خلفهم، فعُلم أن الصورة الأولى - أي: الجلوس في داخل الحلقة - أفضل وأحسن من هاتين الصورتين، انتهى.
قوله: (فرأى فرجة في الحلقة) فيه فضل سد الخلل كما في الصفوف، وجواز التخطي لسد الخلل، من "الفتح"
(1)
.
(9 -
باب رُبَّ مبلِّغ أوعى له من سامع)
وغرض المصنف عندي ترغيب أخذ العلم ولو من دونه، وفي مقدمة "الأوجز"
(2)
في رباعيات البخاري: لا يكون الرجل محدثًا كاملًا إلا بعد أن يكتب أربعًا مع أربع، إلى أن قال: يأخذ عمَّن هو فوقه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه، وعن كتاب أبيه، إلى آخر ما فيه، وأيضًا فيه تفسير لقوله تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وتنبيه على رفع درجات العلماء.
وفي "العيني"
(3)
: قال القطب: أراد بها المصنف الاستدلالَ على جواز الحمل على من ليس بفقيه إذا ضبط ما يحدِّث، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: دفع بذلك ما اشتهر أن التلميذ يكون أقل علمًا من شيخه، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: إن "أوعى" له معنيان: أحفظ وأفهم، ففي التبليغ فائدتان كما في عدمه مضرتان.
(1)
"فتح الباري"(1/ 157).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 239).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 48).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 17).
(10 -
باب العلم قبل القول والعمل)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: دلالة الآيات على تقدم العلم على التكلم به وعظًا والعمل بمقتضاه ظاهرة، فإنه لما كان أفضل والمناط كان هو الأولى بالتقديم من غيره، وكذلك في الروايات الموردة والآثار كما يظهر بتأمل فيها، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في غرض المؤلف عن هذه الترجمة، قال الكرماني
(2)
: يريد أن الشيء يعلم أولًا ثم يقال ويعمل به، فالعلم مقدم عليهما بالذات، وكذا مقدم عليهما بالشرف؛ لأنه عمل القلب وهو أشرف أعضاء البدن، انتهى.
وقال السندي
(3)
: الظاهر أن مراده بيان تقدم العلم على القول والعمل شرفًا ورتبةً لا زمانًا، انتهى.
والأوجه عندي: أن المصنف أراد التقدم الزماني، وإليه يشير كلام الشيخ من قوله: تقدم العلم على التكلم به وعظًا، وهو المراد بالقول: وعلى العمل بمقتضاه. ودلالة ما أورد المصنف في هذا الباب على هذا المعنى ظاهرة لا خفاء فيه، فغرض المصنف عندي دفع ما يتوهم من الوعيدات على العلم بلا عمل أن المقصر في العمل لا ينبغي له تحصيل العلم، فأثبت المصنف في هذا الباب أن العلم من حيث هو هو مقدم على العمل ذاتًا، وأما ترك العمل به بعد ذلك فأمر آخر موجب للخسارة والوعيدات المرتبة عليه، وهو الظاهر من كلام أكثر الشرَّاح.
قال الحافظ
(4)
: قال ابن المنيِّر: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما، فنبَّه المصنف على
(1)
"لامع الدراري"(2/ 20).
(2)
"شرح الكرماني"(2/ 29).
(3)
"حاشية السندي على البخاري"(1/ 23).
(4)
"فتح الباري"(1/ 160).
ذلك حتى لا يُسبق إلى الذهن من قوله: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل"، تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه، انتهى إلى آخر ما في هامش "اللامع".
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: لقد ذكر المؤلف في هذا الباب في الترجمة عدة آيات وأحاديث وأقوال الصحابة، واكتفى بها ولم يذكر حديثًا مسندًا، ويظهر منها تأكيد فضيلة العلم والتعليم والتبليغ، وجاء بقوله:"إنما العلم بالتعلم" والمراد كما أن مدار القول والعمل على العلم، هكذا العلم موقوف على التعلم، فلذا يجب بذل الجد والجهد في تحصيله، ثم المراد بالقبلية في الترجمة التقدم الزماني كما هو الظاهر، أو المراد تقدم الشرف والرتبة كما يترشح من النصوص والأقوال المذكورة، والأوجه: أن نجعل القبلية عامة بالمعنيين المذكورين، فالحاصل: أن التعلم أهم وأقدم من التعليم والعمل كليهما، والله أعلم، انتهى.
ولو أريد في الترجمة بالقبلية التقدم الشَّرَفي فلا يبعد عندي أن يكون إشارة إلى خلافية شهيرة تقدمت في أول الكتاب من فضل العلم على العمل.
ثم لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثًا مسندًا، واقتصر على ما أورد من الآيات والآثار وغير ذلك، فإما أن يكون بياضًا أو تعمد ذلك اكتفاءً بما ذكر كما في "الفتح"
(1)
.
والأوجه عندي: أنه أراد بذلك الإشارة إلى الروايات الواردة في الباب كما ذكرته في أول كتاب العلم، وقد تقدم الكلام مبسوطًا في المقدمة في الفائدة الرابعة من الفصل الثالث على أبواب لم يذكر فيها حديث.
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: (يُربي الناس بصغار العلم. . .) إلخ، بأن يعلم أولًا بالصرف، ثم النحو، ثم المعاني، ثم الحديث، ثم التفسير، وهكذا يرتقي من صغار العلوم إلى كبارها، كما
(1)
"فتح الباري"(1/ 162).
يؤاكل الطبيب أو الأم لطفلها أولًا اللبن، ثم الخبز، ثم اللحم، انتهى.
وبسط الكلام على هذا القول في "اللامع" وهامشه أشد البسط، وفيه عن "الفتح"
(1)
: والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دق منها، وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده، انتهى.
(11 -
باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلهم بالموعظة والعلم. . .) إلخ
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": التخوُّل التعهد، يعني: يعظهم ولا يديم موعظتهم، وقوله:(كيلا ينفروا) متعلق بالتخول باعتبار جزء مفهومه الأخير، انتهى.
وقال الحافظ في "الفتح"
(3)
: قوله: (يتخولهم) بالخاء المعجمة، أي: يتعهدهم، و"الموعظة" النصح والتذكير، وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص؛ لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث، وذكر العلم استنباطًا.
وقوله في الترجمة: (لئلا ينفروا)، استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور وهما متقاربان، ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرًا من تفسير الرباني؛ كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ، وغالب أبواب هذه الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك.
وقد ذكر شيخ الهند في آخر الباب السابق ما تعريبه: قد ذكر المؤلف بعد هذا بابين، وترجم للأولى بقوله: "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم
(1)
"فتح الباري"(1/ 162)، وانظر:"لامع الدراري"(2/ 22).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 47).
(3)
"فتح الباري"(1/ 162).
بالموعظة. . ." إلخ، وترجم للثانية بقوله: "من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة. . ." إلخ، والغرض منهما واحد، ذكر في كليهما رواية ابن مسعود: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة"، والظاهر بعد ملاحظتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكِّر الصحابة ويعلِّمهم مع مراعاة نشاطهم ومللهم وحوائجهم، وكذا كان عبد الله بن مسعود أيضًا بعده صلى الله عليه وسلم يذكِّر أصحابه كل يوم خميس، وكان يحترز عن الموعظة كل يوم مع إصرارهم، لكيلا يمل السامعون فيتكاسلوا.
وبالجملة: يستنبط من كل هذا، أهمية التعليم والتذكير وانتظامه والمداومة عليه، فإن أحب الدين ما داوم عليه صاحبه.
(12 -
باب من جعل لأهل العلم. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: أخذه من فعل ابن مسعود، أو من استنباط ابن مسعود ذلك من الحديث الذي أورده، انتهى.
قلت: والأوجه الثاني، فإن في الأول يكون استدلال الإمام البخاري بالموقوف لا بالمرفوع.
وكتب الشيخ في "اللامع": لما كان من المسلَّم أن التعيين الزماني والمكاني فيما لم يثبت شرعًا مما يعد بدعةً وكراهةً، دَفَعَه بأن التعيين فيه جائز، إذ لولا ذلك لأَدَّى إلى الحرج لهم، مع أن العلم واجب التحصيل لا يمكن تركه، فلا مصير إلا إلى تعيين يوم له، فيتحيَّنه الناس ويحضرونه، فلا يؤدي ذلك إلى حرج لهم في أمر معايشهم، ويحصل المقصود، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح، فإن البدعة هو التعيين الذي يعد فيه ثواب وأجر خاص بهذا المعين، وأما التعيين لساعات الدروس مثلًا فلا يعده أحد أجرًا وثوابًا، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 164).
قلت: ويمكن عند هذا العبد الضعيف في غرض الترجمة أيضًا أن مثل هذا التأخير لا يعد من التقصير في التبليغ بشيء.
(13 -
باب من يُرد الله به خيرًا)
وكتب شيخ الهند في "تراجمه" هذا الباب والآتي متصلًا، وكتب بعد: وينبغي أن يحمل الترجمة الأولى على الفقه في الدين، والثانية على الفهم في العلم، ومفهومهما متقارب، ويظهر من الترجمة الأولى وهي بعينها لفظ الحديث المذكور في الباب أمران:
الأول: أن الفقه في الدين خير عظيم.
والثاني: أن حصول الفقه في الدين هو بمحض عطاء الله عز وجل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نَبّهَ على ذلك واعتذر عن نفسه بقوله:"إنما أنا قاسم"
(1)
، فيظهر منه عظمة الفقه وفضيلته.
وذكر في الترجمة الثانية وهي: الفهم في العلم، حديث ابن عمر "إن من الشجر شجرة. . ." إلخ، وقد مَرّ قبل عدة أبواب أيضًا.
والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد بذلك بيان فضل الفهم، وقد اعترض على هذا بعض أهل التحقيق وقالوا: لا يوجد ههنا لفظ يدل على الفضل، ولكن هذا الاعتراض ليس بصحيح؛ لأن المؤلف قد ذكر حديث ابن عمر هذا في عدة أبواب فيما مضى وفيما يأتي، واللفظ الدال على فضل الفهم موجود في عدة روايات، منها ما سيأتي في آخر كتاب العلم، وجاء فيه قول عمر:"لأن تكون قُلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا"
(2)
، ودلالته على الفضل واضحة، وقد صنع المؤلف هكذا كثيرًا في كتابه بأنه لا يذكر اللفظ الدال على الترجمة في الحديث، فيكتفي على ما قد ذكر ذلك اللفظ في نفس الحديث في موضع آخر، كما مرَّ في الأصول، انتهى.
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 3114).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 131).
قلت: ذكره شيخ الهند في الأصل السادس من أصول تراجمه، وقد مرَّ في الأصل الثالث والعشرين من الأصول السبعين المتقدمة في الجزء الأول، ثم قال شيخ الهند: وعلى هذا لم تبق الحاجة إلى ترك المعنى المعروف من لفظ الفهم في العلم والتوجه إلى المعنى الغير الظاهر، وقد علم من فهم أصغر القوم هو ابن عمر، والخفاء على الكبار، تأييد قوله صلى الله عليه وسلم:"والله يعطي" المذكور في الباب الأول، انتهى.
وما أفاده شيخ الهند قُدِّس سرُّه بقول بعض أهل التحقيق أشار به إلى العلامة السندي إذ قال
(1)
: قوله: "باب الفهم في العلم" أي: بيان أنه مختلف، حتى إن ابن عمر مع صغر سنه فهم ما خفي على الكبار، وليس المراد بيان فضل الفهم إذ لا دلالة للحديث عليه، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي: بتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع، فقد حرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره:"ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به"، والمعنى صحيح إلى آخر ما فيه.
قوله: (حتى يأتي أمر الله. . .) إلخ، قال القسطلاني
(3)
: "حتى" غاية لقوله: "لن تزال"، واستشكل بأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، إذ يلزم منه أن لا تكون هذه الأمة يوم القيامة على الحق.
وأجيب: بأن المراد من قوله: "أمر الله" التكاليف، وهي معدومة فيها، أو المراد بالغاية هنا تأكيد التأبيد، على حدِّ قوله تعالى:{مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107]، أو هي غاية لقوله:"لا يضرهم" لأنه أقرب، ويكون المعنى حتى يأتي بلاء الله فيضرهم حينئذ، فيكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها، انتهى.
(1)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 24).
(2)
"فتح الباري"(1/ 165).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 297).
والأوجه: ما أفاده مولانا الحاج محمد حسن المكي في "تقريره" عن شيخه الكَنكَوهي إذ قال: قوله: "أمر الله"، وهو الريح الطيب يقبض أرواح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى شرار الناس، انتهى.
وجزم به الحافظ
(1)
أيضًا.
(14 -
باب الفهم في العلم)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أراد بذلك أن الفقه أعلى مراتب العلماء، فإن فاته ذلك فلا أقل من أن يسعى في تحصيل فهم المطالب، وهو ممدوح أيضًا كما وقع لابن عمر رضي الله عنهما حيث أَدّى ذهنه إلى النخلة، فقال له عمر: هَلَّا ذكرت ذلك، فعُلم بذلك غاية مدح ومنقبة للفهم وهو ليس بفقه؛ لأن الفقه استنباط المسائل والوقوف على دقائق الشريعة وعلل الأحكام، ويمكن أن يكون هذا الباب بيانًا؛ لأن الفقه والفهم ليسا شيئين متغايرين، وإنما هما واحد، انتهى.
قلت: وإليه مال شيخ الهند إذ جعل البابين واحدًا كما تقدم، وفي هامش "اللامع": نبَّه الشيخ بذلك على جودة الإمام البخاري بأنه رحمه الله بَوَّبَ أولًا بـ "باب يفقهه في الدين"، ثم ثَنّى بذلك الباب، فكأنه أشار إلى مرتبتين: مرتبة التفقه وهو أعلى، ثم مرتبة الفكر والمطالعة.
قال الحافظ
(3)
: مناسبة الحديث بالترجمة، أن ابن عمر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسألة عند إحضار الجمار إليه فهم أن المسؤول عنه النخلة، فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل، انتهى.
والغرض عندي الترغيب في التدبر والمطالعة، أو التنبيه على طريقها
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 164).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 24).
(3)
"فتح الباري"(1/ 165).
من النظر إلى المقترنات، انتهى ما في هامش "اللامع"، وتقدم كلام شيخ الهند على ذلك في الباب السابق.
والجملة أنهم اختلفوا في غرض الترجمة على خمسة أقوال:
الأول: أن الغرض إثبات فضل الفهم في العلم، أي: العلوم، وهو الذي جزم به الحافظ، واختاره شيخ الهند، وهو ظاهر من حديث الباب من جهة أن ابن عمر استخرج من فهمه ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى أنه شيء ذو فضيلة لما كان في استخبار النبي صلى الله عليه وسلم فائدة، فاستخباره صلى الله عليه وسلم دليل على كونه ذا فضل، والله أعلم.
والثاني: غرضه بيان أن الفهم يكون مختلفًا، حتى إن ابن عمر مع صغر سنه فَهِمَ ما خفي على الكبائر، قاله السندي
(1)
، وقال: وليس المراد بيان فضل الفهم، إذ لا دلالة للحديث عليه.
قلت: قد بيَّنا وجه الدلالة، فللَّه الحمد، وقد تقدم في الباب السابق جواب شيخ الهند.
والثالث: غرضه بيان أنه إن فاته الفقه الذي هو أعلى، فلا يقصِّر في الطلب حتى يفوته الأدنى، وهو فهم المراد والمطلب، وجنح إليه العارف الكَنكَوهي رحمه الله تعالى.
والرابع: الترغيب في التدبر والمطالعة.
والخامس: التنبيه على طريق المطالعة بالنظر إلى المقترنات والقياس على النظائر، وهو من مخترعاتي، والله أعلم.
(15 -
باب الاغتباط في العلم والحكمة)
قال الحافظ في "الفتح"
(2)
: فيه نظير ما ذكرنا في قوله: "بالموعظة والعلم"، لكن هذا عكس ذاك، أو من العطف التفسيري إن قلنا: إنهما مترادفان.
(1)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 24).
(2)
"فتح الباري"(1/ 166).
والمقصود أن الحسد في الحديث بمعنى الغبطة لما يأتي في فضائل القرآن من زيادة قوله: "ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان"
(1)
، الحديث، انتهى. ملخص من "الفتح".
وفي "تراجم شيخ الهند": إن المقصود التحريض على طلب العلم، ولذا عقَّبه قول عمر بالأمر، انتهى.
وفي "اللامع"
(2)
: أشار بذلك إلى أن لفظ الحسد الوارد في الرواية محمول عليه، انتهى.
وفي هامشه: الغبطة لغةً: أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه، والحسد: أن تتمنى زوال نعمة المحسود [إليك]، إلى آخر ما بسط فيه من اختلاف تفسيرهما، وفيه: قال القسطلاني
(3)
: عطف الحكمة من باب العطف التفسيري، أو من باب عطف الخاص على العام.
وكتب الشيخ في "اللامع": ومعنى قول عمر: "تفقهوا قبل أن تسوَّدوا": أن السيادة لما كانت مانعةً عن الاشتغال بالفقه لما فيها من أشغال وعلَّات مانعة عنه، فأولى أن تفقَّهوا قبل أن تقعوا فيها، ولم يرد أن لا تفقَّهوا بعدها، وإنما أراد أنه لا يتيسَّر بعدها، فقول المؤلف:"وبعدها" تنبيه على مراد عمر لئلا يظن أحد أنه نهى عن التعلم بعدها، انتهى.
وبسط في هامشه الكلام في شرح كلام الشيخ قُدِّس سرُّه ومناسبة أثر عمر رضي الله عنه بالترجمة، فليرجع إليه.
قوله: (على غير ما حدثناه الزهري) قال القسطلاني
(4)
: أي: على غير اللفظ الذي حدثناه الزهري المسوق روايته عند المؤلف في "التوحيد"، والحاصل: أن ابن عيينة روى الحديث عن إسماعيل بن خالد وساق لفظه هنا، وعن الزهري وساق لفظه في "التوحيد"، انتهى.
قلت: وبينهما اختلاف يسير في اللفظ.
(1)
أخرجه البخاري (ح: 5026).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 25).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 298).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 299).
(16 -
باب ما ذكر في ذهاب موسى. . .) إلخ
وفي هامش "اللامع"
(1)
: قال الحافظ
(2)
: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه؛ ولأن موسى عليه السلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب وركوب البر والبحر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله.
وكتب شيخ الهند ما تعريبه: لم يذكر المؤلف مقصوده بالترجمة نصًّا، وجعل قصة موسى والخضر عليهما السلام ترجمة، ولكن لا يخفى أنه لا بد أن يكون غرضه من ذكر القصة المذكورة إثبات أمر ما يتعلق بكتاب العلم، ولا يقال لنفس القصة: إنها المقصودة في هذا الموضع، فظاهر النظر يؤدي إلى أنه أراد به إثبات السفر لطلب العلم، ولكن قد عقد بعد بابين "باب الخروج في طلب العلم"، وذكر فيه هذا الحديث أيضًا.
فليس لنا إلا أن نقول: إن غرض المؤلف من هذا الباب إثبات الخروج في البحر، وفي الباب الآتي إثبات الخروج مطلقًا، ولكن الأحسن أن يكون المقصود من ذهاب موسى عليه السلام التعلم بعد السيادة، وفي الباب الآتي الخروج في طلب العلم هو المقصود صراحة فلا حاجة إلى التكلف مطلقًا، وقد صنع هذا في مواضع أخر أيضًا بأن جعل تكميل الأمر وتحقيقه المتعلق بالباب الأول في الباب الثاني، فلأنه قد ذكر في الباب السابق قوله:"قد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كبر سنهم" بذيل الترجمة مجملًا، وهنا أكمل ذلك استقلالًا بأن موسى عليه السلام مع كونه سيد سادات العالم، كم جَدّ واجتهد برغبته وشوقه لتعلم العلم مع كون العلم أيضًا زائدًا على العلم الضروري ومفضولًا عن علم كليم الله عليه السلام.
ونظرًا إلى هذه الأمور، لا بد أن قد يظن أنه يمكن أن ذهاب موسى عليه السلام لم يكن لغرض التعلم، بل رغبةً وشوقًا في لقاء الخضر عليه السلام
(1)
"لامع الدراري"(2/ 28).
(2)
"فتح الباري"(1/ 168).
ومشاهدة علومه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا الشوق أيضًا بقوله:"وددنا أن موسى عليه السلام كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما" دفعًا لهذا الظن، ذكر المؤلف في الترجمة قول الله عز وجل:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} الآية [الكهف: 66].
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ" مسند الهند: مقصود الباب إثبات الرحلة لأجل تحصيل العلم؛ لأنها ما كانت معهودة في زمان الصحابة والتابعين ومن تبعهم، بل كانو يأخذون العلم من علماء بلدانهم، فلما دوِّنت الكتب وانتشرت تلك في البلدان ارتحلوا من بلد إلى بلد وصارت تلك عادة فيما بينهم، فأثبت المؤلف أصلًا صحيحًا قويًا، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(2)
: هكذا أفاد شيخ المشايخ، ويشكل عليه ما سيأتي قريبًا من "باب الخروج في طلب العلم"، فإن المقصد الذي أفاده شيخ المشايخ يناسب هذا الباب الثاني.
والأوجه عندي: في غرض هذا الباب الأول جوازُ ركوب البحر للتعلم لدفع ما يتوهم عدم الجواز من حديث أخرجه أبو داود
(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله"، فقد يتوهم من الحصر في الثلاث عدم الجواز لغيرها، ولذا يترجم المصنف في "كتاب البيوع""باب التجارة في البحر"، انتهى.
ثم يستشكل قوله في الترجمة "في البحر إلى الخضر"، قال شيخ الهند ما تعريبه: إن ذهاب موسى في البحر إلى الخضر خلاف للمشهور والمنقول، فإن موسى عليه السلام لقي الخضر بعد السفر في البر لا في البحر، وقد أوَّل الشرَّاح المحققون ذلك بعدَّة تأويلات، فحملوا حرف "إلى" [في] قوله:"إلى الخضر" بمعنى مع، أو المراد بالبحر ناحية البحر: وطرف
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 48).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 29).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 2489).
البحر، ولكن الأسهل إن يترك "إلى" و"البحر" على ظاهرهما ويقال: إنه لم يذكر واو العطف قبل قوله: "إلى الخضر"، فإنه لا يذكر أحيانًا واو العطف اعتمادًا على فهم السامع، والله أعلم.
وفي "اللامع"
(1)
: استشكل عليهم هذه الكلمة، فإن ذهاب موسى في البحر لم تكن إلى الخضر، والجواب: أن كلمة "إلى" بمعنى "مع" وهي كثيرة، أو يقال: لما أُمر موسى بالذهاب إلى الخضر كان عليه أن يصل إليه كيف ما كان في البر أو البحر، فلفظ البحر مفهوم من إطلاق أمره بالذهاب إليه، والأول أولى، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(2)
: ظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر، وفيه نظر؛ لأن الذي ثبت عند المصنف وغيره أنه خرج في البر، وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله:"إلى الخضر" على أن فيه حذفًا، أي: إلى مقصد الخضر؛ لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعًا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير: ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، إلى آخر ما بسط فيه.
وما في "اللامع" من قوله: "إن كلمة إلى بمعنى مع. . ." إلخ، اقتصر عليه في "تقرير المكي" إذ قال:"إلى" بمعنى "مع" كما في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
قلت: واختاره ابن المنيِّر أيضًا.
قوله: (تمارى هو والحر بن قيس) لا يذهب عليك أن في القصة تماريين: أحدهما: هذا مع الحر، في الخضر من هو؟ والثاني: الآتي في "باب ما يستحب للعالم. . ." إلخ، في موسى من هو، مع نوف البكالي؟
والصواب: أن التماري الثاني كان بين سعيد بن جبير وبين البكالي.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 29، 30).
(2)
"فتح الباري"(1/ 168).
قال العيني
(1)
: في هذه القصة تماريان: تمار بينه وبين الحر بن قيس، أهو الخضر أم غيره؟ وتمار بينه وبين نوف البكالي في موسى، أهو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة؟ أم موسى بن ميشا - بكسر الميم وسكون الياء -؟ هكذا قاله الكرماني
(2)
في التماري الثاني، وليس كذلك، فإن هذا التماري كان بين سعيد بن جبير وبين البكالي على ما يجيء في التفسير.
قوله: ({فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}) أي: تلاش كرتى هوئى، كذا في "تقرير المكي".
(17 -
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم علِّمه الكتاب)
قال الحافظ
(3)
: استعمل لفظ الحديث ترجمة تمسكًا بأن ذلك لا يختص جوازه بابن عباس، والضمير على هذا لغير مذكور، ويحتمل أن يكون لابن عباس نفسه لتقدم ذكره في الحديث السابق إشارة إلى أن الذي وقع لابن عباس من غلبته للحر بن قيس إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، انتهى.
ويحتمل عندي أن المصنف أشار بذلك إلى سبب الدعاء، وهو خدمته صلى الله عليه وسلم، إذ وضع له وضوءًا لما دخل الخلاء، كما سيأتي في "باب وضع الماء عند الخلاء"، أو أدبه معه صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: فقد أخرج أحمد عن ابن عباس في قيامه خلفه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل فقال: "ما بالك؟ أجعلها حذائي فتخلفني، فقلت: أو ينبغي لأحد أن يصلي حذائك [وأنت رسول الله]؟ فدعا لي أن يزيد فيَّ الله فهمًا وعلمًا"، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: وتظهر من هذه القصة عظمة العلم وفضليته، وفضل ابن عباس معًا بداهة، ولذا ذكر المؤلف رحمه الله هذه الرواية
(1)
"عمدة القاري"(2/ 89).
(2)
"شرح الكرماني"(2/ 47).
(3)
"فتح الباري"(1/ 169).
في "كتاب العلم" وفي "مناقب ابن عباس" أيضًا، ويُعلم منه أيضًا أن العلم من عطاء الله الخاص كما مرَّ في "باب من يرد الله به خيرًا. . ." إلخ، فإن المرء مهما كان ذكيًا وفهيمًا، ومهما اجتهد وبذل الوسع لتعلُّم العلم، لا يعتمد عليه، بل لا بد من التوجه والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تتيسَّر هذه النعمة إلا بإرادته عز وجل يعني: أن الدعاء والالتجاء إلى الله من لوازم التعلم أيضًا، فيحتاج إليه أشد الحاجة مع الفهم والسعي في العلم، انتهى.
وفي "اللامع"
(1)
: باب قوله: "اللهم علِّمه الكتاب" فيه إشارة إلى أن من كان عنده علم من الكتاب كان مستفيدًا من صدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وكأنه منضم صدره إلى صدره صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي هامشه: يعني في ضم صدره إلى صدره صلى الله عليه وسلم إشارة لطيفة إلى ذلك.
قلت: وهو شبيه ما تقدم في مبدأ الوحي من غط جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المصنف أشار بالترجمة إلى أدب العالم والأستاذ بأنه ينبغي له الدعاء لطَلَبة العلم كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وقد يكون المصنف أطلق الترجمة لتكثير الفائدة، فيدخل فيه الترغيب في دعاء العالم وفي دعاء الطالب لنفسه، والله أعلم.
(18 -
باب متى يصح سماع الصغير
؟)
ليس هذا الباب في "اللامع"، لكن في هامشه عن تقرير المكي: الحاصل: أن تحمّل الصبي صحيح وإن كان صغيرًا بشرط أن يكون عالمًا مميِّزًا، لكن لا يصح تحميله إلا بعد البلوغ، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: مقصود الباب أن البلوغ ليس شرط التحمل، وأشار بذلك إلى اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، رواه الخطيب
(1)
"لامع الدراري"(2/ 32).
(2)
"فتح الباري"(1/ 171).
في "الكفاية" أن ابن معين قال: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر رُدّ يوم أُحد إذ لم يبلغها، فبلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: بل إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال، ثم أورد الخطيب أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدَّثوا بها بعد ذلك وقُبلت عنهم، وهذا هو المعتمد، وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على قبول هذا، انتهى.
قال عياض: إن محمودًا كان إذ ذاك ابن أربع سنين، ومن ثَمَّ صحَّح الأكثر سماع من بلغ أربعًا، لكن بالنسبة إلى ابن العربي، وأما ابن العجمي فإذا بلغ سبعًا، انتهى، كذا في "القسطلاني"
(1)
.
وقال شيخ الهند في "تراجمه" ما تعريبه: وهذا ظاهر أن المراد بالسماع هنا التحمُّل، وذكر المؤلف قصتين، ولم يذكر حديثًا يدل على التحديد، ولكن يظهر بالجمع بين الروايتين أن مقصود المؤلف أن صحة التحمل والسماع ليس له حد معيّن، بل مطلق سن التميُّز والتعقل يكفي لصحة السماع، هكذا قال العلامة السندي
(2)
وغيره، انتهى.
قوله: (أنا ابن خمس سنين. . .) إلخ، وكان عند وفاته صلى الله عليه وسلم ابن خمس سنين، فالقصة في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ
(3)
: واعترض المهلَّب على البخاري لكونه لم يذكر ههنا حديث ابن الزبير في رؤيته إياه
(4)
يوم بني قريظة، وكان سِنُّه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربعًا، فهو أصغر من محمود، وأجاب ابن المنيِّر: بأن البخاري
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 308).
(2)
انظر: "حاشية على صحيح البخاري"(1/ 25).
(3)
"فتح الباري"(1/ 173).
(4)
قوله: "إياه" كذا في الأصل و"القسطلاني"(1/ 308)، والصواب:"أباه" كما يدل عليه لفظ الحافظ في "الفتح": "والده"، وحديث ابن الزبير في "صحيح البخاري" (ح: 3720): "يا أبت رأيتك تختلف؟ قال: أَوَهَلْ رأيتني يا بنيّ؟. . ." إلخ.
أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سُنَّة مقصودة في كون النبي صلى الله عليه وسلم مجَّ مجة في وجهه، بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية تثبت كونه صحابيًا، وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سُنَّة من السُّنن النبوية حتى تدخل في هذا الباب، وقد غفل البدر الزركشي، فقالى: يحتاج المهلب إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير على شرط البخاري؛ لأن البخاري أخرج القصة في مناقب الزبير
(1)
، انتهى مختصرًا.
والأوجه عندي في الجواب: أن في قصة ابن الزبير كان رؤيته لأبيه فهو بمنزلة الموقوف، فتأمل، ويمكن أيضًا أن يقال: إن المحدثين ذكروا أقل مدة السماع خمس سنين، فلعل الإمام البخاري أشار بذلك إلى ترجيح قولهم، وبسط الكلام على سن التحمّل والتحديث في "مقدمة الأوجز"
(2)
.
(19 -
باب الخروج في طلب العلم)
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: لمَّا ورد في شأن السفر ما ورد، وقد ورد أيضًا:"لا تشد الرحال"، وإن كان المراد به خاصًا، دفع كل ذلك بوضع باب لجوازه للعلم، انتهى.
وفي هامشه: وقد تقدم قريبًا في "باب ما ذكر في ذهاب موسى. . ." إلخ، من كلام شيخ المشايخ ما يناسب هذا الباب، وبسط الحافظ في رحلة الصحابة في طلب الحديث ولو لحديث واحد، قال الحافظ
(4)
: لم يخرج المصنف فيه شيئًا مرفوعًا صريحًا، وقد أخرج مسلم
(5)
حديث أبي هريرة رفعه: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة"، ولم يخرجه المصنف لاختلاف فيه، انتهى.
(1)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 3720).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 243).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 33).
(4)
"فتح الباري"(1/ 174).
(5)
"صحيح مسلم"(ح: 2699)، وأخرجه أيضًا: أبو داود (ح: 3643)، والترمذي (ح: 2646 - 2945).
قلت: والأوجه: أن المصنف اكتفى بذكر قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما فيها من خروج نبي لطلب علم، فيستنبط منها خروج آحاد الأمة بالأولوية، ثم قال العيني
(1)
: كان ذكر هذا الباب عقيب "باب ما ذكر في ذهاب موسى إلى الخضر" أنسب وأليق، انتهى.
قلت: ويمكن أن يجاب عن الإمام البخاري أنه من دقائق نظره، فإنه ألحق ترجمة الدعاء بما سبق، لما فيها إشارة إلى سبب غلبة ابن عباس على الحر بن قيس كما تقدم، ولمَّا كان ابن عباس من الأصاغر وكانت المسألة مختلفة فيما بينهم، نَبَّهَ عليه بـ "باب متى يصح سماع الصغير"، فكأن البابين المتوسطين كانا من لواحق الباب الأول، أي:"باب الخروج إلى البحر"، فذكرهما معه، وعلى هذا لم يبق بينه وبين هذا الباب فصل بأجنبي، انتهى ما في الهامش.
قوله: (ورحل جابر مسيرة شهر لحديث واحد)، وهو ما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأحمد
(2)
: "يحشر الناس يوم القيامة عراة" الحديث، وسيأتي عند المصنف في "التوحيد" في باب قوله:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} الآية [سبأ: 23] معلقًا مختصرًا، ويورَد على ما هو المشهور أن المصنف حيث يعلق بالجزم يكون صحيحًا، وبالتمريض يكون ضعيفًا؛ لأنه علَّقه ههنا بالجزم، وفي "التوحيد" بالتمريض.
وردَّه الحافظ فقال
(3)
: نظر البخاري أدق من المعترض، فإنه إذا ذكر الارتحال فقط جزم لأن الإسناد حسن، وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم لأن نسبة الصوت إلى الله تعالى لا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 102).
(2)
انظر: "الأدب المفرد"(ح: 970)، و"مسند أحمد"(1/ 229)، و"صحيح مسلم" (ح: 2859).
(3)
"فتح الباري"(1/ 174).
(20 -
باب فضل من عَلِمَ وَعَلَّمَ)
قال الحافظ
(1)
: الأولى بكسر اللام الخفيفة، أي: صار عالمًا، والثانية بفتحها وتشديدها، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند" ما معرَّبه: سبق أن المصنف عقد عدة أبواب في التعلم، ويذكر الآن عدة أبواب في التعليم، ومفهوم الترجمة فضيلة الأمرين بمجموعهما، لا فضيلة كلٍّ على حدة، فليس المراد فضل من علِم وفضل من علَّم مستقلًا كما يظهر من رواية الباب، انتهى.
قوله: (ونفعه بما بعثني الله) كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لعله من وضع المُظْهَر موضع المُضْمَر، أو من باب تنازع الفعلين، وهذا يشمل أقسامًا ثلاثة، والقسمان من المشبه مندمجان في قوله:"فعلم وعلَّم"؛ لأن منفعته إما متعدية إلى الغير فقط؛ كأهل الحديث الذين لم يستنبطوا المسائل، أو لنفسه ولغيره كأهل الفقه، انتهى.
وبسط في هامشه الكلام على شرح كلام الشيخ قدّس سرّه.
قوله: (قيلت الماء) بالتحتية بدل الموحدة، قال الأصيلي: هو تحريف، وقال غيره: بل صواب ومعناه شربت، والقيل: شُرب نصف النهار، وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة، وأجيب بأن هذا أصله ولا يمنع إطلاقه تجوزًا، كذا في "الفتح"
(3)
.
قوله: (قاع يعلوه. . .) إلخ، أراد أن قيعان جمع قاع، وذكر الصفصف جريًا على عادته من تفسير ألفاظ القرآن، ففي سورة طه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه: 105، 106].
(1)
"فتح الباري"(1/ 176).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 34).
(3)
"فتح الباري"(1/ 177).
(21 -
باب رفع العلم. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: مقصود الباب الحث على التعلُّم، فإن العلم لا يرفع إلا بقبض العلماء، انتهى.
وقال العيني
(2)
: أي: هذا باب في بيان رفع العلم وظهور الجهل، وإنما قال:"وظهور الجهل" مع أن رفع العلم يستلزم ظهور الجهل، لزيادة الإيضاح، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول فضل العالم والمتعلم، وفيه الترغيب في تحصيل العلم والإشارة إلى فضيلة العلم، وهذا الباب فيه ضد ذلك؛ لأن فيه رفع العلم المستلزم لظهور الجهل، وفيه التحذير وذم الجهل، وبالضد تتبين الأشياء، انتهى.
وكتب شيخ الهند: غرض المؤلف أن رفع العلم وظهور الجهل من علامات القيامة، كما ذكر مصرَّحًا في الحديثين المذكورين في الباب، والاحتراز عن أشراط الساعة وسد بابها ضروري، فالاحتراز عن رفع العلم وظهور الجهل وسد بابه إنما يكون بالسعي في إشاعة العلم وتبليغه؛ لأن ظهور الجهل يكون بذهاب أهل العلم، فيبقى الجهال كما ورد في الحديث، ولا يمكن تدارك ذلك إلا بإشاعة العلم.
والحاصل: أن غرض المؤلف من الترجمة التعليم والتبليغ، وقد أوضحه بذكر قول ربيعة، انتهى.
وقوله: (من أشراط الساعة أن يرفع العلم. . .) إلخ، ويؤيد بذلك ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"
(3)
: قوله: "هذا أوان يختلس فيه العلم"، أُري النبي صلى الله عليه وسلم وقت وفاته أو وقت انتزاع العلم رأسًا، كما يكون في آخر الزمان، والمراد على الأول إنما هو انتزاع ترقيه وفيضانه من الله سبحانه، كما كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، واختلاس الفيضان وقت وفاته صلى الله عليه وسلم
(1)
"فتح الباري"(1/ 178).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 113).
(3)
"الكوكب الدري"(3/ 361).
ظاهر، ثم لمَّا علم انقطاع فيضانه علم انقطاعه رأسًا في وقتٍ ما؛ لأن علم الصحابة أقل بكثير عن علمه صلى الله عليه وسلم، كما أن علم التابعين من علم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهَلُمّ جَرّا إلى أن يأتي الزمان الذي بيَّنه في هذا الحديث، وأيًّا ما كان فالمقصود أن العلم يأخذ في التقليل إلى أن ينتفي رأسًا، انتهى.
وفي "فيض الباري"
(1)
: وعند البخاري أن رفع العلم إنما يكون برفع العلماء ولا ينتزع انتزاعًا، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح عن زياد بن أبي حبيب أنه ينزع من الصدور في ليلة، والتوفيق بينهما أن أول أمر الرفع يكون كما في "البخاري" وهو برفع العلماء، ثم إبَّان الساعة يكون كما عند ابن ماجه، أي: ينتزع عن الصدور نزعًا، فلا تعارض لاختلاف الزمانين، انتهى.
وما حكى في "الفيض" عن البخاري هو يأتي في "باب كيف يقبض العلم"، ولم أجد الرواية في "ابن ماجه"، لكن ما سيأتي في الباب المذكور عن "الإشاعة" يؤيد ما ذكره الشيخ الأنور عن رواية ابن ماجه، وأيضًا أخرج ابن ماجه
(2)
في "باب ذهاب القرآن والعلم" عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثوب" الحديث، وفيه:"ولَيُسْرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية" الحديث.
(وقال ربيعة: لا ينبغي. . .) إلخ، وقال شيخ المشايخ مسند الهند في "تراجمه"
(3)
: أثبت بقول ربيعة: "لا ينبغي لأحد. . ." إلخ، أن لا يترك رواية الحديث بالاعتزال عن الناس ونحو ذلك، وكون رفع العلم وظهور الجهل مصيبة؛ لأن قول ربيعة:"لا ينبغي. . ." إلخ، يشعر بأنه يورث ظهور الجهل وهو مذموم.
(1)
"فيض الباري"(1/ 177).
(2)
"سنن ابن ماجه"(ح: 4049).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 50).
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: إن المراد بإضاعة النفس هو كتمان العلم وعدم التبليغ، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: "أن يضيع نفسه" بالإمساك عن العمل وتعليم الأمة، انتهى.
وفي هامشه: وما أفاده الشيخ أحد المعاني التي قيلت في تفسير قول ربيعة شيخ مالك المشهور بربيعة الرأي، قال الحافظ
(2)
: مراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدِّي ذلك إلى رفع العلم، أو مراده: الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم، أو مراده: أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه، وقيل: مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضًا للدنيا، وهذا معنى حسن، ولكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم، انتهى.
وما ذكره الحافظ بلفظ "أو" أقوال للعلماء كما في "الكرماني" و"العيني"
(3)
، انتهى.
قوله: (لا يحدثكم أحد بعدي) كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: أي: من غير وسط بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لعدم أحد من الصحابة هناك، انتهى.
وفي هامشه: ويؤيد توجيه الشيخ لفظ أبي عوانة الآتي قريبًا، وأشار الشيخ بقوله:"هناك" أن الخطاب لأهل البصرة خاصة، فإن أنسًا آخر من مات بها من الصحابة، وأما آخر الصحابة موتًا على الإطلاق فهو أبو الطفيل عامر بن واثلة توفي بمكة، قال صاحب "التقريب": توفي سنة 110 هـ على الصحيح، وأنس توفي سنة 93، وجزم غير واحد بأنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة، إلى آخر ما بسط في الهامش، وفيه: ولأبي
(1)
"لامع الدراري"(2/ 38).
(2)
"فتح الباري"(1/ 178).
(3)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 59)، و"عمدة القاري"(2/ 114).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 39).
عوانة: لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي، وعرف أنس أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره.
(22 -
باب فضل العلم)
تقدم في أول "كتاب العلم" أن الإمام ترجم بهذه الترجمة في موضعين: أولاهما: في أول الكتاب، والثانية: ههنا، وتقدم أيضًا أن الراجح
(1)
عند العلَّامة العيني حذف هذه الترجمة من أول الكتاب فلا تكرار عنده، والمراد بها ههنا فضيلة العلم.
قال العيني
(2)
: ولئن سلمنا وجوده فالمراد هناك التنبيه على فضيلة العلماء، وههنا التنبيه على فضيلة العلم، انتهى.
وتقدم هناك أيضًا أن الكرماني
(3)
حمل هذا الفضل الذي في الباب الثاني بمعنى الفضيلة، وتعقب عليه العيني.
والأوجه عندي: ما قاله الكرماني، وبه جزم غير واحد من شرَّاح الحديث والمشايخ.
قال الحافظ
(4)
: الفضل هنا بمعنى الزيادة، أي: ما فضل عنه، والذي تقدم في أول "كتاب العلم" بمعنى الفضيلة، فلا تكرار، انتهى.
وعليه حمله السندي
(5)
كما في هامش "اللامع"
(6)
، ثم قال: فإن قلت: هل لفضل العلم تحقق في هذا العالم حتى يستقيم ما ذكرت؟ وإلا فتحققه في عالم المثال والرؤيا لا يفيد.
(1)
قلت: ترجيح العيني وكلام الكرماني الآتي تقدم في "لامع الدراري"(2/ 3، 4) لا في هذا الكتاب كما يظهر من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
(2)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 5).
(3)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 3).
(4)
"فتح الباري"(1/ 180).
(5)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 26).
(6)
"لامع الدراري"(2/ 41).
قلت: يمكن تحققه في الكتب، فإن زادت الكتب عند رجل على قدر حاجته يؤثر به بعض أصحابه، وكذا في الانتفاع بالشيخ، فإذا بلغ الرجل مبلغ الشيخ، أو قضى حاجته منه، يتركه حتى ينتفع به غيره، ولا يشغله عن انتفاع الغير به مثلًا، انتهى.
وعليه حمله شيخ الهند في "تراجمه" إذ قال ما تعريبه: قد سبقت هذه الترجمة بعينها في بداية "كتاب العلم"، ولذا قال الشرَّاح: إن الفضل له معنيان: الأول: الفضيلة، والثاني: الفاضل عن الحاجة، والمراد في الباب الأول المعنى الأول، وفي الثاني المعنى الثاني، وقد زال بذلك توهم التكرار.
ولكن اختلف كلام العلماء في التطبيق بين مقصود الترجمة والحديث، والراجح عندنا أن غرض المؤلف من الترجمة هو بيان حكم العلم الزائد عن الحاجة، فمثلًا: المفلس المعذور الضعيف الذي لا يستطيع على الزكاة والحج والجهاد من العبادات، وعلى المزارعة والمساقاة والرهن ونحوه من المعاملات، فلا يظن أنه يمكنه في المستقبل الوقوع فيها، فمثل هذا الشخص ما حكم تعلمه بهذه العلوم؟ وهل صرف الأوقات في تعلم ذلك والسفر لأجله داخل في العبادة أم فيما لا يعني؟ فظهر من الرواية أنه داخل في النوع الأول، غاية مما في الباب أنه لا يعمل عليها بنفسه بل يعطيها لغيره بالتعليم والتبليغ كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم العلم الزائد عن حاجته لعمر رضي الله عنه، انتهى.
قلت: ويؤيد ذلك ما في "ابن ماجه"
(1)
من حديث أبي ذر مرفوعًا: "لأن تغدو فتعلَّم بابًا من العلم، عُمل به أو لم يُعمل، خير من أن تصلي ألف ركعة"، ويحتمل عندي أيضًا أن يكون الغرض من الترجمة الترغيب في زيادة العلم لا الاكتفاء على قدر الحاجة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشرب اللبن بقدر
(1)
"سنن ابن ماجه"(ح: 219).
الحاجة بل شرب حتى خرج من أظفاره، فكأن المصنف أَيّد بالترجمة حديث "المشكاة"
(1)
برواية البيهقي عن أنس مرفوعًا: "منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه" الحديث، وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: أراد بهذا الباب الفضل الجزئي، وما مرَّ كان المراد به الفضل الكلي فلا تكرار، انتهى ما في هامش "اللامع".
قوله: (يخرج في أظفاري. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: فيه كناية ومبالغة عن سريان العلم في دواخل بدنه حتى كاد أن يقطر، وفي الحديث دلالة على أن أخذَ العلم أخذٌ بفضلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الفضل الظاهر للعلم، فطابقت الرواية الترجمة، انتهى.
وبذلك جزم ابن المنيِّر
(3)
كما في هامش "اللامع" وفيه: قلت: وعلى هذا فيمكن الجواب عن التكرار بأن الفضيلة في أول "كتاب العلم" كانت باعتبار رفع الدرجات، وههنا باعتبار كونه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك به لذةً وقدرًا وسرورًا، انتهى.
(23 -
باب الفتيا وهو واقف على. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(4)
: إنما افتقر إلى وضع باب لهذا المرام لما علم من ترك الوقوف على الدابة في قضاء حوائج نفسه كما ورد في الروايات، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر"
(5)
، وأيضًا ففيه نوع إعنات للدابة، فدفعه بأن ذلك جائز لضرورة إشاعة العلم إذ لولا وقوفه على الدابة لما سمع الخطبة غير الأدنين، انتهى.
(1)
انظر: "مشكاة المصابيح"(260)، و"شعب الإيمان"(رقم 10279).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 40).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 180).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 43).
(5)
"سنن أبي داود"(ح: 2567) عن أبي هريرة مرفوعًا.
وفي هامشه عن العيني
(1)
: أشار بهذا إلى جواز سؤال العالم، وإن كان مشتغلًا راكبًا وماشيًا وواقفًا على كل أحواله، ولو كان في طاعة، انتهى.
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": أي: الفتيا، وهو واقف على ظهر الدابة أو غيرها جائز ثابت الأصل، وإن كان الأحوط في هذا الزمان جلوس المفتي للإفتاء في مكان مع الاطمئنان والمشاورة مع الأصحاب، انتهى.
وبه جزم شيخ الهند رحمه الله في "تراجمه" إذ قال: إن السكون والطمأنينة لما كان من مقتضيات الإفتاء كما حُكي عن الإمام مالك وغيره من الأئمة، وهو موهم للكراهة في غير تلك الحالة، دفعها الإمام البخاري بهذه الترجمة، انتهى معربًا، إلى آخر ما في هامش "اللامع".
وقوله: (وقف في حجة الوداع) وكتب الشيخ في "اللامع": وكان وقوفه إذ ذاك على ناقته كما هو معلوم فصحت المطابقة، انتهى.
وفي هامشه: وبه جزم شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
إذ قال: ولم يثبت الوقوف على الدابة بحديث الباب، لكنه اعتمد في ذلك على ثبوت وقوفه عليه السلام على الدابة بمنى في حجة الوداع بطريق آخر، انتهى.
وبهذا جزم الحافظ
(4)
وذكر الروايات المصرحة في ذكر الناقة، وتعقب العيني كلام الحافظ وقال
(5)
: إن الترجمة بالدابة أو غيرها ولفظ الحديث "وقف" عام من أن يكون الوقوف على الدابة أو غيرها، انتهى ما في هامش "اللامع".
(1)
"عمدة القاري"(2/ 122).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 51).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 51).
(4)
"فتح الباري"(1/ 181).
(5)
"عمدة القاري"(2/ 122).
(24 -
باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس)
قال الحافظ
(1)
: الإشارة باليد مستفادة من الحديثين المذكورين في الباب، وبالرأس مستفادة من حديث أسماء فقط، وهو من فعل عائشة، لكنه مرفوع حكمًا؛ لأنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان في الصلاة يرى من خلفه فيدخل في التقرير، انتهى.
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": الغرض أنه جائز وإن كان الأحوط في هذا الزمان خلاف ذلك، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": لما كان الثابت المعروف من دأبه صلى الله عليه وسلم شدة الاعتناء بالتعليم والتفهيم حتى إن الصحابة ربما قالوا: ليته صلى الله عليه وسلم سكت، وكان مقتضاه عدم الجواز بالإشارة، نَبَّهَ المصنف بالترجمة على الجواز، فإنه لكل مقال مقام، كذا في هامش "اللامع"
(3)
، وفي "الدر المختار"
(4)
: يكتفي بالإشارة منه، أي: من المفتي لا من القاضي، انتهى.
قوله: (فحرّفها) جعل اليد كحرف السيف للإشارة إلى هيئة إمضاء السيف حين القتل، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(5)
: قوله: "فحرفها" كأن الراوي بَيَّنَ أن الإيماء كان محرفًا، وكأنه فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب أنه يريد القتل، انتهى.
قوله: (حتى الجنة والنار) قال السندي
(6)
: غاية لمحذوف، أي: ورأيت الأمور العظام في هذا المقام حتى الجنة والنار، إذ الجنة والنار مما
(1)
"فتح الباري"(1/ 181).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 52).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 44).
(4)
انظر: "رد المختار"(8/ 31).
(5)
"فتح الباري"(1/ 182).
(6)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 27).
رآه النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ليلة المعراج كما ثبت في الأحاديث، فلا يصح جعل "حتى الجنة" غاية لرؤية ما لم يره قبل، إلا أن يجعل غاية له بتأويل، أي: ما لم أكن أريته في العالم السفلي، ويمكن أن يقال: لعله رآهما في ذلك الوقت على صفة، أو على وجه ما سبقت الرؤية قبل ذلك على تلك الصفة، إلى آخر ما فيه.
قوله: (بهذا الرجل) اختلفوا في ذلك على أقوال عديدة:
الأول: أن لفظ الرجل من قول الراوي بدل محمد كما يظهر مما في "الأوجز"
(1)
، قال عياض: يحتمل أنه مُثِّلَ للميت في قبره، والأظهر أنه سمي له، انتهى.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم مُثِّل له كما تقدم في كلام عياض، وقريب منه ما قيل: إن تصويره صلى الله عليه وسلم (فوىو) يكون في يد الملك، وبه بدأ الشيخ في "الكوكب" وهذا هو.
الثالث: والفرق بينه وبين ما قبله أن المراد من الثاني أن صورته صلى الله عليه وسلم تمثل في القبر كالمرآة.
الرابع: ما قال الطيبي: عبراه بلفظ "هذا الرجل" الذي فيه تعظيم امتحانًا، كذا في "الأوجز"، وفي هامش "الكوكب": قال أبو الطيب: وإنما أبهما ولم يقولا: هذا الرسول لئلا يلقن بإكرامه وتعظيمه أن المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام مقام الامتحان، انتهى.
الخامس: يكشف الحجابات بينه صلى الله عليه وسلم وبين الميت وهما في قبريهما.
السادس: قال الطيبي وشرَّاح "المصابيح": اللام للعهد الذهني، وفي الإشارة إيماء إلى تنزيل الحاضر المعنوي منزلة الصوري مبالغة، انتهى من "الأوجز".
(1)
"أوجز المسالك"(4/ 116).
وفي "الكوكب"
(1)
: قيل: يكتفيان بهذا القول؛ لأنه لا يخطر بالبال حينئذ إلا الله ورسوله، ولا يصح إطلاق الرجل عليه سبحانه وتعالى، فلم يبق مصداقه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
السابع: ما قيل: إنه صلى الله عليه وسلم يشرف بقدومه الشريف، ولعل المشار إليه في الشعر الآتي هذه الحالة:
كششي كه عشق دارد نكَذاردت بدين سان
…
بجنازه كَر نيائي بمزار خواهي آمد
(25 -
باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم
-)
وفي "تراجم شيخ الهند" ما معربه: ولا يخفى أن المقصود من هذه الترجمة أيضًا هو بيان تأكيد التبليغ والتعليم، وهما موقوفان على الحفظ، ولذا بَيَّنَ تأكيد الحفظ أيضًا، وعلم أن أهل العلم عليهم أن لا يقصِّروا في التأكيد للمتعلم بالحفظ والتبليغ، انتهى.
وما قيل: إن غرض الترجمة تعميم العلم وعدم تخصيص التبليغ بالآية فليس بوجيه؛ لأنه سيأتي قريبًا "باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب"، وفيه تعميم العلم.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الإمام البخاري بهذه الترجمة أن التبليغ لا يختص بالعالم، ولا يتوقف على كون المبلغ عالمًا كاملًا، بل ينبغي التبليغ للمعلوم مطلقًا ولو بأشياء معدودة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع وقال:"احفظوه وأخبروه مَن ورائكم"، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتبليغ هذه الثمانية، وكانوا حديثي عهد بالإسلام، وقدموا النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان قبل الفتح، ولهم قدمتان: إحداهما هذه، والثانية: سنة تسع، كما بسطته في هامش "اللامع"
(2)
، ففيه رَدٌّ لما أوردوا على مبلِّغي
(1)
"الكوكب الدري"(2/ 208).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(4/ 24 - 26).
زماننا أنه لا يجوز لهم التبليغ لكونهم غير عالمين، فإن سادات التبليغ لا يأمرونهم إلا بتبليغ ستة أصول التي يعلمونهم بها، فما الفرق بين هؤلاء المبلغين وبين وفد عبد القيس إذ أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ ثمانية أمور.
قوله: (وقال مالك بن الحويرث) الحديث سيأتي مفصلًا في "باب الأذان للمسافر. . ." إلخ، وغير ذلك من الأبواب الآتية بألفاظ مختلفة، والغرض من ذلك أيضًا ظاهر أن الحكم لا يختص بوفد عبد القيس، وأن التبليغ لا يختص بعالم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عَلّم مالك بن الحويرث وأصحابه أشياء وقال:"ارجعوا إلى أهليكم وعلِّموهم".
قوله: (وربما قال) أي: أبو جمرة، كذا في "العيني"
(1)
.
(النقير) يعني: وربما لم يذكره بل اقتصر على الثلاث، وكان جازمًا بالثلاث مترددًا في الرابع، أي: النقير.
وقوله: (وربما قال: المزفت) أي: بدل المقيَّر، وهذا غاية التوجيه، ولا يلتفت إلى غيره، وليس المعنى أنه يتردد في النقير والمزفت، فحينئذ يلزم التكرار بالمقيَّر، وتقدم الحديث في "باب أداء الخُمس من الإيمان"، لم يتردد فيه إلا في المزفت والمقيَّر فقط، وجزم بالنقير، وهو يؤيد ما قلته، كذا في "الفتح"
(2)
.
(26 -
باب الرحلة في المسألة النازلة)
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: المقصود التحريض على تعلم حكم الحادثة لا أن يسكت عليها، وثبت بهذا أيضًا تأكيد التعلم والتعليم، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني: أن السفر كما جاز لكليات العلم وأصوله فكذلك جائز لجزئي وحادثة نجمت، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 140).
(2)
"فتح الباري"(1/ 184).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 45).
وفي هامشه: قال الكرماني
(1)
: الرحلة - بكسر الراء - الارتحال، وأما بضم الراء فهو المرحول إليه، فإن قلت: ما الفرق بين هذا الباب والذي تقدم من "باب الخروج في طلب العلم"؟ قلت: الفرق بأنه لطلب العلم في مسألة خاصة وقعت للشخص ونزلت به، وذلك ليس كذلك، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: وفي نسخة زيادة "وتعليم أهله"، والصواب حذفها؛ لأنها تأتي في باب آخر، انتهى.
قلت: وما حكى الحافظ عن نسخة هي النسخة المصرية، وعليه بُنيت تراجم شيخ الهند.
قلت: وحديث شهادة المرضعة المذكورة في الباب سيأتي في "باب شهادة المرضعة"[في كتاب الشهادات]، وفي "كتاب النكاح"
(3)
، والمسألة خلافية شهيرة، وبظاهر الحديث قال أحمد وإسحاق، وعند الحنفية رجل وامرأتان، وعند الشافعي امرأتان، وعند مالك أربع نسوة، والبسط في هامش "اللامع"
(4)
في "كتاب النكاح".
(27 -
باب التناوب في العلم)
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: غرض الترجمة أن من لا يفرغ عن حوائجه لتحصيل العلم في جميع أوقاته، فينبغي له التعلم على سبيل التناوب، وإن لم يستطع حضور مجلس العلم بنفسه، فينبغي أن يرسل إليه معتمدًا يأتي إليه بالعلم، انتهى.
قلت: ويمكن عندي أن المقصود أن فرضية تعلم العلم لا يوجب أن لا يشتغل إذ ذاك بغيره من الحوائج.
(1)
"شرح الكرماني"(2/ 73).
(2)
"فتح الباري"(1/ 184).
(3)
انظر: "صحيح البخاري"(2660 - 5104).
(4)
"لامع الدراري"(9/ 272).
وقال الحافظ
(1)
: في الحديث أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على أخذ العلم وغيره مع أخذه بالجزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، إلى آخر ما في هامش "اللامع"
(2)
.
قلت: وحديث عمر هذا مختصر، وسيأتي في "المظالم" و"النكاح"
(3)
مفصلًا.
(28 -
باب الغضب في الموعظة)
الظاهر أن المصنف نَبَّهَ بذلك على جوازه بل على استحسانه للواعظ والمعلم. قال الحافظ
(4)
: قصر المصنف على الموعظة والتعليم دون الحكم؛ لأن الحاكم مأمور أن لا يقضي وهو غضبان، والفرق أن الواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان؛ لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج؛ لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على المتعلم سوء فهم ونحوه؛ لأنه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازمًا في حق كل أحد بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين، وأما الحاكم فهو بخلاف ذلك كما يأتي في بابه، إلى آخر ما في هامش "اللامع"، وفيه: وفي "تراجم شيخ الهند": أن الرفق واليسر لما كانا معروفين من دأبه صلى الله عليه وسلم حتى قال في أمر من بال في المسجد "إنما بُعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين"، نبّه المصنف بهذه الترجمة أنه قد يستحسن خلاف ذلك أيضًا، انتهى.
قلت: وكان من دأبه الشريف التيسير كما أفاده شيخ الهند، وقد ورد في تشميت العاطس لأبي داود:"والله ما كهرني ولا ضربني"
(5)
، ومع ذلك
(1)
"فتح الباري"(1/ 186).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 46).
(3)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2468 - 5191).
(4)
"فتح الباري"(1/ 187).
(5)
أخرجه أبو داود الطيالسي (ح: 1105)، ومسلم (ح: 537).
كله قد ثبت غضبه صلى الله عليه وسلم بمواضع عند الحاجة كما ذكر في هامش "اللامع".
قوله: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء) قال الحافظ: يأتي بيانها في تفسير المائدة
(1)
، انتهى.
قلت: بل يأتي بيانها في "كتاب الاعتصام" في "باب ما يكره من كثرة السؤال. . ." إلخ.
(29 -
باب من برك على ركبتيه)
قال العيني
(2)
: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول غضب العالم على السائل لعدم جريه على موجب الأدب، و [في] هذا الباب يذكر أدب المتعلم عند العالم، فتناسبا من هذه الحيثية، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: الظاهر أن المراد بالبروك هو انتصاب النصف الأعلى منه على ركبتيه كما يفعله المشرف إلى الشيء المشرئب له حين هو جالس، ولما كان هيئته تخالف الأدب وتنافيه، أورده لإثبات جوازه عند الفزع وغيره لأجل الضرورة كما فعله عمر رضي الله عنه حين وهمه ما وهم من غضب النبي صلى الله عليه وسلم وموجدته عليهم، وأما إن كان المراد بالبروك هو الجلوس على التشهد، فالأمر أظهر من أن الجلوس ينبغي أن يكون كذلك عند الإمام، لكنه يرد عليه أن عمر كيف لم يعمل بهذا الأدب منذ قعد؟ فإن بروكه هذا لم يكن إلا عند مقالته تلك، إلا بأن يجاب بأن لحالة الخطاب فضل اهتمام على غيرها، فمن الواجب في طريقة الآداب أن يكون جلوسه عند الخطاب على تلك الهيئة، كما جلس جبرئيل عليه السلام عند سؤاله عن الإيمان والإسلام، وأما في غير حالة الخطاب فهو أدب وندب، انتهى.
(1)
انظر: "فتح الباري"(8/ 181، و 13/ 266).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 160).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 48، 49).
قلت: ويحتمل عندي في غرض الترجمة أن الحديث المذكور في هذا الباب كان بمعنى الحديث المذكور في آخر الباب السابق، وكانت فيه فائدة وهي: أدب المتعلم، نَبَّهَ عليه بهذه الترجمة كما ثبت في الأصول، ويكون هذا من قبيل الباب في الباب، وهو الأصل السادس.
قوله: (خرج فقام) قال الحافظ
(1)
: فيه حذف يظهر من الرواية الأخرى، والتقدير، خرج فسئل فأكثروا عليه فغضب فقال:"سلوني"، فقام عبد الله، انتهى.
(30 -
باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم)
قال الحافظ
(2)
: بضم الياء وفتح الهاء، وفي روايتنا أيضًا بكسر الهاء، لكن في رواية الأصيلي [وكريمة]"ليفهم عنه"، وهو بفتح الهاء لا غير، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: زيادة هذا التعليل مشعرة بأن التثليث حيث ما ورد في الرواية، فالمراد به تثليث ما قصد إفهامه لمزيد اعتناء واهتمام، أو لخوف عدم سماعه لمزية ازدحام، وعلى هذا فالمناسب في تأويل قوله:"سلم ثلاثًا" أن يقال: هذا إذا لم يسمعه المسلَّم عليه، وكان الحكم في مثله المراجعة عن الباب كما ورد في حديث أبي ذر، وأما تثليث التسليمات يحمل إحداها: على الاستئذان، والثانية: على الدخول، والثالثة: على الرجوع، فلا يناسب الترجمة، وإن كان صحيحًا في معنى الرواية في نفسها، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ من غرض الترجمة أوجه مما قالته الشرَّاح.
(1)
"فتح الباري"(1/ 188).
(2)
"فتح الباري"(1/ 188).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 50).
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: نبّه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كره إعاده الحديث وأنكر على الطالب الاستعادة وعدّه من البلادة، إلى آخر ما قاله، وأنت خبير بأن هذا الغرض الذي حكاه الحافظ عن ابن المنيِّر يناسب الترجمة الآتية من "باب من سمع شيئًا فلم يفهمه"، وحكى الحافظ عن ابن التين أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان، انتهى.
ولو كان هذا غرض المصنف، كان حقُّ هذا الباب أن يذكره بعد الباب المذكور، أي:"باب من سمع شيئًا".
وتبع شيخ الهند في "تراجمه" القطب الكَنكَوهي إذ قال: الغرض أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثًا عند الحاجة، وإلا فقد يكتفي في الجواب على الإشارة أيضًا كما تقدم قريبًا، ويؤيد الشيخين ما في هامش "اللامع" من كلام الخطابي، وقال السندي
(2)
: الظاهر أنه محمول على المواضع المحتاجة إلى الإعادة لا على العادة، وإلا لما كان لذكر عدد الثلاث في بعض المواضع كثير فائدة، مع أنهم يذكرون في الأمور المهمة أنه صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثًا، انتهى.
قلت: والاستدلال جيد، فإنه لو كان التثليث عادةً مستمرةً ما قالت الصحابة في الأحاديث الكثيرة: قاله ثلاثًا، كذا في هامش "اللامع".
قوله: (سلم عليهم ثلاثًا)، قال الحافظ
(3)
: قال الإسماعيلي: يشبه أن يكون في سلام الاستئذان، وأما إذا يمر على قوم فالمعروف عدم التكرار.
قال الحافظ: وقد فهم المصنف هذا بعينه فأورده مقرونًا بحديث أبي موسى في قصته مع عمر كما سيأتي في الاستئذان، ولكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع أيضًا منه إذا خشي أنه لا يسمع [سلامه]، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 189).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 29).
(3)
"فتح الباري"(1/ 189).
قلت: وحمل العيني
(1)
: تثليث السلام على الاستئذان والتحية والوداع، قلت: وفيه أنه لا يناسب إذًا الباب، وفي تقرير المكي: قوله: "فسلم عليهم" أي: للاستئذان ثلاثًا، ثم يرجع فيذهب إن لم يجب عليه، وهذا المعنى أنسب بترجمة الباب، انتهى.
وفي حاشية البخاري الهندية
(2)
عن "المجمع": قوله: "إذا أتى على قوم. . ." إلخ، فسلّم، أي: الأول عطف على الشرط، وسلّم الثاني جزاؤه، انتهى.
قوله: (ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثًا)، قال الحافظ: هو شك من الراوي، وهو يدل على أن الثلاث ليست شرطًا، بل المراد التفهيم، فإذا حصل بدونهما أجزأ.
(31 -
باب تعليم الرجل أمته. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني: أنه لا ينبغي له الاستنكاف عن تعليم أمته، ولا تعد ذلك في المرأة والأمة حرجًا في خدمة نفسه؛ لأنه حق عليه لهما كما أن الخدمة حق له عليهما، انتهى.
وفي هامشه: والأوجه عندي في غرض الترجمة أن الرجل مأمور بتعليم أوله لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"
(4)
، ولما كان في الحديث تعليم الأمة فقط زاد في الترجمة لفظ:"الأهل" تنبيهًا على أن الحكم لا يختص بالإماء بل الحرائر داخلة فيه بالأولى، كما تقدم في الأصل التاسع عشر من أصول التراجم.
وقال الحافظ
(5)
: مطابقة الحديث بالترجمة في الأمة بالنص، وفي
(1)
"عمدة القاري"(2/ 164).
(2)
(1/ 340).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 52، 53).
(4)
انظر: "صحيح البخاري"(893)، و"صحيح مسلم"(1829).
(5)
"فتح الباري"(1/ 190).
الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم الفرائض والسنن آكد من الاعتناء بالإماء، انتهى ما في هامشه.
وقد أجمل الكلام شيخ الهند في "تراجمه" على الأبواب الثلاثة في محل واحد، وقد تقدم في الباب السابق كلامه المتعلق بالباب السابق مختصرًا، أو جملة كلامه "باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه"، والمراد أنه يعيد الكلام حيث تكون الحاجة إلى الإعادة، وإلا فإنه قد ثبت التعليم بالإشارة فقط أحيانًا كما مر سابقًا، وهذا فيه إشارة إلى الاهتمام بالتعليم والتبليغ، فينبغي للمعلِّم أن يعيد المواضع المهمة مرتين وثلاثًا حتى يثبت في أذهان السامعين، ثم عقد "باب تعليم الرجل أمته وأهله"، ثم "باب عظة الإمام النساء وتعليمهن" على التوالي، ولا إشكال ولا إبهام فيهما، بل الغرض منهما هو الغرض السابق، أي: إثبات شدة الاحتياج إلى التعليم وتعميمه، ولذا أضاف في الترجمة الأولى لفظ "وأهله" مع أن الحديث لم يرد فيه لفظ أهله، انتهى.
قوله: (قال عامر: أعطيناكها. . .) إلخ، قال الحافظ
(1)
: ظاهره أن الخطاب لصالح الراوي عنه كما جزم به الكرماني
(2)
، وليس كذلك، بل إنما خاطب بذلك لرجل من خراسان كما سنذكر ذلك في ترجمة عيسى عليه السلام، انتهى مختصرًا.
قلت: والحديث الذي أشار إليه الحافظ أخرجه البخاري
(3)
في "كتاب الأنبياء" بسنده إلى صالح بن حي: "أن رجلًا من أهل خراسان قال للشعبي، فقال الشعبي: أخبرني أبو بردة" فذكر الحديث، والحديث لم يتعرض الحافظ لقوله:"خذها"
(4)
، وليس هذا اللفظ في ترجمة عيسى، لكن
(1)
"فتح الباري"(1/ 192).
(2)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 87).
(3)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 3446).
(4)
قلت: والحديث الذي فيه: "خذها"، أخرجه البخاري في "كتاب النكاح" (ح: 5083).
الحديث نصَّ في أن السائل كان رجلًا من خراسان، وخاطبه الشعبي بذلك، وصالح بن حي هو صالح بن حيان منسوب إلى جده، ففي هامش البخاري الهندي
(1)
: صالح بن حي هو صالح بن مسلم بن حيان، ولقب حيان: حي، وقد ينسب إلى جد أبيه، كذا في "التقريب"، انتهى.
(32 -
باب عظة الإمام. . .) إلخ
وتقدم ما أفاده شيخ الهند في الباب السابق، وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كانت الخلوة بهن والاجتماع معهن تشعر بالمنع عن ذلك دفعه بأن حرمة ذلك للفتنة، فإذا أمن الفتنة عليه وعليها لا بأس بالنصيحة لهن، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: نَبَّهَ بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصًا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه، واستفيد الوعظ بالتصريح من قوله في الحديث "فوعظهن"، وكانت الموعظة بقوله:"إني رأيتكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير"، واستفيد التعليم من قوله:"وأمرهن بالصدقة"، كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرًا لخطاياهن، انتهى إلى آخر ما فيه.
قوله: (أو قال عطاء) قال الحافظ: معناه: أن الراوي تردَّد: هل لفظ: "أشهد" من قول ابن عباس أو من قول عطاء؟ وقد رواه بالشك أيضًا حماد بن زيد عن أيوب أخرجه أبو نعيم في "المستخرج"، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر عن شعبة جازمًا بلفظ "أشهد" عن كل منهما، انتهى.
قوله: (قال إسماعيل عن أيوب. . .) إلخ، قال الحافظ: هو المعروف
(1)
(1/ 341).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 53).
(3)
"فتح الباري"(1/ 192).
بابن عُلية، وأراد بهذا التعليق أنه جزم عن أيوب بأن لفظ "أشهد" من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم به أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة، وكذا قال وهيب عن أيوب، ذكره الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال
(1)
: يحتمل أن يكون قوله: "وقال إسماعيل" عطفًا على "حدثنا شعبة"، فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل، فلا يكون تعليقًا، وهو مردود بأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلًا، إلى آخر ما بسطه.
(33 -
باب الحرص على الحديث)
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: مقصود الترجمة بيان فضيلة الحرص على الحديث وقد ذكر في الأبواب السابقة والأحاديث الماضية العلم مطلقًا، والمقصود ههنا تخصيص الحديث، فهو تخصيص بعد تعميم، انتهى.
قوله: (قال: قيل) قال الحافظ
(2)
: كذا لأبي ذر وكريمة، وسقطت "قيل" للباقين وهو الصواب، ولعلها كانت "قلتُ" فتصحَّفت، فقد أخرجه المصنف في "الرقاق" كذلك، ولأبي نعيم أن أبا هريرة قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! انتهى.
قلت: والحديث الذي أشار إليه الحافظ أخرجه البخاري
(3)
في "باب صفة الجنة والنار"، ولفظه:"قال: قلت: يا رسول الله! " الحديث، قلت: ويمكن أن يوجَّه لفظ "قيل" بأنه عبر نفسه غائبًا، وهذا غاية تصحيح الكلام.
(34 -
باب كيف يقبض العلم)
وهذا باب ثان بلفظ "كيف" من الأبواب الثلاثين، والكيفية ظاهرة ههنا لا مرد فيه، أي: يقبض بقبض العلماء.
(1)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 92).
(2)
"فتح الباري"(1/ 193).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 6570).
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: مقصود المؤلف أن يبين كيفية قبض العلم، وقد ورد في الحديث صراحةً:"لا يقبض انتزاعًا ولكن يقبض بقبض العلماء"، فعلم بذلك بالبداهة أن ذهاب العلم يكون بإذهاب العلماء، وذلك لعدم الإشاعة وعدم التبليغ، فلو استمر التعليم والإشاعة مسلسلًا ما حدث كما مرَّ في "باب رفع العلم".
وبالجملة: فإن غرض المؤلف رحمه الله، بل ومنشؤ الحديث المرفوع أيضًا، هو تأكيد إشاعة العلم وتعميمه، وظهر مقصود الترجمة من قول عمر بن عبد العزيز واضحًا، وشرحت الترجمة السابقة أيضًا، وتكميل الباب الأول في الباب الثاني من عادة المؤلف كما مرَّ مرارًا، وظهر من القول المذكور أيضًا أنه يجب لإشاعة العلم أن يعقد العلماء المجالس العلمية علانيةً، وفي هذا تسهيل للمتعلمين، وسعة في الترغيب والتحريض، وتقييد التعليم بالقيود والتخصيصات فيه ضياع العلم، الحذر الحذر، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه، انتهى.
قلت: وفي "الإشاعة" روى الديلمي عن حذيفة وأبي هريرة معًا قالا: يُسرى على كتاب الله ليلًا فيصبح الناس وليس منه آية ولا حرف في جوف إلا نسخت، وروي عن ابن عمر: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء، إلى آخر ما فيه.
وفي "الفتح"
(2)
: وعند الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "ولينزعن القرآن من بين أظهركم يسرى عليه ليلًا فيذهب من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء"، وسنده صحيح ولكنه موقوف، انتهى.
قلت: وهذا نص في محو القرآن عن الصدور، وتقدم شيء من ذلك في "باب رفع العلم".
(1)
"فتح الباري"(1/ 195).
(2)
"فتح الباري"(13/ 16).
قوله: (حتى يكون العلم سرًّا) وفي تقرير مولانا حسين على اللاهوري: أي: يسرون العلماء الدقائق والمسائل حتى لا يكون أحد مثلهم، انتهى. كذا في هامش "اللامع"
(1)
.
قال القسطلاني
(2)
: قوله: "سرًّا" أي: خفية؛ كاتخاذه في الدار المحجورة التي لا يتأتى فيها نشر العلم بخلاف المساجد والجوامع والمدارس ونحوها، انتهى.
(قال الفربري: حدثنا عباس. . .) إلخ، ذكر في تقرير مولانا محمد حسن المكي: اعلم أن للبخاري نسخًا كثيرة، وهذه النسخة الموجودة عندنا نسخة الفربري، وما وقع فيها من روايات غيره من تلاميذ البخاري فهو اندراج من الغير ليس في نسخة الفربري، ودأبه أنه إذا علم بالحديث عن غير البخاري كالقياس وغيره يرويه في الكتاب، انتهى. فليفتش.
قلت: وهذا وجه ظاهر لكنه لا يتمشى ههنا؛ لأن هذا اللفظ زاده الفربري بنفسه دون غيره، فتأمل، وفيه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام تلميذ الفربري.
(35 -
باب هل يجعل للنساء يومًا. . .) إلخ
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: المراد أنه ينبغي الاهتمام بالتعليم والتبليغ للأشخاص المعذورين عن حضور المجالس العامة العلمية كالنساء، فينبغي أن يخصص لهم أوقاتًا مناسبة لتبليغهم العلم، ولما أن تعميم التعليم أمر ضروري فينبغي أن يجعل للعام والخاص، والعالم والجاهل، والرجال والنساء، لكل واحد منهم وقتًا خاصًا ليحصِّل كل منهم نصيبه، والله أعلم، انتهى.
قلت: يشكل على الإمام البخاري رحمه الله أنه ترجم بجعل اليوم خاصًا
(1)
"لامع الدراري"(2/ 53).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 344).
للنساء، وهو موجود في الرواية نصًا، فلِمَ زاد لفظ:"هل" في الترجمة؟
ويمكن الجواب عنه: أن المصنف زاده؛ لأنه واقعة خاصة وقعت على سؤالهن مرة واحدة، فهل يكون هذا مطردًا أم لا؟ وقد تقدم الكلام في الأصل الثاني والثلاثين من الأصول المتقدمة على الباب المترجم بلفظ "هل" مفصلًا، فارجع إليه لو شئت التفصيل، والعجب أن أحدًا من المشايخ والشرَّاح لم يتعرضوا للفظ "هل" في هذه الترجمة.
قوله: (حدثنا محمد بن بشار. . .) إلخ، قال الحافظ
(1)
: أفاد بهذا الإسناد فائدتين: إحداهما: تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية الأولى، والثانية: زيادة التقييد بعدم بلوغ الحنث، انتهى مختصرًا.
قوله: (وعن عبد الرحمن) عطف على عبد الرحمن السابق، فشعبة يرويه عن عبد الرحمن بسندين، ووهم من ظنه تعليقًا، انتهى. كذا في "الفتح".
(36 -
باب من سمع شيئًا. . .) إلخ
وفي "تراجم شيخ الهند" ما تعريبه: المقصود بيان فضل المراجعة عند عدم الفهم، أو التنبيه على أن في المراجعة ليس سوء أدب بالعالم، ولا فيه تحقير للمتعلم، فلا ينبغي للعالم الملالُ والتضجُّر عنه، ولا للمتعلم الاستحياء من المراجعة، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتًا، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 7]، وفي حديث عائشة:"فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك فهم الذين سمَّى الله فاحذروهم"، انتهى مختصرًا.
والأوجه عندي في غرض الترجمة ما تقدم قريبًا عن كلام ابن المنيِّر
(1)
"فتح الباري"(1/ 196).
(2)
"فتح الباري"(1/ 197).
في "باب من أعاد الحديث ثلاثًا"، وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: "باب من سمع. . ." إلخ، وعلم بالرواية الموردة فيه جواز ذلك على استحبابه لدوام عائشة رضي الله عنها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها عليها، وكان سؤالها عن قوله:"من حوسب هلك" مبنيًا على ما هو أصل الحنفية أن العام يجري على عمومه إلا إذا قامت قرينة، وأما ما استثناه العقل فخارج عن البحث لخروجه عقلًا، والكلام في الشرعيات، ولو كان كل عامٍّ مخصوص البعض كما هو عند الشافعية لما افتقرت إلى السؤال، وحملت الآية على هذا البعض الخارج عن عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من حوسب هلك".
وحاصل جوابه صلى الله عليه وسلم عن مسألتها: أن الحساب في الآية مجاز عن العرض، سمّاه حسابًا لصورة المحاسبة فيه، وليس حسابًا حقيقةً، فإن الحساب هو استيفاء الدخل باستيفاء الخرج، ولا يكون في العرض مطالبة الحقوق الواجبة بأسرها، ولا المعاتبة على الكبائر والصغائر بتمامها، بل يقتصر على عرض أعماله من الخير والشر فحسب، انتهى.
وفي هامشه: قوله: على ما هو أصل الحنفية، هذه مسألة أصولية مختلفة بين الأئمة، قال صاحب "المنار": إن العام يوجب الحكم فيما يتناوله قطعًا، قال الشارح: قوله: قطعًا، رد على الشافعي حيث ذهب إلى أن العام ظني؛ لأنه ما من عام إلا وقد خُصَّ منه البعض، فيحتمل أن يكون مخصوصًا منه البعض وإن لم نقف عليه، فيوجب العمل لا العلم؛ كخبر الواحد والقياس، ونقول: هذا احتمال ناش بلا دليل وهو لا يعتبر، وإذا خص منه البعض كان احتمالا ناشيًا عن دليل فيكون معتبرًا، فعندنا العام قطعي فيكون مساويًا للخاص، انتهى.
وقوله: "وحاصل جوابه صلى الله عليه وسلم" قال الكرماني
(2)
: وجه المعارضة أن
(1)
"لامع الدراري"(2/ 54).
(2)
"شرح الكرماني"(2/ 101).
الحديث عام في تعذيب كل من حوسب، والآية تدل على عدم تعذيب بعضهم وهم أصحاب اليمين.
والجواب: أن المراد من الحساب العرض، وعن عائشة هو أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه، وقوله:"نوقش" من المناقشة، وهي الاستقصاء في الحساب، انتهى.
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الحساب على نوعين: أحدهما: اللغوي وهو الذي وصف في القرآن بكونه يسيرًا، وثانيهما: العرفي وهو المناقشة، وهو المراد في الحديث، إلى آخر ما في هامش "اللامع".
(37 -
باب ليبلغ العلم الشاهد. . .) إلخ
الظاهر عندي في غرض الترجمة التنبيه على تعميم ما ورد: "بلغوا عني ولو آية"، فإنه يوهم بظاهره تبليغ القرآن لا غير، وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": تعلق هذا الباب بالكتاب من حيث إن مطلوب الشارع إفادة العلم وإشاعته، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": فيه تأكيد تبليغ العلم وتعميمه صراحة، وعلى من حضر مجالس العلم أن يبلغ الأحكام التي سمعها للغائبين، وأما أهل العلم فيجب عليهم التبليغ استقلالًا، فلا يحتاج فيه إلى سؤال سائل، أو حاجة أحد، أو هو مسؤول عن تبليغ ما يعلمه من قليل أو كثير، انتهى.
قوله: (لا تعيذ عاصيًا. . .) إلخ، المسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"
(3)
في جامع الحج، وبسط الكلام على هذا الحديث الشيخ في "الكوكب"
(4)
.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 54).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 54).
(3)
"أوجز المسالك"(8/ 623).
(4)
"الكوكب الدري"(2/ 79 - 83).
وحاصل اختلاف الأئمة في ذلك أن من جنى في الحرم يُقتص منه بلا خلاف، سواء كان في النفس أو فيما دونه، وكذلك من جنى خارجه يقتص فيه فيما دون النفس، وأما في النفس فالمسألة خلافية بين الأئمة فيقتص منه في الحرم عند مالك والشافعي، ولا يقتص عند أبي حنيفة وأحمد، بل يُضْطَّرَ إلى الخروج.
قوله: (ألا هل بلغت) قال الحافظ
(1)
: هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تكملة الحديث، واعترض قوله:"وكان محمد" إلى قوله: "كان ذلك" في أثناء الحديث، هذا هو المعتمد، فلا يلتفت إلى ما عداه، انتهى.
وما قال ابن سيرين: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . إلخ، اختلفوا في المشار إليه بقوله: كان ذلك، فقيل: أي: إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه سيقع التبليغ فيما بعد، فيكون الأمر في قوله:"ليبلغ" بمعنى الخبر، وقيل: إشارة إلى تتمة الحديث، وهو أن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه، يعني: وقع تبليغ الشاهد، وقيل: إشارة إلى ما بعده، وهو التبليغ الذي في ضمن "ألا هل بلغت"، كذا في "القسطلاني"
(2)
.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": قوله: "صدق" أي: وقع ما أمر به، وقد جاء هذا أيضًا في استعمالاتهم.
والظاهر عندي: أن هذا إشارة إلى تتمة الحديث، وهو قوله:"رب مبلغ أوعى له من سامع" فافهم، انتهى.
وهذا الأخير هو المتعين عندي لما يأتي في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا" من "كتاب الفتن" بلفظ: "رُبَّ مبلِّغ يبلغه من هو أوعى له، وكان كذلك"
(4)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 199).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 353).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 54).
(4)
"صحيح البخاري"(ح: 7078).
قال القسطلاني
(1)
: قوله: "وكان كذلك" أي: وقع التبليغ كثيرًا من الحافظ إلى الأحفظ، انتهى.
ويؤيده أيضًا ما في حجة الوداع بلفظ: "لعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، فكان محمد رحمه الله إذا ذكره يقوله: صدق محمد صلى الله عليه وسلم"، وبهذا اللفظ أخرجه في "كتاب الأضاحي"، وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
قوله: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: فيما كان يخاف على أمته من وقعة السيوف فيهم، فكان كما أخبر إلى آخر ما بسط فيه وفي هامشه.
(38 -
باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ
لم يتعرض الشيخ قُدِّس سرُّه لهذه الترجمة في "اللامع"، وزيدت في هامشه
(3)
، وفيه: زدتها تنبيهًا على أنها عندي من تكملة الترجمة السابقة، كأن المصنف قيدها بهذه الترجمة بأن الاهتمام مما لا بد منه، لكن مع شدة الاهتمام في التوقي عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت أشار إلى ذلك شيخ الهند في "تراجمه" إذ قال: وعلم من الأبواب السابقة المتعددة أهمية التبليغ والتعليم والتعميم والتكثير، وفيه خطر الكذب غالبًا بإرادة كان أو بدون إرادة، ولذا نبَّه بذكر هذه الترجمة أن التبليغ والتعليم لا بد فيه من الاحتياط والاهتمام، ويحترز عن التخمين والمجازفة، انتهى معربًا.
وفي هامش "اللامع"
(4)
: قال الحافظ
(5)
: رتَّب المصنف أحاديث الباب ترتيبًا حسنًا؛ لأنه بدأ بحديث علي وفيه مقصود الباب، وثنَّى بحديث الزبير الدالِّ على توقي الصحابة وتحرُّزهم عن الكذب عليه، وثلَّث بحديث أنس الدالِّ على أن امتناعهم إنما كان من الإكثار المفضي إلى الخطأ لا عن
(1)
"إرشاد الساري"(15/ 29).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 56).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 58).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 58).
(5)
"فتح الباري"(1/ 203).
أصل التحديث؛ لأنهم مأمورون بالتبليغ، وختم بحديث أبي هريرة، الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام، انتهى.
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": اعلم أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يمكن من الصحابي لكن في إكثار الرواية مظنة أن يقع شيء من ذلك وما يجب أن يحترز عن مظنة أيضًا، والمكثرون من الصحابة كانوا واثقين بالحفظ والضبط، مأمونين عن وقوع الكذب، ومع ذلك قصدوا نشر العلم وإشاعته، فهم مجزيُّون بنياتهم الحسنة أحسن الجزاء، والمقلُّون أيضًا مجزيُّون بنياتهم الحسنة أحسن الجزاء، ولكل وجهة هو مُوَلِّيهَا:
وللناس فيما يعشقون مذاهب
انتهى.
ثم لا يذهب عليك أن في الباب حديث مكي بن إبراهيم، قال الحافظ
(2)
: هذا الحديث أول ثلاثي وقع في "البخاري"، وقد أُفردت فبلغت أكثر من عشرين، انتهى.
قلت: هي اثنان وعشرون حديثًا، آخرها حديث خلاد بن يحيى في "باب قوله تعالى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} "، ومكي بن إبراهيم هذا من تلامذة الإمام أبي حنيفة كما في "تهذيب"
(3)
الحافظ، قال: وليس في "البخاري" أعلى من الثلاثيات، انتهى كذا في هامش "اللامع".
وقد بسطت الكلام على ثلاثيات البخاري في مقدمة "اللامع"
(4)
تحت خصائص البخاري، وفيه: أن في "البخاري" من اثنين وعشرين حديثًا من الثلاثيات، وهم يعدونها بتلك الشدة من الاهتمام ويكتبون على هامش
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 55).
(2)
"فتح الباري"(1/ 203).
(3)
"تهذيب التهذيب"(10/ 260).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(1/ 102).
كل واحد منها: الأول من الثلاثيات، والثاني من الثلاثيات بقلم جلي، ويفردون الكلام عليها، وهي اثنان وعشرون حديثًا، العشرون منها من تلامذة الإمام الهمام أبي حنيفة النعمان أو تلامذة تلامذته، وقد أفردت الكلام على ذلك في مقدمة "اللامع" في خصائص البخاري، ولذا قيل: أن فقه الإمام أبي حنيفة أكثره ثنائي، فافهم.
(39 -
باب كتابة العلم)
وإيراد هذا الباب السابق في غاية الحسن، فإنه لما حذَّر في الباب السابق عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلعل بعض الهمم متقاصر عن نقل الأحاديث وإشاعتها مخافة الوقوع في الكذب، فيفوت به المقصود الأعظم وهو التبليغ والتعليم، وقد نبّه المصنف في الكذب في كثير من أبوابه على الاهتمام بالتعليم والتبليغ والاعتناء بهما، فأورد المصنف هذه الترجمة بعده ليبين بها طريقة يسلم بها الرجل عن الوقوع في الكذب مع تحصيل المقصود بأن يكتب ما يسمع من الأحاديث والعلم ثم ينقله، والله أعلم.
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: دفع بذلك ما يتوهم من روايات النهي عن الكتابة منعها بأنه كان في أول الأمر ثم رخَّص فيها، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(2)
: طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف أن لا يجزم فيها بشيء بل يوردها على الاحتمال، وهذه الترجمة من ذلك؛ لأن السلف اختلفوا في ذلك تركًا وعملًا، وإن كان الأمر قد استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 58).
(2)
"فتح الباري"(1/ 204).
قلت: وهذا الأصل الذي ذكره الحافظ أصلٌ مطَّرد من أصول الإمام، كما تقدم في الأصل الخامس والثلاثين، لكن الأوجه عندي ههنا أن المصنف أشار بذكر الروايات الواردة إلى استحبابها، كما اختاره شيخ الهند في "تراجمه" إذ قال: لما كانت الكتابة مما لا بد منها لبقاء العلم وحفظه وإشاعته نبّه المصنف بالترجمة إلى استحسانها، بل رغَّب العلماء إلى الكتابة إشارة، انتهى.
وقال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
: غرض المصنف أن كتابة الحديث وإن كانت ممنوعة في عهده صلى الله عليه وسلم كيلا يختلط بالقرآن غيره، أو لئلا يتَّكل الناس على الكتابة من الحفظ، ثم شاع التدوين والتأليف، فله أصل في الحديث وقصص الصحابة؛ كعبد الله بن عمرو بن العاص أدلة عليه وشاهدات، انتهى.
قلت: وبسطت المسألة في "مقدمة الأوجز" أشد البسط، وكانت المسألة خلافية شهيرة في السلف، وكانت فيها ثلاثة مذاهب: المنع والإباحة والمحو بعد الكتابة، كما بسطت أقوالهم وأسماء قائليها في "مقدمة الأوجز"، ثم استقر الأمر على جواز الكتابة، وقد تقدم في كلام الحافظ الإجماع على ذلك، وفي "توضيح مقدمة القسطلاني" لعبد الهادي بعد نقل الاختلاف في ذلك: ثم أجمعوا بعد ذلك وزال الاختلاف، انتهى.
وكذا حكى الإجماع على ذلك السيوطي كما في "مقدمة الأوجز"
(2)
.
قوله: (هل عندكم كتاب) قال الحافظ
(3)
: الخطاب لعلي رضي الله عنه، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم، وقوله:"كتاب" أي: مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف في "الجهاد":"هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ "
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 56).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 65 - 72).
(3)
"فتح الباري"(1/ 204).
وله في "الديات": "هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ " انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
في "كتاب الاعتصام": قوله: "ما عندنا من كتاب" الحديث، رد بذلك على الرافضة القائلين بأنَّه صلى الله عليه وسلم خصَّ عليًّا بصحف ورسائل ليست عند غيره، ولا يضر ذلك استثناء الصحيفة، فإن مسائلها وأحكامها كانت مشتهرة فيما بينهم معلومة لهم عامةً وإن لم تكن مكتوبة منه صلى الله عليه وسلم إلا عنده خاصة، انتهى.
وبسط الكلام على شرح كلام الشيخ في هامشه.
قوله: (قال محمد) أي: البخاري (اجعلوه. . .) إلخ، يعني لفظ:"أو" للشك لا للتنويع، والشك من شيخ أبي نعيم، وغيره يقول: الفيل بالفاء والياء المثناة التحتية، كذا في "الفتح"
(2)
ملخصًا.
وقوله: (ألا وإنها) أي: مكة في (ساعتي هذه) وهي بغد من الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم الغد من الفتح، كما تقدم قريبًا في "باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب".
قوله: (إلا ما كان من عبد الله بن عمرو) يشكل عليه أن الموجود من روايات أبي هريرة أكثر من روايات عبد الله بن عمرو، فإن روايات أبي هريرة خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، وروايات عبد الله بن عمرو سبعمائة، وقيل: روى من المتون سوى الطرق نيفًا وخمسمائة، وأجيب عن هذا الإشكال بأجوبة عديدة في هامش "الكوكب" و"اللامع"
(3)
فإنه أقام بمصر أو الطائف ولم تكن الرحلة إليهما كالرحلة إلى المدينة - زادها الله شرافة وكرامة -.
ومنها أن عبد الله بن عمرو قد يروي عن الكتب السابقة أيضًا فتجنب الناس عن روايته لذلك، ومنها اشتغال عبد الله بن عمرو بالعبادة أكثر
(1)
"لامع الدراري"(10/ 280).
(2)
"فتح الباري"(1/ 206).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 60 - 62) و"الكوكب الدري"(3/ 364).
من التعليم، بخلاف أبي هريرة فإنه كان متصديًا للفتوى والتحديث وتكثير الروايات إلى أن مات رضي الله عنه.
وأما قول أبي هريرة: "ولا أكتب" فيعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو قال: تحدث عند أبي هريرة بحديث فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبًا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا هو مكتوب عندي، قال ابن عبد البر: حديث همام أصح، ويمكن الجمع بأنه كتب بعده عليه الصلاة والسلام، أو لم يكن مكتوبًا بيده بل بخط غيره
(1)
.
قوله: (ائتوني بكتاب. . .) إلخ، وكان ذلك في يوم الخميس كما هو معروف، وكان وصاله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، يعني: في اليوم الخامس من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد أوصى بعد ذلك بوصايا كثيرة من إجازة الوفود والصلاة وما ملكت أيمانهم، ومن تجهيز جيش أسامة، وإخراج المشركين من جزيرة العرب، وأيضًا، قال:"لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد" وأيضًا قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
(2)
، وفي "البخاري" في مرض النبي صلى الله عليه وسلم:"ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم"
(3)
.
قال الحافظ
(4)
: تقدم في فضل أبي بكر من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في مرضه" فذكر الحديث، وقال فيه:"لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر" الحديث، وفيه:"أنه آخر مجلس جلسه"، انتهى.
وقد أخرج البخاري في مناقب أبي بكر عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله" الحديث
(5)
، وفيه: "إن من أَمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 207).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 4441).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 4442).
(4)
"فتح الباري"(8/ 142).
(5)
"صحيح البخاري"(ح: 3654).
لاتخذت أبا بكر خليلًا، لكن أخوة الإسلام" إلى آخر الحديث، وغير ذلك من الروايات الواردة في إفادته صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام، فأي مانع كان له صلى الله عليه وسلم عن نص الإمارة إن كان ضروريًا، فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يعده مهمًا، أو رأى المصلحة في الإبهام، ثم إن كان صلى الله عليه وسلم يكتب فالظاهر أنه عليه السلام يكتب لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كما سيأتي في "باب الاستخلاف" من "كتاب الأحكام" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون"
(1)
.
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
تحت قوله: "فخرج ابن عباس. . ." إلخ، يعني: أن ابن عباس أراد بذلك أنه لما تبين من اختلاف الصحابة ما أدى إلى المقاتلة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما تأسف على ما فعلوا من الاكتفاء بكتاب الله، فإنه صلى الله عليه وسلم لو نص على خلافة الخلفاء بترتيبها لما كان لأحد مخالفة فيها، فلم تصل النوبة إلى مقاتلة بين الصحابة، وإنما حسن ذلك من عمر لما علم أنه يكتب الخلافة لأبي بكر ونحن متفقون عليه، فلا حاجة إلى تصديعه، واستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم منه، فلو كانت الكتابة واجبة من الله تعالى لما تركها بقول أحد، ودلالة الرواية على الترجمة ظاهرة، فإنه لو كتب لكتب ما ليس في القرآن من أمور يوصي بها، فعلم جواز كتابة العلم، انتهى.
وبسط في هامشه الكلام على شرح قول الشيخ قُدِّس سرُّه، ونقل العلَّامة السندي
(3)
في هامش البخاري أنه قيل: إنما كان هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم اختيارًا لأصحابه، فهدى الله عمر لمراده ومَنَعَ من إحضار
(1)
"صحيح البخاري"(ح: 7217).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 63).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 32).
الكتاب، وخفي ذلك على ابن عباس، وعلى هذا فينبغي عدُّ هذا في جملة موافقة عمر ربه، إلى آخر ما بسطه أشد البسط في الإيرادات والأجوبة عنها.
قوله: (فخرج ابن عباس. . .) إلخ، ظاهره من ذلك المكان وليس كذلك، بل من مكان التحديث بعد ذلك بزمان طويل عند وقعة الحروب بين الصحابة كما تقدم في كلام الشيخ، ويشكل على حديث ابن عباس أيضًا أن الوقعة كانت بمحضر من جماهير الصحابة بسبب اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم، وليس في الرواية راو غير ابن عباس رضي الله عنهما وهو من أصاغر الصحابة، وكان في الجماعة على كثير من بني هاشم رضوان الله عليهم أجمعين هذا وقد تكلم الشراح على رواته أيضًا كما بسط في المطولات.
(40 -
باب العلم والعظة بالليل)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك: أن السمر المنهي عنه إنما هو سمره في أمور الدنيا لا مطلقًا، وأن السمر لا يتحقق إلا بعد العشاء قبل النوم، فأما بعد النوم فلا يعدّ سمرًا، ووضع لكل من المرامين بابًا، انتهى.
وفي هامشه: هذا الباب والآتي بعد ذلك متقاربان في المعنى، وفرق بينهما الشيخ بحملهما على المرامين.
وحاصل ما أفاده الشيخ: أن الغرض من الترجمة الأولى التنبيه على أن الحديث بعد النوم لا يعدّ سمرًا، ولذا لم يترجم المصنف ههنا بلفظ السمر.
وحاصل الترجمة الآتية: أن السمر في العلم ليس بمنهي عنه، ولذا أورد المصنف في الباب الأول الرواية الدالة على الحديث بعد النوم بخلاف الباب الثاني.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 65).
قال الحافظ
(1)
: أراد المصنف التنبيه على أن النهي من الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير، انتهى.
قال العيني
(2)
: وفي بعض النسخ: اليقظة بالليل، وهذا أنسب للترجمة، انتهى. يعني: أوفق بالحديث.
وفي "تراجم شيخ الهند": أن المحصول من الروايات الكثيرة؛ كحديث ابن مسعود: "كان يتخولنا بالموعظة. . ." إلخ، وحديث:"يسِّروا ولا تعسِّروا"، وقول ابن عباس:"لا تمل الناس هذا القرآن"، وغير ذلك من الروايات والآثار أنه لا بد في التذكير والتعليم من مراعاة نشاط السامعين، ومعلوم أن الليل وقت نوم وراحة، فكان لمتوهم أن يقول بكراهة التعليم والتذكير في الليل، فدفعه المصنف بهذه الترجمة وأورد فيها روايةً تدل على أنه يجوز إيقاظ النائمين أيضًا لضرورة التذكير فضلًا عما قبل النوم، انتهى.
وذكر العلم ليعم التعلم والتعليم وهما غير العظة فإنه التذكير للغير، انتهى ما في هامش "اللامع".
قوله: (ح وعمرو) بالكسر عطف على معمر، وبالرفع استيناف، أي: قال ابن عيينة: حدثنا معمر، كذا في "الفتح"
(3)
.
(41 -
باب السمر بالعلم)
في "تراجم شيخ الهند": أنه ذكر الممانعة من السمر بعد العشاء في الروايات، ولكن عند الحاجة وفي الأوقات المناسبة ثبت السمر في العلم، وهو مسلم وخارج عن الممانعة، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: وجه الجواز فيه أن النهي عنه لأدائه
(1)
"فتح الباري"(1/ 210).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 242).
(3)
"فتح الباري"(1/ 210).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 66).
إلى فوت صلاة الفجر أو جماعتها، ولا ينجرّ السمر في العلم عادةً، مع أن حالة الوعظ بحيث يؤدي إلى ملل القوم ممنوعة أيضًا فلا يكون إلا قليلًا، بخلاف السمر في أمور الدنيا والقصص، فإن النفس تميل إليها فينجرّ فيؤدي إلى قضاء الصلاة وفواتها، مع أن السمر بالعلم والعظة يعين على الخير فينجر ما كان من تأخير الوقت في النوم بتوفيق الخير فلا يضر، والسمر باللهو يعين على التبلد ولا يعوق عن الشر لما فيه من أثر ذلك فيزداد البلاء على البلاء، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(1)
: السمر بفتح المهملة والميم، وقيل: الصواب إسكان الميم؛ لأنه اسم للفعل، ومعناه الحديث بالليل قبل النوم، وبهذا يظهر الفرق بين هذه الترجمة وبين ما قبلها، انتهى.
وأنت خير بأن الفرق بينهما على ما تقدم في الترجمة السابقة من كلام الحافظ غير ظاهر، نعم على ما تقدم من كلام الشيخ ظاهر.
قوله: (نام الغليم) كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لعل كان ذلك استفهامًا [أو إخبارًا] ليشتغل ببعض ما يفعله الرجل بأهله من الملاعبة وغيرها، انتهى.
وفي هامشه: الغليم تصغير الغلام، وهذا تصغير الشفقة نحو: يا بُني، وقال الحافظ
(3)
: قيل: الترجمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "نام الغليم"، وقيل: في ارتقاب ابن عباس أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين التعليم بالقول والفعل، وقيل: ما يفهم من جعله إياه على يمينه كأنه قال: قف عن يميني، أو لأن الغالب أن الأقارب إذا اجتمعوا لا بد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم كله علم، وكل ذلك معترض، والأولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهو
(1)
"فتح الباري"(1/ 211).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 67).
(3)
"فتح الباري"(1/ 213).
ما أخرجه في التفسير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وفي "كتاب الرد على الجهمية" في "باب تخليق السماوات والأرض" وفيهما: "فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة" وهو نص، وهذا يصنعه المصنف كثيرًا، يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث والنظر في مواقع ألفاظ الرواية، انتهى ملخصًا من كلام الحافظ مع زيادة.
وكتب شيخ الهند: أن هذا الحديث لا يظهر له المناسبة بالترجمة، وقد ذكر الشراح فيه عدة تأويلات، ولكن الحافظ ابن حجر استخرج بعد الخوض والفحص رواية تتعلق بهذا نصًا في كتاب التفسير، قد ورد فيها صراحة:"فتحدث مع أهله ساعة"، فلا حاجة إلى التأويلات مطلقًا كما ذكرنا في الأصول، انتهى.
قلت: ذكره شيخ الهند في الأصل السادس من أصول تراجمه، وقد مرَّ في الأصل الحادي عشر من الأصول المتقدمة في الجزء الأول.
(42 -
باب حفظ العلم)
في "تراجم شيخ الهند": نَبَّهَ المصنف على أنه ينبغي السعي في بقاء الحفظ بعد التعلم، فعلم بالحديث الأول أن من أسباب الحفظ الاشتغال بالعلم، وبالثاني أن قوة الحفظ أيضًا مطلوبة، وهي وإن كانت خلقية لكن لها أسبابًا مؤيدات ومضمرات، فيستحسن مراعاتها:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
…
فأوصاني إلى ترك المعاصي
انتهى.
والأوجه عندي: أن بالحديث الثاني أشار الإمام البخاري أنه لا بد لزيادة الحفظ الدعاء والتضرع إلى الله تعالى وإلى أوليائه، ومطابقة الحديث الثالث بالترجمة أن من أسباب الحفظ بثّ العلم ونشره، ثم من اللطائف أن البخاري ذكر في الباب ثلاثة أحاديث كلها من أبي هريرة، وذلك لكونه من أحفظ الصحابة.
قوله: (بشبع بطنه) قال شيخ المشايخ في "تراجمة"
(1)
: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: يشبع بطنه، أي: يحصل ما يشبع بطنه من القوت؛ لأنه رضي الله تعالى عنه ما كان له مال يتجر به ولا زرع يشتغل به ويأكل منه، فكان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم فيتحصل قوته.
وثانيهما: يشبع بطنه، أي: كان يلازمه ما يريده من المدة، ولا يقوم من مجلسه حتى يستوفي حظه منه؛ كقولهم: فلان يحدث شبع بطنه، ويسافر شبع بطنه، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: بشبع بطنه، أي: مقتنعًا به ومكتفيًا عن السعي في تحصيل الأموال لعدم أحد ممن يكون له حق عليه، وهذا بيان لشأنه وشأنهم، يبيِّن به سبب كثرة الروايات له، وليس المقصود الازدراء بشأنهم أو تحقيرهم حاشاه من ذلك، انتهى.
وفي هامشه: أن أبا هريرة كان إذ ذاك مسكينًا من أصحاب الصفة أسلمت أمه بعد إسلامه بزمان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوج في زمان مروان.
قوله: (فما نسيت شيئًا بعد) وسيأتي في أول "كتاب البيوع" بلفظ: "فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء"
(3)
، وجمع بينهما بحملهما على تعدد العمل، فأفاد مرة حفظ مقالة مخصوصة، وأخرى حفظ سائر ما سمعه بعده، أو يحمل لفظة "من" في حديث "كتاب البيوع" على أنه أجلية، أي: بسبب مقالته صلى الله عليه وسلم، أو يقال: إن لفظة "من" ابتدائية لابتداء الغاية في الزمان، والمقالة مصدر حينئذ، كما بسط في هامش "اللامع"
(4)
في "كتاب البيوع".
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 57).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 69).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 2047).
(4)
"لامع الدراري"(6/ 3).
قوله: (وأما الآخر) كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: حمله أهل الحقيقة على مدعاهم وليس ببعيد، انتهى.
وبسط في هامشه الأقوال في ذلك بالبسط، منها: أن المراد به أسامي أمراء السوء وأحوالهم، ومنها: علوم الباطن والأسرار المصون عن الأغيار المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان، وإليه أشار الشيخ قُدِّس سرُّه، ويؤيده ما في "المسلسلات"
(2)
للشاه ولي الله الدهلوي عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة بالله"، ومنها: أن المراد بها أحاديث أشراط الساعة وما عرف به صلى الله عليه وسلم من فساد الدين وتغير الأحوال، ومنها: ما في تقرير الشيخ المكي، وهو ما ذكر فيه دقائق العلوم؛ كمسألة القدر ونحوها مما لا يفهمه كل أحد فيضلون فيه بآرائهم ويهلكون، ومنها: ما قال شيخ المشايخ
(3)
: المراد به على الصحيح علم الفتن والواقعات التي وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من شهادة عثمان وشهادة الحسين، وكان يخاف في إفشائها وتعيين أسمائها من غلمان بني أمية، إلى آخر ما في هامش "اللامع".
(43 -
باب الإنصات للعلماء)
اختلفوا في غرض الإمام بالترجمة على أقوال، منها: ما قال ابن بطال: الإنصات لازم للمتعلمين؛ لأنهم ورثة الأنبياء، ومنها: ما قال العيني
(4)
: ذكر في الباب السابق حفظ العلم، وبين ههنا أن العلم يحفظ من العلماء، فلا بد من الإنصات لهم حتى لا يشذ عنه شيء، ومنها: ما قال شيخ الهند: إن قول ابن عباس: "لا ألفينّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم" ونحو ذلك
(1)
"لامع الدراري"(2/ 18).
(2)
(ص 80).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 57).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 262).
من الأقوال لما كانت دالة على عدم جواز قطع حديثهم نَبّه المصنف بذلك على أنه يجوز عند الضرورة، ملخصًا من هامش "اللامع".
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: فيه دلالة على جواز الأمر بالإنصات للعلم ولو عن الذكر، فإن الناس كانوا في التلبية وهي ذكر، ولذلك احتيج إلى عقد باب له، فإن الظاهر يأبى عن الإنصات من الذكر وتلاوة القرآن وغيرهما من الطاعات، فأثبت بالرواية أن ذلك جائز لأجل العلم والوعظ، انتهى.
قوله: (قال له) ادعى بعضهم أن لفظ: "له" وهم؛ لأن جريرًا أسلم قبل وصاله عليه الصلاة والسلام بأربعين يومًا، لكن قال ابن حبان وغيره: إنه أسلم في رمضان سنة عشر، ويقويه ما للمصنف في باب حجة الوداع التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام قال لجرير، كذا في "الفتح"
(2)
.
(44 -
باب ما يستحب للعالم. . .) إلخ
قال السندي
(3)
: قيل: الظرف أعني "إذا سئل: متعلق بما بعده وليس بسديد، إذ يلزم أن الباب موضوع لبيان ما يستحب للعالم مطلقًا، وليس كذلك، كيف ولو كان كذلك لكان اللازم أن جميع ما يستحب للعالم هو أن يكل العلم إلى الله إذا سئل: أيُّ الناس أعلم؟ وهذا فاسد، وإنما هو موضوع لبيان ما يستحب له حين السؤال، فالوجه أن الظرف متعلق بيستحب، وأما قوله: "فيكل" جزاء شرط محذوف حذف صونًا للكلام عن صورة التكرار مع ظهور القرينة، وهذا شائع كثير، ومثل هذه الفاء تسمى فاء فصيحة، والتقدير: إذا سئل أيُّ الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، بمعنى: فليكل من وضع الخبر موضع الإنشاء، والجملة الشرطية لبيان ما يستحب له حين السؤال، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 72).
(2)
"فتح الباري"(1/ 217).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 35).
وفي "تراجم شيخ الهند": يعني: أنه لا يستحب للعالم أن يقول: أنا أعلم، إذا سئل: أيُّ الناس أعلم؟ ولو تحقق كونه أعلم الناس، بل يستحب أن يجيب بقوله: الله أعلم، وهذا الأمر واضح من حديث الباب، ويظهر من هذا أن غرض المؤلف رحمه الله أنه ينبغي للعلماء أن يتحلوا بالتواضع دائمًا خصوصًا من جهة العلم، فيلاحظوا نقصان أنفسهم وكمال الرب عز وجل، ولما أن أسباب الكبر والعجب تكثر فيهم، فينبغي لهم الاحتياط الشديد، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: "باب ما يستحب. . ." إلخ، وإن كان يجوز له الحكم بناءً على الظاهر إلا أنه استبعد من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لكونه أرفع شأنًا من أن يظن بنفسه شيئًا من الكمال، وكان فيه فتح باب الكبر والإعجاب، سيما بني إسرائيل فإنهم فرسان هذا الميدان، وحملة ألوية الزهو والطغيان، وإنما بدر موسى إلى مقالته لما علم أن الرسول هو صفوة الله من عباده، ولذلك اختير للإرسال إلى بلاده، وكان مصيبًا في [ظنه] ذلك، إلا أن ذلك لا يستلزم إلا الأعملية في علم الأحكام والشرائع، مع أن للكريم تبارك وتعالى في خليقته صنائع وبدائع، وكان الظاهر من قوله: أنا أعلم، هو الإطلاق، وكونه كذلك في كل نوع من العلوم، فعوتب على ذلك، فلعل أحدًا أعلم منه باعتبار بعض العلوم وإن كان له الفضل فيما هو أعلى أقسام العلوم، أي: علم الشريعة.
ثم إن اتباع موسى عليه السلام له لم يكن إلا بأمر منه تبارك وتعالى، فكان الخضر على حق فيما يصنعه قطعًا، ومع ذلك فلم يكن لموسى عليه السلام صبر على ما كان يصنعه، فلا حجة لمتصوفة زماننا في ترك الاعتراض عليهم فيما يأتوننا من الأمور المنكرة شرعًا، وذلك لأن خضرًا كان نبيًّا، ولو سُلِّم عدمه لكان في أمره تعالى باتباعه كفاية، فعلم أنه مصيب يقينًا، وانتفى اليقين فيما نحن فيه، فلا يجوز لأحد من أهل العلم السكوت على منكر يأتون به؛
(1)
"لامع الدراري"(2/ 73).
ولا يجوز لهم أن يرتكبوه أيضًا إلا أن يكون أحد يخرج عن حيطة الاختيار على نفسه، فيرتفع عنه التكليف الشرعي التحاقًا بالمجانبين، انتهى.
قلت: ومما ينبغي أن يفتش الفرق بين هذه والترجمة الآتية: "باب قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، إذ قال شيخ الهند في غرضها أيضًا التواضع.
قوله: (أن نوفًا البكالي) وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: ولعل وجه توهم نوف المغايرة بين المسمِّين بموسى استبعاد أن يكون موسى وهو من أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله أيضًا يتلمذ على خضر ويتعلم منه، أو يؤمر بذلك منه تبارك وتعالى، انتهى.
وبسط في هامشه في ترجمة نوف البكالي وموسى كليم الله.
قوله: (كذب عدو الله) قال ابن التين: لم يرد إخراج نوف عن ولاية الله، بل قلوب العلماء تنفر إذا سمعت خلاف الحق.
قال الحافظ
(2)
: ويجوز أنه اتهمه في صحة إسلامه، ولذا لم يقل في حق الحر بن قيس هذه المقالة، انتهى. كذا في "الفتح".
قلت: ولعل سبب غضب ابن عباس عليه أنه زعم أن نوفًا أخذه من التوراة، فإن نوفًا على ما في "الكرماني"
(3)
ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم غضب على عمر حين استأذنه صلى الله عليه وسلم أن يكتب شيئًا من التوراة فقال:"أمنهوكون أنتم؟ " الحديث.
وقال القسطلاني
(4)
: قول ابن عباس خرج مخرج الزجر والتحذير لا القدح في نوف؛ لأنه قال ذلك في الغضب، وألفاظ الغضب تقع على غير الحقيقة غالبًا، انتهى. قلت: وإطلاق الكذب على الخطأ شائع في كلام العرب كما تقدم الكلام على ذلك في "الأوجز"
(5)
و"البذل" وغيرهما تحت
(1)
"لامع الدراري"(2/ 75).
(2)
"فتح الباري"(1/ 219).
(3)
انظر: "شرح الكرماني"(2/ 140).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 377).
(5)
"أوجز المسالك"(2/ 625).
قول عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، أي: في قوله: الوتر واجب.
قوله: (إن عبدًا من عبادي هو أعلم منك) استدل بذلك على نبوة خضر عليه السلام؛ لأن غير نبي لا يكون أعلم، وقيل لذلك: إن موسى هذا ليس بموسى النبي، وتوهم به بعضهم أن الولي أفضل من النبي، ويمكن أن يجاب أن المراد به العلم الخاص كما سيأتي في كلام خضر، ملخصًا من "الفتح"
(1)
، وكلام خضر قوله:"أنت على علم من علم الله. . ." إلخ، وكتب عليه الشيخ في "اللامع"
(2)
: فيه دلالة على ما ذكرنا من أن أعلمية خضر كانت مخصوصة، انتهى.
قوله: (ما نقص علمي. . .) إلخ، لفظ النقص ليس على ظاهره؛ لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل: معناه لم يأخذ، وهذا توجيه حسن، ويكون التشبيه واقعًا على الآخذ لا على المأخوذ منه، وأحسن منه أن المراد بالعلم المعلوم، انتهى ملخصًا من "الفتح"
(3)
.
(45 -
باب من سأل وهو قائم. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: هذا الباب والذي بعده ردٌّ لما عسى أن يتوهم عدم جواز المسألة في تينك الحالتين لما فيهما من سوء أدب، ووجه الدفع أن الضرورات تبيح المحظورات، فلو انتظر السائل عن المناسك قعوده صلى الله عليه وسلم وفراغه عن شغله لفات الوقت، وأيضًا ففيه دلالة على أن للسائل أن يسأل عن المسألة حين اشتغال المفتي بشيء من الطاعات التي لا ينافيها الكلام، وأما ما ينافيه الكلام كالصلاة فلا، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح.
وقال الحافظ
(5)
: المراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم
(1)
"فتح الباري"(1/ 220).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 78).
(3)
"فتح الباري"(1/ 220).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 80).
(5)
"فتح الباري"(1/ 222).
لا يعد من باب من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا، بل هو جائز بشرط الأمن من الإعجاب، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": أن الغرض بيان جواز ذلك تنبيهًا على أن ما تقدم من "باب من برك على ركبتيه. . ." إلخ، ليس على الوجوب، انتهى.
(46 -
باب السؤال والفتيا. . .) إلخ
تقدم ما كتب الشيخ في "اللامع" في الباب السابق.
وقال الحافظ
(1)
: يعني: أن اشتغال العالم بالطاعات لا يمنع من سؤاله عن العلم ما لم يكن مستغرقًا فيها، وأن الكلام في الرمي وغيره من المناسك جائز، انتهى.
قلت: هذا الثاني يناسب ما سيأتي في "كتاب الحج""باب الفتيا على الدابة عند الجمرة"؛ لأن المسألة على هذا التوجيه صارت من مسائل المناسك فصارت أنسب بكتاب الحج.
قال الحافظ: وفيه دفع توهم أيضًا أن في السؤال والجواب عند الجمرة تضييقًا على الرامين، لكن يستثنى من المنع ما إذا كان السؤال متعلقًا بحكم تلك العبادة، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": لا يخفى أن ذلك الوقت وقت الاشتغال بمناسك الحج، فعلم أن عند الضرورة لا بأس في السؤال والجواب في هذه المشاغل أيضًا، وعلم أيضًا أنه لا حرج في السؤال والجواب قائمًا، انتهى.
قوله: (عند رمي الجمار) ليس في الحديث إلا عند الجمرة، إلا أنه أعم من أن يكون حال الرمي وغيره، كذا في "العيني"
(2)
.
قال الحافظ: والمصنف يستدل غالبًا بالعموم، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 223).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 279).
(47 -
باب قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلًا} )
قال العيني
(1)
: أراد بهذا الباب التنبيه على أن من العلم أشياء لم يطلع الله عليها نبيًّا ولا غيره، وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلًا" الحديث، وعلى هذا فمقصود الترجمة نفي علم الغيب الكلي عن غيره تعالى، وهو واضح.
وفي "تراجم شيخ الهند": الغرض التنبيه على أن الرجل وإن كان من أكابر العلماء ينبغي له أن يعدّ علمه قليلًا ناقصًا؛ لأن جميع علوم الناس كلهم لما كانت قليلةً فما ظنك بعلم كل واحد من الناس، وثمرة ذلك غاية التواضع والتحرز عن الإجابة بنفسه، انتهى ما في هامش "اللامع"
(2)
.
ومما يجب التنبيه عليه الفرق بين هذه الترجمة وبين ما تقدم من "باب ما يستحب للعالم إذا سئل. . ." إلخ، إذ أفاد شيخ الهند في "تراجمه" في غرض الترجمتين معًا التواضع للعلماء، وما يظهر من روايات الترجمتين أن غرض الترجمة الأولى هو التواضع للعلماء، وأنه لا ينبغي لعالم أن يظن بنفسه أنه أعلم الناس ولو كان واقعًا في نفسه كذلك؛ كالرسل في مقابلة أمتهم وهو التواضع بداهة، وأما غرض هذه الترجمة هو قلة علم المخلوقات حتى الأنبياء والرسل أيضًا بمقابلة علم الله تعالى، وهو قطعي، فالفرق بين الترجمتين واضح.
قوله: ({قُلِ الرُّوحُ. . .} إلخ)، بسط الحافظ
(3)
في "باب قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} الآية [النحل: 40] " في المراد بالروح المسؤول عنه، ورجح أنه لم يقع في القرآن تسميتها روحًا، بل سماها نفسًا، وذكر الآيات في ذلك، وقال صاحب "الفيض"
(4)
: وادعى الحافظ ابن القيم أن المراد في
(1)
"عمدة القاري"(2/ 280).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 80).
(3)
انظر: "فتح الباري"(13/ 443)، وانظر:(8/ 402).
(4)
"فيض الباري"(1/ 222).
الآية المعنى الأول، يعني: غير الروح الإنساني، ومال صاحب "الفيض" إلى أن المراد في الآية هو المعنى الثاني، أي: المدبر للبدن، إلى آخر ما بسطه، وسيأتي البحث عن عالم الأمر وعالم الخلق في آخر الكتاب في "باب قوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} الآية" وذكر هناك في هامش "اللامع"
(1)
بينهما أكثر من اثني عشر فرقًا.
(48 -
باب من ترك بعض الاختيار)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: عم الحكم مع أن الرواية الآتية مصرِّحة بترك الفعل دون القول إشارةً منه إلى أنه لا فرق بينهما في ذلك، فله أن يترك بعض المستحبات والسنن إذا خاف فتنة فكيف بالمباحات، وفيه دلالة على ترك التقليد الغير الشخصي في وقتنا هذا مع جوازه في الأصل، انتهى.
وفي هامشه: قوله: عم الحكم، يعني: عمم الإمام البخاري الترجمة عن القول والفعل، ولذا فسَّرها جميع الشرَّاح بالعموم إذ قالوا: أراد بالاختيار المختار، والمعنى من ترك فعل الشيء أو الإعلام به، انتهى.
إلا أنهم رجحوا كون هذه الترجمة في الأفعال حين الفرق بالترجمة الآتية، فقالوا فيها: إن الترجمتين متقاربتان غير أن الأولى في الإفعال، وهذه في الأقوال، كذا في "العيني"
(3)
.
وقال الحافظ
(4)
- وتبعه القسطلاني -[في الترجمة الآتية]: هذه قريبة من الترجمة التي قبلها، لكن هذه في الأقوال وتلك في الأفعال أو فيهما، انتهى.
وفرَّق بينهما صاحب "فيض الباري" بوجه آخر فقال
(5)
: فكان الباب
(1)
انظر: "لامع الدراري"(10/ 386).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 81).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 288).
(4)
"فتح الباري"(1/ 225)، "إرشاد الساري"(1/ 388).
(5)
"فيض الباري"(1/ 222).
الأول في الفرق بين الفطن الذكي والبليد الغبي، وهذا الباب في الفرق بين الشريف والوضيع، انتهى.
قلت: ويشكل عليه أن الشرَّاح صرحوا بأن دون ليس بمعنى الأدون بل بمعنى سوى كما في "الفتح"
(1)
وغيره.
والأوجه عندي: أن الفرق بين الترجمتين واضح، وهو أن الغرض من الأولى ترك بعض الأقوال أو الأفعال المختارة لقصور فهم بعض الرجال عنه غير الغرض من الثانية، وهو جواز تخصيص بعض الطلبة الأذكياء في الدرس، وأنه غير داخل في كتمان العلم، ولا في كون العلم سرًّا ولا في منع العلم.
وكتب شيخ الهند في الترجمة الأولى: يعني: لو خيف ابتلاء قاصر الفهم بإظهار الأمر المختار في مضرة هي أضر من ترك الأمر المختار، فينبغي للعلماء أن يتركوا ذلك الأمر المختار.
وكتب في الترجمة الثانية: أن غرض الترجمة ظاهر، وهو أن مراعاة المخاطبين في التعليم والتبليغ لازم للعلماء، فلا ينبغي أن يذكر عندهم ما لا يفهمه المخاطب، وقول المرتضى كرم الله وجهه دليل صريح على ذلك، انتهى.
والأوجه عندي: أن قول المرتضى رضي الله عنه أيضًا يؤيد ما قلته من أنه لا ينبغي عند الأغبياء كلام لا يدركه أفهامهم، فلا بأس على هذا أن يمنعهم عن الحضور في الدرس.
قوله: (كانت تسر إليك) في "تقرير المكي"
(2)
: كانت عائشة تخص الأسود ببعض العلم لزيادة فهمه على فهم ابن الزبير مع أنه كان ابن اختها وأسود كان تلميذًا محضًا، انتهى.
قوله: (بكفر) أي: بادر ابن الزبير بهذا اللفظ فقط، أو أكمل الحديث بتمامه، قولان عن الشراح.
(1)
"فتح الباري"(1/ 225).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 81).
(49 -
باب من خص بالعلم قومًا. . .) إلخ
تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
(50 -
باب الحياء في العلم)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: الترجمة في قوله: "لأن تكون قلتها أحب إليّ"، حيث أنكر عليه عمر رضي الله عنه استحياءه ولم يرض به منه، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في مقصود المصنف بهذا الباب، وظاهر كلام الشيخ أن الغرض ترك الحياء في العلم، وعليه حمله عامة الشرَّاح، قال السندي
(2)
: أي: لا ينبغي، ومثله لا يسمى حياءً شرعًا، بل ضعفًا فلا ينافي الحياء من الإيمان، وإليه ميل الحافظ
(3)
، وإليه مال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(4)
إذ قال: ثبت بحديث الباب عدم الحياء في العلم، وحسَّنه أيضًا ثابت بما تقرر في بعض طرق الحديث أن أمهات المؤمنين عبن أم سليم لأجل هذا السؤال، فمنعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، انتهى.
ومال العيني وتبعه صاحب "فيض الباري"
(5)
: أن المقصود من الترجمة التفصيل، وهو أن الحياء مطلوب في موضع، وتركه مطلوب في موضع، فالأول أشار إليه بحديث أم سلمة وحديث ابن عمر، والثاني أشار إليه بالأثر المروي عن مجاهد وعائشة.
وسلك شيخ الهند في "تراجمه" مسلكا ثالثًا فقال: أطلق الإمام الترجمة ولم يحكم عليها بحكم، وظاهرها عدم الاستحباب كما صرَّح به الأعلام، ويؤيده قول مجاهد وعائشة، لكن النظر الدقيق يؤدي إلى أن عند
(1)
"لامع الدراري"(2/ 83).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 37).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 229).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 59).
(5)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 296)، و"فيض الباري"(1/ 227).
المصنف فيه تفصيلًا، ولذا لم يعيِّن الحكم بل أشار إليه بإشارات لطيفة، وهي أن المصنف ينبّه على أن قوله:"إن الله لا يستحيي من الحق" حق لا مراء فيه، لكن معناه أنه لا ينبغي أن يترك له التفقه، وليس الغرض أن لا يستحيي في العلم بل ينبغي له إهمال الحياء في التعلم، وهذا هو الغرض الأصلي من الترجمة، ويدل عليه حديث أم سليم، فإن فيه تنبيهات من غط الوجه وغيره، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"تربت يداك"، ولذا عقد بعد ذلك "باب من استحيى فأمر غيره. . ." إلخ، تنبيهًا على أنه لا بأس في ترك السؤال لأجل الحياء، أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فدلالته على الترجمة خفية، والحق أنه أيضًا يدل على ما قلنا، فإن سكوته للحياء كان مستحسنًا، وقول عمر رضي الله عنه ليس بنكير عليه بل هو إظهار لمسرته، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع".
(51 -
باب من استحيا فأمر غيره. . .) إلخ
تقدم ما قال شيخ الهند في "تراجمه"، وقال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
: قوله: "باب من استحيا. . ." إلخ، أي: هو جائز لحصول أصل الغرض من السؤال، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني: أن الذي ذكر أولًا من كراهة الحياء في المسألة حيث خاف الفوت في الاستحياء، فأما إذا حصل المقصود مع ملازمة الحياء فلا كراهة فإن الحياء خير كله، انتهى.
وفي هامشه: مقصود الترجمة واضح كما أفاده الشيخ، ولا يذهب عليك ما في حديث الباب من قوله:"فأمرت المقداد" الحديث، الروايات في ذلك مختلفة ففي بعضها نسبة السؤال إلى نفسه إذ قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها إلى المقداد كما في حديث الباب، وفي أخرى إلى عمار كما في حديث النسائي وغيره، ولم يتعرض عنه الشيخ ولا عن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 60).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 84).
أكثر أمثال هذه المباحث الحديثية والفقهية؛ لأنه درس أولًا "سنن الترمذي"، وثنّى بـ "سنن أبو داود"، وثَلّث بـ "جامع البخاري" فأكثر المباحث المتعلقة بالحديث والفقه تقدمت في تقرير الترمذي المطبوع باسم "الكوكب الدري"
(1)
، وكذلك في تقرير أبي داود ولم يطبع بعد، وسميته بـ "الدر المنضود على سنن أبو داود"، وفق الله أحدًا بطبعه، وذكر فيهما الكلام على أن السائل علي بنفسه أو عمار أو مقداد، وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"
(2)
.
(52 -
باب ذكر العلم. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: ذكره دفعًا لما يتوهم أن رفع الصوت في المسجد لما كان منهيًّا عنه حتى إن العلماء كرهوا الجهر بالذكر إذا كان فيه ضرر بالمصلين، فأولى أن لا يجوز الفتيا فيه إذ لا يخلو عن رفع الصوت عادةً، فدفعه بأن كراهة رفع الصوت [إنما هو إذا] جاوز الحد المعتاد وأن رفع الصوت بالعلم جائز حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مواقيت الإحرام، ولولا أنه رفع بها صوته لما سمعه ابن عمر، لا يقال: إنه كان قريبًا منه إذ لو كان كذلك لما أبهم عليه لفظ يلملم، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(4)
: أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من توقف فيه لما يقع في المباحثة من رفع الأصوات فنبَّه على الجواز، انتهى.
وفي "تراجم شيخ الهند": أن في الإفتاء والقضاء والتعليم في المساجد كان مظنة الكراهة كما يشير إليها كلام بعض المشايخ، وعند المصنف توسع في ذلك كله، فأشار إلى التوسع في كتابي العلم والقضاء انتهى.
(1)
"الكوكب الدري"(1/ 146).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 472).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 85).
(4)
"فتح الباري"(1/ 230).
ولا يذهب عليك أن رسالة "تراجم شيخ الهند" قُدِّس سرُّه انتهت إلى هذا الباب، والأسف على أنه رحمه الله لم يتمكن من تكميلها لأمراض وأشغال حدثت له في آخر عمره الشريف نوَّر الله مرقده وبرَّد مضجعه، هكذا في هامش "اللامع"، ولم يكن اللامع عندي في المدينة المنورة عند بدء استماع هذه التراجم، فأمرت عزيزي الحاج المولوي عبد الحفيظ المكي بتعريب هذه التراجم، وأمليت في آخر تعريبه:
قد وقع الفراغ من تعريبه واستماعه لهذا العبد الضعيف المبتلى بالسيئات، المحتاج إلى رحمة ربه العليا، المدعو بزكريا بن يحيى بتعريب الأعز المحترم الحاج المولوي عبد الحفيظ المكي أذاقه الله من شراب حبه، بعد العصر يوم الثلاثاء السادس عشر من الشهر المبارك أول الربيعين تحت أقدام النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد النبوي في البلدة المباركة المدينة المنورة زادها الله شرفًا وكرامة وبهجة، وصلى الله تبارك وتعالى على خير خلقه سيدنا ونبينا ومولانا محمد النبي الأمي نبي الرحمة وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة.
(53 -
باب من أجاب السائل. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لما كان الامتناع عن الفضول والإقبال عمَّن لا يقبل على حديثك قد أكد في الروايات توهم بذلك أن الزيادة في الجواب داخلة فيه، فدفعه أنه مندوب لما أمرنا بإشاعة العلم، ودلالة الرواية على ما في الترجمة ظاهرة، فإن السائل إنما سأله عمَّا يلبسه فأجيب بما يلبسه وبما يتركه، وعن النعلين والخفين إذا لم يجد النعلين، انتهى.
وفي هامشه: قال ابن المنيِّر: موقع هذه الترجمة التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم، بل إذا كان السبب خاصًا والجواب عامًا جاز،
(1)
"لامع الدراري"(2/ 86).
وحمل الحكم على عموم اللفظ لا خصوص السبب؛ لأنه جواب وزيادة فائدة، وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين: أن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن يكون الجواب مفيدًا للحكم المسؤول عنه، قاله ابن دقيق العيد، قال ابن رشد
(1)
: ختم البخاري "كتاب العلم" بـ "باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه: إشارة إلى أنه بلغ الغاية في الجواب عملًا بالنصيحة واعتمادًا على النية الصحيحة، كذا في "الفتح"
(2)
.
ولا يذهب عليك ما تقدم في المقدمة في جملة خصائص البخاري ما أفاده الحافظ ابن حجر من أن الإمام يشير في آخر كل كتاب إلى ختمة الكتاب، وذكرت هناك أن الظاهر عند هذا الفقير أنه رضي الله تعالى عنه يشير إلى خاتمة الإنسان فيذكره موته، وتقدمت الإشارة إلى هذا الاختلاف بين هذا المبتلى بالسيئات وبين الإمام الحافظ ابن حجر في آخر كتاب الوحي أيضًا، فبراعة الاختتام ههنا عند الحافظ في قوله:"وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين"، كما صرَّح بذلك في آخر "الفتح"، والبراعة عندي في لباس المحرم، فإنه يذكر ويشبه أكفان الموتى، انتهى من هامش "اللامع".
* * *
(1)
هكذا في النسخ الموجودة عندنا من "الفتح"، والظاهر "ابن رشيد":(ز).
(2)
"فتح الباري"(1/ 231).
4 -
كتاب الوضوء
وفي نسخة: الطهارة، وهو الأولى، قاله العيني.
والمراد ذكر أحكامه وشرائطه ومقدماته، كذا في "الفتح"
(1)
.
(1 -
باب في الوضوء وما جاء. . .) إلخ
وفي نسخة: "باب الوضوء وما جاء. . ." إلخ.
قال الحافظ
(2)
: الوضوء بالضم الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران، انتهى.
وأشار الإمام البخاري بقوله: "ما جاء" إلى اختلاف السلف في معنى الآية، فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وقال الآخرون: الأمر على عمومه إلا أنه في حق المحدث وجوب، وفي غير ندب، وقال بعضهم: كان الإيجاب أولًا ثم نسخ لحديث أحمد وأبي داود أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالوضوء لكل صلاة، فلما شق عليه أمر بالسواك، انتهى من "الفتح".
قلت: ويحتمل أنه إشارة إلى موجب الوضوء، واختلفوا فيه، قيل: الحدث موسعًا، وقيل: هو مع القيام إلى الصلاة، ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل: القيام إلى الصلاة وغير ذلك من الأقوال، ولا يشكل عليه أنه سيأتي قريبًا في "باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين"؛ لأنه اختلاف آخر كما سيأتي، ويحتمل أنه إشارة إلى اختلاف مبدء الوضوء، فقيل: فرض بالمدينة؛ لأن آية الوضوء مدنية، وقيل: فرض بمكة،
(1)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 318)، و"فتح الباري"(1/ 232).
(2)
"فتح الباري"(1/ 232).
ولا ينكر وجود الوضوء قبل الهجرة، ومن أنكر الوجوب حمله على الندب.
قوله: (قال أبو عبد الله: وبيّن عليه السلام. . .) إلخ، كما سيأتي في أبواب مستقلًّا، والغرض أن قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا} الآية، مطلق عن العدد، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أن أقلّه واحد وأكثره ثلاث، كذا في "العيني"
(1)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: هذا مع أنه لو لم يبين لكان الأمر أيضًا كذلك؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، فليس غرضه أن شرعية الإفراد على سبيل الفرض إنما علمت بالسُّنَّة، بل غرضه أن الإفراد ثابت بالسُّنَّة أيضًا كما كان ثابتًا بالكتاب، انتهى.
وفي "النور الساري": والمصنف جعل الآية ترجمة الباب ولم يجئ بالحديث المسند ههنا لما أن جميع ما في الوضوء ليس بخارج من هذه الآية بل كله داخل فيها، فهذا الباب كأنه رأس الأبواب، انتهى.
وقال العيني
(3)
: فإن قلت: المذكور في هذا الباب كله ترجمة، فأين الحديث؟
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن قوله: "وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام. . ." إلخ حديث؛ لأن المراد من الحديث أعم من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، غاية ما في الباب أنه ذكره على سبيل التعليق، وكذا قوله:"وتوضأ أيضًا مرتين مرتين" حديث، لما ذكرنا، ولا شك أن كلًّا منهما بيان للسُّنَّة وهو المقصود من الباب، وهذا الذي ذكرناه على ما وجد في بعض النسخ من ذكر لفظ باب ههنا، وأما على بعض النسخ التي ليس فيها ذكر لفظ باب، فلا يحتاج إلى هذا التكلف، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 341).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 88).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 344).
(2 -
باب لا تقبل صلاة بغير طهور)
الظاهر أن الغرض من الترجمة بيان فرضية الوضوء أو كونه شرطًا.
وفي هامش "اللامع"
(1)
: قال الحافظ
(2)
: هذه الترجمة لفظ حديث رواه مسلم وغيره، وله طرق كثيرة لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري، فلذا اقتصر على ذكره في الترجمة، وأورد في الباب ما يقوم مقامه، انتهى.
قلت: وهذا أصل مطَّرد من أصول التراجم المذكورة في المقدمة، وهو الأصل الأول منها، ثم لم يتكلم الشيخ في "اللامع" على بحث القبول بشيء؛ لأنه أطنب الكلام عليه في أول "الترمذي" كما تقدم في "الكوكب الدري"
(3)
.
قوله: (ما الحدث؟) لما كان لفظ الحدث مشتركًا بين الحدث المقابل للطهارة وبينه بمعنى إحداث أمر التبس الأمر عليه، فسأله لتعيين أحد محتمليه، فبيَّن المعنى الأول ببيان بعض أفراده ولم يستوف الأقسام لحصول المطلوب بدونه، كذا في "اللامع"
(4)
.
وفي هامشه: لله در الشيخ ما أجاد في لفظ واحد، فإنه دفع في ذلك إيراد مشهورًا وارادًا على أبي هريرة في أنه كيف اقتصر على بعض الأحداث دون بعض، وحاصل ما أفاده الشيخ أن أبا هريرة لم يرد إذ ذاك بيان الحداث حتى يرد عليه ما أورده، بل أراد تعيين أحد محتملات اللفظ فقد حصل، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" من كلام الحافظ والخطابي والعيني
(5)
وغيرهم.
وفي "تراجم
(6)
شيخ المشايخ": قوله: فساء أو ضراط. . . إلخ، حصر أبو هريرة الحدث بهذين حصرًا إضافيًا بالنسبة إلى ما زعم السائل
(1)
"لامع الدراري"(2/ 89).
(2)
"فتح الباري"(1/ 234).
(3)
"الكوكب الدري"(1/ 28).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 90).
(5)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 347)، و"فتح الباري"(1/ 235).
(6)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 62).
إدخاله في الحدث من توهم خروج الشيء، وكون غير الفساء والضراط مما يخرج من السبيلين حدثًا ناقضًا للوضوء كان معلومًا للسائل ظاهرًا عنده ثابتًا بنص القرآن، فافهم، انتهى.
(3 -
باب فضل الوضوء والغرّ المحجّلون)
كذا في أكثر الروايات بالرفع، وهو على سبيل الحكاية، أو الواو استئنافية، "والغر المحجلون" مبتدأ والخبر محذوف، أي: لهم فضل، أو الخبر قوله:"من آثار الوضوء" أي: منشأهم آثار الوضوء، وفي رواية:"الغر المحجلين" بالجر وهو ظاهر، انتهى من "الفتح" بزيادة من "العيني"
(1)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: الظاهر أن الاختصاص كرامة من الله منةً على هذه الأمة وإن كان الوضوء فيهم أيضًا.
وفي هامشه: يعني: أن الخصيصة كونهم غرًّا محجلين، وليس المعنى أن للوضوء خصيصة لهم كما توهم الحليمي؛ لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة مع الملك أنه لما همّ بها قامت تتوضأ، الحديث
(3)
، وفي قصة جريج الراهب أيضًا أنه توضأ وصلى، وقد صرح بذلك في رواية مسلم
(4)
عن أبي هريرة مرفوعًا: "قال: سيما ليست لأحد غيركم"، انتهى مختصرًا.
(4 -
باب لا يتوضأ من الشك)
قال السندي
(5)
: أي: لا يلزمه الوضوء لا أنه لا ينبغي له أن يتوضأ، نعم إذا كان في الصلاة فيما ينبغي له إفساد الصلاة كما هو مقتضى الحديث، انتهى.
(1)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 348)، و"فتح الباري"(1/ 235).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 91).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 2217).
(4)
"صحيح مسلم"(ح: 247).
(5)
"حاشية السندي علي صحيح البخاري"(1/ 38).
قلت: وغرض الترجمة ظاهر، ويمكن أن يكون إشارة إلى رد قول المالكية إذ خصوا الحكم بداخل الصلاة وقالوا: لا يدخل في الصلاة بوضوء مشكوك، والمسألة خلافية.
ففي هامشي على "البذل"
(1)
: قال الموفق
(2)
: من تيقن في الطهارة ثم شك في الحدث أو العكس فهو على ما تيقن، بهذا قال سائر أهل العلم فيما علمنا إلا الحسن قال: إن كان قبل الدخول في الصلاة لا يدخل فيها مع الشك، وإن كان في الصلاة مضى فيها، وقال مالك: إن كان يستنكحه كثيرًا فهو على وضوئه وإلّا فلا يدخل في الصلاة مع الشك، وقال ابن رسلان: المشهور عن مالك النقض مطلقًا، وروي عنه النقض خارج الصلاة، وروي عنه مثل الجمهور أنه لا وضوء عليه مطلقًا، انتهى.
قلت: فهذه أربع روايات عن مالك، وذكر ابن العربي
(3)
خمسة أقوال وبسطه أشد البسط.
(5 -
باب التخفيف في الوضوء)
قال القسطلاني
(4)
تبعًا للحافظ والعيني: أي: جوازه، انتهى.
والأوجه عندي أنه أشار إلى أن الإسباغ ليس بواجب، أو الدلك ليس بواجب، أو يقال: إن للوضوء مرتبتين: أقلها وأكملها، فأشار إلى الأول بهذا الباب، وإلى الثاني بالباب الآتي كما سيأتي.
قوله: (يخففه عمرو ويقلله) والفرق بينهما أن التخفيف يقابله التثقيل، وهو من باب الكيف، والتقليل يقابله التكثير، وهو من باب الكم، وقال ابن بطال: يريد بالتخفيف تمام غسل الأعضاء دون التكثير من إمرار اليد،
(1)
"بذل المجهود"(2/ 33).
(2)
"المغني"(1/ 262).
(3)
انظر: "عارضة الأحوذي"(1/ 100).
(4)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 408)، و"فتح الباري"(1/ 239)، و"عمدة القاري"(2/ 360).
وقال ابن المنيِّر: يخففه، أي: لا يكثر الدلك، ويقلله، أي: لا يزيد على مرة مرة، انتهى من "العيني"
(1)
.
قوله: (رؤيا الأنبياء وحي) فهو دليل على ما تقدم من أنه لا ينام قلبه، واستدل لإثباته بالآية بأنه لم يكن وحيًا كيف يجوز ذبحه بالرؤيا؟
(6 -
باب إسباغ الوضوء)
وهو إبلاغه مواضعه وإيفاء كل عضو حقه.
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": الإسباغ الإكمال، وهو في الوضوء على أقسام: الاستيعاب وهو فرض، والتثليث وإطالة الغرة والتحجيل والإنقاء، أي: إزالة الدرن بالدلك وهذه سنن ومستحبات وآداب، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: دفع به ما يتوهم من الباب السابق أن التخفيف هو الأولى، ومعنى قوله: الإسباغ هو الإنقاء، أن الإكمال ههنا ليس في الكم على المحدود شرعًا ولا المرات، وإنما المراد إكمال كيفيته حتى يحصل الإنقاء، انتهى.
وفي هامشه: ولا يبعد أن يقال: إن المصنف نبَّه بهذين البابين على طرفي الوضوء، فأدناه التخفيف وأعلاه الإسباغ، انتهى.
(7 -
باب غسل الوجه باليدين. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله: ثم أخذ غرفة من ماء. . . إلخ، يعني: أن الماء لا يأخذ إلا مقدار غرفة واحدة بيد واحدة ولكنه يغسل باليدين معًا لئلا يضيع الماء؛ ولأنه باليدين أقدر منه على الغسل بيد واحدة، انتهى.
(1)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 363).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 64).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 92).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 93).
وفي هامشه: قال الحافظ
(1)
: مراد المصنف بالترجمة التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعًا، والإشارة إلى تضعيف الحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل وجهه بيمينه، وجمع الحليمي بينهما بأن هذا حيث كان يتوضأ من إناء يصب منه بيساره على يمينه، والآخر حيث كان يغترف، لكن سياق الحديث يأباه؛ لأن فيه أنه بعد أن تناول الماء بإحدى يديه أضافه إلى الأخرى وغسل بهما، انتهى.
وأنت ترى أن ما أفاده الشيخ لا يرد عليه ما أورده الحافظ على الحليمي؛ ولا يبقى التعارض بين الروايتين أيضًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا أخذ الماء في اليمين وغسل به وجهه فكأنه غسله بيمينه، واليسار كان معينًا لليمين لحفظ الماء والإسباغ على الوجه، انتهى.
قلت: وسيأتي قريبًا أن أبواب الوضوء كلها متناسبة بعضها ببعض إلا أن المناسبة بينهما دقيقة يحتاج إلى التدبر والفهم الثاقب، وهذا الباب عندي تكملة للباب السابق، فإن الرجل يحتاج في الإسباغ والإكمال إلى الاستعانة باليدين، ويؤيده ما قال الحافظ في فوائد الحديث: وفيه غسل الوجه باليدين جميعًا إذا كان بغرفة واحدة؛ لأن اليد الواحدة قد لا يستوعبه، انتهى.
(8 -
باب التسمية على كل حال. . .) إلخ
عطف الجماع عليه من عطف الخاص على العام للاهتمام به، وليس العموم ظاهرًا من الحديث الذي أورده، لكن يستفاد من باب الأولى؛ لأنه إذا شرع في حالة الجماع وهي مما أمر فيه بالصمت فغيره أولى، وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله في حالين: الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحته لا ينافي حديث الباب؛ لأنه يحمل على حال إرادة الجماع، انتهى
(2)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 241).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 242).
ويشكل ذكر التسمية ههنا، وقد أجيب عنه وعن مثل أنواعه في هامش "اللامع"
(1)
مفصلًا لا بد من ذكره ههنا؛ لأنه كله مما يتعلق بالتراجم، ولفظه: اعلم أن الشرَّاح قاطبة اختلفوا في شأن الإمام البخاري في ذكر هذه التراجم المختلفة، فمن ناقد عليه ومن مثبت له بدقة النظر، وأنا أيضًا في الثاني كما سترى إن شاء الله تعالى في التراجم الآتية.
قال الكرماني
(2)
في هذا الباب: فإن قلت: ما وجه الترتيب الذي لهذه الأبواب إذ التسمية إنما هي قبل غسل الوجه لا بعده، ثم إنَّ توسُّط أمر الخلاء بين أبواب الوضوء لا يناسب ما عليه الوجود؟
قلت: البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غيره، ونعم المقصد، انتهى.
وقال الحافظ
(3)
في "باب ما يقول عند الخلاء": أشكل إدخال هذا الباب والأبواب التي بعده إلى "باب الوضوء مرة مرة"؛ لأنه شرع في أبواب الوضوء، فذكر منها فرضه وشرطه وفضيلته وجواز تخفيفه واستحباب إسباغه، ثم غسل الوجه، ثم التسمية؛ ولا أثر لتأخيرها عن غسل الوجه؛ لأن محلها مقارنة أول جزء منه، فتقديمها في الذكر عنه وتأخيرها سواء، لكن ذكر بعدها القول عند الخلاء، واستمر في ذكر ما يتعلق بالاستنجاء، ثم رجع فذكر الوضوء مرة مرة، وقد خفي وجه المناسبة على الكرماني، فذكر قول الكرماني المذكور.
ثم قال: وقد أبطل هذا الجواب في التفسير، فقال: لما ناقش البخاري في أشياء ذكرها من تفسير بعض الألفاظ بما معناه: لو ترك البخاري هذا لكان أولى؛ لأنه ليس من موضوع كتابه، وكذلك قال في مواضع أخر إذا لم يظهر له توجيه كلام البخاري، مع أن البخاري في جميع
(1)
"لامع الدراري"(2/ 93 - 99).
(2)
"شرح الكرماني"(2/ 183).
(3)
"فتح الباري"(1/ 242، 243).
ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن؛ كأبي عبيدة والنضر بن شميل وغيرهما، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمد له من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما.
والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب، مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه، وقد أبديت في هذا الشرح من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به، وقد أمعنت النظر في هذا الموضع فوجدته في بادئ الرأي يظن الناظر فيه أنه لم يعتن بترتيبه كما قال الكرماني، لكنه اعتنى بترتيب كتاب الصلاة اعتناءً تامًا كما سأذكره هناك.
وقد يتلمح أنه ذكر أولًا فرض الوضوء وأنه شرط لصحة الصلاة، ثم فضله وأنه لا يجب إلا مع التيقن، وأن الزيادة فيه على إيصال الماء [إلى العضو] ليس بشرط، وأن ما زاد على ذلك من الإسباغ فضل، ومن ذلك الاكتفاء في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأن التسمية مع أوله مشروعة كما يشرع الذكر عند دخول الخلاء فاستطرد من ههنا لآداب الاستنجاء وشرائطه، ثم رجع ليبيِّن أن واجب الوضوء المرة الواحدة وأن الثنتين والثلاث سُنَّة.
ثم ذكر سُنَّة الاستنثار وإشارةً إلى أن الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر، وورد الأمر بالاستجمار وترًا في حديث الاستنثار فترجم به؛ لأنه من جملة التنظيف، ثم رجع إلى حكم التخفيف فترجم بغسل القدمين لا بغسل الخفين إشارةً إلى أن التخفيف لا يكفي فيه المسح دون مسمَّى الغسل، ثم رجع إلى المضمضة؛ لأنها أخت الاستنشاق، ثم استدرك بغسل العقبين لئلا يظن أنهما لا يدخلان في مسمَّى القدم، وذكر غسل الرجلين في النعلين ردًا على من قصر في سياق الحديث المذكور فاقتصر على النعلين.
ثم ذكر فضل الابتداء باليمين، ومتى يجب طلب الماء للوضوء، ثم
ذكر حكم الماء المستعمل وما يوجب الوضوء، ثم ذكر الاستعانة في الوضوء، ثم ما يمتنع على من كان على غير وضوء، واستمر على ذلك إذا ذكر شيئًا من أعضاء الوضوء استطرد منه إلى ما به تعلق لمن يمعن التأمل، إلى أن أكمل كتاب الوضوء على ذلك، وسلك في ترتيب الصلاة أسهل من هذا المسلك، فأورد أبوابها ظاهرة التناسب في الترتيب، فكأنه تفنن في ذلك، انتهى.
وقال العيني في "باب غسل الوجه باليدين"
(1)
: إن قلت: ما وجه المناسبة بين البابين؟
قلت: المناسبة بين البابين المذكورين وبين أكثر أبواب كتاب الوضوء غير ظاهرة، ولذلك قال الكرماني، فذكر قوله، ثم قال: لا نسلم أن جملة قصده نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه فقط، بل معظم قصده ذلك مع سرده في أبواب مخصوصة، ولذا بوَّب الأبواب على تراجم معينة، حتى وقع منه تكرار كثير لأجل ذلك، فإذا كان الأمر كذلك ينبغي أن تتطلب وجوه المناسبات بين الأبواب، وإن كانت غير ظاهرة بحسب الظاهر، فنقول: وجه المناسبة بين البابين المذكورين من حيث إن من جملة المذكور في الباب الأول بعض وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الباب أيضًا وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ابن عباس لما توضأ قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فهذا المقدار من الوجه كاف على أن المناسبة العامة موجودة بين الأبواب كلها لكونها من واد واحد، ثم توجيه المناسبات الخاصة إنما يكون بقدر الإدراك، انتهى.
وقال
(2)
أيضًا في موضع آخر رادًا على الكرماني: فالمتأمل إذا أمعن النظر عرف وجوه المناسبات بين الأبواب، وإن كان الوجه يوجد في بعضها ببعض التكلف، فنقول: ذكر عقب كتاب الوضوء ستة أبواب ليس فيها شيء
(1)
"عمدة القاري"(2/ 371).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 377).
من أوصاف الوضوء، وإنما هي كالمقدمات لها، ثم ذكر الباب السابع الذي فيه صفة الوضوء، وكان ينبغي أن يذكره بعد أبواب الاستنجاء في أثناء أبواب صفة الوضوء، ولكنه ذكره بعد الباب السادس بطريق الاستطراد، انتهى.
وأنت ترى ما أبدى الحافظ من المناسبات أعمق مما ذكره العلامة العيني، ومن يمعن الفكر في هذه الأبواب يجد فيها مناسبات أدق مما ذكره الحافظ أيضًا، فالظاهر عند هذا الفقير أن المصنف ذكر هذا الباب بعد إسباغ الوضوء إشارةً إلى أنه يحتاج للإسباغ إلى معاونة اليدين، فكان هذا الباب عندي تكملة لباب الإسباغ المذكور قبل، وهكذا في جملة أبواب الوضوء ذكر الباب الظاهر فيه عدم المناسبة لمناسبة لطيفة لما قبله، على أنه لا يبعد أنه أشار بخلاف الترتيب في ذكر أبواب الوضوء وبالتفريق بين أبوابها على أن الترتيب والولاء ليسا بشرط في الوضوء، فتأمل فإنه إن شاء الله لطيف وخاطري أبو عذره.
وهكذا في باب التسمية هذا لا يرد عندي ما أورده من أنه كان حقُّه أن يذكر قبل غسل الوجه؛ لأن باب غسل الوجه عندي تكملة لباب الإسباغ، ومن ههنا شرعت أبواب آداب الاستنجاء، فذكر أول أدبه التسمية، فأصل الغرض منه التسمية عند الخلاء، وإن ثبت منه التسمية على الوضوء أيضًا بالطريق الأولى، فكأن المصنف ذكر أولًا أبواب الوضوء إجمالًا من كونه فرضًا وندب الإسباغ وغيره، ثم ابتدأ بالخلاء؛ لأنه مقدم على الوضوء، وهكذا في الأبواب الآتية إلا أنه لما ذكر مسألة في محل لمناسبة لا يعيدها مرة أخرى لحصول المقصود بذكرها، ولذا لا يعيد غسل الوجه بعد ذلك، فتأمل وتشكر فإنه لطيف.
ثم الترجمة التي نحن بصددها، فالمشايخ والشرَّاح على أن المقصود منها التسمية على الوضوء، ثم أوردوا عليها أن حقَّها كان قبل غسل الوجه، وقد عرفت أن المقصود منها عندي التسمية عند الخلاء، ولذا قدَّمها على
الأبواب الآتية، وكأنه أشار إلى حديث الترمذي عن علي مرفوعًا:"ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله"
(1)
الحديث، قال العيني
(2)
: إسناده صحيح، وإن كان أبو عيسى قال: إسناده ليس بقوي، انتهى.
وهذا أصل مُطَّرد من أصول التراجم معروفة عند المشايخ، وأما على ما أفاده المشايخ والشراح ففي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": لما لم يكن الحديث الذي روي في "باب التسمية قبل الوضوء" من قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسم لا وضوء له" على شرط المؤلف لكون بعض رواته نساء مستورة الحال، أثبت سُنِّية التسمية للوضوء بالحديث الذي أورده في هذا الباب لدلالته على استحباب التسمية عند الوقاع الذي هو أبعد الأحوال عن ذكر الله على الوضوء بالطريق الأولى، انتهى.
وأنت خبير بأن دلالة الحديث على التسمية عند الخلاء أشبه بالتسمية عند الوقاع من التسمية على الوضوء.
قال الحافظ
(4)
: قوله: "عند الوقاع" من عطف الخاص على العام للاهتمام به وليس العموم ظاهرًا من الحديث الذي أورده لكن يستفاد من باب الأولى؛ لأنه إذا شرع في حالة الجماع وهي مما أمر فيه بالصمت فغيره أولى، وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله في حالين: الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحته لا ينافي حديث الباب؛ لأنه يحمل على إرادة الجماع، انتهى.
وقال القسطلاني: قوله: "الجماع" من عطف الخاص على العام للاهتمام به، والحديث الذي ساقه شاهد للخاص لا العام، لكن لما كان
(1)
أخرجه الترمذي (606).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 386).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 65).
(4)
"فتح الباري"(1/ 242).
حال الوقوع أبعد حال من ذكر الله تعالى ومع ذلك تُسن التسمية فيه، ففي غيره أولى، ومن ثم ساقه المصنف ههنا لمشروعية التسمية عند الوضوء ولم يسق حديث:"لا وضوء لمن لم يذكر الله عليه" مع كونه أبلغ في الدلالة، لكونه ليس على شرطه بل هو مطعون فيه، انتهى.
وهكذا قال غير واحد من شرَّاح الحديث، ولا بد أن يرد عليه ذكر المصنف إياه في غير محله بوجهين: الأول: تأخيره عن غسل الوجه، والثاني: ذكر أبواب الاستنجاء بعد التسمية على الوضوء، ولو يراد به التسمية في بدء الاستنجاء فلا إيراد أصلًا، ويثبت من التسمية على الوضوء بالطريق الأولى، وبعموم لفظ:"على كل حال" فالظاهر عندي أن الإمام أراد بهذا الباب التسمية عند الخلاء، ولذا قدَّمه على الدعاء الآتي في الباب اللاحق خلافًا لما عليه عامة المشايخ والشرَّاح من حملهم إياه على التسمية عند الوضوء، فلو سلم فيمكن الاعتذار عن المصنف بذكره إياه ههنا أنه أشار بذلك إلى أن التسمية في أول الوضوء ليست بفرض بل هي مستحبة، فقدَّم الفرض وأخَّر الندب للتنبيه على مرتبتهما.
(9 -
باب ما يقول عند الخلاء)
أي: عند إرادة الدخول في الخلاء، وهذا عند الجمهور.
قال الأبهري: من يكره الذكر في تلك الحالة يفصِّل ويقول: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أوان الشروع؛ كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور وقالوا: من نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه، ومن يجيزه مطلقًا - كما نقل عن مالك - لا يحتاج إلى التفصيل، كذا في "البذل"
(1)
.
(1)
انظر: "بذل المجهود"(1/ 157)، و"فتح الباري"(1/ 244).
وفي شرح شيخ الإسلام على البخاري: أن المصنف انتقل ذهنه مما يقول عند الجماع إلى ما يقوله عند الخلاء، انتهى.
وقد تقدم تفصيل الكلام في الترتيب بين هذه التراجم في الباب السابق.
(10 -
باب وضع الماء عند الخلاء)
قال ابن المنيِّر: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه كان مترددًا بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئًا، فرأى الثاني أوفق؛ لأن في الأول تعرضًا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، وفعله يدل على ذكائه، فناسب أن يُدعى له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع، وكذا كان، كذا في "الفتح"
(1)
.
ثم الأوجه عندي: أن المصنف أشار بذكر هذا الباب بين أبواب الاستنجاء إلى أن وضع الماء هذا كان للاستنجاء، ولذا وضعه عند الخلاء لا للوضوء، بعد الاستنجاء، كما يدل عليه لفظ الوضوء، في الحديث، فلو كان كذلك لم يضعه قريبًا من بيت الخلاء، إلا أن استنجاءه عليه الصلاة والسلام بالماء سيأتي في باب مستقل فتكون الترجمة ههنا شارحة.
(11 -
باب لا تستقبل القبلة. . .) إلخ
وفي المسألة ثمانية مذاهب معروفة بسطت في "الأوجز"
(2)
، الأشهر منها ثلاثة: التفرقة بين البنيان والصحارى كما هو مختار البخاري، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، والثاني: الإباحة مطلقًا، وهو مذهب الظاهرية، والثالث: المنع مطلقًا، وهو مذهب الحنفية وأحمد في رواية.
وأشكل بأنه ليس في الحديث الدلالة على الاستثناء، وأجيب بثلاثة أوجه:
(1)
"فتح الباري"(1/ 244).
(2)
"أوجز المسالك"(4/ 162).
أحدها: أنه تمسك بحقيقة الغائط؛ لأنه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية وإن كان يطلق على كل مكان مجازًا، فيختص النهي بالحقيقة اللغوية، وهذا جواب الإسماعيلي وهو أقواها.
وثانيها: أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها عرفًا، قاله ابن المنيِّر.
ثالثها: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور بعد، قاله ابن بطال، كذا في "الفتح"
(1)
.
وفي "تراجم
(2)
الشاه ولي الله الدهلوي": في هذه المسألة القول معارض للفعل، فأشار المؤلف بضم الاستثناء إلى الترجمة إلى وجه الجمع بأن القول في الصحراء، والفعل في الأبنية والدور، انتهى.
وقال الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "عند البناء جدار أو نحوه" إشارة منه إلى اختلاف محمل الروايتين جمعًا بين الروايات ودفعًا للتعارض الناشئ باختلاف معانيها، انتهى.
(12 -
باب من تبرز على لبنتين)
قال في "تراجم
(4)
الشاه ولي الله": أي: هو جائز، انتهى.
والأوجه عندي ما كتب الشيخ في "اللامع"
(5)
فقال: الرواية الموردة فيه من جملة ما كان المقصود إيراده في الباب المتقدم، إلا أنها لما تضمّنت مسألة على حدة وهو أنه ينبغي أن يكون جلوسه للتبرز على شيء مرتفع لئلا تصيب النجاسة بدنه، أفرد له بابًا للتنبيه على هذه الزيادة، فكأنه قال: إن
(1)
"فتح الباري"(1/ 245).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 67).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 100).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 70).
(5)
"لامع الدراري"(2/ 100).
الرواية مع دلالتها على ما تضمنه الباب السابق من الترجمة دالة على مسألة أدب المتبرز في جلوسه، وهذه فائدة جليلة ويكثر وقوعها في كتابه، انتهى.
قلت: هذا هو الأصل السادس من أصول التراجم.
قوله: (لعلك من الذي يصلون على. . .) إلخ، قال الحافظ
(1)
: قوله: "لعلك" خطاب لواسع، وغلط من زعم أنه مرفوع، وقد فسَّره مالك بمن يلصق بطنه بوركه إذا سجد، وفسره في "النهاية" بأنه يفرج ركبتيه فيصير معتمدًا على وركيه، وأشكل مناسبته بما سبق فقيل: يحتمل أنه أراد أن المخاطب لا يعرف السُّنَّة، إذ لو كان عارفًا بها لعرف الفرق بين الفضاء والبناء، قاله الكرماني، انتهى.
قلت: وإليه ميل العيني
(2)
، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وليس في السياق أن واسعًا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفته، والذي يظهر في المناسبة ما دلَّ عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده عن واسع قال:"كنت أصلي في المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه" فذكر الحديث المذكور، فكان ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئًا لم يتحققه، فسأله عنه بالعبارة المذكورة، إلى آخر ما في هامش "اللامع"
(3)
.
(13 -
باب خروج النساء إلى البراز)
الأوجه عندي في غرض الترجمة بيان جواز خروج النساء إلى البراز دفعًا لما يظهر من قوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية [الأحزاب: 33]، عدم جواز خروجهن مطلقًا لا للبراز ولا لغيره كما يدل عليه الحديث الثاني:"قد أذن لكن أن تخرجن في حاجتكن"، فظاهر الحديث أن الخروج للحاجة أيضًا كان ممنوعًا قد أذن فيه بعد المنع، واختلف العلماء والشرَّاح في
(1)
"فتح الباري"(1/ 248).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 398).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 101).
مصداق الحجاب في هذه الأحاديث، فظاهر حديث الباب أن قصة سودة كانت قبل نزول الحجاب، وسيأتي في التفسير في "باب قوله تعالى:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ. . .} " إلخ [الأحزاب: 53]، عن عائشة قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب.
والجمع بينهما عندي أن المراد في الحديث الذي فيه "بعد ما ضرب الحجاب" آية الحجاب المعروفة من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، والمراد في الحديث الذي فيه "فأنزل الله الحجاب" غير الحجاب الأول، ولعل المراد به قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية، والظاهر منها عدم جواز الخروج مطلقًا، ولما كان فيه حرج عظيم أذن لهم في الخروج لحوائجهن كما في حديث هشام عن أبيه.
وقريب منه ما كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
إذ قال: قوله: فأنزل الله الحجاب، أي: الحجاب الذي كان يهواه عمر رضي الله عنه لهن إذ الحجاب الشرعي قد كان نزل من قبل، والحاصل أن عمر كان يهوى أن لا يخرجن محتجبات أيضًا، ويتبرزن في البيوت، فصار ذلك مستحبًا بعد زمان، وإن بقي الجواز بعده أيضًا، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه في نقول كلام الشرَّاح في مصداق الحجاب في الحديثين ومصداق الحجاب في الآيات، فارجع إليه لو شئت التفصيل.
(14 -
باب التبرز في البيوت)
قال الحافظ ابن حجر والعيني
(2)
: عقَّب المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء للبراز لم يستمر، بل اتخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت فاستغنين عن الخروج إلا للضرورة، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 103 - 106).
(2)
"فتح الباري"(1/ 250)، و"عمدة القاري"(2/ 251).
والأوجه عندي: أنه رضي الله عنه عقَّبه إشارة إلى الأولوية، وأما الجواز للضرورة فقد علم من الرواية المارة "قد أذن لكن"
(1)
الحديث، ولعله عقب بهذا الباب الحديث السابق الوارد فيه:"فأنزل الله آية الحجاب"، إشارةً إلى أن اتخاذ الكنف في البيوت كان بعد نزول آية الحجاب.
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: لما كان لمتوهم أن يتوهم كراهة ذلك لما فيه من التداني والتلبس بالنجس رده فذكر ما يدل على جوازه، إلا أن التطهر لما كان مطلوبًا يجب أن يزيله عن البيت قبل الفساد، ولا يتركه يجتمع منه الكثير، انتهى.
وفي هامشه: ويزيد التوهم ما في "البذل" برواية الطبراني
(3)
عن عبد الله بن يزيد مرفوعًا: "لا ينقع بول في طست في البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه بول مستنقع"، انتهى.
فإذا كان ذلك في البول فما ظنك بالغائط الذي هو أشد رائحة كريهة من البول، وأيضًا ورد:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز أبعد"، وقد ورد النهي عن البراز في الموارد وغيرها، وهذه كلها تؤيد التوهم، ولا تنافي رواية الطبراني ما في "أبي داود" عن أميمة قالت:"كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان [تحت سريره] يبول فيه بالليل"
(4)
الحديث، بوجوه بسطت في "البذل"
(5)
.
(15 -
باب الاستنجاء بالماء)
أشار بذلك إلى الرد على من كرهه، وعلى من أنكر وقوعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، روي الأول بأسانيد صحيحة عن حذيفة أنه قال: "إذًا لا يزال
(1)
ولفظ الحديث: "قد أُذِنَ أن تخرجن في حاجتكن".
(2)
"لامع الدراري"(2/ 107).
(3)
"المعجم الأوسط"(2/ 312)(رقم 2077).
(4)
أخرجه أبو داود (ح: 24)، والنسائي (ح: 32).
(5)
"بذل المجهود"(1/ 251).
النتن في يدي"، وعن نافع: كان ابن عمر لا يستنجي بالماء، وقال ابن الزبير: ما كنا نفعله، ونقل الثاني ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم، انتهى من "الفتح"
(1)
.
وفي "المنهل"
(2)
بعد ذكر قول "الفتح": قال الحطاب: وهذان النقلان - يعني: ما عن مالك وابن حبيب - غريبان والمنقول عن ابن حبيب أنه منع الاستجمار مع وجود الماء، بل لا أعرفهما في المذهب، انتهى.
وما حكي أنه صلى الله عليه وسلم لم يستنج بالماء ترده الروايات الصريحة في ذلك، ذكرها العيني
(3)
مفصلًا إذ قال: قد تظاهرت الروايات بالأخبار عن استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء وبالأمر به، ثم بسط الروايات، منها: ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن جرير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير: بإداوة من ماء فاستنجى منه" الحديث، ومنها: ما رواه الترمذي
(4)
عن عائشة أنها قالت: "مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله"، ومنها: ما رواه ابن حبان عن أبي هريرة: "أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى حاجته ثم استنجى من تور" وغير ذلك من الروايات التي بسطها مع الكلام عليها، والجواب عنه، وهو مؤدى رواية الباب، وقوله:"يعني: يستنجي به" تنبيه على عدم التيقن بلفظ الشيخ، وحديث أنس هذا أخرجه مسلم وأبو داود
(5)
، وفيه:"فقضى حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء"، وفي "الأوجز"
(6)
: ما نقل عن مالك أنه أنكر الاستنجاء بالماء أنكره الزرقاني، وقال: معروف مذهبه أن الماء أفضل، وأفضل منه الجمع بينه وبين الحجر، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 251).
(2)
"المنهل العذب المورود"(1/ 160).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 409).
(4)
انظر: "سنن الترمذي"(ح: 19).
(5)
"صحيح مسلم"(ح: 271)، و"سنن أبي داود" (ح: 43).
(6)
"أوجز المسالك"(1/ 358).
(16 -
باب من حمل معه الماء)
قال القسطلاني تبعًا للحافظ
(1)
: بضم الحاء وكسر الميم خفيفة، انتهى.
قلت: وهو ظاهر من الروايتين، والشرَّاح سكتوا عن غرض الترجمة، ولا يبعد عندي أن المصنف أشار بذلك إلى أنه ينبغي تعجيل الاستنجاء بعد الفراغ، ولذا ينبغي له أن يحمل معه الماء كيلا يلزم تأخير الاستنجاء، وفيه: أن هذا المعنى قد ظهر بما سبق من وضع الماء عند الخلاء.
قلت: حمله معه أسرع منه في إزالة النجاسة، فهذا ترق من الأولى، ولا يبعد أن يقال: إن الغرض من الترجمة جواز مثل هذه الاستعانة في الاستنجاء كما سيأتي التفصيل في الاستعانة في الوضوء في "باب الرجل يوضِّئ صاحبه"، ويشير إلى ذلك ضبط الشرَّاح لفظ حمل في الترجمة ببناء المفعول.
(17 -
باب حمل العنزة مع الماء)
قال الحافظ
(2)
: العنزة - بفتح النون - عصًا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، والزج بزاي مضمومة ثم جيم مشددة، أي: سنان، وفهم بعضهم من تبويب البخاري أنه كان يحملها ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر؛ لأن الضابط ههنا أن يستر الأسافل، والعنزة ليست كذلك، نعم يحتمل أن يركزها ويضع عليها ثيابه للتستر، أو يركزها بجنبه لتكون إشارةً إلى منع من يروم المرور بقربه، أو تحمل لنبش الأرض الصلبة، أو لمنع ما يعرض من الهوام، أو تحمل؛ لأنه كان إذا استنجى توضأ وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه، انتهى مختصرًا.
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 425)، و"فتح الباري"(1/ 251).
(2)
"فتح الباري"(1/ 252).
أو المراد بنبش الأرض الصلبة ما روي أنه عليه الصلاة والسلام يرتاد لبوله كما في "أبي داود"
(1)
، أو لأخذ الحجارة للاستنجاء.
(18 -
باب النهي عن الاستنجاء باليمين)
قال الحافظ
(2)
: عبَّر بالنهي إشارةً إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدب من الآداب، وبكونه للتنزيه قال الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم.
قوله: (فلا يتنفس في الماء) وفي رواية أبي داود
(3)
بدله "فلا يشرب نفسًا واحدًا" والجمع بينهما أوجه عندي من ترجيح رواية البخاري، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أربعة آداب: أدبين في الاستنجاء، وأدبين في الشرب، واتفق الرواة على ذكر الأولين، واختلفوا في ذكر الآخرين، وذكر بعضهم واحدًا، والآخرون بعضًا آخر منها.
(19 -
باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال)
قال الحافظ
(4)
: أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب الذي قبله محمول على المقيد بحالة البول فيكون ما عداه مباحًا، وقال بعض العلماء: يكون ممنوعًا أيضًا من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، انتهى.
قوله: (فلا يأخذن ذكره بيمينه) وفي "البذل"
(5)
: قال الحافظ: وقد أثار الخطابي ههنا بحثًا وبالغ في التبجح به، وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه في الإشكال والأجوبة عنه، فارجع إليه، وحاصل إيراد الخطابي أن الجمع بين
(1)
انظر: "سنن أبي داود"(ح: 3).
(2)
"فتح الباري"(1/ 253).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 31).
(4)
"فتح الباري"(1/ 254).
(5)
"بذل المجهود"(1/ 168)، و"فتح الباري"(1/ 253).
النهي عن مس الذكر باليمين عند البول، وبين النهي عن الاستجمار باليمين مشكل، ثم أجاب عنه بنفسه، وردّ عليه الحافظ وغيره، وردّ على الكل شيخنا، فارجع إليه لو شئت.
(20 -
باب الاستنجاء بالحجارة)
قال الحافظ
(1)
: أراد بهذه الترجمة الرد على من زعم أن الاستنجاء مختص بالماء، انتهى.
والأوجه عندي: أن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى اختلافهم في حقيقة الاستنجاء بالحجارة هل هو مطهر وتعبد؟ كما قال به الشافعية والحنابلة، أو مقلل للنجاسة ومعقول؟ كما قال به الحنفية والمالكية، كما في "البذل"
(2)
وهامشه لهذا الفقير مبسوطًا، وعلى هذا الاختلاف تتفرع عدة مسائل من وجوب الأحجار الثلاثة والاستنجاء بغير الأحجار والروث والعظم وغير ذلك، ولم يذكر المصنف الحكم في الترجمة تشحيذًا للأذهان كما هو دأبه، انتهى من هامش "اللامع"
(3)
.
(21 -
باب لا يُستنجى بروث)
وعلى اختلافهم في حقيقة الاستنجاء كما تقدم اختلفوا في الاستنجاء بالروث.
كتب الشيخ في "البذل"
(4)
: النهي لنجاسته ويلتحق به كل ما كان نجسًا، ولكن إذا استنجى بالنجس يجوز ذلك مع الكراهة عندنا، وأما عند الشافعية لم يصح استنجاؤه، ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء ولا يجزئه الحجر، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 255).
(2)
"بذل المجهود"(1/ 189).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 108).
(4)
"بذل المجهود"(1/ 290).
وفي هامشه: ومذهب الحنابلة كالشافعية كما في "نيل المآرب"
(1)
، والمالكية مع الحنفية في ذلك، ففي "المنهل"
(2)
: وقالت المالكية: لا يجوز الاستنجاء بالنجس كأرواث الخيل والحمير وعظم الميتة، وذكر أشياء، ثم قال: وأجزأ الاستنجاء بما ذكر مع الحرمة إن حصل الإنقاء، انتهى.
قوله: (ليس أبو عبيدة ذكره) يعني: أن أبا إسحاق لا يذكر هذه الرواية عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، بل يذكره عن عبد الرحمن بن أسود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود، قال الحافظ: إنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن، مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة، بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة، ورواية أبي عبيدة ذكره الترمذي وغيره، كذا في "الفتح"
(3)
.
وفي "تراجم
(4)
الشاه ولي الله" استدرك الترمذي على البخاري بمواضع، منها هذا، انتهى.
قلت: بسطه الترمذي
(5)
وقال: وضع البخاري في "صحيحه" حديث زهير، وأصح شيء عندي حديث إسرائيل، أي: عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود.
(22 -
باب الوضوء مرةً مرةً)
لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة مرة، واثنين واثنين، وثلاثًا وثلاثًا، ترجم البخاري على كل منها مستقلًا تنبيهًا على جواز كل منها، وعلى أن التثليث درجة الكمال، ولا كراهة في الاكتفاء باثنين أو مرة.
(1)
"نيل المآرب"(1/ 49).
(2)
"المنهل العذب المورود"(1/ 145).
(3)
"فتح الباري"(1/ 257).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 73).
(5)
انظر تحت حديث: (رقم 17).
قال الحافظ
(1)
: والحديث مجمل تقدم مفصلًا في "باب غسل الوجه باليدين"، انتهى.
(23 -
باب الوضوء مرتين)
قال الحافظ
(2)
: وحديث الباب مختصر من حديث مشهور في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بعد من حديث مالك وغيره، لكن ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عيينة في حديث عبد الله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين ومسح الرأس وتثليث غسل الوجه، وعلى هذا فحق حديث عبد الله بن زيد أن يبوِّب له غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثًا، وقد روى أبو داود والترمذي
(3)
من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وهو شاهد قوي لرواية فليح هذه، فيحتمل أن يكون حديثه هذا المجمل غير حديث مالك المبين لاختلاف مخرجهما، انتهى مختصرًا.
وإلى تعدد الرواية مال العيني
(4)
إذ قال بعد ذكر الاعتراض المذكور عن صاحب "التلويح": قلت: هذا الاعتراض غير وارد؛ لأنه لا يمتنع تعدد القضية، كيف والطريق إلى عبد الله بن زيد مختلف، انتهى.
(24 -
باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا)
وهذا الكمال في الوضوء ويكره الزيادة عليه وما في الحديث قوله: "فمضمض واستنثر" مجمل سيأتي مستقلًا في "باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة"، وسيأتي الكلام هناك.
قوله: (ولكن عروة يحدث. . .) إلخ، قال الحافظ
(5)
: يعني: أن شيخي
(1)
"فتح الباري"(1/ 258).
(2)
"فتح الباري"(1/ 259).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 136)، و"سنن الترمذي" (ح: 43).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 436).
(5)
"فتح الباري"(1/ 261).
ابن شهاب اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان، فحدثه به عن عطاء على صفة، وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافًا، وإنما هما حديثان متغايران، وقد رواهما معاذ بن عبد الرحمن، إلى آخر ما بسطه الحافظ.
زاد القسطلاني
(1)
: فأما صفة تحديث عطاء فتقدمت، وأما صفة تحديث عروة عنه فأشار إليها بقوله:"فلما توضأ عثمان" عطف على محذوف، تقديره: عن حمران أنه رأى عثمان دعا بإناء [فأفرغ على كفيه] إلى أن قال: فغسل رجليه إلى الكعبين، فلما توضأ قال، الحديث.
قوله: (لولا آية ما حدثتكموه. . .) إلخ، كتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(2)
: قاله رضي الله عنه؛ لأنه خاف أن لو سمع الناس بمثل هذه البشارة اجترأوا على المعاصي وقالوا: يغفر الله لنا بهذا العمل اليسير ولنفعل ما نشاء، وقال مالك رحمه الله في توجيه مثل هذا الكلام من عثمان: إنه قال ذلك؛ لأنه خاف أن الناس يستبعدونه فلا يقبلونه فيقعون في الإنكار ويكذبون عثمان في رواية الحديث ويأثمون، لكن الآية التي قدرها عروة لا تلصق بهذا التوجيه، بل الآية التي أوردها عثمان على هذا التوجيه قوله:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فمعنى الكلام: أن الحديث يؤيده النص من القرآن، فلم يمكن لكم إنكاره وإن استبعدتموه مني، ولولا هذه الآية لما حدثتكموه خوفًا من طعنكم في الدين وإنكاركم الحديث، فافهم هذا المقام فإنه مما زَلّ فيه أقدام الشرَّاح فخبطوا كثيرًا، والله الهادي وإليه الرشاد، انتهى.
قلت: الحديث الذي أخرجه مالك في "الموطأ"
(3)
بلفظ: "لولا أنه
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 438).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 74).
(3)
"موطأ مالك"(رقم 59).
في كتاب الله" الحديث، وفيه: قال مالك: أراه يريد هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وفي "الأوجز"
(1)
: قوله: "لولا أنه" كذا روى يحيى بالنون والضمير، أي: لولا أن معناه في كتاب الله موجود كما سيأتي في آخر الحديث ما حدثتكموه، أي: هذا الحديث أبدًا لئلا تتكلوا، لكن لما كان معناه في كتاب الله موجودًا كما سيأتي فلا فائدة في ترك الرواية، وروى أبو مصعب وغيره بلفظ:"لولا آية" بالياء والمد وهاء التأنيث، أي: لولا آية في كتاب الله تتضمن معناه ما حدثتكموه، قاله الباجي
(2)
.
وقال الحافظ
(3)
: إن النون تصحيف من بعض الرواة إلى آخر ما في "الأوجز" وفيه في تفسير مالك: قال الباجي: وعلى هذا التفسير تصح الروايتان بلفظ الياء والنون، لكن في الصحيحين عن عروة أن المراد بالآية قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} الآية [البقرة: 159]، وهو راوي الحديث، ورواه بالجزم فهو أولى بالقبول، ولذا رجحه الحافظ والنووي وجماعة، بخلاف الإمام مالك فذكره بالظن، والجزم أولى فيكون المعنى على تفسير عروة: لولا آية تمنع من كتمان العلم ما حدثتكم به، وعلى هذا لا تصح رواية النون، انتهى.
وأجاد حضرة الشيخ الكَنكَوهي على ما حكاه مولانا محمد حسن المكي في "تقرير مسلم"
(4)
: قوله: "ما حدثتكم"؛ لأن حديثي هذا نسخة من الكيمياء، لا أحب أن يطلع عليها كل أحد، وغرضه الترغيب في الحديث، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 408).
(2)
"المنتقى"(1/ 71).
(3)
"فتح الباري"(1/ 328).
(4)
انظر: "الحل المفهم لصحيح مسلم"(1/ 54).
(25 -
باب الاستنثار في الوضوء)
هو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ سواء كان باستعانة يد أو بدونه، وحكي عن مالك كراهة فعله بغير اليد لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة، كذا في "الفتح"
(1)
.
ويشكل تقديم هذا الباب على المضمضة، كما تقدم الكلام في "باب التسمية. . ." إلخ على ترتيب الأبواب مفصلًا.
قال الحافظ: كأنه أشار إلى الابتداء بتنظيف الباطن قبل الظاهر، انتهى.
والأوجه عندي في تقديمه على المضمضة إشارة إلى شدة تأكيده فوق المضمضة كما سيأتي في بابها مع ما فيه الإشارة إلى عدم وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء.
قوله: (ذكره عثمان) في الباب الذي قبله، "وعبد الله بن زيد" في باب مسح الرأس كله، "وابن عباس" في باب غسل الوجه من غرفة، كذا في "العيني"
(2)
.
قال الحافظ
(3)
: ليس في حديث ابن عباس المذكور الاستنثار بل فيه الاستنشاق فلعله أشار إلى ما رواه أبو داود والحاكم من حديثه: "استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا"، وتعقبه العيني بأن في بعض نسخ البخاري استنثر موضع استنشق.
(26 -
باب الاستجمار وترًا)
استشكل أيضًا إدخال هذا الباب في أثناء أبواب الوضوء، وأجيب بأن أبواب الاستطابة لم تتميز في هذا الكتاب عن أبواب صفة الوضوء
(1)
"فتح الباري"(1/ 262).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 450).
(3)
"فتح الباري"(1/ 262).
لتلازمهما، ويحتمل أن يكون ممن دون المصنف، كذا في "الفتح"
(1)
، وتقدم أيضًا توجيه الحافظ.
وعندي: أن من دأب المصنف في هذا الكتاب أنه إن كان في حديث الباب فائدة خاصة ينبِّه عليها، وهذا أصل معروف بباب في الباب كما تقدم في أصل السادس من الأصول السبعين المتقدمة في الجزء الأول، ولما كان في الحديث السابق الاستجمار وترًا نبَّه عليها بباب مستقل، وإليه مال العيني
(2)
.
وبه جزم الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
إذ قال: هذا مثل ما تقدم قريبًا فإن رواية الباب المتقدم لما تضمنت زيادة فائدة من إيتار الاستجمار نبَّه على ذلك بزيادة باب، انتهى.
وبسط الكلام على ذلك في هامشه، وفيه: ومع ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه لا يبعد عندي أن المصنف أشار بوصل هذا الباب إلى الباب السابق إلى أولوية الإيتار في الاستنشاق؛ لأنه أحق بالإيتار منه مع اجتماعهما في كونهما إزالة القذر.
(27 -
باب غسل الرجلين. . .) إلخ
كذا للأكثر وزاد أبو ذر: "ولا يمسح على القدمين".
قال العيني
(4)
: وجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله ما ذكرنا أن الباب الذي قبله كان تبعًا للذي قبله، فيكون هذا الباب في الحقيقة يتلو الباب الذي قبله، والمناسبة بينهما ظاهرة؛ لأن كلًّا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء، انتهى.
قلت: لم يندفع بعد إشكال إدخال هذا الباب بين بابي الاستنشاق والمضمضة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 263).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 454).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 115).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 460).
والأوجه عندي: أن المصنف أشار بذكر هذا الباب تلو الباب السابق أن المأمور به لا يكفي فيه البدل من عند نفسه نظرًا إلى المعنى، فإنه كما لا يمكن أن يكون مسح القدمين بدلًا عن غسلهما، كذلك لا ينبغي أن يكون دلك الأنف بثوب أو أصبع وغير ذلك بدلًا عن الاستنشاق والاستنثار نظرًا إلى معنى النظافة.
والنظر الدقيق ينادي بصوت جهوري أن المصنف نظر في ترتيب أبواب الوضوء كلها إشارات لطيفة جديرة لجودة طبعه ودقة نظره، ولا شك أنها أحلى لنا وأشهى من قبلة العذارى، وهذا كله في ذكره هذا الباب ههنا، وأما غرض الترجمة فأمران ظاهران: أحدهما: الرد على الشيعة القائلين بجواز مسح القدم، والثاني: شرح الحديث الوارد فيه بلفظ: "ونمسح على أرجلنا"، وكذا الرد على ما في حديث أوس عند أبي داود
(1)
وغيره من لفظ: "فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه"، كذا في هامش "اللامع".
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
بعد قوله: "ولا يمسح على القدمين": لأن المسح لو كان جائزًا لما ورد عليه الوعيد بالنار؛ لأنه ليس في شيء من المسح شرط الاستيعاب، فعلم أن الغسل هو الفرض، انتهى.
(28 -
باب المضمضة. . .) إلخ
أخَّرَها عن الاستنثار وإن كانت هي متقدمة في الفعل؛ لأنه لما كان الاستنثار مؤكدًا حتى قال جمع بوجوبه لورود الأمر به قدَّمه على المضمضة؛ ولا يبعد أيضًا أن يقال: إن المصنف أشار بذكر الأجنبي بين المضمضة والاستنشاق إلى ترجيح الفصل بينهما؛ لا يقال: هذا مخالف لما سيأتي من "باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة" من الوصل بينهما بغرفة؛ لأنه ترجم هناك بباب من فعل كذا وكذا، وهذا صنيع عدم الجزم به كما في الأصل الثالث.
(1)
انظر: "سنن أبي داود"(ح: 160).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 116).
(29 -
باب غسل الأعقاب. . .) إلخ
يشكل على المصنف إيرادها بعد المضمضة، وكان حقها التقديم عليها ووصلها بباب غسل الرجلين.
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: قصد بالباب الأول الرد على من زعم أن وظيفة الرجلين المسح دون الغسل، وقصد بهذا الباب إثبات وجوب الاستيعاب في أعضاء الوضوء، وذكر الأعقاب لكونه مذكورًا في الحديث، فافهم ذلك، فإنه قد عجز بعض الشرَّاح عن الفرق بين البابين وأتى بتوجيهات لا يليق ذكرها، انتهى.
وأنت خبير بأن جواب شيخ المشايخ قُدِّس سرُّه يرد عليه إشكال التكرار لا تعلق له بذكر هذه الترجمة في هذا المحل، والظاهر عند هذا العبد الضعيف المبتلى بالسيئات أن الإمام البخاري ذكر هذه الترجمة ههنا إشارةً إلى دقيقة، وهي أنه كما ينبغي أن يهتمّ بغسل مؤخر القدم حتى قال فيه صلى الله عليه وسلم:"ويل للأعقاب من النار"، هكذا ينبغي أن يهتمّ بمؤخر الفم في المضمضة بتحريك الماء في آخر الفم، إلا أن غسل الرِّجل لما كان فرضًا فلا بد من العذاب في ترك مؤخره، والمضمضة ليس بفرض، فلا عقاب في ترك مؤخره، وعلى هذا فذكره ههنا في غاية محله، كذا في هامش "اللامع"
(2)
.
قوله: (وكان ابن سيرين) يريد أن دليل وجوب غسل الأعقاب يدل على وجوب الاستيعاب في كل ما أمر بغسله من الأعضاء، ولذا كان ابن سيرين يأخذ منه وجوب غسل موضع الخاتم، قاله السندي
(3)
.
قال العيني
(4)
: قال أصحابنا الحنفية: تحريك الخاتم الضيق من سنن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 74).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 117).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 43).
(4)
"عمدة القاري"(2/ 463).
الوضوء؛ لأنه في معنى تخليل الأصابع، فإن كان واسعًا لا يحتاج إلى تحريك، وبهذا التفصيل قال الشافعي وأحمد وابن المنذر، وهو قول ابن حبيب من المالكية كما في "الباجي".
(30 -
باب غسل الرجلين في النعلين. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك: أنه لا بد من الغسل ولا يكتفي بالمسح على النعلين، ثم المراد بقوله: فيهما إدخال الرجلين في النعلين بعد غسلهما رطبتين أو غسلهما وهما في النعلين، انتهى.
وفي هامشه: غرض الترجمة ظاهر، وهو الرد على ما ورد في بعض الروايات من المسح على النعلين.
قال الحافظ
(2)
: أشار البخاري بذلك إلى ما روي عن علي وغيره من الصحابة أنهم مسحوا على نعالهم في الوضوء ثم صلُّوا إلى أن قال: ليس في الحديث الذي ذكره البخاري تصريح بذلك، إنما هو مأخوذ من قوله:"يتوضأ فيها"؛ لأن الأصل في الوضوء هو الغسل؛ ولأن قوله: "فيها" يدل على الغسل، ولو أريد المسح لقال عليها، انتهى.
ومناسبة ذكر هذا الباب ههنا عندي بوجهين:
الأول: ظاهر، وهو أنه لما كان في السابق ذكر غسل الأعقاب بالشدة والاهتمام عقّبه بذكر غسل الرجلين في النعلين، مخافة أن تبقى لمعة في أعلى الرجل عند شراك النعل حيث يغسل الرجلان في النعلين، هذا على الاحتمال الثاني في كلام الشيخ قُدِّس سرُّه من أن يغسلهما داخل النعلين ولا يخرجهما عند الغسل.
والوجه الثاني وهو دقيق: أن المصنف نبَّه بذلك على أن الرجلين كما يخرجان من النعلين عند الغسل مع كونهما مشغولين بالنعل كذلك ينبغي أن
(1)
"لامع الدراري"(3/ 117).
(2)
"فتح الباري"(1/ 268).
يخرج ما في الفم عند المضمضة، ولا يكون كون الفم مشغولًا بشيء من نحو التنبول وغيره عذرًا لترك المضمضة، فتأمل فإنه لطيف.
قال الحافظ
(1)
: وجه المناسبة أن المصنف ذكر غسل الرجلين في النعلين ردًا على من قصر في سياق الحديث المذكور فاقتصر على النعلين، انتهى ما في هامش "اللامع".
(31 -
باب التيمن في الوضوء. . .) إلخ
قال الحافظ: لما كان لفظ التيمن مشتركًا بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالتيمن في حديث عائشة الأول، انتهى.
قلت: ولعل المصنف ذكر هذا الباب ههنا لما أن الأمور السابقة من غسل الوجه والمضمضة والاستنثار لم يكن في شيء منها الابتداء باليمين، ولم يكن ذلك إلا في اليدين والرجلين، ولم يتعرض المصنف عن غسل اليدين، ولم يترجم له بشيء فذكر هذا الباب متصلًا بغسل الرجلين، ولعله لم يتعرض عن اليدين لما أنه لم ير فيها شيئًا جديرًا لتنبيه البخاري الذي بصدد ذكر الدقائق، والتيمن في الوضوء سُنَّة إجماعًا عند أهل السُّنَّة خلافًا للشيعة إذ قالوا بوجوبه، وغلط من حكى ذلك عن الشافعي وأحمد، كذا في "الفتح"
(2)
، وشيء من البسط في هامش "اللامع".
(32 -
باب التماس الوضوء. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك: أن التيمم إنما يصار إليه إذا لم يجد الماء بعد التماسه فوجب التفحص عنه، ويدل عليه قوله:"فالتمسوا ماء"، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 243).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 269)، و"لامع الدراري"(2/ 120).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 121، 122).
وفي هامشه: قال العيني
(1)
: وجه المناسبة بين البابين ما يأتي إلا بالجر الثقيل، وهو أن المذكور في الباب السابق طلب التيمن لأجل الوضوء والغسل، وههنا طلب الماء لأجل الوضوء، انتهى.
والأوجه عندي أن يقال: إن الإمام البخاري لما فرغ من بيان المغسولات في أعضاء الوضوء ولم يبق إلا المسح ذكر بعدها أحكام الماء الذي يحتاج إليه للغسل، وقدم طلب الماء؛ لأن وجدانه مرتب على الطلب مع ما في وقت الطلب من الاختلاف، قال ابن المنيِّر: أراد البخاري الاستدلال على أنه لا يجب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم التأخير فدل على الجواز، كذا في "الفتح"
(2)
، وهكذا في "العيني"، وزاد: ذكر ابن بطال إجماع الأمة على أنه إن توضأ قبل الوقت فحسن، ولا يجوز التيمم عند أهل الحجاز قبل دخول الوقت، وأجازه العراقيون، انتهى.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": قيل: إن الحديث الذي أخرجه المؤلف في هذا الباب ليس له تعلق قوي بترجمة الباب، بل هو أعلق بباب معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولو كان مذهب البخاري في هذه المسألة مثل مذهب الشافعي من أن التماس الماء واجب آخر سوى الوضوء فإثبات هذا المطلب بهذا الحديث أيضًا بعيد؛ لأنه حكاية فعله وليس فيه أمر بالالتماس.
وعندي: أن مقصود البخاري أن عادة الصحابة كان ذلك، كانوا يلتمسون الماء ويتفحصون عنه ويفتشونه في مواضعه، وكانوا لا يكتفون بعدم حضور الماء في جواز التيمم وإظهار المعجزة أيضًا إنما هو لتكثر الماء، وكان ذلك تحصيلًا للماء وتفتيشًا له، فلو كان عدم الحضور كافيًا لما اهتمّ الناس بالتماس الوضوء، ولما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل لعدم الاحتياج، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 477).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 471)، و"عمدة القاري"(2/ 408).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 77).
(33 -
باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. . .) إلخ
لما ذكر في الباب السابق طلب الماء للوضوء استطرد إلى ذكر أحكام المياه من الطهارة والنجاسة؛ لأن الماء الذي يطلب للوضوء هو الذي يجوز به الوضوء ولا يبعد أن المصنف ذكر هذا الباب لمناسبة الحديث السابق الذي فيه نبع الماء من يده الشريفة التي كانت عليها الشعور، وقال السندي
(1)
: اعلم أن وضع هذا الباب أصالةً لبيان حكم الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، وحكم سؤر الكلاب، ثم ذكر استطرادًا حكم ممر الكلاب، أي: إذا مرَّت الكلاب في المسجد فهل يحتاج إلى غسل البقعة التي مرت فيها أو لا؟ وكذا ذكر حكم أكل الكلاب، أي: إذا أكلت الكلاب من الصيد فهل يؤكل بقية ذلك الصيد أم لا؟ فالإضافة في أكلها من إضافة المصدر إلى الفاعل، فصار الباب موضوعًا لبيان حكم أربعة أشياء، ثم بعد أن فرغ من ذكر أدلة طهارة الماء الذي يغسل به شعر الإنسان أراد أن يزيد في الترجمة حكم شيء خامس وهو الإناء بأنه يجب غسله سبعًا ليصير الباب موضوعًا لبيان حكم خمسة أشياء، إلا أن هذا الخامس لمَّا صار بعيدًا عن الباب أعاد له اسم الباب فقال:"باب إذا شرب الكلب. . ." إلخ، ثم ذكر أدلة ما بقي من الأمور الخمسة، هذا ما يتعلق بتحقيق الترجمة، انتهى.
وقال صاحب "الفيض"
(2)
: إن المصنف رحمه الله ذكر فيها مسألة الأنجاس والآسار دون مسألة المياه كما اختاره الحافظ إلى آخر ما فيه.
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
: لعله قصد بذلك أنه طاهر، ونحن نقول: نعم، إلا أنَّا أمرنا بترك الانتفاع به إكرامًا له، وكذا بسائر أجزائه، فأما قول عطاء بجواز اتخاذ الخيوط والحبال فالغرض منه أن ذلك جائز نظرًا إلى طهارته وإن كانت كراهة الانتفاع تمنعه.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 44).
(2)
"فيض الباري"(1/ 271).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 123).
والحاصل: أن الإباحة والحرمة قد تكونان مبنيتين على علتين متغايرتين مع وجودهما في شيء واحد، فيجوز الحكم بالحرمة أو الإباحة عينًا، نظرًا إلى تلك العلة المبنية عليها إحداهما، [وأما العلة الأخرى] فإنها تثبت فيه خلاف ما أثبته تلك العلة، وعلى هذا فقد تطرق في حكم شعر الإنسان احتمالان: إباحة الانتفاع بأجزائه نظرًا إلى الطهارة، وحرمته لما فيه من إهانته، وقد أمرنا بإكرامه، وقد ثبت أن الترجيح فيما اجتمع فيه المحرم والمبيح للمحرم، فيكون الحكم في الشعر هو الحرمة، وعلى هذا يحمل قول عطاء فافهم، انتهى.
وبسط في هامشه اختلاف العلماء في جواز الانتفاع بالشعور.
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": مذهب المؤلف في هذه المسألة مثل مذهب أبي حنيفة من أن شعر الآدمي طاهر، والماء الذي يغسل فيه أيضًا طاهر خلافًا للشافعي، وأثبت بحديثي الباب ذلك بالدلالة الالتزامية، وقول عطاء أيضًا يفيده، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: وجه الدلالة من الحديث على الترجمة أن الشعر طاهر، وإلا لما حفظوه ولا تمنى عبيدة أن يكون عنده شعرة واحدة منه، انتهى.
قوله: (وسؤر الكلاب) عطف على الماء، أي: وباب سؤر الكلاب، كذا في "الفتح"، وفي "التراجم" مذهب البخاري في ذلك موافق لمذهب مالك من أن سؤرها طاهر، وأمر الغسل سبعًا تعبدي، انتهى.
(باب إذا شرب الكلب. . .) إلخ
ليس هذا في نسخة الحافظ، والروايات الآتية داخلة في الترجمة السابقة فلا يشكل أن المصنف ذكر في الترجمة السابقة سؤر الكلاب، ولم
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 78).
(2)
"فتح الباري"(1/ 274).
يأت له بحديث، ولا بذكر حديث تقبل وتدبر أيضًا؛ لأنه داخل في الباب السابق، وعلى وجود الباب كما في نسخنا فلا إشكال أيضًا لكونه بابًا في باب، وهو أصل معروف مطرد كما تقدم في الأصل السادس من أصول التراجم في الجزء الأول.
قوله: (يغرف له به) استدل بذلك المصنف على طهارة سؤر الكلب، ولا يتم الاستدلال إلا بعد ثبوت أن شرع من قبلنا حجة لنا وأنه لم ينسخ مع احتمال أنه صبَّه في شيء وسقاه أو غسل خفه بعد ذلك أو لم يلبسه بعد، كذا في "الفتح"
(1)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر ذلك ذكر أن خفه تنجس بفعله ذلك، وكذلك قوله في الرواية الآتية:"فقتل فكل" ولا شك أنه يمسكه بفيه، ولم يثبت أنه ذكر تنجسه، ولا أن يقطعه فيقذفه، فكان تقريرًا منه بطهارته.
والجواب: أنه استغنى بذكره قبل ذلك بغسل الإناء من ولوغ الكلب عن إعادته، ومثل ذلك كثير، أفهل ذكر ههنا أن لا يأكل روثه وبوله وسائر ما لا يجوز أكله من أجزائه، وإنما اكتفى على قوله:"كل" بل المذكور في بعض الروايات: "كل ما أمسك عليك" فأورد فعل الأكل على الحيوان بأسره، أفكان ذلك أمرًا بأكل كله؟ فالجواب الجواب والخلاص الخلاص، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه على فقه الحديث ومذاهب الأئمة.
قوله: (إذا أرسلت كلبك) وجه الاستدلال أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأكله ولم يقيِّده بغسل موضع فمه، ولا يتم الاستدلال؛ لأن الحديث سيق لإباحة صيده؛ ولا تعرض فيه للطهارة والنجاسة، والدليل عليه أنه لم يقل اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، فوكله إلى ما تقرر من وجوب غسل
(1)
"فتح الباري"(1/ 278).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 125).
الدم فكذلك غسل ما يماسه فاه، كذا في "الفتح"
(1)
.
(34 -
باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين)
قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
: مقصود الباب مركب من الأمرين:
الأول: وجوب الوضوء مما خرج من السبيلين مع عموم ما خرج المعتاد وغير المعتاد المنصوص في القرآن وغير المنصوص فيه الثابت بالحديث.
والثاني: عدم وجوب الوضوء من غير ما خرج، فأثبت ببعض ما ذكر في الباب الأول وبعض آخر الثاني، والشرَّاح في هذا المقام يطبقون مذهب المؤلف رحمه الله على مذهب الشافعي ويقولون: معنى ترجمة الباب من لم ير الوضوء من الخارج إلا بما خرج من المخرجين حتى يكون مس الذكر ومس النساء اللذان هما ناقضان عند الشافعي باقيين في النواقض عنده أيضًا، لكن التحقيق في هذا الباب أن مذهب البخاري في هذا المسألة وراء مذهب الشافعي، وكلامه على ظاهره، فلا يكون عنده في مس الذكر ولمس النساء وضوء، ويدل على ذلك قوله: وقال جابر بن عبد الله: إذا ضحك. . . إلخ، فتأمل، وأثبت ببعض ما ذكر من الآثار في تعاليق الباب الجزء الثاني من المدعى، انتهى.
والمناسبة عندي بما سبق أن المذكور في السابق الأنجاس الظاهرة الموجبة للنجاسة الحقيقة، فأورد بعده الأنجاس الباطنة الموجبة للنجاسة الحكمية.
وقال العيني
(3)
: إن الباب السابق في نفي النجاسة عن شعر الإنسان وسؤر الكلب، وهذا في نفي الوضوء من غير السبيلين، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 279).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 81).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 497).
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: والاستدلالات التي أثبت بها المدعى غير مثبتة لها، أما من لم يتعرض لغير السبيلين فلأن تخصيص شيء بشيء في الذكر لا يدل على نفي الحكم عن جميع ما عداه، وهذا ظاهر.
وأما ما فيه تعرّض للخارج من غير السبيلين وإثبات لعدم انتقاض الطهارة به، فلأن فيه احتمالًا غير ما فيه إثبات لمدعاهم، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فأما أن الضحك لا ينقض الوضوء فنحن متفقون بهم فيه، وإنما الناقض هو القهقهة، وأما خلع الخف فنحن لا نقول بانتقاض وضوئه، وإنما الواجب عليه أن يغسل قدميه، وقول أبي هريرة: لا وضوء إلا من حدث، فهو يوافق المذهبين معًا، وإنما الكلام في تعيين الحدث ما هو، وإن أريد بالحدث ما فسره أبو هريرة: فساء أو ضراط، لزم عليهم البول والبراز والمني والمذي إلى غيره ذلك.
وأما قوله: (فنزفه الدم فركع وسجد. . .) إلخ، فهو وارد على المذهبين لما فيه من تنجس الثياب أيضًا مع أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإعادة إلا أن الراوي ترك ذكره، وأما ما قال:"ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم"، ففي الغير السائلة أو في حالة كونهم معذورين، وكذلك ما قال:"ليس في الدم وضوء" في غير السائلة، وأما إذا أخرج من البثور دمًا بعصرها فلأنه مخرج لا خارج فلا ينتقض الوضوء، وكذلك نقول في البزاق إن كان الدم مغلوبًا فيه فلا يلزم نقض الطهارة به، وأما قول الحسن وصاحبه: ليس عليه إلا غسل محاجمه، فالمعنى بذلك أنه لا يجب الغسل عليه بذلك، وإنما يكتفي فيه بغسل الموضع المتلطخ بالدم، وأما الوضوء فلا تعرض له فيه نفيًا ولا إثباتًا، وأما ما فيه من الروايات فحاصل استدلال المؤلف بها: أنه لم يذكر فيها غير ما ذكر، فعلم أن الطهارة لا تنتقض بغير المذكورات؛ لأن السكوت في محل البيان بيان، والجواب قد عرفت أن المفهوم لا يعتبر به، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 129 - 140).
وبسط الكلام في هامشه في تأييد كلمات الشيخ أشد البسط، ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى اختلافهم في علة الحدث.
ففي هامش "اللامع": اختلفوا في موجب الوضوء على ثلاثة أقوال، فقال قوم: سبب الوجوب خروج النجس من البدن فأوجبوا الوضوء في كل خارج نجس من المخرج المعتاد وغيره، وممن قال بذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد، فأوجبوا الوضوء من الدم والرعاف والقيء وغير ذلك، وقال آخرون: سببه الخروج من المخرج المعتاد فقالوا: كل ما يخرج من السبيلين ناقض للوضوء، أي:[أيُّ] شيء خرج من دم أو حصى أو غير ذلك، وممن قال بذلك الشافعي وأصحابه، وقال الآخرون منهم الإمام مالك: إن العبرة للخارج والمخرج معًا فقالوا: كل ما يخرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه كالبول والغائط ونحوهما يوجب الوضوء وإلا فلا، انتهى.
قوله: (وقال جابر: إذا ضحك في الصلاة. . .) إلخ، هذا إجماع في الضحك، ونحن أيضًا لا نخالفه، وإنما الخلاف في القهقهة، تفسد الوضوء عندنا، وبه قال النخعي والحسن والثوري والأوزاعي.
قال العيني
(1)
: لنا في ذلك أحد عشر حديثًا مرفوعًا، منها أربعة مرسلة وسبعة مسندة، ثم ذكرها، وسبقه في ذلك الزيلعي في تخريج "الهداية"
(2)
.
قوله: (وقال الحسن: إن أخذ من شعره. . .) إلخ، المسألة الأولى إجماعية، والمخالف في ذلك كان حمادًا ومجاهدًا وغيرهما إذ قالوا: من قصّ أظفاره أو جزّ شاربه يعيد الوضوء، ثم استقر الإجماع على خلاف
(1)
"عمدة القاري"(2/ 499).
(2)
انظر: "نصب الراية"(1/ 47 - 54).
ذلك، وأما المسألة الثانية فقال الحسن وداود وغيرهما: لا يعيد الوضوء ولا يغسل رجليه، كما لو حلق رأسه بعد المسح، وأظهر قولي أحمد: يعيد الوضوء، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال إسحاق. وقال أبو حنيفة: يعيد غسل قدميه فقط، وهو أرجح قولي الشافعي، ومرجوح قولي أحمد. والخلاف مبني على وجوب الموالاة في الوضوء، وقال مالك: إن غسل قدميه بعد نزع الخف مكانه يجزئه، وإن أخَّره استأنف الوضوء، انتهى.
قوله: (وقال أبو هريرة: لا وضوء إلا من حدث. . .) إلخ، أما الأحداث المختلف فيها بين العلماء كمس الذكر ولمس المرأة والقيء والحجامة فكان أبو هريرة لا يرى النقض بشيء منها، وعليه مشى المصنف، قاله الحافظ.
قوله: (وقال جابر. . .) إلخ، الدم والقيء الفاحش ينقضان عند أحمد رواية واحدة، وبه قلنا خلافًا لمالك والشافعي.
قوله: (وبزق ابن أبي أوفى دمًا) وتقدم قريبًا ما كتبه الشيخ في "اللامع".
وفي هامشه
(1)
: أن الدم ناقض عند أحمد أيضًا كما قلنا، وحملوا هذه الآثار كلها على غير الفاحش، وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: بزق، قلنا: كان بزاقه مصفرًا لا محمرًا، والمصفر ليس بناقض عندنا أيضًا، أو هو مذهبه، انتهى.
قوله: (وقال ابن عمر والحسن. . .) إلخ، تقدم ما كتب الشيخ من أن المراد لا يجب عليه الغسل بذلك، وأما الوضوء فلا تعرض له فيه، انتهى.
ومبنى ما أفاده الشيخ أن بعض الصحابة أوجبوا عليه الغسل، كما حكاه العيني
(2)
، كما في هامش "اللامع".
قوله: (ولم يقل غندر ويحيى. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
:
(1)
"لامع الدراري"(2/ 139).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 506).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 140).
اختلفوا في معنى هذه العبارة، فقال بعضهم: معناها أنه لم يقل لفظة الوضوء، واكتفى بقوله: عليك، وقيل: بل لم يقل: عليك أيضًا؛ لأنهما معًا جملة واحدة، ونفي المؤلف لفظ الوضوء نفي للفظة "عليك" أيضًا، وأيا ما كان فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم ههنا بما علم منه نفي الغسل، وذكر في هامشه الكلام على هذين المعنيين، وفيه أن الأول مختار الكرماني وغيره، والثاني مختار الحافظ
(1)
.
(35 -
باب الرجل يوضِّئ صاحبه)
الأوجه عندي: أن هذا الباب من قبيل باب في باب كما هو الأصل المعروف من أصول التراجم وهو الأصل السادس، والغرض من هذا الباب نقض الوضوء من الغائط، ولما كانت في الحديث مسألة مهمة وهي مسألة الاستعانة في الوضوء نبَّه عليها بالترجمة.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن النهي الوارد في الاستعانة فيه وفي غيره من القربات ليس للتحريم، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه على اختلاف العلماء في مسألة الاستعانة، وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستعين في إحضار الماء ولا كراهة فيه، والثاني: أن يستعين في غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجةٍ، والثالث: أن يصب عليه فهذا الأولى تركه، وهل يسمى مكروهًا؟ فيه قولان، إلى آخر ما فيه، ومن أطلق الكراهة حمل فعله صلى الله عليه وسلم على بيان الجواز. وبسط شرَّاح البخاري كلهم لا سيما العلَّامة العيني
(3)
في الجواز والكراهة والتفصيل فيهما.
(1)
انظر: "شرح الكرماني"(3/ 15)، و"فتح الباري"(1/ 285).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 141).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 516).
(36 -
باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره)
قال الكرماني
(1)
: وغيره، أي: غير القرآن من السلام وسائر الأذكار، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: وغيره، أي: من مظان الحدث.
وتعقبهما العيني
(3)
: بأنه لا وجه لمظان الحدث؛ لأنه إما حدث فيدخل فيه، وإما غير حدث فلا مدخل له في الباب، وبأنه إذا جاز قراءة القرآن فغيره من الأذكار جائز بالطريق الأولى.
وتبعه القسطلاني
(4)
: واختار مختار العيني، وتعقّب على قول الحافظ والكرماني، ويمكن عندي توجيه كلام الحافظ بأن المراد من مظان الحدث النوم للحديث الوارد في الباب، ثم جواز قراءة القرآن محدثًا مجمع عليه عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، خلافًا لمن شذ من بعض السلف كما في "الأوجز"
(5)
، كذا في هامش "اللامع"
(6)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(7)
: قوله: "باب قراءة القرآن. . ." إلخ، يعني بذلك: أنه ذكر ولا يجب تقديم الوضوء له وإن كان الوضوء أفضل، والحمام يدخله المتطهر ومن ليس على وضوء، فلما قال منصور وإبراهيم بجواز القراءة فيه علم أنه لا يشترط لها الطهارة، وكذلك كتب الرسالة لا تخلو عن ذكر الله وآية من القرآن كالبسملة، فلما جاز كتابتها جاز التلفظ به، وكذلك التسليم عليهم، وهو ذكر يستدعي جواز الذكر على غير وضوء؛ لأنهم لما سلّم المسلم عليهم يردون عليه لا محالة وهم على غير طهارة، فعلم جواز ذكر الله تعالى على غير وضوء؛ لأن السلام ذكر، وكذلك
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 23).
(2)
"فتح الباري"(1/ 86).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 519).
(4)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 470).
(5)
"أوجز المسالك"(4/ 223).
(6)
"لامع الدراري"(2/ 142).
(7)
"لامع الدراري"(2/ 142 - 145).
الاستدلال بالرواية فإنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآيات قبل أن يتوضأ، ونوم الأنبياء وإن لم يكن ناقضًا إلا أن الليلة لا تخلو عن شيء من الملاعبة المورثة خروج المذي والبول والتخلي إلى غير ذلك، وأيضًا فإن ابن عباس فعل مثله وكان على غير طهارة، فأمكن الاحتجاج بفعله عنده صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": استدلال المؤلف بحديث الباب على جواز القراءة للمحدث باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ بعد نوم طويل، ومضى عليه زمان طويل، فالغالب الأكثر في مثل هذا تخلل حدث من ريح أو غيره، وليس هذا استدلالًا بنقض النوم كما وهم، انتهى.
وبسط الكلام في هامش "اللامع" أشد البسط في شرح كلام الشيخ قُدِّس سرُّه، وبيان اختلاف العلماء في ذلك الفروع، ولا يذهب عليك أن الحافظ
(2)
: حمل كلام البخاري على الحدث الأصغر، وتبعه القسطلاني.
وتعقبه العلامة العيني
(3)
: إذ قال: قوله: بعد الحدث، قال بعضهم: أي: الحدث الأصغر.
قلت: الحدث أعم من الأصغر والأكبر، وقراءة القرآن تجوز بعد الأصغر دون الأكبر، وكأن هذا القائل إنما خصص الحدث بالأصغر نظرًا إلى أن البخاري تعرض هنا إلى حكم قراءة القرآن بعد الحدث الأصغر دون الأكبر، ولكن جرت عادته أنه يبوّب الباب بترجمة، ثم يذكر فيه جزءًا مما تشتمل عليه تلك الترجمة، وههنا كذلك، انتهى.
وقال صاحب "الفيض"
(4)
: لم يفصح المصنف بأن المراد منه الأصغر أو الأكبر؟ وعلم من الخارج أنها جائزة عنده بعد الحدث الأكبر، انتهى.
وجواز قراءة القرآن للمحدث إجماعي كما تقدم، وفي هامشي على
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 85).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 286)، و"إرشاد الساري"(1/ 470).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 519).
(4)
"فيض الباري"(1/ 285).
"البذل"
(1)
عن العلامة الشعراني
(2)
: إن قراءة القرآن للجنب حرَّمها الشافعي وأحمد مطلقًا، وأبو حنيفة آية تامة، وأباح ما دونها، وأباح الإمام مالك آية أو آيتين، وأباح داود الظاهري القراءة مطلقًا.
وبسط الكلام في هامش "اللامع"
(3)
على اختلاف العلماء في قراءة الجنب والحائض في "باب تقضي الحائض المناسك كلها" من "كتاب الحيض"، وفيه: مذهب داود ومن وافقهم جواز القراءة للجنب والحائض مطلقًا، قال الموفق
(4)
: لا يقرأ القرآن جنب ولا حائض، ورويت الكراهة عن الشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك القراءة للحائض دون الجنب؛ لأن أيامها تطول، فإن منعناها نسيت، إلى آخر ما بسطه.
وفي "المنهل"
(5)
: وقال مالك في الجنب: يقرأ الآية، ونحوها وقد حكي عنه أنه قال: تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب، انتهى.
واختلفوا في جواز قراءة القرآن في الحمام، ففي هامش "اللامع"
(6)
عن أبي حنيفة: يكره، وعن محمد بن الحسن: لا يكره، وبه قال مالك، وإنما كره أبو حنيفة؛ لأن حكم الحمام حكم بيت الخلاء؛ لأنه موضع النجاسة، وعند الشافعية روايتان وعند أحمد خلاف الأولى، فاستحب صيانة القرآن عن الحمام، انتهى.
(37 -
باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل)
كتب الشيخ في "اللامع"
(7)
: دلالة الرواية على هذا المعنى ظاهرة، فإن أسماء لم تتوضأ مع عروض الغشي لها، فعلم أن كل غشي ليس بناقض، والناقض منه ما لم يبق بعده علم بحاله مطلقًا، انتهى.
(1)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 210).
(2)
"الميزان الكبرى"(1/ 156).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 252).
(4)
"المغني"(1/ 199).
(5)
"المنهل العذب المورود"(2/ 303).
(6)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 142).
(7)
"لامع الدراري"(2/ 146).
وفي هامشه: قال الحافظ
(1)
: أشار المصنف بذلك إلى الرد على من أوجب الوضوء من الغشي مطلقًا، وكونها كانت تتولى صب الماء عليها يدل على أن حواسها كانت مدركة، وذلك لا ينقض الوضوء، ومحل الاستدلال بفعلها من جهة أنها كانت تصلي خلفه صلى الله عليه وسلم وكان يرى الذي خلفه وهو في الصلاة - ولم ينقل أنه أنكر عليها، انتهى.
قال النووي
(2)
: لا ينقض ما دام العقل باقيًا.
وقال القسطلاني
(3)
: ينقض إذا زال العقل بالإجماع، وقال ابن بطال: الغشي مرض يعرض من طول التعب، وهو ضرب من الإغماء إلا أنه دونه، وإنما صبت أسماء [الماء] على رأسها مدافعة له، ولو كان شديدًا كان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء، إجماعًا.
قال الموفق
(4)
: زوال العقل على ضربين: نوم وغير نوم، أما غير النوم وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه فينقض الوضوءَ يسيرُه وكثيرُه إجماعًا، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على وجوب الوضوء على المغمى عليه، انتهى.
ويشكل أن ظاهر كلام البخاري التفريق بين المثقل وغيره، وهو ظاهر كلام العيني
(5)
وصاحب "الفيض": وتقرير الشيخ الكَنكَوهي، وما يظهر من كلام الفقهاء من الشامي وأصحاب المتون نقض الوضوء منه مطلقًا، بل صرح في "الفتاوى الهندية"
(6)
- عالمكَيرية - بالإطلاق، فتأمل.
اللَّهم إلّا أن يقال: إن صاحب "الهداية" وغيرها وإن صرحوا بأن الإغماء حدث في الأحوال كلها، لكن المراد بالأحوال في كلامهم القيام
(1)
"فتح الباري"(1/ 289).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(3/ 481).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 475).
(4)
"المغني"(1/ 234).
(5)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 524)، و"فيض الباري"(1/ 286)، و"لامع الدراري"(2/ 146).
(6)
(1/ 12).
والقعود وغيرهما كما في "العناية" لا الكثير المزيل للعقل، والقليل غير المزيل له، وكأنهم أخرجوا بهذا القيد النوم فإنه حدث أيضًا، لكن لا في الأحوال كلها بل في بعض الأحوال، وهي التي يكون فيها النوم مستندًا أو مضطجعًا على ما ذكروا، والتفريق هو الظاهر من تعليل الأصحاب بأنه فوق النوم في الاسترخاء؛ لأن النائم يتنبه بالتنبيه دون المغمى عليه، وهو الذي أراده البخاري استدلالًا بأن أسماء رضي الله عنها صبت على رأسها الماء وقد تجلاها الغشي وهي تصلي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في صلاته خلف ظهره، فهو اطلع على ذلك، وقد وقع التصريح به في "القدوري"
(1)
وغيره، حيث قال في نواقض الوضوء: والغلبة على العقل بالإغماء والجنون، فاعتبر الغلبة دون غيرها، وقد صرَّح الأصحاب بأن الغشي في حكم الإغماء فإذًا يعتبر فيه الغلبة أيضًا.
(38 -
باب مسح الرأس كله)
قلت: لما فرغ المصنِّف من ذكر أبواب المياه النواقض التي ذكرها استطرادًا وتبعًا لباب بباب كما تقدم، رجع إلى تكميل الوضوء مع أن في ذكره ههنا لطيفة، وهي دفع توهم يمكن أن ينشأ من الحديث السابق من قولها: أصب فوق رأسي ماءً، أن الغسل والمسح سيّان في الرأس، فتأمل، ولما أراد تكميل الوضوء أعاد ذكر غسل الرجلين رعايةً للترتيب، وذكر فيه الكعبين لئلا يبقى التكرار، كذا في هامش "اللامع".
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: باب مسح الرأس كله، يعني: أن الآية مطلقة، فإثبات الفرضية في البعض دون البعض ترجيح من غير موجب له، وقد ثبت مسحه صلى الله عليه وسلم كله، والجواب معلوم، ولا يضر مسحه صلى الله عليه وسلم كل الرأس على سبيل السُّنِّية، وإنما ضرنا لو ثبت أنه لم يمسح الناصية وما دون الكل أبدًا، وقد ثبت، فسقط الفرضية، نعم تثبت سُنِّية الكل وهي غير منكرة، وبسط الكلام على كلام الشيخ في هامش "اللامع" وفيه:
(1)
"مختصر القدوري"(ص 42).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 147).
قال الحافظ
(1)
: وموضع الاستدلال من الحديث والآية أن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، انتهى.
وفي "الأوجز"
(2)
: مسح جميع الرأس مستحب باتفاق العلماء، وأما مقدار المفروض فمختلف جدًا، ذكر العيني
(3)
فيه ثلاثة عشر قولًا، والمعروف منها: أن الاستيعاب فرض عند مالك، وبعض الرأس عند الشافعي، وهما روايتان لأحمد، ومقدار الناصية عندنا الحنفية، وقال الموفق
(4)
: الظاهر عن أحمد وجوب الاستيعاب في حق الرجل، وأن المرأة يُجْزِئُها مسح مقدم الرأس، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع".
قوله: (فأقبل بهما وأدبر) اختلف في معناه على أقوال ذكرت في "الكوكب" و"الأوجز" و"البذل"
(5)
وهامشي على "البذل".
والأوجه عندي في معناه: أن الواو لمطلق الجمع للرواية الآتية قريبًا في "باب الوضوء من التور" عن عبد الله بن زيد بنفسه بلفظ: "أدبر بيديه وأقبل".
(39 -
باب غسل الرجلين)
هذا الباب في محله لكونه بعد مسح الرأس في اختتام الوضوء.
وفيه: أن الإمام البخاري لم يراع الترتيب على ما عليه الشراح حتى يحتاج إليه ههنا، وعندي في ذكر هذا الباب في هذا الموضع نكتة لطيفة أيضًا، وهي أن المؤلف ذكره تأييدًا لما سبق من مسح الرأس كله، فإن الرجل إذا يغسل إلى الكعبين ويستوعبه الغسل فأي وجه أن لا يستوعب
(1)
"فتح الباري"(1/ 290).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 348).
(3)
انظر: "البناية"(1/ 167).
(4)
"المغني"(1/ 176).
(5)
انظر: "بذل المجهود"(1/ 554)، و"أوجز المسالك"(1/ 349)، و"الكوكب الدري"(1/ 63).
المسح الرأس كله، والنظر الدقيق يومئ أن الإمام أشار بذلك إلى مسح الأذنين، فإن الأذنين من الرأس كالكعبين للأرجل.
(40 -
باب استعمال فضل وضوء الناس. . .) إلخ
اختلف الشرَّاح في المراد بالفضل هل هو الباقي في الإناء أو المتقاطر من الأعضاء، أي: الماء المستعمل؟ وذكر الكرماني
(1)
الاحتمالين، ورجح الثاني، والحافظ الأول
(2)
، وقال السندي
(3)
: أراد بالفضل ما يعم الباقي في الظرف والمتقاطر من الأعضاء.
والأوجه عندي: أن الفضل لما كان محتملًا للمعنيين نبَّه عليه المصنف بالبابين.
والأوجه عندي: أنه أشار بالباب الأول إلى الماء المتقاطر، أي: المستعمل، كما هو ظاهر الروايات الواردة في هذا الباب، لا سيما رواية قصة الحديبية، وأشار بالباب الثاني بلا ترجمة إلى المعنى الثاني، أي: الباقي في الظرف.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله "باب استعمال فضل. . ." إلخ، واستدلاله هذا مبني على عدم الفصل بين الطاهر والطهور، وبينهما فرق لا يخفى، والذي يثبت بالرواية طهارة الماء المستعمل وهو مسلَّم، وأما الرواية الثانية فلم تقم فيها قربة حتى يلزم زوال الماء عن صفته، والكلام فيه، فكأنه لم يفرق بين الغسل لأجل قربة وبينه بدونها، وكذلك الرابعة لا تثبت إلا جواز شربه وهو مسلَّم.
والحاصل: أن النزاع في طهورية الماء الذي أقيمت به قربة، والذي أثبتوه بالروايات أعم من ذلك فلا يفيد، انتهى.
(1)
انظر: "شرح الكرماني"(3/ 32).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 295).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 47).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 148 - 150).
وكلام الشيخ قُدِّس سرُّه مبني على اختلافهم في حكم الماء المستعمل، وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"، والجملة: أن فيه عن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات.
الأولى: طاهر لا طهور، وهو رواية محمد عنه، وهو قوله وقول الشافعي في الجديد، وظاهر مذهب أحمد كما في "المغني"
(1)
، وإحدى الروايتين عن مالك، وهو المفتى به عند الحنفية.
والثانية: نجس نجاسة خفيفة، وهي رواية أبي يوسف عنه.
والثالثة: نجس نجاسة غليظة، وهي رواية الحسن عنه، وعن أحمد: أنه طاهر ومطهر، وبه قال أهل الظاهر، ورواية عن مالك والشافعي، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع".
وفي هامشي على "البذل"
(2)
عن ابن رسلان أن مذهب مالك أنه طاهر ومطهر، وفي "المنهل": قال مالك: إنه طاهر مطهر.
وحكى مولانا حسين علي اللاهوري في تقريره عن شيخه الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه: المذهب عندنا أن الماء المستعمل طاهر غير طهور، أما الطهارة فللحديثين الآتيين، وأما عدم طهوريته فمما يعلم من عدم أمره صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ بالوضوء الذي وضئ به مع عدم الماء في حالات السفر، وأما الماء المستعمل القليل إذا اختلط بالماء الآخر فيتوضأ لطهارته ومغلوبيته، وعليه يدل أمر جرير أهله، انتهى.
(باب)
بلا ترجمة، وهذا معلوم أن الباب بلا ترجمة كالفصل من الباب السابق كما تقدم في الجزء الأول في الأصل العشرين من أصول التراجم.
(1)
"المغني"(1/ 34).
(2)
"بذل المجهود"(1/ 40).
وفي هامش "اللامع"
(1)
: أن حديث السائب هذا ذكر عليه في رواية المستملي فقط لفظ الباب، ولم يذكره الباقون، وإن لم يكن هناك باب فلا إشكال، وإن كان هناك باب فالأوجه عندي كما تقدم في الباب السابق أن فضل الماء يتناول النوعين: المتساقط من الأعضاء وهو الماء المستعمل، والباقي في الظرف، فالإمام البخاري أشار بالباب الأول إلى النوع الأول من الفضل، وبهذا الباب إلى النوع الثاني، يعني: إلى الباقي في الإناء، وأجاد المصنف عندي بذكر "باب المضمضة. . ." إلخ، فإنه أدل على جواز استعمال الماء المستعمل الذي أراد المصنف إثباته، ولذا ذكره بعد هذا عندي، انتهى ما في هامش "اللامع".
وفي تقرير مولانا حسين علي: أورد هذا الباب؛ لأن قوله: "شربت من وضوئه" يحتمل أن يكون المراد به الباقي بعد الوضوء، فيكون هذا الباب مغايرًا بالباب السابق، وأن يكون المراد المستعمل فيكون موافقًا للسابق، لكن فيه فائدة أخرى، وهي بيان الخاتم، انتهى.
قوله: (ذهبت بي خالتي) قال الحافظ في المناقب
(2)
: لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها علبة بنت شريح أخت مخرمة بن شريح، انتهى.
تنبيه: هذا الباب ذكره شيخ الهند في الجدول الرابع، ورقم عليه نقطتين، وقد تقدم أنه إشارة إلى أنه حذف الترجمة لكون الحديث الذي فيه يتعلق بالباب السابق.
(41 -
باب من مضمض. . .) إلخ
أجاد المصنف عندي بذكر هذا الباب ههنا؛ لأنه أدل على جواز استعمال الماء المستعمل الذي أراد المصنف إثباته؛ لأن الاستنشاق يكون بفضل المضمضة، ولذا ذكره ههنا عندي، وتبويبه بلفظ:"من قال كذا"
(1)
"لامع الدراري"(2/ 150، 151).
(2)
"فتح الباري"(6/ 562).
إشارة إلى أن المصنف لم يجزم بذلك كما تقدم في الأصل الثالث من أصول التراجم.
والمسألة خلافية معروفة بسطت في المطولات، وللشافعي، فيه خمسة أوجه: منها: كونهما بست غرفات، حكاه الترمذي عن الإمام الشافعي، وهو السُّنَّة عندنا الحنفية، وهو مسلك المالكية كما في "الأوجز"
(1)
، واختلفت الروايات عن الحنابلة كما حكاها العيني في "شرح البخاري"
(2)
، وظاهر كلام الموفق
(3)
أن المرجح عند الإمام أحمد كونهما بغرفة واحدة.
(42 -
باب مسح الرأس مرة)
والغرض من الترجمة عندي: الإشارة إلى الرد على الشافعية حيث قالوا بتثليث المسح خلافًا للجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة إذ قالوا بتوحيد المسح، وخلافًا لابن سيرين إذ قال بالمسح مرتين: مرة للفرض ومرة للسُّنَّة، كذا في هامشي على "البذل"، وبسط الشيخ الكلام على الدلائل في "البذل"
(4)
، وفيه: قال الحافظ
(5)
: ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح - إن صحت - على إرادة الاستيعاب بالمسح؛ لأنها مسحات مستقلة بجميع الرأس جمعًا بين الأدلة.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف في توجيه روايات التثليث ما في "أبي داود"
(6)
من حديث الربيع بنت معوذ، ولفظه:"فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته"، ولا يبعد عندي أن المؤلف رحمه الله أشار بالترجمة أيضًا إلى طهارة الماء المستعمل، فإنه إذا بدأ المسح ثم أمر اليدين يكون الباقي على الكف من البلل ماءً مستعملًا.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 346).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 503).
(3)
"المغني"(1/ 170).
(4)
"بذل المجهود"(1/ 515).
(5)
"فتح الباري"(1/ 298).
(6)
"سنن أبي داود"(ح: 128).
(43 -
باب وضوء الرجل مع امرأته)
هذا الجزء من الترجمة كالشرح للأحاديث الواردة في وضوء الرجال والنساء معًا بأن المراد بالنساء نساؤهم لا مطلقًا، فلا حاجة لحملها على ما قبل الحجاب ونحو ذلك من التأويلات.
وقوله: (وفضل وضوء المرأة)، قال العيني
(1)
: بالجر عطفًا على قوله: وضوء الرجل، انتهى. إشارة إلى مسألة خلافية شهيرة، فقد قال النووي
(2)
: أما تطهر الرجل والمرأة من إناء واحد فهو جائز بإجماع المسلمين، وكذا تطهر المرأة بفضل الرجل جائز إجماعًا، وأما تطهر الرجل بفضلها فذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة إلى جوازه سواء خلت به أو لم تخل، وقال أحمد وداود: لا يجوز إذا خلت به، كذا في هامش "اللامع"
(3)
، وما حكي من الخلاف في المسألتين اللتين حكى النووي فيهما الإجماع فشاذ.
قوله: (وتوضأ عمر بالحميم. . .) إلخ، قال الحافظ
(4)
: والظاهر أن أهله وامرأته كانت تتوضأ بفضله أو معه فناسب الباب، انتهى.
وتعقبه العيني
(5)
أشد التعقب بقوله: أين الظهور؟ وكذا أنكر القسطلاني
(6)
مناسبة هذين الأثرين، وقال: في رواية ابن عساكر حذف الأثران وهو أولى.
وفي "اللامع"
(7)
: ودلالته على الترجمة؛ لأن عمر لما لم يسأل أنها هل مسته بإلقاء اليد فيه كما هو العادة في أن الناس يلقون أصابعهم في الماء على النار، يرون بذلك مقدار حرارته، فلما لم يستفسره عمر علم أن
(1)
"عمدة القاري"(2/ 547).
(2)
انظر: "المجموع"(2/ 190).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 151).
(4)
"فتح الباري"(1/ 299).
(5)
"عمدة القاري"(2/ 547).
(6)
"إرشاد الساري"(1/ 489).
(7)
"لامع الدراري"(2/ 151 - 154).
الحكم لا يتفاوت دون ذلك، وكذلك الكلام في وضوئه من بيت النصرانية فإنه لم يسأل هل مسته أم لا؟ وهل ألقت يدها فيه أم لا؟ فعلم أنه لا تفاوت فيهما، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: ومن عادة البخاري التمسك بنحو ذلك عند عدم الاستفصال، انتهى.
وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه بقوله: كما هو العادة في أن الناس يلقون أصابعهم. . . إلخ، هو أصل معروف من أصول التراجم للبخاري، وهو الأصل التاسع والأربعون، وما أفاده الحافظ من عدم الاستفصال، وقال: ومن عادة البخاري. . . إلخ، وهو أصل مستقل مزيد على الأصول السبعين المذكورة في الجزء الأول، فهو الأصل الحادي والسبعون.
ثم لا يذهب عليك أن نسخ البخاري مختلفة في ذكر الواو على لفظ: "من بيت النصرانية"، وكلام الشيخ المذكور قبل مبني على وجوده، ولذا ذكر في كلامه مسألتين مختلفتين، وهو المرجح عند الحافظ والبسط في هامش "اللامع"، وفيه أيضًا: قال القسطلاني
(2)
: لا خلاف في استعمال سؤر النصرانية؛ لأنه طاهر، خلافًا لأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، واختلف قول مالك في الكراهة وعدمه، انتهى.
(44 -
باب صب الوضوء على المغمى عليه)
يحتمل أن يكون المراد بعض الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه، والأول المراد، فللمصنف في "الاعتصام":"ثم صب وضوءه عليّ"
(3)
، كذا في "الفتح"
(4)
.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف أن المراد الباقي في الإناء، وما ذكر الحافظ من حديث الاعتصام لا يؤيد مختاره، بل الظاهر منه أيضًا
(1)
"فتح الباري"(1/ 299).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 489).
(3)
"صحيح البخاري"(ح: 7309).
(4)
"فتح الباري"(1/ 301).
ما اخترت، ولا يظهر لمختار الحافظ غرض خاص للترجمة؛ لأن مسألة طهارة المستعمل تقدمت في الباب السابق، فالأوجه عندي في غرض الترجمة أنه أشار إلى فضل ماء الوضوء الباقي في الإناء، فإنه أثر في إفاقة المغمى عليه، ولذا قالت العلماء بجواز شربه قائمًا واستثنائه من كراهة الشرب قائمًا.
قوله: (إنما يرثني كلالة) وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: اللفظ مشترك بين المورث الذي ليس له ولد ولا والد، وبين الوارث الذي لا والد له ولا ولد، وبسط الأقوال في تفسير الكلالة في التفسير من هامش "اللامع"
(1)
.
(45 -
باب الغسل والوضوء في المخضب. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: وكلمة "في" دالة على كونها ظروفًا لفعله سواء كان بجلوسه فيه كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحيث يقطر غسالته، فإن ذلك نوع من الوضوء فيه، فإنك إذا توضأت في حوض بحيث يقطر الغسالة فيه، فإنك تقول حينئذ: توضأت في الحوض، وأما الوضوء من المخضب والقدح فإنه لا يصدق إلا إذا كنت تأخذ الماء منه ثم تغسل العضو بحيث لا يعود إلى الظرف ثانيًا، وذلك لما في كلمة "من" من معنى الابتداء، وعلى هذا فلا تكرار في الترجمة كما يتوهم، فافهم واغتنم، ولكنه مفتقر إلى مزيد تدبر لما أن بعض ألفاظ الروايات آبٍ عن ذلك.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: المخضب بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الضاد: المشهور أنه الإناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان، وقد يطلق على الإناء صغيرًا أو كبيرًا، والقدح أكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فمه، وعطف الخشب على الحجارة ليس من عطف العام على الخاص بل بينهما عموم وخصوص من وجه، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(9/ 59).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 155 - 157).
(3)
"فتح الباري"(1/ 301).
وفي "الكرماني"
(1)
: قال ابن بطال: فائدة هذا الباب أن الأواني كلها من جواهر الأرض، ونباتها طاهرة إذا لم يكن فيها نجاسة، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع".
وما أفاده الشيخ من قوله: فلا تكرار في الترجمة، أوضحه في هامش "اللامع" إذ فيه: لله درُّ الشيخ ما أجاد في دفع توهم التكرار في هذه الترجمة [والترجمة] الآتية من قوله: "باب الوضوء من التور"؛ لأن غرض الباب الأول لما كان بيان طهارة الأواني لم تبق فاقة إلى ذكر الباب الآتي، ويقوي الإشكال ما قال العيني
(2)
في الباب الأول: وقد وقع في بعض النسخ بعد قوله: والحجارة "والتور" بفتح المثناة الفوقية، قال الجوهري: هو إناء يشرب فيه، زاد المطرزي: صغير، وفي تقرير المكي: قوله - أي: في الحديث -: تور من صفر، فيه تجريد، فإن التور يكون من الحجارة، انتهى.
قلت: فإذا كان ذكر التور في الباب الأول أيضًا فلا يمكن التوقي عن التكرار إلا بما أفاده الشيخ، وعلى هذا فيندفع الإشكال الآخر عندي أيضًا، وهو ذكر حديث أنس في البابين معًا، فيؤول بأن ذكره في الباب الأول باعتبار إدخاله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة فيه، وذكره في الباب الثاني باعتبار توضؤ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فتأمل وتشكر، ولا يشكل عليه أن مجرد إدخال اليد في القدح لا يطلق عليه الوضوء في القدح؛ لأن الإمام البخاري لم يفرق بين الاستعمال لأجل القربة وغيرها كما تقدم قريبًا في كلام الشيخ في "باب استعمال وضوء الناس" ولذلك ذكر حديث أبي موسى في الباب المذكور وفي هذا الباب الذي نحن بصدده، وهذا واضح، وعلى هذا فلا يشكل بذكر حديث أبي موسى في البابين، ويدفع به ما قال القسطلاني تبعًا للكرماني أن حديث أبي موسى المذكور في الباب لا مناسبة له
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 42).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 555).
بالترجمة، وكذا ما قال السندي
(1)
. أما حديث أبي موسى فلم يكن هناك وضوء أصلًا بل هو استعمال في أعضاء الوضوء لا على وجه التوضؤ، انتهى.
قوله: (عن أبي موسى) قال القسطلاني تبعًا للكرماني: لا مناسبة له بالباب، وسكت الحافظ، ولم يجد العيني مخلصًا إلا بقوله: ومناسبته ظاهرة، وتقدم الكلام على هذه الرواية إجمالًا في كلام "اللامع" وهامشي في ذيل ترجمة الباب.
قوله: (عبد الله بن زيد. . .) إلخ، مناسبته ظاهرة لما تقدم قريبًا في "باب غسل الرجلين إلى الكعبين" بلفظ:"فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التور فمضمض" الحديث، وتقدم أيضًا قريبًا في "باب مسح الرأس مرة".
(46 -
باب الوضوء من التور)
بفتح المثناة: شبه الطست، وقيل: هو الطست، وفي حديث المعراج:"أتي بطست من ذهب فيه تور من ماء"
(2)
وهو يقتضي المغايرة، ويحتمل الترادف، فإن الطست أكبر من التور، كذا في "الفتح"
(3)
.
وتقدم الفرق بين هذه الترجمة والسابقة في الباب السابق، وقد يقال: إنه ترجم بهذا الباب لمزيد الاهتمام؛ لأنه ورد في بعض طرق حديث الباب أن التور كان من صفر كما تقدم في الباب السابق، وقد روي عن ابن عمر أنه كره الصفر في الوضوء والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك، فكأن المصنف أشار إلى الرد عليه، والله أعلم.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 37).
(2)
قوله: "تور من ماء" كذا في الأصل، وهو سبق "قلم"، والصواب:"تور من ذهب" انظر: "صحيح البخاري" كتاب التوحيد (ح: 7515)، و"فتح الباري"(1/ 303)، و"عمدة القاري"(2/ 561).
(3)
"فتح الباري"(1/ 303).
قوله: (بقدح رحراح) بمهملات الأولى مفتوحة بعدها ساكنة، أي: متسع الفم، قال الخطابي: الرحراح الإناء الواسع الصحن القريب القعر.
قلت: وهذه الصفة شبيهة بالطست، وبهذا يظهر مناسبة هذا الحديث بالترجمة، قاله الحافظ
(1)
.
(47 -
باب الوضوء بالمد)
قال الحافظ في آخر الباب السابق
(2)
: واستدل الشافعي بهذا الحديث على رد قول من قال من أصحاب الرأي: إن الوضوء مقدر بقدر من الماء معين، ووجه الدلالة أن الصحابة اغترفوا من ذلك القدح من غير تقدير؛ لأن الماء النابع لم يكن قدره معلومًا لهم فدل على عدم التقدير، وبهذا يظهر مناسبة تعقيب المصنف هذا الحديث بباب الوضوء بالمد، انتهى.
ولم أتحصل بعد ما أفاده الحافظ؛ لأن ما حكى من مسلك أصحاب الرأي أن الوضوء مقدر بقدر معين من الماء ليس بصحيح، ففي "الأوجز"
(3)
: قال القاري: ثم الإجماع على أنه لا يشترط قدر معين في ماء الوضوء والغسل، ولكن يسن أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وماء الغسل عن صاع تقريبًا، انتهى.
وعده صاحب "الدر المختار"
(4)
من سنن الغسل، نقل ابن عابدين عن "الحلية": نقل غير واحد إجماع المسلمين على أن ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر بمقدار، وما في ظاهر الرواية: من أن أدنى ما يكفي في الغسل صاع، وفي الوضوء مد للحديث المتفق عليه، ليس بلازم بل هو بيان أدنى القدر المسنون، قال في "البحر": حتى [إن من] أسبغ بدون ذلك أجزأه، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 304).
(2)
"فتح الباري"(1/ 304).
(3)
"أوجز المسالك"(1/ 501، 502).
(4)
(1/ 294).
قلت: وكذلك في غيرها من كتب الحنفية، فنسبة الخلاف فيه إلى الحنفية لا يصح، وفي "الأوجز" أيضًا أن الباجي حكى الاختلاف عن الشيخ أبي إسحاق دون أبي حنيفة وهو الصواب، فإن مقدار الماء عندنا من السنن كما تقدم.
ثم لا يذهب عليك أن مؤدى الأحاديث الواردة في هذا المعنى كلها عند الجمهور بيان مقدار الماء، لكن في "الأوجز"
(1)
: قال الباجي: قولها: "كان يغتسل من إناء" يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه يغتسل من هذا الإناء وإن استعمل اليسير من مائه أو كله أو أكثر منه، فيتناول ذلك إباحة الوضوء بذلك الإناء.
والثاني: أنه يستعمله في غسله ملء ذلك الإناء فتقصد به الإخبار عن مقدار الماء.
قلت: فيكون الحديث على الاحتمال الأول من بيان ظروف الوضوء والغسل لا من باب مقدار الماء لهما، لكن لفظ أبي عبيد في "كتاب الأموال" برواية صفية عن عائشة بلفظ:"يتوضأ بقدر الماء ويغتسل بقدر الصاع" يؤيد المعنى الثاني، وكذلك لفظ مجاهد [عن عائشة قالت: والله] إن كنت لأغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة بصاع من ماء جميعًا، انتهى ما في "الأوجز".
وفيه أيضًا عن ابن العربي أنه [قال:] إذا قلنا: إنه يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، فمعناه بالصاع كيلًا لا وزنًا؛ لأن كيل المد والصاع بالماء أضعافه بالوزن، فتفطن لهذه الدقيقة، انتهى.
واختلاف العلماء في مقدار المد أنه رطلان أو رطل وثلث، معروف، بعد إجماعهم أن الصاع أربعة أمداد، فالمد عند الإمام الأعظم رطلان، وعند صاحبيه وبه قال الأئمة الثلاثة: رطل وثلث، وبسط الكلام على الدلائل في "البذل"
(2)
و"الأوجز".
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 500)، و"المنتقى"(1/ 95).
(2)
"بذل المجهود"(1/ 475).
(48 -
باب المسح على الخفين)
قال القاري
(1)
: أخّره عن الوضوء تأخير النائب عن المناب، والمسح هو إصابة اليد المبتلة بالعضو، وشرط مسح الخف ثلاثة أمور: كونه ساتر القدم مع الكعب، وكونه مشغولًا بالرجل ليمنع سراية الحدث، وكونه مما يمكن متابعة المشي المعتاد فيه فرسخًا فأكثر، وعن ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روي عنهم إنكاره روي إثباته، وصرَّح جمع من الحفاظ بأن أحاديثه متواترة المعنى، وسئل أنس بن مالك عن علامات أهل السُّنَّة فقال: أن تحب الشيخين، ولا تطعن الختنين، وتمسح على الخفين، وروي عن الإمام أبي حنيفة في شرائط أهل السُّنَّة أنه قال: أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وتمسح على الخفين، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا أنكره إلا مالكًا في رواية، أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرَّحة بإثباته، و"موطؤه" يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليها جميع أصحابه، انتهى.
وأثبت الباجي رجوع الإمام إلى المسح في السفر والحضر، واتفقت الأمة كلها على جوازه إلا شرذمة من المبتدعة كالخوارج والشيعة إلى آخر ما في "الأوجز"
(2)
وفيه: قيل: إنه من خصائص هذه الأمة، انتهى.
قوله: (سأل عمرَ عن ذلك) كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: ولعله لم يعتمد على قول سعد، أو قصد مزيد اطمئنان، انتهى.
وقد ورد في الروايات أن سعدًا أمره بذلك، ففي "الموطأ" لمالك
(4)
: أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص وهو أميرها، فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين، فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك إذا قدمت عليه، فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمر عن ذلك حتى قدم
(1)
"مرقاة المفاتيح"(2/ 212).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 436، 437).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 158).
(4)
"موطأ مالك"(72).
سعد فقال: أسألت أباك؟ فقال: لا، فسأله عبد الله، الحديث، إلى آخر ما في هامش "اللامع"، وفيه: يشكل على هذه الروايات كلها ما روي عن ابن عمر من روايات المسح على الخفين مرفوعًا، وبسط في الجواب عنه في "الأوجز"، وحاصله: ترجيح رواية البخاري، أو يقال: إن رواية الرفع من مراسيل ابن عمر، ومراسيل الصحابة معروفة معتبرة، انتهى.
وأما ما رواه الطبراني في "معجمه الصغير"
(1)
: عن أبي سلمة عن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين، فإنه هان كان صريحًا في الرفع ورؤية ابن عمر المسح دافعًا لاحتمال الإرسال، إلا أنها رواية منكرة مخالفة لرواية الثقات، قال الميموني: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال: ليس بصحيح، ابن عمر ينكر على سعد المسح، انتهى.
أي: فكيف يصح قوله: رأينا، فإنه لو رآه لما أنكر على سعد، وقال الحافظ
(2)
: ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما أنكر المسح على الخفين في الحضر لا في السفر، انتهى.
قلت: ولكن يشكل عليه ما رواه الطبراني في "الكبير" عن حميد الرؤاسي عن الحسن العصاب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: "للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن"، قال الهيثمي
(3)
: رواه القطيعي من زياداته على "مسند أحمد"، وأبو يعلى والبزار، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجال البزار وأبي يعلى ثقات، وهذا الحديث لا يرد على ما اخترت من أنه يحتمل أن يكون سمعه من غيره، والله تعالى أعلم.
قوله: (يمسح على عمامته) وبسط الكلام عليه في "الأوجز"
(4)
، وفيه:
(1)
"المعجم الصغير"(رقم 598).
(2)
"فتح الباري"(1/ 306).
(3)
انظر: "مجمع الزوائد"(1384).
(4)
"أوجز المسالك"(1/ 434).
قال الجمهور منهم الأئمة الثلاثة: إن مسح العمامة لا يجزئ حتى يمسح الشعر بالماء، وأباحه لبعض الآثار الإمام أحمد وداود وغيرهما، مع الخلاف بينهم في التوقيت والشرائط، وقال الإمام محمد في "موطئه"
(1)
: بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك، ولم يتعرض له الشيخ في "اللامع" ههنا؛ لأنه قد أجمل الكلام على ذلك في "الكوكب" و"الدر المنضود على سنن أبي داود"
(2)
.
(49 -
باب إذا أدخل رجليه. . .) إلخ
قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: أي: "باب شرط المسح على الخفين أن يكون إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان".
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله: "أدخلتهما طاهرتين" فعلم أن اللبس طاهرًا عن الحدث كاف في جواز المسح، ولا يشترط لجواز المسح كمال الطهارة وقت اللبس، انتهى.
وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك إلى جزئية خلافية بين العلماء، وهي أن رجلًا مثلًا عكس الترتيب، فغسل رجليه أولًا ولبسهما ثم أتم الوضوء، فقال: الأئمة الثلاث: إنه لا يجوز له المسح، وقالت الحنفية: يجوز له المسح، انتهى مختصرًا.
قلت: وظاهر تبويب الإمام البخاري يوافق الحنفية كما ترى.
(50 -
باب من لم يتوضأ من لحم الشاة. . .) إلخ
قال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(5)
: الحديث الذي أخرجه المؤلف في هذا الباب لا يدل إلا على عدم التوضؤ بعد أكل لحم الشاة، ولم يعقد
(1)
انظر: "التعليق الممجد على موطأ محمد"(1/ 287).
(2)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 135)، و"بذل المجهود"(1/ 627).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 88).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 159).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 89).
الباب لأجل هذا الحديث بباب عدم التوضؤ مما مسته النار كما فعله مالك وغيره من المحدِّثين؛ لأنه لا يدخل فيه عدم التوضؤ بعد أكل لحم الإبل، والحديث لا يدل على ذلك، بل الثابت بالحديث الآخر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، بعد أكل لحوم الإبل، والحكمة في إبقاء لزوم التوضؤ بعد أكل لحم الإبل زمانًا، ثم نسخه أن أهل المدينة كانوا قد أخذوا من اليهود حرمة الإبل وكانوا عليها وكانت طبائعهم اعتادت بها، فأمر رسول الله بأكل لحومها وأبقى حكم الوضوء بعد أكلها إلى زمان استئناسًا بهم ودفعًا للوحشة عنهم حتى يقبلوا الأحكام بالتدريج، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: ليس في حديث الباب ذكر السويق إلا أنه من باب الأولى؛ لأنه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته فعدمه من السويق أولى ولعله أشار بذلك إلى حديث الباب الذي بعده، انتهى.
والظاهر عندي: أن الباب الآتي جزء من هذا، فلا يشكل بذكر الكتف فيه كما سيأتي.
ثم ههنا مسألتان خلافيتان شهيرتان:
الأولى: مسألة الوضوء مما مست النار، وكان الخلاف فيها في السلف من الصحابة والتابعين معروفًا، ثم استقر الإجماع على أن لا وضوء مما مست النار، والخلاف فيه شاذ.
والمسألة الثانية: الوضوء من لحم الإبل، قال أحمد: بالوضوء منه خلافًا للأئمة الثلاث.
قال الحافظ: نص المصنف على لحم الشاة ليندرج ما هو مثلها وما دونها بالأولى، وأما ما فوقها فلعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل؛ لأن من خصه من عموم الجواز علَّله بشدة دسومته، فلهذا لم يقيِّده بكونه مطبوخًا، وهو قول أحمد، انتهى مختصرًا.
(1)
"فتح الباري"(1/ 311).
(51 -
باب من مضمض من السويق. . .) إلخ
قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: هذا الباب من قبيل الباب في الباب؛ لأنه يشتمل على ما عقد له الباب السابق مع فائدة أخرى، وههنا كذلك؛ لأنه ثبت بهذا الباب عدم التوضؤ من أكل السويق الذي عقد له الباب السابق، واستحباب المضمضة الذي علم منه فائدة أخرى، وهو حمل الوضوء الوارد في السويق وسائر ما مست النار على غسل الفم واليدين، فاحفظ هذا التقرير فإنه ينفعك في مواضع من البخاري، وأكثر الشرَّاح في أمثال هذا المقام قد خبطوا كثيرًا، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "فمضمض ومضمضنا" وقد مرَّ غير مرة ما يدلك على أن زيادة الباب ههنا لتضمن الرواية مسألةً مستقلةً، فلا ينافي ذكر لحم كتف الشاة في هذا الباب تناسب الأبواب لأنه متعلق بالترجمة السابقة، انتهى.
وفي هامشه: حاصل ما أفاده الشيخ أن هذا الباب من قبيل باب في باب، وهذا الأصل معروف مطرد في أصول التراجم كما تقدم في الأصل السادس، وعلى هذا يندفع ما يشكل على الباب السابق أنه رضي الله عنه ترجم بالسويق ولم يأت له بحديث، ويندفع أيضًا ما يشكل من ذكر حديث ميمونة في هذا الباب وليس فيه ذكر السويق، وبذلك جزم شيخ المشايخ في "التراجم" كما تقدم.
وقال السندي
(3)
: باب من مضمض من سويق، أي: وغيره كاللحم، وأشار بالاكتفاء على ذكر السويق إلى أن حكم اللحم ونحوه من المأكولات في المضمضة يعلم من حكم السويق بالأولى، ولذلك ذكر حديث اللحم في
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 90).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 160).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 50).
الباب تنبيهًا على أن المضمضة وإن ترك ذكرها في حديث اللحم لكنها معتبرة حكمًا بدلالة حكم السويق بالأولى، انتهى.
وقال الحافظ
(1)
: وليس في حديث ميمونة ذكر المضمضة التي ترجم بها، فقيل: أشار بذلك إلى أنها غير واجبة بدليل تركها في هذا الحديث، مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه، فتركها لبيان الجواز.
وأفاد الكرماني: أن في نسخة الفربري التي بخطه تقديم حديث ميمونة هذا إلى الباب الذي قبله، فعلى هذا هو من تصرف النساخ، انتهى.
(52 -
باب هل يمضمض من اللبن)
لعل الإمام البخاري أشار بلفظ "هل" إلى ما رواه أبو داود
(2)
، بإسناد حسن عن أنس "أنه عليه الصلاة والسلام شرب لبنًا فلم يمضمض"، أو يقال: إن المصنف أشار بلفظ "هل" إلى أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إن له دسومة" يشير إلى أن المضمضة للدسومة لا لمجرد شرب اللبن، فإن شرب أحد لبنًا ليس فيه دسومة كما هو المعروف في هذا الزمان من اللبن الذي يقال له "سبريتا" لا يمضمض منه، وهو اللبن الذي أخرج منه الزبد، وقد تقدم البسط في الأصل الثاني والثلاثين من الأصول المتقدمة على الأبواب المترجمة بلفظ:"هل".
قوله: (وقتيبة) قال الحافظ
(3)
: هذا أحد الأحاديث التي أخرجها الأئمة الستة
(4)
غير ابن ماجه عن شيخ واحد وهو قتيبة، وقد أخرج ابن ماجه
(5)
هذا الحديث بلفظ الأمر "مضمضوا من اللبن"، والدليل على أن
(1)
"فتح الباري"(1/ 313).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 197).
(3)
"فتح الباري"(1/ 313).
(4)
انظر: "صحيح البخاري"(ح: 211)، و"صحيح مسلم" (ح: 358)، و"سنن أبي داود" (ح: 196)، و"سنن النسائي" (ح: 187)، و"سنن الترمذي" (ح: 89).
(5)
"سنن ابن ماجه"(ح: 498).
الأمر للاستحباب حديث أنس بإسناد حسن عند أبي داود "أنه عليه الصلاة والسلام شرب لبنًا فلم يتمضمض"، وأغرب ابن شاهين فجعل حديث أنس ناسخًا لحديث ابن عباس، ولم يقل أحد بالوجوب حتى يقال بالنسخ، انتهى.
قلت: والشرَّاح عامة نقلوا استحباب المضمضة من اللبن، ونقلوا عليه الإجماع، وما يظهر لهذا العبد الضعيف أن في المسألة ثلاثة مذاهب للسلف كما بسطت في هامش "الكوكب":
الأول: الوجوب، كما قال به بعض السلف مستدلين بأحاديث الأمر، وروي عن أبي سعيد: لا وضوء إلا من اللبن؛ لأنه يخرج من بين فرث ودم، وعن أبي هريرة نحوه.
والثاني: الاستحباب، وهو مذهب الجمهور.
والثالث: ترك الاستحباب، وإليه أشار ابن أبي شيبة
(1)
في تبويبه بلفظ: "من كان لا يتوضأ ولا يمضمض"، وأخرج فيه عن طلحة [قال:] سألت أبا عبد الرحمن عن الوضوء من اللبن قال: من شراب سائغ للشاربين، انتهى ما في هامش "الكوكب"
(2)
مختصرًا.
(53 -
باب الوضوء من النوم. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(3)
: ودلالة الروايتين على هذا المعنى واضحة، وذلك أنه لمَّا لم يعلم بما يخرج من فيه وقت النعسة فأولى أن لا يعلم بالخارج من إسته إذا نام ورقد، فإن الغفلة في النوم أزيد منها في النعسة، انتهى.
وفي هامشه: ظاهر السياق أن الإمام البخاري ترجم بمسألتين:
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 58).
(2)
"الكوكب الدري"(1/ 123، 124).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 251).
أولاهما: إثبات الوضوء بالنوم، والثانية: عدم الوضوء بالنعسة، والرواية بظاهرها لا تدل على واحدة منهما، وظاهر كلام الشيخ أنه جعل الترجمة مسألة واحدة وهي الأولى، وإثباتها بما قرره ظاهر، وهو عدم الإدراك بخروج الريح، وهو الموجب للوضوء في النوم.
وظاهر كلام شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
أنه أيضًا جعل الترجمة مسألة واحدة لكنها هي الثانية إذ قال: استدل المؤلف بظاهر الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم لما علل قوله: "فليرقد" بقوله: "فإن أحدكم. . ." إلخ، مع قرب التعليلات لصيرورته محدثًا إلى الذهن، علم أن الحدث لا يتحقق بالنعسة، وإلا لما ترك التعليل الذي هو أقرب ذاهبًا إلى ما علل به، وأمثال هذه الاستدلالات للمؤلف كثيرة فاحفظ فإنه ينفعك، انتهى.
وهذا هو الأصل السادس والثلاثون من أصول التراجم.
وحكى الكرماني
(2)
عن ابن بطال في إثبات الترجمة أنه لما أوجب عليه الصلاة والسلام قطع الصلاة لغلبة النوم دلّ أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك ولم يغلب عليه أنه معفو، ولا وضوء فيه.
قال الكرماني: وأقول: سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم مصليًا حالة النعاس، فعلم أن النعاس ليس بحدث، وقال: ذكر صلى الله عليه وسلم العلة الموجبة للقطع أن يخلط الاستغفار بالسب، فصار بمنزلة من لا يعلم ما يقول من سكر الخمر الذي نهي عن مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك لا تجوز صلاته، انتهى مختصرًا.
قال الحافظ
(3)
: وحمله المهلب على ظاهره فقال: إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك عفي عنه، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 90).
(2)
"شرح الكرماني"(3/ 61).
(3)
"فتح الباري"(1/ 314).
وعلى هذا يثبت الجزءان من الترجمة، وأثبتهما السندي
(1)
أيضًا لكن بطريق آخر قريب مما أفاده شيخ المشايخ إذ قال: كأن المصنف استدل بالحديث على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو كان ناقضًا لما منع الشارع عن الصلاة خشية السب، بل وجب أن يذكر أنه لا تصح صلاته مع النعاس لانتقاض الوضوء، فإذا لم ينتقض به تعين أن يكون الانتقاض بالنوم إذ لا مساغ للقول بعدم الانتقاض أصلًا، انتهى.
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي رحمه الله تعالى قوله: الوضوء من النوم، ولم يورد لهذا حديثًا لشهرته فاكتفى فيه بالشهرة، وجاز أن يكون المراد باب حكم الوضوء من النوم، أي: نوم المصلي، ونوم المصلي؛ كالنعاس في عدم استرخاء المفاصل، فلما لم يكن النعاس ناقضًا كما ثبت بالحديث لم يكن نوم المصلي أيضًا ناقضًا بالقياس عليه، انتهى، وهو دقيق جدًا، وعلى هذا يكون الترجمة جزءًا واحدًا، وهو نوم المصلي خاصة، ويكون ذكر النعسة كالدليل له، ويكون رأي الإمام البخاري موافقًا لما يأتي من مذهب الحنفية أن النوم على هيئة الصلاة ليس بناقض.
ثم قال الحافظ
(2)
: ظاهر كلام البخاري أن النعاس يسمى نومًا، والمشهور التفرقة بينهما، وأن من قرَّت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم.
قوله: (أو الخفقة) بفتح المعجمة وإسكان الفاء، قال ابن التين: هي النعسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ كذا قال، والظاهر أنه من الخاص بعد العام، قال أهل اللغة: خفق رأسه إذا حركها وهو ناعس، انتهى.
ولذا قال شيخ الإسلام في شرحه: الخفقة: منتهى النعاس، انتهى ما في هامش "اللامع".
وبسط فيه بعد ذلك اختلاف الأئمة في نقض النوم.
(1)
"حاشية السندي"(1/ 51).
(2)
"فتح الباري"(1/ 313).
(54 -
باب الوضوء من غير حدث)
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: إنه يستحب ولا يجب، فدلَّت أولى الروايتين على جزئين، والثانية على ثانيهما، انتهى.
يعني: ثبت ندب التجديد بفعله عليه الصلاة والسلام، وجواز عدمه بتقريره عليه السلام.
والظاهر عندي: أن المصنف أراد بذلك الرد على من قال بإيجاب الوضوء لكل صلاة.
قال الحافظ
(2)
بعد ما حكى عن الجمهور نسخ الوجوب لكل صلاة: وذهب إلى استمرار الوجوب قوم كما جزم به الطحاوي، ونقله ابن عبد البر عن عكرمة وابن سيرين وغيرهما، واستبعده النووي وجنح إلى تأويل ذلك إن ثبت عنه، وجزم بأن الإجماع استقر على عدم الوجوب، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع".
(55 -
باب من الكبائر. . .) إلخ
لعل غرض المصنف التنبيه على أن عدم الاستتار من الكبائر ردًا على من قال كابن بطال: إن العذاب قد يكون على الصغائر أيضًا كما ذكر قوله الحافظ
(3)
وذكر مستدله والتعقب عليه.
قوله: (عن مجاهد عن ابن عباس. . .) إلخ، وهذا الحديث من منتقدات الدارقطني، قال القسطلاني
(4)
: وانتقد الدارقطني على المؤلف إسقاط طاوس من السند الأول، وقال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه المنصور عن مجاهد عن ابن عباس، وحديث الأعمش أصح، يعني: المتضمن للزيادة.
قال الحافظ: إخراج البخاري الحديث على الطريقين يقتضي صحتهما
(1)
"لامع الدراري"(2/ 165).
(2)
"فتح الباري"(1/ 316).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 317).
(4)
"إرشاد الساري"(1/ 517).
عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، انتهى.
(56 -
باب ما جاء في غسل البول)
قال ابن بطال: أراد المصنف أن المراد في الحديث من البول بول الناس لا بول سائر الحيوان، فلا حجة فيه لمن استدل به على العموم، وكأنه أراد الرد على الخطابي إذ قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها، ومحصل الرد أن العموم في رواية البول مخصوص ببوله لرواية أخرى، كذا في "الفتح"
(1)
.
وأفاد شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
: أن مذهب البخاري في ذلك مثل الشافعي من نجاسة بول الإنسان دون ما يؤكل لحمه، انتهى.
قلت: ليس هذا مذهب الشافعي بل هو وجه لبعض الشافعية، نعم هو مذهب مالك ورواية لأحمد، وأخرى له: نجس، وهو مذهب الشافعية والحنفية، وفي "النور الساري": ولم يذكر سوى بول الناس، هذا من فقه المصنف لما أن فيه ضميرًا يرجع إلى صاحب القبر، وغرضه منه التنبيه على أن بول الناس لا بد أن يغسل، وليس الكلام في الأبوال الباقية وإن فيها اختلافًا كثيرًا، انتهى.
قوله: (إذا تبرز لحاجته. . .) إلخ، قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: التبرز وإن كان في متفاهم العرف يحمل على الغائط لكن الصحابي لما حكى فعله وهو الذهاب إلى الفضاء، والذهاب إليه قد يكون للبول أيضًا فبالنظر إلى هذا العموم استدل البخاري بالحديث على ثبوت الغسل من البول، ومثل هذا الاستدلال كثير شائع عند المؤلف، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 321).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 93).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 93).
قلت: هذا هو الأصل الخمسون من أصول التراجم المتقدمة في الجزء الأول من هذه التراجم، ويمكن عندي أن يقال: إن البول لازم للبراز عادة، وفيه قصة معروفة لأستاذ الأساتذة ملا جيون مؤلف "نور الأنوار".
(باب)
بلا ترجمة، وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": ليس هذا الباب في كثير من النسخ، والصحيح عدمه.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: ولعل زاد لفظ الباب ههنا نظرًا إلى إطلاق البول ههنا فيعم كل بول، وتقييده بالإنسان في الأول، ثم لا يتوهم أن النهي إنما هو مختص ببول نفسه فلا ضير في بول غيره ولو إنسانًا؛ لأن الحكم في مثل هذا لا يتفاوت بين رجل رجل، انتهى.
وفي هامشه: حاصل ما أفاده الشيخ: أنه لما كان في بعض طرق الحديث لفظ البول مطلقًا بدون التقييد ببوله نبَّه عليه بلفظ الباب إشارةً إلى مستدل من قال بالتحرز عن الأبواب كلها، وكذا حكى مولانا حسين على في تقريره إذ قال: ولعله أدخل لفظ الباب إشارةً إلى أنه ذكر في هذا الحديث لفظ البول بلا ضمير نفسه، انتهى.
وبسط في هامش "اللامع" أقوال الشرَّاح مبسوطًا، وفي آخره: وقد عرفت مما سبق أن الشراح والمشايخ كلهم اختلفوا في توجيه الغرض في هذا الباب على أقوال عديدة:
منها: رأي شيخ المشايخ أن الباب ههنا لا يصح.
ومنها: رأي القطب الكَنكَوهي أنه للتنبيه على عموم البول.
ومنها: رأي شيخ الهند أنه للتنبيه على كون البول موجبًا لعذاب القبر.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 93).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 167 - 170).
قلت: ولذا رقم الشيخ عليه في الجدول الرابع في آخر تراجمه نقطة واحدة كما عرفت في الجزء الأول من هذه التراجم، وهو عنده علامة لتشحيذ الأذهان.
ومنها: رأي الحافظ أنه للتنبيه على وجوب غسل ما انتشر من البول على المحل.
ومنها: رأي العلامة العيني أنه للتنبيه على الاختلاف في السند.
ومنها: رأي الكرماني أنه للتنبيه على وجوب غسل البول.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه للتنبيه على وجوب الاستنجاء، أي: الاستبراء والاستجمار للبول، إلى آخر ما في الهامش.
(57 -
باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم
-)
لما كان أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيف المساجد وتطييبها وتطهيرها تقتضي أن تصان عن النجاسات، وإن وقعت منعت ما أمكن، ومقتضاها أن البائل يمنع عنه على الفور لئلا يكثر النجاسة، ترجم المصنف لحديث الباب تنبيهًا على أن المفسدة إذا تزيد بالمنع لا تمنع، فإن البول لا يمنع غالبًا بعد الشروع، ولو امتنع تضرر، وإن هرب بالزجر تفشو النجاسة على بقع المسجد.
وفي "تراجم"
(1)
شيخ المشايخ: غرض الباب أنه إذا أقبل أمران متعارضان في كليهما مفسدة اختير أهونهما، وكان الأهون ههنا تركه حتى يفرغ؛ لأن تنجس المسجد أمر قد فرغ عنه، فلا يفيد النهي طائلًا إلا إضرارًا وإهلاكًا إياه، انتهى مختصرًا.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كان التشديد في أمر البول يقتضي
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 94).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 171).
أن يشدد في مثل ما فعله الأعرابي وضع بابًا للإشارة أن من المفاسد ما هي مختارة خوفًا من أكثر منها، ومن أشد منها، فلو قطعوا على الأعرابي بوله لربما أدَّى إلى تنجيس سائر المسجد وتنجيس ثياب نفسه، أو كان ذلك مورثًا له مرضًا، انتهى.
(58 -
باب صب الماء على البول في المسجد)
لعل المصنف أشار إلى مسألة خلافية، وهي أن الأرض تطهر بصب الماء كما عليه الجمهور، أو يشترط له الحفر أيضًا كما نقلوه عن الحنفية وإن لم يصح النقل عنهم، نعم هذا قول المروزي إذ قال: لا تطهر الأرض إلا بأن تحفر أو يجعل على ظاهرها تراب فتصير النجاسة باطنة، كما في "الأوجز"
(1)
، أو تطهر بالجفاف أيضًا كما هو مذهب الحنفية وأحد أقوال الثلاثة مع الحنفية، ولا يبعد أن يقال: إن الغرض دفع ما يتوهم من صب الماء الزيادة في تنجيس المسجد.
وفي هامش "اللامع"
(2)
: لم يتعرض له الشيخ ههنا كدأبه في هذا التقرير أنه لا يتعرض غالبًا عما تقدم الكلام عليه، فإنه رحمه الله قد قرر على ذلك في تقرير الترمذي المعروف "بالكوكب الدري"
(3)
، ثم أجمل الكلام مرة ثانية في تقرير أبي داود المعروف "بالدر المنضود" ولفظه: قوله: "صبوا عليه سجلًا من ماء"، وذلك لإزالة النتن ودفع الوسواس وإن كانت تطهر باليبس أيضًا، ولأن الماء حين جرى ذهب بالنجاسة عن هذا الموضع فطهر للصلاة والتيمم، وباليبس لم تطهر إلا للصلاة غير التيمم، ولم يتعرض الشيخ أيضًا بباب بول الصبيان في "اللامع" لتقدم الكلام عليه في "الكوكب"
(4)
.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 652).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 171).
(3)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 186).
(4)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 101).
(باب يهريق الماء على البول)
ليس هذا الباب في النسخ الهندية ولا في أكثر النسخ المصرية، بل هو موجود في نسخة القسطلاني
(1)
، وقال: سقط الباب والترجمة في رواية الأصيلي والهروي وابن عساكر، وقال السندي
(2)
: هذا الباب ساقط عند كثير وسقوطه هو الوجه، والله أعلم، انتهى.
ولا يبعد عندي أن يكون الغرض أن الحكم لا يختص بالمسجد.
قال الحافظ
(3)
: ويستدل به أيضًا على عدم اشتراط نضوب الماء؛ لأنه لو اشترط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب إذ لا فارق، قال الموفق في "المغني" بعد أن حكى الخلاف: الأولى الحكم بالطهارة مطلقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئًا، انتهى.
وقال ابن عابدين
(4)
: ولو أريد تطهيرها - أي: الأرض - عاجلًا يصبّ عليها الماء ثلاث مرات وتجفف في كل مرة بخرقة طاهرة، وكذا لو صب عليها الماء بكثرة حتى لا يظهر أثر النجاسة، كذا في "شرح المنية" و"الفتح"، وفي "الهداية"
(5)
: ثم لا بد من العصر في كل مرة في ظاهر الرواية؛ لأنه هو المستخرج، انتهى.
قلت: ولا يخفى أن حديث الباب ليس بوارد على الحنفية، بل هو مؤيد لهم؛ إذ قالوا بالطهارة إذا صب الماء بكثرة كما تقدم في كلام ابن عابدين، وأما اشتراط العصر وغيره فقال في "الدر المختار"
(6)
: وهذا كله، أي: الغسل والعصر ثلاثًا فيما ينعصر، وتثليث الجفاف في غيره إذا غسل في إجانة، أما لو غسل في غدير أو صبّ عليه ماءٌ كثير، أو جرى
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 523).
(2)
"حاشية السندي"(1/ 52).
(3)
"فتح الباري"(1/ 325).
(4)
"رد المختار"(1/ 512).
(5)
"الهداية"(1/ 38).
(6)
انظر: "رد المختار"(1/ 542).
عليه الماء طهر [مطلقًا] بلا شرط عصر وتجفيف وتكرار غمس هو المختار، انتهى بزيادة من ابن عابدين.
(59 -
باب بول الصبيان)
قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: غرضه أن التطهير من بول الصبيان يحصل بإتباع الماء لنضحه ولا حاجة إلى الغسل كما هو مذهب الشافعي، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: وهل يلتحق به بول الصبايا أم لا؟ وفي الفرق أحاديث ليست على شرط المصنف، انتهى.
قلت: الخلاف فيه مشهور، والأصح من الأقوال الثلاثة للشافعية التفريق، وبه قال أحمد، والثاني النضح فيهما، والثالث الغسل فيهما، وهما شاذان، وبالثالث قلنا ومالك، ولم يقل أحد من الأئمة الأربعة بطهارة البول خلافًا لداود الظاهري، ثم التفريق لعفونة بولها أو لسعة مخرجها، أو خفف في الصبي لكثرة حبه، والحرج يجلب التيسير، والعيني
(3)
: جعل الثالث أقوى.
قوله: (بصبي) واختلف في اسم هذا الصبي، قال الحافظ
(4)
: والذي يظهر لي أنه ابن أم قيس، ويحتمل أنه الحسن أو الحسين لما ورد في الروايات من بولهما، وقال العيني
(5)
: وأظهر الأقوال عندي أنه عبد الله بن الزبير، انتهى.
وقيل: سليمان بن هاشم أو ابن هشام، وهؤلاء كلهم بالوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نظمهم بعضهم:
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 95).
(2)
"فتح الباري"(1/ 335).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 614).
(4)
"فتح الباري"(1/ 326).
(5)
"عمدة القاري"(2/ 613).
قد بال في حجر النبي أطفال
…
حسن حسين ابن الزبير بالوا
وكذا سليمان بن هشام
(1)
…
وابن أم قيس جاء في الختام
انتهى ملخصًا من "الأوجز"
(2)
(60 -
باب البول قائمًا وقاعدًا)
كتب شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: أي: هو جائز، أثبت بالحديث الأولَ والثانيَ بالطريق الأولى، وهكذا قرره الشرَّاح.
وعندي: أن غرض المؤلف من عقد الباب ليس إلا إثبات جواز البول قائمًا، فكأنه قال: يجوز البول قائمًا أيضًا، ولا ينحصر جوازه في القعود فقط.
قلت: ما قالته الشرَّاح هو الأصل التاسع عشر المتقدم في الجزء الأول من أصول التراجم.
وفي هامش "اللامع"
(4)
: قال ابن بطال وتبعه الكرماني: إن دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى.
وقال الحافظ
(5)
: يحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وغيره، فإنه فيه:"بال رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة"، إلى آخر ما بسطه الحافظ.
وهذا أيضًا أصل مطَّرد عند الحافظ كما تقدم في الأصل الثامن والثلاثين، من الأصول المتقدمة.
(1)
وفي "شرح الإقناع"(1/ 320): "بني هشام"، والصواب:"بن هشام".
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 644).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 96).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 172).
(5)
"فتح الباري"(1/ 328).
وتعقب العيني
(1)
على كلام ابن بطال والحافظ معًا ثم قال: والأحسن أن يقال: لم يذكر القعود لشهرته وعمل الناس عليه، أو إشارةً إلى أنه لم يجد على شرطه، انتهى.
ولا يدخل في هذا الأصل التاسع والثلاثين؛ لأن جواز البول قاعدًا متفق عليه. والأوجه عندي: أن الإمام البخاري مال في ذلك إلى مسلك من أباحه مطلقًا؛ كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وقال مالك: إن كان في مكان لا يتطاير منه شيء فلا بأس به وإلا فمكروه، ومذهب الحنابلة كما في "المغني"
(2)
: يستحب أن يبول قاعدًا لئلا يترشش، وفي "نيل المآرب"
(3)
: ولا يكره البول قائمًا ولو لغير حاجة بشرطين: الأول: أن يأمن تلويثًا، والثاني: أن يأمن ناظرًا، وقال عامة العلماء: إنه مكروه كراهة تنزيه إلا لعذر، وهو مذهب الحنفية، فلما كان مختلفًا فيه أثبت جوازه ولم يذكر للقعود دليلًا لكونه متفقًا عليه، وزاد لفظ القعود في الترجمة لئلا يوهم أفضليته، فإنه لو ترجم بالبول قائمًا وذكر فيه حديث الباب أوهم استحبابه لكونه فعله صلى الله عليه وسلم، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع" بزيادة من "الأوجز"
(4)
.
(61 -
باب البول عند صاحبه. . .) إلخ
وفي "تراجم
(5)
شيخ المشايخ": الغرض من عقد الباب أن ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا تبرز أبعد في المذهب" مخصوص بالغائط لانكشاف العورة من كلا الجانبين، وأما عند البول فيجوز أن يبول مستترًا بالحائط وصاحبه خلفه، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 620).
(2)
"المغني"(1/ 223).
(3)
"نيل المآرب"(1/ 53).
(4)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 649).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 97).
قال الحافظ
(1)
: كان المعروف من عادته التباعد، وخالف عادته الشريفة، فقيل: لعله أطال المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه من رؤية من لعله يمر به، وكان قدَّامه مستورًا بالحائط، أو لعله فعله لبيان الجواز، ثم هو في البول وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة التكشف، ولما يقترن به من الرائحة، انتهى.
(62 -
باب البول عند سباطة قوم)
بضم المهملة بعدها موحدة، هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وكذا في "الفتح"
(2)
.
ولعل المصنف أشار بذلك إلى ما ذكره الحافظ بحثًا أن إضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة، وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار، ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وهو صريح رواية أبي عوانة في "صحيحه"، وقيل: يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام علم إذنهم بذلك بالتصريح أو بغيره، أو لكون ذلك مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، انتهى ملخصًا من "الفتح".
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": قصد المؤلف إثبات أن البول على سباطة قوم غير محتاج إلى الاستئذان منهم؛ لأن سباطة القوم غالبًا يكون محلًا للأنجاس، فلا ضرر لهم بذلك، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 329).
(2)
"فتح الباري"(1/ 328).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 97).
(63 -
باب غسل الدم)
سكت الشرَّاح عن غرض المؤلف، ولا يبعد عندي أن يكون غرضه التنبيه على أنه لا بد للدم من غسله، فهو متعين فيه وإن كان الوارد فيه أيضًا ألفاظ النضح والرش وغيرهما، فلعل المصنف ذكره فيما بين روايتي النضح والفرك تنبيهًا على أنهما لا يكفينا فيه، والأوجه أن تكون الترجمة شارحة لحديث النضح الوارد فيه.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك: أنهم وإن اختلفوا في نقض الوضوء بخروجه إلا أنهم متفقون على نجاسته، ثم الرواية الأولى لغسل الثوب، والثانية لغسل البدن، انتهى.
وفي هامشه: وهو كذلك، إلا أنه اختلفوا في مقدار ما يعفى من الدم وبسط فيه اختلافهم في ذلك، وفيه أيضًا: لا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم بمعنى ذلك ثلاثة أبواب: الأول هذا، والثاني سيأتي في "كتاب الحيض" من "باب غسل دم الحيض"، والثالث ما فيه أيضًا "باب غسل المحيض"، فلا بد من تفريق الأغراض في الثلاثة، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(64 -
باب غسل المني وفركه. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: أما الجزء الأول من أجزاء الترجمة فثابت من لفظ الروايتين معًا، وأما الثالث فبلفظ الجنابة، وهو مطلق يعم جنابة الرجل والمرأة، وأما الثاني منها فثابت قياسًا؛ لأن الصلاة لما جازت في الثوب الباقي فيه أثر المني تجوز أيضًا في الثوب الذي فرك منه المني ولم يغسل، وذلك لحصول المقصود فيهما، وهو تقليل النجاسة، فإن المني لما فيه من كثرة الابتلاء لم يعزم إزالته بالكلية، بل عفي قليله وإن
(1)
"لامع الدراري"(2/ 173).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 175 - 177).
كان نجسًا، وعلى هذا فلا يفوت شيء من أجزاء الترجمة الثلاثة، انتهى.
وفي هامشه: ذكر الإمام البخاري في الترجمة ثلاثة أجزاء: والأول منها ثابت بلا مرية بخلاف الأخيرين، وأجاد الشيخ في إثباتها كلها فللَّه درُّه، وأما الشرَّاح فاختلفوا فيها كما سترى، أما الجزء الثاني وهو الفرك فقال الكرماني
(1)
: إن قلت: الحديث لا يدل على الفرك، قلت: علم منه عدم الاكتفاء بالفرك، والمراد بالباب باب حكم المني غسلًا وفركًا في أن أيهما ثبت في الحديث وما الواجب منهما؟ انتهى.
قلت: هذا هو الأصل التاسع والثلاثون من أصول التراجم.
وقال الحافظ
(2)
: لم يخرج البخاري حديث الفرك بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته؛ لأنه ورد في حديث عائشة، ثم ذكر الروايات عنها في الفرك المروية في غير البخاري، وهذا هو الأصل الثامن والثلاثون من أصول التراجم.
والعلَّامة العيني
(3)
تعقب على كلام الحافظ حسب عادته أشد التعقب وقال: قوله: اكتفى بالإشارة. . . إلخ، كلام واهٍ إلى آخر ما قاله، ولم يأت بتوجيه لإثبات الترجمة، بل مال إلى أنه لا يثبت منها إلا الجزء الأول فقط، وأنت خبير بأن توجيه الشيخ يعني: إثباته بالقياس أجود من هذا كله، ولا يبعد أيضًا أن يقال: إن إضافة الفرك في الترجمة تنبيه على أن الوارد في الروايات من الغسل ليس للاحتراز كما تقدم في الأصل الرابع والثلاثين من أصول التراجم، وأما الجزء الثالث وهو غسل ما يصيب من المرأة فلا يثبت أيضًا عند العيني.
وقال الكرماني
(4)
: علم من الحديث غسل رطوبة الفرج أيضًا إذ لا شك من اختلاط المني بها عند الجماع، أو أنه ترجم بما جاء في هذا
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 81).
(2)
"فتح الباري"(1/ 332).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 635).
(4)
"شرح الكرماني"(3/ 81).
الباب واكتفى في إيراد الحديث ببعضه، وكثيرًا يفعل مثل ذلك، أو كان في قصده أن يضيف إليه ما يتعلق به ولم يتفق له، انتهى.
وقال الحافظ: في هذه المسألة
(1)
حديث صريح ذكره المصنف في آخر "كتاب الغسل" من حديث عثمان، ولم يذكره ههنا، وكأنه استنبطه من حديث الباب بأن المني الحاصل في الثوب لا يخلو غالبًا من مخالطته ماء المرأة ورطوبتها، انتهى.
وما يظهر لهذا العبد الضعيف: أن المراد في هذه الترجمة بقوله: "غسل ما يصيب من المرأة" غير المراد من الترجمة الآتية في آخر الغسل "باب غسل ما يصيب من فرج المرأة" كما يدلط عليه فرق ألفاظ الترجمتين، فالمراد ههنا بيان الغسل من مني المرأة، وهناك غسل ما يصيب من رطوبة الفرج، وعلى هذا لا يرد على المصنف أن الترجمة مكررة، وهو الظاهر عندي من كلام الشيخ إذ قال: وأما الثالث فبلفظ الجنابة، وهو يعم جنابة الرجل والمرأة، وعلى هذا فإثباتها بالحديث واضح بلفظ الجنابة والمني، ويدل عليه أيضًا أن الإمام البخاري ذكر في هذا الباب روايات المني وذكر في الباب الآتي روايات الإكسال فلا مني فيها فليس فيها إلا رطوبة الفرج.
ثم لا يذهب عليك أنهم اختلفوا في طهارة المني ونجاسته، وحاصله: أنه نجس عند الحنفية قولًا واحدًا، لكن يعفى قليله ويكفي فرك يابسه، وكذلك هو نجس عند مالك، ولا بد من غسله رطبًا ويابسًا، وعن أحمد والشافعي ثلاث روايات: المشهور منها: أنه طاهر، انتهى مختصرًا.
(65 -
باب إذا غسل الجنابة أو غيرها)
لم يذكر الغير صريحًا بل ألحقه به قياسًا، أو أشار إلى ما رواه أبو داود
(2)
وغيره أن خولة رضي الله عنها قالت: "ليس لي إلا ثوب واحد" الحديث،
(1)
"فتح الباري"(1/ 333).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 365).
وفيه: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره" ويحتمل أن يكون زيادة "أو غيرها" من الأصل الرابع والثلاثين فلا يحتاج لإثباتها إلى دليل، انتهى من هامش "اللامع"
(1)
.
(66 -
باب أبوال الإبل. . .) إلخ
وتقدم قريبًا في "باب غسل البول" اختلاف الأئمة في أبوال ما يؤكل لحمه، وظاهر تبويب المصنف أنه مال إلى طهارتها موافقًا لمذهب الإمام مالك خلافًا للحنفية والشافعية والجمهور، انتهى من هامش "اللامع".
قوله: (والسرقين. . .) إلخ، بكسر المهملة وإسكان الراء وحكي فيه فتح أوله.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: ولا يمكن خلوه من البول على أن الدابة إذا بالمت في محل فإن رشاش بوله ينتضح على جوانب هذا المحل وأطرافه، فلا ريب في كون بعض منه تحت قدمي أبي موسى.
والجواب: أنه لم يصرح بصلاته ثم على غيره شيء وهو المراد، وإنما كان صلى على شيء طاهر وبذلك يصح قوله:"ههنا وثم سواء" فإن السرقين متفق على نجاسته، فافهم، انتهى.
وفي هامشه: دفع الشيخ بقوله: ولا يمكن خلوه من البول. . . إلخ، ما يرد على المصنف أن الترجمة في الأبوال والأثر في السرقين.
والأوجه عندي في الجواب: أنهم لم يفرقوا بين الأبوال والأرواث في النجاسة، فيصح الاستدلال بأحدهما على الآخر، وما أجابه الشيخ قُدِّس سرُّه بقوله: إنه لم يصرح بصلاته على غير شيء بذلك أجاب عامة الشرَّاح.
والأوجه عندي في الجواب: أن الظاهر أن أبا موسى صلى في موضع كان السرقين قريبًا منه، وعليه كان الإشكال بقرب السرقين، ويدل على ذلك
(1)
"لامع الدراري"(2/ 179).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 180).
لفظ الثوري في "جامعه": "على مكان فيه سرقين"، وأوضح منه في الدلالة لفظ البخاري: و"السرقين والبرية إلى جنبه"، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
قوله: (في مرابض الغنم)، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: هذا لا يقوم حجة أيضًا، فإن المدعى يثبت لو أثبتوا أنه كان يصلي فيها على غير شيء، مع أنا نقول: إن الأرض تطهر باليبس والجفاف، ولا يقبل العقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليها وهي مبلولة بأبوالها، مع أن الذي أثبتم من الرشاش أسرع ما يكون جفافًا، ومثل هذا الجواب جار في الرواية الأولى أيضًا، انتهى.
قلت: لم يتعرض الشيخ لقصة العرنيين؛ لأنه أشبع الكلام عليه في "الكوكب"
(2)
في "باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه"، وهذا الحديث مختصر سيأتي مفصلًا في "باب القسامة" إن شاء الله تعالى.
(67 -
باب ما يقع من النجاسة في السمن والماء)
كتب الشيخ في "اللامع": ظاهر كلامه أنه ذاهب إلى ما ذهب إليه مالك من أن الماء لا ينجسه اختلاط نجس ما لم يغير أحد أوصافه قل الماء أو كثر، ودلالة كلام الزهري على هذا المعنى ظاهرة، فأما كلام حماد فمعناه: أن الريشة لما لم يكن في وقوعها بالماء تغيير له، لم ينجس الماء، وكذلك كلام الزهري في العاج معناه: أنه لو كان مطلق الاختلاط منجسًا من دون اعتبار الغلبة لكان الدهن يتنجس بملاقاته العاج، والعلماء لا يبالون بذلك، فعلم أن النجاسة متوقفة على غلبة أحد أوصاف النجاسة.
والجواب: أما عن كلام الزهري الأول فإنه في الماء الكثير لا مطلقًا، وأما من كلام حماد فإن الريشة ليست بنجسة إذا يبس ما عليها، وكذا
(1)
"لامع الدراري"(2/ 182).
(2)
"الكوكب الدري"(1/ 102).
العظم، فلا يمكن الاحتجاج بكلام الزهري الثالث أيضًا، مع أنه لا عبرة بكلام هؤلاء مخالفًا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم إن دلالة الروايات على الترجمة حسب ما قصد المؤلف ظاهرة، فإنه قصد أن السمن إنما لم يتنجس؛ لأن أحد أوصافه لم يتغير لوقوع الفأرة فيه، وكذلك الاستدلال بطهارة المسك فإن الأمة قد اتفقت على طهارته مع أنه دم في الأصل، فعلم أن الحكم يتغير من الطهارة إلى النجاسة وبالعكس بتغير الذات، فكذلك بتغير بعض الأوصاف، فأما إذا لم يتغير بوقوع النجس فيه شيء من الأوصاف الثلاثة فلا معنى لتغير الحكم عليه من الطهارة إلى النجاسة.
والجواب للإمام وللشافعي رحمهما الله في حكمهما بنجاسة الماء وإن لم يتغير أحد أوصافه: أن التغير غير منحصر فيما ذكرتم، بل التغير قد يتطرق إلى الشيء ولا يحس به إحدى الحواس الظاهرة، وقد علم ذلك بإعلام من الشارع، وأيضًا فإن تحديد الشارع على خلاف بين المذهبين فيه يدل على أن الأمر غير مبني على التغير مطلقًا قلَّ الماء أو كثر، وإنما هذا سبيل الكثير ويتنجس ما دونه بملاقاة القليل من النجاسة أيضًا، انتهى.
وفي هامشه: قوله: "باب ما يقع. . ." إلخ، قال الحافظ
(1)
: أي: هل ينجسها أم لا؟ أو لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره؟ وهذا الذي يظهر من مجموع ما أورده المصنف في الباب من أثر وحديث، انتهى.
والمسألة خلافية شهيرة، واختلفت العلماء في ذلك على أقوال كثيرة بلغها مولانا عبد الحي في "السعاية" و"التعليق الممجد"
(2)
إلى خمسة عشر مذهبًا، وأشبع الشيخ قُدِّس سرُّه الكلام على هذه المسألة في "الكوكب"
(3)
، وأوسع المذاهب في ذلك مذهب الظاهرية أن العبرة لغلبة النجاسة، ثم بعد ذلك مذهب مالك، وهو رواية لأحمد: أن الماء طاهر ما لم يتغير أحد
(1)
"فتح الباري"(1/ 342).
(2)
انظر: "التعليق الممجد"(1/ 269 - 271)، و"السعاية"(1/ 382).
(3)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 88 - 97).
أوصافه، والثانية لأحمد، وهو مذهب الشافعي: أن العبرة للقلتين، والرابع مذهب الحنفية: أن العبرة رأي المبتلى به، كما بسط في "الكوكب"، وقيَّده بعضهم لسهولة العوام بعشر في عشر، ومسألة العاج والريش بسط الكلام طى اختلاف الأئمة فيهما في هامش "اللامع".
والجملة: أن الريش طاهر عند الأئمة الثلاثة خلافًا للشافعي، وأما العاج والعظام فطاهر عند الحنفية، ونجس عند الشافعي وأحمد، وفرَّق مالك بين المذبوح وغيره والبسط في هامشه.
وفيه أيضًا: أما مسألة السمن فهي خلافية شهيرة، ومسلك الإمام البخاري في ذلك على ما هو المشهور عند الشرَّاح والمشايخ أن السمن ونحوه مثل الماء في ذلك لا يتنجس بملاقاة النجاسة حتى يتغير أحد أوصافه، ولذا جمع الماء والسمن ههنا، وترجم في "كتاب الصيد""باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد والذائب" وذكر فيه أيضًا حديث الباب، ولا فرق عنده في الجامد وغيره، وهو مذهب الزهري والأوزاعي، وحكاه الحافظ في "الفتح"
(1)
روايةً لأحمد.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الرواية لأحمد في الكثير دون القليل، كما بسطت الروايات الثلاث لأحمد في "الأوجز"
(2)
.
والجمهور على التفريق بين الجامد والمائع لما في رواية أبي داود
(3)
وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدًا فألقوه وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، ولا ينافيه رواية ميمونة هذه المجملة كما بسطت في "الأوجز".
ومال مولانا الشيخ أنور شاه الكشميري كما في "فيض الباري"
(4)
أن الظاهر من تبويب البخاري أنه مال إلى الفرق بين النجاسة الجامدة
(1)
"فتح الباري"(9/ 669).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 382).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 3842)، و"مسند أحمد"(2/ 233).
(4)
انظر: "فيض الباري"(1/ 332).
والمائعة، فالجامدة إذا وقعت في الماء وأخرجت من ساعتها لم تنجس بخلاف المائعة، وقال: هذه رواية غير مشهورة عن الإمام كما في "فتاوى ابن تيمية" ولذا ذكر حديث الفأرة وهي جامدة في الباب الأول، ثم عقَّبه بباب البول في الماء وهو نجاسة مائعة، انتهى.
وبسط في الهامش أيضًا الكلام على ذكر المسك في الترجمة أشد البسط.
(68 -
باب البول في الماء الدائم)
في "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": لما ثبت في الباب السابق عدم تنجس الماء قليلًا كان أو كثيرًا ما لم يتغير طعمه أو ريحه فقصد بعقد هذا الباب أن قوله عليه السلام: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم" ليس لأجل أن البول فيه يقتضي تغيره، بل لأنه متى بال واحد بال آخر ثم آخر، وهكذا إلى أن ينجر إلى النتن والفساد، انتهى.
قوله: (نحن الآخرون السابقون) بسط الحافظ
(2)
في وجه ذكر هذه الجملة في هذا الباب، والجملة أنهم قالوا: لا حاجة في توجيه المناسبة، فإنه جزء من الحديث الآتي، وقيل في وجه المناسبة: نحن الآخرون زمانًا والأولون خروجًا، فكذلك الوعاء آخر ما يدخل فيه يكون أول ما يخرج فيصادف النجاسة أعضاء المتوضئ أول ما يخرج.
وقال الحافظ: الظاهر أن نسخة أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كنسخة معمر عن همام عن أبي هريرة، وسلك الشيخان فيهما طريقًا مخصوصًا، فالبخاري كلما يخرج عن صحيفة الأعرج يذكر أول حديثه وهو: نحن الآخرون. . . إلخ، ثم يذكر مقصوده، ومسلم كلما يذكر حديثًا من صحيفة همام يذكر السند ثم يقول: فذكر أحاديث منها هذا، وهذا التوجيه الأخير هو الأوجه عندي من هذه التوجيهات.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 102).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 346).
(69 -
باب إذا ألقي على ظهر المصلي. . .) إلخ
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": غرض المؤلف من عقد الباب أن عروض الأشياء التي تمنع انعقاد الصلاة ابتداءً في أثنائها لا تفسد الصلاة، انتهى.
وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: دلالة الرواية على هذا المعنى غير واضحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعله أعادها ولم يعدها هناك لاجتماع من حشد هناك من المردة والشياطين، ويمكن أن يقال: إن سلى جزور كانت قد جفت فملؤوها بشيء من النجاسات حين وضعوها على ظهره صلى الله عليه وسلم، فلم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي جعلوه فيها هل هو نجس أو غيره؟ وأما السلى بنفسها فإنها شيء عصباني ليس نجسًا حتى يعلم بفساد صلاته بالنظر إليها، وأما في صلاته صلى الله عليه وسلم فلم يدر ماذا ألقوه على ظهره؟ فلم يفسد صلاته لذلك ومضى عليها.
وأما الآثار فإن محمل فعل ابن عمر هو ما دون الدرهم، وكذلك في قول ابن المسيب والشعبي في الدم والجنابة، ولا شك في أن من وقف على نجاسة أقل من قدر الدرهم فإن صلاته جائزة، وأما مسألة التيمم والاستقبال فمتفق عليها بيننا وبين هذين، نعم إذا علم في أثناء الصلاة فإن صلاته تفسد في التيمم ويستدبر في مسألة القبلة، انتهى.
وفي هامشه: قول البخاري: "لم تفسد عليه صلاته"، قال الحافظ
(3)
: محمله إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقًا على قول من ذهب إلى أن اجتناب النجاسة في الصلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه ميل المصنف، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وقال الشافعي وأحمد: يعيد الصلاة، وقيَّدها مالك
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 103).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 191 - 197).
(3)
"فتح الباري"(1/ 348).
بالوقت، فإن خرج الوقت فلا قضاء، وأجاب عنه الخطابي بأنه لم يكن إذ ذاك حكم بنجاسة ما ألقي عليه، وأجاب النووي بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، وما ندري هل كانت واجبة حتى تعاد على الصحيح أو لا؟ فلا تعاد، ولو وجبت الإعادة فالوقت موسع.
وأجاب عنه الشيخ قُدِّس سرُّه كما ترى، وفي "فيض الباري"
(1)
: في تمسك البخاري بالحديث نظر لوجوه، بسطت في هامش "اللامع"، منها: أن الوقعة قبل الأمر بتطهير الثياب لما قال الحافظ
(2)
: في تفسير سورة المدثر: أخرج ابن المنذر في سبب نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] من طريق زيد بن مرثد قال: "ألقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى جزور فنزلت"، فإذا كان نزولها بعد هذه الواقعة فانفصل الأمر، انتهى من الهامش بزيادة واختصار.
قلت: ومن دأب الحافظ أنه رحمه الله تعالى يذكر مستدلات الحنفية في غير محله، فإنه رحمه الله لم يذكر رواية زيد بن مرثد ههنا، وذكره في التفسير، وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي عن شيخه الكَنكَوهي: قوله: "بسلى جزور" قيل في الجواب عنه: إن السلى من العصب، وعصب الميتة طاهر، وما كان فيه من الدم كان قليلًا معفوًا، لكن الظاهر أن ذلك الأشقى خلط ذلك السلى بالدم والبول وملأه من الرجيع، ثم وضعه على ظهره عليه الصلاة والسلام، فالحق في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم في سجوده أن أي شيء وضع على ظهره هل هو طاهر أم نجس؟ فلذلك مضى في صلاته ولم ينقضها، ثم لما رأى بعد الفراغ عن صلاته أنه نجس أعاد صلاته وإن لم يذكرها الراوي، ولم يوجد التصريح أنه لم يعد صلاته، انتهى.
ولا يذهب عليك أن حديث الباب سيأتي في "باب المرأة تطرح عن
(1)
"فيض الباري"(1/ 338).
(2)
"فتح الباري"(8/ 679).
المصلي شيئًا من الأذى" من أبواب السترة، وقرر الشيخ في "اللامع" أيضًا على بعض أبحاث الحديث فارجع إليه.
(70 -
باب البزاق والمخاط ونحوه. . .) إلخ
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": أي: لا يتنجس الثوب بهما بل هما طاهران، وفي الاستدلال بتعليق الباب نظر؛ لأن الراوي لهذه القصة أبو سهل
(2)
وهو كان كافرًا في وقت التحمل وفي الأخذ اختلاف العلماء، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: والغرض من هذا التعليق الاستدلال على طهارة الريق ونحوه، وقد نقل بعضهم فيه الإجماع، لكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه ليس بطاهر، وقال ابن حزم: صح عن سلمان الفارسي وإبراهيم النخعي أن اللعاب نجس إذا فارق الفم، انتهى.
قلت: وترجم أبو داود
(4)
في "سننه": "باب البزاق يصيب الثوب" وأخرج فيه حديث أبي نضرة قال: "بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وحك بعضه ببعض"، وأخرج عن أنس مثله، وفي حاشيتي على "البذل"
(5)
: قال ابن رسلان: قال ابن بطال: إن البزاق طاهر، ولا أعلم فيه خلافًا لأحد، إلا ما روي عن سلمان الفارسي فإنه جعله غير طاهر، والحسن البصري كرهه في الثوب تنزهًا إلى آخر ما فيه، وسيأتي شيء من الكلام على ذلك في "باب من تسوك بسواك غيره" من "كتاب الجمعة".
قوله: (طوَّله ابن أبي مريم) أي: ذكر الحديث مطولًا، وسيأتي في "باب حك البزاق باليد من المسجد"، قاله الحافظ
(6)
: قلت: ليس هناك
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 103).
(2)
كذا في الأصل، (ز).
(3)
"فتح الباري"(1/ 353).
(4)
"سنن أبي داود"(ح: 389، 390).
(5)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 633).
(6)
"فتح الباري"(1/ 353).
من ابن أبي مريم، والعجب من العلَّامة العيني
(1)
.
وتبعه القسطلاني إذ قال: قوله: طوّله، أي: طوَّل هذا الحديث شيخه سعيد بن الحكم بن أبي مريم، يعني: ذكره مطولًا في "باب حك البزاق باليد من المسجد"، انتهى. وليس فيه عن ابن أبي مريم.
(71 -
باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: مقابلة النبيذ بالمسكر يبين أن المراد بالنبيذ ما لم يسكر، وتخصيص الإمام إياه مع أنه ليس ماء مطلقًا لثبوت الرواية، ولا يلزم تخصيص الكتاب؛ لأنه وقع تفسيرًا للماء المراد في الآية وهؤلاء المذكورون ههنا تابعيون؛ لا يلزم على الإمام اتباعهم لكونه مثلهم، ثم إن الحديث لا يدل إلا على أحد جزئي الترجمة، وهو حرمة الوضوء بالمسكر، وأما الوضوء بالنبيذ فإن أريد بالنبيذ ما بلغ حد الإسكار فظاهر، وإن أريد ما لم يبلغه ففيه نوع خفاء، ولعل مراد البخاري بإيراد لفظ المسكر ههنا وإيراد الرواية المظهرة لحكمه في الباب تعيين أحد محتملي النبيذ، فيكون موافقًا لما اتفقت عليه الأحناف من حرمة الوضوء بالنبيذ إذا أسكر واشتد ورمى بالزبد فقط، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه على شرح كلام الشيخ، وفيه: أن الشيخ قُدِّس سرُّه لم يذكر في هذا الباب إلا ما يتعلق بالبخاري، وأما الكلام على المسألة فقهًا فقد أشبعه الشيخ في "الكوكب"
(3)
أشد البسط. وحاصل كلام الشيخ في "اللامع": أن النبيذ والمسكر نوعان متقابلان، وبه جزم القسطلاني
(4)
.
(1)
"عمدة القاري"(2/ 682)، و"إرشاد الساري"(1/ 555).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 200 - 203).
(3)
"الكوكب الدري"(1/ 120).
(4)
انظر: "إرشاد الساري"(1/ 555).
وقال الكرماني
(1)
: المراد به إما ما لم يصل إلى حد الإسكار، أو ما وصل إليه، ويكون عطف المسكر عليه من باب عطف العام على الخاص، وخصص بالذكر من بين المسكرات؛ لأنه محل الخلاف في جواز التوضؤ به، انتهى.
وتبعه الحافظ وغيره في ذلك، وأنت خبير بأن الذي بلغ حد الإسكار ليس بمختلف فيه عند العلماء.
فالأوجه عندي: أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، فإن بعض الأنبذة مختلف في جواز الوضوء منها، وأنت ترى أنه لم يأت برواية تدل عليه إلا ما ذكر من بعض الآثار، فلقائل أن يقول: إن البخاري أثبت بالرواية أن النبيذ الذي بلغ حد الإسكار لا يجوز الوضوء منه، وأما غيره من الأنبذة فيجوز الوضوء منه عند البخاري على الأصل التاسع والثلاثين من أصول التراجم، فتأمل.
لكن فيه أن الآثار الواردة في الباب يخالف ذلك إلا أن في هامش "اللامع" أجيب عن تلك الآثار، وما أفاده الشيخ أن قول هؤلاء المذكورين لا يلزم الحنفية؛ لأن المعروف من قول الإمام: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة اخترنا ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع".
وأجاد الشيخ قُدِّس سرُّه الكلام على الوضوء فقهًا وبسطه أشد البسط في "الكوكب الدري"
(2)
، وفيه: النبيذ أقسام، نقوع التمر غير مطبوخ، ولا امتراء في جواز الوضوء وإن لم يسلمه المخالفون كيف والأخبار فيه
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 101)، وانظر:"فتح الباري"(1/ 354)، و"عمدة القاري"(2/ 682).
(2)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 119 - 122).
مستفيضة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تمرة طيبة وماء طهور"، وهو ينادي الصم بصوت جهوري أن اختلاط الطاهر بالماء لا يخرجه من الطهورية، سواء كان ذلك الشيء مما يقصد به النظافة أو لم يكن، وإنما الخلاف واحتياج الإثبات إنما هو في ثاني أقسامه، وهو المطبوخ الذي لم يبلغ حد السكر لكنه صار حلوًا، وأما القسم الثالث الذي صار مسكرًا فلا يجوز التوضؤ به عندنا أيضًا، إلى آخر ما بسطه.
وبسط في هامشه الكلام على النبيذ وأقسامه، وفيه على قول الشيخ قُدِّس سرُّه أن ليلة الجن كانت غير مرة، إن ليلة الجن وقعت ست مرات:
الأولى: هي الليلة التي قيل فيها: إنه اغتيل أو استطير، وكانت بمكة ولم يحضرها ابن مسعود.
والثانية: كانت بمكة أيضًا بالحجون جبل بها.
والثالثة: كانت بأعلى مكة، وقد غاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها في الجبال.
والرابعة: كانت بالمدينة ببقيع الغرقد، وفي هذه الليالي الثلاث حضر ابن مسعود معه صلى الله عليه وسلم.
والخامسة: خارج المدينة حضرها الزبير بن العوام.
والسادسة: في بعض أسفاره حضرها بلال بن الحارث، انتهى مختصرًا.
قوله: (وكرهه الحسن وأبو العالية) قلت: أما الحسن فاختلفت الروايات عنه ففي رواية: "لا توضأ بنبيذ"، وفي أخرى أنه لا بأس.
قال الحافظ
(1)
: فعلى هذا كراهته عنده على التنزيه.
والأوجه عندي: أن الاختلاف عنه لاختلاف أنواع الأنبذة، وأما أثر أبي العالية فأصرح دليل لما قلته من اختلاف أنواع الأنبذة.
(1)
"فتح الباري"(1/ 354).
قال الحافظ: روى أبو داود
(1)
وأبو عبيد من طريق أبي خلدة قال: سألت أبا العالية عن رجل أصابته جنابة وليس عنده ماء أيغتسل به؟ قال: لا، انتهى.
قال الشيخ في "البذل"
(2)
: وفيه زيادة ذكرها الدارقطني
(3)
بعد قوله: "لا": "فذكرت له ليلة الجن، فقال: أنبذتكم هذه الخبيثة، إنما كان ذلك زبيب وماء"، وكذلك أخرجه البيهقي
(4)
بلفظ: "قال: يرى نبيذكم هذا الخبيث، إنما كان ماءً يلقى فيه تمرات فيصير حلوًا"، قال الشيخ في "البذل": وهذا يدل على أن أبا العالية يجوز التوضؤ والاغتسال به ما دام حلوًا رقيقًا، فإذا اشتد وخبث يحكم عليه بعدم الجواز، انتهى.
قلت: وهل هذا غير ما قالته الحنفية.
(72 -
باب غسل المرأة أباها الدم)
وفي "تراجم
(5)
شيخ المشايخ": غرض الباب إثبات جواز التوضؤ من يد الغير وللبعض فيه خلاف، انتهى.
قلت: ما أفاده شيخ المشايخ من الغرض تقدم هذا نصًا في "باب الرجل يوضئ صاحبه" إلا أن هناك الإعانة بصب الماء وههنا بالغسل.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(6)
: "باب غسل المرأة. . ." إلخ، الظاهر أنه معقود لبيان أن مس المرأة وإن كان عائدًا على الوضوء بالنقض إلا أن مسه إياها وكذا مسها إياه جائزان؛ ولا يلزم من كون المس ناقضًا حرمة المس أو كراهته، ويمكن أن يكون ذلك تعريضًا بالشافعي فيما ذهب إليه
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 87).
(2)
"بذل المجهود"(1/ 461).
(3)
"سنن الدارقطني"(253).
(4)
"السنن الكبرى"(1/ 13)، وفيه:"نرى نبيذكم".
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 105).
(6)
"لامع الدراري"(2/ 203 - 205).
من انتقاض الطهارة بمس المرأة من أن فاطمة رضي الله تعالى عنها غسلت جرحه ولم يثبت إعادته الوضوء، مع أنه لو كان ناقضًا لكان له صلى الله عليه وسلم غنية عن مسها لوجود كثير ممن ليس في مسه ما لزم بمسها، وقد علم من حبه صلى الله عليه وسلم الدوام على الطهور ما هو مستغن عن البيان، وهذا إلزام عليهم، وإلا فقد كانت طهارته منتقضة عندنا بسيلان الدم، وعلى هذين الوجهين، يحمل أثر أبي العالية.
ووجه الاستدلال به أنه أمر بصيغة العموم وفيهم النساء والرجال، ولو كان المس ناقضًا أو منهيًا عنه لمنع النساء، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في غرض المصنف بهذه الترجمة، قال الكرماني
(1)
- وتبعه العيني -: إن قلت: ما وجه تعلُّق الباب بكتاب الوضوء؟
قلت: إن كانت النسخة كتاب الطهارة بدل كتاب الوضوء فلا خفاء فيه، وإلا فالمراد بالوضوء معناه اللغوي فيتناول رفع الحدث أيضًا، أو الاصطلاحي فيكون ذكر الطهارة من الخبث بالتبعية لكونهما من شرائط الصلاة ومن باب النظافة وغير ذلك، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: هذه الترجمة معقودة لبيان أن إزالة النجاسة ونحوها يجوز الاستعانة فيها كما تقدم في الوضوء، وبهذا يظهر مناسبة أثر أبي العالية لحديث سهل، انتهى.
(73 -
باب السواك. . .) إلخ
كان حقه في صفة الوضوء، ولعله ذكره ههنا لما قيل من نجاسة البصاق كما تقدم في باب البزاق، واستدل على طهارته بروايات السواك من التسوك بسواك غيره وبداية عائشة بسواكه صلى الله عليه وسلم، والأوجه منه أنه أفرد
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 103)، و"عمدة القاري"(2/ 687).
(2)
"فتح الباري"(1/ 355).
إشارةً إلى استقلاله بدون اختصاصه بالوضوء، وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"
(1)
، وفيه: قال الشافعي: إنه سُنَّة من سنن الوضوء، واستحبه مالك في كل حال يتغير فيها الفم، وقال جماعة: هو من سُنَّة الدين، وهو الأقوى، نقل ذلك عن أبي حنيفة، انتهى مختصرًا.
وفي "البذل"
(2)
: قال ابن الهمام: ويستحب في خمسة مواضع: اصفرار السن، وتغير الرائحة، والقيام من النوم، والقيام إلى الصلاة، وعند الوضوء، انتهى.
(74 -
باب دفع السواك إلى الأكبر)
قال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: مقصوده من هذا الباب إثبات فضيلة السواك، ووجه دلالة الحديث: أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء يسير أن يعطيه من كان صغير السن من الحضار، وإذا أهدي إليه شيء ذو خطر أن يعطيه الكبير منهم، وأعطى السواك أولًا نظرًا إلى الظاهر الصغير، فقيل له: كَبِّرْ منهم، ففهم منه فضيلة السواك وكونه ذا خطر عند الله، انتهى.
(75 -
باب فضل من بات على الوضوء)
لعل الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى معنيين: الأول: أن الأمر بالوضوء في الحديث ليس على الوجوب، وأشار إليه بلفظ الفضل، والثاني: أن استئناف الوضوء ليس بمأمور كما هو ظاهر الحديث، بل المقصود النوم متوضئًا وإن كان توضأ قبل ذلك، وأشار إليه بلفظ:"من بات".
قوله: (لا ونبيك الذي أرسلت) قال شيخ المشايخ في الترجمة
(4)
: وفيه إشارة إلى أن ألفاظ الأدعية يجب مراعاة خصوصياته، ولا يبدل لفظ بلفظ
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 656).
(2)
"بذل المجهود"(1/ 317).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 106).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 106).
وإن كان مرادفًا، وفيه أسرار ليس هذا موضع ذكرها، انتهى.
وذكر القسطلاني
(1)
في وجه المنع وجوهًا: منها: أن الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر، ولو كان يرادفه في الظاهر، وقال المهلب: إنما لم تبدل ألفاظه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ينابيع الحكم وجوامع الكلم، فلو غيّرت سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، انتهى.
ثم لا يذهب عليك ما قال الحافظ
(2)
في براعة الاختتام: ختم البخاري كتاب الوضوء بحديث البراء رضي الله عنه من جهة أنه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في نفس الحديث:"واجعلهن آخر ما تتكلم به" فأشعر بذلك في ختم الكتاب، والله الهادي للصواب، انتهى.
وهذا على ما اختاره الحافظ في براعة الاختتام من أن الإمام البخاري يشير بشيء إلى ختم الكتاب، وأما على ما اختاره هذا العبد الضعيف من أن الإمام البخاري يشير في آخر كل كتاب إلى آخر حياة الرجل ويذكره الموت، فهذان اللذان ذكرهما الحافظ يشعران إليه، وأصرح منهما لفظ:"فإن مت من ليلتك. . ." إلخ، هو نص في الموت، انتهى من هامش "اللامع"
(3)
.
* * *
(1)
"إرشاد الساري"(1/ 564).
(2)
"فتح الباري"(1/ 358).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 205).
5 -
كتاب الغسل
بضم الغين اسم للاغتسال، وفي الاصطلاح: غسل البشرة والشعر، وحقيقته جريان الماء على العضو، ولا يشترط الدلك وإمرار اليد، وقال مالك: يشترط فيه الدلك، إلى آخر ما في هامش "اللامع"
(1)
.
(وقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا. . .} إلخ [المائدة: 6]) كتب الشيخ في "اللامع": والصيغة لما فيها من المبالغة لا تصدق إلا على الغسل، انتهى.
وفي هامشه: قال العيني
(2)
: أي: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة، انتهى.
وقال الحافظ
(3)
: قدم الآية التي في سورة المائدة على التي في سورة النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة:{فَاطَّهَّرُوا} فيه إجمال، ولفظ التي في النساء:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فيه تصريح بالاغتسال وبيان للتطهير المذكور، ودلَّ على أن المراد بقوله تعالى:{فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا، انتهى.
(1 -
باب الوضوء قبل الغسل)
قال الحافظ
(4)
: أي: استحبابه عند الجمهور، وهل هو سُنَّة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، أو يكتفى بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نيَّة غسل الجنابة في أول عضو وإنما قدَّم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، كذا في "الفتح".
(1)
"لامع الدراري"(2/ 206).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 3).
(3)
"فتح الباري"(1/ 359).
(4)
"فتح الباري"(1/ 306).
قلت: وهذا الاختلاف الذي أفاده الحافظ سيأتي في باب مستقل في "باب من توضأ للجنابة ثم غسل سائر جسده".
فالأوجه عندي: مقصود هذا الباب مجرد ندب الوضوء قبل الاغتسال.
قوله: (وضوءه للصلاة. . .) إلخ، قال الحافظ: فيه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين، وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما أنه يكمل وضوءه، انتهى.
وفي "المغني"
(1)
عن أحمد ثلاث روايات كحديث عائشة وكحديث ميمونة والتساوي بينهما، انتهى.
وفي "الدر المختار"
(2)
: فلا يؤخر قدميه ولو في مجمع الماء، قال ابن عابدين: وهذا القول هو ظاهر إطلاق المتون وحديث عائشة، وبه أخذ الشافعي، وقيل: يؤخر مطلقًا، وهو ظاهر إطلاق الأكثر وإطلاق حديث ميمونة، وقيل بالتفصيل إن كان في مجمع الماء فيؤخر وإلا فلا، انتهى مختصرًا.
(2 -
باب غسل الرجل مع امرأته)
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: أي: أنه جائز وفيه خلاف البعض، انتهى.
قلت: لم أجد الخلاف بعد في غسلهما معًا، نعم الخلاف في طهارة الرجل بفضل المرأة معروف، كما تقدم في "باب وضوء الرجل مع امرأته"،
(1)
"المغني"(1/ 288).
(2)
انظر: "رد المحتار"(1/ 292).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 107).
فيمكن أن الإمام البخاري أشار إلى ذلك، فإن اغتسالهما معًا يلزم اغتسال كل منهما بفضل الآخر، والأوجه أن المصنف أشار بذلك إلى جواز نظر المرأة إلى عورة زوجها وعكسه.
قال الحافظ
(1)
: واستدل بحديث الباب الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان عن حديث عائشة: أنها سألت عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة، انتهى.
لكن يشكل عليه ما في "الشمائل" و"ابن ماجه"
(2)
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط"، وفي هامش "الخصائل": قال الحنفي: وفي رواية عنها: "ما رأيت منه ولا رأى مني" تعني: الفرج، وقال القاري في "جمع الوسائل"
(3)
: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: قالت عائشة: "ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذًا من نسائه إلا متقنعًا يرخي الثوب على رأسه، وما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رأى مني"، أورده ابن الجوزي في "كتاب الوفاء" نقلًا عن الخطيب، انتهى.
قلت: ويمكن الجمع بينهما بأن النفي للرؤية قصدًا، وأما رواية الإثبات فمحمولة على وقع النظر من غير قصد كما يكون في صورة الاغتسال معًا، ثم قال السندي
(4)
: قولها: "أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم" دلالة هذا اللفظ على المعية ضعيفة، إذ واو العطف لا تدل على القران، واتحاد الإناء لا يقتضي اتحاد زمان الاغتسال، إلا أن تجعل الواو في قولها:"والنبي" للمعية لا العطف وهو بعيد، إذ التأكيد بالمنفصل يؤيد العطف وهو الأصل في الواو، إلا أن يقال: قد علم من سائر روايات الحديث أن الواقع كان هو المعية، فالاستدلال بالنظر إليه لا بالنظر إلى هذا اللفظ، فتأمل، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 364).
(2)
"الشمائل"(ح: 352)، و"سنن ابن ماجه" (ح: 662).
(3)
"جمع الوسائل"(2/ 175).
(4)
"حاشية السندي"(1/ 56).
(3 -
باب الغسل بالصاع ونحوه)
لعله إشارة إلى أن تحديد الصاع الوارد في الأحاديث ليس بحتم، بل المراد التقريب كما يدل عليه لفظ الحديث:"بإناء نحو [من] صاع"، ولذا ذكر في الترجمة "ونحوه" وهو الأوجه، ويحتمل أنه أراد الرد على من قال: إن ذكر الصاع بيان للإناء لا الماء كما تقدم في "باب الوضوء بالمد".
قوله: (وبيننا وبينها حجاب) كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: ليس المراد الحجاب الساتر كلها وإلا لما كان الغسل بحضورهما مفيدًا، بل المعنى بالحجاب هو الساتر لمقدار العورة، فكانا يريان منها ما لم يكن عورة كالرأس، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ ابن حجر والعيني
(2)
: قال عياض: طاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحلّ نظره للمحرم؛ لأنها خالة أبي سلمة، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحلّ للمحرم نظره، وإلا لم يكن لاغتسالها بحضرتهما معنى، انتهى.
وفي "الكنز"
(3)
: وينظر الرجل إلى وجه محرمته ورأسها وصدرها وساقيها وعضديها لا إلى ظهرها وبطنها وفخذها، انتهى.
قوله: (من إناء واحد) وأوانيهم كانت معلومة صغارًا، فهذه مناسبة لحديث ميمونة بلفظ:"ونحوه"، وإلا فليس في حديثها الصاع ولا نحوه، كذا في "الفتح"
(4)
، ويحتمل عندي أنه ذكر حديث الإناء إشارة إلى عدم تخصيص الصاع.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 207).
(2)
"فتح الباري"(1/ 365)، و"عمدة القاري"(3/ 14).
(3)
"كنز الدقائق"(ص 425).
(4)
"فتح الباري"(1/ 367).
(4 -
باب من أفاض على رأسه ثلاثًا)
ولا يبعد عند هذا العبد الضعيف أن غرض الترجمة الإشارة إلى أن الدلك ليس بفرض، بل يكفي إسالة الماء خلافًا لمن أوجبه كما تقدم في مبدأ كتاب الغسل.
قوله: (ابن سام) بالسين المهملة وتخفيف الميم بينهما ألف فما في بعض النسخ من ابن سلم تحريف من الناسخ.
وفي قوله: (ابن عمك) تجوز، فإنه ابن عم والده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم هذه المنازعة غير المنازعة المتقدمة في الباب السابق، وإن كان المنازع في كليهما حسن بن محمد ابن الحنفية، فإن الأولى كانت في كمية الماء كما أشعر بها جوابه بقوله:"يكفيك صاع"، والثانية عن كيفية الغسل، كذا في "الفتح"
(1)
.
قلت: وظاهر الجواب توحيد القصة، فلا يبعد عندي أنه ذكر قلة الماء لكثرة شعره، فتأمل.
(5 -
باب الغسل مرة واحدة)
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(2)
: أي: هو جائز ثابت، والاستدلال بحديث الباب نظرًا إلى الظاهر؛ لأن الراوي لما قال:"أفاض على جسده" ولم يقيِّده بثلاث أو غيره عُلم من ظاهره أنه أفاض مرة واحدًا، ومثل هذا في استدلالاته كثير شائع، انتهى.
ويستفاد ذلك من الحديث إذ لم يقيده بعدد فالأقل مرة واحدة، كذا في "الفتح"
(3)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 368).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 108).
(3)
"فتح الباري"(1/ 369).
وقال أيضًا: قال النووي
(1)
: ولا نعلم في استحباب التثليث خلافًا إلا ما تفرد به الماوردي فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل، انتهى.
قلت: والظاهر عندي أن الوارد في أكثر روايات "المصنف" لابن أبي شيبة ثلاثًا، فنبَّه المصنف بالترجمة على أن التثليث ليس بواجب، بل يجوز الاقتصار على مرة واحدة، والأوجه في وجه الدلالة عندي أنها ذكرت غسل اليدين مرتين أو ثلاثًا ولم تذكر العدد في غيرها، فلو كان العدد هناك ذكرته كما ذكرت في اليدين، وقال السندي
(2)
: وجه الدلالة أنها ذكرت كيفية الغسل بتمامها، فلو كان العدد مطلوبًا لكانت ذكرته تكميلًا للكيفية، وتعقب على ما تقدم من أن الواحد أقل العدد، انتهى مختصرًا.
(6 -
باب من بدأ بالحلاب والطيب. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك: أن الطيب غير مضطر إليه وإن ثبت استعماله صلى الله عليه وسلم إياه قبل الغسل، وذلك لينتشر أثره إلى أطراف الجسم.
وحاصل الترجمة: أن هذا باب يذكر فيه جواز الابتداء بالحلاب من غير أن يتقدمه طيب، وجواز الابتداء بالطيب وعدم الابتداء، فلما ذكر في الرواية ابتداءه بالحلاب علم جواز ترك الطيب، وأن الابتداء بالطيب ليس واجبًا وإن كان جائزًا نظرًا إلى ما ورد في غير هذه الرواية، فافهم فإنه عزيز، انتهى.
وفي هامشه: هذه الترجمة من مهمات التراجم أشكلت على المشايخ والشرَّاح، والحق أنه لم يظهر بعد ما قصد الإمام البخاري من ذلك.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(2/ 246)، وانظر:"فتح الباري"(1/ 361)، و"عمدة القاري"(3/ 19).
(2)
"حاشية السندي"(1/ 57).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 209 - 214).
قال الحافظ: أشكل المناسبة قديمًا وحديثًا، فمنهم من نسب البخاري إلى الوهم فقال: رحم الله البخاري، من ذا الذي يسلم من الغلط، سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب، وأي معنى للطيب قبل الغسل.
ومنهم من تأوّل الحلاب على غير المعروب في الرواية فقال: هو الجلاب بالجيم وشد اللام، هو ماء الورد، وتعقب بأنه خلاف الرواية، وبأنه لا معنى للطيب قبل الغسل.
ومنهم من تكلف في التأويل فقيل: لم يرد البخاري بالطيب ما له عرف طيب، وإنما أراد تطيب البدن بإزالة الوسخ، فمحصله إعداد ماء الغسل، ثم الشروع في تنظيف البدن.
وقيل: أشار البخاري إلى رد ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رأسه بالخطمي، ويكتفي بذلك، فكأنه ترجم بجزئين وأثبت أحدهما ولم يثبت الآخر، وهذا هو الأصل التاسع والثلاثون، من أصول التراجم.
وقيل: أراد بالحلاب ظرف الطيب، و"أو" للتنويع، والمذكور في الحديث صفة التطيب بعد الاغتسال لا صفة الاغتسال، وهو توجيه حسن لظاهر ألفاظ البخاري، لكن جميع طرق الحديث يأبى ذلك، وأن في جميعها بيان صفة الاغتسال.
وقيل: أشار بالترجمة إلى حديث عائشة الآتي بعد سبعة أبواب بلفظ: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإحرام"، الحديث، وفي بعض طرقه:"ثم طاف على نسائه"، ومن لازمه الاغتسال، فالترجمة بالتردد بين الحالتين، أي: بدأ بالحلاب، يعني: ماء الاغتسال وتارةً بالطيب كما في بعض الأحوال، وهذا أحسن الأجوبة عندي، انتهى ما في "الفتح"
(1)
مختصرًا.
وكتب شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
: أن للحلاب معنيين: أحدهما:
(1)
"فتح الباري"(1/ 369 - 371).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 108).
بمعنى الإناء، والثاني: بمعنى المحلوب، أي: المخرج من عصارة، وكان العرب يستعملون محلوب بعض البذور في أبدانهم قبل الاغتسال كما يستعملون الطيب قبل ذلك، وميل المصنف إلى هذا المعنى الثاني بقرينة الانضمام للطيب، انتهى.
وقال السندي
(1)
: قوله في الترجمة: "عند الغسل" أي: عند الفراغ منه، وكذا في الحديث قوله:"إذا اغتسل" أي: فرغ، والمراد بالحلاب عند المصنف نوع من الطيب، فالمقصود استعمال الطيب بعد الغسل، ولا يحمل كلام المصنف إلا على هذا، وإن كان الصحيح أن المراد منه الإناء لكن حمل كلام المصنف على المعنى المعروف بعيد جدًا، انتهى.
وفي "الفيض"
(2)
أن في الحلاب يبقى أثر اللبن فبينه وبين الطيب تقابل تضاد فنبَّه المصنف على أنه لا بأس بريح اللبن إن ظهر في الماء، وكذا الطيب عند الغسل قد يبقى أثره بعد الغسل فلا بأس به أيضًا، انتهى.
قلت: يأتي هذا المعنى في "باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب"، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع".
(7 -
باب المضمضة والاستنشاق. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: أي: أنهما ثابتان بالسُّنَّة فمن آخذٍ بوجوبهما ومن ذاهب إلى سُنِّيتهما، انتهى.
وفي هامشه: وبذلك جزم شيخ المشايخ في "التراجم"
(4)
.
قال الحافظ
(5)
: استنبط البخاري عدم وجوبهما؛ لأن في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث: "ثم توضأ وضوءه للصلاة"، فدل على أنهما
(1)
"حاشية السندي"(1/ 57).
(2)
"فيض الباري"(1/ 349).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 215).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 110).
(5)
"فتح الباري"(1/ 372).
للوضوء، وقام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب، والمضمضة والاستنشاق من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء سقط توابعه، ويحمل ما روي من صفة غسله صلى الله عليه وسلم على الكمال، انتهى.
وتعقبه العيني
(1)
: بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن هذا الحديث لا تعلق له بالحديث الآتي، وفيه تصريح بالمضمضة والاستنشاق، ولا شك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتركهما، فدل على المواظبة وهي تدل على الوجوب، انتهى.
وهذا الاختلاف مبني على اختلاف مسلكهما، فإنهما واجبان في الغسل عند الحنفية خلافًا للشافعية، وما حكى الحافظ من الإجماع على ندب الوضوء في الغسل مشكل؛ لأن فيه خلافًا لداود الظاهري إذ أوجب الوضوء في الغسل مطلقًا وفي رواية لأحمد:"لا يجزئ الغسل حتى يأتي بالوضوء قبله أو بعده"، وهو أحد قولي الشافعي كما في "الأوجز"
(2)
.
ثم المضمضة والاستنشاق في الوضوء سُنَّة عند الأئمة الثلاث، وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات: الأولى: مثل الجمهور، والثانية: وجوبهما في الطهارتين وهو المشهور، والثالث: وجوب الاستنشاق وسُنِّية المضمضة، وأما في الغسل فهما واجبان عند الحنفية وأحمد، وسُنَّتان عند مالك والشافعي، انتهى ما في الهامش بزيادة.
(8 -
باب مسح اليد بالتراب. . .) إلخ
لم يتعرض عنه الشيخ في "اللامع"؛ لأنه قد أجمل الكلام عليه في "الكوكب الدري"
(3)
، وبسطه في "الدر المنضود"، ولخصه شيخنا في "البذل" في "باب الرجل يدلك يده بالأرض. . ." إلخ.
(1)
"عمدة القاري"(3/ 26).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 503).
(3)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 139)، و"بذل المجهود"(1/ 311).
فقال الشيخ: ها هنا تقرير أنيق كتبه حبيبنا مولانا محمد يحيى الكاندهلوي - أدخله الله تعالى جنة الفردوس - عن شيخه وشيخنا مولانا الشيخ رشيد أحمد الكَنكَوهي - جعله الله مع النبيين والصديقين -، قال الأستاذ - أدام الله علوه ومجده، وأفاض على العالمين بره ورفده -: قد اختلفت أقوال فقهائنا الخفية - كثّر الله جمعهم - في طهارة المخرج واليد إذا بقيت رائحة النجاسة بعد زوال أجرامها، فمنهم من حكم بالطهارة إذا زال جرمها وإن بقيت منها رائحة، ومنهم من ذهب إلى أنها لا تطهر إذًا إلا إذا بقي من أثرها ما يتعسر إزالته، ولعل مبنى الاختلاف ما اختلف فيه من حقيقة الرائحة هل هي بانفصال أجزاء صغار من ذي الرائحة التي لا تدرك بصغرها، أو بتكيف الهواء بكيفية الرائحة؟. . . إلى آخر ما بسطه في "البذل".
قلت: ولعل الإمام البخاري أراد بالترجمة التنبيه على هذا الاختلاف، ورجح أن مسح اليد لم يكن للتطهير بل للتنظيف، كما يدل عليه قوله في الترجمة:"لتكون أنقى"، وإليه أشار الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "الكوكب" فقال في رواية ميمونة هذه التي في الباب: هذا الدلك للمبالغة في التنظيف بإزالة ما عسى أن يبقى شيء من الدسومة بعد زوال عين النجس ليكون أبعد من الكراهية والتنفر في غسل سائر الأعضاء لا سيما المضمضة والاستنشاق، انتهى.
وقد كتب مولانا محمد حسن المكي في "تقريره": مسح اليد بالتراب ثابت لكن في هذا الزمان تشبه بالهنود فالأولى تركه، وكان الشيخ قُدِّس سرُّه قد يقول: لا اعتبار لهذا التشبه، انتهى.
(9 -
باب هل يدخل الجنب يده. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: نعم يجوز له ذلك وإن كان الأولى أن يغسلها، وإلى هذا أشار بإيراد الروايات والآثار الدالة على جواز الأمرين
(1)
"لامع الدراري"(2/ 217 - 220).
كليهما، ثم إن الغرض منه طهارة الماء المستعمل وطهوريته، وقد عرفت قبل ذلك أن الاستعمال لا يتحقق إلا عند إقامة قربة أو إزالة حدث، فاستدلاله مبني على عدم الفرق بين المستعمل في الغسل بدون إزالة حدث وبينه لها، وكذا على عدم الفرق بين الطاهر والطهور، وفي قوله:"تختلف أيدينا" لم يذكر أنا كنا نغسل الأيدي أولًا، وكذا في الرواية الثالثة والرابعة: من إناء واحد من الجنابة، ولم يذكر تقديم غسل الأيدي وبينهما رواية تدل على استحباب غسل اليد أولًا، ثم إن الأجوبة عن الاستدلالات المخالفة ظاهرة بأدنى تدبر فيما ذكرنا وفي استدلالاته رحمه الله، انتهى.
وفي هامشه: قال المهلب
(1)
: أشار البخاري إلى أن يد الجنب إذا كانت نظيفة جاز له إدخالها الإناء قبل أن يغسله؛ لأنه ليس شيء من أعضائه نجسًا بسبب كونه جنبًا، انتهى.
والأوجه عندي: أن غرض المصنف بيان جواز إدخال اليد ردًا على ما روي عن ابن عمر أنه قال: "من اغترف من ماء وهو جنب فما بقي فهو نجس" أخرجه ابن أبي شيبة
(2)
، وحكاه عنه العيني
(3)
أيضًا، وجمع بينه وبين ما رواه عنه البخاري بوجوه، ولا تعارض بينهما عندي؛ لأن أثر ابن أبي شيبة نص في الجنابة، وأثر البخاري ظاهر في الحدث الأصغر، وفي "فيض الباري"
(4)
عن "الفتاوى" لابن تيمية، عن الإمام أحمد: أن الجنب إن أدخل يده في الماء نجسه، انتهى.
لكن الموفق
(5)
حكى مذهبهم: أن الماء طاهر لا إشكال فيه، نعم حكي عن الإمام أحمد اختلاف الروايات في أن الماء هل يبقى مطهرًا أم لا؟ ثم الآثار والروايات التي ذكرها البخاري لما لم تكن صريحة في عدم
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 373).
(2)
(1/ 82)، وفيه:"منه نجس" بدل "فهو نجس".
(3)
"عمدة القاري"(3/ 28).
(4)
"فيض الباري"(1/ 354).
(5)
انظر: "المغني"(1/ 280).
الغسل نبَّه على ذلك بقوله: "هل"، ولم يتعرض الشرَّاح ولا المشايخ عن لفظ:"هل".
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: غرض الباب إدخال الجنب يده في الإناء قبل الغسل إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة مع سُنِّية الغسل؛ لأن الحديث الأول من الباب ثبت منه بطريق الدلالة جواز الإدخال قبل الغسل، والحديث الثاني ظاهر في الغسل، فطريق الجمع بينهما أن يحمل الأول على الجواز، والثاني على السُّنِّية، وأما ثبوت الإدخال قبل الغسل بالحديث الأول بطريق الدلالة، فلأن قول عائشة رضي الله تعالى عنها تختلف أيدينا، يدل على وقوع الغسالة في الإناء ظاهرًا، فلما لم يتنجس الماء لسقوط غسالة الجنب فيه ولم يحترز منه، فالظاهر أنه لا يجب الاحتراز من إدخال اليد فيه أيضًا قبل الغسل، إذ لا شيء غير الجنابة في اليد، انتهى.
(10 -
باب من أفرغ بيمينه. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: رد بذلك ما اشتهر أن الإفراغ باليمين على الشمال من صنيع النساء، والرواية وإن كانت دالة على إفراغه بيمينه على شماله إذا قصد غسل فرجه، إلا أن المطلق يثبت في ضمن المقيد، فيعلم بذلك جواز هذا الفعل وإن لم يكن حين يغسل فرجه، انتهى.
وفي هامشه: سكت الشرَّاح عن غرض المصنف بهذه الترجمة، وأجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في توجيه الغرض كما ترى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري نبَّه بذلك على دقيقة وهي أن في الغسل أمرين: أحدهما: صب الماء، والثاني: دلك الأعضاء، ومعلوم أن الأفعال الشريفة مصدرها اليمين، فنبَّه الإمام بأن صب الماء أشرف من دلك
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 110).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 221).
الأعضاء، فالأول وظيفة اليمين، والثاني وظيفة اليسار، ولا يبعد أيضًا أنه نبَّه بالترجمة على ترجيح صب الماء باليمنى على اليسرى لما في ذلك من اختلاف الروايات، ففي "سنن أبي داود"
(1)
من حديث مسدد بسنده إلى عائشة: و"يصب الماء على يده اليمنى"، وفي أخرى له عن ميمونة:"فأكفأ الإناء على يده اليمنى"، قال الخطابي: محله ها هنا فيما إذا كان يغترف من الإناء، فأما إذا كان ضيقًا كالقمقم فإنه يضعه عن يساره ويصب الماء منه على يمينه، انتهى.
وفيه على قول الشيخ: والرواية وإن كانت دالة. . . إلخ.
قال الحافظ
(2)
: اعترض على المصنف بأن الدعوى أعم من الدليل، والجواب: أن ذلك في غسل الفرج بالنص وفي غيره بما عرف من شأنه أنه كان يحب التيامن، انتهى.
قلت: والأوجه منه: أنه تقدم قريبًا في باب المضمضة حديث ميمونة هذا، وفيه:"فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما ثم غسل فرجه"، فهذا نص في إفراغ اليمين على اليسار في غير الفرج، ونظر المؤلف يكون على جميع الروايات فيوردها في غير مظانها تشحيذًا للأذهان، انتهى.
(11 -
باب تفريق الغسل والوضوء)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك إثبات جواز التفريق بين أركانهما، فهو رد على من ذهب إلى فرضية الموالاة، انتهى.
وفي هامشه: الظاهر في غرض الترجمة الرد على وجوب الموالاة، وعليه بنى الشرَّاح كلامهم.
وذكر الكرماني
(4)
فيه احتمالًا آخر إذ قال: إن قلت: ما معنى
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 242، 245).
(2)
"فتح الباري"(1/ 375، 376).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 221).
(4)
"شرح الكرماني"(3/ 127).
الترجمة، هل المراد منه بيان عدم وجوب الموالاة أو بيان عدم دخول الوضوء في الغسل، حتى لو كان محدثًا بالحدثين لا يكفيه الغسل، بل يأتي مستقلًا؟
قلت: لفظ الترجمة يحتملهما، والظاهر الأول، انتهى مختصرًا.
وكتب شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: ثبت بحديث الباب التفريق بين أفعال الوضوء، فثبت في الغسل أيضًا بالمقايسة إذ لا فرق بينهما، وأيضًا لا قائل بالفصل، ولذا ضم قوله:"والوضوء" في الترجمة إلى الغسل؛ لأن الثابت بالحديث ليس إلا التفريق في الوضوء، انتهى.
(12 -
باب إذا جامع ثم عاد. . .) إلخ
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": مقصوده إثبات جواز ذلك مع سُنِّيته أن يتوضأ بين الجماعين، وذلك ثابت بالأحاديث الأخر، انتهى.
ويحتمل عندي أنه أشار إلى ترجيح رواية أنس عند أبي داود
(3)
: فجعلها غسلًا واحدًا كما رجحه أبو داود، ويحتمل أيضًا أنه أراد الرد على وجوب الوضوء على المعاود كما قال به الظاهرية وابن حبيب المالكي.
ثم لا يذهب عليك ما قال ابن عابدين
(4)
: أفتى بعض الشافعية بحرمة جماع من تنجس ذكره قبل غسله إلا إذا كان به سلس فيحل؛ كوطء المستحاضة مع الجريان، ويظهر أنه عندنا كذلك لما فيه من التضمخ بالنجاسة بلا ضرورة لإمكان غسله، بخلاف وطء المستحاضة ووطء السلس، فتأمل، انتهى.
قوله: (وهن إحدى عشر) تفرد بذلك هشام، ولم يجتمعن في زمان،
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 112).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 112).
(3)
انظر: "سنن أبي داود"(ح: 218).
(4)
"رد المحتار"(1/ 495).
ووجه بأنه جمع مع التسع مارية وريحانة، كذا في "الفتح"
(1)
.
قلت: ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم تزوج إحدى عشر نسوة لكنهن لم يجتمعن في زمن واحد؛ لأن خديجة رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة ولم ينكح غيرها في حياتها، ثم تزوج سودة وعائشة رضي الله تعالى عنهما بمكة، ثم تزوج حفصة في السنة الثانية أو الثالثة، ثم تزوج زينب بنت خزيمة في رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، وعاشت بعد ذلك ثمانية أشهر وتوفيت في آخر الربيعين في السنة الرابعة، ولم يكن إذ ذاك في نكاحه عليه الصلاة والسلام إلا ثلاثة غيرها، وباقي النسوة التسع غيرها وغير خديجة بقيت بعده صلى الله عليه وسلم، وآخرهن نكاحًا ميمونة في عمرة القضاء من السنة السابعة من الهجرة كما بيَّنته في رسالتي "حكايات الصحابه" باللغة الأردية.
(13 -
باب غسل المذي والوضوء منه)
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": غرض الباب ما ذهب إليه بعض العلماء من أن المني يطهر بالفرك مخصوص به، وليس في المذى إلا الغسل، وأيضًا لا يجب فيه الاغتسال بل الوضوء فقط، ويحتمل أن يكون غرض الباب أن جواز الاقتصار على استعمال الأحجار ليس إلا في الخارج المعتاد، أعني: البول والغائط، وأما في غيره فيجب استعمال الماء والغسل، انتهى.
قلت: تحتمل الترجمة وجوهًا عديدة، فيحتمل أن يكون إشارةً إلى أنه لا يكفي النضح كما قال به أحمد، أو إشارة إلى أنه لا يكفي الحجر منه كما هو رواية لمالك وأحمد، أو إلى أنه لا يجب استيعاب الذكر بالغسل كما قال به بعض المالكية وبعض الحنابلة كما في "الفتح"
(3)
، وبسط الكلام
(1)
"فتح الباري"(1/ 378).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 113).
(3)
"فتح الباري"(1/ 380).
على هذه الأقوال في "الأوجز"
(1)
، وفيه: اعلم أن العلماء بعد ما أجمعوا على أن في المذي الوضوء دون الغسل، وعلى أن المذي نجس ولا خلاف فيهما لمن يعتد به، اختلفوا ها هنا في ثلاثة مسائل:
إحداها: الاكتفاء بالحجر، فلا يجوز عند بعض المحدثين، إذ قالوا: يتعين الماء لغسله، وقال عياض: اختلف أصحابنا في المذي هل يجزئ منه الاستجمار كالبول أو لا بد من الماء، انتهى.
وعندنا الحنفية يجوز الاكتفاء على الحجر كما صرح به في "البدائع"
(2)
وغيره، وصححه النووي من الشافعية، وقال الحافظ
(3)
: وهو المعروف في المذهب، وكذلك الاكتفاء على الحجر هو رواية عن الإمام أحمد كما يظهر من كلام "المغني"
(4)
و"الشرح الكبير".
والمسألة الثانية: هل يغسل موضع النجاسة فقط أو الذكر بتمامه فقط، وهو رواية عن المالكية كما في "الباجي"، أو مع الأنثيين أيضًا وهو رواية عن الحنابلة كما في "المغني"، والأول قول الجمهور كما قاله الحافظ.
والمسألة الثالثة: ما حكى الطحاوي عن بعضهم وجوب الغسل بمجرد خروج المذي، والجمهور أن حكمه حكم البول وغيره من نواقض الوضوء من عدم وجوب الوضوء على الفور، انتهى مختصرًا من "الأوجز" والبسط فيه.
ولعل الإمام البخاري أشار في الترجمة بلفظ: "والوضوء منه" إلى هذه المسألة الثالثة، واستدل الطحاوي للجمهور بحديث علي بلفظ:"فيه الوضوء وفي المني الغسل".
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 473، 474).
(2)
"بدائع الصنائع"(1/ 149).
(3)
"فتح الباري"(1/ 380)، وانظر:"شرح صحيح مسلم"(2/ 218).
(4)
"المغني"(1/ 233).
(14 -
باب من تطيب ثم اغتسل. . .) إلخ
لعل الغرض منه أن الظاهر أن فيه إضاعة المال لكن أبيح لضرورة النشاط في الجماع، وفي "التراجم"
(1)
لشيخ المشايخ: غرضه أنه لو لم يبالغ في الدلك وغيره عند الاغتسال حتى لا يذهب عنه أثر الطيب الذي كان قد استعمله قبل فلا بأس، بل هو جائز ثابت الأصل، انتهى.
ويحتمل أنه نظر إلى الباب السابق "باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى" فأشار إلى أن بقاء الطيب لا ينافي الإنقاء، ويحتمل أيضًا أن قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، يشير إلى المبالغة في الإنقاء، فنبّه به على أن ذلك لا ينافيه.
(15 -
باب تخليل الشعر. . .) إلخ
قال الحافظ في "باب الوضوء قبل الغسل"
(2)
: التخليل ليس بواجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر ملبدًا، انتهى.
ولا يذهب عليك أن ها هنا مسألتين:
إحداهما: التفريق بين الرجل والمرأة، والجمهور - منهم الأئمة الثلاثة - أنه لا فرق بينهما في نقض الضفائر وأنه ليس بواجب، وهي إحدى الروايتين عن الحنفية، والثانية: عنهم وهو المرجح عندهم كما في هامش "الكوكب"
(3)
مبسوطًا: التفريق بين الرجال والنساء في نقض الضفائر لرواية ثوبان عند أبي داود
(4)
: "أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أما الرجل فلينثر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها".
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 114).
(2)
"فتح الباري"(1/ 360).
(3)
"الكوكب الدري"(1/ 141).
(4)
"سنن أبي داود"(ح: 255).
قلت: والعجب من ابن رسلان إذ قال
(1)
: ظاهر الحديث التفريق بين الرجل والمرأة، ولم أر من قال به، انتهى.
والمسألة الثانية: التفريق بين غسل الجنابة والحيض في نقض الضفائر، فالجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة أن لا تفريق بينهما، وصححه الموفق
(2)
في مذهبهم، والرواية الثانية عن أحمد أنها تنقضه في الحيض دون الجنابة كما في "النيل"
(3)
، وظاهر ميل المصنف من تراجمه إلى قول أحمد في المسألة الثانية إذ ترجم ها هنا بلفظ: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته. . . إلخ، وترجم في كتاب الحيض بـ "باب نقض المرأة شعرها. . ." إلخ، وها هنا مسألة أخرى ثالثة، وهي غسل ما استرسل من الشعر، ففي "الأوجز"
(4)
: قال المغني: وفي غسل المسترسل من الشعر روايتان لأحمد: إحداهما: يجب غسله، وبه قال الشافعي، والثاني: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، انتهى.
قلت: والمرجح عندنا الحنفية كما في "الشامي"
(5)
: يجب غسل المنقوض لا المضفور، وعد في "مختصر الخليل"
(6)
من المالكية في الواجبات ضغث مضفور لا نقضه، انتهى.
وقد كتبت في هامش "اللامع" أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى المسألة الثانية، ثم ظهر لي في غرض الترجمة أن المؤلف أشار إلى أن نقض الضفائر ليس بواجب بل يكفي بَلّ أصول الشعر.
(1)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 285).
(2)
انظر: "المغني"(1/ 302).
(3)
"نيل الأوطار"(1/ 369).
(4)
"أوجز المسالك"(1/ 508)، وانظر:"المغني"(1/ 301).
(5)
انظر: "رد المحتار"(1/ 287).
(6)
انظر: "الخرشي على مختصر خليل"(1/ 168).
(16 -
باب من توضأ في الجنابة. . .) إلخ
تقدم في الباب الأول من كتاب الغسل الاختلاف في أن الوضوء سُنَّة مستقلة أو تقديم لأعضاء الوضوء، والترجمة تؤيد الثانية، والاستدلال بالرواية خفية، وقيل: كان الأليق بهذا الباب حديث عائشة المتقدم بلفظ: "ثم غسل سائر جسده"، وقيل: قرينة الحال والعرف يخص أعضاء الوضوء، وقيل: الترجمة تعين المراد بالحديث أن المراد من قوله: "جسده" أي: ما خلا أعضاء الوضوء، واختار الحافظ أن البخاري حمل قوله:"ثم غسل جسده" على المجاز بقرينة قوله: "ثم غسل رجليه"، فإن كانا داخلين في الجسد فأي حاجة إلى غسلهما بعد، وهذا أشبه بتصرفات البخاري إذ من شأنه الاعتناء بالأخفى أكثر من الأجلى، انتهى مختصرًا من "الفتح"
(1)
.
وأطال السندي
(2)
: في استدلال المؤلف بهذا الحديث على الترجمة.
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: غرض المصنف أن إعادة غسل سائر أعضاء الوضوء غير لازم، والاستدلال بظاهر الحديث.
وفي "الأوجز"
(4)
: الوضوء في الغسل، أوجبه داود مطلقًا، وقال قوم: إذا كان الفعل مما يوجب الجنابة والحدث، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: إن الغسل يجزئهما، قاله القاري
(5)
.
وقال ابن قدامة في "المغني"
(6)
: إن لم يتوضأ أجزأه بعد أن يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل والوضوء، وكان تاركًا للاختيار، يعني: يجزئه الغسل عنهما إذا نواهما، نص عليه أحمد، وعنه رواية أخرى:
(1)
"فتح الباري"(1/ 383).
(2)
انظر: "حاشية السندي"(1/ 60).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 114).
(4)
"أوجز المسالك"(1/ 498).
(5)
"مرقاة المفاتيح"(2/ 33).
(6)
"المغني"(1/ 289).
لا يجزئه الغسل عن الوضوء حتى يأتي به قبل الغسل أو بعده، وهو أحد قولي الشافعي، انتهى.
وقال ابن العربي
(1)
: يجب الوضوء إذا مس فرجه في الغسل، انتهى.
والأوجه عندي في غرض الترجمة: أن في غسل الجسد يكون إمرار اليد على الفرج عادةً، فأشار المصنف بهذه الترجمة إلى أنه لا ينقض الوضوء.
(17 -
باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لعل المراد بذلك إثبات أن التيمم للخروج من المسجد وإن كان أدبًا كما هو المشهور بين أصحابنا لكنه غير واجب، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتيمم لخروجه من المسجد، وأما إن كان قصده الرد على من ذهب إلى ذلك من الحنفي فغير صحيح، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعليًّا رضي الله عنه جاز لهما الخروج والمرور والدخول في المسجد جنبًا، فكيف يقاس عليه غيره ممن ليس بمنزلة هذين، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: إشارة إلى رد من أوجب ذلك كما نقل عن الثوري وإسحاق، وكذا قال بعض المالكية فيمن نام في المسجد فاحتلم: يتيمم قبل أن يخرج، انتهى.
قلت: وهذه مسألة كينونة الجنب في المسجد، وأما دخول الجنب في المسجد للعبور وغيره فمسألة أخرى خلافية بسطت في "اللامع".
(18 -
باب نفض اليدين من غسل الجنابة)
الظاهر عندي أن المصنف أشار بذلك إلى رد ما روي من المنع عن ذلك.
(1)
انظر: "عارضة الأحوذي"(1/ 163).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 224، 226).
(3)
"فتح الباري"(1/ 383).
قال الحافظ
(1)
: أورد الرافعي وغيره حديثًا ضعيفًا: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان"، قال ابن الصلاح: لم أجده، وقد أخرجه ابن حبان في "الضعفاء"، وابن أبي حاتم في "العلل"، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحًا لأن يحتج به، انتهى.
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(2)
: أي: أنه جائز، وعندي أن غرضه إثبات طهارة الغسالة، إذ النفض لا يخلو عن إصابة الرشاش بالبدن، انتهى.
(19 -
باب من بدأ بشق رأسه. . .) إلخ
البداية بالرأس لكونه أكثر شعثًا من بقية البدن، وباليمين مثل دأبه في الطهور وغيره، واختلف الحنفية في أنه هل يبدأ بالرأس؟ وهو الأصح وظاهر الرواية، وقيل: يبدأ بمنكبه الأيمن ثم الأيسر ويثلث بالرأس، وقيل: يثني بالرأس ويثلث بالمنكب الأيسر، قاله ابن عابدين
(3)
: وفي "المغني"
(4)
: ويبدأ بشقه الأيمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في طهوره.
وقال النووي في "شرح المهذب"
(5)
في بيان سنن الغسل: والابتداء بالأيامن، فيغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، وهذا متفق على استحبابه، وقال الرافعي في مكملات الغسل: الرابع يفيض الماء على رأسه ثم على الشق الأيمن ثم على الشق الأيسر، انتهى.
ويحتمل عندي: أن المؤلف نبَّه بهذه الترجمة على أن البداية بالوضوء كما روي من دأبه عليه السلام ليس بواجب، بل يجوز البداية بالرأس أيضًا.
(1)
"فتح الباري"(1/ 362).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 115)
(3)
"رد المحتار"(1/ 295).
(4)
"المغني"(1/ 287).
(5)
"المجموع شرح المهذب"(2/ 184).
(20 -
باب من اغتسل عريانًا وحده. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك أن التستر أفضل وإن كان خاليًا كما يدل عليه تعليله، ويمكن أن يكون ذلك حيث خاف أن يطلع عليه أحد، وأما إذا أمن كما في المغتسل فلا، فلا يكون ذلك خلافًا لما هو المشهور بين علمائنا، انتهى.
وفي هامشه: اعلم أن الإمام البخاري ترجم ها هنا بترجمتين: الأولى هذه والثانية الآتية بقوله: باب التستر، وعامة المشايخ والشرَّاح كلهم على أن المراد بالأولى جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة مع أفضلية التستر، والمراد بالثانية حرمته بمحضر من الناس.
قال الحافظ
(2)
في الترجمة الأولى: قوله: (في خلوة) أي: من الناس، وهو تأكيد لقوله: وحده، وقال في الثانية: لما فرغ من الاستدلال لأحد الشقين وهو التعري في الخلوة أورد الشق الآخر، انتهى.
وبنحوه قال غيره من الشرَّاح، وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: "باب من اغتسل عريانًا" أي: هو جائز، والأولى الستر في ذلك الوقت أيضًا، ثم قال:"باب التستر في الغسل" أي: أنه واجب، انتهى.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الترجمة الأولى هو الذي أفادوه، وليس الغرض من الترجمة الثانية الشق الثاني، أي: إيجابه عند الناس، فإنه معروف لا يحتاج إلى إثباته ولا يختص بالغسل، فإن التعري بمحضر من الناس حرام مطلقًا، وأيضا إذا أثبت المصنف أفضلية التستر في الوحدة فأي فاقة بقيت إلى إثبات التستر عن أعين الناس، فالأوجه عندي في غرض الترجمة الثانية إثبات أفضلية التستر لا على البدن وإن كان الغسل بالإزار، كما يومئ إليه الروايات الموردة فيها.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 226، 229).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 385، 387).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 116).
وقال العيني
(1)
: لا خلاف في أن التستر أفضل كما قاله البخاري، وبجواز الغسل عريانًا في الخلوة قال مالك والشافعي وجمهور العلماء، وروي عن ابن عباس أنه لم يكن يغتسل في بحر ولا نهر إلا وعليه إزار، وإذا سئل عن ذلك قال: إن له عامرًا، وروي عن عطية مرفوعًا:"من اغتسل بليل في فضاء فليحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك وأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه"، ونص أحمد فيما حكاه ابن تيمية على كراهة دخول الماء بغير إزار، انتهى مختصرًا.
وأنت خبير بالفرق بين الغسل في الصحراء عريانًا وبين الغسل في المستحم والأبنية المعدة لذلك، كما أشار إليه الشيخ في تقريره بقوله: كما يدل عليه تعليله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"، قال الموفق
(2)
: من اغتسل عريانًا بين الناس لم يجز ذلك؛ لأن كشفها للناس محرم، وإن كان خاليًا جاز، ويستحب التستر وإن كان خاليًا، وقال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا متسترًا، انتهى.
وقال الكرماني
(3)
: قال العلماء: كشف العورة في الخلوة بحيث لا يراه آدمي إن كان لحاجة جاز، وإن كان لغير حاجة ففيه خلاف في كراهته وتحريمه، والأصح عند الشافعي أنه حرام، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع" والبسط فيه.
(21 -
باب التستر في الغسل عند الناس)
تقدم في الباب السابق غرض هذه الترجمة عند الشرَّاح وعند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه العليا.
(1)
"عمدة القاري"(3/ 57).
(2)
"المغني"(1/ 306).
(3)
"شرح الكرماني"(3/ 140).
(22 -
باب إذا احتلمت المرأة)
قال الحافظ
(1)
: إنما قيَّده بالمرأة مع أن حكم الرجل كذلك لموافقة صورة السؤال، وللإشارة إلى الرد على من منع منه في حق المرأة دون الرجل كما حكاه ابن المنذر وغيره عن إبراهيم النخعي، انتهى.
قلت: وها هنا مسألتان بسط الكلام عليهما في "الأوجز":
إحداهما: احتلام المرأة، ففي "الأوجز" في سؤال أم سليم وإنكار عائشة عليها بقولها:"أفٍّ لك هل ترى ذلك المرأة؟ " ولعلها أنكرتها؛ لأنها لم تعلم لندرتها في النساء مع حداثة سن عائشة، وقيل: لا يحتلم كل النساء.
وثانيهما: إثبات المني للمرأة، وأجمع عليه فقهاء الأمصار ولم يخالف فيه إلا طائفة من الفلاسفة، فقال أرسطاطاليس: لا مني لها غير أن دم الطمث لها فيه قوة التوليد، وقال ابن سينا: إن لها رطوبة شبيهة بالمني لا يصدق عليه المني، لكن المختار عند محققي الفلاسفة والأطباء أيضًا وجود المني لها، كذا في "السعاية"، انتهى ما في "الأوجز"
(2)
.
(23 -
باب عرق الجنب. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: تقدير الكلام بيان حكم عرق الجنب، وبيان أن المسلم لا ينجس، وإذا كان لا ينجس فعرقه ليس بنجس، ومفهومه أن الكافر ينجس فيكون عرقه نجسًا، وتمسك بظاهره بعض أهل الظاهر فقال: إن الكافر نجس العين، وقوَّاه بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن
(1)
"فتح الباري"(1/ 388).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 543، 547)، و"السعاية"(1/ 306).
(3)
"فتح الباري"(1/ 390).
النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجة الجمهور حل نكاح الكتابيات، ولا يخلو المضاجع عن العرق، وأغرب القرطبي إذ نسب القول بنجاسة عرق الكافر إلى الشافعي، انتهى مختصرًا من "الفتح".
وهكذا حكى العيني
(1)
قول القرطبي وقال: قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما، قال القرطبي: الكافر نجس عند الشافعي، وقال ابن حزم: العرق من المشركين نجس، انتهى.
فما في "الفيض"
(2)
من نسبة نجاسة بدن الكافر إلى مالك لعله سهو من الكاتب، وفي هامشي على "البذل"
(3)
: قال ابن رسلان: قوله: المسلم ليس بنجس، وكلك الكافر عندنا وعند مالك وجمهور المسلمين من السلف والخلف، ثم قال: وأغرب القرطبي في الجنائز من "شرح مسلم" فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي.
(24 -
باب الجنب يخرج. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: قوله: "وغيره" بالجر، أي: وغير السوق، ويحتمل الرفع عطفًا على "يخرج" من جهة المعنى، وقوله: قال عطاء. . . إلخ، هذه الأفعال هي المرادة بقوله:"وغيره" بالرفع في الترجمة، انتهى.
وغرض الترجمة عند الشيخ الكَنكَوهي
(5)
عدم وجوب الغسل على الفور، فقد كتب على قوله: قال عطاء. . . إلخ، يعني بذلك: أن الغسل لا يجب له على الفور لجواز الاشتغال بتلك الأمور بقول عطاء، فكان له الخروج إلى الأسواق وغيرها لما جاز له تأخير الاغتسال، ثم إن السوق
(1)
"عمدة القاري"(3/ 73).
(2)
انظر: "فيض الباري"(1/ 362).
(3)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 212).
(4)
"فتح الباري"(1/ 391).
(5)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 230).
وغيره سواء في الحكم، فكان إثبات جواز أحدهما إثباتًا لجواز الآخر، أو يقال: لما ثبت المطلق ثبت جوازه في أي فرد كان، فيثبت الجواز في السوق وغيره، انتهى.
وفي هامشه: قلت: فالظاهر أن المصنف أراد تقوية ما في أبي داود
(1)
في "باب الجنب يؤخر الغسل" عن عائشة: "ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل آخره، فقال غضيف: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة"، وعلى هذا فلا إشكال في الأثر ولا في الرواية، ولعل السر في تبويب المصنف بلفظ:"الجنب يخرج ويمشي" ما حكى العيني
(2)
برواية ابن أبي شيبة، والبيهقي عن جماعة من الصحابة، ذكر العيني أسماءهم أنهم كانوا إذا أجنبوا لا يخرجون ولا يأكلون حتى يتوضأوا، انتهى.
(25 -
باب كينونة الجنب في البيت. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: قيل: أشار المصنف بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة ولا جنب" رواه أبو داود
(4)
وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالجنب في حديث علي من لم يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح، انتهى.
قلت: والأوجه عند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه العليا أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى تقرير حديث علي بأنه محمول على عدم
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 226).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 74)، و"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 75)، و"السنن الكبرى"(1/ 204).
(3)
"فتح الباري"(1/ 392).
(4)
"سنن أبي داود"(ح: 227)، و"سنن النسائي" (ح: 261)، و"السنن الكبرى"(1/ 201).
الوضوء، وذكر الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"
(1)
على حديث علي: قال الخطابي
(2)
: يريد الملائكة الذين ينزلون بالبركة والرحمة دون الملائكة الذين هم الحفظة، فإنهم لا يفارقون الجنب وغير الجنب، ثم قيل: إنه لم يرد بالجنب ها هنا من أصابته جنابة، فأخّر الاغتسال إلى أوان حضور الصلاة، ولكنه الذي يجنب فلا يغتسل ويتهاون به، ويتخذه عادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في غسل واحد، وقالت عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء"، انتهى.
(26 -
باب نوم الجنب)
ليست هذه الترجمة في نسخة "الفتح".
وقال الحافظ
(3)
: هذه زائدة للاستغناء عنها ب
باب الجنب يتوضأ ثم ينام
، ويحتمل أن يكون ترجم على الإطلاق وعلى التقييد فلا تكون زائدة، انتهى.
قلت: ولا يبعد عند هذا العبد الفقير أنه صرح بجوازه لدفع توهم أن النوم أخو الموت، وحقه أن لا ينام جنبًا ولما تقدم من باب النوم على الطهارة.
(27 - باب الجنب يتوضأ ثم ينام)
قال الحافظ
(4)
: قال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بلفظ الأمر، وجاء بصيغة الشرط وهو متمسك لمن قال بوجوبه، وقال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وبسط الحافظ الكلام على اختلاف النقلة في مذاهب الأئمة، ورجح رواية الاستحباب عنهم، وقال: نقل الطحاوي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب إلى آخر ما في "الفتح".
(1)
"بذل المجهود"(2/ 206).
(2)
"معالم السنن"(1/ 118).
(3)
"فتح الباري"(1/ 393).
(4)
"فتح الباري"(1/ 394).
وكتب الشيخ في "البذل"
(1)
: ذهب الجمهور إلى استحبابه وعدم وجوبه، وتمسكوا بحديث عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء"، إلى آخر ما بسط الشيخ، وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"
(2)
أيضًا، وفيه: قال العيني
(3)
: ذهب طائفة إلى أن الوضوء المأمور به الجنب هو غسل الأذى منه، وغسل ذكره ويديه وهو التنظيف، وذلك يسمى عند العرب وضوءًا، قالوا: وقد كان ابن عمر لا يتوضأ عند النوم الوضوء الكامل، إلى آخر ما فيه.
(28 -
باب إذا التقى الختانان)
أجمع الشرَّاح على أن المراد بالتقائهما الإيلاج، ومجرد الالتقاء لا يوجب الغسل عند أحد، وهل هو مجاز عن الإيلاج؟
والأوجه عندي: أنه لازم للإيلاج، ليس بمجاز عنه، والبسط في "الأوجز"
(4)
، وبسط الكلام على المسألة في هامش "اللامع" أيضًا، وفيه: قال ابن العربي في "شرح الترمذي"
(5)
: هذه المسألة عظيمة الموقع في الدين مهمة في مسائل الدين، وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم لم يروا غسلًا إلا من الإنزال، ثم روي أنهم رجعوا عن ذلك، ثم روي عن عمر أنه قال: من خالف ذلك جعلته نكالًا، وانعقد الإجماع على وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وما خالف في ذلك إلا داود ولا يعبأ بخلافه، فإنه لولا الخلاف ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه أن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلّ علماء المسلمين معرفةً وعدلًا، وما بهذه المسألة من خلاف، فإن الصحابة اختلفوا فيها ثم
(1)
"بذل المجهود"(2/ 188).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 518).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 78).
(4)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 509)، و"لامع الدراري"(2/ 231).
(5)
"عارضة الأحوذي"(1/ 169).
رجعوا عنها واتفقوا على وجوب الغسل بالتقائهما وإن لم ينزل.
ثم بسط ابن العربي في تضعيف رواية الماء من الماء وقال: العجب من البخاري أن يساوي بين حديث عائشة في إيجاب الغسل وبين حديث عثمان وأُبي في نفي الغسل إلى آخر ما بسط في تضعيف حديث عثمان وأبي، ثم اختلفوا في ميل الإمام البخاري في ذلك هل إلى قول داود أو إلى قول الجمهور كما هو رأي الشيخ إذ قال
(1)
: قوله: "هذا أجود وأوكد. . ." إلخ، يعني به: الوجوب، والآخر منسوخ لا معمول، فإن أفعل التفضيل عند أئمة الحديث كثيرًا ما يستعمل لمعنى التوكيد والتشديد، ولا يعنون به الزيادة على الغير في مأخذ الاشتقاق حتى يكون الآخر - أي: المفضل عليه - جيدًا وآكدًا إلى آخر ما بسطه الشيخ.
وإليه يشير كلام شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
إذ قال: أي: الغسل عند ذلك أحوط اجتهادًا، أي: من حيث الاجتهاد عند المصنف هو الغسل الذي عقد الباب السابق لأجله، وذكر الباب اللاحق إنما هو لمحض الإحاطة بجوانب ثم ترجيح الراجح، انتهى.
وذكره ابن العربي احتمالًا كما سيأتي وهو الظاهر عند الحافظ ابن حجر، وهو الأوجه عندي؛ لأن الإمام البخاري ترجم لالتقاء الختانين وأورد فيه حديث إيجاب الغسل ولم يذكر فيه حديث الإكسال، ثم لما ذكر حديث الإكسال لم يترجم عليه إلا غسل ما يصيب من الفرج، قال ابن العربي بعد ما تعقب على البخاري
(3)
: ويحتمل قول البخاري: "الغسل أحوط"، يعني: في الدين من باب حديثين تعارضا فقدم الذي يقتضي الاحتياط في الدين، انتهى.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 233، 237).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 119).
(3)
"عارضة الأحوذي"(1/ 170).
يعني الأليق بشأن البخاري أن لا يخالف الإجماع، ومعنى قوله:"أحوط"، يعني: إيجاب الغسل فيه للاحتياط كما أوجبوا الوضوء في النوم للاحتياط.
وقال الحافظ بعد ما حكى قول ابن العربي المذكور
(1)
: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة، انتهى.
وتعقب عليه العيني
(2)
: وتعقب هذا العبد الفقير على كلام العيني كما بسط في هامش "اللامع"، انتهى مختصرًا وملخصًا من هامش "اللامع".
(29 -
باب غسل ما يصيب من فرج المرأة)
هذا الباب عند العبد الفقير غير ما سبق من "باب المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة"، فإن المذكور في الباب السابق عند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه تعالى حكم مني المرأة كما سبق التنبيه عليه في الباب السابق.
ومقصود هذا الباب بيان رطوبة الفرج كما يدل عليه الحديث الوارد في هذا الباب، فإنه صريح في من جامع ولم ينزل، قال الموفق
(3)
: في رطوبة الفرج احتمالان: النجس، والطهر، إلى آخر ما بسطه.
وفي "الدر المختار"
(4)
من فروع الحنفية في آخر باب الاستنجاء: رطوبة الفرج طاهرة خلافًا لهما، وفيه أيضًا: في باب الأنجاس: وفي "المجتبى": أولج فنزع فأنزل لم يطهر إلا بغسله لتلوثه بالنجس، انتهى. أي: برطوبة الفرج.
قال ابن عابدين: أي: الداخل بدليل قوله: "أولج"، وأما رطوبة الفرج الخارج فطاهرة اتفاقًا، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 398).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 93).
(3)
"المغني"(2/ 491).
(4)
"الدر المختار"(1/ 337)
وفي "منهاج الإمام النووي"
(1)
: رطوبة الفرج ليست بنجسة في الأصح، قال ابن حجر في "شرحه": وهي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق، يخرج من باطن الفرج الذي لا يجب غسله، بخلاف ما يخرج مما يجب غسله فإنه طاهر قطعًا، ومن وراء باطن الفرج فإنه نجس قطعًا، ككل خارج من الباطن كالماء الخارج مع الولد أو قبيله، انتهى.
ثم براعة الاختتام عند الحافظ نوَّر الله مرقده وعند هذا الفقير إلى رحمته تعالى لفظ: [وذلك الآخر] فعند الحافظ إيماء إلى آخر الكتاب، وعندي إلى آخر الحياة تشحيذًا للأذهان إلى الموت.
* * *
(1)
"المنهاج"(3/ 199).
6 -
كتاب الحيض
هو لغة: السيلان، وفي عرف الشرع: دم يخرج من قعر رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة.
وذكر الإمام البخاري في الكتاب الاستحاضة والنفاس تبعًا، وترجم بالحيض لكثرة أبوابه، كذا في هامش "اللامع"، وبسط فيه الكلام عليه لغة واصطلاحًا.
(1 -
باب كيف كان بدء الحيض. . .) إلخ
هذا باب ثالث بلفظ: كيف، والغرض منه ظاهر، وهو التنبيه على اختلاف الروايات في ذلك، وهو أن بدءه من زمن آدم عليه السلام أو من بني إسرائيل.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: (وقال بعضهم: كان أو ما أرسل. . .) إلخ، ويمكن الجمع بينهما بحمل مطلق الحيض من حواء ومن تليها، والكثرة إنما نشأت من بني إسرائيل كما يدل عليه لفظ الإرسال، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في الجمع بينهما على أقوال، وما اختاره الشيخ هو مختار الحافظ قُدِّس سرُّه، وهو الأوجه عندي إلى آخر ما بسط فيه من الأقوال، ويؤيده ما في "الفتح"
(2)
: روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره [أن] قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]، أي: حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب، وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 238، 240).
(2)
"فتح الباري"(1/ 400).
قوله: (وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر) بالمثلثة في النسخ التي بأيدينا، قال الحافظ: أي: أشمل؛ لأنه عام في جميع بنات آدم، فيتناول الإسرائيليات ومن قبلهن، أو المراد أكثر شواهد أو أكثر قوة، انتهى.
وقال العيني
(1)
: قال الكرماني: يروى أكبر بالموحدة، ومعناه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأجلّ وآكد ثبوتًا، انتهى.
قلت: وكأن الإمام البخاري رجح الرواية المرفوعة على قول بعضهم على أصول المحدثين ورد قول البعض، وأما على أصول الموجهين فاختلفوا في الجمع بينهما كما تقدم قريبًا.
(باب الأمر بالنفساء إذا نفسن)
أي: الأمر المتعلق بهن، قاله الحافظ
(2)
.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": أي: الأمر بأداء مناسك الحج إلا الطواف، انتهى.
ويحتمل عندي في غرض الترجمة اتحاد حكم الحيض والنفاس لقوله عليه الصلاة والسلام في حيض عائشة: "أنفست؟ "، وفيه أن هذا المعنى سيأتي قريبًا في "باب من سمى النفاس حيضًا" على أن هذه الترجمة ليست في النسخ المعروفة بل في الحاشية، والظاهر حذفه، وإلا لم يبق للترجمة السابقة حديث، وعلى ثبوت الترجمة يحتمل عندي أن يكون الغرض هو الأمر بالاغتسال عند الإحرام، ولا يقال: إن الترجمة على هذا تكون من كتاب الحج؛ لأن الترجمة كما تتعلق بالحج تتعلق بأحكام الحيض أيضًا، وأمثال ذلك كثيرة في البخاري، فسيأتي قريبًا "باب ترك الحائض الصوم"، و"باب تقضي الحائض المناسك كلها. . ." إلخ، وسيأتي اعتكاف
(1)
"عمدة القاري"(3/ 96)، وانظر:"شرح الكرماني"(3/ 158).
(2)
"فتح الباري"(1/ 400).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 122).
المستحاضة في هذا الكتاب "كيف تهل الحائض" وهو أيضًا سيأتي في كتاب الحج أيضًا، فلما كان للمسائل تعلق بالكتابين ذكرها الإمام البخاري في موضعين.
(2 -
باب غسل الحائض رأس زوجها. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أورد الترجمة دفعًا لما عسى أن يتوهم من النجاسة الحكمية التي منعتها عما منعت حرمة المصاحبة والمخالطة بها كما كانت تزعمه اليهود وتفعله، انتهى.
وفي هامشه: وما أفاده الشيخ واضح، والمعنى أن قوله عزَّ اسمه:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، ليس المراد فيه النهي عن القربان مطلقًا بل قربان خاص، ويحتمل عندي أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى رد ما روي عن ابن عباس أنه دخل على ميمونة فقالت:"أي بُنَيّ ما لي أراك شعت الرأس؟ فقال: إن أم عمار ترجلني وهي الآن حائض، فقالت: أي بُنَيّ ليست الحيضة باليد" الحديث، أخرجه ابن أبي شيبة كما في "العيني"
(2)
فهو من الأصل الثالث عشر من أصول التراجم.
ثم لا يذهب عليك ما قال الحافظ
(3)
: إن الحديث مطابق لما ترجم له من جهة الترجيل، وألحق به الغسل قياسًا أو إشارةً إلى الطريق الآتية في "باب مباشرة الحائض" فإنها صريحة في ذلك، انتهى.
قلت: وهذا الثاني متعين عندي، فإنه أصل مطرد من أصول التراجم، وهو الأصل الحادي عشر.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 242).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 100).
(3)
"فتح الباري"(1/ 401).
(3 -
باب قراءة الرجل في حجر امرأته. . .) إلخ
بكسر الحاء المهملة وفتحها ثم بسكون الجيم، واختلفوا في غرض الترجمة.
والأوجه عندي كما قاله ابن بطال تأييد للحنفية ورد على الشافعية في مسألة خلافية شهيرة، وهي جواز حمل المحدث والجنب المصحف بعلاقته، وبه جزم صاحب "التوضيح" كما سيأتي من كلامه في مناسبة الحديث بالباب.
قال ابن بطال
(1)
: غرض البخاري في هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض المصحف، انتهى.
وتعقبه الكرماني بقوله
(2)
: ليس غرض البخاري أن يدل على جواز حمل الحائض المصحف، بل الغرض هو مجرد ما ترجم في الباب عليه، وهو جواز القراءة بقرب موضع النجاسة، وكون المؤمن في حجر الحائض لا يدل على جواز الحمل، ولهذا اتفقوا في جوازه، واختلفوا في جواز الحمل، انتهى.
ولا عجب في تعقب الكرماني فإنه كلهم يتحاشون أن يقولوا في موضع: إن غرض البخاري الرد عليهم، وليست هذه الجرأة إلا للحنفية، فإنه ينادون بصوت جهوري أن في هذه الترجمة ردًا علينا الحنفية، وأنت خبير بأن إثبات المسألة الخلافية الشهيرة أليق بشأن تراجم البخاري من إثبات مسألة إجماعية، والحافظ ابن حجر أيضًا فهم من ترجمة البخاري ما فهمه ابن بطال، لكنه جبن أن يفصح ذلك الغرض للبخاري، والدليل على ما قلته أنه رحمه الله فهم ذلك أنه قال
(3)
: وذلك - أي: أثر أبي رزين - مصير منهما إلى جواز حمل الحائض المصحف لكن من غير مسه، ومناسبته لحديث عائشة
(1)
"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 414).
(2)
"شرح الكرماني"(3/ 163).
(3)
"فتح الباري"(1/ 402).
من جهة أنه نظر حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف بحمل الحائض المؤمن الذي يحفظ القرآن؛ لأنه حامله في جوفه، وهو موافق لمذهب أبي حنيفة، ومنعه الجمهور وفرَّقوا بأن الحمل مخل بالتنظيم، والاتكاء لا يسمى في العرف حملًا، انتهى.
فهذه الترجمة عندي من الأصل الحادي والعشرين الذي أفاده شيخ الهند، انتهى ما في هامش "اللامع" ملخصًا.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: وتأييد أثر أبي وائل لهذه الترجمة ظاهر، فإنه فيه تلبسًا بنقشه كما أن فيها تلبسًا بلفظه، يعني: أن النقش والألفاظ كلاهما محترم، فلما كان أبو وائل يرسل خادمه بالمصحف فتأخذه بعلاقته، وفيه تلبس الحائض بنقوشه، فكذلك تجوز قراءة القرآن في حجر الحائض وإن كان فيه تلبس لألفاظه بالحائض بنوع مقارنة، انتهى.
ثم في المسألة اختلاف مشهور، والحمل بعلاقته جائز عند الإمامين أبي حنيفة وأحمد، ومنع منه الإمامان مالك والشافعي كما في "الأوجز"
(2)
عن الموفق إذ قال: ويجوز حمله بعلاقته وهذا قول أبي حنيفة، ومنع منه مالك والشافعي، انتهى.
ووقع الغلط في نقل المذاهب في "العيني" إذ حكى جواز الحمل عن الأئمة الأربعة، ثم حديث عائشة يناسب ظاهر ألفاظ الترجمة، وأما على ما اخترت من غرضها تبعًا لابن بطال وصاحب "التوضيح" فيحتاج إلى دقة نظر، أشار إليها صاحب "التوضيح" إذ قال: وجه المناسبة حديث عائشة أن ثيابها بمنزلة العلاقة، والشارع بمنزلة المصحف؛ لأنه في جوفه وحامله، إذ غرض البخاري بهذا الباب الدلالة على جواز حمل الحائض المصحف، انتهى.
وإليه أشار الشيخ قُدِّس سرُّه في ذكر مناسبة الأثر للباب.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 244).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(4/ 219)، و"المغني"(1/ 203).
(4 -
باب من سمى النفاس حيضًا)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك: أنهما معًا دمان يخرجان من الرحم، فلما جاز إطلاق النفاس على الحيض جاز عكسه لما فيهما من الاشتراط المطلق إطلاق أحدهما على الآخر، والغرض منه أن اشتراكهما في تلك الصفة أو هذا الإطلاق لا يقتضي اشتراكهما في جملة أحكامها، بل لكل منهما أحكام مختصة، نعم يشتركان في بعض الأحكام، وفي الإطلاق المجازي لكل منهما، ويمكن أن يكون قوله:"حيضًا" مفعولًا أولًا له، والنفاس مفعولًا ثانيًا، وعلى هذا فمطابقة الرواية للترجمة ظاهرة، والغرض منه دفع اشتراك أحكامهما باشتراك اسميهما.
فصار الحاصل أن ما ورد في الروايات من إطلاق اسم النفاس على الحيض، فإنه مجرد إطلاق اسم للاشتراك بينهما في أنهما دمان خارجان من الرحم، وليس ذلك لكون أحكامهما متحدةً بأسرها، ففيه شيء ما، انتهى.
وفي هامشه: حاصل كلام الشيخ أن ها هنا إشكالين: الأول في غرض الترجمة ما هو؟ والثاني في موافقة الترجمة للحديث، فإن في الحديث عكسه، ولذا قيل: إن الترجمة مقلوبة، والصواب: باب من سمى الحيض نفاسًا، وأطال الشرَّاح في هذين الأمرين بأقوال مختلفة، قال ابن بطال
(2)
: كان حق الترجمة أن يقول: باب من سمى الحيض نفاسًا، فلما لم يجد البخاري للنبي صلى الله عليه وسلم نصًا في النفساء وحكم دمها في المدة المختلفة، وسمي الحيض نفاسًا في هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض في ترك الصلاة؛ لأنه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النفاس حيضًا لاشتراكهما في التسمية من جهة اللغة أن الدم هو
(1)
"لامع الدراري"(2/ 245، 248).
(2)
"شرح صحيح البخاري"(1/ 416).
النفس، ولزم الحكم بما لم ينص عليه مما نص وحكم للنفساء بترك الصلاة ما دام دمها موجودًا، انتهى.
وقال الكرماني
(1)
: قال شارح التراجم: إن قيل: الحديث يدل على تسمية الحيض نفاسًا لا العكس، فجوابه: أن تقديره: من سمى حيضًا بالنفاس، بتقدير حرف الجر وتقدمه، أو من سمى حيضًا النفاس بتقدير تقدمه فقط، انتهى. وهذا هو مختار الشيخ.
وقال الحافظ
(2)
: قيل: يحمل على التقديم والتأخير والتقدير من سمى حيضًا النفاس، ويحتمل أن يكون المراد بقوله:"من سمى" من أطلق لفظ النفاس على الحيض فيطابق ما في الخبر بغير تكلف، انتهى.
وعند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه العليا: أن غرض الترجمة واضح لا خفاء فيه، وهو اشتراكهما في الأحكام كما أشار إليه الشيخ في "اللامع"، ونص به شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
إذ قال: حاصل ما أراده البخاري أن إطلاق الحيض على النفاس والنفاس على الحيض شائع فيما بين العرب، فكان ما ثبت من الأحكام للحيض ثابتًا للنفاس أيضًا، فلم يصرح الشارح
(4)
بالتفصيل في النفاس، هذا غرضه من حيث القصة، فتدبر، انتهى.
وهذا هو غرض الترجمة عندي أن الإمام البخاري لما لم يجد على شرطه أحكامًا للنفاس أثبت بالترجمة أن أحكامهما متحدة لاتحاد اللفظ والمعنى، فإن لفظ النفاس مشترك ومعناهما، أي: الدم الخارج من الرحم أيضًا متحد، لا يقال: إن بينهما اختلافًا في بعض الأحكام كما سيأتي؛ لأن معناه أن ما يثبت من الأحكام لأحدهما ثابت للآخر إلا ما خصَّه دليل،
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 165).
(2)
"فتح الباري"(1/ 403).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 123).
(4)
هكذا في الأصل، والصواب بدله:"الشارع".
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث يعلى بن أمية: "اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" مع أن بينهما اختلافًا في بعض الأفعال.
قال الحافظ
(1)
: قال المهلب وغيره: لما لم يجد المصنف نصًّا على شرطه في النفساء ووجد تسمية الحيض نفاسًا في هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض، وتعقب بأن الترجمة في التسمية لا في الحكم، انتهى.
وأنت خبير بأنه لا يصح التعقب؛ لأن استدلال المصنف بهذه التسمية على الحكم، فإن "الجامع الصحيح" ليس من كتب اللغة حتى يقال: إنه أراد بيان التسمية، ففي هامش "اللامع" على قول الشيخ: وفيه شيء ما: لعله أشار بذلك إلى أنه إذا لم يكن بينهما اشتراك في الأحكام فلم يبق لاتحاد الاسم فائدة.
ولذا قال العيني
(2)
: لا فائدة في الترجمة، وإليه أشار الحافظ بما تعقب على المهلب وغيره، وقد عرفت ما عند هذا العبد الضعيف أن الإمام البخاري استدل بذلك على اتحاد حكمهما، وقد أجاد في الاستدلال فما أدق نظره رضي الله عنه.
(5 -
باب مباشرة الحائض)
كتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: يعني: أنها جائزة فيما فوق الإزار، وأما فيما تحت الإزار فلا يجوز خلافًا لبعض العلماء، فإنهم يجوّزون ذلك مع التوقي عن الفرج وموضع الدم، انتهى.
قلت: والاختلاف في المسألة معروف، والروايات المذكورة في الباب تؤيد من قال بالاتزار ومنع عن المباشرة من السرة إلى الركبة، ففي
(1)
"فتح الباري"(1/ 402).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 106).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 123).
"الأوجز"
(1)
: مباشرة الحائض على ثلاثة أنواع:
أحدها: المباشرة في الفرج بالوطء وهو حرام بالنص والإجماع.
والثاني: المباشرة بما فوق السرة ودون الركبة، وهو مباح بالإجماع.
والثالث: الاستمتاع بما بينهما خلا الفرج والدبر فمختلف فيما بين الأئمة، قال أحمد ومحمد: مباح ورجحه الطحاوي من الحنفية، هكذا حكاه الحافظ في "الفتح"
(2)
، وتبعه غيره من ابن رسلان وصاحب "التعليق الممجد"
(3)
وغيرهما، لكن الطحاوي في "معاني الآثار" رجحه أولًا ثم رجع عنه، ورجح قول الإمام، وقال أيضًا في "مختصره": قال أبو جعفر: ويستمتع من الحائض بما عدا مئزرها، ويجتنب ما تحته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وبه نأخذ، انتهى.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر العلماء: لا يجوز، وهما روايتان عن أبي يوسف، انتهى ما في "الأوجز" مختصرًا.
(6 -
باب ترك الحائض الصوم)
قال الحافظ
(4)
: قال ابن رُشيد وغيره: جرى المصنف على عادته في إيضاح المشكل دون الجلي، وذلك أن تركها الصلاة كان جليًّا من أجل أن الطهارة شرط لها، والصوم لا يشترط لها الطهارة، فكان تركها له تعبدًا محضًا فاحتاج إلى ذكره، انتهى.
ولا يبعد عندي أن يقال: إن الصلاة لم تبق عليها فرضًا ولذا لم تقض، والصوم فرض عليها فتقضيه فتتركه حينئذٍ، فذكره المصنف تنبيهًا على أن تركها الصوم في هذا الوقت، وإن كان في الحديث ذكر الصلاة والصوم على نسق واحد.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 579).
(2)
"فتح الباري"(1/ 404).
(3)
"التعليق الممجد"(1/ 318).
(4)
"فتح الباري"(1/ 405).
(7 -
باب تقضي الحائض المناسك كلها. . .) إلخ
اختلفوا في غرض المصنف بهذه الترجمة، وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" مبني على ظاهر ألفاظ الترجمة، ولذا وجه الشيخ قدس سره الآثار الواردة في الباب إلى ظاهر الترجمة، وإليه مال شيخ المشايخ في "التراجم".
والحاصل: أنهم اختلفوا على أربعة أقوال:
الأول: جواز مناسك الحج غير الطواف، وإليه مال الشيخ في "اللامع"
(1)
وشيخ المشايخ في "التراجم".
الثاني: جواز قراءة القرآن للحائض، قاله ابن رُشيد تبعًا لابن بطال
(2)
، ومسألة قراءة القرآن للحائض والجنب خلافية تقدمت في باب قراءة القرآن بعد الحدث.
الثالث: جواز الطاعات البدنية غير ما ثبت منعه من الطواف والصلاة والصوم، نقله الحافظ عن البعض.
الرابع: منعها عن الطواف خاصة كما في الباب السابق منعها عن الصوم خاصة، وإليه مال العيني
(3)
، وبسط الكلام على ذلك في "اللامع" وهامشه أشد البسط.
(8 -
باب الاستحاضة)
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: أي: ماذا حكمه؟ وفي هامشه أشار الشيخ بذلك إلى غرض المصنف بهذه الترجمة، وتوضيح ذلك أنه ورد في الروايات أحكام مختلفة كثيرة كما بسطها أبو داود
(5)
والطحاوي، وبوّب
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 250)، و"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 124).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 407)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 421).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 121).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 255).
(5)
انظر: "سنن أبو داود"(ح: 274، 310)، و"شرح معاني الآثار"(1/ 98، 107).
أبو داود لكل حكم ترجمةً مستقلةً من الغسل لكل صلاة، والجمع بين الصلاتين، والغسل مرة عند انقضاء الحيض، والغسل كل يوم مرة، والغسل عند الطهر خاصة وغير ذلك، وذهب إلى كل واحد من الأحكام المذكورة ذاهب من العلماء كما بسط في "الأوجز"
(1)
، ومذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وجوب الغسل مرة عند انقضاء الحيض على الاختلاف بينهم في أن انقضاءه يكون بالعادة أو التمييز، وعلى هذا فغرض المصنف بالترجمة تأييد الجمهور بوحدة الغسل عند انقضاء الحيض خلافًا لما تقدم من الأحكام المختلفة.
لا يقال: إنه ليس في حديث الباب الاغتسال؛ لأنه سيأتي التصريح بذلك قريبًا في "باب إذا حاضت في شهر ثلاثة حيض"، فإنه ذكر فيه هذا الحديث بعينه، وفي آخره:"ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" وهذا من دأب المصنف المعروف، وهو الأصل الحادي عشر من أصول التراجم، وهذا الغرض هو الأوجه عندي في الترجمة.
ولا يبعد أيضًا أنه أشار بالترجمة إلى مسألة أخرى خلافية شهيرة بين العلماء لا سيما عند الحنفية والمالكية، وهي اعتبار العادة أو التمييز، اعتبرت الحنفية الأول وأنكرت الثانية، والمالكية على عكس ذلك، والإمامان: الشافعي وأحمد اعتبرا كليهما، كما بسط في "الأوجز" بأنهما اعتبرا العادة في المعتادة المحضة، والتمييز في المميزة المحضة، فإن كانت معتادةً ومميزةً معًا وتعارضت العادة والتمييز فالشافعي رحمة الله عليه اعتبر التمييز، وأصح قولي أحمد اعتبار العادة.
وعلى هذا فكان الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى هذا الاختلاف، وأشار بالرواية الواردة في الباب إلى دلائل الفريقين، ولم يقض فيهما بشيء
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 604، 639)، و"بذل المجهود"(2/ 327، 438).
فكانت الترجمة من الأصل الرابع من أصول التراجم، وأشار بلفظ "إذا أقبلت" إلى التمييز، فإن الإقبال والإدبار عندهم من ألفاظ التمييز كما صرَّح به الترمذي، وبلفظ "ذهب قدرها" إلى العادة فإنه كالنص على العادة، والبسط في "الأوجز"، ولا يشكل عليه ما سيأتي قريبًا من باب إقبال المحيض كما سيأتي قريبًا.
(9 -
باب غسل دم الحيض)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: دفع بذلك ما عسى أن يتوهم من مقايسته على المني أن الأمر فيه سهل أيضًا، والجامع كثرة الابتلاء والحكم بالتخفيف في المني ثبت على غير قياس فلا يعدى، انتهى.
قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر، وقد تقدم في "باب غسل الدم" من "كتاب الوضوء" أن الإمام البخاري ترجم بهذا المعنى في ثلاثة مواضع، وقد تقدم هناك الفرق بين الثلاث، ولا يبعد عندي أن الغرض ها هنا غسله من الثوب، وفيما سيأتي في غسل المحيض غسله عن البدن، كما يدل عليه الروايات التي أوردها الإمام البخاري في البابين، فإن الروايتين الواردتين في الباب الأول نصَّان في الثوب، والرواية الواردة في الباب الثاني كالصريحة في البدن لقوله صلى الله عليه وسلم:"خذي فرصة ممسكة" الحديث، وفي الرواية التي قبلها:"فتطهري بها"، قلت:"تتبعي بها أثر الدم".
(10 -
باب اعتكاف المستحاضة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن الاستحاضة لا تمنع شيئًا مما كان يمنعه المحيض غير أنها تحتاط في تلويث المساجد وغيرها، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 257).
(2)
المصدر السابق (2/ 257).
وفي هامشه: اعتكاف المستحاضة مجمع عليه لم أر فيه اختلافًا، ومع ذلك احتاج الإمام البخاري إلى تبويبه؛ لأن الظاهر من أحكام المسجد أن يكون ذلك حرامًا، قال صاحب "الدر المختار"
(1)
: لا يجوز البول والفصد ولو في إناء، وقال ابن عابدين: قوله: الفصد ذكره في "الأشباه" بحثًا فقال: أما الفصد فيه في إناء فلم أره، وينبغي أن لا فرق، أي: لا فرق بينه وبين البول، انتهى.
ومقتضاه أن لا يجوز اعتكاف المستحاضة.
قوله: (اعتكف معه بعض نسائه) قال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من كانت مستحاضة، قال: والظاهر أن عائشة أشارت بقولها: "من نسائه" أي: من النساء المتعلقات به، وهي أم حبيبة، ورد الحافظ في "الفتح" على قول ابن الجوزي هذا، وأثبت استحاضة بعض أمهات المؤمنين، وبسط الكلام عليها في "الفتح"
(2)
، وهكذا بسط الكلام عليه في "الأوجز".
(11 -
باب هل تصلي المرأة في ثوب. . .) إلخ
وكتب شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: غرض الباب إثبات جواز ذلك لمكان اعتياد النساء قبل الإسلام بتبديل الثياب بعد انقطاع الحيض، وكن يرين ذلك واجبًا، انتهى.
وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر الحديث الوارد فيه، لكن يشكل عليه تبويب المصنف عليه بلفظ "هل"، ولا يبعد عندي أنه أشار بذلك إلى حديث أم سلمة الماضي في "باب من سمى النفاس حيضًا" والآتي في "باب النوم مع الحائض" بلفظ: فأخذت ثياب حيضتي، وهو يدل على أن ثياب الحيضة
(1)
انظر: "رد المحتار"(2/ 429).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 411)، و"أوجز المسالك"(1/ 631).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 128).
كانت غير ثياب الطهر، فالظاهر أنها لا تصلي في ثياب الحيضة، وهو الأصل الثاني والثلاثون من أصول التراجم، ويجمع بين الروايتين بأن أم سلمة كانت لها ثياب الحيضة، وليست عند عائشة، وقد وردت الروايات العديدة المصرحة بجواز الصلاة في ثياب الحيضة في "سنن أبي داود"
(1)
.
(12 -
باب الطيب للمرأة. . .) إلخ
في "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": يعني: أنه سُنَّة، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: أي: متأكد بحيث إنه رخص للحادة التي حرم عليها استعمال الطيب، انتهى.
وفي هامشي على "البذل" عن ابن رسلان: هو سُنَّة مؤكدة، يكره تركه بعد الغسل على المذهب، وقيل قبله، وإن لم تجد مسكًا فشيء آخر من الطيب، انتهى.
ويحتمل عندي أن يكون الغرض أن الوارد في الروايات من الفرصة الممسكة مقصودها الطيب لا نفس المسك لأجل العلوق.
وكتب الشيخ في "البذل"
(4)
: قال النووي: والمقصود باستعمال الطيب دفع الرائحة الكريهة على الأصح، وقيل: لكونه أسرع إلى الحبل حكاه الماوردي، انتهى.
قال العيني
(5)
: قال ابن بطال: أبيح للحائض محدًا أو غير محد عند غسلها من الحيض أن تدرأ رائحة الدم عن نفسها بالبخور بالقسط مستقبلة للصلاة ومجالسة الملائكة لئلا تؤذيهم برائحة الدم، انتهى.
(1)
انظر: "سنن أبي داود"(ح: 357، 365).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 129).
(3)
"فتح الباري"(1/ 413).
(4)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 452)، و"شرح صحيح مسلم"(2/ 250).
(5)
"عمدة القاري"(3/ 136)، وانظر:"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 438).
قوله: (من كست أظفار) وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أوجه التقادير فيه أنه عطف بحذف حرف العطف، وهو جار في المحاورات، أي: قسط أظفار، أيما كان منهما أو غيرهما من الطيب، ودلالة الرواية على الترجمة واضحة، فإنها لها أذن لها في التطييب وهي معتدة مع أن المعتدة ممنوعة من الطيب، فالتي ليست معتدة أولى بإتيان الطيب وتلبسه، انتهى.
وفي هامشه عن تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: من "كست أظفار"، هذا كان في الأصل: من كست وأظفار بالعطف، وهما نوعان من الطيب، لكنه أضاف الكست إلى الأظفار للتشبيه في القلة، أي: من كست مثل أظفار، والكست "الكت" والأظفار "نكَـ" ونسخة كست ظفار ظاهر، وظفار اسم مدينة، انتهى.
قلت: و"نكَـ" طيب معروف في الهند يكون مثل الظفر، يبخر بها الثياب كثيرًا لا سيما ثياب العروس، ويؤيد ما أفاده الشيخ من العطف ما في "الفتح"
(2)
: ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه: من "قسط أو أظفار" بإثبات "أو" وهي للتخيير.
قال العيني
(3)
: وقع في مسلم: "قسط وأظفار" وهو الأحسن فإنهما نوعان، انتهى.
قلت: ولا اختلاف بين الحافظين فإن الواو وأو كليهما روايتان لمسلم إلى آخر ما في هامش "اللامع".
(13 -
باب دلك المرأة نفسهما. . .) إلخ
أشكل بأنه ليس في الحديث كيفية الغسل ولا الدلك.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
على قوله: "تتبعي بها أثر الدم. . ." إلخ، ولا يفيد التطيب إلا إذا كان بعد إزالة الدم عن ذلك الموضع، فثبت
(1)
"لامع الدراري"(2/ 257، 259).
(2)
"فتح الباري"(1/ 414).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 134).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 259، 261).
دلكه ضرورةً؛ لأنه لا يزول إلا بالدلك، وهذا إذا كان المراد بالنفس في الترجمة هو المقام المخصوص الذي هو محل الدم، وإن أريد بالنفس ذات المرأة وسائر بدنها فإثبات الدلك لها مجرد قياس؛ لأنها لما أمرت بإزالة الوسخ عن هذا المقام بذاك الاهتمام وباستعمال الطيب أيضًا بعد الغسل والدلك، فأولى أن يثبت ذلك لسائر بدنها، وقد توسخ في مدة ذاك مع أنها تلابس المسلمات، وتقبل على الرب تبارك وتعالى في الصلوات والدعوات، وتتلبس بالملائكة، فأولى أن تؤمر بتنظيف بدنها وإزالة أوساخه، ولا يحصل إلا بالدلك، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح، وفي تقرير مولانا حسين علي الفنجابي: المناسبة أن التتبع لزيادة النظافة ويفهم الدلك، فإن فيه النظافة، أو يقال باستخراجه من صيغة التطهير للمبالغة، انتهى.
وكذا في تقرير مولانا محمد حسن المكي إذ قال: دلك المرأة يستنبط من قوله: "تطهري"، وكذا من قوله:"تتبعي"؛ لأنهما من صيغة المبالغة، فإذا كانت مبالغة الطهارة في باطن البدن كانت في ظاهره أيضًا بالدلك، انتهى.
وفي أخرى له رحمه الله: قوله: "تتبعي" أي: ضعي في داخل فرجك ليحصل له القوة، ويندفع النتن، وليس هذا محل الترجمة، بل محل الترجمة حذف من هذا الحديث، وفي الحديث اختصار، انتهى.
وهو مختار الحافظ في "الفتح"
(1)
، إذ قال: قيل: ليس في الحديث ما يطابق الترجمة.
وأجاب الكرماني
(2)
تبعًا لغيره: بأن تتبع الدم يستلزم الدلك بأن المراد من كيفية الغسل الصفة المختصة بغسل المحيض وهي التطيب لا الاغتسال، وهو حسن، وأحسن منه أن المصنف أشار حسب عادته إلى الروايات الدالة
(1)
"فتح الباري"(1/ 414).
(2)
"شرح الكرماني"(3/ 182).
على ذلك وإن لم يكن المقصود منصوصًا فيما ساقه، ففي رواية أخرجها مسلم
(1)
: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكا شديدًا، حتى تبلغ شؤون رأسها - أي: أصوله - ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة" الحديث، فهذا مراد الترجمة لاشتمالها على كيفية الغسل والدلك، انتهى.
ولا يبعد عندي أن تكون الترجمة شارحة على الأصل الثالث والعشرين، والغرض منه الرد على من حمل المسك على الطيب المعروف كما حمله عليه بعضهم، وأكثر العلماء على أن المراد من المسك الجلد ليكون أنجح في الدلك، فالظاهر أن الإمام البخاري أشار بلفظ الدلك في الترجمة إلى أن المراد منه ما يناسب الدلك لا الطيب، فإنه قد أثبته في الترجمة السابقة.
وقوله: (فرصة ممسكة) قال الحافظ
(2)
: بكسر الفاء، وحكى ابن سيده تثليثها وبإسكان الراء وإهمال الصاد: قطعة من صوف أو قطن أو جلدة عليها صوف، وقال ابن قتيبة: هي قرضة بفتح القاف وبالضاد المعجمة، انتهى، كذا في "البذل"
(3)
.
وفي هامشي على "البذل": قوله: "ممسكة" قال ابن رسلان: بضم الميم الأولى وسكون الثانية وفتح السين أو كسرها، قاله القيسي، وقال القرطبي: روايتنا ضم الميم الأولى وفتح الثانية وتشديد السين، أي: مطيبة بالمسك، وقال الزمخشري: الممسكة الخلقة، يعني: لا تستعمل الجديد؛ لأن الخلق أوفق حالًا، قال في "النهاية": الأقوال كلها بعيدة، والأوجه قطعة من مسك ليزيل الرائحة الكريهة لا للعلوق، انتهى ما في هامشي على "البذل".
(1)
"صحيح مسلم"(ح: 332).
(2)
"فتح الباري"(1/ 415).
(3)
"بذل المجهود"(2/ 452).
(14 -
باب غسل المحيض)
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: ضبطوه بضم الغين وفتحها، فإن كان الأول فذاك، وإن كان الثاني ففيه تكرار إذ قد تقدم "باب غسل دم الحيض" إلا أن يحمل الباب المتقدم على غسل الثوب، وهذا على غسل البدن كما هو الظاهر من الروايتين الموردتين فيهما، وحينئذ فلا تكرار على أي من الروايتين، انتهى.
وبسط في هامشه كلام الشرَّاح في غرض الترجمة وتكرارها، وفيه: والأوجه عندي أن الباب بضم الغين، والغرض بيان الاغتسال من المحيض وكيفيته، وتقدم في بيان غسل الجنابة في "باب تخليل الشعر" أن ميل الإمام البخاري عند هذا الفقير إلى ما روي عن الإمام أحمد من الفرق بين الاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض في نقض الضفائر، فبين ها هنا كيفية الاغتسال من الحيض، والبابان الآتيان جزءان من هذا الباب، نبَّه بهما على بيان الفرق خاصة، فتأمل، انتهى.
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": يعني: أنه واجب ثابت ومناسبة الحديث بالترجمة قول الأنصارية: "كيف أغتسل؟ " يدل على أن أصل الغسل مسلم الثبوت والسؤال إنما هو عن كيفيته، انتهى.
(15 -
باب امتشاط المرأة. . .) إلخ
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: وإثبات الحكم بحديث الباب قياس؛ لأن المذكور فيه ليس هو الامتشاط عند الغسل من المحيض، وإنما كان غسلها لأجل التطيب والنظافة، وكانت في غسلها حائضة، فلما أمرها بالامتشاط في هذا الغسل فأولى أن تمتشط في الغسل عن المحيض؛ لأن
(1)
"لامع الدراري"(2/ 261، 262).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 129).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 263).
الطيب والطهارة فيه أحب؛ لأنه للصلاة، وهذا إنما كان لأفعال الحج بل كان زائدًا غير مفتقر إليه؛ لأن غسل الإحرام قد كان منها قبل ذلك ولم تبق محرمة، انتهى.
وفي هامشه: سكت الشرَّاح عن غرض المصنف بهذا الباب، والأوجه عندي: أن هذا الباب الآتي جزءان من الباب السابق، والمقصود من الثلاثة بيان كيفية غسل المحيض، انتهى.
وما حكى الحافظ في "
باب نقض المرأة شعرها
"، لخصه من كلام الموفق، ووقع فيه اختصار مخل، كما نبَّهت عليه في هامش "اللامع"، انتهى ما في الهامش.
(16 - باب نقض المرأة شعرها)
تقدم في الباب السابق أن هذا الباب جزء من الباب السابق، وقد تقدم أيضًا بيان المذاهب في تلك المسألة.
(17 -
باب قول الله عز وجل: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} )
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك أن المخلقة يطلق على معنيين:
أحدهما: ما تم خلقه وكمل، وغيره المخلقة بحسب ذلك ما فيه نقص ما، والثاني: ما لم يأخذ في الصورة ولم يتكوّن إلا قليل منه كيد أو رجل، وغير المخلقة حينئذ ما لم يتخلق شيء منه.
فإن كان المراد هو الأول من معنييه فالغرض من إيراده أن المخلقة وغير المخلقة مستويان في الأحكام، كانقضاء العدة وحكم النفاس وغير ذلك، وإن كان المراد هو الثاني فإيراده لإفادة أن المخلقة وغير المخلقة
(1)
"لامع الدراري"(2/ 264، 268).
ليستا مسويتين في الحكم، بل المخلقة منهما له حكم الولد في الأحكام المذكورة دون غير المخلقة، حتى لا يكون ما يتعقب غير المتخلقة بهذا المعنى من الدم نفاسًا، بل كان حيضًا، انتهى.
وفي هامشه: واختلفوا في غرض المؤلف بهذه الترجمة، ولا ريب في أن غرض المصنف بها ها هنا خفي، فاعلم أولًا أن هذه قطعة من الآية التي في أول سورة الحج، وترجمها في تفسير "بيان القرآن"
(1)
بلفظ: "بهر بوىى س (كه علقه ميى سختي آجان س حاصل هوتا هـ) كه (بعض) بوري هوتي هـ (كه اس ميى بور أعضاء بن جات هيى) اور (بعض) ادهورىِ بهي (هوتي هع كه بعضل أعضاء ناقص ره جات هيى) "، انتهى.
وفي "الجمل"
(2)
: مخلقة تامة الخلق، وغير مخلقة، أي: غير تامة الخلق، يعني: غير مصورة أو غير تامة التصوير، انتهى.
ثم اختلف شرَّاح البخاري في غرض المصنف بهذا الباب، وأجاد الشيخ في توجيه الغرض حتى صح إدخالها في كتاب الحيض.
وقال شيخ المشايخ في "التراجم": غرضه تفسير هذا اللفظ من القرآن، وإيراده في كتاب الحيض لأدنى مناسبة، انتهى.
وبذلك جزم بعض الشراح منهم الحافظ، ويشكل عليه أنه كان حقه إذا كتاب التفسير، وقال ابن بطال
(3)
: غرضه في إدخاله في الحيض تقوية مذهب من يقول: إن الحامل لا تحيض، وهو قول الكوفيين وأحمد وإليه ذهب الشافعي في القديم، وفي الجديد: أنها تحيض، وعن مالك روايتان، انتهى.
(1)
"بيان القرآن"(7/ 62).
(2)
"تفسير الجمل"(3/ 152).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 149)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 444).
قلت: والمشهور منهما أنها تحيض، وعليه مشى الإمام مالك في "الموطأ" كما بسط في "الأوجز"
(1)
، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع".
والأوجه عندي: أن يكون هذا الباب من أبواب النفاس، أي: كون هو بعد كلتي المولودتين تامة وغير تامة.
(18 -
باب كيف تهل الحائض)
هذا باب رابع بلفظ "كيف"، وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ" قُدِّس سرُّه: قال القسطلاني في معناه
(3)
: ليس المراد بالكيفية الصفة بل بيان صحة إهلال الحائض، وعندي أنه على الظاهر، والغرض إثبات صفة الإهلال إذا أهلت الحائض، وهي أن يكون إهلالها مقرونًا بالغسل وإن كان ذلك الغسل في أثناء الحيض، وغسل عائشة رضي الله عنها يحتمل ذلك، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: مراده صحة إهلال الحائض، ومعنى "كيف" في الترجمة الإعلام بالحال بصورة الاستفهام لا الكيفية التي يراد بها الصفة، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من زعم أن الحديث غير مناسب للترجمة، إذ ليس فيها ذكر صفة الإهلال، انتهى.
قلت: والظاهر عندي أن المصنف نبَّه بلفظ: "كيف" على كيفية الغسل بأنه مستحب أو واجب؛ لأنه وقع في أثناء الحيض فليس بمطهر، فأشار بلفظ "كيف" على هذا الغسل، أي: كيفيته باعتبار الحكم، فهذا الغسل مستحب عند الكل، غير ابن حزم فإن غسل الحائض والنفساء فرض عنده كما في "جزء حجة الوداع"
(5)
عن "العيني".
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 593).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 131).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 651).
(4)
"فتح الباري"(1/ 419).
(5)
"جزء حجة الوداع"(ص 71)، وانظر:"عمدة القاري"(7/ 83)، و"المحلى" لابن حزم (5/ 68).
(19 -
باب إقبال المحيض وإدباره. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أن لهما علامات يعرفان بها، وأن حكم الإقبال غير حكم الإدبار، ففي الأول ترك الصلاة والصوم وغيرهما، وفي الثاني خلافه إلى غير ذلك، ثم إن ذلك في أيام الحيض، انتهى.
وفي هامشه: لم يتعرض الشرَّاح عن غرض المصنف بالترجمة، وما يظهر من كلام الحافظ أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى اختلافهم فيما يعرف به إدبار الحيض إذ قال: اتفق العلماء على أن إقبال الحيض يعرف بالدم في وقت إمكان الحيض، واختلفوا في إدباره فقيل: يعرف بالجفوف، وهو أن يخرج ما يحتشى به جافًا، وقيل: بالقصة البيضاء، وإليه ميل المصنف، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى ما هو المصطلح المعروف عند المحدثين أن لفظ الإقبال والإدبار عندهم من مستدلات التمييز بالدم، ولذا أورد الإمام البخاري فيه ما يتعلق بالألوان، والحنفية لما لم يقولوا بالتمييز حملوا روايات الإقبال والإدبار على إقبال أيام العادة، والإمام البخاري لم يفصح في ذلك بشيء، بل نبَّه بالترجمة على ما هو المصطلح عندهم، فلا ينافي ما قلته في باب الاستحاضة، بل لو قيل: إن المصنف مال إلى عدم الاعتبار بالتمييز لكان له وجه؛ لأنه أتى في الباب بأثر عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، فإنه صريح في عدم الاعتبار بالتمييز.
قوله: (ترين القصة) كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أي: أن الطهر لا يتحقق إلا إذا كان البياض الخالص، انتهى.
وبسط في هامشه الكلام في معنى القصة هل المراد بها القطنة التي أدخلت في الفرج فتخرج بيضاء نقية لا يخالطها صفرة؟ وقيل: القصة ماء أبيض يخرج من فرج المرأة عند انقطاع الحيض.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 268).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 270).
(20 -
باب لا تقضي الحائض الصلاة)
في "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": معناه: أن الحائض تترك الصلاة ولا تقضيها، وتعليق الباب للجزء الأول فما قال القسطلاني
(2)
: إن ترك الصلاة يستلزم عدم قضائها؛ لأن الشارع أمر بتركها، والمأمور بتركه لا يجب فعله، فلا يجب قضاؤه، لا حاجة إليه على أنه منتقض بالصوم، فتأمل، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: فإن قيل: الترجمة لعدم القضاء، وهذان الحديثان لعدم الإيقاع، فما وجه المطابقة؟
أجاب الكرماني
(4)
: بأن الترك في قوله: "تدع الصلاة" مطلق أداءً وقضاءً، انتهى.
وهو غير متجه؛ لأن منعها إنما هو في زمن الحيض فقط، وقد وضح ذلك من سياق الحديثين، والذي يظهر لي أن المصنف أراد أن يستدل على الترك أولًا بالتعليق، وعلى عدم القضاء بحديث عائشة، فجمل المعلق كالمقدمة للحديث الموصول الذي هو مطابق للترجمة، والله أعلم، انتهى.
(21 -
باب النوم مع الحائض. . .) إلخ
الظاهر عندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى رد ما يتوهم من رواية أبي داود
(5)
: عن عائشة قالت: "كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندن منه حتى نطهر".
وكتب الشيخ في "البذل"
(6)
: هذا الحديث يخالف
(7)
الأحاديث
(1)
"شرح تراجم أبواب تراجم البخاري"(ص 131).
(2)
"إرشاد الساري"(1/ 653).
(3)
"فتح الباري"(1/ 421).
(4)
"شرح الكرماني"(3/ 192).
(5)
"سنن أبو داود"(ح: 271).
(6)
"بذل المجهود"(2/ 323).
(7)
أجاب عنه ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"(ص 235).
المتقدمة الصحيحة، فلا بد من التأويل فيه، قال صاحب "المجمع": والحديث منسوخ إلا أن يحمل القرب على الغشيان، انتهى.
أو يؤول بأن ترك القرب والدنو كان من جانب عائشة رضي الله تعالى عنها لا منه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي هامشي على "البذل": قال ابن رسلان: حديث أبي داود متمسك ابن عباس وأبي عبيدة، وهو موافق لما حكاه النووي في "الروضة" تبعًا للرافعي، وهو قول شاذ من أقوال العلماء، انتهى.
وفي الأوجز
(1)
عن العيني: وحكي عن عبيدة السلماني وغيره أنه لا يباشر شيئًا من الحائض قط، وهو قول شاذ منكر مردود بالأحاديث الصحيحة المذكور في الصحيحين وغيرهما في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار، انتهى.
(22 -
باب من اتخذ ثياب الحيض. . .) إلخ
وفي "تراجم
(2)
شيخ المشايخ": الاستدلال بحديث الباب موقوف على أن يحمل قول أم سلمة رضي الله عنها: "فأخذت ثياب حيضتي" على الثياب التي يلبسها الإنسان، دون الخرق التي تحتشي بها الحائض عند ظهور دم الحيض، ويحتمل ذلك أيضًا، انتهى.
قلت: إرادة القطن بالثياب بعيد، وأجاب عنه القسطلاني
(3)
: بأنها رضي الله عنها كَنَّتْ عن الخرق بالثياب تجملًا وتأدبًا، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين ما تقدم:"ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد"؛ لأنه باعتبار وقتين: حالة الإقتار وحالة السعة، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 579)، و"عمدة القاري"(3/ 111).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 132، 133).
(3)
"إرشاد الساري"(1/ 656).
قلت: أو باعتبار المرأتين، فإن عائشة رضي الله عنها لكثرة صدقاتها لا تترك شيئًا في بيتها كما هو معروف من عادتها، والأوجه عندي في غرض المصنف بالترجمة دفع ما يتوهم من حديث عائشة المتقدم بلفظ: لم يكن لنا إلا ثوب واحد، أن اتخاذ الثياب للحيض خاصة إسراف، فدفعه الإمام البخاري بهذه الترجمة.
(23 -
باب شهود الحائض العيدين. . .) إلخ
غرض المؤلف بهذه الترجمة يحتمل عندي وجهين:
أحدهما: دفع ما يتوهم أنها إذا كانت ممنوعة عن الصلاة فلا فائدة في خروجها إلى المصلى، مع أن خروج المرأة عن بيتها شنيع.
والوجه الثاني: بيان أن المصلى ليس في حكم المسجد في منع دخول الحائض، وهو مذهب الجمهور خلافًا لما حكى بعضهم من عدم جواز دخولهن في المصلى؛ لأنه يشبه المسجد، كما في هامش "اللامع"
(1)
في "باب اعتزال الْحُيَّض المصلى" من كتاب العيدين، وسيأتي هناك أيضًا "باب خروج النساء والْحُيَّض إلى المصلى".
(24 -
باب إذا حاضت في شهر. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: وهذا مبني على أنه لم يتحقق عند قائله أقل مدة الحيض والطهر، ومبنى الاستدلال بالرواية أنها مطلقة من ذكر المقدار، فلا ينبغي التقييد بشيء من الأيام، إلا أن الإمام لما تحققت له الرواية ذهب إلى أنهما مقدران شرعًا، ومعنى قوله: لقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} الآية [البقرة: 228]، أن الكتمان لما كان حرامًا عليهن بهذه الآية كان حمل قولهن على الكذب حملًا لمقالة المسلم على الكذب، ولا يجوز ذلك، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(4/ 124).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 271، 276).
وفي هامشه: قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: أي: هو ممكن، وإذا ادعت المرأة ذلك تُصُدِّقَتْ فيه، والآية دالة على أن قولها مقبول فيه، وجميع تعاليق الباب دالة على أنه ليس في الحيض تحديد، وإنما هو مفوض إلى قول المرأة لكن فيما يمكن، انتهى.
وسكت الشَّراح عن غرض المصنف بالترجمة.
والظاهر عندي: أن الإمام البخاري ذكر في الباب مسألتين:
أولاهما: اختلافهم في مدة الحيض، وعليه يتفرع ما في الترجمة من الادعاء بثلاث حيض في شهر، وإليه أشار الشيخ في "اللامع" بقوله: هذا مبنى. . . إلخ، فالترجمة في هذا الجزء من الأصل الثامن عشر من أصول التراجم.
والمسألة الثانية: صرح بها بقوله: "وما يصدق النساء" وهو كالنص في غرضه، والاستدلال بالآية بأنها تدل على وجوب إظهارها، فلو لم تصدق فيه لم يكن للإظهار فائدة.
وأجاد صاحب "البدائع"
(2)
إذ قال: تصدق في قولها؛ لأنها أمينة في أخبارها عن انقضاء عدتها، فإنه تعالى ائتمنها في ذلك في قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} الآية [البقرة: 228]، والقول قول الأمين مع اليمين كالمودع، ثم لا يقبل قولها فيما لا تحتمله المدة؛ لأن قوله الأمين يقبل فيما لا يكذبه الظاهر، انتهى.
أما المسألة الأولى: فاختلفوا في تحديد الحيض والطهر، أما الحيض فمسلك الحنفية أن أقله ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة، وقال الشافعي وأحمد: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا ولياليها أو سبعة عشر، قولان لكل منهما، وقال مالك: لا حد لأقله، وأكثره سبعة عشر أو ثمانية
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 133).
(2)
"بدائع الصنائع"(3/ 314).
عشر، وأما الطهر فأقله ثلاثة عشر يومًا عند أحمد، وقالت الأئمة الثلاثة: خمسة عشر يومًا، ذكر أبو ثور أن ذلك لا يختلفون فيه، انتهى. كذا في "الأوجز"
(1)
.
ثم عدة المطلقة ثلاثة قروء بالنص، ولا خلاف بينهم في ذلك، واختلفوا في المراد بالقرء فقالت: الحنفية: المراد به الحيض، وهو الذي رجع إليه أحمد وهو المرجح في مذهبه، وقوله الآخر: إن المراد به الطهر، وهو مذهب الشافعي ومالك، كذا في "الأوجز".
وإذا عرفت ذلك فقد عرفت أن المرأة إذا ادعت بثلاث حيض في شهر يقبل دعواها في المرجوح عند أحمد، بل يقبل عنده على هذا القول في ثمانية وعشرين يومًا ولحظتين، وكذلك يقبل قولها عند مالك في ثلاثين يومًا وأربع لحظات، ولا يقبل قولها عند الشافعي في أقل من اثنين وثلاثين يومًا ولحظتين، انتهى.
قلت: وتوضيح مسالك الأئمة الثلاثة هكذا:
. . . . الطهر الذي طلق فيه
…
الحيض الأول
…
الطهر بعده
…
الحيض الثاني
…
الطهر بعده
…
بدء الحيض الثالث الذي تمت فيه العدة
عند مالك
…
لحظة
…
لحظة
…
15 يوم
…
لحظة
…
15 يوم
…
لحظة
…
فالمجموع 30 يومًا وأربع لحظات
عند الشافعي
…
لحظة
…
1 يوم
…
15
…
1 يوم
…
15 يوم
…
لحظة
…
فالمجموع 32 يومًا
عند أحمد في المرجوع عنه
…
لحظة
…
1 يوم
…
13
…
1 يوم
…
13 يوم
…
لحظة
…
فالمجموع 28 يومًا ولحظتان
وأما عندنا الحنفية فاختلفت الروايات والتخاريج في ذلك جدًا كما بسط في "البدائع"
(2)
والمعروف في شروح "البخاري" وغيرها أنها لا تصدق
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 623).
(2)
انظر: "بدائع الصنائع"(3/ 314، 316).
عند الإمام في أقل من ستين يومًا، وتصدق عند صاحبيه في تسعة وثلاثين يومًا وذلك لأن العدة عندهم على الحيض، فلا بد من ثلاث حيض، والحيض مقدر الطرفين ولا حدّ لأكثر الطهر، وأقله خمسة عشر يومًا، فوجه قول الإمام أنه يبعد أن يعتبر الأقل من كل منهما، فالاعتدال أن يعتبر الأقل من جهة والأكثر من جهة أخرى، ولما لم يكن لأكثر الطهر حدّ فلا بد أن يعتبر الأقل منه والأكثر من الحيض، فيكون المجموع ستين يومًا، ووجه قول صاحبيه أن أقل ما يمكن تصديقها فيه أن يعتبر الأقل من كل الجهتين، فيكون المجموع تسعة وثلاثين، والصورة هكذا:
. . . . طهر الطلاق
…
الحيض الأول
…
الطهر بعده
…
الحيض الثاني
…
الطهر بعده
…
الحيض الثالث
…
المجموع
عند الإمام
…
لحظة
…
10
…
15
…
10
…
15
…
10
…
60 يومًا
عند صاحبيه
…
لحظة
…
3
…
15
…
3
…
15
…
3
…
39 يومًا
عند أحمد في المرجوع إليه
…
لحظة
…
1
…
13
…
1
…
13
…
1
…
29 يومًا
وعلم من هذا كله أن ترجمة الإمام البخاري توافق الإمامين: مالكًا وأحمد، ولا توافق الحنفية والشافعية، انتهى ما في هامش "اللامع" مختصرًا.
قوله: (دعي الصلاة قدر الأيام) قال الحافظ
(1)
: مناسبة الحديث للترجمة من قوله: "قدر الأيام" فوكل ذلك إلى أمانتها ورده إلى عادتها، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، انتهى.
وقال الكرماني
(2)
: المناسبة في إبهام الأيام، وهو محتمل لكون ثلاث حيض في الشهر، انتهى.
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: محل المناسبة بالترجمة قوله: "ولكن دعي الصلاة" فإنه دليل على أنه فوض الأمر إلى فاطمة، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 325).
(2)
"شرح الكرماني"(3/ 200).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 133).
(25 -
باب الصفرة والكدرة)
وفي "تراجم
(1)
شيخ المشايخ": يعني: أنهما ليستا من الحيض، ولا تمنعان الصلاة والصوم، وبعض الفقهاء عدوهما من الحيض، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "في غير أيام الحيض" قصد بهذه الزيادة جمع ما بين الروايات من التعارض، فقد تقدم من قول عائشة أنها قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ففيه دلالة على أن الصفرة والكدرة من الحيض، وها هنا وقع التصريح بخلافه، فأشار إلى الجمع بينهما بأن هذا في غير أيام الحيض، وذلك فيها، انتهى.
وفي هامشه: وبذلك جزم جميع العلماء ثم بسطه، قلت: والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى حديث أبي داود برواية أم عطية رضي الله عنها قالت: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا"، فإن قوله: بعد الطهر هو الذي أشار إليه البخاري بلفظ: في غير أيام الحيض، ولا يشكل على الأئمة ما تقدم من اختلافهم في المستحاضة من اعتبار لون الدم؛ لأنها في المستحاضة دون الحيض، فإن ألوان دم الحيض عديدة عند الجميع لا يختص بلون واحد إلى آخر ما بسطه.
وذكر صاحب "الفيض"
(3)
فهدر البخاري مسألة التمييز بالألوان، إلا أنه قيَّدها بغير أيام الحيض، ومفهومه اعتبارها في أيام الحيض، قال الحنفية: معنى الحديث: أنه لم تكن عندنا مسألة التمييز بالألوان، فكنا نعدّها كلها حيضًا، وقال الشافعية: معناه: إنا كنا نعد التمييز بالألوان، فنعدّ الحمر والسواد حيضًا، ولا نعد الكدرة والصفرة شيئًا لكونها استحاضة.
والشرح الثالث للبخاري وحاصله: إنا كنا نلغي الألوان في غير أيام الحيض، ومفهومه: إنا كنا نعتبرها في أيام الحيض، ففصل بين رؤية الألوان
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 135).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 278).
(3)
"فيض الباري"(1/ 392).
في أيام الحيض وبين رؤيتها في الخارج، وهذا التفصيل من جانبه، وكأن البخاري ذهب إلى التمييز بالألوان من وجه وهدره من وجه، وبالجملة لكلامه ثلاثة شروح:
الأول: إنا لم نكن نعتبر الألوان في مدة الحيض، ونعتد كلها من الحيض، نعم كنا نعتمد بها إذا رأيناها من غير أيام الحيض، وحينئذ وافقنا المصنف في مسألة التميز بالألوان وهدرها.
والثاني: إنا لم نكن نعدّ الألوان شيئًا من غير أيام الحيض، أما إذا كانت في أيام الحيض فكنا نعتبر بها، وهذا موافق للشافعية.
والثالث: عدم عبرتها مطلقًا، انتهى.
وأنت خبير بأن ما في "اللامع" أوفق من ظاهر البخاري.
(26 -
باب عرق الاستحاضة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أي: باب بيان أن دم الاستحاضة دم عرق، وليس خارجًا من أحد السبيلين، فلا يتحد حكمهما لما فيهما من بون في الأصل والذات، فيكون سببًا للاختلاف في الآثار والثمرات، انتهى.
وكتب الشيخ أيضًا في "الكوكب"
(2)
: قوله: إنما ذلك دم عرق. . . إلخ، فيه دلالة على أن الحكم في الخارج من السبيلين وغيرهما مشترك في النقض، وإن كان التفاوت بينهما ثابتًا، بوجوه مفصلة في الفقه، ولا يتوهم خروج دم الاستحاضة من إحدى السبيلين، وإن كان هذا هو الظاهر بحسب ما يبدو للناظر، وذلك لأن المراد بالسبيل ها هنا مخرج البول لا أعم منه، ودم الاستحاضة لا يخرج منه كما هو ظاهر لمن له أدنى درية بأحوالهن، نعم سبيل المني والاستحاضة واحد، وكذلك الحكم في سبيل البراز، فإن الخارج منها الظاهر لا يؤتى له حكم الخارج من المبرز ما لم يكن منه
(1)
"لامع الدراري"(2/ 281).
(2)
"الكوكب الدري"(1/ 168).
حقيقة، كما في غُدد البواسير فإن الطهارة لا تنتقض بخروج شيء منها ما لم يسل؛ لأنها غير السبيلين، فالخارج منها ليس له حكم الخارج منها، بل هو خارج عن حكمها، وقاسوا على دم الاستحاضة كل ما هو خارج من غير السبيلين نجس، وجعلوا الخارج النجس من غير السبيلين ناقضًا للوضوء بهذا الحديث وأمثاله، غير أن قوله صلى الله عليه وسلم في جواب السائل ما الناقض؟:"كل ما خرج من السبيلين" أهدر التفاوت بين الكثير والقليل إبقاءً لكلمة ما على عمومها سيما وقد وصفت بصفة عامة، ولا كذلك فيما خرج من غير السبيلين، وليس هذا موضع تفصيله، انتهى.
وفي هامشه: ففي "الفتح الرحماني" عن "نهاية النهاية": أن مدخل الذكر هو مخرج الولد والمني والحيض، وفوقه مخرج البول كإحليل الرجل، وبينهما جلدة رقيقة وفوق مخرج البول جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، كذا في "الأوجز"
(1)
، انتهى.
وفي هامش "اللامع" على قول الشيخ: "إن دم الاستحاضة دم عرق": تقدم في باب الاستحاضة من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة" الحديث، وهو أوضح في المقصود، فإن الحيض في اللغة: السيلان، وفي الشرع: دم يخرج من قعر رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معدودة، والاستحاضة: الدم الخارج في غير أوقاته، ويسيل من عرق فمه في أدنى الرحم اسمه العاذل - بالذال المعجمة - انتهى.
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(2)
: قوله: "ذلك عرق" قيل: معناه: إنه ليس دم الرحم حتى يوجب ترك الصلاة والصوم، بل هو دم عرق، فإن قيل: قد تقرر عند الأطباء أن دم الاستحاضة ينفض من الرحم أيضًا فما معنى قوله: "ذلك عرق"؟
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 508).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 127).
قلت: معناه إنما ذلك وجع ومرض فيه، وإطلاق العرق وإرادة المرض والوجع؛ لأن اجتماع الدم وفساده فيه، فهو غالبًا يكون مسببًا للوجع والمرض، فعلى هذا لا مخالفة بين الحديث وبين ما قالته الأطباء، على أن الأطباء أيضًا معترفون بأن أكثر الأمراض بل جلها تكون من سوء مزاج في العروق، انتهى.
قلت: ويشكل عليه أن الاستحاضة مشتق من الحيض، والسين للمبالغة أو التحول، والجواب واضح بأن الاشتقاق باعتبار المعنى اللغوي وهو السيلان واشتركا فيه، وأما باعتبار المعنى الشرعي فدمان مختلفان، ولذا فرق في أحكامهما عند الشرع، ونص عليه الشارع عليه الصلاة والسلام بقوله:"إنما ذلك عرق وليس بالحيضة"، انتهى.
(27 -
باب المرأة تحيض بعد الإفاضة)
كانت المسألة خلافية شهيرة في زمن الصحابة كما بسط في هامش "اللامع"
(1)
من "كتاب الحج"، والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة على أنها تخرج بعد الإفاضة قبل طواف الصدر، وروي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا الحائض بالمقام، ثم رجع ابن عمر وزيد بن ثابت إلى قوله: الجمهور، والإمام البخاري ذكر المسألة في الحيض وفي كتاب الحج على دأبه؛ لأن المسألة المشتركة يذكرها في الموضعين كما تقدمت الأبواب العديدة في كتاب الحيض أيضًا.
(28 -
باب إذا رأت المستحاضة الطهر)
اختلفوا في غرض المصنف على أقوال بسطت في "اللامع"
(2)
وهامشه، وفيه: تحتمل ترجمة البخاري ثلاثة أوجه عند هذا الفقير، ولا يبعد
(1)
انظر: "لامع الدراري"(5/ 249، 250).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 283، 288).
إرادة الثلاثة معًا، فإن البخاري أودع الدقائق الكثيرة في التراجم:
الأول: التنبيه على اختلافهم في أقل مدة الطهر، وعلى هذا فميل البخاري على ما يظهر من ظاهر سياق أثر ابن عباس إلى أنه لا تحديد في ذلك، واختلفوا في هذه المسألة على ستة أقوال:
الأول:
أنه خمسة عشر يومًا وهو قول أبي حنيفة والشافعي والجمهور، وحكى البغوي وغيره الإجماع عليه، ورجحه الباجي من المالكية.
والثاني:
ثلاثة عشر يومًا، وهو قول أحمد.
والثالث:
أنه لا حد له، وهو رواية عن مالك، وإليه ميل ابن عباس والبخاري كما عرفت.
والرابع:
خمسة أيام، قاله ابن الماجشون.
والخامس:
ثمانية أيام، قاله سحنون.
والسادس:
عشرة أيام، قاله ابن حبيب.
والوجه الثاني: أن الإمام البخاري أشار إلى ردّ قول المالكية في مسألة الاستظهار، وهي مسألة شهيرة لهم، قال الموفق
(1)
: قال مالك: لا اعتبار بالعادة إنما الاعتبار بالتمييز، فإن لم تكن مميزة استظهرت بعد زمان عادتها بثلاثة أيام، إن لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وهي بعد ذلك
(1)
"المغني"(1/ 396).
مستحاضة، ولا عبرة بالاستظهار عند الأئمة الثلاثة، قال ابن رُشد في "البداية"
(1)
: وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه، وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي، انتهى.
والوجه الثالث: الرد على من منع وطء المستحاضة كما يدل عليه قوله: "يأتيها زوجها"، والمسألة خلافية شهيرة، قال ابن رشد
(2)
: اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
فقال قوم: يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس وغيره.
وقال قوم: لا يجوز، وهو مروي عن عائشة، وبه قال النخعي والحكم.
وقال قوم: لا يجوز ذلك إلا أن يطول ذلك بها، انتهى.
وهو قول أحمد، وفي رواية: إلا أن يخاف زوجها العنت، وإن خاف على نفسه الوقوع في محظور جاز على الروايتين، انتهى من "العيني" و"المغني".
ويؤيد ذلك الوجه أثر ابن عباس في الترجمة، وهذا أوجه الوجوه الثلاثة عندي؛ لأنه لم يحكم في الترجمة بشيء بل ذكرها بلفظ: إذا، وذكر في الجواب أثر ابن عباس، وأيده بقوله: الصلاة أعظم، فكأنه رحمه الله استدل بجواز الصلاة على جواز الوطء بالأولوية، ولذا عقبه بحديث عائشة في قصة فاطمة المصرح بأمر الصلاة، وإثبات الترجمة بالأولوية معروف في الأصول، انتهى ما في هامش "اللامع" وبسط الكلام على ذلك فيه أشد البسط.
ويحتمل في غرض الترجمة وجه رابع، وهو الإشارة إلى مسألة شهيرة
(1)
"بداية المجتهد"(1/ 51).
(2)
المصدر السابق (1/ 63).
خلافية، وهي الطهر المتخلل بسطها الفقهاء ولخصا صاحب "شرح الوقاية"
(1)
، وقد ترجم البيهقي على أثر ابن عباس المذكور في الترجمة "باب تحيض يومًا وتطهر يومًا"، قال ابن التركماني
(2)
: الأصح من مذهب الشافعي في مثل هذا أن الدم إذا انقطع على خمسة عشر يومًا أو ما دونها فالكل حيض، انتهى.
وذكر النووي
(3)
في مذهبه قولين: الأول: هذا، والثاني: أن أيام الدم حيض وهو منصوص وأيام النقاء طهر، والقولان مصححان عند الشافعية، ولكن الأول صححه الأكثر، وهو منصوص الشافعي، ويسمى قول السحب، والثاني يسمى قول التلفيق واللقط.
قال النووي: وبالتلفيق قال مالك وأحمد، وبالسحب قال أبو حنيفة واستدل ابن قدامة بقول التلفيق بأثر ابن عباس هذا، واستدل الشافعية والحنفية بأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى، والبخاري، مال إلى قول التلفيق، واستدلاله على ذلك بحديث الباب ظاهر، فإن الإقبال والإدبار يعمّ كل حال قليلًا كان الدم أو كثيرًا، وكذا النقاء، والله أعلم.
(29 -
باب الصلاة على النفساء وسُنَّتها)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لما كان أن يتوهم أنها نجسة لما حكم الشارع عليها أن لا تصلي ولا تصوم ولا تدخل مسجدًا، ومن شرائط الصلاة على الميت طهارته؛ فلا يصلى على النفساء؛ ردَّ ذلك بأن الصلاة عليها ثابتة، والسُنَّة في القيام على الحائضة والنفساء وغيرهما القيام على وسط السرير، ليحصل الستر لعدم النعوش يومئذ، ثم استُغْنِي بها عنه، وإن
(1)
"شرح الوقاية"(1/ 110).
(2)
انظر: "الجوهر النقي مع السنن الكبرى"(1/ 340).
(3)
انظر: "المجموع"(2/ 501، 502).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 289، 293).
النساء شقائق الرجال فأخذن حكمهم لارتفاع العارض، انتهى.
وفي هامشه: أن الإمام البخاري ذكر في الباب مسألتين: أولاهما: الصلاة على النفساء، وهي التي ذكرها الشيخ في "اللامع"، قال الكرماني
(1)
: قيل: وهم البخاري في هذه الترجمة حيث ظن أن قوله: "ماتت في بطن" معناه ماتت في الولادة، بل معناه ماتت مبطونة.
وتعقبه الكرماني والحافظ
(2)
وغيرهما بأنه ليس وهمًا؛ لأنه قد جاء صريحًا في "باب الصلاة على النفساء" في "كتاب الجنائز" في حديث الباب بلفظ: "ماتت في نفاسها" فالترجمة صحيحة، انتهى.
قال الكرماني: قال صاحب "شرح تراجم الأبواب": فقه الباب من الحديث إما طهارة جسد النفساء وإما أن النفساء وإن عدها من الشهداء، فليس حكمها حكم شهيد القتال، فيصلى عليها كسائر المسلمين، انتهى.
قال العيني
(3)
: الصواب أن هذا الباب لا دخل له في كتاب الحيض، ومورده في كتاب الجنائز، ومع هذا ليس له مناسبة أصلًا بالباب الذي قبله، ورعاية المناسبة بين الأبواب مطلوبة، وما أفاده العيني بعيد كما بسط في هامش "اللامع".
والمسألة الثانية ما ذكره الإمام البخاري بقوله: وسُنَّتها سُنَّة القيام في الصلاة على الحائض، والإشكال فيها أشدّ من الأولى؛ لأن محلها كتاب الجنائز وسيأتي في محله "باب أين يقوم من الرجل والمرأة؟ "، ويذكر فيه المصنف حديث سمرة هذا، فذكر ها هنا مجرد تكرار في غير محله، ويمكن التفصي عنه بأن يقال: إن الإمام البخاري أراد ها هنا التنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين النفساء وغيرها، وإليه أشار الشيخ قُدِّس سرُّه بقوله: وغيرهما، وأما الآتي في كتاب الجنائز فهو في محله لبيان مسألة محل قيام
(1)
"شرح الكرماني"(3/ 207).
(2)
"فتح الباري"(1/ 429).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 180).
الإمام على جنائز الرجال والنساء المختلفة فيها بين الأئمة، بسطها العيني
(1)
.
وحاصله: أن الإمام يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر في المشهور المرجح عندنا الحنفية، وهو رواية عن أحمد، والمرجح عنده أن يقوم الإمام عند صدر الرجل ومنكبيه وحذاء وسطها، وقال مالك: يقوم عند وسطه وعند منكبيها، وعند الشافعي يقوم عند رأسه وعند عجيزتها على ما هو المشهور مع الاختلاف الكثير في ذلك انتهى من هامش "اللامع".
(30 -
باب)
بلا ترجمة، كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "وهي مفترشة" أوردها لمناسبة ذكر الصلاة عليها.
والحاصل: أن قرب الحائض لا يمنع جواز الصلاة، فكان ذلك كالتنظير للباب المتقدم، إلا أن بينهما تفاوتًا، فإن القرب في الأول غير القرب في الثاني مع أن الأول معقود لذكر النفساء وهذا في ذكر الحائض، والمفترشة أمام المصلي مقصودة في الأول دون الثاني، والصلاة في الثاني حقيقة وفي الأول دعاء محض، ولذلك أفرد الباب ها هنا، انتهى.
وفي هامشه: اختلفت نسخ البخاري في ذكر الباب، وفي النسخ التي بأيدينا فيها باب بلا ترجمة، وبسط الشرَّاح في أن ذلك من اختلاف الرواة، وليس الباب في رواية الأصيلي وغيره.
قال الحافظ
(3)
: وقع في رواية "باب" غير مترجم وعادته في مثل ذلك أنه بمعنى الفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته له أن عين الحائض والنفساء طاهرة؛ لأن ثوبه صلى الله عليه وسلم كان يصيبها إذا سجد ولا يضره ذلك، انتهى.
(1)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 182).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 294).
(3)
"فتح الباري"(1/ 430).
قلت: وما قال من المناسبة واضحة، لكن المسألة لم تبق على هذا من باب الصلاة على النفساء، فالأوجه عندي أنه أراد بذلك إثبات الصلاة على الحائض، ولذا عقبه بالباب السابق، ولما لم تكن الرواية نصًا في ذلك لم يفصح بالترجمة بل أثبتها استنباطًا، فإن المفترشة النائمة قدامه نظير الجنازة الموضوعة قدامه، ويستنبط ذلك من كلام الشيخ أيضًا، انتهى.
ولا يذهب عليك أن شيخ الهند رحمه الله رقم عليه نقطتين ومؤدى النقطتين كما تقدم في الجزء الأول في بيان جداول شيخ الهند أن الحديث الوارد في الباب يتعلق بالباب السابق، وهو مؤدى كلام الشيخ في "اللامع" إذ قال: فكان ذلك كالتنظير للباب المتقدم، وهو مؤدى كلام الحافظ بوجه آخر، وهو أيضًا مؤدى هذا العبد الفقير كما تقدم قريبًا.
ثم الحافظ سكت عن براعة الاختتام في كتاب الحيض، وهي عندي بالصلاة على النفساء واضحة، ولا يقال: إنها ليست بآخر باب؛ لأن الباب الآتي بعده ملحق به، ويمكن استنباطها بلفظ:"لا تصلي" فإنه شأن الميت، وأظهر منه قوله:"وهي مفترشة بحذاء مسجده صلى الله عليه وسلم"، وهل هي غير صورة الجنازة بحذاء الإمام؟.
* * *
7 -
كتاب التيمم
التيمم تَفَعُّل من الأم، وهو لغةً مطلق القصد، بخلاف الحج فإنه قصد إلى معظم، ولذا اتفقت الأئمة على وجوب النية فيه لوجود معنى القصد، إلا ما حكي عن الأوزاعي، ولذا خالف أصلية الوضوء والغسل عندنا.
قوله: (الآية) كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لا يحسن الجمع بينهما، وإنما هما نسختان، فالآية مذكورة بتمامها في بعض النسخ، وفي أخرى وقع الاكتفاء بلفظ الآية فقط، انتهى بزيادة.
قال الحافظ
(2)
: ذكر الآية في الكتاب ظاهر، وإن كانت نسخة الحاشية "باب قوله تعالى. . ." إلخ، فهي ترجمة مستقلة، والمقصود منها تفسير المبهم في حديث عائشة أن المراد من آية التيمم آية المائدة، انتهى ملخصًا.
قلت: ويشكل عليه أنه لا يبقى حينئذ مناسبة الحديث الثاني بالباب، ويشكل أيضًا أن المصنف ترجم بآية النساء في كتاب التفسير وذكر فيه هذا الحديث اللهم إلا أن يقال: إن المقصود منه تفسير الصعيد الطيب في الآية، لكن يشكل عليه أيضًا أنه سيأتي مستقلًا "باب الصعيد الطيب" إلا أن يقال: إن المقصود هناك مسألة أخرى، وهي أن التيمم ينوب الوضوء مطلقًا أم لا، كما سيأتي، والأوجه من الكل أن المصنف أشار بذلك إلى مبدأ حكم التيمم كما هو دأبه في جميع كتابه، ولا يخفى عليك ما في "الأوجز"
(3)
في حديث عائشة: فأنزل الله آية التيمم، قال ابن العربي
(4)
: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء؛ لأنا نعلم أي الآيتين عنت عائشة رضي الله
(1)
"لامع الدراري"(2/ 295).
(2)
"فتح الباري"(1/ 432).
(3)
"أوجز المسالك"(1/ 558).
(4)
انظر: "فتح الباري"(1/ 434).
تعالى عنها إلى آخر ما بسط فيه من أقوال العلماء في تعيين الآية المبهمة في حديث عائشة.
(2 -
باب إذا لم يجد ماء ولا ترابًا)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: الاستدلال بالرواية ظاهر، فإنهم لما لم يعلموا حكم التراب كان التراب في حقهم في حكم العدم، والجواب أنه مبني على ثبوت أنهم لم يؤمروا بالإعادة ولم يثبت وعدم الثبوت لا يساوق ثبوت العدم، مع أنهم لم يؤمروا بالتيمم بعد لا أنهم أمروا ولم يعلموا بالأمر، فإن الحكم واجب العمل بعد التبليغ ولم يبلغ بعد، انتهى.
وفي هامشه: المسألة خلافية شهيرة معروفة بفاقد الطهورين، بسطها الشيخ في "البذل"
(2)
، وميل المصنف في هذه المسألة إلى قول الإمام أحمد من إيجاب الأداء بدون القضاء، وعكسه عند أبي حنيفة، وقال صاحباه: يتشبه بالمصلين وجوبًا ثم يقضي، وقال الشافعي في المرجح من أقواله الأربعة: وجوب الأداء مع وجوب القضاء، وعكسه عند مالك، أي: لا أداء ولا قضاء، وهو الصحيح من مذهبه.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": باب إذا لم يجد. . . إلخ، أي: حكمه أن يصلي بغير وضوء ولا تيمم ولا إعادة عليه، وهذا هو مذهب المؤلف، وأثبته بظاهر الحديث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما شكا القوم إليه ما أمرهم بإعادة الصلاة، انتهى.
(3 -
باب التيمم في الحضر)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: أثبت الحكم في الصلاة مقايسة، فإن
(1)
"لامع الدراري"(2/ 296، 298).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 457، 459).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 137).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 299، 300).
التيمم لما جاز في الحضر لما لم يتوقف على التيمم عند خوف فواته فالصلاة أولى بالجواب؛ لأنها أهم، إلا أنه موقوف على خوف الفوات، انتهى.
وفي هامشه: كتب مولانا محمد حسن المكي في تقريره: أثبته في الحضر؛ لأن الآية وردت في السفر، فأشار إلى أنه قيد اتفاقي، انتهى.
قلت: اختلفوا في جوازه في الحضر لعادم الماء بعد اتفافهم على جوازه للمريض، واختلفوا في الأول لندرة العذر، بل لاستحالة أن يكونوا مقيمين في المصر بدون ماء، وظاهر ما في "الهداية"
(1)
أن لا يجوز في الحضر، إذ قيَّد جوازه بالمسافر، وبمن هو خارج المصر.
وحكى العيني
(2)
: جوازه عن "الأسرار" وقال: هو مذهبنا، وعليه بنى صاحب "الدر المختار"
(3)
، إذ صرح بأنه يتيمم لبعده ميلًا ولو مقيمًا في المصر، وعليه بنى الشيخ كلامه، ويتيمم عند الأئمة الثلاثة لكنهم اختلفوا في وجوب الإعادة وعدمه، وهما قولان لأحمد كما في "المغني"
(4)
والمرجح من قولي الإمام مالك عدم الإعادة، وقال الشافعي بوجوب الإعادة كما بسط في "الأوجز"
(5)
.
ثم لا يذهب عليك أن أثر ابن عمر الذي علَّقه البخاري ليس فيه ذكر التيمم، وهو موجود في رواية "الموطأ" وغيره.
قال الحافظ
(6)
: ولم يظهر لي سبب حذفه منه ذكر التيمم مع أنه مقصود الباب، انتهى.
وتعقبه العيني
(7)
: بأن الذي يظهر لي أنه من الناسخ، واستمر الأمر عليه، وليس له وجه غير هذا، انتهى.
(1)
انظر: "الهداية"(1/ 27).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 200).
(3)
انظر: "رد المحتار"(1/ 296، 395).
(4)
"المغني"(1/ 310).
(5)
"أوجز المسالك"(1/ 569).
(6)
"فتح الباري"(1/ 441).
(7)
"عمدة القاري"(3/ 201)، و"إرشاد الساري"(1/ 675).
وتبعه القسطلاني في ذلك، والأوجه عندي: أنه من البخاري عمدًا، فإن تشحيذ الأهان من دأبه المعروف، وكتابه مملوء في ذلك، واستند الحافظ في هذا الأصل كثيرًا في كتابه كما تقدم في الأصل الحادي عشر.
ومما يجب التنبيه عليه أن أبا جهيم المذكور في الرواية هل هو بالتصغير أو بالتكبير؟ وهل هو صاحب حديث المرور في الصلاة أو غيره؟ مختلف عند أهل الرجال، وفي الصحابة رجل آخر هو أبو جهم صاحب الأنبجانية وردت الروايات فيه أيضًا بالتصغير، والصواب أنه بالتكبير والأول بالتصغير كما بسط ذلك في "الأوجز"
(1)
في حديث المرور بين يدي المصلي، انتهى ما في هامش "اللامع".
(4 -
باب هل ينفخ في يديه. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كانت نيابته عن الوضوء يوهم أن الاستيعاب لعله مشروط فيه، كما أن في الوضوء يشترط استيعاب الماء كل المغسول، دفعه بأن الاستيعاب وإن كان مشروطًا إلا أن استيعاب التراب سائر العضو لا يشترط، ودلالة الرواية على هذا المعنى ظاهرة، فإن استيعاب التراب لو كان مقصودًا لما نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في يديه؛ لأنه يقلل التراب، وتقليله خلاف المقصود على هذا التقدير، انتهى.
وفي هامشه: في الترجمة أمران:
الأول: غرض المصنف بهذه الترجمة، وأجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في وجهه كما سترى.
والأمر الثاني: أن النفخ موجود في الرواية نصًا فلم بوَّب عليه الإمام البخاري بلفظ: "هل"، المشعر إلى التردد؟
قال الحافظ
(3)
: إنما ترجم بلفظ الاستفهام لينبه على أن نفخه عليه
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(2/ 143).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 301، 303).
(3)
"فتح الباري"(1/ 443).
الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لشيء علق بيده الشريفة، أو لتقليل فلعله كثر، ويحتمل أن يكون لبيان التشريع، ومن ثم تمسك به من أجاز التيمم بغير التراب زاعمًا أن نفخه يدل على أن المشترط في التيمم الضرب من غير زيادة على ذلك، فلما كان هذا الفعل محتملًا لما ذكر أورده بلفظ الاستفهام، انتهى.
وبه قال العيني
(1)
مع ترجيح الثالث وإضافة الرابع أنه لا وجه له إذ قال: وتبويب البخاري أيضًا بالاستفهام غير سديد، انتهى مختصرًا.
ولا يبعد عندي أنه أشار بلفظ: "هل" إلى أن ظاهر الحديث النفخ، وقد ورد في فضل تراب العبادات روايات كثيرة، منها أحاديث غبار الجهاد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"عفِّر وجهك في التراب"، وغير ذلك من الروايات.
قال الحافظ
(2)
: والفرق بينهما أن التنظيف مطلوب شرعًا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقائه، بخلاف الوضوء فالمقصود منه الصلاة، فاستحب بقاء أثره حتى يحصل المقصود فافترقا، انتهى.
وهذا المعنى بعينه موجود في التيمم، ولذا أشار إليه الإمام البخاري بلفظ "هل" عندي.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": النفخ مستحب إذا تعلق بالأعضاء غبار كثير تحرزًا عن المثلة، انتهى.
كأنه أشار إلى الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في كلام الحافظ، وبه جزم الكرماني
(4)
، ويمكن عندي وجه آخر أيضًا، يليق بشأن البخاري، وهو أن نفخه صلى الله عليه وسلم في حديث الباب ليس لتراب التيمم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتيمم إذ
(1)
"عمدة القاري"(3/ 206).
(2)
"فتح الباري"(6/ 30).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 138).
(4)
انظر: "شرح الكرماني"(3/ 219).
ذاك في الحقيقة بل أراه كيفية التيمم فنفخ فيه؛ لأن هذا لم يكن تراب التيمم حتى يعد مع تراب الغبار في سبيل الله، فنبّه الإمام بلفظ:"هل" إلى التردد في أن ينفخ تراب التيمم أيضًا أم لا؟ ووجه التردد كون هذا التراب أثر العبادة بخلاف التراب الذي التحق بيده الشريفة في الإراءة، فتأمل فإنه لطيف، انتهى ملخصًا ما في هامش "اللامع".
لكن يشكل على هذا التوجيه أن الإمام البخاري ترجم بعده "
باب التيمم للوجه والكفين
" وأخرج فيه حديث عمار هذا، فعلى هذا هو محمول عنده على حقيقة التيمم، فتأمل.
وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من قوله: فإن استيعاب التراب لو كان. . . إلخ، يؤيده ما في "أبي داود"
(1)
من حديث عمار بن ياسر بلفظ: ولم يقبضوا من التراب شيئًا، وفي هامشي على "البذل"
(2)
عن ابن رسلان: يؤخذ منه أنه يجوز التيمم وإن لم يعلق بهما التراب، وبه قال مالك وأبو حنيفة خلافًا للشافعي وأحمد إذ قالا: لا يجوز إلا أن يعلق بالكف من التراب شيء، انتهى.
وفيه أيضًا عن ابن رسلان على قوله: "ثم نفخهما": فيه دليل على ما تقدم أن التيمم يجوز بدون الغبار، إذ لو كان الغبار مطلوبًا ما نفخ فيه، وأجيب بأنه يحتمل تقليلًا للتراب، انتهى.
(5 - باب التيمم للوجه والكفين)
في "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": مذهب المؤلف في هذه المسألة مثل ما يقوله أصحاب الظواهر وبعض المجتهدين من أن التيمم للوجه والكفين فقط، ولا يلزم المسح إلى المرفقين خلافًا للجمهور، وهم يقولون: إن
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 320).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 463، 497).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 138، 139).
قوله: "إنما يكفيه. . ." إلخ، حصر إضافي بالنسبة إلى نفي التمرغ فقط، وليس معناه إثبات الضربة الواحدة ومسح الكفين فقط، بدليل ما أورده في "الصحيح" مرفوعًا:"أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ضربتين إحداهما للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين"، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(1)
: اعلم أن الأئمة اختلفوا في التيمم في الموضعين: الأول: في عدد الضربات، فقال الإمام أحمد: التيمم ضربة للوجه والكفين، وإليه ميل البخاري كما جزم به في الترجمتين، الأولى هذه، والثانية تأتي في آخر التيمم "باب التيمم ضربة"، وقالت الحنفية والشافعية: التيمم ضربتان، ولمالك روايتان كالمذهبين، والثالثة المرجحة في فروعه: الضربة الواحدة فريضة والثانية سُنَّة.
والموضع الثاني: في مقدار اليدين، وهو الكفان فقط عند أحمد والشافعي في القديم، وإليه ميل البخاري، وإلى المرفقين عند الشافعية والحنفية، وهما روايتان لمالك، انتهى.
(6 -
باب الصعيد الطيب. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: هذه الترجمة لفظ حديث بسط الحافظ في تخريجه كما في هامش "اللامع"
(3)
، وفيه: قال شيخ المشايخ في "التراجم"
(4)
: غرضه من عقد الباب إثبات أن التراب له حكم الماء عند عدم وجدانه، فإذا تيمم يصلي بها ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يحدث كما هو حكم الماء وهذا مذهب أبي حنيفة خلافًا للشافعي وغيره من الأئمة، ومحل الاستشهاد في حديث الباب قوله صلى الله عليه وسلم:"عليك بالصعيد فإنه يكفيك"؛ لأن الظاهر المتبادر من الكفاية أن يكون له حكم الماء، وإلا
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 303).
(2)
"فتح الباري"(1/ 446).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 305).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 139).
كانت الكفاية ناقصةً مع أن المطلق ينصرف إلى الكامل، انتهى.
قلت: ويوضح مراد المصنف إيراد أثر الحسن في الترجمة فهو نص في وفاق الحنفية، قال الحافظ: وهو أصرح في مقصود الباب، وأشار المصنف بهذا الباب إلى أن التيمم يقوم مقام الوضوء، وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين والجمهور، إلى آخر ما في هامشه. وفيه: وما جمع الحافظ في كلامه الكوفيين والجمهور تسامح منه، وإجمال مخل، وتوضيح ذلك أن ها هنا مسألتين طالما يلتبس فيهما في النقل، وبسطتا في "الأوجز"
(1)
:
الأولى: أن التيمم بمنزلة الوضوء عند الحنفية وإليه ميل البخاري، فيصلي به إلى متى شاء، وبه قال أهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه وبه قال مالك والشافعي: إنه لا بد للتيمم في كل وقت صلاة مفروضة.
والمسألة الثانية: ما قال الموفق: وله أن يصلي به ما شاء من الصلاة، فيصلي الحاضرة ويجمع بين الصلاتين، ويقضي الفوائت، ويتطوع قبل الصلاة وبعدها، قال مالك والشافعي: لا يصلي به فرضين، انتهى.
وفي "الهداية"
(2)
: ويصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل، انتهى.
قوله: (وأم ابن عباس) قال الحافظ
(3)
: أشار المصنف بذلك إلى أن التيمم يقوم مقام الوضوء، ولو كانت الطهارة به ضعيفة لما أمّ ابن عباس وهو متيمم من كان متوضئًا، انتهى.
قوله: (على السبخة) كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: أراد بها ما فيه سباخ لا ما صار سباخًا كلية، فلا ينافي مذهب الحنفية، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 562).
(2)
"الهداية"(1/ 29).
(3)
"فتح الباري"(1/ 446).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 307).
وفي هامشه: قال العيني
(1)
: السبخة بفتح حروفها كلها واحدة السباخ، قال صاحب لغات "الصراح": سبخة شوره (كَندهك)، انتهى.
وما يظهر من "المحيط الأعظم" أن كَندهك غيرها، يقال لها في العربية: كبريت، وفي تقرير مولانا حسين علي البنجابي: قوله: السبخة، أي: إن كانت الأرض غالبة وإلا فلا يجوز هذا في السبخة التي ليست سبخها من جنس الأرض أعني يذاب بالإحراق ويصير رمادًا، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: هذا الأثر يتعلق بقوله في الترجمة: "الصعيد الطيب"، أي: المراد بالطيب الطاهر، واحتج ابن خزيمة لجواز التيمم بالسبخة بحديث عائشة في شأن الهجرة أنه قال صلى الله عليه وسلم:"أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل" يعني: المدينة، قال: وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طيبة، فدل على أن السبخة داخلة في الطيب، ولم يخالف في ذلك إلا إسحاق بن راهويه فإنه لم يجوز التيمم بها، انتهى.
وهو رواية عن أحمد كما في "المغني"، ولا يذهب عليك أن حديث عمران بن حصين هذا يأتي في "باب علامات النبوة في الإسلام" أيضًا، وبين سياقيهما اختلافات كثيرة، ويسمى حديث ليلة التعريس، وهل وقعت مرة أو أكثر، فيه خلاف بسط في "الأوجز"
(3)
، وعندي الأوجه الثاني.
(7 -
باب إذا خاف الجنب على نفسه. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: مراده إلحاق خوف المرض، وفيه اختلاف بين الفقهاء بخوف العطش ولا اختلاف فيه، انتهى.
والخلاف في تيمم الجنب للبرد والمرض كان في السلف، لا سيما بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والحسن البصري، وهو مقتضى قول
(1)
"عمدة القاري"(3/ 217).
(2)
"فتح الباري"(1/ 447).
(3)
انظر: "أوجز المسالك"(1/ 316).
(4)
"فتح الباري"(1/ 454).
ابن مسعود إلا أنهم اختلفوا في الإعادة، فلا يجب عندنا ومالك، ويجب عند الصاحبين، وهما روايتان لأحمد، ويجب عند الشافعي للحاضر دون المسافر، كذا في هامشي على "البذل"
(1)
.
قوله: (فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار. . .) إلخ، هذا السياق واضح، وهذا يدل صريحًا على أن في سياق أبي داود وغيره تقديمًا وتأخيرًا، والحديث الآتي في ال
باب
الآتي موافق لسياق أبي داود، وفيه: أن ابن مسعود لما استدل أولًا بالآية وسكت عليه أبو موسى فلم ذكر بعد ذلك قصته مع عمر؟ فالصحيح أن أبا موسى ذكر أولًا قصة عمار مع عمر فلم يقبله عبد الله وقال: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ فكيف يستدل بأمر لم يقنع عمر عليه ولم يقبله، فاحتاج إلى الاستدلال بالآية، فقال: دعنا من قول عمار.
(8 -
باب التيمم ضربة)
وقد تقدم ما يتعلق بهذه الترجمة في "باب التيمم للوجه والكفين".
(9 - باب)
بلا ترجمة، قال الحافظ
(2)
: كذا للأكثر بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلًا، فعلى روايته هو من جملة الترجمة الماضية، وعلى الأول هو بمنزلة الفصل من الباب كنظائره، وليس في الحديث التصريح بكون الضربة مرة واحدة، والاستدلال بعدم التقييد فإن المرة الواحدة أقل ما يحصل به الامتثال، انتهى.
وفي "تراجم
(3)
شيخ المشايخ": هذا الباب لا ترجمة له، ولا يوجد في النسخ الصحيحة وهو الصحيح، فمناسبة حديث الباب بترجمة الباب
(1)
انظر: "بذل المجهود"(2/ 526).
(2)
"فتح الباري"(1/ 457).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 142).
السابق باعتبار أن قوله عليه الصلاة والسلام: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك"، كما أنه عام بالنسبة إلى أنواع الصعيد كذلك له عموم بالنسبة إلى كيفية التيمم، ويحتمل أن يكون بضربة أو ضربتين، فتأمل، انتهى.
والأوجه عندي: أن المصنف أشار بذلك إلى دفع إيراد مشهور على الحديث السابق بأنه إن نزلت آية التيمم فلم تَمَعّك، وإن لم تنزل فكيف عرف أن التراب بدله؟
وحاصل ما أشار إليه البخاري أنه لعله سمع قوله عليه السلام: "عليك بالصعيد" فحمله على سائر البدن، ورقم على هذا الباب شيخ الهند نوَّر الله مرقده نقطة واحدة التي هي علامة حذف الترجمة تشحيذًا للأذهان، وما ذكرته من المناسبة جدير أن يدخل في توجيه شيخ الهند نوَّر الله مرقده.
ثم براعة الاختتام عند الحافظ في قوله: "فإنه يكفيك"، فإنه إشارة إلى أن الكفاية بما أورده، والأوجه عند هذا الفقير على أصله لفظ:"عليك بالصعيد"، فإنه إشارة إلى دخول القبر، ع:
مىي مي مىي مل كَئي انجام دنيا ديكه لى
ويحتمل أن تكون البراعة في قوله: "معتزلًا" أيضًا، فإنه حالة دخول القبر، فإنه معتزل عن الدنيا وما فيها.
* * *
8 -
كتاب الصلاة
قال الحافظ
(1)
: قد تأملت كتاب الصلاة فوجدته مشتملًا على أنواع تزيد على العشرين، فرأيت أن أذكر مناسبتها في ترتيبها قبل الشروع في شرحها، فأقول: بدأ أولًا بالشروط السابقة على الدخول في الصلاة، وهي الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ودخول الوقت، ولما كانت الطهارة تشتمل على أنواع أفردها بكتاب واستفتح كتاب الصلاة بذكر فرضيتها لتعيّن وقته دون غيره من أركان الإسلام، وكان ستر العورة لا يختص بالصلاة، فبدأ به لعمومه، ثم ثنَّى بالاستقبال للزومه في الفريضة والنافلة إلا ما استثنى كشدة الخوف ونافلة السفر، وكان الاستقبال يستدعى مكانًا، فذكر المساجد ومن توابع الاستقبال سترة المصلي فذكرها، ثم ذكر الشرط الباقي وهو دخول الوقت وهو خاص بالفريضة، وكان الوقت يشرع الإعلام به فذكر الأذان، وفيه إشارة إلى أنه حق الوقت، وكان الأذان إعلامًا بالاجتماع إلى الصلاة فذكر الجماعة، وكان أقلها إمام ومأموم فذكر الإمامة، ولمَّا انقضت الشروط وتوابعها ذكر صفة الصلاة، ولما كانت الفرائض في الجماعة قد تختص بهيئة مخصوصة فذكر الجمعة والخوف، وقدَّم الجمعة لأكثريتها، ثم تلا ذلك بما يشرع فيه الجماعة من النوافل، فذكر العيدين والوتر والاستسقاء والكسوف، وأخَّره لاختصاصه بهيئة مخصوصة، وهي زيادة الركوع، ثم تلاه بما فيه زيادة سجود، فذكر سجود التلاوة؛ لأنه قد يقع في الصلاة، وكان إذا وقع اشتملت الصلاة على زيادة مخصوصة فتلاها بما يقع فيه نقص من عددها وهو قصر الصلاة، ولما انقضى ما يشرع فيه الجماعة ذكر ما لا يستحب فيه وهو سائر التطوعات.
(1)
"فتح الباري"(1/ 458).
ثم للصلاة بعد الشروع فيها شروط ثلاثة: وهي ترك الكلام، وترك الأفعال الزائدة، وترك المفطر، فترجم لذلك ثم بطلانها يختص بما وقع على وجه العمد فاقتضى ذلك ذكر أحكام السهو، ثم جميع ما تقدم متعلق بالصلاة ذات الركوع والسجود، فعقّب ذلك بصلاة لا ركوع فيها ولا سجود وهي الجنازة، انتهى.
قلت: لا ريب في أن المناسبات التي ذكرها الحافظ أجود وألطف، ومع ذلك تظهر في بعض المواضع بدقة النظر مناسبة ألذ بما ذكره الحافظ مثلًا ما ذكر من مناسبة أبواب السهو، الأوجه منه عندي أنها تكملة لأبواب العمل في الصلاة، فإن الإمام البخاري لما ذكر أبواب العمل في الصلاة بدأ بالأعمال الظاهرة، ولما فرغ عنها عقّبها بعمل القلب فترجم بـ "باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة" فإنه من عمل القلب، ولما يتفكر الرجل في الشيء لا بدّ من أن يقع السهو في الصلاة فترجم "بأبواب السهو" فهي ليس بأبواب مستقلة؛ بل هي ثمرة التفكر داخلة في جملة أبواب العمل في الصلاة، ولذا ترى أنه ذكر بعدها "باب إذا كلم وهو يصلي. . ." إلخ، و"باب الإشارة في الصلاة" وهما من جملة أبواب العمل في الصلاة، فلو كان أبواب السهو مستقلة يبقى هذان البابان غير مناسبين بالكتاب مذكورين في غير محلهما، وهكذا في مواضع أخر سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله في مواضعها، انتهى من هامش "اللامع"
(1)
.
(1 -
باب كيف فرضت الصلاة)
وهذا باب خامس من الأبواب المصدّرة بكيف، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أقول: حديث الباب من حيث إفادته أنها فرضت أولًا ليلة الإسراء خمسين، ثم تقرر الأمر على الخمس يثبت كيفية من كيفياته، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 315).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 143).
قلت: وثبت أيضًا من الحديث الثاني أنها فرضت أولًا ركعتين، ثم استقر الأمر على الأربع.
قال الحافظ
(1)
: استفتح كتاب الصلاة بذكر فرضيتها لتعين وقته دون غيره من أركان الإسلام، انتهى.
والأجه عندي: أن الإمام البخاري أشار إلى مبدأ الفرضية كما هو دأبه في أكثر أحكام الإسلام، وصرَّح ههنا بمبدأ الفرضية نصًّا دون إشارة لثبوته بحديث المعراج نصًا، ولفظ الترجمة نص في أن الإمام البخاري ذهب إلى أن المعراج كان في ليلة الإسراء والخلاف فيه مشهور، ولذا جمعهما في باب واحد، ولمَّا كان المقصود في أبواب السير ذكر الأحوال فصلهما في بابين كما سيأتي قبيل باب الهجرة.
قال الحافظ
(2)
: هذا مصير من المصنف إلى أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وقد وقع في ذلك اختلاف، فقيل: كانا في ليلة واحدة في يقظته صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المشهور عند الجمهور، وقيل: كانا جميعًا في ليلة واحدة في منامه، وقيل: وقعا جميعًا مرتين في ليلتين مختلفتين، إحداهما: يقظة، والأخرى: منامًا، وقيل غير ذلك، والحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة المعراج أنه لما قدس ظاهرًا وباطنًا حين غسل بماء زمزم بالإيمان والحكمة، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تفرض الصلاة في تلك الحالة، وليظهر شرفه في الملأ الأعلى ويصلي بمن سكنه من الأنبياء وبالملائكة وليناجي ربه، ومن ثم كان المصلي يناجي ربه جل وعلا، انتهى.
قوله: (وقال ابن عباس) كتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: مناسبة مع ترجمة الباب باعتبار أن فرضية الصلاة كانت في أول الإسلام حتى
(1)
"فتح الباري"(1/ 458).
(2)
"فتح الباري"(1/ 459).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 143).
بلغت في أقصى مراتب الاشتهار، وشاعت في بعيد الأقطار، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: ومناسبة لهذه الترجمة أن فيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة؛ لأن أبا سفيان لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل، انتهى.
(2 -
باب وجوب الصلاة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قلت: حاصل الترجمة أمران: وجوب الستر، والاكتفاء بأقل ما يحصل به التستر، وهذا الأخير له شعب وتفاصيل نبَّه على أكثرها ورودًا، وكل أبواب هذه الأقسام تفصيل لهذا الباب المعقود أولًا، فلا يعترض بتكرار بعض التراجم، فإنها تفصيل لإجمال هذا الباب، والله أعلم، انتهى.
وفي هامشه: غرض الترجمة الرد على المالكية إذ المعروف عنهم كون التستر سُنَّة لا يبطل الصلاة بتركه، ومنهم من فرَّق بين العامد والناسي، وجزم الإمام البخاري بالوجوب لقوة الدلائل، وبه قالت الأئمة الثلاثة الباقية، انتهى.
وهذا هو الأصل السادس والأربعون من أصول التراجم، ويحتمل أنه أشار بالترجمة إلى الاختلاف في قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] في أن الأمر للوجوب أو الندب، كما في "الأوجز"
(3)
، وفيه عن ابن رشد ومن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس التي هي زينة، قالوا: ولذلك من لم يجد ما يستر به عورته لم يختلف في أنه يصلي، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 460).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 322).
(3)
"أوجز المسالك"(3/ 102).
قوله: (ومن صلى ملتحفًا. . .) إلخ، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: غرضه الإشارة إلى حديث الأمر بالاستحباب لمن صلى في ثوب واحد؛ لأنه يدل أن وجوب أصل الصلاة
(2)
مسلَّم ثابت في الشرع حيث لم يتعرض إلا لبيان الكيفيات من الالتحاف والاشتمال والتوشيح وغيرها، وقس على هذا قوله: ويذكر عن سلمة بن الأكوع. . . إلخ، انتهى.
قلت: والأوجه عندي: أن هذا الجزء من الترجمة والآتي كلها من الأصل الستين من أصول التراجم كما تقدم في الجزء الأول، وفيه: أن الشرَّاح اضطربوا في إثباتها بالحديث وأتوا لذلك ولدفع التكرار عنها بتوجيهات عديدة؛ فإن هذه الترجمة ستأتي قريبًا مستقلًا، وليست الترجمة عندي مثبتة - بفتح الموحدة - حتى يقال فيها ما قالوا، بل هي مثبتة - بكسر الموحدة - لوجوب الثياب، انتهى.
قوله: (ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه. . .) إلخ، وكتب شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
: احتاج في هذا الباب إلى هذا النوع من الاستدلال بالإيماءات والإشارات الخفية؛ لأنه لم يرد فيه نص يدل عليه، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: يشير إلى ما رواه أبو داود
(5)
والنسائي وغيرهما من طريق معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى"، وهذا من الأحاديث التي تضمنتها التراجم بغير رواية حتى ولا التعليق، انتهى.
قلت: ويمكن عندي أن يستدل له بما سيأتي من قوله عليه الصلاة
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 144).
(2)
كذا في الأصل، والصواب بدله:"الثياب"، (ز).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 145).
(4)
"فتح الباري"(1/ 466).
(5)
"سنن أبي داود"(ح: 366)، و"السنن النسائي" (ح: 294).
والسلام: "أو لكلكم ثوبان"، والأوجه منه أن هذا الجزء أيضًا مثبت لما سبق فلا يحتاج لإثباته إلى دليل، وهكذا قوله: أمر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن لا يطوف بالبيت عريان. . ." إلخ، يشكل عليه بوجهين، أحدهما: عدم ثبوته بالحديث الوارد في الباب، والثاني: أن المسألة من كتاب الحج، وسيأتي في محله "باب لا يطوف بالبيت عريان" وعلى ما اخترته في ذلك من أنه ليس بمقصود بالذكر، بل ذكره مبالغة في وجوب الثياب للصلاة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم منع الطواف بالبيت عريانًا، والطواف بالبيت صلاة حكمًا، فكيف بالصلاة حقيقة، انتهى.
(3 -
باب عقد الإزار)
أي: عند الضيق إذا لم يمكن الاشتمال، وسيأتي الفرق بينه وبين الباب الآتي إذا كان الثوب ضيقًا، قوله:"فقال له قائل. . ." إلخ.
قال الحافظ
(1)
: وقع في رواية مسلم أنه عبادة بن الوليد، وسيأتي قريبًا أن سعيد بن الحارث سأله عن هذه المسألة، ولعلهما جميعًا سألاه، وسيأتي عند المصنف في "باب الصلاة بغير رداء" عن ابن المنكدر فلعل السؤال تعدد، وقال في جواب ابن المنكدر، فأحببت أن يراني الجهال مثلكم، فالمراد من الأحمق الجاهل، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: (أحمق مثلك) أي: ممن ليس له تمييز بين الواجبات والسنن والمستحبات، وغرض المؤلف من إيراد مثل هذه الروايات والآثار إثبات أن الصلاة جائزة في كل أنواع الثياب، وأنه يأتزر به إذا كان قصيرًا، ويجعل على عاتقه إن كان صغيرًا بحيث يفيد العقد على القفا، ويمكن ذلك منه ويلتحف به إن كان فوق ذلك رعاية للأوكد فالأوكد، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 467).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 323).
(4 -
باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا)
لعله أشار بذلك إلى ردِّ ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، قال: لا تصلين في ثوب واحد وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض.
قال الحافظ
(1)
: كان الخلاف في منع جواز الصلاة في الثوب الواحد قديمًا، ونسب ابن بطال ذلك لابن عمر ثم قال: لم يتابع عليه ثم استقر الأمر على الجواز، انتهى.
قلت: وعلى هذا فزيادة "ملتحفًا" لمزيد الفائدة، وأصل الغرض مجرد الجواز في الثوب الواحد، ثم لا يذهب عليك ما في "الأوجز"
(2)
: أن مراد ابن مسعود خلاف الأفضل، فقد روى عنه أحمد إنما كان ذلك، أي: الصلاة في الثوب الواحد إنما كان ذاك إذا كان في الثياب قلة، وأما إذا وسَّع الله فالصلاة في الثوبين أزكى، وكذلك روي عن ابن عمر أنه قال: فالله أحق أن تتزين له، كما في "البدائع"
(3)
، فالظاهر أنهما موافقان للجمهور.
(5 -
باب إذا صلى في الثوب الواحد. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، والنهي في الذي قبله على التنزيه، وعن أحمد: لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه جعله من الشرائط، وعنه: تصح ويأثم جعله واجبًا مستقلًا، انتهى.
(6 -
باب إذا كان الثوب ضيقًا)
استثناء مما سبق، يعني: إن كان الثوب واسعًا فيجب ما تقدم، وإذا كان الثوب ضيّقًا فلا يجب وضع شيء على عاتقه، سواء يعقد على القفا أو على الحجز، ولذا ذكر فيه الحديثين معًا، ولعل الفرق بينه وبين ما سبق
(1)
"فتح الباري"(1/ 468).
(2)
انظر: "أوجز المسالك"(3/ 103).
(3)
"بدائع الصنائع"(1/ 515).
(4)
"فتح الباري"(1/ 472).
من قوله: عقد الإزار إن ضيق الإزار له مراتب، فإن كان أوسع فالاشتمال، وإن كان أوسط فالعقد على العنق إن أمكن فهو مقدم وإلا يتزر، وإليه يشير ترتيب تراجم الثلاثة وذكر بينها فليجعل على عاتقيه؛ لأن ذلك لا يمكن إلا في الصورتين الأوليين، ولا يمكن ذلك في الاتزار، والبسط في هامش "اللامع"
(1)
.
(7 -
باب الصلاة في الجبة الشامية. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: وذلك لأن الأصل هو الطهارة، والنجاسة لعارض فلا يعارض الأصل إلا بدليل، انتهى.
وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك أن نظر الإمام البخاري في الترجمة إلى طهارة منسوجات الكفار، وعليه حملته الشرَّاح قاطبة، وفي "فيض الباري"
(3)
: الظاهر أن نظره إلى قطعه يعني أن الثوب إذا قطع على طريق غير طريق العرب جازت الصلاة فيه، وليس نظره إلى مسألة الطهارة والنجاسة كما فهموه، انتهى.
والأوجه عندي: الأول لذكر الإمام البخاري في الترجمة أثري الزهري وعلي رضي الله عنه، قال العيني
(4)
: المراد بالجبة الشامية هي التي تنسجها الكفار، وإنما ذكره بلفظ الشامية مراعاة للفظ الحديث، وكان هذا في غزوة تبوك والشام إذ كانت بلاد كفر، ولم تفتح بعد، وإنما أوّلنا بهذا؛ لأن الباب معقود لجواز الصلاة في الثياب التي تنسجها الكفار ما لم تحقق نجاستها، انتهى.
وقال الحافظ
(5)
: وجه الدلالة من الرواية أنه صلى الله عليه وسلم لبسها ولم يستفصل، وروي عن أبي حنيفة كراهة
(6)
الصلاة فيها إلا بعد الغسل، وعن مالك إن
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 325).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 327).
(3)
"فيض الباري"(2/ 10).
(4)
"عمدة القاري"(3/ 280).
(5)
"فتح الباري"(1/ 473).
(6)
قوله: "كراهة" وفي "الفتح": "كراهية".
فعل يعيد في الوقت إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" في ثياب الكفار والفساق.
قوله: (ما صبغ بالبول)، كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: معناه: أنه كان يلقى البول في صبغه ثم إنهم يبيعونها بعد غسلها كما هو العادة، فلا يتوهم نجاستها ما لم يظهر أثرها أو يتيقن بعدم الغسل بعد التيقن بوقوع النجس فيه، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: إن كان المراد الجنس فمحمول على أنه كان يغسله قبل لبسه، وإن كان للعهد فالمراد بول ما يؤكل لحمه؛ لأنه كان يقول بطهارته، انتهى.
وفي "فيض الباري"
(3)
: لعل المراد منه اللبس بعد الغسل؛ لأن مذهبه نجاسة الأبوال ويومئ إليه ما عند البخاري: "هل تشرب أبوال الإبل. . ." إلخ، فالاستدلال منه على طهارته عنده في حيز الخفاء، انتهى.
كذا في الأصل، وفيه إجمال مخل، ثم قال صاحب "الفيض": ورأيت أثرًا في الخارج أن عمر رضي الله تعالى عنه أراد أن ينهى عن ثياب اليمن وكانت تصبغ بالبول، فقام أُبيّ وقال: إنك لا تستطيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، فسكت عمر رضي الله عنه، انتهى.
(8 -
باب كراهية التعري)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: والرواية تثبت كراهته في غيرها فيثبت الحكم فيها بالأولى، انتهى.
وفي هامشه قوله: "في الصلاة وغيرها" هكذا في النسخ الموجودة عندنا من الهندية، وكذا في نسخة الكرماني، وليس في النسخة المصرية
(1)
"لامع الدراري"(2/ 328).
(2)
"فتح الباري"(1/ 474).
(3)
"فيض الباري"(2/ 11).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 330).
ولا في الشروح الثلاثة من "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني" لفظ: "وغيرها"، بل قالوا: زاد الكشميهني والحموي: "وغيرها"، وعلى نسختهم يشكل تكرار الترجمة، فإن وجوب الصلاة في الثياب قد تقدم، ولم تبق فاقة بعده إلى هذه الترجمة بخلاف وجود "وغيرها"؛ فإنه يفرق بينهما إذا بالتخصيص والتعميم، ولو يقال: إن لفظ التعري في الترجمة أيضًا عام من العورة وغيرها يزيد تعميم الترجمة والفرق بين الترجمتين إلى آخر ما في هامش "اللامع" من كلام الحافظ والعيني في تفصيل القصة.
وقال الحافظ
(1)
: مطابقة الحديث للترجمة بقوله: فما رؤي عريانًا بعد، وهو يعم بعد النبوة والصلاة وغيرها، انتهى.
فلا إشكال بأن القصة قبل النبوة، والأوجه عندي: أن المراد بما سبق من قوله وجوب الثياب وجوب ستر العورة، وههنا كراهة تعرى سائر البدن كما يدل عليه عموم لفظ: عريانًا.
(9 -
باب الصلاة في القميص. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن الصلاة جائزة في كل ما حصل به ستر العورة، وأما التبان فإن لم يكن ساترًا بانفراده فإنه ساتر بانضمام غيره إليه، فكذلك جواز الصلاة به يتوقف علم ضم غيره من الثياب إليه، وهذا كله حكم الجواز، وأما الاستحباب لمن وجد سعةً فالتوسع في الملبوس كما دل عليه قوله:"إذا وسَّع الله فأوسعوا"، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: أن جواز الصلاة في التبان فقط يوافق مذهب مالك؛ لأن التبان يستر نصف الفخذ لا كلها، انتهى.
قلت: وسيأتي الكلام على الفخذ قريبًا، وميل البخاري في مسألة
(1)
"فتح الباري"(1/ 475).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 331).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 147).
الفخذ إلى قول الظاهرية فلا إشكال على مسلكه في ذكر التبان فقط في الترجمة، وما أفاده الشيخ في التبان وسبق إلى نحو ذلك في "الفتح" مبنيان على مسلكهما، فإن مسلك الحنفية والشافعية أن الفخذ عورة.
ثم كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لعل الوجه في إيراد رواية ابن عمر ههنا أن الممنوع عن هذه الملابس هو المحرم، فيكون لبسها جائزًا لغير المحرم، ولا ينافيه كراهة المزعفر والمعصفر له فإن ثبوت كراهتهما بنص آخر، أو يقال: إن جواز لبسهما للنساء كاف في ذلك، ولا يبعد أن يكون إيراد الحديث ههنا؛ لأن الإزار والرداء الباقيين بعد استثناء ما استثني من الألبسة من جملة الثياب التي جازت الصلاة فيها، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ من المناسبة ألطف مما ذكرت الشرَّاح من المطابقة.
قال الحافظ
(2)
: وموضع الحاجة من الحديث ههنا أن الصلاة تجوز بدون القميص والسراويل وغيرهما من المخيط بأمر المحرم باجتناب ذلك وهو مأمور بالصلاة، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: مناسبته بالترجمة من حيث جواز الصلاة في الثياب الغير المخيطة أيضًا مع كون أهل الثوب واجدًا، انتهى.
وجزم صاحب "تيسير القاري": أن الحديث لا يطابق الترجمة، والأوجه عندي الجواز في السراويل فقط من غير ثوب فوقه من القميص وغيره لما سيأتي في كتاب الحج من "باب من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل".
(1)
"لامع الدراري"(2/ 332).
(2)
"فتح الباري"(1/ 476).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 148).
(10 -
باب ما يستر من العورة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: ما يستر معروف أو مجهول، وعلى الأول فالمفعول محذوف، أو كلمة "من" زائدة، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في حد العورة، فقال أهل الظاهر: لا عورة من الرجل إلا القبل والدبر، وقال الشافعي ومالك وأحمد: حدها ما بين السرة والركبة، وقال أبو حنيفة: الركبة أيضًا عورة، انتهى مختصرًا.
قال الحافظ
(2)
: قوله: (باب ما يستر من العورة) أي: خارج الصلاة، والظاهر من تصرف المصنف أنه يرى أن الواجب ستر السوأتين فقط، وأما في الصلاة فعلى ما تقدم من التفصيل، وأول أحاديث الباب يشهد له، انتهى.
قلت: ولذا ذكر في هذا الباب أحاديث ستر الفرج فقط، وذكر فيما سيأتي الاختلاف في الفخذين، ولما رجح فيهما عدم العورة فالركبة أولى أن لا تكون عورة.
(11 -
باب الصلاة بغير رداء)
لا يبعد عندي في غرض الترجمة أن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أو كلكم يجد ثوبين"، وقوله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه:"إذا وسع الله فأوسعوا" أن لا تجوز الصلاة في ثوب واحد للقادر على الثوبين، فدفعه بحديث الباب بأنه رضي الله عنه صلى في ثوب واحد مع وجدان الرداء.
وكتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
: قوله: باب الصلاة بغير رداء أي: هو جائز، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 334).
(2)
"فتح الباري"(1/ 477).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 148).
(12 -
باب ما يذكر في الفخذ)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: المذاهب فيه مختلفة: فعند الشافعي وأبي حنيفة: الفخذ عورة، وإنما الخلاف بينهما في الركبة والسرة، وعند مالك: الفخذ ليس بعورة، والأحاديث في هذا الباب متعارضة والقوة من حيث الرواية لما ذهب إليه مالك، ووجه الجمع بين تلك الأحاديث أن الفخذ ليس بعورة بالنسبة إلى خاصة الرجل ومحارم أسراره، أعني الذين هم كثير الدخول عليه شديد التردد إليه، وأما بالنسبة إلى العامة ومن يزور الرجل غبًا فإنه عورة، يدلك على هذا التطبيق حديث دخول عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم وستره فخذه مع كشفه إياه عند أبي بكر وعمر، وأما ما ذهب إليه مالك من أنه يجوز للعملة والحمالين وأمثالهم الاقتصار على ما دون الفخذ في الصلاة، فلا شبهة في صحته عندنا لما رُوي من طرق كثيرة حتى حصل العلم الضروري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفهم ولا أمثالهم بستر الفخذ إلى الركبة في الصلاة، وههنا قاعدة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لها وجهين من الصلاة صلاة المحسنين وصلاة عامة المؤمنين وكم من أشياء قد جوَّزها في الثانية، ونهى عنها في الأولى، وإذا أنت حفظت هذه القاعدة سهل عليك أكثر المواضع المتناقضة في باب الصلاة، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(2)
: قال القسطلاني
(3)
: قال الجمهور من التابعين وأبو حنيفة ومالك في أصح أقواله والشافعي وأحمد في أصح روايتيه وأبو يوسف ومحمد: الفخذ عورة، وذهب داود وأحمد في رواية إلى أنه ليس بعورة، انتهى.
وما قال شيخ المشايخ من مذهب مالك أن الفخذ ليس بعورة عنده، هو المعروف على ألسنة المشايخ، لكن المنقول في كتب المذاهب الأول،
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 149).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 333).
(3)
"إرشاد الساري"(2/ 33).
قال الدردير في الفقه المالكية: هي من رجل ما بين سرة وركبة، قال الدسوقي: وعلى هذا فلا يجوز للرجل أن يرى الفخذ من مثله، وبسط في هامش "اللامع" في مستدلات الجمهور، وتقدم قريبًا في "باب ما يستر من العورة" أن ميل البخاري أن العورة السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، وقرر السندي
(1)
استدلال البخاري بحديث زيد بوجه آخر فقال: كأنه بنى الاستدلال بذلك إلى استبعاد وضع الفخذ على فخذ غيره، لو كان الفخذ عورة ولو بحائل كالفرج ونحوه فالوضع دليل على أنه ليس بعورة، ولم يرد الاستدلال بأنه وضع الفخذ بلا حائل؛ لأن الأصل عدمه فإنه باطل بشهادة العادة بالحائل في مثله، فصار الأصل هو الحائل كما لا يخفى، انتهى.
لكن يجاب عن تقرير السندي: بأن حكم السوءتين في ذلك خلاف غيرهما، فإن كبس الفخذين بالحائل بخلاف السوءتين فإنهما محل الشهوة.
قوله: (حسر النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: إسناد الحسر إليه مجاز، وإنما كان الحسر بعدو الدابة والتغطية عند دخول عثمان رضي الله عنه لم تكن عن تجريد بل كانت تغطيةً بعد أن كانت مغطاةً، واستدلاله بقوله: فخذه على فخذي، مبني على أن الأصل في لفظ الفخذ أن يطلق عليها وليس معها شيء، وأما إثبات الثوب فإثبات لأمر زائد فيحتاج إلى دليل.
والجواب: أنه وإن كان الأصل لكن الفخذ الملبوسة بالثياب لما لم تكن لها لفظة غير الفخذ لم تطلق إلا الفخذ، فإن الفخذ وكذا غيرها من الأعضاء لا تتغير أسماؤها إلى غير ما كانت قبل الستر، مع أن القول بعدم كونها عورةً مستلزم لإهمال الرواية القولية فلا يجوز، انتهى.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 77).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 336).
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: حسر، الحسر ما يكون بلا اختيار، أو المراد حسر القميص دون الإزار، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(1)
: أراد الشيخ من ههنا الجواب من قبل الحنفية وغيرهم عما استدل به الإمام البخاري على مسلكه أن الفخذ ليس بعورة، وحاصل ما أفاده الشيخ أن الحسر لم يكن عن قصد كما يدل عليه رواية مسلم وغيره بلفظ:"فانحسر" إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" في شرح كلام الشيخ قُدِّس سرُّه.
(13 -
باب في كم تصلي المرأة من الثياب)
أجمعوا على جواز الصلاة فيما يستر عورتها ولو كان ثوبًا واحدًا مع الاختلاف بينهم في عورتها في القدمين والاتفاق على عدم عورة الوجه والكفين إلا في رواية عن أحمد، ولا يتوقف على أربعة ثياب أو ثلاث كما قال به بعض السلف، وفي "الأوجز"
(2)
عن مجاهد: لا تصلي المرأة في أقل من أربعة أثواب: درع، وخمار، وملحفة، وإزار، وعن عطاء أنه قال: تصلي في درع وخمار وإزار، قال ابن المنذر: أظنه محمولًا على الاستحباب، وقال أيضًا بعد أن حكى عن الجمهور: إن الواجب على المرأة أن تصلي في درع وخمار، المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها، فلو كان الثوب واسعًا فغطت رأسها بفضله جاز، انتهى ملخصًا.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: دلالة الحديث على الترجمة ظاهرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألهن هل تحت مروطهن هذه ثياب أخر أم لا؟ فكان تقريرًا منه صلى الله عليه وسلم بالاكتفاء على ثوب لها بعد ما ستر عورتها، انتهى.
وقال السندي
(4)
ما حاصله: وجه الاستدلال أن الزمان كان زمان قلة
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 336).
(2)
"أوجز المسالك"(3/ 116).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 341).
(4)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 78).
الثياب، فالغالب عدم الزيادة على الواحد ولو فرض فالاحتمال باق قطعًا، وعدم سؤاله عليه الصلاة والسلام عن الثوب الزائد دليل الجواز، انتهى.
قلت: ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: "أو لكلكم ثوبان".
(14 -
باب إذا صلى في ثوب له أعلام. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك أن الصلاة جائزة وإن كان الإقدام على ما فيه اشتغال خلاف ما هو الأولى، انتهى.
وفي هامشه: وبذلك جزم شيخ المشايخ في "تراجمه"
(2)
إذ قال: أي: لا تفسد صلاته، ولكن تركه أولى، انتهى.
وكلا الجزئين واضحان: الأول: لمضيِّه صلى الله عليه وسلم في صلاته، والثاني: لكراهته صلى الله عليه وسلم، ثم لا يذهب عليك أن في الرواية الموصولة:"فإنها ألهتني" وفي المعلقة: "أخاف أن تفتني".
قال الحافظ
(3)
: ظاهره يدل على أنه لم يقع له شيء من ذلك، وإنما خشي أن يقع وكذا في رواية مالك في "الموطأ" بلفظ:"فكاد يفتنني"، فلتؤول الرواية الأولى، انتهى.
وهكذا راجع الأولى إلى الثانية، ويشكل عليه عندي أنهم قاطبة استدلوا بهذا الحديث على صحة صلاة من حصل له فيها فكر غير متعلق بالصلاة، فإن لم يتحقق الإلهاء فكيف يصح الاستدلال.
فالأوجه عندي في وجه التطبيق: أن الإلهاء قد تحقق وهو أخف مما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بلفظ: الافتتان، ولم يتحقق، والمراد منه زيادة الاشتغال المستغرق فيه وهو لم يتحقق، وأجاد الشيخ في تقرير أبي داود إذ قال:
(1)
"لامع الدراري"(2/ 342).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 153).
(3)
"فتح الباري"(1/ 483).
قوله: شغلتني. . . إلخ، ولعل شغله لم يكن إلا في عجيب صنعة ربه تعالى غير أنه عده نقصًا أيضًا نسبة إلى مرتبته العليا، فلا يستلزم شغله بها أن يكون قد اشتغل عن الحضور في حضرته سبحانه، كما نشاهد في كثير من الناس اشتغالهم بأمرين، ولا يعترى بذلك نقص في أدائهما، انتهى مختصرًا.
(15 -
باب إن صلى في ثوب مصلب. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: قوله: (لا تزال تصاويرها. . .) إلخ، فيه دلالة على جواز الصلاة أيضًا، وكذلك في الرواية الآتية وغيرها، فما فيه نوع كراهته وإن كانت الصلاة فيه مما لا ينبغي إلا أنها جائزة، انتهى.
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي قوله: "تعرض في صلاتي. . ." إلخ، قال: هذا ولم يعد صلاته ولا أمر لها بإعادة صلاتها مع أن ذلك القرام كان في الجانب المقابل له مائلًا إلى الجانب الأيسر له، فثبت أن الصلاة إلى التصاوير التي تكون بأحد جانبيه أو يكون هو حاملًا للتصاوير أو الصليب بأن تكون في ثوبه صحيحة، لكنها تكره تحريمًا للتشبيه بعبدتهم، ولو كان خلفه فهو أخف كراهة، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(2)
عن الحافظ: جرى المصنف على قاعدته في ترك الجزم فيما فيه اختلاف، وهذا من المختلف فيه، وهذا مبني على أن النهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ والجمهور إن كان لمعنى في نفسه اقتضاه وإلا لا، وظاهر حديث الباب لا يوفي بجميع ما تضمنته الترجمة إلا بعد التأمل؛ لأن الستر وإن كان ذا تصاوير لكنه لم يلبسه ولم يكن مصلبًا ولا نهى عن الصلاة فيه صريحًا.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 343).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 343).
والجواب: أما أولًا: فإن منع لبسه بطريق الأولى، وأما ثانيًا: فبإلحاق المصلب بالمصور لاشتراكهما في أن كلًا منهما قد عبد من دون الله تعالى، وأما ثالثًا: فالأمر بالإزالة مستلزم للنهى عن الاستعمال، ثم ظهر لي أن المصنف أراد بقوله: مصلب الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق هذا الحديث كعادته، وذلك فيما أخرجه في اللباس في "باب نقض الصور" قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه، ودلَّ الحديث على أن الصلاة لا تفسد بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقطعها ولم يعدها، انتهى.
قلت: ذكر الحافظ أولًا أن المسألة خلافية ولم يذكر تفصيلها، وكذا لم يذكرها القسطلاني والعيني، ويظهر الخلاف مما في هامش "اللامع"
(1)
عن "المغني"
(2)
إذ قال: ما يحرم لبسه والصلاة فيه هو نوعان، أحدهما: النجس لا تصح الصلاة فيه ولا عليه؛ لأن الطهارة من النجاسة شرط، وقد فاتت، والثاني: المغصوب وهل تصح الصلاة فيه على روايتين، إحداهما: لا تصح، والثانية: تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن التحريم لا يختص الصلاة ولا النهي يعود إليها إلى آخر ما فيه، وفيه عن "الشرح الكبير": أن عدم الصحة أظهر الروايتين لأحمد، وفي موضع آخر من "المغني"
(3)
: فأما الثياب التي عليها تصاوير الحيوانات فقال ابن عقيل: يكره لبسه وليس بمحرّم، وقال أبو الخطاب: هو محرم، قال: ويكره الصليب في الثوب، انتهى.
وفي تقرير مولانا حسين علي البنجابي: تكره الصلاة بثوب فيه التصاوير الظاهرة غير المقطوعة رأسها لذوي الأرواح أو التصاوير للشيء الذي اشتهر في المعبودية كراهة تحريم، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 343).
(2)
"المغني"(2/ 303).
(3)
"المغني"(2/ 308).
وليس في الحديث الصلاة في الثوب المصور، لكنه لما أمر بإزالة الحذاء؛ لأنها تعرض في الصلاة فالنهي عن اللباس أولى ولما لم يكن فيه جزم بالفساد وعدمه نبَّه عليه بقوله: هل تفسد، وهو الأصل الثاني والثلاثون من أصول التراجم.
(16 -
باب من صلى في فروج حرير)
بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم هو القباء المفرج من خلف، والجمهور على الكراهة وعن مالك يعيد في الوقت، كذا في "الفتح"
(1)
، قيل: أول من لبسه فرعون، كذا في "التراجم"
(2)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: كالكاره له، وكأن الوحي نزل في أثناء الصلاة كما يدل عليه مبادرته صلى الله عليه وسلم إلى النزع بفور تسليمه عن صلاته ففيه دلالة على أن جواز الصلاة يجامع التحريم كما قالت الحنفية، وإن الحرام يكون سببًا للنعمة لجهة أخرى غير الحرمة، وغرض المؤلف من إيراد الأبواب المختلفة إثبات أن الصلاة لا تفسد في شيء من هذه الأمور، وأما الكراهة والندب فأمران آخران، والتعرض ههنا لنفس الجواز، ويجوز مثل ذلك في تأويل الثوب الأحمر أيضًا، وعلى هذا فلا يضر كونه معصفرًا أو مزعفرًا أيضًا لما أنه كان إظهارًا لمسألة جواز الصلاة في نفسها، وفراغ الذمة عن الفريضة ولو بمجامعة مكروه تحريمي، وقد عرفت أن ارتكاب مثل ذلك إذا كان للتعليم سقطت الكراهة، انتهى.
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي رحمه الله قوله: (باب من صلى. . .) إلخ، يعني: هل يجوز هذا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 485).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 154).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 344 - 347).
فالجواب: لا؛ لأن فعله عليه السلام بعضه وقع قبل التحريم وبعضه بعده، وفعل الغير لا بدّ أن يكون بعد التحريم كله، انتهى.
وفي هامش "اللامع" وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: قوله: "فنزعه" أي: لا تفسد صلاته لكنه مكروه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة، ولكنه نزعه كالكاره له صريح في الكراهية.
(17 -
باب في الثوب الأحمر. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أي: جائزة بلا كراهة إن كان الأحمر غير معصفر، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(3)
: قال الحافظ: غرض المصنف الإشارة إلى الجواز، والخلاف في ذلك مع الحنفية فإنهم قالوا: يكره، وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حلة من برد، وفيها خطوط حمر، انتهى.
قلت: اختلفت الحنابلة أيضًا في ذلك كما في هامش "اللامع"، وفيه عن الحافظ: أن للعلماء فيه سبعة مسالك. قلت: للحنفية فيها ثمانية أقوال، وفي "الكوكب الدري" بعد الكلام على الروايات: والمذهب في لبس الحمرة والصفرة أن المزعفر والمعصفر ممنوع عنه الرجال مطلقًا والحمرة والصفرة غير ذلك، فالفتوى على جوازهما مطلقًا، لكن التقوى غير ذلك، انتهى.
وبذلك أفتى الشيخ قُدِّس سرُّه في كثير من فتاواه كما في "الفتاوى الرشيدية": أن الفتوى على الجواز والتقوى في الاحتياط، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 154).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 154).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 346، 347).
(18 -
باب الصلاة في السطوح والمنبر)
كتب شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
: غرضه من عقد هذا الباب أن ما ورد في الحديث: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" لا يقتضي لزوم الصلاة على الأرض، بل يجوز على غير ذلك كالمنبر والخشب والسطوح أيضًا إذا كان طاهرًا، انتهى.
قلت: الأوجه عند هذا العبد الحقير: أن هذا الغرض يناسب الترجمة الآتية من "باب الصلاة على الفراش"، والأوجه عندي في الغرض من هذا الباب ما قال الحافظ
(2)
من أن المصنف أشار بذلك إلى الجواز، والخلاف في ذلك عن بعض التابعين، وعن المالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا، وكره الحسن وابن سيرين الصلاة على الخشب، انتهى.
وقال الكرماني
(3)
: كره قوم السجود على العود، انتهى.
قول: (قال علي بن عبد الله. . .) إلخ، اختلفوا في شرح هذا القول، ففي شرح شيخ الإسلام: كَفت علي بن مديني نخواسته أم أز ذكر اين حديث مكَر اينكه تحقيق بيغمبر خدا بلند تر اسيتاده بود. . . إلخ.
وحاصله: أنه جعله من كلام ابن المديني وحمل لفظ "أردت" على صيغة المتكلم، والأول لا يصح عندي، والظاهر أنه من كلام أحمد بن حنبل، ثم رأيت أن صاحب "فيض الباري"
(4)
أيضًا تعقب على ذلك، إذ قال: قوله: "إنما أردت" فاعله أحمد بن حنبل لا ابن المديني، كما حرره شيخ الإسلام بين السطور، انتهى.
قلت: المراد ببين السطور نسخ "البخاري" الهندية، فطبع فيها كلام شيخ الإسلام قُدِّس سرُّه في بين سطور الكتاب، وأما الثاني يعني لفظ
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 155).
(2)
"فتح الباري"(1/ 386).
(3)
"شرح الكرماني"(4/ 43).
(4)
"فيض الباري"(2/ 21).
"أردت" فهو كذلك عندي، أي: بصيغة المتكلم، وخالفه السندي
(1)
إذ قال: أردت بالخطاب، انتهى.
ولم يتعرض لشرح هذا الكلام أحد من الشرَّاح الثلاثة إلا ما في "الفتح"
(2)
إذ قال في الحديث جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك المصنف في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، انتهى.
ويستأنس منه إن ذلك مقولة ابن حنبل لا ابن المديني، وأما مسألة علو الإمام عن القوم ففي "اللامع"
(3)
: قوله: "فقام عليه. . ." إلخ، فيه جواز قيام الإمام فوق القوم إذا لم تكن فوقية زائدة على مقدار مخصوص، واختلفوا في تحديده، والأصح أن ما دون الذراع لا كراهة، وفوق ذلك يكره، وارتفعت الكراهة فيما نحن فيه لعارض التعليم، ويفسد الاقتداء لو كان الإمام فوقهم أو تحتهم على مقدار قامة الإنسان، وأيضًا ففي الحديث دلالة على جواز الصلاة مع العمل الكثير كالمشي قدمين أو زائد من ذلك بقليل، انتهى.
وفي هامشه: قال العيني
(4)
: وعن أصحابنا عن أبي حنيفة جوازه إذا ى ن الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك تجوز في الارتفاع اليسير، انتهى.
وقال الكرماني
(5)
: جوز - يعني: أحمد - العلو بقدر درجات المنبر، وقال بعض الشافعية: لو كان الإمام على رأس منارة المسجد والمأموم في قعر بئر صح الاقتداء، انتهى.
وقال الموفق: المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 79).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 487).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 348).
(4)
"عمدة القاري"(3/ 329).
(5)
"شرح الكرماني"(4/ 41).
من المأمومين، سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد، وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره، وقال الشافعي: أختار للإمام الذي يعلِّم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع، انتهى.
قلت: وما قال الشيخ: ويفسد الاقتداء. . . إلخ، لم أر الفساد نصًا، فليفتش، وحاصل ما في "البحر" أن اختلافهم في ذلك في الكراهة لا الفساد إلى آخر ما في هامش "اللامع"
(1)
.
(19 -
باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته)
قال الحافظ
(2)
: أي: هل تفسد صلاته أم لا؟ والحديث دال على الصحة، انتهى.
ولا يبعد عندي أن يكون الغرض دفع توهم أن محاذاتها إذا كانت مفسدة للصلاة عند من قال به فملاقاة ثوبه بها أولى أن تكون مفسدة، فدفعه بهذه الترجمة أو يقال: إنه أراد الرد على الفساد بالمحاذاة لقول ميمونة رضي الله تعالى عنها: وأنا حذاءه.
قال الحافظ
(3)
: واستدل المصنف بحديث الباب على أن ملاقاة بدن الطاهر وثيابه لا تفسد الصلاة ولو كان متلبسًا بنجاسة حكمية، وفيه أن محاذاة المرأة لا تفسد الصلاة، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(4)
: يعني: لا بأس به، ولا تدخل في لمس النساء حتى تفسد صلاته، انتهى.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 348).
(2)
"فتح الباري"(1/ 488).
(3)
"فتح الباري"(1/ 491).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 156).
(20 -
باب الصلاة على الحصير)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: يعني: أنها جائزة، ومناسبة تعليق الباب مع الترجمة باعتبار أن المقصود من إثبات جواز الصلاة على الحصير، نفي لزوم الصلاة على التراب الذي يمكن أن يتوهم من قوله عليه السلام:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وقوله:"عفِّر وجهك"، وقوله لأفلح:"ترب ترب"، وقس على ذلك "باب الصلاة على الخمرة" إلا أن إيراد لفظ الخمرة لكونه واقعًا في الحديث، وقس على ذلك أيضًا "باب الصلاة على الفراش"، انتهى.
والأوجه عندي ما قال الحافظ
(2)
: النكتة في ترجمة الباب الإشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن شريح بن هانئ أنه سأل عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؟ والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]، فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، فكأنه لم يثبت عند المصنف، أو رآه شاذًا مردودًا لمعارضة ما هو أقوى منه كحديث الباب، بل سيأتي عنده من طريق أبي سلمة عن عائشة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه ويصلي عليه"، وفي "مسلم" عن أبي سعيد:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حصير"
(3)
، انتهى.
قوله: (وصلى جابر وأبو سعيد في السفينة. . .) إلخ، تقدم في كلام شيخ المشايخ مناسبته بالباب، ومثله في كلام الشرَّاح.
قال الحافظ
(4)
: الاستدلال بأثر جابر بأنهما اشتركا في أن الصلاة عليهما غير
(5)
الصلاة على الأرض، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 156).
(2)
"فتح الباري"(1/ 491).
(3)
"صحيح مسلم"(ح: 661).
(4)
"فتح الباري"(1/ 489).
(5)
كذا في الأصل وفي "الفتح": "أن الصلاة عليهما صلاة على غير الأرض".
وعلى ما اخترت من غرض الترجمة من خصوصية الحصير أن الجلوس في السفن يكون غالبًا على الحصر.
قوله: (وقال الحسن: يصلي قائمًا. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
قوله: ما لم تشق على أصحابك، يعني بذلك: ما لم يشق على الراكب، وبنى الأمر على ما هو العادة من الوحدة في العادات فما يشق على أصحابه يشق عليه عادة.
والحاصل: أن المصلي في السفينة يصلي قائمًا إن قدر وإلا فقاعدًا، وهذا مما اختاره الصاحبان، وقال الإمام: تجوز الصلاة في السفينة جالسًا شق عليه القيام أو لا، وذلك لإقامة السبب مقام المسبب، والأحكام عامة بعد بنائها على عللها، ويمكن حمل كلام الحسن على مذهب الإمام أيضًا، انتهى.
وبقول الصاحبين قال الجمهور، وقال الإمام: يجوز فيها الصلاة قاعدًا مع القدرة على القيام للمشقة كالقصر في السفر، ومعنى قول الحسن تدور معها عندي أن تدور إلى القبلة لا ما قاله القسطلاني
(2)
، أي: تدور مع السفينة حيث ما دارت، انتهى.
وتبعه صاحب "التيسير" إذ قال: مي كَردى بآن سفينه آنجا كه بكَردد بجانب قبله وغير قبله، انتهى. وتبعه شيخ الإسلام على هامش "التيسير"، ويؤيد مختاري ما في "الفتح"
(3)
عن "تاريخ البخاري" عن الحسن يقول: در في السفينة كما تدور إذا صليت، انتهى.
ثم رأيت أن مولانا محمد حسن المكي رحمه الله تعالى حكى ذلك في "تقريره" إذ قال: قوله: تدور معها، أي: لو دارت السفينة من القبلة، فدر أنت إلى القبلة وخالف السفينة، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 345).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(2/ 49).
(3)
"فتح الباري"(1/ 489).
وفي "الدر المختار"
(1)
: ويلزم استقبال القبلة عند الافتتاح وكلما دارت، قال ابن عابدين: وإنما لزمه الاستقبال؛ لأنها في حقه كالبيت، حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود بخلاف راكب الدابة، انتهى من هامش "اللامع".
(21 -
باب الصلاة على الخمرة)
وتقدم في الباب السابق كلام شيخ المشايخ مما يتعلق بهذا الباب.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أراد بذلك إثبات جواز الصلاة إذا كان المصلي بعضه على الأرض وبعضه فوق البساط، كما أراد بالأول إثبات الصلاة على غير الأرض، ولا شك أن المسألتان
(3)
مما يحتاج إلى بيانه، انتهى.
وفي هامشه: قال الكرماني
(4)
: الخمرة بضم المنقوطة وسكون الميم سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وتزمل بالخيوط، قال ابن بطال: الخمرة مصلى صغير، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكبر فإنه يقال له حينئذ: حصير، انتهى.
وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من الفرق بين الترجمتين ألطف مما ذكره الحافظ إذ قال
(5)
: كأنه أفردها بترجمة لكون شيخه أبي الوليد حدثه بالحديث مختصرًا، انتهى.
وأنت خبير بأن هذا الوجه لا يكفي لإيراد الترجمة المستقلة، وفيما أفاده الشيخ فائدة جليلة تناسب شأن تراجم البخاري.
وقال الكرماني: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة عليها
(1)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 573).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 358).
(3)
هذا من قبيل قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} .
(4)
"شرح الكرماني"(4/ 44).
(5)
"فتح الباري"(1/ 491).
إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان لا يصلي عليها، ويؤتى بتراب فيوضع على الخمرة، انتهى.
ولا يذهب عليك أن الإمام الترمذي بوَّب أيضًا بهذين الترجمتين فبوَّب أولًا: "باب ما جاء في الصلاة على الخمرة".
وكتب عليه الشيخ في "الكوكب الدري"
(1)
: هذا لدفع ما يتوهم من عدم أولوية ذلك بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في زمانه لم تفرش المساجد، وكان أكثر صلاتهم على الأرض، وبوَّب ثانيًا:"باب ما جاء في الصلاة على الحصير".
وكتب عليه الشيخ: هذا أكبر من الخمرة، أو هو مطلق والغرض في ذلك كله أن الأمر واسع، وإن كانت الصلاة على الأرض أولى للتذلل فيه، انتهى.
(22 -
باب الصلاة على الفراش)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لا شك في مغايرة هذه الترجمة لما تقدم، فلا إهمال ولا إلغاء، وأثبت بإيراد الأثر وأفعال الصحابة أن الصلاة على الفراش جائزة أعم من أن يكون كله على الفراش أو بعضه كما في السجدة على ثوبه، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: كأنه يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في لُحُفنا"، وكأنه لم يثبت عنده أو رآه شاذًا مردودًا، وقد بيَّن أبو داود علته، انتهى.
قلت: والأوجه عندي أن غرض المصنف بالترجمة دفع ما يتوهم
(1)
"الكوكب الدري"(1/ 325).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 358).
(3)
"فتح الباري"(1/ 491).
من قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" تخصيص الصلاة بالأرض، فأراد إثبات جوازها على غير الأرض، ولا يقال: إن هذا الغرض حصل بالترجمتين السابقتين؛ لأن فيهما كان احتمال التخصيص بالحصير والخمرة، وهذا تعميم بعد تخصيص، وتقدم في البابين المذكورين وجه تخصيصهما بالترجمة.
وفي "المغني"
(1)
: لا بأس بالصلاة على الحصير، والبسط من الصوف والشعر وسائر الطاهرات، وهو قول عوام أهل العلم، إلا ما روي عن جابر، أنه كره الصلاة على كل شيء من الحيوان، واستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض، ونحوه قال مالك، إلا أنه قال في بساط الصوف والشعر: إذا كان سجوده على الأرض لم أر بالقيام عليه بأسًا، والصحيح: أنه لا بأس بالصلاة على شيء من ذلك، انتهى مختصرًا.
قال البجيرمي: وما نقل عن مالك هو غير مشهور عند المالكية، فلعل الإمام رجع عنه أو لا يذكرونه لضعفه، انتهى.
وتقدم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يسجد على التراب، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(2)
مختصرًا، وترجم الإمام الترمذي هذه التراجم الثلاثة على نحو ما ترجم بها البخاري تقدم ذكر الترجمتين سابقًا، وأما الثالثة فبوَّب بلفظ:"باب ما جاء في الصلاة على البسط".
وكتب الشيخ عليه في "الكوكب"
(3)
: اعلم أن كل الأئمة سوى مالك جوَّز الصلاة على كل شيء طاهر يمكن السجود عليه، وأما مالك فلم يجوِّز إلا على ما هو من جنس الأرض كالحصير، فلا تجوز الصلاة على الجلود والصوف ومثل ذلك، ثم اعلم أن من قاعدة المحدثين أنهم لا يحملون المقيد على المطلق فيما ورد بلفظين كالحصير، فإنه ورد ههنا بلفظ البساط،
(1)
"المغني"(2/ 479).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 359).
(3)
"الكوكب الدري"(1/ 325).
وفي الرواية الثانية بلفظ الحصير، وههنا وإن كان التعدد في الواقعة أيضًا محتملًا لكنهم لا يبالون بذلك في الواقعة الواحدة أيضًا فهم يستنبطون بذلك حكم المطلق، كما استنبطوا من مقيده حكم المقيد.
حاصله: أن واقعة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم ظاهرها الوحدة، وإن كان يمكن التعدد أيضًا، لكنه لما بيَّنه الراوي مرة بلفظ البساط، وهو عام، ومرة بلفظ الحصير، وهو خاص علم بذلك مسألتان، انتهى.
(23 -
باب السجود على الثوب. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: هذا إثبات لإسناد ما ذكره أولًا في التعليق فلا تكرار، انتهى.
وفي هامشه: حاصل ما أفاده الشيخ أن الغرض بيان ما ذكره تعليقًا في "باب الصلاة على الفراش"، وعلى هذا فزيادة قوله:"في شدة الحر" في الترجمة شرح لما تقدم في التعليق إجمالًا.
والأوجه عندي: أن غرض المصنف بالترجمة الرد على الشافعية حيث قيدوا الجواز بالثوب المنفصل لا المتصل، واستدل المصنف بالإطلاق على العموم.
قال القسطلاني
(2)
: استدل بالحديث أبو حنيفة ومالك وأحمد على جواز السجود على الثوب في شدة الحر والبرد، وأوَّله الشافعية بالمنفصل أو بالمتصل الذي لا يتحرك بحركته، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: أي: هو جائز، وحديث الباب محمول عند الشافعي على ما إذا كان منفصلًا، وعند الحنفية جائز مع الكراهة، وما قال القسطلاني من أن السجدة على كور العمامة جائز بلا كراهة عند الحنفية، وذلك لأنه أورد مذهب
(1)
"لامع الدراري"(2/ 359).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 54).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 157).
أبي حنيفة رحمه الله مقابلًا لمذهب مالك، وهو الكراهة فهو أخطأ في نقل المذهب، بل الكراهة عند الحنفية أيضًا ثابتة بلا ارتياب، انتهى مختصرًا.
قلت: صرَّح به في "الدر المختار" إذ قال: يكره تنزيهًا بكور عمامته إلا بعذر إلى آخر ما بسطه في هامش "اللامع"
(1)
.
(24 -
باب الصلاة في النعال)
وهو أيضًا من جملة اللباس، ولعله احتاج إلى إثبات جوازه؛ لأن قوله تعالى:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] يشير إلى أنه لا يجوز لبسه في المسجد فلا تجوز الصلاة فيه بالأولى، أو لما فيه من مخالفة اليهود كما سيأتي في الباب الآتي.
وفي "فيض الباري"
(2)
: وقد علمت أن النعال غير المداس المعروف الآن في بلادنا، والصلاة في المداس ربما لا تصح؛ لأن القدم تبقى فيها معلقة ولا تقع على الأرض، فلا تتم السجدة، ثم في "الشامي": أن الصلاة في النعلين مستحبة، وفي موضع آخر: أنها مكروهة تنزيهًا إلى آخر ما في "الفيض".
(25 -
باب الصلاة في الخفاف)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: غرضه من إثبات جواز الصلاة في الخفاف دفع ما عسى أن يستبعد من جواز الصلاة فيهما لكون خفافهم مثل النعال حيث كانوا يمشون فيها في الطريق والأسواق، انتهى. كذا أفاد فليتأمل.
والأوجه عندي: ما قال الحافظ
(4)
من أنه أراد الإشارة إلى حديث
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 360).
(2)
"فيض الباري"(2/ 26).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 159).
(4)
"فتح الباري"(1/ 494).
شداد بن أوس مرفوعًا: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم"، فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة، انتهى.
وكتب شيخنا في "البذل"
(1)
: دلَّ هذا الحديث على أن الصلاة في النعال كانت مأمورة لمخالفة اليهود، وأما في زماننا فينبغي أن تكون الصلاة مأمورة بها حافيًا لمخالفة النصارى، فإنهم يصلون منتعلين لا يخلعونها عن أرجلهم، انتهى.
(26 -
باب إذا لم يتم السجود)
سيعيد المصنف هذه الترجمة والآتية في محلهما من كتاب الصلاة في أبواب السجود، وليست في نسخة المستملي، ولذا رجح الحافظ الحذف ههنا، فقال
(2)
: كذا وقع عند أكثر الرواة هذه الترجمة، ولم يقع عند المستملي شيء من ذلك وهو الصواب؛ لأن جميع ذلك سيأتي في مكانه اللائق به، وهو أبواب صفة الصلاة، ولولا أنه ليس من عادة المصنف إعادة الترجمة والحديث معًا لأمكن أن يقال: مناسبة الترجمة الأولى لأبواب ستر العورة الإشارة إلى أن من ترك شرطًا لا تصح صلاته كمن ترك ركنًا، ومناسبة الثانية الإشارة إلى أن المجافاة في السجود لا تستلزم عدم ستر العورة، فلا تكون مبطلة للصلاة، وفي الجملة إعادة هاتين الترجمتين هنا وفي أبواب السجود الحمل فيه عندي على النساخ بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك وهو أحفظهم، انتهى.
وفي "الفيض"
(3)
: يمكن أن يتكلف، ويقال: إن للسجدة شرائط كوجدان حجم الأرض وغيره فهي من شرائط الصلاة من هذه الجهة ومن جهة التعديل والطمأنينة معدودة في صفة الصلاة، انتهى.
(1)
"بذل المجهود"(3/ 599).
(2)
"فتح الباري"(1/ 495).
(3)
"فيض الباري"(2/ 27).
وفي هامشه: وهو الأظهر عندي حيث بوب ههنا أولًا: "باب إذا لم يتم السجود" فكأنه أشار إلى أن تمامية السجود من شرائط الصلاة، وثانيًا:"باب يبدي ضبعيه" فهذا وإن كان من تمام السجدة، لكنه أشار إلى أنه ليس من شرائط الصلاة، ثم إذا بوَّب أولًا: "
باب يبدي ضبعيه. . ." إلخ
، وهذه هي صفة السجود فقدمها في "باب صفة الصلاة" بخلاف تبويبه في شرائط الصلاة، ثم بوَّب في آخره:"إذا لم يتم السجود" وإنما أخَّره ههنا؛ لأنه من صفات السجود عدمًا، كما كانت الأولى من صفاته وجودًا، انتهى.
والأوجه عند هذا الفقير: أن المؤلف ذكر هذا الباب ههنا تنبيهًا على اتباع سُنَّته صلى الله عليه وسلم في الصلاة في الخفاف مخالفة لليهود التي يحكم على تاركها أنه لو مات على غيره مات على غير سُنَّة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه تكملة للباب السابق، ويحتمل أن يقال: إنها تكملة للباب السابق بوجه آخر بأن جواز الصلاة في النعال والخفاف معلق على ما إذا أتم السجود، وأما إذا لم يتمه بأن كانت القدم معلقة في السجدة ولم تقع على الأرض فلا تصح، أو يقال: إن هذا الباب تمهيد للباب الآتي فنبّه أولًا على اهتمام إتمام السجود، ثم ذكر سُنَّته في إبداء الضبعين، فلو وقع الإبداع فلا ينافي زينة الصلاة.
(27 - باب يبدي ضبعيه. . .) إلخ
تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
بسم الله الرحمن الرحيم
(28 -
باب فضل استقبال القبلة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يقال: إن البخاري رحمه الله تعالى يبتدأ
(1)
"لامع الدراري"(2/ 360).
بالبسملة ما يكتبه بعد فترة تعتريه في الكتابة والتأليف لأجل عائق يمنع عنها، انتهى.
وفي هامشه: هذا هو المعروف على ألسنة المشايخ، ولم أره في الشروح، لكنه وجيه، ولذا ترى المصنف طالما يذكر التسمية بين أبواب كتاب واحد كما ذكرها على "باب فضل الصلاة في مسجد مكة"، ثم ذكر قريبًا منه على "باب استعانة اليد في الصلاة"، وتقدم في مبدأ كتاب الإيمان بشيء من التفصيل.
قال العيني
(1)
: لما فرغ من بيان أحكام ستر العورة بأنواعها شرع في بيان استقبال القبلة على الترتيب؛ لأن الذي يريد الشروع في الصلاة يحتاج أولًا إلى ستر العورة، ثم إلى استقبال القبلة، وذكر توابعها من أحكام المساجد، انتهى.
وكتب شيخ المشايخ
(2)
: ثبت بحديث الباب فضله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جعل الاستقبال خصلة واحدة من الخصال المميزة بين المسلم وغيره الفارقة بينهما، انتهى.
قوله: (يستقبل بأطراف رجليه) هذا في غير محله على الظاهر، ولا يثبت بالرواية سيعيده المصنف في محله من أبواب السجود.
قال الحافظ
(3)
: أراد بذكره ههنا بيان مشروعية الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء، انتهى.
وقال السندي
(4)
: أي: فالاستقبال لفضله مطلوب مهما أمكن، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(3/ 358).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 160).
(3)
"فتح الباري"(1/ 496).
(4)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 81).
والأوجه عندي: أن هذه ليست ترجمة حتى يرد عليها الإيرادات المذكورة، بل بيان للمبالغة في الاستقبال حتى يستقبل برؤوس أصابع رجليه أيضًا، والمقصود فيما سيأتي في محله بيان كيفية السجود، ثم رأيت في تقرير المكي كتب بنحوه إذ قال: هذا ليس بداخل في الترجمة، بل هو زيادة للمبالغة في الاستقبال يعني استقبال كل البدن حتى أطراف رجليه أيضًا، انتهى.
(29 -
باب قبلة أهل المدينة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أي: أين هو؟ والرواية دالة على أنها بين المشرق والمغرب، ثم قوله: المشرق إن كان معطوفًا على قوله: قبلة، فهو داخل تحت الباب، والمعنى:"باب ذكر المشرق أنه ليس قبلة أهل المدينة"، وإن كان مرفوعًا فهو ابتداء كلام.
والمعنى: أما المشرق فليس مدار القبلة على المشرق ولا على المغرب، وإنما القبلة البيت إلى أيّ جهة وقعت وأيًا ما كان، فترك ذكر المغرب وهو مراد بناءً على الظهور، فإن المشرق والمغرب لا يتفاوتان في هذا الحكم، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر، وكثيرًا ما يحذف المعطوف لدلالة المعطوف عليه عليه، انتهى.
وفي هامشه: هذه الترجمة من التراجم الصعبة.
قال العيني
(2)
: هذا الموضع يحتاج إلى تحرير قوي، فإن أكثر من تصدى لشرحه لم يغن شيئًا، بل بعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فنقول - وبالله التوفيق -: ثم بسط في مختاره.
وحاصل ما ذكر الشرَّاح أن ههنا بحثين:
(1)
"لامع الدراري"(2/ 364).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 363).
الأول: في إعراب المشرق هل هو بالجر أو بالضم؟
والثاني: في ذكر لفظ: "قبلة"، في آخر الكلام بعد قوله:"ولا في المغرب" فهو موجود في بعض النسخ دون بعض، أما على النسخ التي ليس فيها هذا اللفظ، فلفظ باب منون، وقوله:"قبلة أهل المدينة" مبتدأ. خبره: "ليس في المشرق"، ويشكل على هذا تذكير لفظ:"ليس" إذ حقه إذ ذاك لفظ: ليست، فأولوه بالمستقبل.
قال الكرماني
(1)
: ويؤول تذكير لفظ: "ليس" بأن المراد بالقبلة المستقبل، أي: مستقبل أهل المدينة ليس في جهة المشرق والمغرب، انتهى مختصرًا.
وعلى هذا يكون لفظ المشرق مجرورًا لا محالة، وعلى الثاني يكون المراد بالمشرق أهل المشرق؛ كقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، وأما على النسخ التي يوجد فيها لفظ قبلة فقوله:"ليس في المشرق" جملة مستأنفة مبتدأ وخبر، كما قالوا، وعلى هذا فلفظ المشرق يحتمل الجر ويكون المراد منه شرقًا خاصًا، وهو مشرق أهل المدينة خاصة، وخصهم بالذكر؛ لأنهم كانوا إذ ذاك مأمورين بالإسلام، ويوضح المراد ما في هامش "الكوكب"
(2)
في "باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة" فارجع إليه لو شئت، ويحتمل أيضًا أن يكون المشرق بالضم على رواية الأكثر، وصوَّبه الزركشي عطفًا على باب، أي: وباب حكم المشرق، ثم حذف باب وحكم، وأقيم المشرق مقام الأول، وهذا هو الذي اختاره الشيخ قُدِّس سرُّه.
والأوجه عندي أن قوله: والمشرق إن كان بالجر فيكون المراد به المشرق الخاص كما تقدم، وإن كان بالضم فهو على ما أفاده الشيخ يكون عامًا لأهل المشرق كلها، وأيًا ما كان فغرض المصنف بالترجمة قوله: ليس
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 57).
(2)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 334).
في المشرق والمغرب قبلة أي: لأهل المدينة، وهو المقصود بالترجمة، فكأنه أراد بذلك الرد على المذهب الثامن من المذاهب الثمانية المذكورة في "الأوجز"
(1)
في "باب النهي عن استقبال القبلة واستدبارها"، وهو مذهب أبي عوانة صاحب "المزني" إذ قال: إن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، أما من كانت قبلته إلى الشرق أو الغرب، فيجوز له الاستقبال والاستدبار لقوله صلى الله عليه وسلم:"لكن شرِّقوا أو غرِّبوا"، فنبّه المصنف بالترجمة أن حكم النهي عام، وقوله صلى الله عليه وسلم:"شرِّقوا أو غرِّبوا" خاص لأهل المدينة والشام؛ لأنه ليس قبلتهم في المشرق ولا في المغرب، فتأمل، فإن خاطري أبو عذره فإن كان صوابًا فمن الله عز اسمه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، انتهى ملخصًا.
(30 -
باب قول الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:
125])
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أراد بذلك توكيد أمر القبلة أنها من التأكد بحيث إذا وردت هذه الآية لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف المقام فرض الاستقبال، وأيضًا ففي عقد الترجمة دلالة على أن الآية ليست بموجبة استقبال المقام إذ لو كان كذلك لما صلى في وجه البيت؛ لأن المقام يكون خلفه حينئذ، فأراد أن الأمر في الآية ليس بإيجاب، وإنما هو أمر استحباب وسُنَّة، انتهى.
وفي هامشه: يشكل على الترجمة أن الإمام البخاري ترجم بالآية المتضمنة للأمر، ثم أورد فيها الروايات التي لا تدل على اتخاذ المقام مصلى، وأجاب عنه الشيخ بجوابين: إن المصنف أشار بذلك إلى توكيد أمر الاستقبال إلى الكعبة، إذ لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الأمر، فكان
(1)
"أوجز المسالك"(4/ 162).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 365).
أمره آكد من هذا الأمر، والثاني: الإشارة إلى أن الأمر الوارد في آية الترجمة للندب، وقال السندي
(1)
: يمكن أن يقال: أشار بأحاديث الباب إلى أن الأمر مخصوص بركعتي الطواف، أو أنه للندب حيث فعله تارةً وتركه أخرى، أو أشار إلى أن المراد بمقام إبراهيم البيت أو الحرم، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: قوله: {وَاتَّخِذُوا} في روايتنا بكسر الخاء على الأمر، وهي إحدى القرائتين، والأخرى بالفتح على الخبر، والأمر دال على الوجوب، لكن انعقد الإجماع على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة، فدل على عدم التخصيص، وهذا بناء على أن المراد بمقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدمه وهو موجود إلى الآن، وقال مجاهد: المراد بمقام إبراهيم الحرم كله، والأول أصح، واستدل المصنف على عدم التخصيص أيضًا بصلاته صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، فلو تعيَّن استقبال المقام لما صحت هناك؛ لأنه كان حينئذ غير مستقبل، وهذا هو السر في إيراد حديثي ابن عمر عن بلال في هذا الباب، انتهى.
والمقام في هذا الزمان في المحل الذي كان فيه زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في هامش "اللامع".
(31 -
باب التوجه نحو القبلة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "فتحرف القوم" دلالته على الترجمة ظاهرة؛ لأن القوم كانوا يصلون في غير مقام صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أن الاستقبال غير مختص بمكان دون مكان، بل يجب الاستقبال حيث كان المصلى، انتهى.
وفي هامشه: وعلى هذا فغرض الترجمة أن استقبال القبلة لا يختص
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 81).
(2)
"فتح الباري"(1/ 499).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 366).
بموضعه صلى الله عليه وسلم، بل في أيّ مكان كان المصلى، وبذلك جزم الكرماني
(1)
حيث قال: وكان تامة، أي: حيث وجد الشخص، قال الله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] انتهى.
وأنت خبير أن هذا الغرض من الترجمة لا يليق بشأن تراجم البخاري، وأولها الحافظ
(2)
ومن تبعه بقوله: أي: حيث وجد الشخص في سفر أو حضر، والمراد بذلك في صلاة الفريضة كما يتبين ذلك في الحديث الثاني في الباب وهو حديث جابر، انتهى.
والأوجه عندي في غرض المصنف اللائق بشأنه: أنه أراد بذلك دفع ما يتوهم من حديث أبي هريرة الذي ذكره في الترجمة أن استقبال القبلة يكفي في أول الصلاة عند التحريمة فقط، فدفعه بالروايات الواردة في الباب إذا استقبل أهل القبلتين في أثناء الصلاة، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى في سجدة السهو وكذلك في حديث جابر إذ نزل فاستقبل في السفر، انتهى.
(32 -
باب ما جاء في القبلة. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: ظاهر هذه الترجمة الإشارة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المصلي لو أخطأ في تحري القبلة في ليلة ظلماء، وصلى إلى غير القبلة فصلاته جائزة، وليس عليه أن يعيد خلافًا للشافعي رحمه الله تعالى، والاستدلال بفعله عليه الصلاة والسلام من حيث أنه عليه السلام أقبل على الناس بوجهه، وانصرف من القبلة ومع ذلك بنى على صلاته ولم يستأنف، فتأمل.
والحديث الأول من الباب ناظر إلى الجزء الأول من الترجمة وهو قوله: "ما جاء في القبلة" أي: ما جاء في صورة القبلة قبله، ونزول آية:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، أي: اجعلوا مقام إبراهيم بينكم
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 61).
(2)
"فتح الباري"(1/ 502).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 160).
وبين الكعبة في صلاتكم، فهذه الآية دالة على كون الكعبة قبلة والأحاديث الأخر ناظرة إلى الجزء الثاني من الترجمة، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: قوله: (باب ما جاء في القبلة) أي: غير ما تقدم، انتهى.
والأوجه عندي: أن الباب في متعلقات القبلة، وبه جزم السندي
(2)
إذ قال: قوله: "باب ما جاء في القبلة" أي: في متعلقاتها كمقام إبراهيم أو فيها ومقام إبراهيم هي الكعبة، انتهى.
ويحتمل أيضًا أن يقال: إنهما ترجمتان الأولى في بدأ القبلة، والثانية فيمن سها.
قال الحافظ
(3)
: قوله: (ومن لم ير الإعادة. . .) إلخ، أصل المسألة أن المجتهد في القبلة إذا تبين خطأه فلا إعادة عند الكوفيين، وعن مالك: تجب الإعادة في الوقت لا بعده، وعن الشافعي: يعيد إذا تيقن الخطأ مطلقًا، انتهى. مختصرًا.
قوله: (وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، مناسبة هذا التعليق أن بناءه على الصلاة دال على أنه في حال الاستدبار في حكم الصلاة، قاله الحافظ.
قوله: (وافقت ربي في ثلاث) قال الحافظ
(4)
: مناسبته للترجمة ما قال الكرماني: إن المراد من الترجمة ما جاء في القبلة وما يتعلق بها، وقال ابن رُشيد: إن تعلق الحديث بالترجمة الإشارة إلى موضع الاجتهاد في القبلة؛ لأن عمر رضي الله تعالى عنه اجتهد في أن اختار أن يكون المصلى إلى مقام إبراهيم الذي هو في وجه الكعبة، فاختار إحدى جهات القبلة بالاجتهاد، وحصلت موافقته على ذلك فدل على تصويب اجتهاد المجتهد إذا بذل وسعه، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 505).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 82).
(3)
"فتح الباري"(1/ 505).
(4)
"فتح الباري"(1/ 505).
قلت: والأمور التي وافق عمر رضي الله تعالى عنه فيها ربه تبارك وتعالى، قد وصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين ذكرها صاحب الجمل والسيوطي في "تاريخ الخلفاء" كذا في هامش "الكوكب".
قلت: وللسيوطي رسالة مستقلة سماها "قطف الثمر في موافقات عمر رضي الله عنه" في كتاب الحاوي.
(33 -
باب حك البزاق)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لما كان فيه من الكراهة الطبعية ما يوهم أن ذلك لا يجوز رد عليه بإثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي هامشه: شرع الإمام البخاري من ههنا أبواب المساجد.
قال العيني
(2)
: من ههنا إلى قوله: "باب سترة الإمام" خمسة وخمسون بابًا كلها فيما يتعلق بأحكام المساجد، فلا يحتاج إلى ذكر وجه المناسبة بينها على الخصوص، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
من ههنا شرع المؤلف في بيان أحكام المساجد وما يتعلق بها خصائل استقبال القبلة وأحكامها، انتهى.
واختلفوا في غرض المصنف بهذه الترجمة والمغايرة بينها وبين الترجمة الآتية.
قال الحافظ
(4)
: قوله: باليد، أي: سواء كان بآلة أم لا؟ ونازع الإسماعيلي في ذلك فقال: أي: تولى ذلك بنفسه لا أنه بأشر بيده النخامة، انتهى.
قلت: والأوجه عندي أن الإمام البخاري نبَّه بالترجمتين على الفرق
(1)
"لامع الدراري"(2/ 373).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 411).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 161).
(4)
"فتح الباري"(1/ 508).
بين البزاق والمخاط، ولذا اكتفى على الأول باليد وقيد الثاني بالحصى، وإليه أشار الحافظ
(1)
إذ قال: وجه المغايرة بين هذه الترجمة والتي قبلها من طريق الغالب، وذلك أن المخاط غالبًا يكون له جرم لزج فيحتاج في نزعه إلى معالجة، والبصاق لا يكون له ذلك فيمكن نزعه بغير آلة إلا إن خالطه بلغم فيلتحق بالمخاط، انتهى.
قلت: وهذا هو الظاهر من مغايرة الترجمتين.
(34 -
باب حك المخاط بالحصى. . .) إلخ
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: غرض المؤلف من عقد هذا الباب أن ما ذهب إليه بعض العلماء من أن المخاط نجس، وتمسكوا بهذا الحديث حيث قالوا: إن حكه عليه السلام كان للتطهير لا للتنظيف محتمل الحديث، ويحتمل أن يكون غرضه إبطال ذلك المذهب، ومثل ذلك يفعل المؤلف في كتابه كثيرًا، وإيراد تعليق الباب لأجل هذه المناسبة، وههنا توجيه آخر مطرد في أكثر المواضع وهو أجود التوجيهات عندي وهو أنه من دأب المصنف أن يورد حديثًا واحدًا متعدد الطرق مرارًا متعددةً، ويعقد كل ترجمة بلفظ آخر واقع في ذلك الحديث، ومقصوده ليس إلا إكثار طرق الحديث كما وقع في هذا المقام، انتهى.
قلت: وهذا هو الأصل السابع عشر من أصول التراجم.
قلت: وما أفاد شيخ المشايخ ويحتمل أن يكون غرضه إبطال ذلك المذهب، هو مذهب جماعة من التابعين، قال ابن رسلان: قال ابن بطال: لا أعلم خلافًا لأحد في أن البزاق طاهر إلا ما روي عن سلمان الفارسي فإنه جعله غير طاهر، والحسن البصري كرهه في الثوب تنزهًا، انتهى.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 509).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 162).
وحكى ابن العربي
(1)
عن النخعي نجاسة الريق كذا في هامشي على "البذل"
(2)
، ثم يشكل على الروايات الواردة في الترجمتين.
قال الكرماني
(3)
: في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الباب الأول: هذا يدل على بعض الترجمة إذ لا يعلم منه أن حكه كان بيده ومن المسجد.
قلت: المتبادر إلى الفهم من إسناد الحك إليه صلى الله عليه وسلم أنه كان بيده الشريفة، والمعهود من جدار القبلة جدار قبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: قوله: "في جدار القبلة" وفي رواية: "في جدار المسجد"، وللمصنف في آخر الصلاة من طريق أيوب عن نافع في قبلة المسجد، وهو مطابق للترجمة، انتهى.
وقال الكرماني
(5)
في أول حديث للباب الثاني: فإن قلت: عقد الباب على حك المخاط، والحديث يدل على حك النخامة.
قلت: لما كانا فضلتين طاهرتين لم يفرق بينهما إشعارًا بأن حكمهما واحد، انتهى.
وقال العيني
(6)
: والأوجه أن يقال: وإن كان بينهما فرق، وهو أن المخاط يكون من الأنف والنخامة من الصدر، لكنه ذكر المخاط في الترجمة، والنخامة في الحديث إشعارًا بأن بينهما اتحادًا في اللزوجة، وأن حكمهما واحد من هذه الحيثية أيضًا، انتهى.
قلت: وهذا هو الأوجه مما ذكره الكرماني، انتهى من هامش "اللامع" مع زيادة من حواشي "البذل".
قوله: (وقال ابن عباس. . .) إلخ، لا تعلق لهذا الأثر بالترجمة على الظاهر، ولذا اختلفوا في توجيهه.
(1)
"عارضة الأحوذي"(3/ 57).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(3/ 633).
(3)
"شرح الكرماني"(4/ 71).
(4)
"فتح الباري"(1/ 509).
(5)
"شرح الكرماني"(4/ 71، 72).
(6)
"عمدة القاري"(3/ 396).
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أشار بنقل الأثر إلى أن الوجه في كراهة البصاق ليس هو التقذر إذ لو كان الوجه هو التقذر لفرق بين رطبه ويابسه كما فرق ابن عباس بينهما في النعل لذلك، انتهى.
وحاصل ما أفاده الشيخ: أن كراهة البصاق ليست لمجرد التقذر بل لاحترام المسجد، ولذا يحك عن المسجد مطلقًا، ولفظ تقرير مولانا محمد حسن المكي رحمه الله تعالى: أما المسجد فيحك عنه اليابس أيضًا، وبه حصلت المناسبة بترجمة الباب، انتهى.
وفي تقرير مولانا حسين على البنجابي رحمه الله تعالى: القذر أعم من النجس إذ معناه ما يقذره الطبيعة، والمخاط والبزاق من القذر فلا حاجة إلى بيان المناسبة، انتهى.
وذكر في هامش "اللامع" عدة توجيهات من الشروح، وفي آخره: والأوجه عندي: أن الإمام البخاري نبَّه بالترجمتين وبذكر التعليق على إزالة البزاق وغيره من المسجد مطلقًا احترامًا للمسجد كما تقدم في كلام الشيخ، ويكفي للبزاق اليد، وللمخاط وغيره ينبغي الحصى ونحو لشدة اللزوجه، وهذا كله في اليابس، ولا بد من غسل الرطب؛ لأنه لا يزول بالحك، وعلى هذا فذكر التعليق تنبيهًا على إزالة الرطب للغسل، فتأمل، انتهى.
(35 -
باب لا يبصق عن يمينه)
اعلم أن الإمام البخاري ترجم ههنا بخمسة تراجم متقاربة ينبغي للناظر أن يخرج لها وجوهًا تناسب شأن تراجم البخاري، ولعل الشيخ سكت عنها تبعًا للشرَّاح تشحيذًا لأذهان الطالبين، فإنهم إذا رأوها خمسةً متقاربةً فلا بدّ أن يتدبروا فيها، وما يظهر لهذا العبد الفقير إلى رحمته تعالى شأنه: أن الإمام البخاري أشار فيها إلى أبحاث لطيفة، فالأول منها هذا الباب، ونبَّه
(1)
"لامع الدراري"(2/ 375).
بذلك على مسألة خلافية شهيرة وهي: النهي عن البزاق إلى اليمين هل يختص بالصلاة أو يعم خارجها أيضًا؟ وتبويبه يشير إلى أنه مال إلى الأول.
قال الحافظ
(1)
: ليس في حديثي الباب التقييد بحال الصلاة، وسيأتي التقييد به في الرواية الآتية في الباب الذي يليه، فجرى المصنف على عادته في التمسك بما ورد في بعض طرق الحديث وكأنه جنح إلى أن المطلق في الروايتين محمول على المقيد فيهما، وهو ساكت عن حكم ذلك خارج الصلاة، وقد جزم النووي بالمنع مطلقًا في الصلاة وخارجها وفي المسجد وغيره، وقد نقل عن مالك أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، انتهى.
قلت: ما قال الحافظ: إن البخاري ساكت عن حكم ذلك خارج الصلاة عجيب؛ فإنه قد جزم بنفسه أن البخاري جنح إلى أن المطلق في الروايتين محمول على المقيد فكأن الإمام البخاري مال في ذلك عندي إلى قول الإمام مالك، ولذا قيَّد الترجمة بالصلاة، والثاني من التراجم "باب ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى"، وحمل الشيخ في "اللامع"
(2)
لفظ: "أو" على التنويع حيث قال: قوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه" أي: إذا كان في غير المسجد ولم يكن إلى يساره أحد، أو تحت قدمه اليسرى إذا كان في المسجد أو كان عن يساره أحد، انتهى.
ويحتمل عندي التخيير، والأوجه عندي: أن هذا الباب والباب الآتي أشار بهما الإمام البخاري إلى مسألة خلافية شهيرة بين النووي والقاضي عياض، وذكر في البابين مستدل الفريقين.
قال الحافظ
(3)
: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا، وهما قوله "البزاق في المسجد خطيئة"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ليبصق عن يساره أو تحت قدمه"، فالنووي يجعل الأول عامًا، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد،
(1)
"فتح الباري"(1/ 510).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 375).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 511، 512).
والقاضي بخلافه يجعل الثاني عامًا، ويخص الأول بمن لم يرد دفنها إلى آخر ما بسطه الحافظ.
فالظاهر عندي: أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى مسلك من سلك مسلك القاضي عياض، ولذا ترجمه بالعموم، وأشار بالباب الثالث وهو "باب كفارة البزاق في المسجد" إلى مسلك من سلك مسلك النووي؛ لأن لفظ الكفارة يشعر إلى السيئة، وأيضًا ذكر المصنف فيه حديث البزاق في المسجد خطيئة وهو نص في كونه خطيئة وسيئة، ثم ترجم رابعًا "باب دفن النخامة في المسجد" وأشار عندي منه أيضًا إلى مسألة خلافية وهي جواز دفنها في المسجد؛ فإن بعضهم لم يقولوا بذلك، والأحاديث صريحة في ذلك ولذا ترجم به إثباتًا لجوازه.
قال الحافظ
(1)
: قال الجمهور يدفنها في تراب المسجد، وحكى الروياني أن المراد بدفنها إخراجها من المسجد أصلًا، انتهى.
ثم ترجم خامسًا بباب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه، وأشار به إلى أن لفظ:"أو" في حديث الباب للتنويع لا للتخيير، وهو محمول على ما إذا بدره، فكأنه أشار بالترجمة إلى أنه لا يبصق في الثوب بدون الحاجة للتقذر.
قال الحافظ
(2)
: ليس في الحديث التقييد بالمبادرة فكأنه أشار إلى ما في بعض طرق الحديث ذكرها الحافظ كما ذكره في هامش "اللامع"
(3)
، وقال السندي
(4)
: أشار بهذه الترجمة إلى أن الحديث المطلق المذكور في الباب محمول على التقييد بشهادة روايات لم يذكرها المصنف لكونها ليست على شرطه، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 512).
(2)
"فتح الباري"(1/ 513).
(3)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 378).
(4)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 84).
قلت: وهذا أصل مطرد وهو الأصل الحادي عشر من أصول التراجم.
(36 -
باب ليبصق عن يساره. . .) إلخ
لا يبعد أن المصنف أراد الإشارة بذكر الحديث الخالي عن الأمر إلى أن الأمر فيما تقدم ليس للوجوب لخلو أكثر الروايات عنه، والأوجه أنه أراد جواز البصاق في المسجد كما قال به عياض كما تقدم قريبًا.
قال الكرماني
(1)
: هذه الترجمة مطلقة، والحديث فيها مقيَّد بالصلاة عكس الترجمة السابقة، فإنها مقيَّدة بالصلاة والحديث فيها مطلق، والجواب أن المطلق فيه محمول على المقيَّد، فإن قلت: لفظ الترجمة مقيَّد بالقدم اليسرى ولفظ القدم في الحديث لا تقييد فيه.
قلت: تقيَّد به عملًا بالقاعدة المقررة من تقييد المطلق، فإن قيل: كان ينبغي أن يذكر هذا الحديث في الباب الأول، وبالعكس.
قلت: لعل غرضه بعد معرفة نفس الأحكام بيان استخراج الأحكام ومعرفة طريق استنباطها تكثيرًا للفائدة، انتهى.
(37 -
باب كفارة البزاق في المسجد)
لعل المؤلف أشار إلى أن العمومات في الباب السابق مقيَّدة بالدفن وإن لم يذكر في بعض الروايات فكأن هذه الترجمة قيد للسابق.
فالظاهر عندي: أن الإمام البخاري أشار بالترجمة السابقة إلى مسلك القاضي، وبهذه إلى مسلك النووي كما تقدم مفصلًا.
(38 -
باب دفن النخامة في المسجد)
سكتوا عن غرض المصنف ولا يبعد عندي أنه أشار إلى أن حكم
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 73).
الدفن يختص بالمسجد، ولا يحتاج إليه إذا صلى خارج المسجد، فكأنه تقييد لعموم الحديث.
والأوجه: أنه أشار بذلك إلى مسألة خلافية بين الجمهور والروياني كما تقدم، ولا يذهب عليك أن ما في حديث الباب، فإن عن يمينه ملكًا، ليس المراد منه كاتب الحسنات فلا إشكال لكون الكاتب على اليسار أيضًا، بل المراد به الملك الموكل به وعلى اليسار قرينه كما ورد في حديث أبي أمامة على ما رواه الطبراني
(1)
: "فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره"، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان ولا يصيب الملك، كذا في هامش الهندية
(2)
عن "الخير الجاري" و"العيني".
(39 -
باب إذا بدره البزاق. . .) إلخ
تقدم الكلام عليه أيضًا فيما تقدم.
قال الحافظ
(3)
: واستشكل التقييد في الترجمة بالمبادرة مع أنه لا ذكر لها في الحديث، فكأنه أشار إلى ما في بعض طرق الحديث المذكور، وهو ما رواه مسلم
(4)
عن جابر بلفظ: "وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به باردة فليقل بثوبه هكذا" الحديث، فأشار إليه بالترجمة وقيد العموم به، انتهى.
وقال السندي
(5)
: أشار بهذه الترجمة إلى أن الحديث المطلق في الباب محمول على التقييد بشهادة روايات لم يذكرها المصنف لكونها ليست على شرطه، انتهى.
(1)
"المعجم الكبير"(7808)(8/ 234).
(2)
(1/ 702)، انظر:"عمدة القاري"(3/ 402).
(3)
"فتح الباري"(1/ 513).
(4)
"صحيح مسلم"(ح: 548).
(5)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 84).
(40 -
باب عظة الإمام الناس. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: (وذكر القبلة) أي: هذا باب يذكر فيه القبلة إلى أيّ جهة هي، انتهى.
وفي هامشه: اعلم أولًا: أن الإمام البخاري ترجم في الباب ترجمتين، الأولى: عظة الإمام، والثانية: ذكر القبلة، والأولى هي المقصود الأصلي من عقد الباب عندي خلافًا لما عليه الشرَّاح، فقد قال الحافظ
(2)
: قوله: "وذكر القبلة" بالجر عطفًا على "عظة"، وأورده للإشعار بمناسبة هذا الباب لما قبله، انتهى.
وأبعد منه ما قال العيني
(3)
: من أن الأبواب السابقة كان فيها أمر ونهي وتشديد فيهما، وهي كلها وعظ، وهذا الباب أيضًا في الوعظ، انتهى.
والأوجه عندي: أنه نبَّه بذلك على أهم المصالح من حكم المسجد والجماعة، ولذا ذكره في أبواب المساجد كأنه نبَّه بذلك على أنه ينبغي للإمام أن يلاحظ أحوال المصلين وينبههم على تقاصيرهم في الصلاة، وبسط شيخ المشايخ في "حجة الله البالغة" في مصالح الجماعة ذكرت في هامش "اللامع"
(4)
، وأما الجزء الثاني من الترجمة وهو قوله: و"ذكر القبلة"، فذكره استطرادًا لينبه بذلك قارئ "الصحيح" على أن لا يمر على ما في حديث الباب من ذكر القبلة نائمًا؛ فإنه جدير بغاية التدبر؛ لأن ظاهر سياق الحديث بلفظ: هل ترون قبلتي ههنا بالاستفهام الإنكاري يشعر أن قبلته صلى الله عليه وسلم ليست على الجهة التي توجه إليها، وهذا المعنى ظاهر البطلان فنبَّه بلفظ:"ذكر القبلة" في الترجمة على أن يتدبر طالب الحديث في معناه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأراكم من ورائي" قال الحافظ
(5)
: قد اختلف في
(1)
"لامع الدراري"(2/ 379).
(2)
"فتح الباري"(1/ 514).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 403).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 379).
(5)
"فتح الباري"(1/ 514).
معناه، فقيل: المراد به العلم إما بالوحي أو بالإلهام أو أنه يرى من عن يمينه ويساره بالتفات يسير، أو كانت له عين خلف ظهره، أو كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط، أو أن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به صلى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة، وهو الصواب المختار.
قلت: وهو الأوجه عندي: وعلى هذا فلا حاجة إلى المحاذات معجزة له صلى الله عليه وسلم كما يكون في القيمة في رؤية الباري، وقيل: كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فيرى أمثلتهم فيها، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع"
(1)
.
وعلى هذا المعنى الأخير يناسب هذا الجزء من الترجمة بأبواب المساجد.
(41 -
باب هل يقال: مسجد بني فلان)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كان المسجد بيت الله تعالى ودار عبادته أوهم ذلك أن نسبته إلى غيره لعله يكون إشراكًا به، ولا أقل من كراهة ذلك وإساءة الأدب فيه دفعه بإيراد الرواية فكان أمرًا ليس فيه بأس، انتهى.
وفي هامشه: وبذلك جزم شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
إذ قال: إنما اهتم المصنف بإثبات ذلك؛ لأن كون المساجد مملوكة لله تعالى غير مملوكة لأحد يوهم أنه لا يجوز إضافتها إلى أحد، فلدفع هذا الوهم أثبت أنه يجوز الإضافة لعلاقة ما من البناء أو التولية أو القرب، انتهى.
قلت: أو ترجم بذلك ردًا لما روي عن بعض السلف كراهة ذلك.
قال الحافظ
(4)
: الجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي؛ لأنه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان، ومصلى بني فلان لقوله
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 381).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 380، 381).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 163).
(4)
"فتح الباري"(1/ 515).
تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، والجواب: إن هذا إضافة تمييز لا ملك، وإنما أورد المصنف بلفظ الاستفهام لينبِّه على أن فيه احتمالًا إذ يحتمل أن يكون ذلك قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون هذه الإضافة وقعت في زمنه، ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده، والأول أظهر، انتهى.
قلت: ويقوى الاحتمال الثاني ما قالوا في حديث ابن عباس الآتي في أبواب العيد بلفظ: حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت.
قال الحافظ
(1)
: إن تعريفه بكونه عند دار كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع، وإلا فدار كثير بن الصلت محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
فيحتمل مثل ذلك في حديث الباب أيضًا.
(42 -
باب القسمة وتعليق القنو. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كان قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا يصلح فيه شيء من أمور الناس" أو كما قال، ظاهره يمنع كل أمر من أمورهم بين بذلك أن المراد بالأمور غير ما هو مفتقر إليه، ثم إن حكم تعليق القنو ثابت للشركة في العلة أو لما فيه من القسمة أيضًا، انتهى.
وفي هامشه: هذا أجود مما قاله الحافظ من أن الغرض أن مثل ذلك من الأمور المباحة ليس من اللغو الذي يمنع في المساجد، انتهى.
لأن كون الأمور مفتقرة إليها أليق بشأن المسجد نظرًا على الروايات المتقدمة من كونها مباحة فقط، وما أفاد الشيخ من أن حكم تعليق القنو ثابت للشركة. . . إلخ.
قال الحافظ
(3)
: لم يذكر البخاري في الباب حديثًا في تعليق القنو، فقال ابن بطال: أغفله، وقال ابن التين: أنسيه، وليس كما قالا، بل أخذه
(1)
"فتح الباري"(2/ 465).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 382).
(3)
"فتح الباري"(1/ 516).
من جواز وضع المال في المسجد بجامع أن كلًّا منهما وضع لأخذ المحتاجين منه، وأشار بذلك إلى ما رواه النسائي
(1)
من حديث عوف الأشجعي قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصًا، وقد علق رجل قنا حشف" الحديث، وليس هو على شرطه وإن كان إسناده قويًا فكيف يقال: إنه أغفله، انتهى.
قلت: حديث عوف هذا أخرجه أبو داود
(2)
أيضًا، وأخرج الترمذي من حديث البراء
(3)
"كان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد" الحديث، واستنبط منه الشيخ في "الكوكب الدري"
(4)
تعليق المراوح في المساجد.
والأوجه عندي في ترجمة الإمام البخاري أنه استنبط ذلك بنشر الدراهم في المسجد؛ فإن الدرهم قريب من التمر في الكمية، ولا فرق بين نظمها في القنو ونثرها على الفراش كما استدلوا على جواز السبحة المعروفة بأحاديث عد التسبيح والتحميد بالحصى وغيرها.
قوله: (فاديت نفسي) كتب الشيخ في "اللامع"
(5)
: هذا بيان لما حمله من النائبة المجتاحة للكثير من ماله لا أنه بيَّن بذلك إفلاسه وإعدامه؛ لأنه رضي الله تعالى عنه كان ذا مال بعد، انتهى.
وبسط الكلام عليه في هامشه، وفيه رد لما توهم بعض الشرَّاح أنه صار فقيرًا إذ جعله مصرفًا للزكاة، إلى آخر ما فيه.
(43 -
باب من دعى لطعام في المسجد. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(6)
: غرضه من عقد هذا الباب جواز الكلام المباح في المسجد، وذلك لدفع ما عسى أن يتوهم من عدم جوازه؛ لأنه
(1)
"سنن النسائي"(ح: 2439).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 1608).
(3)
"سنن الترمذي"(ح: 2987).
(4)
"الكوكب الدري"(4/ 84).
(5)
"لامع الدراري"(2/ 385).
(6)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 164).
مبنى للطاعة، ولما ورد في الحديث من النهى عن كلام الدنيا في المسجد، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: قلت: نعم، هذه هي الدعوة، ووجه عقد الباب ما تقدم منا قريبًا، انتهى.
وفي هامشه دفع الشيخ بذلك ما يرد على ترجمة الإمام من أن أنسًا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يثبت بالحديث الدعوة لطعام؛ لأن أبا طلحة أرسل مع أنس أقراصًا من شعير ليوصلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في الرواية المفصلة في علامات النبوة، فكيف يستدل بذلك الدعوة، وحاصل توجيه الشيخ: أن قول أنس: نعم أرسلني لطعام داخل في الدعوة للطعام.
قلت: أو استدلال بطريق دلالة النص، فإنه إذا جاز أخذ الطعام فيه فالدعاء إليه أولى بالجواز، وهذا غير الإيراد الذي ذكره الحافظ إذ قال: أورد فيه الإمام البخاري حديث أنس مختصرًا، وأورد عليه أنه مناسب لأحد شقي الترجمة وهو الثاني، ويجاب: بأن قوله: "في المسجد"، متعلق بقوله:"دعي" لا بقوله: فالمناسبة ظاهرة، انتهى.
قلت: إن كان تعلقه بطعام كانت المناسبة أظهر؛ لأن الطعام كان إذ ذاك موجودًا في المسجد مع أنس رضي الله عنه، انتهى.
(44 -
باب القضاء واللعان في المسجد. . .) إلخ
في هامش "اللامع"
(2)
: اعلم أن الشرَّاح قاطبة أوردوا على الإمام البخاري في قوله: بين الرجال والنساء، وجعلوه كلهم حشوًا وزائدًا، وليس بحشو عندي، بل هو متعلق بلفظ القضاء، وإذا ثبت الجواز بين الرجال والنساء فيثبت بالأولى بين النوع الواحد من الرجال والنساء غاية ما فيه أن الإمام البخاري ذكر بين الظرف ومتعلقه لفظ "اللعان" معترضًا ولا ضير فيه،
(1)
"لامع الدراري"(2/ 387).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 388).
ثم غرض الإمام البخاري بالترجمة الإشارة إلى اختلافهم في جواز القضاء في المسجد، ولذا يعيد الترجمة في "كتاب الأحكام" في "باب من قضى ولاعن في المسجد" وبسط فيه الحافظ
(1)
الاختلاف في ذلك، ونقل عن ابن بطال: القضاء مستحب في المسجد عند طائفة، وقال مالك: هو الأمر القديم، وبه قال أحمد وإسحاق، وكرهت طائفة ذلك إلى آخر ما بسط.
وحكى القسطلاني
(2)
عن إمامه الشافعي كراهته إذا أعده لذلك دون ما إذا اتفقت له فيه حكومة، انتهى.
وفي موضع آخر
(3)
قال إمامنا الشافعي: أحب إلي أن يقضى في غير المسجد، انتهى.
وفي "الدر المختار"
(4)
: ويقضي في المسجد، ويختار مسجدًا في وسط البلد تيسيرًا للناس، قال ابن عابدين: قوله: يقضي في المسجد، به قال أحمد ومالك في الصحيح عنه خلافًا للشافعي له أن القضاء يحضره المشرك وهو نجس بالنص، انتهى.
(45 -
باب إذا دخل بيتًا. . .) إلخ
اختلفوا في غرض الترجمة، ففي "تراجم شيخ المشايخ"
(5)
: أي: هو مخير يصلي في أيّ موضع شاء بعد الاستئذان للدخول وحصول الإذن أو يصلي حيث أمر، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك مقرونًا بالتجسس المنهي عنه، وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي قوله: حيث شاء إن خيره أهل البيت أو حيث أمر، أي: إن أمره بمكان معين ولا يتجسس بعد أمرهم أو بعد ما إذا تقرر مشيته بمكان، انتهى.
(1)
انظر: "فتح الباري"(13/ 155).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 91).
(3)
"إرشاد الساري"(15/ 144).
(4)
"رد المحتار على الدر المختار"(8/ 47).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 165).
قلت: ويؤيده ما تقدم من كلام شيخ المشايخ.
قال الحافظ
(1)
: قيل: مراد الترجمة الاستفهام لكن حذفت أداته، أي: هل يتوقف على إذن صاحب المنزل أو يكفيه الإذن العام في الدخول؟ فأو على هذا ليست للشك، انتهى.
وقال العيني
(2)
: همزة الاستفهام مقدرة تقديره: أيصلي حيث شاء؟ أو حيث أمر؟ وفي بعض النسخ هكذا بهمزة الاستفهام، والمعنى على هذا وإلا لا يطابق الحديث الترجمة جميعًا، ولا يطابق إلا الجزء الثاني، وعن هذا قال ابن بطال: لا يقتضي لفظ الحديث أن يصلي حيث شاء، وإنما يقتضي أن يصلي حيث أمر لقوله: أين تحب أن أصلي فكأنه قال: "باب إذا دخل بيتًا هل يصلي حيث شاء أو حيث أمر"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استأذنه في موضع الصلاة ولم يصل حيث شاء، فيبطل حكم حيث شاء، ويؤيده قوله: ولا يتجسس، أي: لا يتفحص موضعًا يصلي فيه وهو بالجيم، أو الحاء والمعنى متقارب، والأول أظهر، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: قال المهلب: دلَّ الحديث على إلغاء الشق الأول باستئذانه صلى الله عليه وسلم، وقال ابن المنيِّر: إنما أراد البخاري أن المسألة موضع نظر، فهل يصلي [من دُعي] حيث شاء؛ لأن الإذن بالدخول عام في أجزاء المكان، فأينما صلى أو جلس تناوله الإذن؟ أو يحتاج إلى أن يستأذن في تعيين المكان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؟ الظاهر الأول، وإنما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دعي للصلاة ليتبرك صاحب البيت بمكانه، أما من صلى لنفسه فهو على عموم الإذن، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(4)
: فإن قيل: الحديث لا يقتضي أن يصلي حيث شاء، وإنما يقتضي أن يصلي حيث أمر.
(1)
"فتح الباري"(1/ 518).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 415).
(3)
"فتح الباري"(1/ 518).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 165).
قلت: في بعض طرقه إشارة إلى أن عتبان فوض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم في تخصيص المكان، فلو صلى حيث شاء جاز، لكن رد الأمر إليه تبرعًا، انتهى.
(46 -
باب المساجد في البيوت)
لعله إشارة إلى تقوية ما في أبي داود وغيره من اتخاذ المساجد في الدور على أحد القولين في معنى الحديث، فقد ترجم الإمام أبو داود
(1)
"باب اتخاذ المساجد في الدور" وذكر فيه حديث عائشة قالت: "أمر رسولط الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور" أي: المحلات أو البيوت كما في "البذل"
(2)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "وأنا أصلي لقومي" ذكره لما أن الإمام أشد اهتمامًا من غيره، فكان عليه أن يحضر المسجد لا محالة، فأحب أن يجعل له النبي صلى الله عليه وسلم موضعًا يصلي فيه في مثل تلك الأيام، ويقول لهم: أن لا ينتظروه في يوم كذلك، انتهى.
(47 -
باب التيمن في دخول المسجد وغيره)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(4)
: أي: هو مستحب.
قال الحافظ
(5)
: قوله: وغيره بالخفض عطفًا على الدخول ويجوز أن يعطف على المسجد لكن الأول أفيد، انتهى.
والأوجه عندي: الثاني، أي: غير المسجد من المواضع المتبركة والغرض أن دخول المسجد أيضًا داخل في عموم شأنه كله.
(1)
"سنن أبي داود"(ح: 455).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(3/ 173).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 389).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 162).
(5)
"فتح الباري"(1/ 523).
(48 -
باب هل ينبش قبور مشركي الجاهلية. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: وجه الاستدلال عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود. . ." إلخ، إنهم لعنوا لارتكابهم ذلك لما فيه من التشبه بعبدة الأوثان، فوجب تسوية القبر لجواز الصلاة في هذا المكان لارتفاع وجه المشابهة، غير أن التسوية تحصل بوجهين: إما بنبش القبر وإخراج عظام الميت من هذا الموضع، أو بتسوية القبر حيث لا يبدو للناظر فيلزم الشبه، وإذا كان كذلك وجب في قبور المشركين نبشها أصلًا لكونهم محل الغضب، فلا يناسب إبقاؤهم في المساجد، ولا كذلك في المسلمين فلا يضر بقاء عظامهم تحت أقدام المسلمين، ووجه الكراهة وهو الشبه منتف، فالاستدلال بالرواية يعم الكافر والمؤمن في أن الصلاة تكره على القبور، والتخصيص بالنبش للكفار حاصل بالرواية الآتية، فافهم؛ فإنه مفتقر إلى فضل تفكر، وحاصل الاحتجاج بذلك الآثار الموردة ههنا: أن الصلاة في مثل تلك الأمكنة جائزة مع الكراهة التحريمية، فإن عمر رضي الله عنه لم يأمر بالإعادة وإنما أمر بالاتقاء عن القبر، فعلم أن الصلاة في المقبرة جائزة إذا لم يسجد إلى القبر وإن لم تخل عن كراهة، انتهى.
وفي هامشه: اعلم أولًا: أن هذه الترجمة وإثباتها من مشكلات التراجم، وإليه أشار الشيخ بقوله: فافهم؛ فإنه مفتقر إلى فضل تفكر، وقال العيني
(2)
: لم أر شارحًا ههنا شفى العليل ولا أروى الغليل، انتهى.
وثانيًا أن لفظ "هل" ههنا ليس للاستفهام عند جميع الشرَّاح والمشايخ بل هو بمعنى قد، وعليه بنى الشيخ قُدِّس سرُّه تقريره.
والأوجه عندي: أنه على معناه الأصلي أي: الاستفهام فإنه أصل مطرد من أصول التراجم، وهو الأصل الثاني والثلاثون تقدم فيه أن الإمام البخاري طالما يترجم بهذا اللفظ تنبيهًا على أن للناظرين هناك مجالًا للنظر
(1)
"لامع الدراري"(2/ 395 - 397).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 424).
والفكر، وهو كذلك ههنا عندي، فإن ظاهر ما في الباب جواز نبش القبور واتخاذ محلها مسجدًا، وهو نصر حديث الباب في بناء مسجده صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فيه خلاف الأوزاعي، فلعل الإمام البخاري أشار إلى خلافه وأولى منه إلى مستدله بلفظ: هل، وهو أن قبورهم موضع عذاب، فإنه صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال:"لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين"، فنهى أن يدخل عليهم بيوتهم فكيف قبورهم، انتهى.
وسيأتي قريبًا، وبوَّب عليه الإمام البخاري "باب الصلاة في موضع الخسف والعذاب".
فالأوجه عندي: أن الإمام البخاري نبَّه بلفظ "هل" على هذه الأمور.
وثالثًا: أن قوله في الترجمة: "وما يكره" معطوف على قوله: "هل ينبش" عند الشرَّاح كلهم، وجعلوه جزءًا مستقلًا من الترجمة، ولما رأوا أن هذا الجزء من الترجمة لا يثبت بالحديث أثبتوه بأثر عمر رضي الله عنه.
والظاهر عند هذا العبد الفقير إلى رحمته تعالى: أن هذا ليس بترجمة حتى يحتاج لإثباته؛ لأنه سيأتي قريبًا "باب كراهية الصلاة في المقابر" فإن كانت هذه ترجمة يلزم التكرار، وأيضًا لا يثبت هذا بالحديث وإثباته بمجرد الأثر خلاف الأصل، فالظاهر عندي أنه معطوف على لفظ: قول النبي صلى الله عليه وسلم داخل تحت اللام، فكأنه بمنزلة الدليل ومثبتة بكسر الموحدة للترجمة السابقة كما بسط في الأصل الستين من أصول التراجم المتقدمة في الجزء الأول، فكأنه أثبت جواز نبش القبور بقوله صلى الله عليه وسلم، وبكراهة الصلاة في المقابر، فكأنه قال: يجوز نبش قبور المشركين؛ لأن الصلاة في المقابر مكروهة ولا حرمة لقبور المشركين، فلا بأس بنبشها، انتهى مختصرًا
(1)
.
قوله: (أربعًا وعشرين ليلة) كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: فيه دلالة
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 393 - 395).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 398).
على أن الجمعة لا تجوز في القرى؛ لأن أول جمعة صلَّاها النبي صلى الله عليه وسلم في بني سالم كما هو مسلم الفريقين، وكان وجوب جمعة بمكة، فلولا أن الجمعة لا تجوز في القرى لما تركه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قلت: ما أفاده الشيخ لا مرية فيه كما بسط في هامش "اللامع"، لكن في الحديث إشكال آخر قوي، وهو أن الوارد في حديث الباب أربع وعشرون ليلة، وسيأتي بهذا السند في "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة" بلفظ: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، وبسط الكلام على هذا الاختلاف في الجزء الثاني من "اللامع"
(1)
في "كتاب الجمعة" وفيه: وما قال الشيخ ابن القيم من قيامه صلى الله عليه وسلم في قباء أربعة أيام فقط تأبى عنه روايات البخاري، فإن فيها روايتين، إحداهما: رواية أربع وعشرين، والثانية: أربعة عشر، وصوبه الحافظ.
قلت: والأوفق بالروايات رواية أربع وعشرين؛ لأن أكثر الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم دخل قباء يوم الاثنين وخرج عنها يوم الجمعة، وهذان لا يتفقان إلا على أربع وعشرين بعدم عد يومي الدخول والخروج، ولا يتفقان على رواية أربع عشرة بوجه من الوجوه إلى آخر ما بسط فيه.
(49 -
باب الصلاة في مرابض الغنم)
لعل الغرض كما يشير إليه كلام الحافظ
(2)
أيضًا أن محبته صلى الله عليه وسلم الصلاة في المرابض كما تدل عليه رواية أبي داود
(3)
عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة كانت قبل بناء المساجد.
(1)
انظر: "لامع الدراري"(4/ 20).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 526).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 184).
(50 -
باب الصلاة في مواضع الإبل)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك: أن الذي ورد من النهي عن الصلاة في مبارك الإبل ليس على عمومه ولا مبنيًا على علة في نفس ذات الإبل
(2)
، الوجه في ذلك ما يلزم من تشويش القلب وتفرق البال، فلا ضير لو اطمأن بنوع من أسباب الطمأنينة كما في الرواحل المدربة؛ فإنها لا تكاد تقوم بعد إقعادها، ولا تنفر على صاحبها بعد إناختها، ويستوي في جواز الصلاة بعد تحصيل الطمأنينة وكراهتها عند عدم اطمئنان الواحد والكثير، فصح الاحتجاج بفعل ابن عمر براحلة على جواز ذلك الأمر في رواحل، وإجزاء الصلاة في مبارك الإبل إذ اطمأن منها كما اطمأن منها، انتهى.
وفي هامشه: غرض الإمام البخاري بالترجمة واضح وهو الرد على مسلك الإمام أحمد، إذ قال بفساد الصلاة في مبارك الإبل لرواية البراء المتقدم في الباب السابق، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: كأن المصنف أشار إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، وكونها من الشياطين لو كان ذلك مانعًا من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة راكبها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره، انتهى مختصرًا.
وقال السندي
(4)
: غرض الترجمة أن النهي عن الصلاة في المعاطن وهي مواضع إقامتها عند شرب الماء خاص بالمعاطن، فلا يقاس عليها غيرها من مواضع الإبل، انتهى.
قلت: وفيه أن النهي لم يرد بلفظ المعاطن فقط بل في حديث
(1)
"لامع الدراري"(2/ 399).
(2)
سقط: "بل"، كما في "اللامع".
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 627).
(4)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 87).
جابر رضي الله عنه عند مسلم، وحديث البراء عند أبي داود بلفظ:"مبارك الإبل"، وفي حديث أسيد عند الطبراني:"مناخ الإبل"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد:"مرابد الإبل".
قال الحافظ
(1)
: ولذا بوب الإمام البخاري بلفظ المواضع؛ لأنها أشمل، والمعاطن أخص منه، وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل، وقيل: هو مأواها مطلقًا، نقله صاحب المغني عن أحمد، انتهى.
(51 -
باب من صلى وقُدامه تنور. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن المصلي إذا لم ينو بصلاته إلا الله، فإن صلاته جائزة إلا أنه إذا كان فيه شبه بعبدة الأصنام فإنها حينئذ لا تخلو عن كراهة وإن سقطت عن ذمته، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: أشار به إلى ما ورد عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور، انتهى.
والمعروف على ألسنة المشايخ أن الإمام البخاري أراد بالترجمة الرد على الحنفية حيث كرهوا الصلاة إليها.
قال القسطلاني
(4)
: كرهه الحنفية لما فيه من التشبه بعبادة المذكورات، انتهى.
وفي "الشرح الكبير": يكره أن يصلَّى إلى نار، قال أحمد: إذا كان التنور في قبلته لا يصلي إليه إلى آخر ما في هامش "اللامع".
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(5)
: غرض المؤلف من عقد هذا الباب
(1)
"فتح الباري"(1/ 527).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 402).
(3)
"فتح الباري"(1/ 528).
(4)
"إرشاد الساري"(2/ 103).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 168).
دفع توهم من توهم أنه لا تجوز صلاة الرجل وقدامه تنور للتشبيه بالمجوس، وفي استدلال المصنف بالرواية نوع خفاء لا يخفى، وتوجيهه أن كون النار قدام المصلي لو كان غير مرضى عند الله ومفسدًا لصلاته لما ساغ ذلك في حق حبيبه ونبيه، ولما أحضرها قدام نبيه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: إن استدلاله بالرواية لا يخلوا عن لطافة ما، فإنه أظهر بذلك أن وجه الشبه إذا كان خفيًا لا يدرك فإنه لا يكون مورثًا للكراهة، ووجهه ارتفاع سبب الكراهة، فإن الذي أمامه نار أو صورة أو قبر فسترها لم يبق بعد الستر شبه بعبدة الأصنام، فكذلك النار الغائبة عن الأعين كما رُئيها النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لم تصر سببًا للشبه لاستتارها، ومن ههنا يعلم حال التنور الذي ذكره في الترجمة، فإن من صلى وقدامه تنور فإن صلاته خالية عن الكراهة لارتفاع العلة، وعلى هذا حكم النار وغيره، وعلى هذا فلم يكن صلاته صلى الله عليه وسلم مما نحن فيه، أي: من الصلوات المكروهة، وأما ما أجاب بعضهم بعد تسليم سبب الكراهة: أن ذلك كان اضطرارًا منه صلى الله عليه وسلم لا اختيارًا فبعيد؛ لأن النار لو لم تكن في اختياره فإن صلاته كانت في اختياره، فلو كانت فيه كراهة لا سيما التحريمية لأفسدها، فافهم، انتهى.
وبسط في هامشه كلام الشرَّاح في وجه الاستدلال.
ثم يشكل على البخاري ما تقدم من "باب الصلاة في المصلب والمصور" وما سيأتي من "باب الصلاة في البيعة".
قال الكرماني
(2)
في "باب الصلاة في البيعة": إن قلت: ما وجه الجمع بينه وبين ما تقدم من "باب من صلى وقدامه نار. . ." إلخ، من جواز الصلاة وعدم كراهتها.
قلت: حكم التماثيل غير حكم سائر المعبودات؛ لأنها بأنفسها منكرات؛ إذ الصور محرمة سواء تعبد أم لا؟ بخلاف النار مثلًا فإن عبادتها
(1)
"لامع الدراري"(2/ 402 - 406).
(2)
انظر: "شرح الكرماني"(4/ 96).
محرمة أو لأن التماثيل شاغلة عن الحضور في الصلاة كما سبق في "باب من صلى في ثوب له أعلام" من حديث خميصة أبي جهم، وقال ابن بطال: لا تعارض بين البابين؛ لأن الأول كان بغير الاختيار، وما في هذا الباب كقول عمر: إنا لا ندخل كنائسكم، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعو إليه، انتهى.
قلت: وبهذا الأخير جمع بينهما جمع من الشرَّاح، والعجب من الحافظ
(1)
إذ تعقب على ابن التين بقوله: إن الاختيار وعدمه في ذلك سواء، وتقدم تعقب الشيخ قُدِّس سرُّه أيضًا على هذا الجواب، وأيضًا لو كان ما هناك بدون الاختيار، فكيف استدل به الإمام البخاري على جواز صلاة من صلَّى وقدامه تنور، فالأوجه عندي في الجواب ما بدأ به الكرماني كلامه وهو التفرقة بين التماثيل وغيرها، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع" في باب الصلاة في البيعة.
(52 -
باب كراهية الصلاة في المقابر)
قال الحافظ
(2)
: كأن المصنف أشار إلى أن ما رواه أبو داود والترمذي في ذلك ليس على شرطه، وهو حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، واستنبط من قوله في الحديث:"ولا تتخذوها قبورًا" إن القبور ليست بمحل للعبادة فتكون الصلاة فيها مكروهة، انتهى.
قلت: واختلفوا في جواز الصلاة في المقبرة، فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء أم لا؟ ولا بين أن تكون بين القبور أو في مكان منفرد عنها، وذهب أبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، وفرق الشافعي بين المنبوشة
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 528).
(2)
"فتح الباري"(1/ 529).
وغيرها، ولم ير مالك بالصلاة في المقبرة بأسًا، وحكي عنه كراهة الصلاة في المقبرة كقول الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الصلاة في المقبرة إلى آخر ما بسط في "الأوجز"
(1)
.
(53 -
باب الصلاة في مواضع الخسف)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أي: إنها جائزة مع كراهة، وذلك لما فيها من الاستقرار والتمكن في تلك الأمكنة، وقد أمرنا أن لا نقر فيها، انتهى.
قلت: ولعله تقوية لما في "أبي داود" عن علي رضي الله عنه: نهاني أن أصلي في أرض بابل، قال السندي
(3)
ما حاصله: وجه الاستدلال بأن دخولهم فيها مقيدة بالبكاء، والصلاة على هذه الصفة متعسرة عادة بل ربما يخل بالقراءة وغيرها، وأيضًا البكاء بالتفكر في حال المعذبين يمنع التفكر في أمور الصلاة فينبغي أن تكره الصلاة في هذا المكان، انتهى.
قال الموفق
(4)
: قال أحمد: أكره الصلاة في أرض الخسف؛ لأنها موضع مسخوط عليه، انتهى.
وفي "الطحطاوي
(5)
على المراقي": ومنها كل محل حل به غضب كأرض ثمود وبابل وديار قوم لوط، انتهى.
وبسط الكلام في هامش "اللامع" على شرح هذا الباب.
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(3/ 542).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 409).
(3)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 87).
(4)
"المغني" لابن قدامة (2/ 477).
(5)
"حاشية الطحطاوي على المراقي الفلاح"(197).
(54 -
باب
الصلاة في البيعة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لعل المراد بذلك أنها جائزة فيها بدون كراهة إذا لم تكن فيها معصية؛ كالإشراك بالله والتصاوير والقبور وغير ذلك وجائزة مع كراهة إن كان فيها شيء من هذه الأمور، ومطابقة الآثار والروايات بهذا المعنى واضحة، فإن وجود التصاوير ووضعها فيه صار سببًا للعن أولئك، ثم يصير سببًا لمن شاركهم في العبادة ثمة، وإن كانت اللعنة الواردة على الصانعين أوفر منها على العابدين هناك من المسلمين، انتهى.
واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس، قال الطحطاوي
(2)
: تكره الصلاة في سائر محال الشياطين إلى أن قال: وبهذا يعلم كراهة الصلاة في البيع والكنائس لما فيها من التماثيل، فتكون مأوى الشياطين، انتهى.
وظاهر كلام الشامي
(3)
: أن الكراهة عامة وإن لم تكن فيها تماثيل، وقال الموفق
(4)
: ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، رخص فيها الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهما، وكره ابن عباس ومالك الكنائس من أجل الصور، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع"
(5)
، وذكره فيه تحت هذا الباب عدة أبحاث فارجع إليه لو شئت.
(55 - باب)
بلا ترجمة، قال الحافظ
(6)
: كذا في أكثر الروايات بغير ترجمة، وقد سقط من بعض الروايات، وقد قررنا أن ذلك كالفصل من الباب، فله تعلق بالباب الذي قبله، والجامع بينهما الزجز عن اتخاذ القبور مساجد،
(1)
"لامع الدراري"(2/ 411).
(2)
"حاشية الطحطاوي"(197).
(3)
انظر: "رد المحتار على الدر المختار"(2/ 43).
(4)
"المغني"(2/ 478).
(5)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 410 - 414).
(6)
"فتح الباري"(1/ 532).
وكأنه أراد أن يبيِّن أن فعل ذلك مذموم سواء كان مع تصوير أم لا؟ انتهى.
وبهذا جزم العيني، وعلى هذا فكان غرض الترجمة السابقة الكراهة لأجل الصور خاصة، وأشار بهذا إلى التعميم.
والأوجه عندي: أن الباب السابق لما كان مختصًا بالبيعة وهي معبد النصارى أراد بذلك إدخال معبد اليهود فيما سبق كما يشير إليه الروايتان الواردتان في الباب، ولعل وجه حذف الترجمة عدم كون الروايتين نصًا فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم، ورقم في "تراجم شيخ الهند" قُدَّس سرُّه على هذا الباب النقطتين وهو إشارة إلى أن الحديث الذي فيه يتعلق بالباب السابق كما تقدم في الجزء الأول.
(56 -
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: وإيراده ههنا يحتمل أن يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم لعموم قوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا" أي: كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا للسجود أو يصلح أن يبني فيه مكان للصلاة، ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة فيها للتحريم، وعموم حديث جابر مخصوص بها، والأول أولى، انتهى.
(57 -
باب نوم المرأة في المسجد)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أي: هو جائز وإن كان احتمال ورود الطمث، لكن المذهب أن المرأة إذا حاضت في المسجد خرجت ولا يحرم عليها النوم ابتداء، انتهى.
قلت: الأوجه عندي: أنه رضي الله عنه مال إلى جواز النوم في المسجد وأفرد
(1)
"فتح الباري"(1/ 533).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 169).
ذكر المرأة وقدمه لما فيها من احتمال كشف العورة والطمث، فكان أبعد عن الجواز فأثبت جوازه بالحديث.
قال القسطلاني بعد ذكر الحديث
(1)
: وفيه يبيت من لا مسكن له في المسجد سواء كان رجلًا أو امرأة عند أمن الفتنة، وفي "الشرح الكبير" للدردير: وجاز بمسجد سكنى لرجل لا لمرأة، فيحرم عليها أو يكره ولو تجردت للعبادة؛ لأنها قد تحيض، وقد يلتذ بها أحد من أهل المسجد فتنقلب العبادة معصية، وظاهره الحرمة، ولو كانت عجوزًا لا أرب للرجال فيها؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة، انتهى.
(58 -
باب نوم الرجال في المسجد)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أي: هو جائز مع احتمال الاحتلام، انتهى.
قلت: وقد ورد في "كنز العمال" برواية عبد عن جابر: "قوموا لا ترقدوا في المسجد"، وفي أخرى: ضربنا بعسيب كان في يده، وقال: قوموا لا ترقدوا في المسجد، فلعل البخاري أشار إلى الجواز بروايات الباب، والمسألة خلافية ففي هامش "الهندية"
(3)
والجواز قول الجمهور، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كراهيته إلا لمن يريد الصلاة، وعن ابن مسعود مطلقًا، وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا له مسكن فيباح، كذا في "الفتح"
(4)
، انتهى.
وفي "العيني"
(5)
: وبقول مالك: قال أحمد.
قلت: قد بوَّب الإمام الترمذي أيضًا بهذه الترجمة.
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 111).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 169).
(3)
(1/ 731).
(4)
انظر: "فتح الباري"(1/ 535).
(5)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 462).
قال الشيخ في "الكوكب"
(1)
: هذا ما استدل به من جواز النوم في المسجد، والأولى التحرز عنه إلا إذا اضطر إليه إلى آخر ما بسطه.
وفي هامشه: فقد عد صاحب "الدر المختار" فيما يكره في المسجد النوم لغير المعتكف، انتهى.
(59 -
باب الصلاة إذا قدم من سفر)
غرضه ظاهر، وهو التنبيه على هذا الأدب الذي كان معروفًا من عادته الشريفة صلى الله عليه وسلم ليزوره الناس الذين يسمعون قدومه صلى الله عليه وسلم ويسرعون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه لفظ البخاري في غزوة تبوك ولفظه: كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس الحديث، وتعلقه بالمسجد ظاهر.
قال العيني
(2)
: وغالب الأبواب في هذا الموضع فيما يتعلق بالمساجد فلا يحتاج إلى زيادة طلب وجوه المناسبات فيها، انتهى.
وقد أعاد المصنف هذا الباب في "كتاب الجهاد" لمناسبة السفر.
(60 -
باب إذا دخل أحدكم المسجد. . .) إلخ
فيه خمسة أبحاث:
الأول: في حكم هذه الصلاة فهي سُنَّة أو مستحبة عند الأئمة الأربعة خلافًا للظاهرية إذ أوجبوها.
الثاني: هل تختص بمن أراد الجلوس أو تعم الكل سواء يريد الجلوس أو يدخل مجتازًا؟ بالأول قال مالك، وبالثاني قالت الجمهور.
الثالث: هل تفوت بالجلوس أم لا؟ فيفوت بالجلوس عمدًا
(1)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 317).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 464).
وبالجلوس الطويل ساهيًا عند الشافعي وأحمد، ولا تفوت مطلقًا عندنا الحنيفة والمالكية.
الرابع: أقلها ركعتان عند الأئمة الأربعة لا تجزئ بالأقل منهما مع صحة التطوع بركعة واحدة عند الشافعي وأحمد.
الخامس: هل تجوز في الأوقات المكروهة أم لا؟ فبالأول قال الشافعي، وبالثاني قالت الأئمة الثلاثة إلا أن الإمام أحمد خص من ذلك الداخل عند الخطبة ففي ذلك خاصة هو مع الإمام الشافعي، كما بسطت هذه المباحث كلها في "الأوجز"
(1)
، انتهى من هامش "اللامع"
(2)
، فكأن الإمام البخاري أشار إلى الكل بلفظ الترجمة.
(61 -
باب الحدث في المسجد)
قال الحافظ
(3)
: أشار البخاري إلى الرد على من منع للمحدث دخول المسجد وجعله كالجنب، انتهى.
قلت: لو كان ذاك الغرض لبوب بالمحدث في المسجد، ويمكن أن يكون المقصود جواز الحدث وهو ثابت بالحديث، أو كراهته للحرمان عن دعاء الملائكة، وهذان الوجهان أظهر عندي، وهل يجوز إخراج الريح في المسجد؟ اختلفوا فيه، ففي "الأوجز"
(4)
: قال النووي في "شرح المهذب": لا يحرم للإنسان أن يخرج الريح من دبره فيه، وقال السروجي: وهذا عندنا مكروه، انتهى.
قال الدردير: منع إخراج ريح في المسجد لحرمته، وإن لم يكن به أحد، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(3/ 349 - 352).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 419).
(3)
"فتح الباري"(1/ 538).
(4)
"أوجز المسالك"(3/ 331).
وقال ابن عابدين
(1)
: لا يخرج فيه الريح، واختلف فيه السلف، فقيل: لا بأس به، وقيل: يخرج إذا احتاج إليه، وهو الأصح، انتهى.
(62 -
باب بنيان المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أشار بإيراد الآثار والرواية المخالفة لها بحسب الظاهر إلى أن تنقيش المسجد وتجصيصها يكره إذا كان فخرًا ورياء وسببًا للهو المصلين واشتغال بالهم كما هو مقتضى الآثار، ولا كراهة فيه إذا لم تكن لأجل ذلك كما هو محمل صنيع سيدنا عثمان رضي الله عنه، انتهى.
وبسط في هامشه الكلام على شرح كلام الشيخ قُدِّس سرُّه والإيرادات والأجوبة عنها في تشييد المساجد وعدمه فارجع إليه لو شئت التفصيل.
والظاهر عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الترجمة أمران:
الأول: الاهتمام لبنائه حتى أنه عليه الصلاة والسلام قدم تعميره في أول دخوله المدينة على كل الأبنية، وقد ورد الأمر ببنائه في الدور عند أبي داود كما تقدم في "باب المساجد في البيوت".
والأمر الثاني: التوقي عن التزخرف في بنائه، وعلى هذا لا تكرار بما سيأتي من "باب من بنى مسجدًا. . ." إلخ.
وحمل الحافظ هذا الباب على بناء المسجد النبوي خاصة، والباب الآتي على الفضل في بنائه، وعلى هذا يشكل أثرا أنس وابن عباس في هذا الباب، اللهم إلا أن يقال: ذكرهما استطرادًا وتنبيهًا على الاحتراز والتوقي عن التزخرف، ووافق الحافظ العلامة العيني في غرض الترجمة، وسكت عن وجه مطابقة هذين الأثرين، وقال في غيرهما: مناسبته بالترجمة ظاهرة.
(1)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 429).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 420).
(63 -
باب التعاون في بناء المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أشار بذكر الآية في الترجمة إلى أن تعمير المشركين غير مقبول إذا كان مبنيًا على صفة الإشراك وهو كونه تعظيمًا لآلهتهم أو فخرًا أو رياءً وسمعةً، فكذلك من فعل المسلمين مثل فعلهم بأن طلب في تعمير المسجد ومعاونته صيتًا ومباهاة كان غير مقبول منه، فأما إذا عاون في تعميره لله تعالى فإنه لا ضير فيه، ولو كان المعمر مشركًا، ويدل عليه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم مسلمي أمته على الصلاة في الحرم، وكان من بناء المشركين، فافهم، انتهى.
وفي هامشه: سكتوا عن غرض المصنف بالترجمة إلا ما قال العيني
(2)
: أشار بهذا إلى أن في ذلك أجرًا، ومن زاد في عمله في ذلك زاد في أجره، انتهى.
وهذا ظاهر لكنه ليس فيه شيء يليق بشأن تراجم البخاري، ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى أمرين:
الأول: أنه ينبغي التعاون في بنائه للمصلين فيه كلهم؛ لأن بنائه حق مشترك عليهم أجمعين لا على المتولي فقط.
والثاني: دفع ما يتوهم من قصة بنائه صلى الله عليه وسلم مسجده الشريف إذ ساوم بني النجار أرض المسجد، وقالوا: لا نطلب ثمنه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله إلا بالثمن، وهذا يوهم عدم جواز التعاون في بنائه فدفعه المصنف بهذه الترجمة، انتهى.
وأما ذكر الآية فلعله إشارة إلى الاحتراز عن أموالهم، وقد ورد في أبي داود مرفوعًا
(3)
: "نهيت عن زبد المشركين".
قوله: (يدعونه إلى النار) أجاد الشيخ في "اللامع"
(4)
توجيهه
(1)
"لامع الدراري"(2/ 423).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 473).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 3057).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 425).
وحاصله: أن فعلهم موجب له وإن ارتفع لأجل الاجتهاد؛ كقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} الآية [الأنفال: 68]، وبسط في هامشه الكلام أشد البسط.
قلت: وقوله: "تقتله الفئة الباغية" قال صاحب "تاريخ الخميس" عن "خلاصة الوفاء": أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان وزير معاوية رضي الله عنه، فلما قتل عمار رضي الله عنه أمسك عن القتال، وتابعه على ذلك خلق كثير، فقال له معاوية: لم لا تقاتل؟ قال: قتلنا هذا الرجل، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"تقتله الفئة الباغية"، قال له معاوية: أسكت أنحن قتلناه؟ وإنما قتله علي رضي الله عنه وأصحابه، وفي رواية قال: قتله من أرسله إلينا يقاتلنا فبلغ ذلك عليًّا فقال: إن كنت أنا قتلته فالنبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة رضي الله عنه حين أرسله إلى قتال الكفار، انتهى مختصرًا.
(64 -
باب الاستعانة بالنجار والصناع. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: الصناع - بضم المهملة - جمع صانع، وذكره بعد النجار من العام بعد الخاص، وحديث الباب يتعلق بالنجار فقط، ومنه تؤخذ مشروعية الاستعانة بغيره من الصنَّاع لعدم الفرق، وكأنه أشار بذلك إلى حديث طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: "قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسًا وأشدكم له سبكًا"، رواه أحمد
(2)
، انتهى.
ويحتمل أن يكون إشارة إلى رد ما ورد في "كنز العمال"
(3)
: "جنبوا صناعكم مساجدكم".
(1)
"فتح الباري"(1/ 543).
(2)
كذا نسبه في "مجمع الزوائد"(2/ 9) إلى أحمد والطبراني في "الكبير"(8/ 399، 8242)، ولم أجده في "المسند" نعم رواه ابن حبان (رقم 1018)، والدارقطني (1/ 148، 149)، والبيهقي (1/ 135).
(3)
"كنز العمال"(رقم 23090).
(65 -
باب من بنى مسجدًا)
قال الحافظ
(1)
: أي: ما له من الفضل، انتهى.
وتقدم ما يتعلق بهذا الباب في باب بنيان المسجد ويورد على حديث الباب من قوله: "بنى الله له مثله الحسنة بعشر أمثالها" وجمع بوجوه:
الأول: أنه قبل نزول الآية.
الثاني: أنه لا ينفي الزيادة.
الثالث: أن المقصود منه بيان المماثلة فقط.
الرابع: بأن المثلية باعتبار الكمية والعشرة من حيث الكيفية.
الخامس: بأنه محمول على العدل والآية من قبيل الفضل.
وغير ذلك من الأقاويل كما بسط في هامش "اللامع"
(2)
.
(66 -
باب يأخذ بنصول النبل. . .) إلخ
غرض الترجمة ظاهر، وهو الأدب والتنبيه على الأخذ بالنصول لئلا يجرح أحدًا يمسه كما نبَّه عليه الشيخ قُدِّس سرُّه في الترجمة الآتية، فعلى رأي الشيخ هذه الترجمة توطئة للترجمة الآتية، وهو الأوجه عندي.
(67 -
باب المرور في المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: لعل المراد بذلك أن المرور في المسجد جائز إذا لم يكن منجرًا إلى مفسدة كالإضرار بالمسلمين وتلويث المسجد إذا اعتاد الناس ذلك، ويمكن أن يكون ذلك إثباتًا لما ذهب إليه الشافعي من جواز دخول الجنب في المسجد على جهة المرور، ووجه الاستدلال إطلاق اللفظ وهو يعم الجنب وغيره.
(1)
"فتح الباري"(1/ 544).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 431).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 433).
والجواب: أنه لم يقيِّد ههنا لكونه معلومًا إذ من المعلوم أن المتعفن بأكل الثوم أو الذي يسيل دمه لا يجوز لهما دخوله، لما فيه من تلويت المسجد مع أن اللفظ بإطلاقه شامل لهما، فالحق أن الحكم على الشيء بالجواز وعدمه كثيرًا ما يبتني على النظر إليه في نفسه، ولا ينظر إلى ما يعتريه من عارض مثبت خلاف هذا الحكم كما في كثير من المباحاث المحرمة لأجل عارض، انتهى.
وفي هامشه: اختلف في غرض المصنف بالترجمة، وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه لا سيما أول الاحتمالين من كلامه أوجه عندي مما قالته الشرَّاح في غرض الترجمة.
قال العيني
(1)
: أي: هذا باب في بيان جواز المرور بالنبل في المسجد إذا أمسك نصاله، وفي هذه الترجمة نوع قصور على ما لا يخفي، انتهى.
وتبعه القسطلاني ولم يذكر الإيراد بنوع قصور، والمراد بالقصور أنه لم يذكر في الترجمة إمساك النصل، والإيراد عندي ساقط نشأ بالغرض الذي اختار العلامة العيني، وعلى هذا يلزم تكرار الترجمة بما سبق، فالوجه عندي في غرض الترجمة ما تقدم في كلام الشيخ من أول الاحتمالين، فإن الحديث السابق لما كان يثبت منه جواز المرور أثبته الإمام البخاري مستقلًا لكون المسألة خلافيةً، فإن يكره عندنا الحنفية أن يتخذ المسجد طريقًا، قال صاحب
(2)
"الدر المختار": وكره تحريمًا اتخاذه طريقًا لغير عذر، وصرح في "القنية" بفسقه باعتياده، قال ابن عابدين: وفي التعبير باتخاذ إيماء إلى أنه لا يفسق بمرة أو مرتين، انتهى من هامش "اللامع"
(3)
.
(1)
"عمدة القاري"(3/ 385).
(2)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 468).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 433).
ثم لا يشكل عليك التكرار بما سيأتي من باب الخوخة والممر في المسجد؛ فإن للتوجيه مساغًا كما سيأتي هناك إن شاء الله تعالى.
(68 -
باب الشعر في المسجد)
وقد ورد النهي عنه في عدة أحاديث كما في رواية أبي داود والترمذي، ولعل الغرض أنه جائز عند الضرورة.
قال العيني
(1)
: مراد البخاري الإشارة إلى جواز الشعر المقبول في المسجد، وذكره الحافظ بقوله:"يحتمل"، وحديث الباب سيأتي في كتاب بدء الخلق، وفيه التصريح أنه كان في المسجد وبه تحصل المطابقة.
(69 -
باب أصحاب الحراب في المسجد)
الحراب - بكسر الحاء المهملة - جمع حربة - بفتحها - قاله القسطلاني
(2)
.
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك: أن أمثال هذه المباحات التي تجري فيها نيَّة العبادة لا ضير في إتيان شيء منها في المساجد بعد ما لم تكن عادةً للعامة ولا مضرًا بالمسلمين أو متضمنًا لمفسدة أخرى، انتهى.
وفي هامشه عن تقرير المكي: هذا كان بقصد الجهاد ولم يكن في المسجد غيرهم، وأما الأمر بإمساك النصال فذلك حين اجتماع الناس والمصلين مخافة الأذية إليهم، وللإشارة إلى هذا اتصل البابين، انتهى.
ويظهر من كلام الحافظ غرض الترجمة أنهم لا يؤمرون بأخذ النصول كما تقدم؛ لأنهم حينئذ في شغل، والجرح في المرور أقرب من ههنا؛ لأنه قد يقع الجرح في المرور بغتة، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(3/ 487).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 128).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 439).
(70 -
باب ذكر البيع والشراء)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: غرضه إثبات جواز التكلم بالإيجاب والقبول للبيع في المسجد بلا إحضار المبيع فيه لكونه مثل التكلم كسائر الكلمات المباحة في المسجد، لكن في دلالة الحديث المخرج في الباب على ذلك نوع خفاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر البيع والشراء في المسجد لإفادة حكم شرعي، فهي إفادة علمية ليست مما نحن فيه، لكن خصَّ المؤلف نظرًا إلى مجرد ذكر البيع والشراء جاء منه صلى الله عليه وسلم، والإيجاب والقبول بلا إحضار المبيع ليس إلا ذكر البيع والشراء فيجوز وإن كان هذا من وجه وهذا من وجه آخر، ومثل هذه الاستدلالات كثير في "البخاري"، انتهى.
قلت: وهذا هو الاستدلال بالعموم وهو الأصل الخمسون من أصول التراجم.
قال الحافظ
(2)
: مطابقة الحديث للترجمة بقوله: "ما بال أقوام يشترطون" فإن فيه إشارة إلى القصة المذكورة، وقد اشتملت على بيع وشراء وعتق وولاء، وَهمَ بعض من تكلم على هذا الكتاب فقال: ليس فيه أن البيع والشراء وقعا في المسجد ظنًا منه أن الترجمة معقودة لبيان جواز ذلك، وليس كما ظن للفرق بين جريان ذكر الشيء والإخبار عن حكمه فإن ذلك حق وخير، وبين مباشرة العقد، فإن ذلك يفضي إلى اللغط المنهي عنه، انتهى.
فقد ورد النهي عن مباشرة العقد في كثير من الروايات، ففي رواية عند أبي داود
(3)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد" الحديث.
قال السندي
(4)
: قوله: "باب ذكر البيع" أي: ذكر مسائله نبَّه على أن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 170).
(2)
"فتح الباري"(1/ 550).
(3)
"سنن أبي داود"(ح: 1079).
(4)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 90).
ما ورد النهي عنه هو فعل البيع والشراء في المسجد، وأما ذكرهما وذكر ما يتعلق بهما من العلم فليس بمنهي عنه، انتهى.
قوله: (ذكرته ذلك) قال السندي
(1)
: المشهور على الألسنة بالتشديد كأنه بناء على ما زعموا من كونه متعديًا إلى مفعولين، والمخفف لا يتعدي إليهما فجعلوه مشددًا، لكن مقتضى المشدد أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالأمر قبل؛ إلا أنه نسيه أو غفل عنه فذكرته عائشة الأمر، وهذا لا معنى له ههنا، فالوجه أن يقرأ مخففًا، والحمل على الحذف والإيصال، أي: ذكرت له ذلك أو على أن ذلك بدل من الضمير والجار والمجرور محذوف، أي: له، وهذا هو الموافق للروايات، انتهى.
وهو الأوجه عندي وبسطوا في الكلام عليه لا سيما القسطلاني إذ جمع كلام الحافظ والعيني وغيرهما.
(71 -
باب التقاضي والملازمة في المسجد)
قال العيني
(2)
: وجه مطابقة الحديث بالترجمة في التقاضي ظاهرة، وأما في الملازمة فبوجهين، أحدهما: أن كعبًا لما طالب بدينه في المسجد لازم ابن أبي حدرد إلى أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم وفصل بينهما، وثانيهما: أن هذا الحديث يأتي في "باب الصلح" وفي "باب الملازمة"، وفيه تصريح الملازمة، انتهى مختصرًا.
قلت: قد ورد كما في "الكنز": "جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم" الحديث، فلعل الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى جواز شيء من ذلك إذا لم يتفاحش، والله تعالى أعلم، وسيأتي في "كتاب الخصومات""باب في الملازمة" و"باب التقاضي"، ولا يشكل التكرار؛ فإن المؤلف ذكرهما من حيث أحكام المساجد وفيما يأتي لكونهما من باب الخصومة.
(1)
المصدر السابق (1/ 90).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 502).
(72 -
باب كنس المسجد)
أشار الإمام البخاري بذلك كله إلى ما ورد في بعض طرق الحديث صريحًا عند البيهقي وابن خزيمة فثبت كل أجزاء الترجمة كما ذكره الحافظ
(1)
والعيني
(2)
.
ولعل الغرض أن ما في أبي داود مرفوعًا أن الحصاة للتنائد الذي يخرجها من المسجد مقيَّد بعدم الضرورة، ولا يدخل فيه الكناسة.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
تحت لفظ الحديث: "فأتى قبره فصلى. . ." إلخ، فيه فضيلة هذا الفعل الذي أوجب له هذا الاعتناء من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا التنبيه عقد الباب، انتهى.
يعني: غرض الترجمة التنبيه على فضل كنس المسجد حتى لا يعد فعلًا حقيرًا لحقارة هذا الفعل في أعين الناس، وبه جزم ابن بطال، والبسط في هامش "اللامع".
(73 -
باب تحريم تجارة الخمر في المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: يعني بذلك: أن تسمية مثل هذه الأشياء المستقذرة المحرمة؛ كالخمر والخنزير في المسجد لا بأس بها إذا كان مبنيًّا على غرض صحيح من بيان المسألة وغيره، انتهى. وهذا ظاهر وبه جزم عامة الشرَّاح.
وقوله: (ثم حرم تجارة الخمر)، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(5)
: لما كان حرمة الربا لكونه عقدًا متضمنًا لمفسدة ووجد النبي صلى الله عليه وسلم تجارة الخمر مشاركة للربا فيه عقب لذلك قراءة الآيات المذكورة بتحريم تجارة الخمر، انتهى مختصرًا.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 553).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 505).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 441).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 332).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 171).
قال عياض: كان تحريم الخمر قبل نزول آية الربا لمدة طويلة، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريمها مرة بعد أخرى تأكيدًا ولعله حضر المجلس من لم يكن بلغه تحريم تجارة الخمر فيها قبل ذلك، كذا في هامش "اللامع" عن الكرماني.
قال الحافظ
(1)
: ويحتمل أن يكون تحريم التجارة فيها تأخر عن وقت تحريم عينها، انتهى.
قلت: وظاهر لفظ الترجمة يشير إليه.
(74 -
باب الخدم للمسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن للمتولي وغيره أن يجعل للمسجد خادمًا يقوم عليه سواء كان بشرائه من مال المسجد إذا افتقر إليه أو من مال نفسه أو بالاستئجار، أو أن يخدم المسجد أحد احتسابًا على الله تبارك وتعالى، فإن كل ذلك جائز لا ضير فيه، انتهى.
وفي هامشه: أجاد الشيخ في استنباط المسألة الجديرة بشأن تراجم البخاري، وهذا أجود مما ذهبت إليه الشرَّاح في غرض الترجمة.
قال الحافظ
(3)
: كأن غرض البخاري بإيراد أثر ابن عباس رضي الله عنهما إشارة إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا عند الأمم السابقة حتى إن بعضهم وقع منه نذر ولده لخدمته، ومناسبة الحديث بالباب من جهة صحة تبرع تلك المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: "محررًا"، أي: خادمًا، ثم الولد لا تجب عليه الخدمة بما قال أبوه، بل هو مختار فيه في شريعتنا، وكان وجوبها عليه في شريعة من قبلنا، وجعل الرجل نفسه أو ابنه أو عبده
(1)
"فتح الباري"(1/ 554).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 443).
(3)
"فتح الباري"(1/ 554).
أو أجيره خادم المسجد جائز مستحسن، لكن الأجير لا يثاب بخدمة المسجد، بل ينتقل ثوابه إلى المستأجر، والعبادة إذا كانت فرض عين أو فرض كفاية كالإمامة أو تعليم القرآن لا يجوز أخذ الأجرة به بل يحرم، لكن المتأخرين أفتوا الآن على جوازه، وإذا كانت مستحبةً يجوز أخذ الأجرة بها، لكنه ينتقل ثوابه إلى المستأجر، انتهى.
(75 -
باب الأسير أو الغريم. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: دلالة حديث الباب على جواز ذلك ظاهر، والحديث الذي في الباب الثاني لهذا الباب أظهر في ذلك، ولهذا ينبغي أن يقال: إنه باب في باب، وبهذا ينحل ما يشكل في عقد المؤلف ذلك الباب بباب الاغتسال إذا أسلم إنه يناسب إيراده في "كتاب الغسل" لا ههنا، فتأمل، انتهى.
وقال العيني
(2)
: الأسير ظاهر، وأما الغريم فبالقياس؛ لأنه كالأسير في يد صاحب الدين، انتهى.
(76 -
باب الاغتسال إذا أسلم. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: هذا من الأبواب التي زادها تنبيهًا على أن الحديث الآتي من الباب المتقدم يتضمن مسألة أخرى وراء ما ذكر في الترجمة السابقة؛ إلا أنه نبَّه أيضًا على الترجمة المتقدمة بإعادتها، ونبّه بكلمة "أيضًا" على أن الحكم وإن كان يثبت بالحديث السابق أيضًا قياسًا على العفريت؛ إلا أنا نذكر ما يمكن الاستدلال صراحة على ربط الأسير في المسجد، وإنما كان الاغتسال للإسلام من أبواب المسجد حيث أورده في أبوابه بناء على أن دخوله الآن فيه إنما كان لقبول الإسلام، فاستحب الغسل لدخول المسجد للإسلام، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 172).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 510).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 444).
فهذا الباب من الأصل السادس من أصول التراجم كما تقدم في كلام شيخ المشايخ، وهذا على النسخ التي بأيدينا.
قال الحافظ
(1)
: كذا في أكثر الروايات، وسقط للأصيلي وكريمة قوله: وربط الأسير إلى آخره، وعند بعضهم "باب" بلا ترجمة، وكأنه فصل من الباب الذي قبله، ويحتمل أن يكون بيّض للترجمة فسد بعضهم البياض إلى آخر ما قال.
والأوجه عندي: نسخة "باب الاغتسال إذا أسلم"؛ لأنها مسألة مهمة مختلفة بين الأئمة، فكانت جديرة أن ينبه عليها الإمام البخاري، ولا يورد أن حقها كان كتاب الطهارة لا تعلق له بأبواب المساجد، إما لما ذكره الشيخ من وجه المناسبة، أو لأن الإمام البخاري لم يذكرها إصالة حتى يحتاج إلى المناسبة، بل ذكرها بابًا في باب للتنبيه على فائدة جليلة تبعًا لكون المسألة خلافية شهيرة.
وحاصل مذاهب الأئمة: أن الغسل يجب على الكافر إذا أسلم مطلقًا عند الإمام أحمد خلافًا للائمة الثلاثة، إذ أوجبوا الغسل بعد إسلامه حين ما وجد منه في زمن كفر ما يوجب الغسل، فإن وجد شيء منه ثم اغتسل حال كفره يكفي عند الحنفية؛ لأن النية ليست بشرط عندهم، ولا يكفي عند الشافعي مطلقًا، وأما عند مالك فيكفي الغسل إذا اغتسل بعد الإجماع بقلبه وإن لم يسلم بلسانه، فإذا وضح ذلك فالظاهر عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى هذا الاختلاف، ولقوة الخلاف لم يحكم في الترجمة بشيء كما هو معروف من دأبه، وهو الأصل الخامس والثلاثون من أصول التراجم، انتهى من هامش "اللامع"
(2)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 555).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 447).
(77 -
باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم)
قال الحافظ
(1)
: أي: جوازه.
قوله: (فإذا سعد يغزو) كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لم يكن دمه سائلًا حين ضربت له خيمة وإلا لما خيموا له في المسجد لتلويثه، بل كان دمه منقطعًا فسال مرة، ولا يبعد أن يكون المسجد المذكور ههنا الموضع المعد للصلاة عند حفر الخندق لا المسجد النبوي ولا المسجد الاصطلاحي، انتهى.
(78 -
باب إدخال البعير في المسجد)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: أي: هو جائز إذا وجد سبب داع إليه، وركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف كان في عمرة القضاء، وسجب ذلك خوفه عليه السلام من المشركين أن يكيدوا كيدًا ولم يتمكنوا منه بسبب ركوبه عليه الصلاة والسلام، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: يعني بذلك: أنهم ينهون عنه لما فيه من احتمال تلويث المسجد، فإذا احتيج إلى إدخال شيء من الدواب فيه أو حصل الأمن من بوله وروثه لكونه مدربًا فلا بأس، انتهى.
وأشار الشيخ بذلك إلى أن لفظ العلة في الترجمة معناه الحاجة.
قال الحافظ
(5)
: قوله: للعلة، أي: للحاجة، وفهم منه بعضهم أن المراد بالعلة الضعف، فقال: هو ظاهر في حديث أم سلمة دون ابن عباس، ويحتمل أن يكون المصنف أشار بالتعليق المذكور إلى ما أخرجه أبو داود من حديثه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي"
(6)
الحديث، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 556).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 447، 448).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 172).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 449).
(5)
"فتح الباري"(1/ 557).
(6)
"سنن أبي داود"(ح: 1818).
قال العيني
(1)
بعد ذكر ما ذكره الحافظ: ومع هذا كله تقييد العلة بالضعف لا وجه له؛ لأنا قلنا: إنها أعم، فتناول الضعف، وأن يكون طوافه على بعيره ليراه الناس، كما جاء عن جابر: أنه إنما طاف على بعيره ليراه الناس وليسألوه فإن الناس غشوه، انتهى من هامش "اللامع".
(79 -
باب)
بغير ترجمة، في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: هذا الباب وقع بلا ترجمة، ومناسبة حديثه مع الأبواب السابقة باعتبار أن خروج الرجلين من الصحابة كان بعد تحدثهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ليلًا في المسجد، فيستنبط منه جواز التكلم والتحدث في المسجد، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: ربما يخفى مناسبة الباب، والجواب: أن. . .، انتهى. وفي هامشه: أراد الشيخ بيان غرض الباب ولم يتفق له لعارض فترك البياض بعد قوله: والجواب: أن. . .، وأفاد والدي المرحوم عند الدرس أن رأس عصا كل واحد منهما كان شبيهًا برأس البعير، فلذلك ألحقه الإمام البخاري بـ "باب إدخال البعير"، وهذا توجيه لطيف، لكني لم أر بعد في شيء من الكتب إنهما كانا شبيهين برأس البعير، وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قد خلق بقدرة الله تعالى في رأس عصا أحدهما نور مثل المصباح يمشيان بضوئه، فلما افترقا خلق في رأس عصا الآخر أيضًا مصباح، فثبت منه جواز إخراج المصباح من المسجد للظلمة؛ كإدخال البعير فيه، وفي تقريره الآخر: وجه المناسبة أن الطواف في المسجد عبادة فأعطي ببركته البعير لعذر المرض ليسهل له المرور في المسجد، فكذلك
(1)
"عمدة القاري"(3/ 519).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 173).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 452).
الخروج من المسجد بعد انتظار الصلاة، والتأخر عنده عليه الصلاة والسلام عبادة ومرور في المسجد، فأعطي ببركته النور لعذر الظلمة فكما أعطي في الأول لبركة العبادة البعير أعطي في الثاني النور، انتهى.
وبسط الكلام على وجوه المناسبة في هامش "اللامع"
(1)
، وفي آخره: وعلم من هذا كله كما يظهر من أقوالهم أنهم اختلفوا في وجه المناسبة على أحد عشر قولًا:
الأول: توجيه الوالد قُدَّس سرُّه.
الثاني والثالث: ما تقدم آنفًا عن تقرير المكي.
الرابع: أن لا مناسبة بالباب السابق بل بأبواب المساجد مطلقًا، وكأنه أشار إلى قوله عزَّ اسمه:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} الآية [النور: 40].
الخامس: الإشارة إلى أن من يسبح لله تعالى في المسجد جعل الله له نورًا من بين يديه.
السادس: أشار إلى حديث أبي داود وغيره: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وهو مختار الحافظ.
السابع: إشارة إلى قوله عزَّ اسمه: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية [الحديد: 12].
الثامن: بيان لفضيلة الانتظار لصلاة العشاء.
التاسع: بياض في الأصل، كأن البخاري أراد وضع ترجمة لكن لم يتفق له.
العاشر: بيان الفضيلة لمجرد القعود في المسجد.
الحادي عشر: جواز التحدث في المسجد، انتهى.
ورقم على هذا الباب شيخ الهند رمز نقطة واحدة وهو إشارة إلى أن المصنف ترك الترجمة لقصد التمرين وتشحيذًا للأذهان.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 451 - 453).
(80 -
الخوخة والممر في المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك جواز المرور فيه عند عدم مانع من الجنابة وغيرها، وجه الاستدلال ما كانت عليه أصحاب الخوخات من المرور فيه، ولم يكن الأمر بسد الخوخات نسخًا لجواز المرور وإلا لما خصص عنه أبو بكر لكونه أحدًا من أفراد الأمة، بل ليعلم بذلك مزيد اختصاص له بالإمامة الصغرى، فيكون إشارة إلى الإمامة الكبرى مع ما يظهر له في ذلك من زيادة شرف ومنقبة، انتهى.
والظاهر عندي: أن الممر اسم ظرف عطف تفسير للخوخة فإنها قد تكون صغيرة جدًا تكفي للوضوء، وقد تكون كبيرة يمر الناس منها، وعلى هذا فكأن الإمام البخاري أشار عندي بلفظ: الممر، إلى أن المراد بالخوخة المعنى الثاني، أي: الباب الصغير، وعلى هذا فلا يشكل على الإمام تكرار الترجمة فإنه تقدم قريبًا "باب المرور في المسجد"، فلو جعل الممر مصدرًا ميميًا كما عليه عامة الشرَّاح، وعليه بنى الشيخ تقريره يلزم تكرار الترجمة.
فالظاهر عندي ههنا جواز فتح الباب في المسجد عند الحاجة إليه كما يدل عليه الاستثناء لأبي بكر دفعًا لما يتوهم من نسخه.
قوله: (حدثنا محمد بن سنان. . .) الحديث، من منتقدات الدارقطني، والانتقاد عليه إنما هو بحذف الواو عن قوله: عن بسر، ويظهر من كلام الحافظ
(2)
: أن البخاري صرّح بتغليط حذف الواو، ولذا أورد الحافظ على الدارقطني انتقاده على البخاري، لكن الصحيح ههنا حذف الواو وإن كان صحيحًا في نفس الأمر، إذ صرحوا أن محمد بن سنان رواه بحذف الواو، وليست الواو في نسخ الشروح والمصرية.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 455).
(2)
"فتح الباري"(1/ 559).
(81 -
باب الأبواب والغلق للكعبة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أفاد بذلك دفع ما عسى أن يتوهم من كراهة غلق باب المسجد لكونه عائدًا على موضوعه بالنقض، إذ المسجد حق مشترك فيه، فلا يستبد به أحد منهم فيغلقه ويسده على غيره، فرد هذا التوهم بأن ذلك جائز إذا كان متضمنًا لفائدة من صون متاع المسجد وحفظ ما فيه من الأثاث، ودلالة الرواية والأثر على هذا المعنى ظاهرة، وكان مسجد ابن عباس هذا في الطائف بناء حين انتقل إليها، انتهى.
وفي هامشه: قوله: الغلق بالمعجمة واللام المفتوحتين المغلاق وهو ما يغلق به الباب، وفسَّره شيخ الإسلام بالقفل.
وفي "فيض الباري"
(2)
: الغلق ترجمته: روك يعني قفل، يا بلائ يا جتخنى، انتهى.
قال العيني
(3)
: أي: هذا باب في بيان اتخاذ الأبواب للكعبة ولغيرها من المساجد لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية، ولهذا قال ابن بطال: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب، وعلل الوجوب بما ذكرنا، انتهى.
قلت: ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى أن ذلك لا يدخل في قوله عزَّ اسمه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا} الآية [البقرة: 114]، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(4)
.
(82 -
باب دخول المشرك في المسجد)
قال العيني
(5)
: أي: هذا باب في بيان جوازه، وفيه خلاف، فعندنا
(1)
"لامع الدراري"(2/ 459).
(2)
"فيض الباري"(2/ 63).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 529).
(4)
"لامع الدراري"(6/ 459).
(5)
"عمدة القاري"(3/ 531).
يجوز مطلقًا، وعند المالكية المنع مطلقًا، وعند الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره، انتهى.
قلت: وفيه خلاف الإمام محمد كما بسطه الشامي، وعن أحمد فيه روايتان لا يجوز مطلقًا ويجوز بإذن الإمام، وأما الحرم فلا يجوز له الدخول بحال، كما في "المغني".
(83 -
باب رفع الصوت في المسجد)
قال السندي
(1)
: يحتمل أنه بذكره الحديثين أشار إلى تفصيل بأنه إن كان بلا ضرورة فلا يجوز، وإن كان بضرورة يجوز، أو إلى أنه ممنوع بضرورة أو بلا ضرورة، فلذلك بادر صلى الله عليه وسلم إلى قطع الاختصام بينهما الموجب لرفع الصوت في المسجد قطعًا لرفع الصوت فيه، وصارت هذه المبادرة بمنزلة الإنكار على رفع الصوت، والله تعالى أعلم.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أي: هو مكروه، ولا ينبغي أن يقع من المتقي، انتهى.
وفي "الدر المختار": كراهة رفع الصوت بذكر إلا للمتفقه، انتهى.
وفي "البذل"
(3)
في "باب كراهية إنشاد الضالة. . ." إلخ، حتى كره مالك البحث العلمي، وجوزه أبو حنيفة وغيره، ويستثنى من ذلك عقد النكاح فيه، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(4)
: والحديث الأول من الباب بحسب الظاهر حديث موقوف، ومثل هذا عند المؤلف له حكم المرفوع ولما ذكر فيه لفظ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خالف مسلم في أمثال هذا الحديث
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 93).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 174).
(3)
"بذل المجهود"(3/ 201).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 174).
قريبًا من ثلاث مائة حديث، ولم يحكم برفع تلك الأحاديث، انتهى.
وقال الحافظ
(1)
: قوله: "لأوجعتكما"، زاد الإسماعيلي "جلدًا" ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي، انتهى.
(84 -
باب الحلق والجلوس في المسجد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك: أن ما ورد من النهي عن التحلق فإنما هو حيث يخل بأمر الصلاة ويشغلهم عنها، فأما إن كان الاجتماع لغيرها من استماع خطبة أو وعظ فلا ضير فيه كما تثبته الروايات، وإثبات الروايات إياه مبني على أن جلوسهم للوعظ إنما كان حلقًا لا صفوفًا، وذلك لما فيه من التوجه التام والإقبال البالغ إلى الواعظ فيكون أبلغ في العظة، مع أن فيه تقربًا إليه، وفي الاصطفاف يقتضي تقرب بعض دون بعض، وقد وقع التصريح أيضًا في الرواية الثالثة، فكان كالقرينة في جلوسهم لاستماع الخطبة في الروايتين المتقدمتين، انتهى.
قلت: وقد ورد النهي عن التحلق في عدة روايات، منها ما رواه مسلم
(3)
عن جابر بن سمرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال: "ما لي أراكم عزين" الحديث، فلا معارضة، لأنه إنما كره تحلقهم على ما لا فائدة فيه ولا منفعة، بخلاف تحلقهم حوله كما أفاده الشيخ، إلى آخر ما في هامش "اللامع".
(85 -
باب الاستلقاء في المسجد. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(4)
: ثبت في الباب جواز الأمرين الاستلقاء
(1)
"فتح الباري"(1/ 561).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 464).
(3)
"صحيح مسلم"(ح: 430).
(4)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 175).
ووضع الرجل على الرجل الذي نهى عنه في حديث آخر، فإما أن يقال: إن هذا ناسخ للنهي، أو يقال: إن النهي محمول على ما إذا كان الإزار ضيِّقًا يخاف انكشاف العورة، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك أن ما ورد من النهي عن الاستلقاء في المسجد فإنما هو معلول بكشف الستر، فإذا أمن منه فلا ضير فيه، انتهى.
قلت: والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بقوله: ومد الرجل في الترجمة كما في نسخة إلى ما اختاره الشيخ في "البذل"
(2)
أن وضع الرجل على الرجل وهو مستلق على نوعين: إما أن تكون الرجلان ممدودتين ومبسوطتين على الأرض، فيضع إحداهما على الأخرى، ففي هذه الصورة مأمون عن التكشف، وإما أن تكون إحدى الرجلين مقبوضة ويضع الرجل الأخرى على ركبة الرجل المقبوضة، فعلى هذا إذا كان لابسًا الإزار يحتمل أن تنكشف عورته، فالنهي محمول على هذه الهيئة، وأما إذا كان عليه سراويل، فلا يحتمل كشف العورة فيجوز، انتهى.
فالحاصل: أن الشرَّاح ذهبوا في ذلك إلى أقوال خمسة، الأول: أنه منسوخ، والثاني: أن النهي إذا خشي كشف العورة، والجواز عند الأمن منه، وهو مختار الحافظ، والثالث: أن النهي عند مجتمع الناس والجواز في الخلوة، والرابع: النهي عند ضيق الإزار والإباحة عند سعتها، وهو مختار شيخ المشايخ، والخامس: مختار شيخنا في "البذل" كما تقدم وهو مختار الإمام البخاري عند هذا الفقير، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.
(86 -
باب المسجد يكون في الطريق. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: أراد بذلك إثبات أن المسجد حق العامة
(1)
"لامع الدراري"(2/ 366).
(2)
"بذل المجهود"(13/ 281).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 469).
كالطريق، فلكل منهم أن يجعل بعضه مسجدًا إذا لم يضر العامة إلا أنه يمكن لكل واحد منهم أيضًا أن يمنعه عن ذلك وإن لم يكن له ضرر فيهز.
والحاصل: أن الطريق بعد ما لم يكن ضيِّقًا فلكل من العامة إحداث شيء فيه ما لم يضر بالعامة، سواء كان ما يحدثه لنفسه خاصةً أو للناس عامة وأيضًا فكما أن لكل منهم حق الإحداث فكذلك لكل منهم منعه عنه لاشتراك الكل فيه، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: وبناء المسجد في ملك المرء جائز بالإجماع، وفي غير ملكه ممتنع بالإجماع، وفي المباحات حيث لا يضر بأحد جائز خلافًا لبعضهم كربيعة، ونقله عبد الرزاق عن علي وابن عمر، فأراد البخاري الرد عليه، انتهى من هامش "اللامع".
(87 -
باب الصلاة في مسجد السوق)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أي: المواضع المهيآت للصلاة التي ليس لها حكم المساجد وهي ما جعله الواقف لله تعالى خاصة، وثبت له حكم المسجد بشرائطه المعروفة في الفقه، والقرينة على أن المراد بالمسجد هذا لا الاصطلاحي، قوله: على صلاته في سوقه إذ لو كان المراد فيه هو المسجد الاصطلاحي لما انتقص أجره من صلاة المسجد، انتهى.
وإليه يظهر ميل شيخ المشايخ في "التراجم"، وفي هامش "اللامع": اختلف الشرَّاح في غرض المصنف بالترجمة وحاصل ما أفادوا في ذلك عدة أقوال:
الأول: مختار الشيخ في "اللامع" من أن المراد بالمسجد في الترجمة غير الاصطلاحي، وهو الذي اختاره الكرماني.
والثاني: الرد على الحنفية حيث قالوا بامتناع المساجد في الدار
(1)
"فتح الباري"(1/ 564).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 472).
المحجوبة عن الناس، وتعقب عليه الحافظ بأن الذي في كتب الحنفية الكراهة لا التحريم.
والثالث: مختار ابن بطال أن المراد بالمسجد في الترجمة المسجد الاصطلاحي، وروي أن الأسواق شر البقاع؛ فخشي البخاري أن يتوهم أنه لا تجوز الصلاة في الأسواق، فاستدل بحديث الباب أنه إذا جازت الصلاة في الأسواق فرادى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة.
الرابع: مختار الحافظ من أن حديث الأسواق شر البقاع الذي أخرجه البزار في "مسنده" لا يصح إسناده، ولو صح لم يمنع المسجد في السوق؛ لأن بقعة المسجد تكون بقعة خير، انتهى ملخصًا.
قوله: (وصلى ابن عون في مسجد) قال القسطلاني
(1)
: لا ذكر فيه للسوق، والله أعلم بوجه المناسبة، وكذا أنكرها العيني.
وقال الحافظ
(2)
: إشارة إلى أن لا يتوهم أحد أن احتجار السوق يمنع المسجد فيه، فأثبت الجواز محتجرًا، وعلى ما في "اللامع" من غرض الترجمة فالتطابق ظاهر
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: أن المناسبة باعتبار أنه يدل على أن ابن عون صلى في مسجد وراء المسجد وما أورد عليه أنه صلى ابن عون في مبيته ليس بشيء؛ لأن صلاته كان من حيث كونه مسجدًا ولهذا القدر من المناسبة أورد المؤلف تعليقات الأبواب، بل بأدنى من ذلك، انتهى.
(88 -
باب تشبيك الأصابع. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: يعني بذلك أن النهي عنه ليس بتحريم بل أدب ومعلل بما فيه من الإعراض والاستغال عن التوجه إلى الصلاة التي
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(2/ 156).
(2)
"فتح الباري"(1/ 565).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 175).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 478).
خرج من بيته لأجلها، مع أنه في صلاة منذ خرج منه فلا يشبك، وأما في غير هذا فلا ضير، انتهى.
قال الكرماني
(1)
: لعل مراد البخاري جواز التشبيك مطلقًا؛ لأنه إذا جاز فعله في المسجد ففي غيره أولى، انتهى.
وبه جزم الحافظ
(2)
، وإليه ميل شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
.
وقال: قال ابن بطال: وجه إدخال هذه الترجمة معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد، وقد ورد فيه مراسيل مسندة من طرق غير ثابتة، وقال ابن المنيِّر: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنما هو لمقصود التمثيل، وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيَّد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدًا لها، وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية عن ذلك.
وقال العيني
(4)
: اختلف العلماء في تشبيك الأصابع في المسجد وفي الصلاة، وكره إبراهيم ذلك في الصلاة، وهو قول مالك، ورخص في ذلك ابن عمر وابنه سالم، فكانا يشبكان في الصلاة، وفي "الدر المختار"
(5)
في مكروهات الصلاة: فرقعة الأصابع وتشبيكها ولو منتظرًا لصلاة ولا يكره خارجها لحاجة، قال ابن عابدين: ينبغي أن تكون الكراهة تحريمية، وفي حاشيتي على "البذل"
(6)
عن ابن رسلان أن ذلك على مراتب: الأول: في الصلاة وهو أشد كراهة؛ لأنه ينافي الصلاة، والثاني: لمنتظر الصلاة وهو أخف من الأولى، لكن يكره لحديث الباب - يعني: حديث كعب عجرة مرفوعًا عند أبي داود
(7)
"إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه"
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 141).
(2)
"فتح الباري"(1/ 566).
(3)
انظر: "شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 176).
(4)
"عمدة القاري"(3/ 548).
(5)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 409).
(6)
انظر: "بذل المجهود"(3/ 409).
(7)
"سنن أبي داود"(ح: 560).
الحديث -، والثالث: في المسجد بعد الصلاة، وهو مباح لحديث ذي اليدين، والرابع: في غير المسجد وهو أولى بالإباحة، وما ورد من مطلق المنع عنه في المساجد محمول على ما قبل الصلاة، انتهى من هامش "اللامع".
وفي "المغني"
(1)
: يكره التشبيك في الصلاة، انتهى.
(89 -
باب المساجد التي على طرق المدينة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قصد بذلك أن يبين مواضع نزول النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى مكة وإيابه عنها ليتبرك بالصلاة والدعاء فيها، ومناسبته بأبواب المساجد ظاهرة، انتهى.
والشرَّاح سكتوا عن غرض الترجمة، والأوجه عندي: أنه أثبت جواز الاستبراك بمشاهد الأنبياء والصالحين استدلالًا بفعل ابن عمر وتحريه ودفعًا لما يتوهم من قول عمر رضي الله عنه كما حكى العيني
(3)
: أنه رضي الله عنه كان في سفر، فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه، ويقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب؛ لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم واتخذوها كنائس وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض، انتهى.
ووجه الجمع بين قول عمر وفعل ابنه، بأن عمر رضي الله عنه خشي أن يلتزموه ويجعلوه واجبًا، وكلا الأمرين مأمون من ابنه، ودليل جواز الاستبراك حديث عتبان رضي الله عنه وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فهو حجة للتبرك بآثار الصالحين وغير ذلك من الآثار والروايات بسطت في هامش "اللامع".
(1)
"المغني"(2/ 117).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 482).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 560).
قوله: (والمواضع. . .) إلخ، قال القسطلاني
(1)
: أي: ولم تجعل مساجد، انتهى.
وذكره العيني نسخة وليس في نسخته، وبسط الشيخ الكلام على هذه المواضع في "اللامع" فارجع إليه لو شئت.
(90 -
باب سترة الإمام. . .) إلخ
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: لما فرغ من أحكام المسجد شرع في أحكام السترة، وغرض المؤلف من عقد هذا الباب أن سترة الإمام كاف للقوم، فمع سترة الإمام لو مر المار بين يدي القوم لا يأثم بذلك، والإشارة إلى ما قاله الشافعي في معنى قول ابن عباس: يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، أي: إلى غير سترة ليس على ما ينبغي، بل معناه إلى غير جدار يكون هو سترة، وإن كانت العنزة سترة له؛ لأنه ثبت من تتبع أحواله صلى الله عليه وسلم في صلاته في الصحراء أنه ما صلَّى إلا والعنزة تكون بين يديه، ولذلك استشكل استدلال ابن عباس بذلك؛ لأن عدم إنكار أحد له يجوز لكون صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سترة، وسترة القوم سترة الإمام، بل الظاهر هو هذا، فافهم.
ويمكن توجيه قول الشافعي إلى غير سترة، أي: إلى غير سترة جدار دون مطلق السترة، فلا مخالفة بين قوله وقول الآخرين، انتهى.
ومسألة الباب خلافية، ففي هامشي على "البذل"
(3)
: أجمعوا على أن المأموم لا يحتاج إلى سترة بعد سترة الإمام، واختلفوا في أن الإمام سترة لمن خلفه، أو سترته سترة لمن خلفه قولان للمالكية كما قال الدردير، ومختار الحنفية الثاني، كما في "البحر الرائق"، ونص عليه أحمد، وبه قال
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 161).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 178).
(3)
انظر: "بذل المجهود"(3/ 669).
الشافعي كما في "المغني"
(1)
.
وثمرة الخلاف تظهر في المرور أمام الصف الأول، فعلى الأول يحرم؛ لأنه مرور بينه وبين سترته، وعلى الثاني يجوز؛ لأن الإمام حائل بينه وبين سترته، كذا قال الدردير، انتهى.
وفي "الفتاوى الرشيدية": يستثنى منه الصلاة في المقابر؛ فإن فيها لا بدّ من السترة لكل واحد من الإمام والمأموم، انتهى معربًا.
قوله: (بمنى إلى غير جدار) أي: إلى غير سترة أو إلى سترة غير جدار قولان كما سبق في كلام شيخ المشايخ، وبوَّب البيهقي عليه:"الصلاة إلى غير السترة" خلافًا لما أثبته المؤلف.
قال الحافظ
(2)
: ووقع عند مسلم: "بعرفة".
قال النووي: يحمل ذلك على أنهما قضيتان، وتعقب بأن الأصل عدم التعدد، ولا سيما مع اتحاد المخرج، فالحق أنه شاذ، انتهى.
ولا يخفى عليك أن الترجمة لفظ حديث للطبراني كما تقدم في الأصول.
(91 -
باب قدر كم ينبغي. . .) إلخ
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: غرضه من إثبات ذلك أن لا يتجاوز المصلي عن هذا القدر لئلا يفضي إلى تضييق الطريق على الناس، والموضع الذي يكون من القدم إلى موضع الجبهة، وثبت أنه كان بين موضع قيامه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإذا كان كذلك فتقريبًا يبقى بين مصلاه، أي: موضع سجوده وبين الجدار ممر الشاة، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: الظاهر أن المصلي على زنة الفاعل،
(1)
انظر: "المغني"(3/ 81).
(2)
"فتح الباري"(1/ 572).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 178).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 496).
والمراد بالمسافة الواقعة بينهما هي المسافة بين موضع سجوده والجدار، ولا مانع عن حمله على المفعول درايةً، ولعل الرواية لا تساعد عليه، والمراد بالمصلي جملة ما يكون من مقام المصلي إلى موضع سجوده، فالمقصود على الوجهين جميعًا بيان ما بين الجدار وموضع الجبهة من الأرض، والمراد بقوله:"ممر الشاة" أي: يمكن لها المرور على عسرة ودقة، وفي الرواية الآتية: لا تكاد تمر بسهولة وسعة، أو المراد أنه كان بحيث يمكن فيه مرور الهزيلة والصغيرة، ولا يمكن ممر الكبيرة والسمينة، فالنفي راجع إلى غير ما رجع إليه الإثبات وإن بنى الأمر على أنه تخمين من الكل حسب ظنه، أو أنه تقريب فقط، فالأمر أسهل من أن يجاب، انتهى.
قال الحافظ
(1)
: لفظ المصلي بكسر اللام ويحتمل الفتح، وتعقب عليه العيني
(2)
: بقوله: هذا احتمال أخذه من كلام الكرماني، ثم رد عليه، واقتصر القسطلاني
(3)
على كسر اللام، وهذا كله في الترجمة، وأما في الحديث فبالفتح لا غير.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار في الترجمة حيث بوَّب المصلي بكسر اللام إلى اختلاف بين العلماء في أن هذا المقدار بين السترة وبين موضع السجود أو بينهما وبين موضع القيام، وبالأول قالت الجمهور، وبالثاني قال بعض المالكية، ولذا قال: ينبغي أن يكون الشبر بينه وبين السترة وهو قائم، فإذا ركع تأخر بثلاثة أذرع، قال: والتأخر وإن كان عمدًا لكنه لمصلحة الجمع بين الحديثين، لكن قال السندي
(4)
: هذا بعيد ما لوجه أن يحمل المصلى على موضع السجود، وما في بعض الروايات من لفظ موضع القيام تصرف من الرواة، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 574).
(2)
"عمدة القاري"(3/ 573).
(3)
انظر: "إرشاد الساري"(2/ 170).
(4)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 97).
قلت: ومسألة حريم المصلي مختلفة، ففي "الأوجز"
(1)
: اختلفوا في قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة ومحصوله: أن مالكًا لم يجد في ذلك حدًا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع من يمر بين يديه، وقدره في فروع الأئمة الثلاثة بقدر ثلاثة أذرع، انتهى من هامش "اللامع"
(2)
.
(92 -
باب الصلاة إلى الحربة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: لما كان النهي عن السجدة إلى ما يلزم فيه تشبه بعبدة الأصنام يقتضي أن لا تجوز الصلاة إلى الحربة والعنزة وغيرها من السلاح لتعظيم بعض الفرق إياها رد ذلك بأن المؤثر في النهي عنه ما اتفقت عليه طائفة ممن يعتد بها واشتهر أمر عظمته، ولا يبالي بفعل من لا يبالي به من الجهلة، وأورد لذلك عدة أبواب دفعًا للفرق بين أفرادها وكبيرها وصغيرها، فعلى هذا لو صلى إلى البقرة لا تكون كراهته مثل كراهة المصلي إلى النار لاشتهار عبادتها فوق اشتهار عبادة البقر، وتعظيم النار في قلوب أهلها فوق عظمة البقر، انتهى.
وفي هامشه: هذا أقصى ما يوجه به ترجمة المصنف بحيث يناسب شأنه، وإلا فالشرَّاح قاطبة سكتوا عن غرضه، ثم بسط في شرح كلام الشيخ وتأييده وفيه ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مقدار السترة طولًا، وترجم بالحربة والعنزة إشارة إلى أنه لا تحديد في ذلك قصرًا وطولًا، فلو ترجم بأحدهما لأوهم تحديده بذلك المقدار إلى آخر ما بسط، ثم لا يخفى عليك أن هذه الترجمة ستأتي في "كتاب العيد" بلفظ "باب الصلاة إلى الحربة يوم العيد"، ولا يشكل التكرار كما سيأتي هناك فإن الغرض مختلف.
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(3/ 266).
(2)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 497).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 498).
(93 -
باب الصلاة إلى العنزة)
تقدم ما يتعلق بهذا الباب من الغرض في الباب السابق.
وقال الحافظ
(1)
: واعترض عليه بأن فيها تكرارًا؛ فإن العنزة هي الحربة، لكن قد قيل: إنما يقال لها: عنزة إذا كانت قصيرة، ففي ذلك جهة مغايرة، انتهى.
قال القسطلاني
(2)
: العنزة بفتح العين المهملة والنون والزاي وهي أقصر من الحربة، أو الحربة الرمح العريض النصل، والعنزة مثل نصف الرمح، انتهى.
وفي هامش الهندية عن "الخير الجاري": مطابقة الحديث الثاني للترجمة باعتبار أن الترجمة شارحة للحديث وإلا فالصلاة غير مذكورة، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: ومعنا عكازة أو عصا أو عنزة لم يذكر تمام الحديث، وهو أنه كان يركزها إذا صلى، وبه تثبت المطابقة، انتهى.
قلت: وههنا إشكال آخر، وهو أن الراوي شك في العنزة، والجواب أن من عادة المصنف الاستدلال بكل المحتمل، وهو السادس العشر من أصول التراجم.
(94 -
باب السترة بمكة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لعل المراد به أن السترة لما كانت غير مأمور بها لمن صلى في المطاف والمسجد الحرام كان لمتوهم أن يتوهم أن السترة غير مأمورة بها في الحرم مطلقًا، دفع ذلك الوهم؛ لأنها مندوبة في
(1)
"فتح الباري"(1/ 576).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 171).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 501).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 502).
الحل والحرم وبمكة وغيرها غير أن سقوط تأكدها في المسجد الحرام مبني على ضرورة الحرج، انتهى.
وبسط الكلام عليه في هامشه، وفيه قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: إنما خص البخاري مكة بالذكر دفعًا لتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة.
قال الحافظ: والذي أظن أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق
(2)
في "مصنفه": "باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء" وأخرج فيه حديث كثير بن كثير عن أبيه عن جده قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم سترة، أخرجه أصحاب السنن، ورجاله موثوقون إلا أنه معلول، فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها، هذا هو المعروف عند الشافعية، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة، انتهى.
قلت: هو المرجح عندهم بل جميع الحرم كذلك كما في "المغني"، انتهى مختصرًا.
وترجم عليه ابن تيمية في المنتقى "باب دفع المار وما عليه من الإثم" والرخصة في ذلك للطائفين بالبيت، وذكره الشامي عن بعض الحنفية كما بسط في هامش "اللامع"
(3)
.
(95 -
باب الصلاة إلى الأسطوانة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لما كان النهي عن الصلاة بين السواري يوهم أن ذلك لعلة في نفس الأسطوانة أوردها لدفع ذلك بإثبات جواز الصلاة إليها أنه ليس لنفسها دخل في النهى، بل النهي عنه مبني على أن فيه
(1)
"فتح الباري"(1/ 576).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(رقم 2387).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 502).
(4)
"لامع الدراري"(2/ 506).
انقطاعًا بين الصفوف أو إضرارًا بالمارة، حتى إنه تجوز الصلاة بينها إذا لم يكن شيء من هذين فأثبت الجواز بالباب الآتي، انتهى.
قال ابن بطال
(1)
: لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الحربة كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى؛ لأنها أشد سترة، وحكى الحافظ عن الرافعي أنه أشار بذلك إلى أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، انتهى.
ولا يبعد عندي أنه أشار بالترجمة إلى استحباب السترة في المساجد والبيوت أيضًا خلافًا لما يتوهم من كلام عامة الفقهاء تخصيص ذلك بالصحراء كما بسط في هامش "اللامع".
(96 -
باب الصلاة بين السواري. . .) إلخ
تقدم بعض ما يتعلق بهذا الباب من كلام الشيخ في الباب السابق ولا يبعد عندي في غرض الترجمة: أن أثر ابن عمر المتقدم لما كان يوهم عدم جواز الصلاة بين الأسطوانتين حتى أدناه إلى سارية دفعه بذلك، وقيَّده بغير جماعة إشارةً إلى الاختلاف في ذلك.
واختلف العلماء في هذه المسألة وعلَّة النهي بعد اتفاقهم أنه جائز عند الضيق، ففي هامشي على "البذل"
(2)
قال صاحب "المنهل": كراهيته مطلقًا للمنفرد والجماعة عند المالكية، وعن أحمد كراهته للمأمومين لا لغيرهم، وعن الكوفيين الإباحة مطلقًا، وعن الشافعي كراهته للمنفرد دون الجماعة، انتهى.
قلت: مذهب الإمام أبي حنيفة أنه يجوز للمنفرد والجماعة، ويكره للإمام، وأما وجوه النهي فقال ابن العربي: وذلك إما لانقطاع الصفوف أو لأنه موضع صلاة الجن المؤمنين أو لأنه موضع جمع النعال، انتهى.
أو لأنه محل الشياطين كما قال الدردير أو الإضرار بالمارة كما تقدم
(1)
انظر: "شرح ابن بطال"(1/ 133).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(3/ 620).
في كلام الشيخ أو عدم استواء سواري مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الكوكب"
(1)
، انتهى من هامش "اللامع".
(97 -
باب)
بغير ترجمة، في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: هذا الباب لا ترجمة له فهو كفصل الباب الأول من أنه شرع لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين وكان بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبًا من ثلاثة أذرع، انتهى.
قلت: هو الأصل العشرون من أصول التراجم.
وقال الحافظ
(3)
: كذا للأكثر بلا ترجمة وفصله عما قبله؛ لأنه ليس فيه ذكر السواري بل بيان المسافة بينه وبين الجدار، انتهى. وهو مختار العيني.
وقال الكرماني
(4)
: فصل هذا الحديث؛ لأنه لا يدل صريحًا على الصلاة بين الساريتين، لكن المراد منه ذلك لما علم من سائر الأحاديث أو لأن الموضع المذكور من كونه مقابلًا للباب قريبًا من الجدار يستلزم كونها بين الأسطوانتين، انتهى.
ولا يبعد عندي: أنه فصل للتنبيه على مسألة جواز الصلاة في كل البيت بقوله: وليس على أحدنا بأس. . . إلخ، وأيضًا فيه الاستبراك، ورقم على الباب في "تراجم شيخ الهند" قُدِّس سرُّه رمز نقطة واحدة، وهو إشارة إلى أنه المصنف ترك الترجمة لقصد التمرين وتشحيذًا للأذهان.
(1)
انظر: "الكوكب الدري"(1/ 246).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 181).
(3)
"فتح الباري"(1/ 579).
(4)
انظر: "شرح الكرماني"(4/ 158).
(98 -
باب الصلاة إلى الرحلة. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: المذكور في الحديث الراحلة والرحل، فكأنه ألحق البعير بالراحلة بالمعنى الجامع بينهما، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه عند أبي داود: كان يصلي إلى بعيره
(2)
. وألحق الشجر بالرحل بطريق الأولوية، ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث علي رواه النسائي
(3)
قال: "رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم
(4)
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يصلي إلى شجرة يدعو حتى أصبح"، انتهى.
قلت: أشار الإمام البخاري بذلك إلى خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"
(5)
وفيه: وعلم مما سبق أن الصلاة إلى البعير والدابة لا يستحب عند الشافعية والمالكية، ولا بأس به عند الحنابلة والحنفية، انتهى.
قوله: (إذا هبت الركاب) الشرَّاح كلهم على أن معناه: هاجت.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(6)
قوله: (إذا هبت. . .) إلخ، أي: ذهبت إلى المرعى، ولا ينطبق ما ذكره في الحاشية بين السطور أن المراد إذا هاجت وتحركت؛ لأنه إذا كان أمرهم كذلك لم تستقم الصلاة فيه، ولا يفيد وضع الرحل أمامه في دفع التشويش الناشئ بهيجانها، انتهى.
(99 -
باب الصلاة إلى السرير)
قال الحافظ
(7)
: أورد عليه الإسماعيلي بأن الحديث دال على الصلاة على السرير لا إلى السرير، ثم أشار إلى أن رواية مسروق عن عائشة دالة على المراد؛ لأن لفظه: كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة كما سيأتي،
(1)
"فتح الباري"(1/ 580).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 692).
(3)
"السنن الكبرى" للنسائي (1/ 213، 734) الصلاة إلى الشجرة.
(4)
في الأصل: "نام"، وهو تحريف.
(5)
انظر: "أوجز المسالك"(3/ 288).
(6)
"لامع الدراري"(2/ 512).
(7)
"فتح الباري"(1/ 581).
فكان ينبغي له ذكرها في هذا الباب، وأجاب الكرماني عن أصل الاعتراض بأن حروف الجر تتناوب فمعنى قوله في الترجمة: إلى السرير، أي: على السرير، وادعى قبل ذلك أنه وقع في بعض الروايات على السرير.
قال الحافظ: ولا حاجة إلى الحمل المذكور، فإن قولها:"فيتوسط السرير" يشمل ما إذا كان فوقه أو أسفل منه، وقد بان من رواية مسروق عنها أن المراد الثاني، انتهى.
وتعقبه "العيني"
(1)
، واختار مختار الكرماني، وبه جزم السندي وبسطه لكنه أورد أنه لا تعلق حينئذ بأبواب السترة.
والأوجه عندي ما قال الحافظ؛ لأن الترجمة من أبواب السترة فلو صارت الترجمة الصلاة على السرير كما قالاه لم تبق من أبواب السترة، انتهى من هامش "اللامع".
(100 -
باب ليرد المصلي. . .) إلخ
فيه ثلاثة مذاهب، رخصة عندنا الحنفية فتركه أولى ومندوب عند الجمهور، حتى حكى ابن رسلان الإجماع عليه، وواجب عند الظاهرية، فلعل المصنف أراد الرد على الأول، وذكر لفظ الحديث بلفظ الأمر لاحتماله القولين الآخرين، والظاهر أن ميلانه إلى الوجوب.
وقال القسطلاني
(2)
: في قوله: "باب يرد المصلي" أي: ندبًا، انتهى.
(101 -
باب إثم المار. . .) إلخ
سكت الشرَّاح عن غرض الترجمة، ولا يبعد عندي أن المصنف أراد شرح لفظ الحديث بأن المراد ماذا عليه، أي: من الإثم، وأوجه منه أنه أراد ترجيح أحد القولين من أن الأمر بالدفع لمصلحة المصلي أو لمصلحة المار.
(1)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 585).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 179).
قال الحافظ
(1)
: قال ابن بطال: هل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور، أو لدفع الإثم عن المار؟ الظاهر الثاني، انتهى.
وقال غيره: بل الأول أظهر؛ لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من الاشتغال بدفع الإثم عن غيره، وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه:"أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته"، وروى أبو نعيم عن عمر رضي الله عنه:"لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس"، فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار، انتهى.
(102 -
باب استقبال الرجل الرجل. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: أي: هل يكره أو لا، أو يفرق بين ما إذا ألهاه أو لا؟ وإلى هذا التفصيل جنح المصنف وجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأثرين اللذين ذكرهما عن عثمان وزيد بن ثابت، ولم أره عن عثمان إلى الآن، وإنما رأيته في "مصنف عبد الرزاق" وغيره من طريق هلال عن عمر رضي الله عنه أنه زجر عن ذلك، وفيه [عن] عثمان ما يدل على عدم كراهيته ذلك، فليتأمل لاحتمال أن يكون فيما وقع في الأصل التصحيف، انتهى.
وتعقبه العيني
(3)
إذ قال: لا يلزم من عدم رؤيته أن لا يكون منقولًا عنه، فليس بسديد زعم التصحيف بالاحتمال الناشئ عن غير دليل، انتهى.
وقال أيضًا ما ملخصه: في الحديث استقبال الرجل المرأة، فقيل: هما سواء، وقيل: لما لم ير بها بأسًا، فالرجل بالأولى، ثم قال: أكثر العلماء على كراهة الاستقبال بالوجه، انتهى.
وفي "المغني"
(4)
: يكره أن يصلي مستقبلًا وجه إنسان؛ لأن عمر رضي الله عنه أدب على ذلك، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 584).
(2)
"فتح الباري"(1/ 587).
(3)
"عمدة القاري"(3/ 596).
(4)
"المغني" لابن قدامة (3/ 87).
(103 -
باب الصلاة خلف النائم)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أراد بالخلف معنى أعم من معناه المشهور كما يعلم من الرواية الموردة في هذا الباب، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(2)
: كأنه أشار إلى تضعيف ما ورد في أبي داود من النهي عن الصلاة إلى النائم، وكره مالك الصلاة إلى النائم، وظاهر تصرف المصنف عدم الكراهية حيث يحصل الأمن من الإلهاء، انتهى.
ولا يكره عند الحنفية كما نقله ابن عابدين عن شرح "المنية"، وعن أحمد ثلاث روايات كما في "المغني": الكراهة مطلقًا، وعدم الكراهة مطلقًا، والكراهة في الفريضة خاصةً دون التطوع، ثم يشكل عندي أن الإمام البخاري استدل بالحديث ههنا على الصلاة خلف النائم، وظاهر أنها كانت مستدبرةً حتى يتم الاستدلال على الخلف، وقد استدل به في الباب السابق، وظاهره أنها كانت مستقبلةً حتى يتم الاستقبال، ويزيد الإشكال ما يظهر من كلام الحافظ اتحاد الروايتين.
والأوجه عندي: أنهما قصتان مختلفتان، فإن ظاهر سياق الأول أنها كانت يقظى كما يشير إليه قولها:"وأنا مضطجعة على السرير فتكون لي الحاجة"، وظاهر أن اعتراء الحاجات يكون في اليقظة، ونص الرواية الثانية أنها كانت راقدةً والنوم المندوب يكون متوجهًا إلى القبلة فلا بد أن تكون مستدبرةً عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأوجه عندي في مطابقة الروايتين بالترجمتين كما أشار إليه الحافظ
(3)
عندي بقوله: وقد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى، وأما على اتحاد الروايتين فيمكن أن يجاب بأن من دأب المصنف المعروف الاستدلال بكل المحتمل، كما تقدم في الأصول، أو يقال: إن الاستدلال في الماضي بقولها: أكره أن أستقبله، وههنا بفعلها من الرقود
(1)
"لامع الدراري"(2/ 521).
(2)
"فتح الباري"(1/ 587).
(3)
انظر: "فتح الباري"(1/ 587).
أمامه صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(1)
.
(104 -
باب التطوع خلف المرأة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لعل المراد بذلك أن ما اشتهر من نقض الصلاة بمحاذاة المرأة فإنما هو حيث اشتركا تحريمةً وأداءً، فأما إذا كان الرجل يصلي صلاته لنفسه فلا بأس بوقوعه في جنب المرأة أو خلفها، ويمكن أن يكون غرضه إثبات ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى من أن صلاة الرجل لا تفسد بوقوعه في جنب المرأة أو خلفهما حيث لم تفسد صلاته صلى الله عليه وسلم، وأيًا ما كان فاستدلاله مبني على أن يكون الحكم في كونها مصلية عينه عند عدمه، وهو في حيز الخفاء، انتهى مختصرًا.
وفي هامشه: وحاصل ما أفاده الشيخ: أن في الترجمة احتمالين:
الأول: جواز كون المرأة أمام المصلي بغير اشتراكهما في الصلاة.
والثاني: أنه أراد مسألة المحاذاة المعروفة المختلفة، وأشار إليها بقوله: ويمكن أن يكون. . . إلخ.
والأوجه عندي الأول لاتصاله بـ "باب الصلاة خلف النائم" ولكونه داخلًا في أبواب السترة، ولعله ترجم بذلك لما فيه شيء من الاختلاف.
قال الموفق
(3)
: ويكره أن يصلي وأمامه امرأة تصلي لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخروهن من حيث أخرهن الله تعالى"، وأما في غير الصلاة فلا يكره لخبر عائشة، وإن كانت عن يمينه أو يساره لم يكره وإن كانت في صلاة، انتهى.
ويمكن أيضًا أن الإمام البخاري ترجم بذلك دفعًا لما يتوهم من روايات القطع بمرورها أن استقرارها أمام المصلي أولى بالقطع، فبهذه الوجوه ترجم الإمام بذلك عندي، وأما مسألة المحاذاة فلا تعرض لها في
(1)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 522).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 523).
(3)
"المغني" لابن قدامة (3/ 89).
الترجمة ولا في ما أورده من حديث الباب، ومحلها ما سيأتي من "باب المرأة وحدها تكون صفًا".
(105 -
باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء)
لا يخفى عليك أنه قد سقط في بعض النسخ الهندية من سهو الكاتب لفظ "قال"، ففيه:"باب من لا يقطع. . ." إلخ، وهو موجود في نسخ الشروح. في "تراجم شيخ المشايخ": غرض المؤلف من عقد هذه الأبواب إلى آخر الكتاب الإشارة إلى أن المرأة غير قاطعة للصلاة، انتهى.
ويشكل أن ظاهر حديث عائشة: شبهتمونا بالحمر والكلاب إنهما يقطعان فكيف الترجمة؟ اللَّهم إلا أن يقال: إن الوارد في أحاديث القطع العلة بأنه شيطان، وهذا يعم المرأة وغيرها فلما ثبت عدم القطع في أحدها ثبت في الآخرين، ولذا استدل به الزهري في الحديث الثاني، ولذا عقبه البخاري.
وقال القسطلاني
(1)
بعد حديث عائشة: وإذا كانت المرأة لا تقطع الصلاة مع أن النفوس جبلت على الاشتغال بها فغيرها من الكلب والحمار وغيرهما كذلك بل أولى، انتهى.
وبسط في "الفيض"
(2)
في معنى القطع الوارد في الأحاديث، وأنكر نسخها وتأويلها حيث قال: ولا تأول في أحاديث القطع وأحملها على ظاهرها إلى آخر ما قال.
وحاصله: أن المراد بالقطع قطع وصلة المناجاة بين العبد والرب تبارك وتعالى كما يتناجي اثنان، فيحول الثالث بينهما فهو قاطع لمناجاتهما.
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 187).
(2)
انظر: "فيض الباري"(2/ 85).
(106 -
باب إذا حمل جارية صغيرة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أراد بذلك الرد على من زعم بانتقاض الطهارة بمس المرأة ولو صغيرة، ولا يلزم بذلك تسليم الانتقاض بمس الكبيرة، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ محتمل لكن فيه أنه يكون إذًا محله أبواب نواقض الوضوء من كتاب الطهارة، وقال ابن بطال: أراد البخاري أن حملها إذا كانت لا يضر فمرورها بين يديه لا يضر؛ لأن حملها أشد من مرورها، كذا في "الفتح"
(2)
.
وهو الأوجه عندي؛ لأن المصنف بصدد أن لا يقطع الصلاة شيء لا سيما المرأة، ولذا ذكر عدة أبواب مختلفة كلها يؤيد عدم القطع، وفي "الفيض"
(3)
فيه مسألتان: الأولى: مسألة حمل الصبي، والثاني: مسألة ثياب الصبي، ثم بسطهما.
قال القسطلاني
(4)
: فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم الدين، وهذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وأحمد، وادعى المالكية نسخه بتحريم العمل في الصلاة إلى آخر ما بسطه، ويقابله ما قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن مثل هذا مكروه فيكون إما في النافلة أو إما منسوخًا إلى آخر ما بسط في "الأوجز"
(5)
، وفيه أيضًا عن "الدر المختار": يكره حمل الطفل وما ورد نسخ بحديث "إن في الصلاة لشغلًا" وبسطه ابن عابدين وما ورد في الحديث من نسبة الرفع والوضع إليه صلى الله عليه وسلم مجاز، وذلك لأن الصبية قد ألفته صلى الله عليه وسلم وأنست بقربه فإذا سجد جاءت وتعلقت بأطرافه إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(6)
.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 527).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 590).
(3)
"فيض الباري"(2/ 86).
(4)
"إرشاد الساري"(2/ 189).
(5)
انظر: "أوجز المسالك"(3/ 520).
(6)
انظر: "لامع الدراري"(2/ 528).
(107 -
باب إذا صلى إلى فراش. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: أي: هل يكره أم لا؟ وحديث الباب يدل على أن لا كراهة، انتهى.
قال العيني
(2)
تحت الحديث الأول: مطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة عند التأمل، ولكن اعترض فيه أنه كيف دلَّ على الترجمة التي هي كون المصلي منتهيًا إلى الفراش؛ لأنه قال: إذا صلى إلى فراش، وكلمة:"إلى" لانتهاء الغاية؟ وأجيب بأن الترجمة ليست معقودة للاعتراض، فإن المتعلق بالاعتراض قد تقدم، والذي قصده البخاري بيان صحة الصلاة ولو كانت الحائض بجنب المصلي ولو أصابتها ثيابه، لا كون الحائض بين المصلي وبين القبلة، انتهى.
وتعبيره بقوله: "إلى" أعم من أن تكون بينه وبين القبلة، فإن الانتهاء يصدق على ما إذا كانت أمامه أو عن يمينه أو عن شماله، انتهى بزيادة من "الفتح".
وقال السندي
(3)
: كأن المصنف حمله على أن الفراش كان في حذاء المصلي أمامه لا في جانبه، لكن الحديث الثاني وهو:"وأنا إلى جنبه" لا يوافق الترجمة، والله تعالى أعلم، انتهى.
(108 -
باب هل يغمز الرجل امرأته. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: في الترجمة التي قبلها بيان صحة الصلاة ولو أصابت المرأة بعض ثياب المصلي، وفي هذه الترجمة بيان صحتها ولو أصابها بعض جسده، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(1/ 593).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(3/ 6068)، و"فتح الباري"(1/ 593).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 100).
(4)
"فتح الباري"(1/ 593).
قال العيني
(1)
: يعني: نعم، إذا غمزها فلا شيء يترتب عليه من فساد الصلاة، انتهى.
ويشكل عليه زيادة لفظ: "هل" في الترجمة، والحديث نص في مطابقة الباب، ولا يبعد أن يقال: إنه إشارة إلى إشكال وهو أن المس ينقض الوضوء عندهم.
(109 -
باب المرأة تطرح عن المصلي. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: قال ابن بطال: هذه الترجمة قريبة من التراجم التي قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلي فإنها تقصد إلى أخذه من أيّ جهة أمكنها تناوله، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه فليس بدونه، انتهى.
وفي هامش "اللامع"
(3)
: وقد تقدم "باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر. . ." إلخ، ولا يتوهم التكرار؛ لأن المنظور هناك صحة الصلاة بمصاحبة النجاسة كما يدل عليه سياق التراجم هناك، والمقصود ههنا إثبات عدم قطع الصلاة بمرور المرأة فأثبته المصنف بجهات مختلفة ودلائل عديدة، انتهى.
ثم براعة الاختتام عندي في قوله: "لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب"، ولم يذكر البراعة ههنا الحافظ قُدِّس سرُّه كما نبهت عليه في مقدمة "اللامع".
* * *
(1)
"عمدة القاري"(3/ 609).
(2)
"فتح الباري"(1/ 594).
(3)
"لامع الدراري"(2/ 531).
9 -
كتاب مواقيت الصلاة
قال الحافظ
(1)
: "المواقيت" جمع ميقات، وهو مفعال من الوقت، وهو القدر المحدد للفعل من الزمان أو المكان، انتهى.
ومناسبته بما سبق وكذا الكلام على المناسبات بين أبواب كتاب الصلاة تقدم في أول كتاب الصلاة.
(1 -
باب مواقيت الصلاة وفضلها)
اختلفت نسخ "البخاري" في ذكر عنوان الكتاب والباب كما يظهر من نسخ الحاشية.
والأوجه عندي نسخة "كتاب مواقيت الصلاة وفضلها، باب مواقيت الصلاة" والضمير في فضلها راجع إلى الصلاة، فالكتاب مشتمل على بيان مواقيت الصلاة وعلى فضائل الصلاة، وعلى هذا فلا يحتاج إلى توجيهات في بيان المناسبة بين الأبواب والكتاب، ثم قوله:"باب مواقيت الصلاة" بعد ذكر كتاب المواقيت لا تكرار فيه، فإن المقصود بالباب عندي بيان مبدأ المواقيت كما هو دأب المصنف؛ فإنه يشير في أوائل أكثر الكتب إلى مبدأ هذا الحكم نصًا أو إشارةً كما لا يخفى على من أمعن النظر في تراجم "البخاري"، وعلى هذا يكون باب المواقيت متضمنًا لأمرين: بيان المبدأ وبيان الفضل.
وهذا هو الأوجه عندي، ويحتمل أن يكون الغرض منه بيان الفضل فقط، فيكون قوله:"وفضلها" عطفًا تفسيريًا، وبيان الفضل ظاهر من الحديث؛ فإن جبريل عليه السلام نزل لتعليمها عشر مرات في يومين، وهذا لغاية الاهتمام بذلك.
(1)
"فتح الباري"(2/ 3).
وقال شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
: إنما عقَّبه بباب مواقيت الصلاة؛ لأن المراد بكتاب المواقيت كتابها مطلقًا، وببابها المواقيت من حيث إنها شرعت بالوحي أم بالاجتهاد، وأدرج المصنف في كتاب مواقيت الصلاة أبوابًا دالة على فضائل الصلاة، انتهى.
فأشار شيخ المشايخ إلى أنها ذكرت استطرادًا وتبعًا.
ثم يشكل على تقسيم أوقات الصلاة عدم التوازن والتناسب فيها، فإن الوقت فارغ من الصباح إلى الظهر، ثم تتوالى الصلوات إلى ثلث الليل، ثم لا صلاة إلى الصباح طول الليل، وتكلموا على الحكم في ذلك بوجوه كثيرة، ولا ريب في أن حكم الله تبارك وتعالى في أحكامه وتنويعها كثيرة لا تدركها القوة البشرية، وإنما تكلموا عليها حسبما بلغت إليها فراستهم، وارتقت إليها قوتهم الفكرية، وتكلم على حكم قسمة المواقيت مشايخ عديدة، منهم: الرازي في "التفسير الكبير"، وشارح "المنهاج"، والشيخ التهانوي قُدِّس سرُّه في "المصالح العقلية".
والأوجه عند ذلك المبتلى بالسيئات المعترف بالتقصيرات: أن الله عز وجل لم يخلقنا إلا للعبادة فقط، كما حصره في قوله عزَّ اسمه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وكان حق ذلك صرف الأوقات كلها في العبادات، وأهمها الصلاة؛ كالملائكة فإن منهم القائمين والراكعين والساجدين إلى يوم القيامة، لا سيما إذا كان الأجر منه عزَّ اسمه يصل إلينا في كل ساعة ونفس في صورة النفس والصحة والسماعة والرؤية وقوة البطش والمشي وغير ذلك من الأيادى المتوالية في كل ساعة، فقد صدق عزَّ اسمه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ولا مراء في أن عد منافع نعمة واحدة أيضًا من نعمه تعالى خارج عن الطاقة البشرية فكان حق ذلك أن نقوم في الطاعة في كل ساعة من ليل ونهار.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 185).
لكن أرحم الراحمين لما رأى عجزنا واحتياجنا إلى المنام والمعاش وغير ذلك من الحوائج مَنَّ علينا بتقسم الملوين فجعل من كل واحد منهما نصفًا لحق العبادة، ونصفًا لنا لحوائجنا، فإن الحوائج تختلف فإن بعضها يختص بالليل، وبعضها يختص بالنهار، ولذا لم يوجب في النصف من كل منهما صلاة وأوجب في النصف الآخر من كل منهما صلوات، وكان حق ذلك أن يصرف هذا النصف بتمامه في الصلوات.
ولذا قال أهل الأصول: إن العظيمة في كل صلاة أن يؤدى في تمام الوقت، فكان ينبغي أن يؤدى كل صلاة من أول وقته إلى آخر وقته لكن أرحم الراحمين منَّ علينا مرة أخرى إذ قبل من جميع الأوقات عدة ركعات تؤدى في وقت يسير، إلا أن الطبائع لمَّا كانت على أحوال مختلفة فبعضها متقاصرة متكاسلة في أداء ما يطلب منهم، وبعضها مستعدة مجتهدة يعدون صرف جميع أوقاتها في أداء ما أرضى مالكهم غاية سعادتهم ومنتهى مأمولهم، فرض الله عزَّ اسمه ركعات عديدة رعاية للأولين ومنًّا عليهم وشرع للآخرين النوافل المخصوصة في أوقاتهم الخاصة تكميلًا لما انتقص من أوقاته عز اسمه، فشرع بمقابلة الظهر الضحى، وبمقابلة العصر الإشراق، كما يومئ إليه حديث علي في "الشمائل"
(1)
إذ قال: "إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا عند العصر صلى ركعتين، وإذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من هنا عند الظهر صلى أربعًا" الحديث، وبمقابل العشائين التهجد في آخر الليل، ومن رحمته الواسعة أن الصحيفة إذا كانت في طرفيها عبادة يكفِّر بفضلها ما بينهما كما دلت عليه النصوص الكثيرة من الآيات والأحاديث، قال عزَّ اسمه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وفي "الدر" برواية أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن ربه تبارك وتعالى:
(1)
"الشمائل" للإمام الترمذي (رقم 281).
"اذكرني بعد العصر وبعد الفجر ساعة أكفك فيما بينهما"، "فضائل ذكر"، حتى ورد عن ابن عباس مرفوعًا:"افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله، ولقنوهم عند الموت: لا إله إلا الله، فإنه من كان أول كلامه لا إله إلا الله، وآخر كلامه لا إله إلا الله، ثم عاش ألف سنة لم يسأل عن ذنب واحد"، وذكر ابن الجوزي إياه في الموضوعات متعقب كما في رسالتي "فضائل الذكر عن اللآلي" وغيره.
قال ابن عابدين
(1)
في بيان كراهة السمر بعد العشاء: والمعنى فيه أن يكون ختام الصحيفة بالعبادة، كما جعل ابتدائها بها ليمحى ما بينهما من الزّلات، ولذا كره الكلام قبل صلاة الفجر، وتمامه في "الإمداد"، انتهى.
ولذلك ندب عندي التعجيل في الظهر والتأخير في العصر ليكونا في طرفي الوقت الذي هو حقه تعالى، وأيضًا منتظر الصلاة يكون في حكم الصلاة فلانتظار الصلاة الأخرى يعد مصليًا في سائر وقته عزَّ اسمه، ولأجل ذلك ندب عندي تعجيل المغرب وتأخير العشاء ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخره إلى شطر الليل ليحصى جميع وقته تعالى، ومن ههنا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"اعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم"، فإن ظاهر كونها صلاة لنا أن نبادر بها تنويهًا بشأنها ونأتي بها في أول أوقاتها اهتمامًا بها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل كونها صلاة لنا علة لتأخيرها، فهذا لا يستقيم إلا بالنظر الدقيق على ما قلنا من أن الأصل فيها كان أداؤها في آخر وقتها لتقع في آخر النصف من حقه عزَّ اسمه.
فمقتضى الاهتمام بها أن تؤدى في أصل وقتها وهو آخر الوقت المباح، ولهذه الوجوه العديدة قلت: أولا: أن هذه الحكمة أولى عندي من الأقوال الأخر التي ذكرت في ذلك؛ لأنه يظهر من ذلك معنى الروايات الأخر ويطابقه الأصول، ويظهر منه وجه تعجيل الظهر والمغرب وتأخير
(1)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 27).
العصر والعشاء وغير ذلك من المعاني اللطيفة التي تظهر عند التأمل في الروايات، انتهى من هامش "اللامع"
(1)
.
قوله: (إن جبريل عليه السلام نزل فصلى. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: بيَّنه مالك في "موطئه" بتفصيل الأوقات والصلوات، وأورده ههنا مختصرًا، انتهى.
وفي هامشه قوله: "بيَّنه مالك" هذه سبقة قلم ليس ذلك في رواية مالك أصلًا، نعم ذكر التفصيل أبو داود، انتهى.
فلا يرد أنه ليس في الحديث إلا ذكر الصلوات العديدة لا بيان المواقيت.
وقال العيني
(3)
: مناسبة الحديث بأنه علم منه أن الصلاة لها أوقات إذ صلاها خمسًا، انتهى.
(2 -
باب قول الله عز وجل: {مُنِيبِينَ. . .} إلخ)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قصد بذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر ترك الصلاة بلفظ الإشراك حيث قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31]، فكان تركها إشراكًا أو فعل المشركين، ودلالة الرواية على هذا المعنى من حيث إنه جعل الصلاة جزء الإيمان وانتفاء الجزء هو انتفاء الكل من حيث كونه كلًّا.
والجواب عنه ما مر من أنه جزء للكامل من الإيمان لا مطلقه والإشراك في الآية إتيان أفعال المشركين، أو هو شرك دون شرك، انتهى.
وبنحو ذلك قال السندي
(5)
. وفي هامش "اللامع" في هذه الترجمة
(1)
"لامع الدراري"(3/ 1 - 4).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 4).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 4).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 7).
(5)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 101).
عدة أبحاث، الأول في غرض الترجمة، والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى روايات وردت في كفر تارك الصلاة كما في "مسلم" وغيره
(1)
: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" وغير ذلك من الروايات، وهذا هو الأصل الحادي والأربعون من أصول التراجم، وهو أصل مطرد كثير الوقوع في "البخاري".
وقال الحافظ
(2)
: وهذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة لما يقتضيه مفهومها، انتهى.
والثاني: مناسبة هذا الباب بالكتاب، فإن كان الكتاب "كتاب مواقيت الصلاة وفضلها" كما اخترته فالمناسبة بالجزء الثاني من الترجمة واضحة، وإن كان الكتاب "كتاب المواقيت" فقط، فتوجيه المناسبة أن الوارد في الباب:" {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} "، وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها كما في "الدر"، وأما على توجيه شيخ المشايخ فذكر هذا الباب وأمثاله استطراد.
والثالث: مناسبة الحديث بالترجمة، وفيها كلام الشيخ قُدِّس سرُّه أوضح وأجود.
وقال الحافظ
(3)
: ومناسبة الحديث أن في الترجمة اقتران نفي الشرك بإقامة الصلاة، وفي الحديث إثبات التوحيد بإقامتها، انتهى ملخصًا.
(3 -
باب البيعة على إقامة الصلاة)
مناسبتها بفضلها ظاهرة، وأما بالوقت فباعتبار أن الوقت داخل في الإقامة كما تقدم في قول قتادة.
(1)
"صحيح مسلم"(ح: 82).
(2)
"فتح الباري"(2/ 7).
(3)
المصدر السابق (2/ 7).
(4 -
باب الصلاة كفارة)
مناسبة الحديث بالباب ظاهرة، وأما بالكتاب فبفضلها أيضًا ظاهرة، وأما بالمواقيت فيحتمل أن يقال: إنه إشارة إلى أن كونها مكفِّرة مقيَّد بإقامتها في أوقاتها كما يشير إليه الحديث الثاني، لكن يشكل عليه أن هذا المعنى سيأتي قريبًا في ترجمة مستقلة "باب الصلوات الخمس كفارة للخطايا إذا صلَّاهن لوقتهن. . ." إلخ، اللَّهم إلا أن يقال: إن الغرض فيما سيأتي عدم التقيد بالجماعة.
(5 -
باب فضل الصلاة لوقتها)
قال العيني
(1)
: كان الأصل أن يقال: فضل الصلاة في وقتها؛ لأن الوقت ظرف لها، ولذكره هكذا وجهان، الأول: حروف الجر يقام بعضها مقام البعض، والثماني: اللام ههنا مثل اللام في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أي: مستقبلات لعدتهن، انتهى.
وقال القسطلاني
(2)
: قوله: (باب فضل الصلاة لوقتها) أي: في وقتها أو على وقتها، انتهى.
قلت: ولا يبعد عندي أن الترجمة شارحة للحديث بأن "على" في الحديث بمعنى اللام إذ لفظ "على" يوهم تقدم الصلاة على وقتها، إذ الشيء على الشيء يكون خارجًا عنه.
(6 -
باب الصلوات الخمس. . .) إلخ
ههنا بحثان:
الأول: الفرق بين هذه الترجمة وبين ما سبق من باب الصلاة كفارة، قال الحافظ
(3)
: هي أخص من الترجمة السابقة لأن الأولى يتناول الخمس
(1)
"عمدة القاري"(4/ 18).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 203).
(3)
"فتح الباري"(2/ 11).
وغيرها، والأوجه عندي: أن قوله: "إذا صلاهن لوقتهن" ليس بفارق بين الترجمة؛ لأن هذا القيد وإن لم يذكر فيما سبق نصًا، لكنه ملحوظ معنى لذكره إياها في كتاب المواقيت وإلا لم يبق لذكره وجه ههنا، فالغرض عندي بهذه الترجمة أن الصلاة مكفرة سواء صليت بالجماعة أو بغيرها، وعلى هذا فالفرق واضح.
والبحث الثاني: أن تمثيله صلى الله عليه وسلم بالغسل في النهر ظاهره غسل جميع الخطايا سواء كانت صغيرة أو كبيرة، واتفقوا على أن أمثال هذه الأحاديث مقيَّدة بالصغائر للنصوص الأخر من القرآن والأحاديث خلافًا للمرجئة فعندهم أفعال الخير مكفرة للصغائر والكبائر.
وأجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"
(1)
الكلام عليه، وحاصله: أن مراتب الغسل متفاوته جدًا، فمن غاسل ليس له غير سقوط الفرض لو جنبًا، وغير البرد لو طاهرًا، أو من غاسل يهتم باغتساله بالصابون وغيره، وآخر منهم يدخل الحمام فلا يخرج منه في أقل من نصف يوم؛ أفتراهم تساووا في تحصيل النظافة لا والله، انتهى.
يعني: فكذلك بالوضوء تحصل الدرجة الأولى، وبالصلاة معه الدرجة الثانية وبالتوبة الدرجة الثالثة، وأجاب عنه السندي
(2)
بجواب آخر وهو لطيف جدًا.
وحاصله: أن أثر الصغائر يكون على ظاهر البدن كما يدل عليه حديث خروج المعاصي عن أعضاء الوضوء وأثر الكبائر يكون على الباطن كما في حديث الآخر: "أن المؤمن إذا ارتكب معصية تحصل في قلبه نقطة سوداء" فكما أن الغسل يذهب بدرن الظاهر دون الباطن، فكذلك الصلاة تكفِّر، ويمكن عندي أن يجاب عنه ثالثًا أن الدرن ولو كان على ظاهر البدن
(1)
انظر: "الكوكب الدري"(3/ 459).
(2)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 102).
تتفاوت مراتبه جدًا؛ فإن الدرن لو كان بمثل التراب والحمأ وغير ذلك يزول بمجرد الغسل بداهة لكنه إن كان قارًا مثلًا لا يزول عن البدن أصلًا لا بمجرد الغسل ولا بالصابون حتى يلط عليه شيء آخر يزيله كالنفط، فالصغائر بمنزلة الأول والكبائر بمنزلة القار لا تزول إلا بمزيل خاص لذلك وهو التوبة والندم، انتهى من هامش "اللامع"
(1)
.
(7 -
باب في تضييع الصلاة عن وقتها)
لعله إشارة أنه داخل في وعيد قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59]، ولذا بكى أنس على الفرق بين فعلهم وفعل السلف، وتعلقه بفضل الصلاة ظاهر وبالمواقيت بأن التضييع هو التأخير عن الوقت، ولا يبعد أن يكون غرض المصنف بيان المراد بالإضاعة في الآية إذ اختلفوا في أن المراد بالتضييع التأخير عن وقت الجواز أو عن الوقت المستحب، وعلى هذا فالاستدلال يتوقف على فعل أمراء بني أمية، والمشهور أنهم يؤخرونها عن الوقت المستحب، ومال الحافظان ابن حجر والعيني وتبعهما القسطلاني أنهم يؤخرونها عن وقت الجواز، وبسط في هامش "اللامع" الكلام على حديث الباب.
(8 -
باب المصلي يناجي ربه)
قال الحافظ
(2)
: ومناجاة الرب جل جلاله أرفع درجات فينبغي المحافظة على الفرائض في وقتها بتحصيل هذه المنزلة، انتهى.
وبه تحصل المطابقة بالمواقيت والفضل معًا.
وقال الكرماني
(3)
: مناسبته بكتاب المواقيت أن أوقات الصلاة أوقات المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 10).
(2)
"فتح الباري"(2/ 14).
(3)
"شرح الكرماني"(4/ 185).
وقال القسطلاني: مناسبته بفضل الصلاة بأن المناجاة لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبرًا عما في القلب ولذا قالوا: الصلاة بالقلب اللاهي أقرب إلى العقوبة، انتهى.
(9 -
باب الإبراد بالظهر. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك الرد على الشافعي في استحبابه تعجيل الظهر مطلقًا، ثم لما كان الشافعي رحمه الله تعالى علل التعجيل بأنه الأصل، والتأخير حيث ورد فإنه لعارض الانتياب من بعد عقد للرد على ذلك بابًا على حدة، وهو التعجيل في السفر؛ فإن الناس في السفر جميع ولا انتياب، انتهى.
وفي هامشه: لا يبعد عندي أن الإمام البخاري مع الإشارة إلى ما أفاده الشيخ أشار أيضًا إلى رد قيود قيد بها بعض العلماء أحاديث الإبراد إذ لم يقيد ترجمته بشيء من ذلك القيود، فقد قال القسطلاني
(2)
: قوله: "أبردوا بالصلاة" أي: أخروا صلاة الظهر عند شدة الحر، وعند إرادة صلاتها بمسجد الجماعة حيث لا ظل لمنهاجه في بلد حار لا في بلد معتدل، ولا لمن يصلى في بيته منفردًا، ولا لجماعة مسجد لا يأتيهم غيرهم إلى آخر ما قال، فإطلاق الترجمة يرد على هذه القيود كلها، ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري قدمه على أول وقت الظهر.
قال العيني
(3)
: إنما قدّمه للاهتمام به.
وقال الحافظ
(4)
: قدَّمه؛ لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر، أو أشار إلى حديث جابر قال: كان بلال رضي الله عنه يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس، أي: مالت، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(2/ 15).
(2)
انظر: "إرشاد الساري"(2/ 212).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 27).
(4)
"فتح الباري"(2/ 15).
وأنت خبير بأن هذا أبعد من قول العيني، لأن الإمام يترجم بأول وقت الظهر قريبًا نصًا فأي فاقة إلى الإشارات.
والأوجه عندي: أن تقديمه للإشارة إلى الباب السابق فإن المصلي إذا كان يناجي ربه، فالأولى أن لا يناجيه في شدة الحر؛ لأن المناجاة في شدة الحر لا تورث لذةً وخشوعًا، وتقدم قريبًا "باب الصلاة في موضع العذاب" فكما لا ينبغي الصلاة في موضع العذاب أجدر أن لا ينبغي في وقت يظهر فيه أثر العذاب؛ لأن شدة الحر من فيح جهنم إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(1)
.
(10 -
باب الإبراد بالظهر في السفر)
تقدم في الباب السابق من كلام الشيخ ما يتعلق بهذه الترجمة وهو أن الإبراد ليس لأجل صعوبة الناس في الاجتماع؛ لأنه لو كان كذلك لا يندب في السفر لحصول الاجتماع فيه من قبل، وقال بعض الطلبة في الدرس: إن غرض المصنف كما يظهر من دأبه إبطال استدلال الحنفية بحديث الباب على المثلين غير صحيح؛ لأنه كان في السفر، وفي السفر لما يجوز جمع التأخير فالتأخير إلى فيئ التلول أولى بالجواز، فتأمل فإنه محتمل، فإن الاستدلال بكل المحتمل مطرود عند البخاري.
(11 -
باب وقت الظهر عند الزوال)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أورد المؤلف من الظهر أول وقتها، ومن العصر آخر وقتها، ولم يبيِّن أول وقت العصر ولا آخر وقت الظهر، والظاهر أنه لم يثبت له شيء من روايات المثل أو المثلين على حسب شرطه، ولا يبعد أن يكون ذلك إشارة منه إلى ما ذهب إليه المحدثون
(1)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 15، 16).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 21).
والشافعي رحمهم الله تعالى من جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وذلك لأنه بيَّن أولًا {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ولا وجه للتوقيت بعد جواز الجمع بينهما إلا بأن يجعل الوقت مشتركًا بينهما، فكان الوقت من الزوال إلى المغرب، كما هو للظهر فكذلك للعصر، انتهى.
بسط الكلام عليه في هامش "اللامع" أشد البسط، وفيه قال الحافظ
(1)
: أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم من الكوفيين أن الصلاة لا تجب بأول الوقت، انتهى.
قلت: ما قال الحافظ أن ترجمة الإمام إشارة إلى هذه المسألة بعيد جدًا، ولا أدري كيف كتبه الحافظ مع جلالة قدره، ولا تعلق للترجمة ولا لشيء مما أورد في الترجمة بتلك المسألة إشارة ولا دلالة، والظاهر أنه أشار بالترجمة إلى رد الطائفتين الأخريين:
إحداهما: من جوَّز صلاة الظهر قبل الزوال كما هو منقول عن بعض السلف من الصحابة، وعن أحمد وإسحاق مثله في صلاة الجمعة.
والطائفة الثانية: من قال: إن أول وقت الظهر إذا صار الفيء قدر الشراك بعد الزوال، والجمهور على الزوال إلى آخر ما في "الهامش"، ويحتمل أن الغرض أن الصلاة في الإبراد مندوب، وأصل الوقت يحصل بالزوال، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد العباد.
(12 -
باب تأخير الظهر إلى العصر)
اختلفوا في غرض الإمام بالترجمة.
قال الحافظ
(2)
: أشار البخاري إلى إثبات القول باشتراك الوقتين، وإلى انتفاء الفاصلة بين الوقتين، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 21).
(2)
"فتح الباري"(2/ 23).
الأول مذهب المالكية، والقول بالفاصلة مذهب داود وبعض الشافعية.
قلت: ما قال الحافظ في غرض الترجمة الجزء الثاني منه صحيح، والأول مشكل، ولذا أشار إلى رده العيني
(1)
إذ قال: والمراد أنه لما فرغ من صلاة الظهر دخل وقت صلاة العصر، وليس المراد أنه جمع بينهما في وقت واحد، انتهى.
والأوجه عندي: أنه أشار إلى رد كليهما من الاشتراك والفاصلة، وقال السندي
(2)
: لا يخفى أنه لا دلالة في لفظ الحديث على التأخير لجواز أن ما فعله يكون من باب التقديم، فكأنه أشار بهذه الترجمة إلى توجيه الحديث بأنه لا يحمل على الجمع بين الصلاتين في الوقت حتى يقال: يمكن أن يكون من باب التقديم أو من باب التأخير بل يحمل على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها وضمها إلى الثانية فعلًا، وهذا التأويل في الحديث هو الذي اعتمده كثير من المحققين، وهو أقرب ما قيل فيه، انتهى.
وهو الذي اختاره شيخ المشايخ في "التراجم"
(3)
.
(13 -
باب وقت العصر)
تقدم في الباب السابق أن أول وقته آخر وقت الظهر.
قال الحافظ
(4)
: لما لم يكن حديث أول وقت العصر بالمثل على شرطه ذكر ما يستنبط منه ذلك بطريق الاستنباط، انتهى.
واختلفوا في أن حديث عائشة دليل لتعجيل العصر أو لتأخيره، قال
(1)
"عمدة القاري"(4/ 42).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 104).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 186).
(4)
"فتح الباري"(2/ 26).
الطحاوي
(1)
: لا دلالة فيه على التعجيل لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار فلم تكن تحتجب عنها إلا بقرب غروبها، فيدل على التأخير لا على التعجيل، وأورد عليه بأن هذا يتصور مع اتساع العرصة، وقد عرف أنها لم تكن متسعة، ورد بأن الإيراد يمكن أن يتوجه لو كانت الجدر طويلة، وقد ثبت أنها كانت صغيرة جدًا، وهذا كله أن حمل الضوء على ما يأتي من رؤوس الجدر، ولو أريد به الضوء الداخل من باب الحجرة، فإن بابه كان غربيًا يدخل منه ضوء الشمس، وكلما يكون أقرب إلى الغروب يكثر الضوء فيه، ولا يخرج منه إلا قريب الغروب، كما هو ظاهر، فحينئذ لا يدل الحديث إلا على غاية التأخير.
وقد بسط في هامش "اللامع" الكلام على اتساع العرصات؛ لأن الحجرات كانت كلها جنب المسجد، وأبوابها كانت مفتوحة إلى المسجد، وأكثرها كانت جهة الشرق من المسجد، ومساحة المسجد كانت سبعين ذراعًا، فلا بد أن يكون اتساع الحجرات شرقًا وغربًا وإلا فلا يمكن بناء عدة الحجرات في جهة الشرق فضلًا عن أكثرها، انتهى.
(14 -
باب إثم من فاتته العصر)
ههنا عدة أبحاث، الأول: أن الإمام ترجم بترجمتين، الأولى: هذه، والثانية إثم من ترك العصر، وأورد عليه بالتكرار.
ومؤدى ما قال الحافظان
(2)
ابن حجر والعيني: إن المراد بالفوات تأخيرها عن وقت الجواز بغير عذر، وهذا لا يكفي لدفع إيراد التكرار؛ لأن الثانية أصرح في العمد، وقال شيخ الإسلام: الفرق بينهما أن الترك نص في العمد دون الفوات، ويحتمل أن الإمام فرق في العنوان والتعبير فقط، دون المراد رعاية لألفاظ الروايتين.
(1)
"شرح معاني الآثار"(1/ 193، 1151).
(2)
انظر: "فتح الباري"(2/ 30)، و"عمدة القاري"(4/ 53).
والأوجه عندي: أن المراد في الترجمة الأولى الفوات بدون العمد للتقابل بالترجمة الثانية، وهو الذي أراد الإمام الترمذي إذ ترجم على الحديث الأول:"باب ما جاء في السهو عن وقت صلاة العصر"، وإلى ما اخترته مال السندي
(1)
إذ قال: المتبادر من الفوات أن لا يكون باختيار من العبد، فعلى هذا قوله:"فكأنما وتر أهله وماله" إشارة إلى ما فاته من الخير، وهو المناسب بجعل المصنف الفوت في مقابلة الترك لكن على هذا يشكل إضافة الإثم على فوات إلا أن يراد بالإثم ما يلحقه من الضرر ولو بفوات الفصل، انتهى.
أو يقال: إن لفظ الإثم مجاز عن الأسف وغيره بلفظ الإثم إشارة إلى أن هذا الأسف يكون في الآخرة.
والبحث الثاني: في معنى الفوات، واختلفوا فيه على أقوال من التأخير أو ترك الجماعة أو الترك نسيانًا وغير ذلك بسطت في هامش "اللامع".
والثالث: في تخصيص العصر بذلك، قال الحافظ
(2)
: ظاهر الحديث التغليظ على من تفوته العصر، وأن ذلك مختص بها، وذكر العيني
(3)
وجوه تخصيص العصر، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون الحديث خرج جوابًا لسائل عن صلاة العصر، فلا يمنع ذلك إلحاق غيرها من الصلوات.
والبحث الرابع: في إعراب لفظ: "أهله وماله" في الحديث الأول.
والبحث الخامس: احتجاج الخوارج من الحديث الثاني كما بسط في هامش "اللامع"
(4)
.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 105).
(2)
"فتح الباري"(2/ 30).
(3)
انظر: "عمدة القاري"(2/ 54)،
(4)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 35 - 40).
(15 -
باب إثم من ترك العصر)
تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
(16 -
باب فضل صلاة العصر)
قال الحافظ
(1)
: أي: على جميع الصلوات إلا الصبح، كما يظهر من حديثي الباب، ويحتمل أن المراد أن العصر ذات فضيلة لا ذات أفضلية.
وتعقبه العيني
(2)
وقال: لو قال: باب فضل صلاة الفجر والعصر لكان أولى، وإنما خصص العصر للاكتفاء؛ كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي: والبرد أيضًا، انتهى.
قلت: لكن فضل الفجر سيأتي قريبًا، فالأوجه عندي أنه أراد الإشارة إلى خلافية شهيرة وهي أن الوعيد المذكور في البابين السابقين مخصوص بالعصر، أو خرج مخرج السؤال كما تقدم، فأشار بهذا الباب إلى القول الأول من التخصيص.
(17 -
باب من أدرك ركعة من العصر)
يشكل على الإمام البخاري أنه ترجم بإدراك الركعة، وذكر الحديث بإدراك السجدة.
قال الحافظ
(3)
: كأنه أراد تفسير الحديث، وأن المراد بالسجدة الركعة، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار إلى مسألة خلافية وهي ما قال الموفق: إن مدرك الركعة في آخر الوقت مدرك للصلاة، وهل يدركها بإدراك ما دون الركعة؟ فيه روايتان:
(1)
"فتح الباري"(2/ 33).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 57).
(3)
"فتح الباري"(2/ 38).
إحداهما: لا يدركها بأقل من ذلك، وهو مذهب مالك.
والثانية: يدركها بإدراك جزء منها أيّ جزء كان، وهو مذهب أبي حنيفة، وللشافعي قولان كالمذهبين، انتهى.
فالظاهر عندي: أن الإمام البخاري أشار بذكر هذه الرواية في هذا الباب إلى أن ما ورد في الروايات من لفظ الركعة ليس باحتراز، ثم مطابقة حديثي التمثيل بالباب بأن مدرك آخر الجزء كمدرك الكل، ولذا أتم لهم الأجور، فكذلك مدرك الركعة الأخيرة، بسطه في "فيض الباري"
(1)
.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: المناسبة بالترجمة من حيث إن الاستئجار شامل للوقت إلى الغروب، فمن أتى قبيل الغروب بحيث يمكن له أن يعد اسمه في العاملين كان داخلًا فيهم، وذلك لأن العادة في المستأجرين لا سيما في الكرماء أن ينظروا إلى العَمَلة وقت فراغهم من العمل، فمن وجد منهم ثمة إذًا وجب أجر عمله وإن كان قد أتى بعد الآخرين بكثير، والله تعالى أعلم، انتهى. وبسط الكلام عليه في "هامشه".
(18 -
باب وقت المغرب)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
تحت قوله في الترجمة: قال عطاء. . . إلخ، مناسبة التعليق بترجمة باعتبار أنه يدل على أن آخر وقت المغرب متصل بأول وقت العشاء؛ لأن الجمع في الحضر محمول عند المؤلف على الجمع في الصورة ولو كان بعذر المرض، انتهى.
وبه جزم الحافظ
(4)
إذ قال: أشار بهذا الأثر إلى أن وقت المغرب يمتد إلى العشاء، انتهى.
(1)
انظر: "فيض الباري"(2/ 118).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 45).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 189).
(4)
"فتح الباري"(2/ 41).
قلت: فعلى هذا يكون ردًا على من قال بعدم امتداد وقت المغرب، كما هو مشهور مذهب الشافعي ومالك، ففي "الأوجز"
(1)
: وأول المغرب مجمع على أنه من الغروب وآخره عند أئمتنا الثلاثة وبه قالت الحنابلة إلى غروب الشفق، وهو أحد قولي الشافعي ومالك وقالا في قولهما الثاني: لا وقت له إلا وقت واحد وهو أن يتطهر، ويصلي ثلاث ركعات، انتهى.
قوله: (كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، اختلط كلام الشرَّاح في شرحه وما ظهر لي من كلامهم أن فيه احتمالات، منها ما قال الكرماني
(2)
: شك من الراوي، أي: قال: كانوا يصلونها بغلس أو كان يصليها بغلس، وهما متلازمان فإنه عليه الصلاة والسلام كان معهم وهم كانوا معه، ورجح الحافظان ابن حجر والعيني هذا المعنى، ومنها ما قال ابن بطال: إن فيه حذفين، أحدهما: خبر كانوا، وثانيهما: الجملة بأسرها بعده، أي: كانوا مجتمعين أو لم يكونوا مجتمعين كان عليه السلام يصليها بغلس.
ومنها ما قال ابن التين: إن كان تامة بمعنى حضر، وفيه حذف واحد بعد أو، أي: حضروا أو لم يحضروا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس.
ومنها ما قال ابن المنيِّر: الصبح يصليها بغلس كانوا مجتمعين أو كان عليه السلام وحده، فحذف مجتمعين من الأول، ووحده من الثاني.
(19 -
باب من كره أن يقال للمغرب: العشاء)
قال الحافظ
(3)
: لم يجزم به على دأبه؛ لأن الحديث عنده لا يدل على المنع مطلقًا بل يدل على منع الغلبة، وعلة النهي أن العشاء لغة أول ظلام الليل، ومبدؤه من غروب الشفق، فيوهم أن وقت المغرب من غروب الشفق، وأيضًا فيه الالتباس من صلاة العشاء، وأيضًا لفظ صلاة المغرب لفظ شرعي نبوي والعشاء أعرابي، انتهى ملخصًا.
(1)
"أوجز المسالك"(1/ 259).
(2)
انظر: "شرح الكرماني"(4/ 205).
(3)
"فتح الباري"(2/ 43).
قلت: وأيضًا في إطلاق لفظ العشاء على المغرب محظور شرعي قوي وهو التباس الأحكام؛ فإن الأحكام التي وردت في النصوص للعشاء يوهم إجراءها في المغرب للالتباس في الاسم، بخلاف إطلاق العتمة على العشاء كما سيأتي في الباب الآتي، إذ ليس لفظ العتمة اسم لصلاة أخرى غير العشاء، فلا التباس فيه.
(20 -
باب ذكر العشاء والعتمة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك أن النهي تنزيه، وإلا فقد ثبت جواز إطلاق اللفظين معًا في الأخبار والآثار، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(2)
: غاير المصنف بين هذه الترجمة والتي قبلها مع أن سياق الحديثين الواردين فيهما واحد، وهو النهي عن غلبة الأعراب على التسميتين، وذلك لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إطلاق اسم العشاء على المغرب، وثبت عنه إطلاق اسم العتمة على العشاء، فتصرفه في الترجمتين بحسب ذلك، انتهى.
قلت: وأيضًا إطلاق العتمة على العشاء ليس بمحظور شرعي كما تقدم.
قوله: (ويذكر عن أبي موسى) فيه دليل على أن ذكر المصنف بصيغة التمريض لا يكون للضعف فقط، بل لوجوه فإنه سيخرج المصنف حديث أبي موسى هذا قريبًا في "باب فضل العشاء" وقد تقدم في مقدمة "اللامع" في خصائص الكتاب البسط في ذلك.
(21 -
باب وقت العشاء. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: ردّ على من قال: يسمى بالعشاء إذا عجلت، وبالعتمة إذا أخرت، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 50).
(2)
"فتح الباري"(2/ 45).
(3)
المصدر السابق (2/ 47).
وأنكره العيني
(1)
بأن الترجمة لا تدل على ذلك، وقال: بل الغرض بيان الوقت المستحب في الاجتماع وغيره، وبه جزم السندي
(2)
إذ قال: قوله: "باب وقت العشاء. . ." إلخ، أي: بيان المختار من وقت العشاء، ويفهم من الحديث أن المختار عند اجتماعهم أول الوقت هو أول الوقت، وعند تأخرهم المختار آخر الوقت وأوسطه بل وقت اجتماعهم، فوافق الترجمة الحديث، واندفع أنه لا يفهم من الحديث وقت العشاء أصلًا، انتهى.
(22 -
باب فضل العشاء)
قال الحافظ
(3)
: لم أر من تكلم على هذه الترجمة، فإنه ليس في الحديثين ما يقتضي اختصاص العشاء بفضيلة ظاهرة، وكأنه مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:"ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم" فعلى هذا في الترجمة حذف، أي:"باب فضل انتظار العشاء"، انتهى.
قلت: عندي فضل انتظار العشاء هو فضل العشاء، وتعقب العيني
(4)
كلام الحافظ إذ قال: إن كلامه آل أن الفضل لانتظار العشاء لا للعشاء، فنقول: مطابقته للترجمة من حيث إن العشاء عبادة قد اختصت بالانتظار لها من بين الصلوات، وبهذا ظهر فضلها، انتهى.
وقال السندي
(5)
: الفضل هو ما ورد في الحديثين من مدح أهل العشاء والثناء عليهم وتبشيرهم عند انتظارهم، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(6)
تحت قوله: "ما ينتظرها أحد من أهل
(1)
انظر: "عمدة القاري"(4/ 87).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 107).
(3)
"فتح الباري"(2/ 47، 48).
(4)
"عمدة القاري"(4/ 89).
(5)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 107).
(6)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 191).
الأرض. . ." إلخ، الظاهر أن مراده عليه السلام أن الصلاة في هذا الوقت مخصوص بهذه الأمة، ويحتمل أن يكون معناه أنكم مخصوصون بهذا الانتظار؛ لأنه كان في أول الإسلام، ولم يكن يصلي الصلاة إلا في مواضع عديدة، والأنسب بترجمة الباب هو الأول، انتهى.
قلت: وعلى ما أفاده شيخ المشايخ من الاحتمال الأول لا تكرار لهذا الباب بما سيأتي من "باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة".
قوله: (قبل أن يفشوا الإسلام) فيه دليل على أن هذه القصة غير الآتية في حديث أبي موسى الآتي فإنه كان في آخر الإسلام حين قدم من الحبشة في السنة السابعة، انتهى من "الفيض"
(1)
.
ثم قال في "باب النوم قبل العشاء" في حديث ابن عباس: إن هذه الواقعة متأخرة جدًا؛ فإن ابن عباس جاء في السنة الثامنة إلى آخر ما قال.
(23 -
باب ما يكره من النوم. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: قال الترمذي: كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء، ورخَّص بعضهم فيه في رمضان خاصة.
قال الحافظ: فلعله رد على من خصه برمضان، انتهى.
(24 -
باب الثوم قبل العشاء لمن غلب)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني: أن النهي لمن لم يغلب عليه النوم، ومن غلب عليه فله رخصة في النوم، ثم إن غير المغلوب إنما يكره النوم له إذا خاف فوات الجماعة بالنوم وإلا فلا يكره له أيضًا، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: في الترجمة إشارة إلى أن الكراهة مختصة بمن تعاطى
(1)
انظر: "فيض الباري"(2/ 131، 132).
(2)
"فتح الباري"(2/ 49).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 51).
(4)
"فتح الباري"(2/ 49).
في ذلك مختارًا، وقيل: ذلك مستفاد من ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من رقد، ولو قيل بالفرق بين من غلبه النوم في مثل هذه الحالة وبين من غلبه وهو في منزله مثلًا لكان متجهًا، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بالترجمتين إلى الجمع بين مختلف ما روي في النوم قبل العشاء والنهي عنه، وجمع بينهما بوجوه، منها: ما أشار إليه الإمام البخاري، ومنها: ما قال الحافظ ناقلًا عن الترمذي من الرخصة في رمضان خاصة كما تقدم، ومنها: ما قال الحافظ: ومن نقلت عنه الرخصة قيدت عنه بما إذا كان من يوقظه أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم، وهذا جيد، ومنها: ما قال الطحاوي: الرخصة على ما قيل دخول وقت العشاء، والكراهة على ما بعد دخوله، انتهى من هامش "اللامع".
(25 -
باب وقت العشاء إلى نصف الليل)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك وقتها المستحب، ثم اختلاف الروايتين بالنصف والثلث مبني على اختلاف التخمين وتقريب الأمر، أو على اختلاف إرادة الشروع والفراغ، انتهى.
وبهذا جزم الشرَّاح من أن المراد الوقت المختار، وأما وقت الجواز فهو إلى الصبح، وقال الإصطخري من الشافعية: وقت الجواز إلى نصف الليل وبعده قضاء لا أداء.
فالأوجه عندي: أن مسلك الإمام البخاري هو مسلك الإصطخري، وهو قول للشافعي ومالك كما في "الأوجز"
(2)
، ويدل عليه ظاهر الترجمة كما جزم به الكرماني
(3)
إذ قال: إن ظاهرها مشعر لذلك، ولذلك لم يأت بشيء من الأثر، والحديث يدل على الامتداد إلى طلوع الفجر.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 54).
(2)
"أوجز المسالك"(1/ 289).
(3)
"شرح الكرماني"(4/ 214).
وقال الحافظ
(1)
: لم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثًا صريحًا يثبت، انتهى.
وعلى هذا فلا حاجة عندي لتوجيه الترجمة، ولو سلم صرفها إلى مذهب الجمهور فيمكن توجيهها بما يستنبط من كلام العلامة السندي
(2)
وهو أن الغاية في الترجمة داخلة في المغيا، وكأنه أثبت بالترجمة جوازها إلى ما بعد النصف، وثبت ذلك في حديث الباب بلفظ:"أخر العشاء إلى نصف الليل ثم صلى"، فلفظ:"ثم" صريح في الأداء بعد النصف، فإذا ثبت الأداء بعد النصف امتد إلى طلوع الفجر لعدم القائل بالفصل، فإن المذاهب في آخر وقت العشاء ثلاثة: إلى الثلث وإلى النصف وإلى طلوع الفجر، كما في "الأوجز"، وترجم بلفظ:"إلى نصف الليل" رعاية للفظ الحديث الوارد فيه، فتأمل؛ فإنه لطيف، انتهى من هامش "اللامع".
(26 -
باب فضل صلاة الفجر والحديث)
هذه الترجمة من التراجم المشكلة، وهي عديدة في البخاري تقدم بعضها، منها:"باب من بدأ بالحلاب والطيب" ويأتي البعض الآخر، وفي هذا الباب يشكل لفظ "الحديث"، ولا يظهر له وجه وجيه، وليس هذا اللفظ في نسخة الكرماني فقال: وفي بعضها: "باب صلاة الفجر والحديث"، ولم تظهر مناسبة لفظ "الحديث"، وقد يقال: الغرض منه باب كذا وباب الحديث الوارد في فضل صلاة الفجر، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: ولا يخفى بعده، فالظاهر أنه وهم، يدل عليه أنه ترجم لحديث جرير أيضًا "باب فضل صلاة العصر" بغير زيادة، ويحتمل أنه كان فيه "باب فضل صلاة الفجر والعصر"، فتحرفت الكلمة الأخيرة، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 52).
(2)
انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 109).
(3)
"فتح الباري"(2/ 53).
وتعقب عليه العيني
(1)
وقال: كلام الكرماني أوجه من ادعاء الوهم، واحتمال التحريك بعيد جدًا، فإن قلت: ما وجه خصوصية هذا الباب بهذه اللفظة دون سائر الأبواب التي يذكر فيها فضائل الأعمال؟
قلت: يحتمل أن يكون وجه ذلك أن صلاة الفجر إنما هي عقيب النوم، والنوم أخو الموت، فينبغي أن يجتهد المستيقظ على أداء صلاة الفجر شكرًا لله تعالى على حياته، انتهى.
وفي حاشية الهندية
(2)
عن "الخير الجاري": أقرب الوجوه أن يقال: أراد البخاري بيان أن فضل صلاة الفجر معلوم من حديث مشهور ولو عند البعض ذكره لمزيد الاهتمام بشأنه، انتهى.
وما أورده الشيخ في "اللامع""باب فضل صلاة الفجر وباب الحديث" فيه كرره إشارة إلى عظم منقبة الحديث الوارد في هذا الباب، انتهى.
هذا أقرب الوجوه المذكورة عندي، والمعنى بيان فضل هذا الحديث الوارد في الباب لما فيه من بشارة الرؤية يوم القيامة، وفي تقرير المكي قال قُدِّس سرُّه: الأقرب عندي أن الحديث عطف على الفضل، والمراد به كلام الناس يعني باب الكلام في هذا الوقت، أي: بعد الفجر هل يكره أم لا؟ فثبت بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية [الحجر: 98] أنه يكره؛ لأن ذلك الوقت وقت تسبيح، وقد ورد في الكراهة الأحاديث، انتهى.
وفي "فيض الباري"
(3)
: هذا من عادات المصنف أن الحديث إذا اشتمل على فائدة، ويريد أن ينبّه عليها فيذكرها في الترجمة وإن لم يناسب سلسلة التراجم وأسميه إنجازًا، فقوله: والحديث، أي: الحديث بعد العشاء وإن لم يناسب ذكره ههنا؛ لأنه عقد الترجمة لفضل صلاة الفجر، ولا مناسبة بينه وبين الحديث بعد العشاء إلا أنه لما كان مذكورًا في الحديث ذكره إنجازًا، وقد اضطرب في توجيهه الشارحون ولم يأتوا بشيء، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 99).
(2)
(1/ 152).
(3)
"فيض الباري"(2/ 132).
قلت: وقد سنح في خاطري هذا التوجيه منذ زمان، وقد تتبعت لذلك طرق أحاديث جرير في سالف الزمان، ولم أجد فيها تصريحًا بكون هذا الكلام بعد العشاء، فلو ثبت فهذا أقرب التوجيهات، وإلا فيمكن أن يقال: إن من دأب البخاري الاستدلال بكل المحتمل على أن كونه بعد العشاء أقرب لشدة ضوء البدر إذ ذاك وهو كان ملحوظًا في التشبيه، انتهى من هامش "اللامع".
(27 -
باب وقت الفجر)
الظاهر أن الغرض منه بيان أول الوقت، ومن الباب الآتي بعده آخر وقته.
وحاصل ما قال الحافظ
(1)
في الحديث الأول: إنه إذا لم يكن بين الفراغ عن السحور وبين الصلاة إلا قدر قراءة خمسين آية علم منه أن أول وقته طلوع الفجر.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "قدر خمسين. . ." إلخ، فيه دلالة على تغليس النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وهو المراد في الباب من بيان الوقت، أو المراد في الباب أعم من وقته الشرعي ومن الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، انتهى.
(28 -
باب من أدرك من الفجر ركعة)
غرضه بيان آخر وقت الفجر كما تقدم في الباب السابق.
(29 -
باب من أدرك من الصلاة ركعة)
غرض الترجمة ظاهر من أن لفظ الفجر والعصر في الروايات ليس للحصر.
(1)
"فتح الباري"(2/ 55).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 61).
وقال الكرماني
(1)
: الفرق بين البابين أن الأول فيمن أدرك من الوقت ركعة، وهذا فيمن أدرك من نفسه الصلاة ركعة.
وقال الحافظ
(2)
: أشار المصنف في الترجمة إلى لفظ مستقل، وقد وضح لنا بالاستقراء أن جميع ما يقع في تراجم البخاري بلفظ الحديث لا يقع فيه شيء مغاير للفظ الحديث الذي يورده إلا وقد ورد من وجه آخر بذلك المغاير نصًا، فللَّه دره، انتهى.
(30 -
باب الصلاة بعد الفجر. . .) إلخ
بيان للأوقات المنهية، والأوجه عندي: أن المصنف نبَّه بلفظ: "ترتفع" في الترجمة، أنه هو المراد بالروايات الواردة بلفظ: تطلع الشمس وتشرق، فالترجمة شارحة.
(31 -
باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: كأن بعضهم لما ذهب إلى أن الحرام إنما هو التحري بصلاته للطلوع والغروب لا مطلق وقوع صلاته في هذين الوقتين نبَّه على حجتهم في ذلك، وقد بيَّن قبل ذلك حجة من ذهب إلى عموم النهي عن التحري والوقوع، انتهى. ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح، فإنهم اختلفوا في الصلاة في الأوقات المنهية على أقوال بسطت في "الأوجز"
(4)
.
ولا يذهب عليك أن الإمام البخاري فرَّق بين الترجمتين، إذ أطلق الترجمة الأولى، أي: الصلاة عند الطلوع، وقيَّد الثانية، أي: الصلاة عند الغروب بالتحري، ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح، ولا المشايخ سوى العلامة السندي مع أن الأحاديث الواردة في الترجمتين على نسق واحد
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 220).
(2)
"فتح الباري"(2/ 57).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 64).
(4)
"أوجز المسالك"(4/ 370).
من إطلاق النهي في الصلاتين معًا، وكذا التحري ورد فيهما معًا، فكيف غاير الإمام، وتنبه لذلك السندي
(1)
لكنه سعى باتحاد الترجمتين إذ قال: أما التحري فلعل المراد منه مطلق القصد إلى الوقتين لأجل إيقاع الصلاة فيهما بناء على أن الصلاة فعل اختياري، فمن يفعلها فيهما يقصدهما لأجلها فتوافقت الأحاديث على إطلاق النهي إلى أن قال: وعلى هذا فذكر التحري في أحد البابين دون الآخر إما لمجرد التفنن أو للدلالة على أن التحري لا دخل له في الخصوص، ويمكن أن يقال: ذكر التحري في العصر؛ لأن العصر ورد فيها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعدها بخلاف الفجر، لكن هذا لا يناسب بالأحاديث؛ فإنها في الباب سواء، انتهى.
وما يظهر لهذا المبتلى بالسيئات أن المصنف فرَّق بين الترجمتين عمدًا وقصدًا لدقة نظره وعموم اجتهاده؛ لأن الصبح لم يرد فيها على شرط البخاري ما يغاير النهي نصًا بخلاف النهي بعد العصر، فإنه صح عند البخاري فيه ما ينافي إطلاق النهي كما سيأتي قريبًا في "باب ما يصلي بعد العصر" فأطلق المؤلف في الصبح، وقيَّد النهي بعد العصر بالتحري جمعًا بين الروايات، وإشارة إلى أن الراجح عنده في الصبح مسلك الجمهور في إطلاق النهي، وترجح عنده في العصر مسلك بعض الظاهرية أن النهي مقيد بالتحري.
قال الحافظ
(2)
: لا تكره الصلاة بعد الصبح والعصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها، وإلى ذلك جنح بعض أهل الظاهر وقوَّاه ابن المنذر، انتهى.
ويرد على المؤلف إيراد روايات التحري في الباب الأول وإيراد روايات الإطلاق في الباب الثاني، والجواب عنه واضح، وهو أنه أشار
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 110).
(2)
"فتح الباري"(2/ 60).
بالترجمتين إلى أن روايات التحري في الصبح محمولة عنده على الإطلاق كما أن إطلاق الروايات في العصر عنده مقيد بالتحري، فتكون الترجمة شارحة كما هو أصل مطرد للبخاري، فتأمل، فإن خاطري أبو عذره، فإن كان صوابًا فمن الله، هان كان خطأ فمني ومن الشيطان، والإمام البخاري منه بريء، انتهى من هامش "اللامع".
(32 -
باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: وكأن هؤلاء لم يبلغهم رواية النهي عن الصلاة عند الاستواء، انتهى.
قال العيني
(2)
: غرض البخاري بهذا الباب ردّ قول من منع الصلاة عند الاستواء، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: به قال مالك مطلقًا، والشافعي في يوم الجمعة، انتهى.
وكذا حكى الحافظ عن مالك أنه لم يكره مع أنه روى حديث الصنابحي؛ لأنه لعله رأى عمل أهل المدينة على الإباحة عند الاستواء، انتهى.
(33 -
باب ما يصلَّى بعد العصر من الفوائت ونحوها. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: قال الزين بن المنيِّر: وأشار به إلى إدخال ما له سبب من النوافل، انتهى.
وأنكره العيني
(5)
وقال: بل المراد من ذلك دخول مثل صلاة الجنازة إذا حضرت في ذلك الوقت وسجدة التلاوة، والنهي الوارد في هذا الباب
(1)
"لامع الدراري"(3/ 69).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 116).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 192).
(4)
"فتح الباري"(2/ 64).
(5)
"عمدة القاري"(4/ 117).
عام يتناول النوافل التي لها سبب والتي ليس لها سبب، انتهى.
قلت: فكل من الشارحين فسَّر مراد البخاري على مسلكه، فإن عند الشافعية يجوز في الأوقات المنهية من النوافل ما كانت ذات سبب، ولا يجوز عند الحنفية كما بسط الاختلاف في ذلك في هامش "اللامع" و"الأوجز" وهامش "الكوكب".
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: غرضه من عقد هذا الباب الإشارة إلى توجيه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع الركعتين بعد العصر بأنه كان ذلك قضاء لراتبة الظهر، ومعنى قولها:"ما تركهما" ترك نسخ، بل كان عليه السلام إذا فاتته راتبة الظهر أو راتبة صلاة أخرى صلاها بعد العصر، لكن هذا التوجيه لا يمشي في آخر أحاديث الباب، انتهى.
قوله: (شغلني ناس. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: فيه دلالة على جواز القضاء في ذلك الوقت غير أن السنن لما لم تكن مقضية لعدم الوجوب ليس لأحد قضاؤها في الأوقات سيما المكروهة، ثم إن الركعتين من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صلَّى من الصحابة فإنما صلى لحمله فعله عليه السلام على التشريع مع أنه لم يكن تشريعًا، وكان يصليهما يوم عائشة لابتدائهما أولًا في يومها، انتهى. وفي هامش "اللامع": أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في هذا الكلام المختصر الوجيز البديع الإشارات إلى ستة أبحاث طويلة الأذيال جديرة بالباب:
الأول: منها إثبات الترجمة، وهو جواز القضاء في أوقات النهي.
الثاني: ما يتوهم من أحاديث الباب وجوب قضاء السنن والنوافل.
الثالث: جواز قضاء السنن وغيرها في الأوقات المنهية.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 193).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 70).
الرابع: أن هاتين الركعتين من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فلا يقاس عليه غيره.
الخامس: الجواب عما ورد من الآثار في جواز النفل بعد العصر.
السادس: أن هاتين الركعتين الواردتين في الباب اختلفت الروايات في إثباتهما ونفيهما.
وبسط الكلام على هذه المباحث في هامش "اللامع"
(1)
.
(34 -
باب التبكير بالصلاة في يوم غيم)
أشكل على الترجمة بوجهين:
الأول: أن المطابقة لقول بريدة لا للحديث.
والثاني: أن في الحديث تبكير العصر لا مطلق الصلاة، والترجمة مطلقة.
والجواب: أن القرينة دلَّت على أن قول بريدة: "بكروا بالصلاة" كان في وقت دخول العصر في يوم غيم، فأمر بالتبكير حتى لا يفوتهم بخروج الوقت، ويفهم بإشارته أن بقية الصلوات كذلك، انتهى من "العيني"
(2)
مختصرًا.
وسلك السندي
(3)
مسلكًا آخر إذ قال: لعله أراد بالصلاة، أي: في الترجمة العصر فقط، وقد استدل على ذلك بالحديث المرفوع بالنظر إلى استنباط الصحابي وفهمه؛ فإن بريدة قد أسند قوله:"بكروا" إلى الحديث المرفوع، واستدل به عليه فليست هذه الترجمة مبنية على قول بريدة كما زعمه الإسماعيلي، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله: "بكروا بالصلاة" إن كان المراد بالصلاة صلاة العصر فالمطابقة بالترجمة ثابتة بنوع مقايسة، وعموم الحكم
(1)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 70).
(2)
انظر: "عمدة القاري"(4/ 122).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 111).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 78).
بعموم العلة، وإن لم يكن المراد بالصلاة إلا المطلقة فالمطابقة بينهما واضحة، غير أن الاحتجاج على دعوى التبكير بالصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم:"من ترك صلاة العصر" مفتقر إلى المقايسة، وتعدية الحكم بعموم العلة، انتهى.
(35 -
باب الأذان بعد ذهاب الوقت)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أي: للقضاء والفوائت، وهذا إذا فاتت صلاة جماعة، وأما الفذ المنفرد فالأدب له إخفاء فعله لما فيه من إساءة؛ فإن إظهار فوت الصلاة اجتراء وشناعة فلا يستحب له التأذين إلا حيث لا يطلع عليه أحد، انتهى.
قال الحافظ
(2)
: وفي الحديث ما ترجم له وهو الأذان للفائتة، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد، وقال في الجديد: لا يؤذن، وبه قال مالك، انتهى.
وبالأول قالت الحنفية كما في "العيني"
(3)
.
(36 -
باب من صلَّى بالناس جماعة. . .) إلخ
قال الحافظ
(4)
: قال الزين بن المنيِّر: إنما قال البخاري: "بعد ذهاب الوقت" ولم يقل مثلًا لمن صلَّى صلاة فائتة للإشعار بأن إيقاعها كان قرب خروج وقتها لا كالفوائت التي جهل يومها أو شهرها، انتهى.
قال الحافظ
(5)
: وباستحباب قضاء الفوائت بالجماعة قال أكثر أهل العلم إلا الليث مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت إلى آخر ما بسط في ما يستفاد من الحديث.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 80).
(2)
"فتح الباري"(2/ 68).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 124).
(4)
"فتح الباري"(2/ 68).
(5)
"فتح الباري"(2/ 70).
قوله: (فصلى العصر) قال الحافظ: قال الكرماني
(1)
: فإن قلت: كيف دلَّ الحديث على الجماعة؟
قلت: إما أنه يحتمل أن في السياق اختصارًا وإما من إجراء الراوي الفائتة التي هي العصر والحاضرة التي هي المغرب مجرى واحدًا، ولا شك أن المغرب كانت بالجماعة لما هو معلوم من عادته.
قال الحافظ: وبالاحتمال الأول جزم ابن المنيِّر، وهو الواقع في نفس الأمر، ويؤيده رواية الإسماعيلي بلفظ: فصلى بنا العصر، انتهى مختصرًا.
(37 -
باب من نسي صلاة. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: مقصوده عدم وجوب الترتيب بين الوقتية والفوائت على خلاف مذهب أبي حنيفة، انتهى.
قلت: الظاهر عكسه، والمسألة خلافية، فعند الشافعي لا يجب الترتيب مطلقًا ويجب عند أحمد مطلقًا، وعندنا الحنفية ومالك يجب إلى خمس صلوات لا بعدها.
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة" أورده إشارة إلى ما ورد في بعض الروايات أن من فاتته صلاة فإن عليه قضائها ومثلها بأن ذلك منسوخ، ولا يجب عليه إلا صلاة واحدة فقط، وليس ذلك إشارة إلى دفع مذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب، وذلك لأن المذكور ههنا الوجوب بفور الذكر، والذكر يقتضي سابقية النسيان، ولا شك أن الترتيب ساقط بالنسيان، فليس في هذا الحديث ما يدخل على مثبت وجوب الترتيب، والحجة له ما أورده المؤلف بعد
(1)
انظر: "شرح الكرماني"(4/ 230)، و"فتح الباري"(2/ 70).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 194).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 82).
ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته الصلوات بمرات، فلو لم يكن الترتيب واجبًا لربما تركه في بعضها، انتهى.
وبسط الكلام عليه في هامش "اللامع" أشد البسط.
قال الحافظ
(1)
: يحتمل أن يكون البخاري أشار بذلك إلى تضعيف ما وقع في بعض طرق حديث أبي قتادة عند مسلم بلفظ: "فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" فإن بعضهم زعم أن ظاهره إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وعند حضورها مثلها من الوقت الآتي إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(2)
.
ولا يبعد عندي أنه أشار إلى رد قول الإمام أحمد إذ قال: فيمن ترك صلاة سُنَّة يصليها ويعيد كل صلاة صلاها وهو ذاكر لما ترك من الصلاة، كما في "المغني"، فهذا يرده قول النخعي في الترجمة، وأما عند الحنفية والمالكية فيسقط الترتيب بعد خمس صلوات، ويسقط بالنسيان عندنا وأحمد، ولا يسقط عند المالكية.
(38 -
باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى)
قال السندي
(3)
: أي: مراعاة الترتيب في القضاء إذا تعدد، وكأنه استدل عليه بالحديث؛ لأنه إذا روعي الترتيب بين القضاء والأداء فبالأولى أن يراعى بين القضائين، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: وهذه الترجمة عبَّر عنها بعضهم بقوله: "باب ترتيب الفوائت" وقد تقدم نقل الخلاف في هذه المسألة، ولا ينهض الاستدلال به لمن يقول بوجوب ترتيب الفوائت إلا إذا قلنا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة للوجوب، اللَّهم إلا أن يستدل له بعموم قوله: "صلوا كما رأيتموني
(1)
"فتح الباري"(2/ 71).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 83، 84).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 112).
(4)
"فتح الباري"(2/ 72).
أصلي"، انتهى.
وتقدم عن السندي أن إثبات الترجمة بالأولوية، ومسألة الترتيب بين الفوائت مختلف فيها، فيجب عند الأئمة الثلاثة، وقال الشافعي: لا يجب.
(39 -
باب ما يكره من السمر. . .) إلخ
ذكر فيه حديث النهي عن الحديث بعد العشاء، فكأنه أشار بالترجمة إلى أن المنهي عنه السمر لا مطلق الكلام، فكانت الترجمة شارحة للفظ الحديث، ثم استثنى منه التكلم في الخير فترجم بـ "باب السمر في الفقه والخير" قال ابن المنيِّر: الفقه يدخل في عموم الخير لكنه خصه بالذكر تنويهًا بذكره وتنبيهًا على قدره، ثم استثنى منه ثانيًا بـ "
باب السمر مع الأهل والضيف
" قال ابن المنيِّر: اقتطع البخاري هذا الباب من "باب السمر في الفقه والخير" لانحطاط رتبته عن مسمى الخير؛ لأن الخير متمحض للطاعة، وهذا النوع من السمر خارج عن أصل الضيافة والصلة المأمور بهما، فقد يكون مستغنى عنه في حقهما فيلتحق بالسمر الجائز أو المتردد بين الإباحة والندب، انتهى من هامش "اللامع"
(1)
.
(40 -
باب السمر في الفقه والخير. . .) إلخ
تقدم ما يتعلق بهذه الترجمة في الباب السابق ولا يشكل التكرار بما تقدم من "باب السمر بالعلم" لأنه كان تحريضًا وتنويهًا بشأن العلم، وههنا للاستثناء عن النهي فلا تكرار.
(41 - باب السمر مع الأهل والضيف)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك أن جواز السمر غير متوقف على كونه وعظًا وذكرًا بل يجوز غير ذلك أيضًا، والمكروه ما كان سببًا
(1)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 89).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 89).
لفوت صلاة الفجر، انتهى.
وتقدم عن الحافظ في الباب السابق ما يتعلق بهذه الترجمة.
قوله: (ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم) قال الكرماني
(1)
: قوله: "وخادم" يحتمل العطف على أمي وعلى امرأتي، والثاني أقرب لفظًا، انتهى.
وعلى هذا يكون الخادم داخلًا في الشك وهو مختار مولانا الشيخ أنور في "الفيض"، ولا يذهب عليك ما في حاشية النسخة الهندية من نقل كلام الكراماني بلفظ عطف على امرأتي أو أمي، والثاني أقرب لفظًا فيه تحريف من التقديم والتأخير فانقلب الأمر، وفي تقرير المكي قوله:"وخادم" عطف على "أمي"؛ لأن الشك في مجرد قوله: "وامرأتي" لا غير، فعلى هذا هو ليس بمشكوك، وهذا هو الأوجه عندي، انتهى.
وقال العيني
(2)
: قوله: "خادم" بالرفع عطف على "امرأتي" على تقدير: أن يكون لفظ امرأتي موجودًا فيه، وإلا فهو عطف على أمي، انتهى.
قوله: (وإن أبا بكر تعشى. . .) إلخ، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: في هذا الحديث تقديم وتأخير؛ لأن أكله صلى الله عليه وسلم وحنثه في يمينه ينبغي أن يذكر قبل قوله: "فشبعوا أو صارت أكثر"، وما وقع في الحديث من قوله:"تعشى أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم" فتقرير الكلام أن يقال: إن قول الراوي: ثم لبث حتى صليت العشاء تفصيل لما سبق من قوله: "تعشى أبو بكر"، انتهى.
وبسط الكلام عليه في "اللامع"
(4)
وهامشه فارجع إليه لو شئت.
قوله: (وكان بيننا وبين قوم عقد) أي: عهد مهادنة (فمضى الأجل)
(1)
"شرح الكرماني"(4/ 237).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 139).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 196).
(4)
انظر: "لامع الدراري"(3/ 92).
فجاءوا إلى المدينة (ففرقنا اثني عشر رجلًا) أي: ميزنا أو جعلنا كل رجل من اثني عشر رجلًا فرقة مع كل رجل منهم أناس، والله تعالى أعلم كم مع رجل، هكذا شرحه القسطلاني
(1)
، ونحوه في "العيني" و"الفتح"، ولم أتحصل بعد ما قالوا، وأجاد فيه في "اللامع" إذ قال
(2)
: فمضى الأجل وحان قتالهم؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلًا لقتالهم مع كل منهم رجال فأكلوا، انتهى.
وهذا أحسن وأوجه وأوضح، لكني ما وجدته في الشروح، فتأمل، ثم سكت الحافظ عن بيان براعة الاختتام ههنا، والظاهر عندي أن البراعة في قوله:"ومضى الأجل"، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(2/ 278)، و"فتح الباري"(2/ 76)، و"عمدة القاري"(4/ 141).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 94).
10 -
كتاب الأذان
الأذان لغة: الإعلام، قال الله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، واشتقاقه من الأذن بفتحتين وهو الاستماع.
وشرعًا: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، قال القرطبي: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد، ثم بإثبات الرسالة، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة، عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان، انتهى.
(1 -
باب بدء الأذان وقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ. . .} [المائدة: 58] إلخ)
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: ولما ثبت الأذان بالآية كان له بدء أيضًا وإن لم يذكر فيها صراحة، وكذلك في الآية الثانية، مع أن مطلق ذكر الأذان في الآية من غير ذكر البدء كاف للمناسبة بين الآية والترجمة، ولا يفتقر إلى إبداء البدء في الآية، انتهى.
وفي هامشه: ويظهر من كلام الشرَّاح أن الآيتين تشيران إلى البدء أيضًا.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 97).
قال الحافظ
(1)
في الآية الأولى: يشير بذلك إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان قالوا: لقد أبدعت يا محمد شيئًا لم يكن فيما مضى فنزلت هذه الآية، وقال أيضًا في الآية الثانية: يشير بذلك أيضًا إلى الابتداء؛ لأن ابتداء الجمعة كان بالمدينة، واختلف في السنة التي فرض فيها، فالراجح أن ذلك كان في السنة الأولى، وقيل: كان في الثانية، وروي عن ابن عباس أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية، انتهى.
وعلى هذا فيكون غرض الإمام بذكر الترجمة وإيراد الآيتين المدنيتين الإشارة إلى ترجيح شرعيته بالمدينة ردًا على ما روي في بعض الروايات من شرعيته ليلة الإسراء، بسطها الحافظ مع الكلام عليها، انتهى مختصرًا.
قلت: ويشكل على آية الجمعة أن الترجمة عامة، ولا يبعد عندي أن يكون إشارة إلى ما روي عن ابن عباس أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية، كما تقدم عن الحافظ.
(2 -
باب الأذان مثنى مثنى)
يحتمل أن يكون الغرض من هذا الباب تفسير لفظ الشفع الوارد في الحديث، فإنه أعم فتكون الترجمة شارحة، ويمكن أن يقال: إن الغرض الرد على من قال بالترجيح من الشافعية والمالكية خلافًا للحنفية والحنابلة.
قال العيني
(2)
: لفظ مثنى معدول من اثنين اثنين، ولا إشكال في النسخة التي لم يكرر فيها هذا اللفظ، وأما في النسخ المشهورة فالتكرار للتوكيد رعاية لرواية الطيالسي، أو يقال: إن الأول لإفادة التثنية لكل ألفاظ الأذان، والثاني لكل أفراد الأذان، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 77).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 153).
(3 -
باب الإقامة واحدة. . .) إلخ
لعلَّ المصنف أشار به إلى تفسير الوتر الوارد في الحديث؛ لأن الوتر أعم من الواحد، انتهى من "الفتح"
(1)
.
أورد على من قال: إن الإقامة كالأذان كما قال به الحنفية، أورد على المالكية في قولهم بإفراد الإقامة حتى في لفظ: قد قامت الصلاة.
(4 -
باب فضل التأذين)
قال الحافظ
(2)
: راعى المصنف لفظ "التأذين" لوروده في حديث الباب، قال ابن المنيِّر: التأذين يتناول جميع ما يصدر من المؤذن من قول وفعل وهيئة، والظاهر أن التأذين ههنا أطلق بمعنى الأذان، انتهى.
والأوجه عندي: أن الباب الآتي باب في باب فلا يشكل إذًا أنه لا يثبت فضل التأذين بحديث الباب نصًا بل إشارة فإنه يثبت بهذا إشارة وبالآتي نصًا، وكذلك يناسب إذًا أثر عمر بن عبد العزيز في الباب الآتي بهذا الباب نصًّا.
(5 -
باب رفع الصوت بالنداء)
تقدم أنه عندي باب في باب.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "وقول عمر بن عبد العزيز: أذِّن أذانًا سمحًا. . ." إلخ، أشار به إلى أن المراد بالرفع في الرواية والترجمة هو الذي لا يورث البحة والخشونة في الصوت، وهو الرفع البالغ إلى حد يتعب صاحبه، بل المراد الرفع الغير المتعب، انتهى.
وقال الحافظ
(4)
: الظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروج عن الخشوع، لا أنه نهاه عن رفع الصوت.
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 84).
(2)
"فتح الباري"(2/ 85).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 101).
(4)
"فتح الباري"(2/ 88).
وقال العيني
(1)
: قال الداودي: لعل هذا المؤذن لم يكن يحسن مد الصوت إذا رفع بالأذان فعلمه، وليس أنه نهاه عن رفع الصوت، انتهى.
قال العيني: كأنه يطرب في صوته ويتنغم، ولا ينظر إلى مد الصوت فأمره بالسماحة والسهولة بترك التطريب وبمد صوته، انتهى.
والأوجه عندي: أن التطريب يكون مانعًا عن رفع الصوت فأمره بتركه ليكون أعون في رفع الصوت، وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أجود وأوفق بالترجمة والرواية إلا أن تمام أثره المذكور في ابن أبي شيبة يدل على أن نكيره كان على التطريب، انتهى من هامش "اللامع".
(6 -
باب ما يحقن بالأذان من الدماء)
قال الحافظ
(2)
: قال ابن المنيِّر: قصد البخاري بهذه الترجمة واللتين قبلها استيفاء ثمرات الأذان، فالأولى: فيها فضل التأذين، والثانية: فيها الشهادة له، والثالثة: حقن الدماء، انتهى ملخصًا.
(7 -
باب ما يقول: إذا سمع المنادي)
قال الحافظ
(3)
: لم يجزم المصنف بالجواب لقوة الخلاف في ذلك كما سيأتي.
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
تحت قوله: "فقولوا مثل ما يقول المؤذن": فيه تغليب وإلا ففي الحيعلتين ليس الجواب مثل قوله، انتهى.
وفي هامشه: وهذا هو المرجح عند الأئمة الأربعة، قال الزرقاني تبعًا للحافظ: وهو المشهور عند الجمهور، وقيل: يجمع بينهما، نقله ابن عابدين عن البعض، وهو وجه لبعض الحنابلة ولبعض المالكية، كما في "الأوجز"
(5)
.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 159).
(2)
انظر: "فتح الباري"(2/ 90).
(3)
انظر: "فتح الباري"(2/ 92).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 102).
(5)
"أوجز المسالك"(2/ 14).
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فتارة يقول كذا وتارة يقول كذا، انتهى.
قال العيني
(2)
: احتج بالحديث أصحابنا على أن إجابة المؤذن واجبة، وبه قال ابن وهب من المالكية، وهو مذهب الظاهرية، وقال الأئمة الثلاثة: مستحبة، وهو اختيار الطحاوي، انتهى.
وفي "الدر المختار"
(3)
: يجيب وجوبًا، وقال الحلواني: ندبًا، انتهى.
(8 -
باب الدعاء عند النداء)
أي: عند تمام النداء لرواية مسلم بلفظ: "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة"، وكأن المصنف لم يقيَّده بذلك اتباعًا لإطلاق الحديث، واستدل بحديث الباب الطحاوي على أن الإجابة المعروفة ليس بواجب، انتهى.
قلت: ولعل إليه ميل المصنف، وأجاد في ذكر هذا الباب بعد الباب السابق.
(9 -
باب الاستهام في الأذان. . .) إلخ
الشرَّاح سكتوا عن غرض الإمام ويحتمل عندي في غرض الترجمة أنه أراد بيان جواز الاستهام لذلك خاصة أو مطلقًا خلافًا لمن قال: إن القرعة منسوخة، أو يقال: إنه رد على من قال بجواز الأكثر من مؤذن واحد.
قوله: (ويذكر. . .) إلخ، لعله رضي الله عنه ذكره لتعيين معنى الاستهام؛ لأن الشرَّاح اختلفوا في معناه هل هو الاقتراع أو الترامي بالسهام.
قوله: (فأقرع بينهم سعد) كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: القرعة منسوخة
(1)
"فتح الباري"(2/ 91).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 156).
(3)
"الدر المختار"(2/ 65).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 104).
عندنا لإثبات الحكم، وأما لإطابة القلب ودفع تهمته الجور عن نفسه فلا، انتهى.
وترجم الإمام البخاري لهذه المسألة في مواضع من صحيحه، منها ههنا، ومنها ما سيأتي من "باب هل يقرع في القسمة؟ " ومن "باب القرعة في المشكلات" ومن "باب القرعة بين النساء" وغير ذلك، وأنت خبير بأن هذه المواضع كلها من القرعة التي لم ينكرها الحنفية، ولم يترجم الإمام البخاري بقرعة قالت الحنفية بنسخها في موضع ما من كتابه، فهل هذا مصير منه أيضًا إلى أن القرعة في المشكلات لتطييب القلب لا لإثبات الحكم؟ فتأمل، انتهى من هامش "اللامع".
(10 -
باب الكلام في الأذان)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: يعني: أن الكلام لا يقطع الأذان كما يقطع الصلاة، فإن اتفق الكلام في خلاله لا يعاد، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لا بأس به عندنا أيضًا ما لم يخل بالمقصود، وهو الإعلام بأن يوقع بكلامه بينه فصلًا يخرجه عن إفادته، ودلالة الرواية عليه في قوله:"فعل هذا من هو خير منه"، فإنه لما فعله صلى الله عليه وسلم وأمر به كان حجة لجواز الكلام في أثنائه؛ فإنه لا شك في كونه كلامًا، انتهى.
وفي هامشه: ليس مراد الشيخ بقوله: لا بأس الإباحة كما يوهمه ظاهر اللفظ لأن المعروف في كتب الفقه الكراهة.
قال النووي: التكلم في الأذان مختلف بين الأئمة، فكرهه الأئمة الثلاثة، ورخص فيه الإمام أحمد إلى آخر ما في "الأوجز"
(3)
، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 201).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 105).
(3)
"أوجز المسالك"(2/ 60).
قوله: (وقال الحسن: لا بأس أن يضحك. . .) إلخ، قال العيني
(1)
: هذا غير مطابق للترجمة لأن الضحك ليس بكلام، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: قيل: مطابقته للترجمة من جهة أن الضحك إذا كان بصوت قد يظهر منه حرف مفهم أو أكثر فتفسد الصلاة، ومن منع الكلام في الأذان أراد أن يساويه بالصلاة، انتهى.
وفي هامش الهندية
(3)
: وإذا كان الضحك صحيحًا فالكلام بالطريق الأولى، انتهى.
ثم إنه أورد في "تيسير القاري": أن قوله في الحديث: "الصلاة في الرحال" صار جزء الأذان إذ ذاك فكيف يصح الاستدلال منه على الترجمة، وتخلص منه بحمل الكلام في الترجمة على العموم من كلام المؤذن أو السامع، فحديث ابن عباس يدل على كلام السامع، وقول سليمان وحسن على كلام المؤذن، انتهى.
(11 -
باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: يعني بذلك: أنه لا ضير في أذانه إذا لم يفت المقصود وهو الإعلام في الوقت؛ فإنه مع كونه أعمى لما أخبره الثقة بالوقت كان بمنزلة غيره، انتهى.
وفي هامشه: ونقل النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح، والنقل عن الحنفية غير صحيح، بل صرح ابن عابدين بعدم كراهته كما في "الأوجز"
(5)
، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 177).
(2)
"فتح الباري"(2/ 98).
(3)
(2/ 198).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 107).
(5)
"أوجز المسالك"(2/ 67).
(12 -
باب الأذان بعد الفجر)
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: قدَّم المصنف ترجمة "الأذان بعد الفجر" على ترجمة "الأذان قبل الفجر" مع أن مقتضى الترتيب عكسه؛ لأن الأصل أن لا يؤذن بعد الفجر فكان هذا الباب على الأصل، وأشار ابن بطال إلى الاعتراض على الترجمة بأنه لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر، والذي يظهر لي أن مراد المصنف بالترجمتين أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفي به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لا يقع قبل الفجر، انتهى.
(13 -
باب الأذان قبل الفجر)
قال الحافظ
(2)
: أي: ما حكمه هل هو مشروع أم لا؟ وإذا شرع هل يكتفي به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا؟ والحديث الأول يدل على الأول، والثاني على خلافه ولذا عقَّبه به، انتهى.
وعندي غرض الترجمة الإشارة إلى مصلحة الأذان قبل الفجر، فقد بينت الرواية المصلحة.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: وأنت تعلم أنه لم يكن للصلاة وإلا لاكتفى به، ولم يؤذن ابن أم مكتوم، وإنما لم نقل بسنيته للسحور والتهجد لترك العمل به في زمن الخلفاء الراشدين، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعله سُنَّة وإنما فعله لعارض، انتهى.
وفي هامشه: ثم اعلم أنهم بعد إجماعهم على أنه لا يجوز تقديم الأذان قبل الوقت في غير الفجر، اختلفوا في أذان الفجر قبل الوقت،
(1)
"فتح الباري"(2/ 101).
(2)
"فتح الباري"(2/ 104).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 109).
فأباحه المالكية مع الاختلاف فيما بينهم في مقدار التقديم، فقيل: لا يؤذن لها حتى يبقى السدس الأخير، وهو الأظهر، قاله الباجي، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر، وكره أحمد الأذان قبل الفجر في شهر رمضان خاصة كما في "الأوجز"
(1)
، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(14 -
باب كم بين الأذان والإقامة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
تحت حديث الباب: الغرض من وضع الترجمة أن الفصل لا بدّ من بين كل أذانين ولو قليلًا، كيف وإن وقت المغرب أقصر الأوقات وأولاها بالتعجيل في أمر الصلاة فيه، فلما ثبت الفصل فيه ففي غيره أولى، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: لعل البخاري أشار بذلك إلى رواية الترمذي عن جابر بلفظ: "اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله" الحديث، وإسناده ضعيف فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى تقوية معنى ما في حديث الترمذي لأنه إذا كانت بين كل أذانين صلاة، فلا بد لها من وقت يؤديها فيه فلا بد من أن يفرغ الآكل وغيره من حاجته، فهذا عندي من الأصل الحادي والأربعين من أصول الترجم، انتهى.
(15 -
باب من انتظر الإقامة)
قال الحافظ
(4)
: أورده لاحتمال أن يكون هذا خاصًا بالإمام؛ لأن المأموم مندوب إلى إحراز الصف الأول، ويحتمل أن يشارك الإمام في ذلك من كان منزله قريبًا من المسجد، انتهى.
(1)
انظر: "أوجز المسالك"(2/ 53).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 112).
(3)
"فتح الباري"(2/ 106).
(4)
"فتح الباري"(2/ 109).
(16 -
باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء)
قال العيني
(1)
: ليس فيه تكرار؛ لأن المذكور قبل بعض ما دلَّ عليه حديث الباب، وههنا ذكر لفظ الحديث، انتهى.
والظاهر عندي: أنه إشارة إلى أن ما ورد في الرواتب من الروايات القولية والفعلية ليس على الوجوب لقوله: لمن شاء، وسيأتي الاختلاف في التطوع قبل المغرب في بابه.
(17 -
باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: وذلك لأن الاحتياج إلى تكرار الأذان إنما هو لانتشار الناس في جوانب الأمصار، ولا كذلك في السفر فإنهم مجتمعون ثمة فيكتفي بأذان واحد، انتهى.
وفي هامشه: وإلى عكسه مال شيخ المشايخ في "تراجمه"
(3)
إذ قال: قيد السفر اتفاقي، وغرضه من عقد الباب نفي وجوب اجتماع المؤذنين في الأذان كما هو معمول أهل الحرمين، انتهى.
وقال الحافظ
(4)
: كأنه أشار إلى رد ما ورد في "مصنف عبد الرزاق"
(5)
: "أن ابن عمر كان يؤذن للصبح في السفر أذانين" وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضر والسفر في أنه لا يتكرر إلى آخر ما ذكره، وظاهره أن الحافظ حمل الترجمة على عدم التكرار في أذان الصبح في السفر، وقال شيخ الإسلام: إن غرض الترجمة الاكتفاء على الإقامة فقط في السفر، ولما لم يكن هذا مرضيًّا للمصنف بوب عليه بباب من قال هكذا، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 198).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 113).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 201).
(4)
"فتح الباري"(3/ 113).
(5)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 492)(رقم 1897).
والأوجه عندي في غرض الترجمة: أنه أشار بالترجمة إلى دفع ما يتوهم من حديث مالك بن الحويرث الآتي في الباب الآتي بلفظ: "إذا أنتما خرجتما فأذنا" الحديث، فقد توهم بعض العلماء بذلك إلى أذان كل واحد منهما في السفر.
قال الحافظ
(1)
: قال ابن القصار: أراد به الفضل وإلا فأذان الواحد يجزئ، وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنا جميعًا، انتهى.
قلت: وإليه يشير تبويب النسائي إذ بوَّب على لفظ حديث: "أذنا" بـ "باب أذان المنفردين في السفر"، وعلى لفظ: فليؤذن لكم أحدكم بـ "باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر"، انتهى.
(18 -
باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة. . .) إلخ
قيل: إشارة إلى استحباب الأذان وإن كانوا مجتمعة، ويظهر من كلام الحافظ غرضه أنه مال إلى قول مالك: إنه لا يؤذن في السفر إلا الجيش الذي عليه الأمير، والأئمة الثلاثة إلى مشروعية الأذان لكل من المنفرد والجماعة.
والأوجه عندي: الرد على قول مالك كما يدل عليه قوله في الترجمة: "وكذلك بعرفة وجمع"، فتأمل، وفي "الفيض"
(2)
: أشار بلفظ: "إذا كانوا جماعة" إلى ترك الأذان في السفر للمنفرد، انتهى.
قوله: (وكذلك بعرفة وجمع) لم يذكر لهما حديثًا، وكأنه أشار بالأول إلى حديث جابر الطويل في "مسلم"، وبالثاني إلى ما سيأتي في "الحج"، انتهى من "الفتح"
(3)
.
قلت: والظاهر عندي كما تقدم أن غرض الترجمة الرد على قول
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 111).
(2)
انظر: "فيض الباري"(2/ 185).
(3)
"فتح الباري"(2/ 112).
مالك، ويؤيده هذا الكلام؛ فإن مالكًا قال في الجمع وعرفة: إن كان معهم الإمام فالأذان والإقامة وإلا فالإقامة فقط، فكأن المصنف رأى أنهما للجماعة لا للإمام.
قوله: (بالأبطح)، قال الحافظ
(1)
: هو موضع معروف خارج مكة، وفهم بعضهم أن المراد بالأبطح موضع جمع لذكره لها في الترجمة، وليس بذاك بل بين جمع والأبطح مسافة طويلة، وإنما أورد هذا الحديث؛ لأنه يدخل في أصل الترجمة، وهي مشروعية الأذان والإقامة للمسافرين، انتهى.
وقال العيني
(2)
: مطابقته ظاهرة لأن فيه الأذان والإقامة، انتهى.
وسكت عنه القسطلاني، وأنت خبير بأنه ليس فيه أذان بل الإقامة فقط.
(19 -
باب هل يتتبع المؤذن فاه ههنا وههنا)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: غرضه إثبات أن الأذان غير ملحق بالصلاة في الأحكام ولا يشترك فيه الاستقبال، وبهذا تتحقق المناسبة بين الترجمة والآثار الواردة فيه، انتهى.
وهو الأصل الثامن والعشرين من أصول التراجم.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
تحت قوله في الترجمة: "ويذكر عن بلال أنه جعل أصبعيه. . ." إلخ: مناسبته للترجمة من حيث أن إدخال الإصبع في الأذن يعين على رفع الصوت كالالتفات، فإن الالتفات أعون على وصول النداء إلى من في يمينه أو يساره، ثم أورد بتبعية ذكر أحواله ذكر وضوئه وعدم وضوئه، ولعل المراد بالحق والسُّنَّة - أي: في الترجمة - هو الأولى المعمول به، فلا يخالف قوله قول غيره، والترجمة في قوله: "أتتبع فاه ههنا
(1)
"فتح الباري"(2/ 114).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 205).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 202).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 114).
وههنا"، فإن أبا جحيفة لم يحتج إلى جعل فيه ههنا وههنا إلا إذا جعل بلال فاه ههنا وههنا كما يدل عليه لفظ التتبع، انتهى.
وظاهر كلام الحافظ
(1)
: أن ذكر هذه الآثار لإثبات الالتفات حيث قال: إيراد البخاري قول عائشة في الترجمة للإشارة إلى اختيار قول النخعي ومالك والكوفيين؛ لأن الأذان ليس من جملة الأركان فلا يشترط فيه الطهارة واستقبال القبلة ولا يستحب الخشوع الذي ينافيه الالتفات كما يشترط، ويستحب في الصلاة، ولاختلاف نظر العلماء فيها أوردها بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم، انتهى ملخصًا.
وفي تقرير المكي قوله: (قال إبراهيم: لا بأس. . .) إلخ، لما وقع الكلام في آداب الأذان قال: هذا أيضًا، أو مناسبته أن الوضوء أيضًا معين في رفع الصوت الذي هو معين في التبليغ؛ لأن الوضوء يرفع التكاسل حيث استيقاظ المؤذن من النوم للأذان، انتهى.
والأوجه عندي: ما أشار إليه الشيخ من قوله: ثم أورد بتبعية ذكر أحواله. . . إلخ، فإن أبواب الأذان كانت تتم بهذا الباب، وسيذكر المصنف من الباب الآتي أحكام الجماعة، فذكر في هذا الباب الأحكام المتفرقة من الأذان كمسائل شتى، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.
(20 -
باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: موقع هذه الترجمة وما بعدها من أبواب الأذان والإقامة أن المرء عند إجابة المؤذن يحتمل أن يدرك الصلاة كلها أو بعضها أو لا يدرك شيئًا، فاحتيج إلى جواز إطلاق الفوات، انتهى.
قلت: لا يبعد أن يقال: إن المصنف شرع بعد أحكام الأذان الإقامة والجماعة وغيرها من الآداب.
(1)
"فتح الباري"(2/ 115).
(2)
"فتح الباري"(2/ 116).
قوله: ("وكره ابن سيرين) في تقرير المكي: أي: (فوت كيا هم كو نماز نى بسبب ناراض هونى كى هم سى) ففيه إشاعة معصية وإظهارها، انتهى.
والأوجه عندي: أن فيه نسبة تقصير الفوت إلى الصلاة.
(21 -
باب ما أدركتم فصلوا. . .) إلخ
لعل المصنف ترجم بلفظ الحديث لما فيه من الأبحاث:
الأول: المسبوق يدرك أول صلاته أو آخرها؟
والثاني: مدرك الركوع مدرك للركعة أم لا؟ وفائت أول الجمعة ما يفعل؟
بسط الكلام عليها في "الأوجز"
(1)
فارجع إليه لو شئت.
(22 -
باب متى يقوم الناس. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أظهر تأويلات هذه الترجمة أن يقال: إن قوله: إذا رأوا الإمام جواب يعني يقومون إذا رأوا الإمام، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: أورد الترجمة بلفظ الاستفهام؛ لأن قوله في الحديث: "لا تقوموا" نهي عن القيام، وقوله:"حتى تروني" تسويغ للقيام عند الرؤية، ومن ثم اختلف السلف في ذلك، انتهى.
وفي "التيسير": يقومون عند الحنفية على حي على الصلاة، وعند أحمد عند قد قامت الصلاة، وعند الشافعي بعد الفراغ من الإقامة، وعند مالك في بدء الإقامة، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(2/ 413).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 204).
(3)
"فتح الباري"(2/ 119).
وهكذا المذاهب في القسطلاني
(1)
إلا أن فيه عن أبي حنيفة أنه يقوم عند حي على الفلاح، وعند أحمد إذا قال: حي على الصلاة، انتهى.
(23 -
باب لا يقوم إلى الصلاة مستعجلًا. . .) إلخ
سكتوا عن غرض الترجمة.
والظاهر عندي: أنه إشارة إلى قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} الآية [الجمعة: 9]، فإن بين الآية والحديث تعارضًا بحسب الظاهر.
قال الحافظ
(2)
: وجه الجمع بينهما أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة لا سعي الدنيا كالبيع والصناعة، وقيل: المراد بالسعي في الآية المضي، وفي الحديث العدو، انتهى.
(24 -
باب هل يخرج من المسجد لعلة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك أن ما ورد من النهي عن الخروج بعد الأذان، فالمراد به من غير ضرورة، وأما عند الضرورة فقد ثبت منه صلى الله عليه وسلم بنفسه، انتهى.
وفي هامشه: وبذلك جزم شيخ المشايخ في "التراجم"
(4)
وجمع من الشرَّاح، والعجب أنهم سكتوا عن تقييد الإمام الترجمة بالاستفهام مع أن رواية الباب صريحة في الجواز فكأنه أشار بلفظ:"هل" إلى أن فيه احتمالًا فهو من الأصل الثاني والثلاثين من أصول التراجم، انتهى.
وذلك لأن الوارد في الحديث الجنابة وهي مما لا بد لها من الخروج؛ لأنه لا يستطيع معها الصلاة، فهل تدخل في ذلك علة أخرى غير الجنابة أم لا؟
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 317).
(2)
"فتح الباري"(2/ 390).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 117).
(4)
انظر: "شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 204).
(25 -
باب إذا قال الإمام: مكانكم انتظروه)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: أي: ينبغي أن ينتظروه ولا يقيموا مقامه إمامًا آخر، ولا يتفرقوا من موافقهم، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني: أنه إذا خرج لأجل الضرورة فإن لهم انتظاره إذا كانوا على رصدة من عوده سواء كانت على قوله أو على شيء من القرائن، وأما إذا ذهب ولا يدري بحاله فإن لهم أن يصلوا ويؤمهم غيره، انتهى.
وهكذا ذكره الشرَّاح في فوائد الحديث، وما يظهر لهذا العبد الضعيف أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى مسألة أخرى، وهي أنهم إن لم يستخلفوا أحدًا انتظروه قيامًا، والصلاة في هذه الصورة تفسد عندنا الحنفية؛ إذ بقوا خاليًا كما بسط في الفروع، وكذا عند مالك فالإمام البخاري يكون ممن قال: إنهم يمكثون قيامًا منتظرين إلا أن حديث البخاري ليس فيه دخوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، انتهى.
(26 -
باب قول الرجل: ما صلينا)
كذا في أكثر النسخ، وفي نسخة الحافظ:"باب قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما صلينا"، في "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: الاهتمام بإثبات ذلك لأجل ما ذهب إليه بعض العلماء من كراهة التكلم بمثل فاتتنا الصلاة أو ما صلينا كما سبق مثل ذلك، لكن لو استدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما صليتها" لكان أنسب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صرح بلفظ: "ما صليت"، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: قال ابن بطال: فيه رد لقول إبراهيم النخعي: يكره أن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 204).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 118).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 205).
(4)
"فتح الباري"(2/ 113).
يقول الرجل: لم نصل، والذي يظهر لي أن البخاري أراد أن ينبه على أن قول النخعي ليس على إطلاقه، ولو أراد الرد عليه مطلقًا لأفصح به كما أفصح بالرد على ابن سيرين في ترجمة:"فاتتنا الصلاة"، ثم إن اللفظ الذي أورده المؤلف وقع النفي فيه من قوله صلى الله عليه وسلم لا من قول الرجل، لكن في بعض طرقه وقوع ذلك من الرجل أيضًا، وهو عمر رضي الله عنه، وهذه عادة معروفة للمؤلف، انتهى.
والأوجه عندي: أن الترجمة في قوله صلى الله عليه وسلم والمشهور في النسخ "قول الرجل: ما صلينا" وهو ثابت بلا مرية، وأما قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت في أكثر النسخ، لكنه موجود في نسخة الحافظ، فإيراد الحافظ مبني على نسخته.
(27 -
باب الإمام تعرض له الحاجة. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: خصَّ المصنف الإمام بالذكر مع أن الحكم عام؛ لأن لفظ الخبر يشعر بأن المناجاة كانت لحاجته صلى الله عليه وسلم لأنه لو كانت الحاجة للرجل لقال أنس رضي الله عنه: ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وهذا ليس بلازم وفيه غفلة عما في "مسلم"
(2)
بلفظ: "قال رجل: لي حاجة".
والذي يظهر لي: أن هذا الحكم إنما يتعلق بالإمام لأن المأموم إذا عرضت له الحاجة لا يتقيد به غيره من المأمومين بخلاف الإمام، انتهى.
قوله: (ورجل يناجي. . .) إلخ، قال الحافظ
(3)
: لم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشرَّاح أنه كان كبيرًا في قومه فأراد أن يتألفه على الإسلام، ولم أقف على مستند ذلك، قيل: ويحتمل أن يكون ملكًا ولا يخفى بعده، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 124).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 376).
(3)
"فتح الباري"(2/ 124).
والحديث أخرجه البخاري في "الاستئذان" ولم يتعرض فيه الحافظ بل أحاله على ما سبق، وفي "الفيض"
(1)
: هذه وقعة واحدة، وما توهمه ألفاظ الترمذي أنها كانت عادة له فقد علله البخاري، وأما الرجل فلم يدركه الشارحان وقد وجدت اسمه في "الأدب المفرد" فليراجع له فإنه مهم، إلى آخر ما قال.
قلت: قد راجعته ولم أجد فيه اسمه بل فيه في "باب سخاوة النفس" عن أنس في قصة: وأقيمت الصلاة وجاء أعرابي فأخذ بثوبه فقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخاف أنساها فقام معه ثم فرغ من حاجته، الحديث.
(28 -
باب الكلام إذا أقيمت الصلاة)
قال الحافظ
(2)
: غرض الترجمة الرد على من كرهه مطلقًا، انتهى.
قال العيني
(3)
تحت حديث الباب السابق: قال صاحب "التلويح": فيه جواز الكلام بعد الإقامة، هان كان إبراهيم والزهري وتبعهما الحنفيون كرهوا ذلك.
قلت: إنما كره الحنفية الكلام بين الإقامة والإحرام إذا كان بغير ضرورة، وأما إذا كان لأمر من أمور الدين فلا يكره، انتهى.
(29 -
باب وجوب صلاة الجماعة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: وهو المراد بقول من قال: إنها سُنَّة والفرق إنما هو في العبارة دون المعنى، ودلالة قول الحسن على هذا المعنى واضحة إذ لو لم تكن الجماعة واجبة لما كانت له معاصاة أمه في تركها، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(5)
: بت الحكم في هذه المسألة، وكان ذلك
(1)
"فيض الباري"(2/ 189).
(2)
"فتح الباري"(2/ 124).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 221).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 132).
(5)
"فتح الباري"(2/ 125).
لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن أثر الحسن يشعر بكونه وجوب عين لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها، انتهى.
وما قال إنه أعم من كونه وجوب عين أو كفاية هما قولان للعلماء، فإنهم اختلفوا في ذلك على خمسة أقوال: الأول: إنها شرط لصحة الصلاة، والثاني: فرض عين، والثالث: فرض كفاية، والرابع: سُنَّة مؤكدة، والخامس: مندوب، إلى آخر ما بسط في تعيين القائلين في هامش "اللامع".
(30 -
باب فضل صلاة الجماعة)
قال الحافظ
(1)
: أشار ابن المنيِّر إلى أن ظاهر هذه الترجمة ينافي الترجمة التي قبلها، ثم أطال في الجواب ويكفي منه أن كون الشيء واجبًا لا ينافي كونه ذا فضيلة، ولكن الفضائل تتفاوت، فالمراد منها بيان زيادة ثواب الجماعة على ثواب الفذ، انتهى.
(31 -
باب فضل صلاة الفجر في جماعة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: استدلال المؤلف على مدعاه بما أورد في الباب من الروايات مبني على أن الحكم في سائر الصلوات لما كان كذلك فإن صلاة الفجر أولاها بذلك، لما فيها من المشقة وشهود الملائكة وغيره من الأمور الموجبة للفضل، وأيضًا فإن في الروايات دلالة على أن الفضل والمزيد كثيرًا ما يبنيان على الأمور العارضة والأسباب الخارجة، فتزيد الفضيلة للفجر لكثرة الأسباب الموجبة لزيادة الفضل فيها، انتهى.
وفي هامشه: في تطابق الروايات الواردة في الباب خفاء جدًا، ولذا وجّه المشايخ التطابق بوجوه مختلفة، منها ما قرره الشيخ قُدِّس سرُّه وهو
(1)
"فتح الباري"(2/ 131).
(2)
"لامع الدراري"(2/ 122).
أيضًا وجيه، ومنها ما في "تراجم" شيخ المشايخ
(1)
: أن هذا الباب باب في باب فلا إشكال في ربط الحديثين الأخيرين مع الترجمة فتدبر، انتهى.
وهذا أصل من أصول التراجم وهو الأصل السادس.
ومنها ما قال الكرماني
(2)
: أن صلاة الجماعة إنما كثر ثوابها للمشقة الحاصلة منها، والمشي إلى الجماعة في الفجر أشق من غيرها للظلمة ومصادفة المكروه فيكون الأجر أكثر، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(32 -
باب فضل التهجير إلى الظهر. . .) إلخ
قال العيني
(3)
: التهجير: التبكير إلى كل شيء أراد المبادرة إلى أول وقت الصلاة، وعامة نسخ البخاري هكذا، وفي بعضها "باب فضل التهجير إلى الصلاة" وهذه النسخة أعم وأشمل، ولا منافاة بينه وبين حديث الإبراد؛ لأنه عند اشتداد الحر والتهجير هو الأصل، وهو عزيمة، وذاك رخصة، انتهى.
(33 -
باب احتساب الآثار)
قال الحافظ
(4)
: أي: إلى الصلاة، وكأنه لم يقيِّدها لتشمل كل مشي إلى كل طاعة، والاحتساب هان كان أصله العد، لكنه يستعمل غالبًا في معنى طلب تحصيل الثواب بنية خالصة، انتهى.
وغرض الترجمة ظاهر وهو التنبيه على نية حصول الأجر والثواب عند كل عمل، كما صرحوا بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا"
(5)
فإنه لاستحضار الأجر والثواب تأثيرًا قويًّا في تحمل المشاق وازدياد الاشتياق إلى الطاعات كما هو ظاهر.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 211).
(2)
"شرح الكرماني"(5/ 40).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 238).
(4)
"فتح الباري"(2/ 140).
(5)
"صحيح البخاري"(ح: 1901، 2014)، و"صحيح مسلم" (ح: 759، 760).
والأوجه عند هذا العبد الضعيف في اتصال هذا الباب بالباب السابق أن العادة في التهجير توسيع الخطوات وتبعيدها اتقاء عن حر الشمس، وهو خلاف الوقار والسكينة المأمور في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة" فنبَّه المصنف باتصال هذه الترجمة على اقتراب الأقدام لكونه موجبًا لكثرة الثواب، فقد ورد في حديث طويل:"ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد" الحديث.
(34 -
باب فضل صلاة العشاء في الجماعة)
قال الحافظ
(1)
: أورد فيه الحديث الدال على فضل العشاء والفجر، فيحتمل أن يكون مراد الترجمة إثبات فضل العشاء في الجملة أو إثبات أفضليتها على غيرها والظاهر الثاني، ووجهه أن الفجر ثبتت أفضليتها كما تقدم، وسوَّى في هذا بينها وبين العشاء، ومساوي الأفضل يكون أفضل جزمًا، انتهى.
(35 -
باب اثنان فما فوقهما جماعة)
هو لفظ حديث ضعيف عند ابن ماجه، فكأن المصنف أراد الاستشهاد به، وهو الأصل الأول من أصول التراجم.
قال الحافظ
(2)
: هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة، منها في "ابن ماجه" من حديث أبي موسى الأشعري، ثم قال بعد حديث الباب: واعترض على أصل الاستدلال بهذا الحديث بأن مالك بن الحويرث كان مع جماعة من أصحابه، فلعل الاقتصار على التثنية من تصرف الرواة، والجواب أنهما قضيتان، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 141).
(2)
"فتح الباري"(2/ 142).
(36 -
باب من جلس في المسجد. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: أي: ليصليها جماعة، انتهى.
ولم يتعرض هو ولا غيره من الشرَّاح عن غرض الترجمة، وبوَّب على حديث الباب أبو داود "باب فضل القعود في المسجد".
وكتب الشيخ نوَّر الله مرقده في "البذل"
(2)
: صنيع البخاري يدل على أنه حمل الحديث على القعود لانتظار الصلاة، وأما صنيع المؤلف - أبو داود - فيدل على أن القعود في المسجد عنده عام، سواء كان لانتظار الصلاة أو بعد الفراغ من الصلاة للذكر وتلاوة القرآن وغيرها من العبادات، ويمكن أن يقال: إن البخاري زاد قوله: "وفضل المساجد" ليدل على أن القعود فيه لانتظار الصلاة وغيرها يقتضي الفضل، انتهى.
وقلت: تقييد البخاري الترجمة بانتظار الصلاة واضح من الروايات الواردة في ذلك، وعليه يدل لفظ الحديث "ما لم يحدث" فإنه إذا أحدث لم يكن منتظرًا للصلاة.
(37 -
باب فضل من خرج إلى المسجد ومن راح)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: لعل المراد بالغدوة والروحة إذا كانتا لفريضة وإلا فالأفضل في التطوع أن يكون في البيت، انتهى.
وفي هامشه: مما يجب التنبيه عليه أولًا: أن الإمام البخاري عقَّب هذه الترجمة بالحديث السابق، وفيه:"رجل قلبه معلق بالمسجد" فكأنه أشار إلى أن ثمرة تعليق القلب بالمسجد كثرة التردد إلى المسجد، وثانيًا: أن الإمام عدل في الترجمة عن لفظ الحديث؛ فإن الحديث كان بلفظ "غدا وراح" وهما المشي صباحًا ومساء، وترجم عليه الإمام البخاري بلفظ "خرج
(1)
"فتح الباري"(2/ 142).
(2)
"بذل المجهود"(3/ 195).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 129).
وراح" والخروج عام لا يقابله الرواح في المعنى المشهور، فأبدع المصنف في ذلك عندي نكتة بديعة، وهي أنه أشار بلفظ "خرج" في الترجمة إلى أن لفظ "غدا" في الحديث ليس بمعنى المشي صباحًا، بل المراد منه المشي مطلقًا في أي وقت كان، ولفظ الترجمة في "الفتح" "باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح".
قال الحافظ
(1)
: هكذا للأكثر موافقًا للفظ الحديث، ولأبي ذر بلفظ "خرج" بدل "غدا" وعلى هذا فالمراد بالغدو الذهاب، وبالرواح الرجوع، انتهى.
قلت: هذا هو اللائق بدقائق البخاري فكأنه أشار بذلك إلى تقوية معنى حديث أبي داود
(2)
عن أُبي بن كعب في قصة رجل بعيد الدار عن المسجد، قال: ما أحب أن منزلي إلى جنب المسجد، فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك، فقال: أردت يا رسول الله أن يكتب لي إقبالي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي إذا رجعت، فقال:"أعطاك الله ذلك كله، أنطاك الله ما احتسبت كله أجمع"، انتهى.
(38 -
باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: أراد بذلك أنه ليس في هذا المكان غير المكتوبة، وذلك لما ورد في كثير من الروايات تأكيد سُنَّة الفجر مع التأكيد في أمر الجماعة حتى إن كثيرًا من العلماء قال بوجوبها، فطريق العمل بهما أن يأتي بالسنن في غير ذلك المكان إذا لم يخف فوات الجماعة، جمعًا بين المنقبتين وإحرازًا لكلتا المكرمتين، كيف وقد ورد في الرواية استثناء بقوله:"إلا ركعتي الفجر"، انتهى.
والمسألة خلافية شهيرة ذكروا فيها تسعة مذاهب بسطت في
(1)
"فتح الباري"(2/ 148).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 557).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 131).
"البذل"
(1)
، ومذاهب الأئمة الأربعة كما في "الأوجز"
(2)
أن من لم يصل ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فلا يصليهما عند الشافعي وأحمد مطلقًا، وعند مالك يصليهما خارج المسجد إن تيقن أنه يدرك الإمام في الركعة الأولى، وعند الإمام أبي حنيفة يصليهما ما لم يخف فوت الركعتين معًا، انتهى من هامش "اللامع".
قال الحافظ
(3)
: حديث الترجمة أعم من حديث الباب؛ لأنه يشمل الصلوات كلها، وحديث الباب يختص بالصبح فيحتمل أن يقال: اللام في حديث الترجمة عهدية فيتفقان من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فالحكم في جميع الصلوات واحد، انتهى.
قلت: أو يقال: إن الترجمة شارحة بأنه بين وجه الإنكار، أو يقال: إن الاختلاف كان في الفجر فقط وأما غيرها فاتفقوا على أن لا يصلي فيها إلا المكتوبة.
(39 -
باب حد المريض أن يشهد الجماعة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لمَّا كان حالة المرض والضعف تستدعى أن لا يجوز للمريض حضور المسجد خوفًا من أن يزداد مرضه، فيتلوث المسجد، دفعه بأن المريض يجوز له الحضور ما لم يظن به الفساد والتلويث، وأما مجرد الاحتمال والوهم فلا يعتبر به ولا يمكن أن يراد حد المريض في وجوب الحضور في المسجد؛ لأنه لم يذهب أحد من الفقهاء إلى وجوب الحضور عليه حين لا يمكن له المشي برجليه من غير إعانة اثنين، مع أنه لو كان الحضور إذ ذاك واجبًا يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الواجب؛ لأنه لم يشهد المسجد في كثير من صلوات أيام مرضه، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في ضبط هذه الترجمة والغرض منها.
(1)
"بذل المجهود"(5/ 476).
(2)
"أوجز المسالك"(2/ 667).
(3)
"فتح الباري"(2/ 149).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 132).
قال الحافظ
(1)
: قال ابن التين تبعًا لابن بطال: معنى الحد ههنا الحدة، وقد نقله الكسائي قال: والمراد ههنا الحض على شهود الجماعة، قال ابن التين: ويصح أن يقال: "جد" بكسر الجيم وهو الاجتهاد في الأمر، لكن لم أسمع أحدًا رواه بالجيم، وقد أثبت ابن قرقول رواية الجيم وعزاها للقابسي، وقال ابن رُشيد: إنما المعنى ما يحد للمريض أن يشهد معه الجماعة، فإذا جاوز ذلك الحد لم يستحب له شهودها، قال: ويمكن أن يقال: معناه "باب الحد الذي للمريض أن يأخذ فيه بالعزيمة في شهود الجماعة"، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: الحد ههنا من الحدة يعني باب فضل تكلف المريض، انتهى.
والأوجه عندي في غرض الترجمة الحض على حضور الجماعة إلى ذلك الحد.
(40 -
باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلى في رحله)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: دلالة الرواية الأولى على هذا المعنى ظاهرة، وأما الرواية الثانية فالظاهر منها وإن كان توقف الإجازة على مجموع العلتين المذكورتين فيها، إلا أن النظر في الروايات يقتضي أن كلًّا من العمى والظلمة والسيل مستقل في إفادة الرخصة في القعود عن الجماعة، أو يقال: إن معنى قول عتبان: أنه يكون الظلمة والسيل، وقد عرفت أنك يا رسول الله ترخص في مثل ذلك أن يتخلف من الجماعة وإني أعمى، وقد علمت أيضًا جواز القعود عند العذر مثل الأعمى فكيف لي وقد اجتمعت لي علتان موجبتان للرخصة، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 152).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 212).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 137).
وفي هامشه: دفع الشيخ بذلك ما يوهمه ظاهر لفظ الحديث من أن مدار الرخصة مجموع العلل الثلاثة من الظلمة، والسيل، والعمى، مع أن هذه الثلاثة كل واحد منها علة مستقلة في الرخصة عند الفقهاء كما بسطها أصحاب الفروع، ثم بسط في الأعذار المسقطة للجماعة.
(41 -
باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟. . .) إلخ
غرض الترجمة واضح، وهو أن ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا في الرحال"، ليس على الإيجاب بل على الإباحة، وبنحو ذلك قال جميع الشرَّاح.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: مقصوده أنه يترك الجماعة والخطبة لعذر المطر أو هل يصلي بالجماعة ويخطب بمن حضر ولو كانوا قليلًا؟ انتهى.
قلت: بقي ههنا شيء لم يتعرض له أحد منهم وهو أن المصنف لم قيد الترجمة بلفظة "هل" الدالة على التردد؟
والأوجه عندي: أنه أشار بذلك إلى مسألة خلافية شهيرة وهي أن أصحاب الأعذار المرخصة للجماعة والجمعة هل تنعقد معهم الجمعة وهل يعتبر بمحضرهم الخطبة أم لا؟ ولذا قارن الإمام البخاري الصلاة بالخطبة، قال الموفق: ما كان شرطًا لوجوب الجمعة فهو شرط لانعقادها، فمتى صلوا جمعة مع اختلال بعض شروطها لم يصح ولزمهم أن يصلوا ظهرًا وحكي عن مالك: أنه كان لا يجعل المطر عذرًا في التخلف عنها، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز أن يكون العبد والمسافر إمامًا فيها ووافقهم مالك في المسافر، فأما المريض ومن حبسه العذر من المطر والخوف، فإذا تكلف حضورها وجبت عليه وانعقدت به، ويصح أن يكون إمامًا فيها لأن
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 213).
سقوطها منهم إنما كان لمشقة السعي، فإذا تكلفوا وحصلوا في الجامع زالت المشقة فوجبت عليهم كغير أهل الأعذار، انتهى.
وعلى هذا فالترجمة من الأصل الثاني والثلاثين من أصول التراجم، نبَّه بلفظ "هل" على أن فيه مجالًا للناظر، انتهى.
والجزء الثاني للترجمة أعني قوله: وهل يخطب يوم الجمعة في المطر، لعل ثبوته بفعل ابن عباس وقد عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه في يوم الجمعة مصرّح في رواية ابن علية، كما صرح به الحافظ
(1)
في "باب الكلام في الأذان".
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "باب هل يصلي الإمام بمن حضر. . ." إلخ، دلالة الرواية الأولى على هذا المعنى من حيث أن ابن عباس لمَّا زاد في النداء قوله: الصلاة في الرحال، عمل بها بعضهم فلم يحضر عملًا بالرخصة، ولم يعمل بها آخرون عملًا بالعزيمة فحضروا، فكان صلاته بهم هي الصلاة بمن حضر، وأما الرواية الثانية فتثبت المدعى من حيث إن أبا سعيد الخدري حضر الصلاة معه فعلم حضور البعض، وقد علم أيضًا أنه كان يرخص لهم في القعود فلا يحضرها بعضهم، انتهى مختصرًا.
وفي هامشه: قال الحافظ
(3)
: مطابقة حديث أبي سعيد من جهة أن العادة في يوم المطر أن يتخلف بعض الناس، وأما قول بعض الشرَّاح: يحتمل أن يكون ذلك في الجمعة، فمردود؛ لأنه سيأتي في "الاعتكاف" أنها كانت صلاة الصبح، وحديث أنس لا ذكر للخطبة فيه، ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل ما في الترجمة، انتهى.
قلت: لا صراحة بالجمعة في الترجمة فلا حاجة لإبداء احتمال أبداه بعض الشرَّاح، فإن الترجمة "الصلاة بمن حضر" مطلقًا بدون قيد الجمعة.
(1)
"فتح الباري"(2/ 97).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 139).
(3)
"فتح الباري"(2/ 158).
(42 -
باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أشار بقوله في الترجمة: "وقلبه فارغ" إلى الجمع بين ما ورد في ذلك الباب من الروايات المختلفة، ففي بعضها تقديم الأكل، وفي الأخرى: لا تؤخر الصلاة لشيء.
وحاصل الجمع: أن تقديم الأكل حيث اشتغل به قلبه، وإلا فلا تؤخر الصلاة، فما ورد من تقديم الطعام من قصة عمر وغيرها محمول على ما إذا شغله الطعام عن الصلاة، والله تعالى أعلم، انتهى.
وفي هامشه: اختلفت الروايات في ذلك كما أفاده الشيخ، واختلفوا في الجمع بينها، قال الشوكاني بعد ذكر أحاديث تقديم العشاء: ظاهر الأحاديث أنه يقدم العشاء مطلقًا، سواء كان محتاجًا إليه أم لا؟ وسواء خشي فساد الطعام أم لا؟ وسواء كان خفيفًا أم لا؟ وخالف الغزالي فزاد "خشية فساد الطعام"، والشافعية فزادوا قيد "الاحتياج" ومالك فزاد قيد "أن يكون الطعام خفيفًا"، وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الأحاديث ابن حزم والظاهرية، ورواه الترمذي عن أحمد وغيره فقال: يجب تقديم الطعام، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قُدِّمَت، وذهب الجمهور إلى الكراهة، وأيضًا ظاهر الأحاديث أنه يقدم الطعام وإن خشي خروج الوقت، وإليه ذهب ابن حزم وهو وجه لبعض الشافعية، وذهب الجمهور إلى أنه إذا ضاق الوقت صلى على حاله محافظة على الوقت، ولا يجوز تأخيرها، انتهى.
قلت: ما حكى الشوكاني من مذهب أحمد من فساد الصلاة عند التقديم يأباه كتبه، قال الموفق
(2)
: قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلَّى بحضرة الطعام، فأكمل صلاته إن صلاته تجزئه، انتهى.
قلت: وحمل الطحاوي في "مشكل الآثار" روايات الباب على الصائم
(1)
"لامع الدراري"(3/ 143).
(2)
انظر: "المغني"(2/ 374).
إلى آخر ما في هامش "اللامع"
(1)
.
(43 -
باب إذا دعي الإمام إلى الصلاة. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: قيل: أشار بهذا الباب إلى أن الأمر في الباب السابق للندب لا للوجوب، وقد فصل بعضهم بين ما إذا أقيمت الصلاة قبل الشروع في الأكل أو بعده، فيحتمل أن المصنف كان يرى التفصيل، ويحتمل تقييده في الترجمة بالإمام أنه كان يرى تخصيصه به دون غيره من المأمومين، قال ابن المنيِّر: لعله صلى الله عليه وسلم أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة، فقدم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة لأنه لا يقوى على مدافعة الشهوة قوته، وأيكم يملك أربه، انتهى.
(44 -
باب من كان في حاجة أهله. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يلحق بحكم الطعام كل أمر يكون للنفس تشوق إليه، إذ لو كان كذلك لم يبق للصلاة وقت في الباب، انتهى.
(45 -
باب من صلَّى بالناس. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لما كان ذلك يوهم أن لا تجوز هذه الصلاة، لما أنه ليس لوجه الله تعالى خاصة، بل المقصود منها التعليم، رد هذا الوهم بأنه لا ينافي الإخلاص، فإن التعليم أيضًا لوجه الله، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(5)
: مقصوده من عقد هذا الباب أنه ليست هذه الصلاة صلاة المرائي، بل فيه ثواب الصلاة للمصلي مع ثواب التعليم أيضًا، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 144).
(2)
"فتح الباري"(2/ 162).
(3)
"فتح الباري"(2/ 162).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 146).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 215).
وقال الحافظ
(1)
: لم يجزم بالحكم لما فيه من إيهام التشريك في العبادة، انتهى.
(46 -
باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة)
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: استدل المؤلف بإمامة أبي بكر على فضله، فحاصل الاستدلال: أن أفضلية أبي بكر معلومة لنا قطعًا بالأحاديث المتواترة المعنى، وعلمنا منه هذه المسألة في الإمامة، وقال بعضهم: إن هذه الإمامة هي الدالة على أفضليته، ولا يخفى أنه حينئذ يلزم الدور في الاستدلال، انتهى.
قال الحافظ
(3)
: قوله: "أحق بالإمامة" أي: ممن ليس كذلك، ومقتضاه أن الأعلم والأفضل أحق من العالم والفاضل، وذكر الفضل بعد العلم من العام بعد الخاص، وسيأتي الكلام على ترتيب الأئمة بعد بابين، انتهى.
وقال السندي
(4)
: يحتمل أن مراده بيان أن أهل العلم أولى بالإمامة من أهل القراءة كما قال الجمهور: إن الأعلم أولى من الأقرأ، وهذا مبني على أن أُبيًّا كان أقرأ القوم كما جاء "أقرؤكم أُبي" ومع ذلك اختار صلى الله عليه وسلم أبا بكر للإمامة لأنه كان أعلم، وعلى هذا فقيل: إن تقديم الأقرأ منسوخ، وقيل: بل تقديم الأقرأ مبني على أن أقرأهم كان أعلمهم، ولا يخفى أن لازم الجواب الثاني أن يكون أُبي أعلمهم لأنه أقرأهم وهو يفسد أصل الاستدلال، والله تعالى أعلم، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 163).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 215).
(3)
"فتح الباري"(2/ 165).
(4)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 124).
قلت: ويمكن التفصي عنه بأن كلًّا من أبي بكر وأُبي بن كعب كانا أقرأهم، وما ورد في حق أبي من كونه أقرأهم فهو من حيث شدة الحفظ وإتقانه، وما قيل: أقرأهم كان أعلمهم فباعتبار كمية القرآن.
(47 -
باب من قام إلى جنب الإمام لعلة)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: أي: هو جائز، لوجود علة مثل كون الإمام ضعيفًا لا يسمع الناس صوته من بعيد، فيقوم واحد إلى جنبه، ويسمع الناس تكبير الإمام وغير ذلك، انتهى.
قال العيني
(2)
: إنما قال هذا؛ لأن الأصل أن يتقدم الإمام على المأموم، ولكن للمأموم أن يقف بجنب الإمام عند وجود أسباب تقتضي ذلك، ثم بسط العيني تلك الأسباب.
(48 -
باب من دخل ليؤم الناس. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: (تأخر الأول أو لم يتأخر. . .) إلخ، أما ثبوت جواز التأخر فبفعل أبي بكر الذي فعله، وأما جواز عدمه فبقوله صلى الله عليه وسلم:"امكث على مكانك" وهذا على رأي البخاري، وأما عندنا فكان تأخر أبي بكر لحصره عن القراءة، ولا يجوز التأخر للإمام لضرورة، انتهى.
كذا في الأصل لضرورة والصواب على الظاهر بدله: إلا لضرورة، وما أفاده الشيخ واضح فإن فيه إثبات جزئي الترجمة بحديث الباب.
وقال الحافظ
(4)
: يشير بالشق الأول وهو ما إذا تأخر إلى رواية عروة عنها في الباب الذي قبله، حيث قال:"فلما رآه استأخر"، وبالثاني وهو ما إذا لم يتأخر إلى رواية عبد الله عنها حيث قال:"فأراد أن يتأخر"، وقد
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 216).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 288).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 151).
(4)
"فتح الباري"(2/ 167).
تقدمت في "باب حد المريض" والجواز مستفاد من التقرير، وكلا الأمرين قد وقعا في حديث الباب، انتهى.
ومال مولانا الشيخ أنور شاه في "الفيض"
(1)
إلى أن المقصود بالترجمة الجزء الأول فقط وذكر له حديثًا، وأما الجزء الآخر يعني قوله:"لم يتأخر" فمن باب التكميل لدفع توهم الاختصاص، انتهى.
قلت: وهذا هو الأصل الرابع والثلاثون من أصول التراجم، انتهى من هامش "اللامع". وفيه أيضًا على قول الشيخ:"وهذا على رأي البخاري": هو المرجح عند الشافعية، وبقول الحنفية قال الجمهور، انتهى.
(49 -
باب إذا استووا في القراءة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: فيه إشارة إلى أن ما ورد في الرواية من تقديم الأكبر سنًّا فإنما هو حيث كانوا مستوين في العلم والقراءة، وإن لم يستووا فيهما فلا تقديم للأسن، انتهى.
قلت: حاصله أن الترجمة شارحة للحديث، وعلى هذا فالترجمة من الأصل الثالث والعشرين، وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: الحديث الذي هو نص في هذه الترجمة أورده مسلم وغيره فكأنه ما وجده على شرطه، انتهى.
قلت: ولفظ حديث مسلم
(4)
: عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًّا" الحديث، وعلى هذا تكون الترجمة من الأصل الأول من أصول التراجم إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(1)
"فيض الباري"(2/ 210).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 154).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 217).
(4)
"صحيح مسلم"(673).
وقال السندي
(1)
: أراد بالقراءة - في الترجمة - ما يستحق به الإمامة أعم من القراءة والعلم، واستواء أصحاب مالك بن الحويرث في ذلك من حيث إنهم كانوا مستوين في الإقامة عنده صلى الله عليه وسلم، والغالب في مثلهم الاستواء في الأخذ، والله تعالى أعلم.
قلت: واختلف الفقهاء في هذه المسألة فعند الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة ومحمد: تقديم الأعلم على الأقرأ، وعند الإمام أحمد وأبي يوسف يقدم الأقرأ.
(50 -
باب إذا زار الإمام قومًا فأمهم)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك أن ما ورد من النهي عن أن يؤم قومًا، فالمراد به ليس هو النهي بإطلاقه بل النهي مقيد بعدم الإذن، انتهى.
وبسط الكلام في هامشه وفيه: المعروف عند شرَّاح البخاري في غرض الترجمة أن الإمام الأعظم إذا زار قومًا لا يحتاج إلى إذنهم في التقدم [على] الإمامة.
قال الحافظ
(3)
: أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك الذي أخرجه أبو داود وغيره "من زار قومًا فلا يؤمهم" الحديث محمول على من عدا الإمام الأعظم إلى آخر ما قال.
وتعقبه العيني
(4)
ومال إلى أن الإمام الأعظم أيضًا محتاج إلى الإذن إذ قال: لم يبين البخاري حكمه هل للإمام ذلك أم يحتاج إلى الإذن؟ فاكتفى بما ذكر في حديث الباب فإنه يشعر بالاستئذان.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 125).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 156).
(3)
"فتح الباري"(2/ 172).
(4)
انظر: "عمدة القاري"(4/ 297).
فالحاصل أنهم اختلفوا في الغرض على ثلاثة مسالك: الأول: ما أفاده والدي في تقريره، وهو مؤدى كلام شيخ المشايخ في "التراجم"
(1)
من أن النهي عن إمامة الزائر مقيد بعدم الإذن، والثاني: ما ذهب إليه الحافظ أن الإمام الأعظم لا يحتاج إلى الإذن، وهو الذي حكاه مولانا محمد حسن المكي في تقريره، والثالث: ما ذهب إليه العيني أن الإمام الأعظم أيضًا يحتاج إليه.
وعندي ظاهر ألفاظ الترجمة يرجح ما أفاده في تقرير المكي، انتهى. من هامش "اللامع"
(2)
مختصرًا.
(51 -
باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: أشار بذكر صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه أنه لا يجب متابعة الإمام فيما إذا ترك الإمام فرضًا لعذر أو لغير عذر، فإنه صلى الله عليه وسلم جلس للعذر، ولم يجلس القوم، ولذلك أورد الآثار فإنه إذا ترك السجدة لأجل الزحام؛ فإنه لا يتابع الإمام إذ يلزم في متابعته رفض الفرض، وذا لا يجوز كما لا يجوز له أن يترك سجدة لكونها فريضة، وكذلك أثر ابن مسعود أورده لتأكيد أن المتابعة واجبة ما لم يترك واجبًا، ومعنى قول الحسن أن الذي لم يتمكن من السجود لأجل الزحام أو غيره ينتظر حتى لو سلم الإمام فإنه لا يسلم بتسليمه؛ لأن في متابعته إذ ذاك ترك الفرض، فإذا وجد فرجة سجد سجدتين للثانية، ثم يعيد الركعة الأولى لعدم الاعتداد بما أداه منها لعدم السجود، انتهى مختصرًا.
وفي هامشه: قال الحافظ
(4)
: هذه الترجمة قطعة من الحديث الآتي في الباب، والمراد بها أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 218).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 159، 160).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 160).
(4)
"فتح الباري"(2/ 174).
الصلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دلَّ الدليل الشرعي عليه، انتهى.
(52 -
باب متى يسجد من خلف الإمام. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أراد بذلك إثبات أن أفعال المأمومين ينبغي أن تقع بعد الإمام بعدية متصلة ليس فيها فصل، إلا أنه إذا كان الإمام كبير السن ضعيف القوى بطيء الحركات وجب التأخير في الابتداء حتى تتحقق البعدية المتصلة في الانتهاء؛ لأنهم لو أخذوا بعده بعدية متصلة في الإتيان بالفعل الذي شرع فيه الإمام لزم فراغهم قبل فراغ الإمام لتبطئه في الحركات وتسارعهم، فأشار إلى أول الدعوى بحديث أنس "إذا سجد فاسجدوا"، فإنه يدل على التعاقب وعدم الفصل، والرواية المذكورة في الباب دالة على فصل في ابتداء فعل الإمام والمأموم، فالنظر إلى مجموعهما يثبت المرام، فكان كل من الروايتين بمنزلة التفسير للأخرى فافهم، انتهى.
وفي هامشه: في غرض الباب ثلاثة احتمالات:
الأول: ما أفاده الشيخ، وحاصله: أن الغرض التنبيه على أن تعقيب أفعال المقتدين كما هو لازم في شروع الفعل، كذلك هو واجب في آخره.
والثاني: أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد فاسجدوا" يوهم أن يقع سجود المؤتم بعد فراغ الإمام عن السجود كما هو ظاهر التعقيب فدفع الإمام البخاري هذا الاحتمال بحديث البراء بأن التعقيب باعتبار الشروع لا باعتبار الفراغ، وهذا خاطري أبو عذره.
والثالث: ما اختاره في "الفيض"
(2)
فارجع إليه لو شئت، ثم ذكر في هامش "اللامع" ههنا مسألة المبادرة من الإمام فقال: ههنا ثلاثة مسائل: التحريمة، والسلام، وبقية الأركان.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 170).
(2)
انظر: "فيض الباري"(2/ 216).
أما الأول: فالأئمة الأربعة متفقون على أن التقدم على الإمام فيها مبطل للصلاة إلا في قول للشافعي غير مرضي عند أصحابه.
وأما الثاني: أي: السلام فالمشهور عن المالكية أن المقارنة في السلام مفسدة فالتقدم بالأولى، وعند الشافعي وأحمد التقدم مفسد والمقارنة مكروهة مع صحة الصلاة، وعند الحنفية التقدم في السلام مكروه غير مفسد، فالمقارنة أولى بعدم الإفساد.
وأما الثالث: أعني بقية الأركان فالجمهور منهم الأئمة الثلاثة على إجزاء الصلاة مع التحريم إلا في رواية لأحمد فالتقدم فيها أيضًا مبطل، وبه قال أهل الظاهر، انتهى.
(53 -
باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام)
قال الحافظ
(1)
: أي: من السجود لرواية ابن خزيمة بزيادة "الذي يرفع رأسه والإمام ساجد" فتبين أن المراد الرفع من السجود ففيه تعقب على من قال: إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معًا، وإنما هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية؛ لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية، انتهى.
وتعقب العيني
(2)
كلام الحافظ أشد التعقب فارجع إليه لو شئت.
(54 -
باب إمامة العبد والمولى. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: المولى العتيق، قال ابن المنيِّر: لم يفصح بالجواز،
(1)
"فتح الباري"(2/ 183).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 310).
(3)
"فتح الباري"(2/ 184).
لكن لوَّح به لإيراده أدلته، ثم قال: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئًا وهم لا يقرؤون فيؤمهم، إلا في الجمعة؛ لأنها لا تجب عليه.
قوله: (وولد البغي والأعرابي) وإلى صحة إمامتهما ذهب الجمهور خلافًا لمالك، وعلَّته عنده غلبة الجهل، انتهى.
قوله: (من المصحف)، قال العيني
(1)
: ظاهره يدل على جواز القراءة من المصحف في الصلاة، وبه قال ابن سيرين، وأجازه مالك في قيام رمضان، وكرهه النخعي وهي مفسدة عند أبي حنيفة؛ لأنه عمل كثير، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز؛ لأن النظر في المصحف عبادة، ولكنه يكره لما فيه من التشبه بأهل الكتاب وبه قال الشافعي وأحمد، انتهى مختصرًا.
وفي هامش "اللامع" وأما أثر عائشة ليس بنص في الباب، لما فيه من الاحتمالات، قال السرخسي في "مبسوطه": ليس المراد بحديث ذكوان أنه كان يقرأ من المصحف في الصلاة، إنما المراد بيان حاله أنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، والمقصود بيان أن قراءة جميع القرآن في قيام رمضان ليس بفرض، انتهى.
ومعناه: أنه كان يقرأ بعض القرآن لا كله، ويحتمل أن يكون المعنى كان يقرأ من القرآن، أي: الآيات منه لا سورة كاملة في ركعة كما أن هذين الطريقين معروفان عند القراء، فبعضهم يقرؤون في كل ركعة سورة قصيرة، وبعضهم الركوعات المتفرقة، ويحتمل أيضًا أن يكون المعنى أنه كان ينظر في المصحف بعد الترويحة إذا تعايا عليه، ثم يقرأ بعد ذلك في الصلاة، وهذا الطريق أيضًا معروف، لا سيما للحفاظ الذين لم يكن عندهم من يفتح عليهم، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 314).
وهذا التوجيه الأخير اختاره شيخ المشايخ في "تراجمه"
(1)
، انتهى.
قوله: (والغلام الذي لم يحتلم)، كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: ولا يصح استدلاله بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أقرؤهم"؛ لأنه لو سلم عمومه لزم جواز إمامة الكافر والمرأة والمجنون، مع أن أحدًا لا يقول به، فكما أنهم يخصون من عموم الأقرئية، كذلك نخصه، أي: الصبي منه، والحجة في تخصيصه النصوص الواردة في عدم تكليفه، انتهى.
وفي هامشه: والمسألة خلافية، قال العيني
(3)
: ظاهره يتناول المراهق وغيره، ويفهم منه أن البخاري يجوز إمامته، وهو مذهب الشافعي أيضًا، ومذهب أبي حنيفة: أن المكتوبة لا تصح خلفه، وبه قال أحمد وإسحاق، وفي النفل روايتان عن أبي حنيفة، وبالجواز في النفل قال أحمد، انتهى.
قال الموفق
(4)
: لا يصح ائتمام البالغ بالصبي في الفرض، وبه قال مالك إلى آخر ما قال.
(55 -
باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه)
كتب الشيخ في "اللامع"
(5)
: لفظ التمام مشير إلى أن ذلك في الأمور الزائدة على نفس الصلاة من السنن والمستحبات، وأما أركان الصلاة وشرائطها، فإن إخلال الإمام بشيء منها يستلزم الإخلال بصلاة من خلفه، ولعل المؤلف لا يقول إلا ما قالته الشافعية من أن فساد صلاة الإمام لا يستلزم فساد صلاة المأمومين، وعلى هذا فالتمام على عمومه، ولا يتقيد بما دون أركان الصلاة وشرائطها، والله أعلم، انتهى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 222).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 179).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 315).
(4)
"المغني"(3/ 70).
(5)
"لامع الدراري"(3/ 184).
وفي هامشه: والمسألة خلافية شهيرة، قال العيني
(1)
: مذهب الشافعية أن صلاة الإمام إذا فسدت لا تفسد صلاة المقتدي، وعند الحنفية تفسد صلاة المقتدي أيضًا، وبقول الشافعي قال مالك وأحمد، انتهى.
قلت: هذا هو المعروف على ألسنة المشايخ، والصحيح أن ذلك متفق عليه عندهم في مسألة الحدث فقط لا في غيرها، وفيه التفاصيل ثم بسطها فارجع إليه لو شئت.
(56 -
باب إمامة المفتون والمبتدع)
قال الحافظ
(2)
: قوله: المفتون، أي: الذي دخل في الفتنة فخرج على الإمام، ومنهم من فسَّره بما هو أعم من ذلك، انتهى.
وقال العيني
(3)
: المفتون، هو من فتن الرجل فهو مفتون إذا ذهب ماله وعقله، ثم ذكر ما تقدم عن الحافظ، وتعقّب عليه حيث قال: هذا التفسير لا ينطبق إلا على الفاتن، لأنه الذي يدخل في الفتنة ويخرج على الإمام، وكان ينبغي للبخاري أن يقول "باب إمامة الفاتن"، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله: "خلف المخنث" وهو الرجل المتشبه بهن أو المشابه بهن، وجواز الصلاة خلفه لكونه رجلًا والكراهة لشبهه بالنسوة
(5)
فإن إمامتهن مفسدة، وقوله في الحديث:"ولو لحبشي" دلالته على الترجمة من حيث إن الحبشي لا يكون إمامًا إلا بالتغلب والجور، أو بأن ينصبه غيره للإمامة، وكل من الحبشيين أمرنا بإطاعته، ومن جملة ذلك الصلاة خلفه فكانت الصلاة خلف الفسقة جائزةً، وهو المراد بالمفتون والمبتدع، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 318).
(2)
"فتح الباري"(2/ 188).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 320).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 185).
(5)
في الأصل: "بالنسبة" وهو تحريف.
قال الكرماني
(1)
: المخنث مفتتن في تشبهه بالنساء كما أن إمام الفتنة والمبتدع كل واحد منهما مفتون في طائفة فلما شملهم معنى الحكم فكرهت إمامتهم إلا من ضرورة، انتهى. والبسط في هامش "اللامع".
(57 -
باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: قوله: "سواء" تأكيد لقوله: "بحذائه" لئلا يتوهم أنه مجاز، وإلا فالمحاذاة تستلزم مساواتهما في المقام، ودلالة الرواية على ذلك من حيث إن المذكور فيها: قوله: "جعلني عن يمينه"، وإثبات أنه كان متخلفًا عنه قليلًا إثبات لأمر زائد، والأصل في لفظ "عن يمينه" هو المحاذاة، وهو الذي اختاره الإمام، وقال صاحباه: يصير وراءه قليلًا ولا يحاذيه سواء، انتهى.
وفي هامشه: في الباب مسألتان:
أولاهما: إن كان المأموم واحدًا يقوم عن يمين الإمام، قال الشعراني: هو قول الأئمة الثلاثة، فإن قام على يساره لا تبطل عندهم، وقال أحمد: إنها تبطل.
والمسألة الثانية: هل يساوي المأموم الإمام أو يتأخر عنه شيئًا؟ كما أشار إليه الشيخ في آخر القول، وميل الإمام البخاري إلى الأول كما هو نص ترجمته، وهو مذهب الحنفية والمالكية، والثاني مذهب الشافعي، انتهى.
(58 -
باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام)
قال الحافظ
(3)
: وعن أحمد تبطل، وعند الجمهور: لا تبطل، انتهى.
وسيأتي مثل هذه الترجمة والجواب عن التكرار هناك.
(1)
"شرح الكرماني"(5/ 78).
(2)
"لامع الدراري"(189).
(3)
"فتح الباري"(2/ 191).
(59 -
باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: لم يجزم بحكم المسألة لما فيه من الاحتمال؛ لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة كما أنه ليس فيه أنه نوى لكن في إيقافه إياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختلف فيها، والأصح عند الشافعية لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة وذهب أحمد إلى أن ينوي في الفريضة دون النافلة، انتهى.
قال العيني
(2)
: وعندنا في حق الرجال ليست بشرط، وفي حق النساء شرط، وقال الشافعي ومالك: ليست بشرط، انتهى.
(60 -
باب إذا طوَّل الإمام وكان للرجل حاجة)
قال الحافظ
(3)
: هذه الترجمة عكس التي قبلها؛ لأن في الأولى جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وفي الثانية جواز قطع الائتمام بعد الدخول فيه، وأما قوله في الترجمة:"فخرج" فيحتمل أنه خرج من القدوة، أو من الصلاة رأسًا، أو من المسجد، قال ابن رُشيد: الظاهر أن المراد خرج إلى منزله فصلى فيه.
قال الحافظ: وليس الواقع كذلك، فإن في رواية النسائي:"فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد"
(4)
وهذا يحتمل أن يكون قطع الصلاة أو القدوة، لكن في "مسلم":"فانحرف الرجل فسلم ثم صلى وحده"
(5)
، انتهى.
وهذا الأخير هو الذي اختاره شيخ المشايخ في "تراجمه"
(6)
.
(1)
"فتح الباري"(2/ 192).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 327).
(3)
"فتح الباري"(2/ 192، 193).
(4)
"سنن النسائي"(ح: 831).
(5)
"صحيح مسلم"(ح: 465).
(6)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 225).
قال العيني
(1)
: واختلف الأئمة فيمن دخل مع إمام في صلاة فصلى بعضها، هل يجوز له أن يخرج منها؟ فعند الشافعية - وإليه مال البخاري - يجوز أن يقطع القدوة، ويتم صلاته منفردًا، وعند الحنفية والمالكية لا يجوز، وعن أحمد روايتان، انتهى.
(61 -
باب تخفيف الإمام في القيام. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أشار بذلك إلى جمع ما ورد في صلاته صلى الله عليه وسلم من ألفاظ ظاهرها المخالفة فيما بينها، فقد ورد أنه كان أخف الناس وإنه كان أخف الناس صلاة في تمام.
وحاصل الجمع: أن التخفيف في القيام بالاقتصار على مقدار السُّنَّة في القراءة والإتمام في الركوع والسجود، ويمكن الجمع بينهما بأنه كان آخذًا بأقل مراتب الإطالة، فهو تمام من جهة إتيان الواجبات على وجهها، وتخفيف باعتبارة ما فوقها من المراتب، انتهى.
وفي هامشه: التوجيه الأول واضح جدير بألفاظ الترجمة بأن متعلق التخفيف القيام، ومتعلق الإتمام الركوع والسجود، ومراعاة السُّنَّة ملحوظة في كليهما، لكن التوجيه الثاني لا يناسب الترجمة فإنها مقيدة بالتخفيف بالقيام والإتمام بالركوع والسجود، ولو يقال هذا في الترجمة الآتية:"باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها" كان أولى، اللَّهم إلا أن يقال: إن الشيخ قُدِّس سرُّه أراد بذلك الجمع بين الروايات لا شرح الترجمة، وهذا هو الفرق عندي بين هذه الترجمة والترجمة الآتية المذكورة آنفًا أن الإيجاز باعتبار أقل مراتب الكمال، والإكمال باعتبار مراعاة الآداب فلا تكرار.
ثم قال الكرماني
(3)
: فإن قلت: الحديث دل على الجزء الأول. قلت: الواو في "وإتمام" بمعنى "مع" كأنه قال: باب التخفيف بحيث
(1)
"عمدة القاري"(4/ 334).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 192).
(3)
"شرح الكرماني"(5/ 82).
لا يفوته شيء من الواجبات فهو تفسير لقوله في الحديث: "فليتجوز"، انتهى.
فالترجمة على هذا شارحة ومخصص لعموم قوله: "فليتجوز"، قال الحافظ
(1)
: والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته.
والأوجه عندي: الترجمة شارحة فهو من الأصل الثالث والعشرين، وعلى ما أفاده الشيخ من الأصل الخامس، وعلى ما أفاده الحافظ من الأصل الحادي عشر، انتهى مختصرًا.
(62 -
باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: لما كان الباب الأول يرد التطويل كان لمتوهم أن يتوهم كراهة التطويل مطلقًا سواء صلى لنفسه أو أم قومًا، فدفعه بإيراد الحديث بعده، انتهى.
وفي هامشه: وعليه عامة الشرَّاح، وعلى هذا فمعنى قوله في الحديث:"فليطول ما شاء" أي: بقدر ما شاء، ولا يبعد عندي أن يكون قوله:"ما شاء" مفعولا والمعنى فليطول أي جزء شاء، كما ورد عن أنس عند "مسلم" وغيره "أنه صلى الله عليه وسلم إذا قال: سممع الله لمن حمده، قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم"، وعلى هذا ففي الترجمة إشارة إلى مسألة خلافية وهي تطويل ركن قصير كما ذكرت في هامشي على "البذل"
(3)
فارجع إليه لو شئت، وتطويل القومة مندوب عند الحنابلة كما بسطه الموفق، وفي "البذل" عن الشوكاني: اختار النووي جواز تطويل الركن القصير بالذكر خلافًا للمرجح في المذهب إلى آخر ما قال، وسيأتي المزيد عليه في "باب حد إتمام الركوع".
(1)
"فتح الباري"(2/ 198).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 195).
(3)
"بذل المجهود"(4/ 304).
(63 -
باب من شكا إمامه إذا طوَّل. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: الغرض منه أنه لا يدخل هذا في الغيبة، انتهى.
(64 -
باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها)
تقدم الكلام عليه قبل بابين.
قال الحافظ
(2)
: ثبتت هذه الترجمة في بعض النسخ وسقطت في البعض، وعلى تقدير سقوطها فمناسبة الحديث من جهة أن من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام لا يشكى منه تطويل، انتهى.
(65 -
باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي)
قال ابن المنيِّر: التراجم السابقة بالتخفيف تتعلق بقدر زائد على ذلك وهو مصلحة غير المأموم، لكن حيث تتعلق بشيء يرجع إليه، كذا في "الفتح"
(3)
، وكتب تحت الباب السابق: روى ابن أبي شيبة قال: "كانوا، أي: الصحابة يتمون ويوجزون ويبادرون الوسوسة" فبين العلة في تخفيفهم، ولهذا عقَّب المصنف هذه الترجمة بالإشارة إلى أن تخفيف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهذا السبب لعصمته من الوسوسة، بل كان يخفف عند حدوث أمر يقتضي كبكاء صبي، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مسألة خلافية شهيرة، وهي إطالة الركوع للجائي، قال الخطابي: استدلوا منه على جواز تطويل الركوع إذا أحس بإقبال الرجل إلى الصلاة ليدركها معهم؛ لأنه إذا جاز الحذف منها بسبب بكاء الصبي كان المكث بسبب الساعي إليها أولى.
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 226).
(2)
"فتح الباري"(2/ 201).
(3)
"فتح الباري"(2/ 202).
قال الحافظ
(1)
: وتعقَّبه ابن المنيِّر بأن التخفيف نقيض التطويل فكيف يقاس عليه إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" وفيه أيضًا: قال الحافظ: وفي المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل، وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك، وفي "التجريد" للمحاملي نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف، وقال محمد: أخشى أن يكون شركاء، انتهى.
وفي "العيني"
(2)
: قال أحمد: ينتظر ما لم يشق على أصحابه، انتهى.
(66 -
باب إذا صلَّى ثم أَمَّ قومًا)
قال الحافظ
(3)
: قال ابن المنيِّر: لم يذكر جواب إذا جريًا على عادته في ترك الجزم بالحكم المختلف فيه، انتهى.
قلت: هذا أصل مطَّرد وهو الأصل الخامس والثلاثون، والمسألة خلافية مبنية على جواز اقتداء المفترض خلف المتنفل، فإن معاذًا لما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه صلى الفرض معه، ثم إذا صلى مع قومه فلا بد أن يكون متنفلًا على قول من قال: إن صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت فرضًا، ومن منع اقتداء المفترض خلف المتنفل حمل صلاة معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم على التنفل، فأصل الاختلاف في صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل.
وفي "الأوجز"
(4)
تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به": قال في "الاستذكار"
(5)
: زاد معن في "الموطأ" عن مالك: فلا تختلفوا عليه، ففيه حجة لقول مالك وأبي حنيفة: إن من خالفت نيَّته نيَّة إمامه بطلت صلاة المأموم، إذ لا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 203).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 343).
(3)
"فتح الباري"(2/ 203).
(4)
"أوجز المسالك"(3/ 54).
(5)
"الاستذكار"(5/ 385).
وقال الأبي
(1)
في "شرح مسلم": وفيه رد على الشافعي والمحدثين في قولهم بصحة صلاة المفترض خلف المنتفل، انتهى.
وعن أحمد روايتان، والمختار عند أكثر أصحابه المنع، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"
(2)
.
(67 -
باب من أسمع الناس تكبير الإمام)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: فيه تصريح بأن أبا بكر لم يكن إمامًا حتى يلزم الائتمام بالمأموم، كما تقدم شيء منه، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: ذكر فيه حديث عائشة والشاهد فيه قوله: "وأبو بكر يسمع الناس التكبير" وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية: "وكان أبو بكر رضي الله عنه يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر"، انتهى مختصرًا.
(68 -
باب الرجل يأتم بالإمام. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(5)
: قوله: "ويأتم الناس بالمأموم" أي: في إتيان الأفعال، وإلا فالائتمام حقيقة بالإمام لا غير، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(6)
: هذا الباب يحتمل معنيين:
أحدهما: يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم يعني أنهم يسمعون منه التكبير، ويكون الإمام في الحقيقة للكل واحدًا.
وثانيهما: يأتمون به حقيقة، وذهب المؤلف إلى كلا الاحتمالين في إمامته صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وإمامة أبي بكر للقوم. وما قال به أحمد
(1)
"شرح الأبي على مسلم"(2/ 296).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 200).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 201).
(4)
"فتح الباري"(2/ 203).
(5)
"لامع الدراري"(3/ 204).
(6)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 227).
من كونه صلى الله عليه وسلم مقتديًا بأبي بكر فاحتمال ثالث لم يقل به المؤلف، انتهى.
وفي كلام الشيخ إجمال مخل، وتوضيحه: أن في قصة أبي بكر ثلاث احتمالات:
الأول: أن الإمام في الحقيقة لجميع الناس كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أبو بكر فكان مبلغًا مسمعًا للناس تكبيره لا غير،
والاحتمال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمامًا لأبي بكر فقط، وأبو بكر كان إمامًا لبقية الناس.
والثالث: الذي اختاره الإمام أحمد أن كان الإمام في هذه القصة أبا بكر لم يذهب البخاري إلى هذا الاحتمال.
ولذا لم يتعرض له في كتابه بل ذهب إلى الاحتمالين الأولين، وأشار إلى الأول بالباب السابق "باب من أسمع الناس تكبير الإمام" وأشار إلى الثاني بهذا الباب، والأول قول الجمهور، والثاني قول الشعبي.
قال الحافظ
(1)
: ولم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة؛ لأنه بدأ بالترجمة الدالة على أن المراد بقوله: "ويأتم الناس بأبي بكر" أنه في مقام المبلغ، وثنى بهذه الرواية التي أطلق فيها اقتداء الناس بأبي بكر، ورشح ظاهرها بظاهر الحديث المعلق، فيحتمل أن يكون يذهب إلى قول الشعبي ويرى أن قوله في الرواية الأولى "يسمع الناس التكبير" لا ينفي كونهم يأتمون به إلى آخر ما قال.
قلت: وصنيع البخاري في تعبير الترجمتين إذ بوَّب الأولى بقوله: "باب من أسمع الناس"، وهذا على ما هو المشهور من دأب المصنف مما لا يرضاه كما تقدم في الأصل الثالث، وترجم بالثاني بـ "باب الرجل يأتم. . ." إلخ، وإليه مال العيني
(2)
إذ قال: والذي يظهر من هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، ومما يؤكد أن ميل البخاري
(1)
"فتح الباري"(2/ 204).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 347).
إلى مذهب الشعبي كونه صدر هذا الباب بالحديث المعلق، فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون به، انتهى.
(69 -
باب هل يأخذ الإمام إذا شك. . .) إلخ
الإمام البخاري لم يجزم فيه بشيء.
والأوجه عندي: أنه نبَّه بلفظ: "هل" في الترجمة على الاختلاف في ذلك، ولم يجزم لقوة الاختلاف فيه فهو من الأصل الثاني والثلاثين والعجب من الحافظ أنه قائل بهذا الأصل كما تقدم في الأصول، ومع ذلك لم يذكره ها هنا بل قال: أورد فيه حديث ذي اليدين في السهو وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إلى آخر ما قال.
والمسألة خلافية شهيرة كثيرة الفروع من جزم الإمام وشكه، وأخبار الواحد والاثنين محلها كتب الفروع وملخصها كما في "الأوجز"
(1)
: إذا شك الإمام لا يرجع إلى قول المأمومين حتى يتيقن بقولهم وهو مذهب الشافعية، وأما عند مالك إذا سلم الإمام وسبح به من خلفه فإن صدقه كمل صلاته وسجد للسهو، وإن شك في خبره سأل عدلين، وجاز لهم الكلام في ذلك، وإن تيقن الكمال عمل على يقينه وترك العدلين، ومذهب الحنابلة كما في "المغني"
(2)
: من سبح به اثنان يثق بقولهما، لزمه الرجوع سواء غلب على ظنه صواب قولهما أو لا، فإن لم يرجع بطلت صلاته، وإن سبح به واحد لم يرجع إلى قوله إلا أن يغلب على ظنه، فيعمل بغلبة ظنه لا بتسبيحه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين وحده، ومذهب الحنفية كما قال ابن عابدين
(3)
: إن كان الإمام على يقين لا يعيد بقولهم وإن كان في الشك يعيد بقولهم، فلو استيقن الواحد بالنقصان، وشك الإمام والقوم أعادوا احتياطًا إلا إذا استيقن عدلان وأخبراه بذلك، انتهى مختصرًا.
(1)
"أوجز المسالك"(2/ 288).
(2)
"المغني"(2/ 412).
(3)
انظر: "رد المحتار على الدر المختار"(2/ 563).
(70 -
باب إذا بكى الإمام في الصلاة)
قال الحافظ
(1)
: أي: هل تفسد أو لا؟ والأثر والخبر اللذان في الباب يدلان على الجواز، انتهى.
والمسألة خلافية شهيرة قال العيني
(2)
: قال أصحابنا: إذا بكى في الصلاة فارتفع بكاؤه فإن كان من ذكر الجنة والنار لم يقطع صلاته، وإن كان من وجع في بدنه أو مصيبة قطعها، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: البكاء والأنين والتأوه يبطل الصلاة إذا كانت حرفين سواء بكى للدنيا أو للآخرة إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(71 -
باب تسوية الصفوف. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: المراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، أو يراد بها سد الخلل الذي في الصف، انتهى.
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: والحجة عليه عموم قوله: "سووا صفوفكم"، وإطلاقه فلا يتقيد بقيد ولا يختص بوقت، وأيضًا قوله:"إني أراكم خلف ظهري" يقتضى الاهتمام بتسوية الصفوف، إذا وقعت ناظرة الإمام عليهم، انتهى. أشار الشيخ بذلك إلى تطابق الروايتين بالترجمة، فإن الترجمة بلفظ:"عند الإقامة وبعدها"، وليس واحد منهما في الروايتين.
فأجاب الشيخ قُدِّس سرُّه: بأن استدلاله بالعموم، وهذا هو الأصل الثاني من أصول التراجم، وجعل الحافظ الترجمة من الأصل الحادي عشر، إذ قال: أشار بذلك إلى ما في بعض الطرق كعادته ففي "مسلم": "أنه صلى الله عليه وسلم قال عندما كاد أن يكبر"، وفي حديث أنس في الباب الذي بعد هذا:"أقيمت الصلاة فأقبل علينا فقال" الحديث، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 206).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 251).
(3)
"فتح الباري"(2/ 207).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 213).
ثم تسوية الصف من سُنَّة الصلاة وليس بشرط في صحتها عند الأئمة الثلاثة، وقال أحمد: من صلَّى خلف الصف وحده بطلت صلاته.
قال الحافظ: وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(72 -
باب إقبال الإمام على الناس. . .) إلخ
سكتوا عن غرضه، والأوجه عندي: أنه إشارة إلى أن الإمام إذا توجه إلى القبلة ثم أعرض عنه للتسوية فليس هذا بإعراض عن التوجه إلى الله الذي شرعه، ويحتمل أنه تنبيه للإمام على أن من آدابه التعرض للتسوية، ولا يتوهم أن التسوية حق المأمومين وليس من وظائف الإمام.
(73 -
باب الصف الأول)
قال الحافظ
(1)
: المراد به ما يلي الإمام مطلقًا، وقيل: أول صف تام يلي الإمام، لا ما تخلله شيء كمقصورة، وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلَّى آخر الصفوف، قاله ابن عبد البر.
قال النووي: القول الأول هو الصحيح المختار وإليه أشار البخاري، انتهى.
فكأن البخاري أشار بالترجمة إلى رد ما قاله ابن عبد البر؛ لأنه لا تبقى حينئذ حاجة إلى الاستهام.
(74 -
باب إقامة الصف من تمام الصلاة)
قال الحافظ
(2)
: قال ابن رُشيد: إنما قال البخاري في الترجمة: "من تمام الصلاة" ولفظ الحديث: "من حسن الصلاة"؛ لأنه أراد أن يبيّن أنه المراد بالحسن هنا، وأنه لا يعني به الظاهر المرئي من الترتيب، بل المقصود
(1)
"فتح الباري"(2/ 208).
(2)
"فتح الباري"(2/ 209).
منه الحسن الحكمي بدليل حديث أنس، وهو الثاني من حديثي الباب.
قلت: ويحتمل عندي أنه إشارة إلى أن لفظ الإقامة في الحديث الذي استدل به بعض الظاهرية على وجوب التسوية هو بمعنى التمام، فقد قال ابن دقيق العيد كما في "الفتح"
(1)
: قد يؤخذ من قوله: "تمام الصلاة" الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، انتهى.
(75 -
باب ثم من لم يتم الصفوف)
قال الحافظ
(2)
: قال ابن رُشيد: أورد فيه حديث أنس "ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف" وتعقب بأن الإنكار قد يقع على ترك السُّنَّة فلا يدل ذلك على حصول الإثم، ثم أجاب عنه الحافظ بأجوبة عديدة.
والأوجه عندي ما قال السندي
(3)
في الجواب بأنه أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: "سووا" ونحوه لا يفيد مطابقة هذا الحديث بالترجمة ودلالته عليها، بل يصير الدليل على الترجمة حديث:"سووا" ونحوه لا هذا الحديث إلا أن يقال: قد لا تكون الترجمة للاستدلال بالحديث عليها بل لبيان ما هو الصحيح في محمل الحديث بدلائل أخر، فها هنا بالترجمة أفاد أن إنكار أنس محمول على إنكار على ترك الواجب لا على إنكار على ترك السُّنَّة بدليل "سووا صفوفكم" ونحوه، وقد يقال: إن الحديث يدل على أن ترك إقامة الصفوف خلاف ما كان عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم والأصل فيه هو التأثيم، إلى آخر ما قال.
قلت: حاصله: أن الأصل في المخالفة الإثم، وحاصل التأويل الأول أن الترجمة شارحة.
(1)
"فتح الباري"(2/ 209).
(2)
"فتح الباري"(2/ 209).
(3)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 133).
(76 -
باب إلزاق المنكب بالمنكب)
في تقرير مولانا حسين علي الفنجابي عن شيخه الكَنكَوهي: اعلم أنه لا يتصور إلصاق الكعبين والمنكبين من الجانبين إلا لبعض الناس بتكلف وهيئة غير هيئة الصلاة والخضوع، فالمراد القرب والمحاذاة في الكعبين، وكذا المراد في المنكبين، ألا ترى إلى من لم يكن قدماه مساويين - أي: بقدمي صاحبه - وكذا المراد من إلصاق القدم، انتهى.
وبهذا قال الجمهور: إن المراد شدة القرب لا الإلصاق الحقيقي.
قال الحافظ
(1)
: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله، انتهى.
وهكذا قال العيني
(2)
والقسطلاني، وأبدع عندي الإمام البخاري في الترجمة إذ ترجم بإلزاق المنكب والقدم؛ لأن حقيقة الإلصاق لا يتصور في المناكب إلا أن يكون كل الصف مساوي القامة، وكذا إلصاق القدم لا يمكن إلا أن يكون كلهم متساوية الأقدام، وهذان ممتنعان عادة فترجم بهما البخاري إشارة إلى أنه لا يمكن فيهما إلا المبالغة في القرب والمحاذاة لا الإلصاق الحقيقي، ثم ذكر حديث النعمان تعليقًا للإشارة إلى أن ما هو المراد في الأولين هو المراد في الثالث لاتحاد سياق الروايات إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(77 -
باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: تقدم أكثر لفظ هذه الترجمة قبل بنحو من عشرين بابًا لكن ليس هناك لفظ "خلفه" وقال هناك: "لم تفسد صلاتهما" بدل
(1)
"فتح الباري"(2/ 211).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 360)، و"إرشاد الساري"(2/ 416).
(3)
"فتح الباري"(2/ 211).
قوله: "تمت صلاته" ولم ينبِّه أحد من الشرَّاح على حكمة هذه الإعادة، والذي يظهر لي أن حكمهما مختلف لاختلاف الجوابين، فقوله: لم تفسد صلاتهما، أي: بالعمل الواقع منهما لكونه خفيفًا وهو من مصلحة الصلاة أيضًا، وقوله:"تمت صلاته" أي: المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولًا مع كونه في غير موقفه، ولأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: هذا الحديث، أي: حديث ابن عباس أخرجه المؤلف في مواضع، ويستنبط منه في كل موضع ما يتعلق بذلك الموضع من الأحكام، وقد أكثر مثله في كتابه هذا وهو يدل على قوة اجتهاد المؤلف فإنه استنبط كل جزئي من الحديث مع قلة الصحيح منه، ومطلب هذا المقام يتعلق بمسألة الجماعة، فإن سُنَّة القيام إذا كان المأموم فردًا واحدًا أن يقوم عن يمين الإمام، ومع ذلك لو قام عن يساره لم تفسد صلاته، انتهى.
وفي "الفيض"
(2)
: الوجه في التكرار أن المقصود أولًا كان بيان موضع الإمام والمأموم فقط وذكر مسألة التحويل إنجازًا وها هنا هي المقصودة، أو يقال: إن المقصود في الأولى بيان العمل القليل والكثير، وها هنا بيان تمامية الصلاة مع أن بعضها صليت على خلاف ترتيب موضع المأموم حتى حوله عنه، انتهى.
وبسطت في نقل كلامهم بتمامه ليظهر اختلاف آرائهم في الفرق بين الترجمتين، ولم يتعلق بقلبي الجريح شيء من ذلك، بل ما يظهر لهذا العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم أن غرض الترجمتين مختلف جدًا، ولا شائبة للتكرار لاختلاف غرض الترجمتين، وإن قاربت ألفاظهما فهو من الأصل
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 228، 229).
(2)
"فيض الباري"(2/ 237).
الثاني والعشرين، وما ذكروا من الفرق بينهما بحمل إحداهما على العمل الكثير، لو صح لا يناسب المقام؛ لأن مسألة العمل الكثير محلها "باب العمل في الصلاة" تأتي في محلها وليس ها هنا إلا محل أحكام الصفوف والإمامة والاقتداء ونحوها.
فالظاهر عندي: أن مقصود الترجمتين الإشارة إلى مسألتين خلافيتين شهيرتين، الأولى منهما بيان موقف الإمام والمأموم إذا كان واحدًا وأن من خالف موقفه تصح صلاته عند الجمهور خلافًا للإمام أحمد إذ قال: إنه تفسد صلاته، فهذه المسألة هي غرض الترجمة الأولى عندي، ولذا ترجم فيها "لم تفسد صلاتهما"، وأما هذه الترجمة الثانية فغرضها عندي تقدم المأموم على إمامه، ولذا قيَّد هذه الترجمة بلفظ "خلفه"، ولم يذكر هذه اللفظة فيما سبق؛ لأنه كان مسألة أخرى لا تعلق لها بخلفه، وهذه كانت متعلقة بالتقدم على الإمام، فقيَّد الصحة فيها بخلفه، قال الموفق
(1)
: السُّنَّة أن يقف المأموم خلف الإمام، فإن وقفوا قدامه لم تصح، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: تصح إلى آخر ما بسط، فغرض الترجمة الأولى تأييد للجمهور، ورد على الإمام أحمد في مسألة الموقف، وغرض الترجمة الثانية تأييد للجمهور، ورد على قول مالك في مسألة التقدم على الإمام، انتهى.
(78 -
باب المرأة وحدها تكون صفًا)
قال الحافظ
(2)
: أي: في حكم الصف، وبهذا يندفع اعتراض الإسماعيلي حيث قال: الشخص الواحد لا يسمى صفًا، وأقل ما يقوم الصف باثنين، انتهى.
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك أن الصبي كما يقام في
(1)
"المغني" لابن قدامة (3/ 52).
(2)
"فتح الباري"(2/ 212).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 221).
الصف عند توحده، وكونه ليس معه غيره، فالمرأة ليست كذلك بل تقام خلف الرجال، سواء كان معها غيرها من النسوة أو انفردت، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(1)
: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه ابن عبد البر من حديث عائشة مرفوعًا: "المرأة وحدها صف"، انتهى. وهو الأصل الأول من أصول التراجم.
قال الحافظ
(2)
: قال ابن رُشيد: الأقرب أن البخاري قصد أن يبين أن هذا مستثنى من عموم الحديث الذي فيه: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" يعني: أنه مختص بالرجال، والحديث المذكور أخرجه ابن حبان وفي صحته نظر، إلى آخر ما قال.
ثم المسألة إجماعية، قال ابن عبد البر في "الاستذكار"
(3)
: لا خلاف في أن سُنَّة النساء القيام خلف الرجال ولا يجوز لهن القيام معهم في الصف، ومع ذلك لو قامت بجنب الرجل اختلفوا في صحة الصلاة، وهي مسألة المحاذاة المعروفة، فعند الجمهور أجزأت صلاتهما، وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة، انتهى مختصرًا.
(79 -
باب ميمنة المسجد والإمام)
قال الحافظ
(4)
: كأنه أشار إلى ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن البراء قال: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه"
(5)
. ولأبي داود بإسناد حسن عن عائشة مرفوعًا: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"
(6)
، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 212).
(2)
"فتح الباري"(2/ 213).
(3)
"الاستذكار"(6/ 155).
(4)
"فتح الباري"(2/ 213).
(5)
"سنن النسائي"(ح: 822).
(6)
"سنن أبي داود"(ح: 676).
وقال العيني
(1)
: أي: هذا باب في بيان أن ميمنة المسجد والإمام هي مكان المأموم إذا كان وحده، انتهى.
قلت: وفيه أنه قد تقدم موقف المأموم الواحد في "باب يقوم عن يمين الإمام. . ." إلخ، وكان في قلبي من سالف الزمان أن غرض الإمام بذلك بيان اتحادهما دفعًا لما يتوهم من أن ميمنة أحدهما ميسرة الآخر لأن وجه المسجد إلى الإمام، ثم رأيت ذلك في تقرير المكي تحت قوله في الحديث: عن يمينه، أي: ويمينه ميمنة وميمنة المسجد أيضًا، وليس المراد بميمنة المسجد ميمنة الحقيقية فإنها ميسرة الإمام، انتهى.
وقال السندي
(2)
: قال الكرماني: دلالته على يمين المسجد لأن يمين الإمام يمينه، قال السندي: لأن وجه المسجد إلى الكعبة كوجه الإمام لأن المساجد بنيت متوجهة إليها، ولا تعتبر المواجهة بين الإنسان والمسجد حتى ينقلب الأمر بالعكس، انتهى. والبسط في هامش "اللامع".
(80 -
باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط)
أشار الإمام البخاري إلى مسألة خلافية كثيرة الفروع، أشار إلى بعضها الإمام فيما ذكر في الترجمة من الآثار، وهي موانع الاقتداء باعتبار المكان، والمعروف على ألسنة المشايخ، وهو الذي أشار إليه الشعراني في "الميزان" أن اختلاف المكان مانع عن الاقتداء عند الحنفية بخلافهم، والحائل مانع عندهم بخلاف الحنفية، وظاهر تبويب البخاري أن كليهما لا يمنعان الاقتداء.
قال الحافظان
(3)
ابن حجر والعيني: ما في الباب يدل على أن ذلك جائز وهو مذهب المالكية، وقال أبو حنيفة: لا تجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة في الطريق، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 365).
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 133)، و"شرح الكرماني"(5/ 99).
(3)
"فتح الباري"(2/ 214)، و"عمدة القاري"(4/ 366).
قال القسطلاني
(1)
: إذا جمعهما مسجد، وعلم بصلاة الإمام بسماع تكبير أو تبليغ جاز عند الشافعية، وقال الموفق
(2)
: إن كان بين الإمام والمأموم حائل يمنع رؤية الإمام، أو من ورائه، ففيه روايتان: إحداهما: يصح، والثانية: لا يصح، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(81 -
باب صلاة الليل)
هذه الترجمة من أصعب التراجم لكونها في غير محلها.
قال القسطلاني
(3)
: كذا في رواية المستملي وحده، ولا وجه لذكره ههنا؛ لأن الأبواب ههنا في الصفوف، وصلاة الليل بخصوصها أفرد لها المصنف كتابًا مفردًا في هذا الكتاب، انتهى.
قال الحافظ
(4)
: ولم يعرّج عليه أكثر الشرَّاح، وهو وجه السياق، ولما كانت الصلاة بالحائل يتخيل أنها مانعة من إقامة المف ترجم لها وأورد ما عنده فيها، فأما صلاة الليل بخصوصها فلها كتاب مفرد سيأتي في آخر الصلاة، وكأن النسخة وقع فيها تكرير لفظ:"صلاة الليل" وهي الجملة في آخر الحديث الذي قبله فظن الراوي أنها ترجمة مستقلة فصدرها بلفظ: "الباب"، وقد تكلف ابن رُشيد توجيهًا بما حاصله: أن من صلى بالليل مأمومًا في الظلمة كانت فيه مشابهة بمن صلى وراء حائل، وأبعد منه من قال: يريد إن من صلى بالليل مأمومًا في الظلمة كان كمن صلى وراء حائط، ثم ظهر لي احتمال أن يكون المراد صلاة الليل جماعة فحذف لفظ جماعة، والذي في أبواب التهجد إنما هو حكم صلاة الليل وكيفيتها في عدد الركعات ونحو ذلك، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(5)
: أن المؤلف أورد هذا الباب في هذا
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 419).
(2)
"المغني"(3/ 45).
(3)
"إرشاد الساري"(2/ 419).
(4)
"فتح الباري"(2/ 215).
(5)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 230).
المقام لإفادة جواز الجماعة في النوافل على خلاف مذهب الحنفية، وذلك لأن صلاة التراويح لم تكن في ذلك الوقت من المؤكدات بل كانت كسائر النوافل والسنن، فلما جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة فيها علم منه تجويزها في كل نفل وإن كان الأفضل أداءها في البيوت منفردًا تحرزًا عن شبهة الرياء، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري لما أثبت في الباب السابق صحة الائتمام بحيلولة الجدار ونحوه أثبت بهذا الباب مرامه بوجه آخر، وهو الاقتداء في الليل، فإنه يدل على صحة الاقتداء في الظلمة مع أنه لا يرى فيه المؤتم الإمام، فثبت بذلك مرامه الأول بالالتزام، ولذا أفرد له بابًا لثبوته بالالتزام دون النص، وهذا هو الذي قاله ابن رُشيد وغيره، وليت شعري كيف جعله الحافظ بعيدًا مع أنه جدير بل أجدر بشأن البخاري لدقته في الاستنباط، وعلى هذا لا يرد على المصنف إيراد الترجمة على غير ملحها، انتهى من هامش "اللامع"، وبسط فيه الأبحاث الفقهية المناسبة بالمقام.
(82 -
باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أراد بالتكبير تكبيرة الافتتاح، فيكون الافتتاح لازمًا لها، وصار المعنى باب بيان افتتاح الصلاة بما هو، انتهى.
وفي هامشه: ههنا عدة أبحاث، الأول: في صحة كلام الإمام البخاري في الترجمة فإن ظاهر سياقه أنه ترجم بترجمتين: الإيجاب والافتتاح، وظاهر مقصده أنه أراد بيان وجوب تكبيرة الافتتاح، فأوَّلوا كلامه بوجوه: منها ما أفاده الشيخ وهو واضح أن المراد بالتكبير تكبيرة الافتتاح، وقوله: والافتتاح كأنه عطف تفسير، ومنها ما قالته الشرَّاح.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 233).
قال الحافظ
(1)
: الظاهر أن الواو عاطفة إما على المضاف، وهو إيجاب، وإما على المضاف إليه، والأول أولى، إن كان المراد بالافتتاح الدعاء؛ لأنه لا يجب، والذي يظهر من سياقه أن الواو بمعنى مع، وأن المراد بالافتتاح الشروع في الصلاة إلى آخر ما قال.
وتعقبه العيني
(2)
فقال: لا نسلم أن الواو ههنا عاطفة، بل الواو ههنا إما بمعنى الباء، والمعنى إيجاب التكبير بافتتاح الصلاة، وإما بمعنى لام التعليل، أي: لأجل افتتاح الصلاة إلى آخر ما قال.
قلت: والأوجه عند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربه العزيز أن الواو عاطفة، وقوله:"افتتاح الصلاة" تنبيه على أنه لما فرغ عن مقدمات الصلاة أراد بيان صفة الصلاة فقال: افتتاح الصلاة كما ترجم أبو داود على صفة الصلاة بقوله: "باب تفريع استفتاح الصلاة"، وترجم هكذا النسائي ومالك وابن ماجه، وهذا شائع عند المحدثين، ويرد عليه أنه كان ينبغي له حينئذ أن يقول:"باب افتتاح الصلاة وإيجاب التكبير" لأن تكبير التحريمة أيضًا داخل في صفة الصلاة، ولا يبعد عندي أنه أشار بذلك التقديم والتأخير كدأبه في بدائع التراجم إلى ترجيح قول الحنفية في مسألة خلافية، وهي أن تكبيرة الافتتاح ركن الصلاة كما قال به الجمهور، أو شرط لها، كما هو عند الحنفية، فلا يبعد أن الإمام البخاري أيضًا مال إلى أنه شرط مقدم على الصلاة، ولذا بدأ بإيجاب التكبير وثنى بافتتاح الصلاة، انتهى. وبسط الكلام فيه أشد البسط.
(83 -
باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: لا يقدم الرفع على التكبير ولا يؤخره عنه، دلالة الرواية عليه لكون الرفع في الرواية، قد وقع ظرفًا للافتتاح أو جزاء له، وأيًّا ما كان فالاتصال بينهما ثابت، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 216).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 373).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 240).
قلت: الأوجه عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى مسألتين خلافيتين:
الأولى: رفع اليدين في التكبيرة الأولى، وهذا الرفع وإن كان مجمعًا عليه عند الجمهور حتى حكى عليه الإجماع، ومع ذلك ففيه اختلاف معروف من أنه سُنَّة عند الجمهور، وفرض عند ابن حزم لا تجوز الصلاة إلا به، وروي الوجوب عن داود وغيره، قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الوجوب لا تبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي، وقيل: لا يستحب، حكاه الباجي عن كثير من المالكية، فأشار البخاري بأول الترجمة إلى تأييد الجمهور ردًا على من أنكره.
والمسألة الثانية: هي التي أشار إليها الشيخ وهي مقارنة الرفع التكبير، وهي أيضًا خلافية، فالمرجح عندنا الحنفية تقديم الرفع، وحكى المغني عن الحنابلة رواية واحدة، وهي المقارنة، والأصح عند الشافعية والمالكية أيضًا المقارنة.
(84 -
باب رفع اليدين إذا كبر. . .) إلخ
قال الحافظ
(1)
: قد صنَّف البخاري في هذه المسألة جزءًا مفردًا، انتهى.
قلت: والمسألة من أشهر المسائل الخلافية بسط الكلام عليها الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"
(2)
أشد البسط من دلائل الفريقين والكلام عليها، والجواب عن أدلة القائلين بالرفع، وشيء من الكلام على ذلك في "الأوجز"
(3)
، وبسط فيه في بيان وجوه الترجيح لعدم الرفع باثني عشر وجهًا، فارجع إليه لو شئت.
(1)
"فتح الباري"(2/ 219).
(2)
انظر: "بذل المجهود"(4/ 11).
(3)
انظر: "أوجز المسالك"(2/ 82).
(85 -
باب إلى أين يرفع يديه)
قال الحافظ
(1)
: لم يجزم المصنف بالحكم كما جزم به قبل وبعد جريًا على عادته لقوة الخلاف فيه، لكن الأرجح عنده محاذاة المنكبين لاقتصاره على إيراد دليله، انتهى. وبه جزم العيني.
وفي "الأوجز"
(2)
تحت قوله في حديث ابن عمر: رفع يديه حذو منكبيه، قال الزرقاني
(3)
: وبهذا أخذ مالك والشافعي، وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث، وفيه: حتى يحاذي بهما أذنيه، انتهى.
قلت: لكن في "مختصر عبد الرحمن وفضائلها": رفع اليدين عند الإحرام حتى تقابلا الأذنين، انتهى.
وكذا كلام الباجي يدل على أن مالكًا يوافق الحنفية إلى آخر ما فيه، وحقق فيه أيضًا أن هذا الخلاف لفظي كما نقل عن ابن الهمام وغيره.
(86 -
باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين)
غرض الترجمة ومطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة.
قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"
(4)
: هذا الحديث أخرجه البيهقي والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، قال في "الجوهر النقي" بعد ذكر هذا الحديث: وفيه زيادة على ذلك، وهي الرفع عند القيام من الركعتين، وهي زيادة مقبولة، ولم يقل بها الإمام الشافعي، فما لزم خصمه من القول بزيادة الرفع عند الركوع والرفع منه لزمه مثله من القول بزيادة الرفع عند القيام من الركعتين، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 221).
(2)
"أوجز المسالك"(2/ 28).
(3)
انظر: "شرح الزرقاني"(1/ 157).
(4)
"بذل المجهود"(4/ 11).
(87 -
باب وضع اليمنى على اليسرى)
قال العيني
(1)
: الكلام في وضع اليد على اليد في الصلاة على وجوه:
الأول في أصل الوضع، فعندنا يضع، وبه قال الشافعي وأحمد، والمشهور عن مالك أنه يرسله.
والثاني في صفة الوضع: وهي أن يضع بطن كفه اليمنى على رسغه اليسرى، فيكون الرسغ وسط الكف، وفي "الدراية"
(2)
: يأخذ كوعه الأيسر بكفه الأيمن، وبه قال الشافعي وأحمد.
والثالث في مكان الوضع: فعندنا تحت السرة، وعند الشافعي على الصدر، انتهى.
وفي "البذل"
(3)
عن الشوكاني: مذهب جمهور الشافعية هو أن الوضع يكون تحت صدره فوق سرته، وعن أحمد روايتان، انتهى مختصرًا.
قلت: ومختار الخرقي تحت السرة كما عند الحنفية.
(88 -
باب الخشوع في الصلاة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: لعل المراد بالخشوع السجود، ودلالة الرواية الأولى على الترجمة من حيث إرادة السجود بلفظ الخشوع في الرواية الأولى، ويمكن أن يكون على حقيقة معناه، فالمراد بالسجود في الرواية الثانية هو الخشوع لكونهما متلازمتين، فإن السجدة وهو وضع الجبهة أعلى درجات المسكنة والخشعة، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاد الشيخ من التوجيه الأول يشكل عليه أن الترجمة تكون في غير محلها، فإن أبواب السجود تأتي في محلها، فالصواب هو
(1)
"عمدة القاري"(4/ 388).
(2)
انظر: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(1/ 128).
(3)
"بذل المجهود"(4/ 112).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 243).
التوجيه الثاني، ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري ذكر "باب الخشوع" متصلًا بأبواب الرفع المذكورة تنبيهًا وإشارة إلى مسلك من اختار عدم الرفع في المواضع المذكورة، لكونه أقرب إلى السكون وهو الخشوع، وأما حكم الخشوع فقال الحافظ
(1)
: قد حكى النووي الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يرد عليه قول القاضي حسين: إن مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حد يذهب معه الخشوع أبطلت الصلاة لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق، أو المراد بالإجماع أنه لم يصرح أحد بوجوبه إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(89 -
باب ما يقرأ بعد التكبير)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أورد فيه روايتين، الأولى: بيان ما يبدأ فيها جهرًا، والثانية: ما فيها المبدوء به سرًّا، وهو الدعاء، انتهى.
وفي هامشه: اختلفوا في غرض المصنف، وعامة الشرَّاح على أن الغرض بيان الدعاء في الاستفتاح، وقال شيخ الهند قُدِّس سرُّه في "تراجمه": إن المؤلف مرة يصرح بالترجمة لكن غرضه لا يكون ظاهر العبارة، بل ما يثبت بالالتزام أو بالإشارة جليًّا كان أو خفيًّا، يظهر مقصوده بعد التأمل في أحاديث الباب، ومن لم يتأمل وقنع على الظاهر يقع في التكلف والتخبط.
ثم قال بعد ذكر بعض أمثلته: وهكذا قال: "باب ما يقول بعد التكبير"، وأدخل فيه حديث الكسوف أيضًا فأشكل التوفيق فتكفوا، والوجه عندنا أن بعد التأمل في أحاديث الباب يفهم أن غرض المؤلف من هذا الباب إثبات التوسع في دعاء الافتتاح، وتركه رأسًا، وعدم تعيين الدعاء المخصوص لزومًا، وأن الدعاء ثابت بعد التكبير متصلًا ومنفصلًا، وحينئذ
(1)
"فتح الباري"(2/ 226).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 247).
ينطبق جميع الأحاديث المذكورة في ال
باب
، وليس غرضه من هذا الباب تعيين الدعاء، انتهى.
والأوجه عندي: أن غرض المصنف بهذا الباب إشارة إلى مسألة خلافية شهيرة، وهي أن دعاء الاستفتاح مندوب عند الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة على الاختلاف بينهم في تعيين الدعاء خلافًا للإمام مالك إذ لم يقل بدعاء الاستفتاح، وقال باستفتاح الصلاة بالقراءة لحديث أنس هذا، فهذا من الأصل الرابع من أصول التراجم، لم يجزم الإمام في الترجمة بشيء، وأتى في الباب بالروايتين المختلفتين استدل بهما الفريقان، انتهى.
(90 - باب)
بغير ترجمة، كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قوله: "فقام فأطال القيام" فيه الترجمة فإن الثابت بفعله صلى الله عليه وسلم هذا إطالة القيام، فجاز أن يطيل القيام أعم من أن يأتي فيه بالقراءة أو الدعاء، ويمكن أن يقال: إن الباب معقود لبيان ما يقرأ بعد الافتتاح، لكنه أفرد الباب ههنا؛ لأن الروايتين الأوليين دلتا على ما يقرأ بعد الافتتاح صراحة، وههنا لم يثبت الحكم إلا بقرينة المقام، وعلى هذا فالروايات الثلاثة بأسرها دالة على ما يقرأ بعد التكبير، ولا يبعد أن يقال: إن الباب معقود لبيان ذكر الثناء قبل القراءة لا غير، انتهى.
وفي هامشه: قال الحافظ
(2)
: قوله: "باب" كذا في رواية الأصيلي بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر وغيره، وعلى هذا فمناسبة حديث الكسوف غير ظاهرة للترجمة، وعلى تقدير ثبوت لفظ باب فهو كالفصل من الباب الذي قبله، فله به تعلق.
قال الكرماني
(3)
: إن دعاء الافتتاح مستلزم لتطويل القيام، وحديث الكسوف فيه تطويل القيام فتناسبا، إلى آخر ما قال، ولا يبعد عندي أن
(1)
"لامع الدراري"(3/ 247).
(2)
"فتح الباري"(2/ 231).
(3)
"شرح الكرماني"(5/ 114).
الإمام البخاري ترجم بما يقرأ بعد التكبير وذكر بعد ذلك ثلاث روايات، إحداهن: في الفاتحة، والثانية: في الدعاء، ولما كانت الفاتحة واجبة والدعاء سُنَّة قدم الأولى على الثانية، والرواية الثالثة: في ضم السورة، ولما كان ضم السورة بعد الفاتحة حتمًا فصل بينهما في الباب تنبيهًا على تأخر السورة عن الفاتحة، والثلاثة داخلة فيما يقرأ بعد التكبير.
وترجم صاحب "التيسير" على حديث الكسوف "باب العمل في الصلاة"، ثم قال: لم يذكر في بعض النسخ الترجمة أصلًا، وفي بعضها ذكر الترجمة المذكورة، وهو أيضًا لا يناسب، انتهى.
قلت: لأن باب العمل في الصلاة يأتي في محله، ثم هذا الباب لم يذكره شيخ الهند قُدِّس سرُّه في الجدول الرابع الذي جمع فيه الأبواب بلا ترجمة.
(91 -
باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
في الباب الآتي "باب رفع البصر إلى السماء. . ." إلخ: لما كان جواز الرفع إلى الإمام يجوز الرفع إلى السماء لكونها متقاربين، وفي جهة دفع ذلك بأن مناط الجواز هو الحاجة وإصلاح الصلاة لكن الغالب في رفع البصر إلى الإمام لما كان هو الإصلاح، وفي رفعه إلى السماء غيره أطلق الأمر والنهي فيهما مع أن الرفع إلى السماء لو كان مفيدًا كالنبي صلى الله عليه وسلم حين انتظر تحويل القبلة جاز، والرفع إلى الإمام لو لم يكن مفيدًا؛ كمن أخذ ينظر إلى ثوبه وعمامته لم يكن جائزًا، ثم إن رفع البصر إلى الإمام قد يجب لعارض؛ كالأصم ائتم بغيره، فإنه لا بد له من الرفع إلى إمامه ليكون من حاله على بصيرة، سيما إذا لم يكن معه غيره، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 251).
وفي هامشه: ظاهر كلام الشيخ أنه حمل البابين على الجواز والكراهة وهو ظاهر سياق البابين لأنه ذكر في الأول رفع البصر إلى الإمام وفي الثاني رفعه إلى السماء على منوال واحد، ولما ذكر في الأول روايات الإباحة وفي الثاني روايات الكراهة، فكلام الشيخ قُدِّس سرُّه واضح جدًا.
لكن الأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار في الباب الأول إلى مسألة خلافية، لكونها أجدر بتراجم البخاري، وهي ما قال الحافظ
(1)
: قال ابن بطال: فيه حجة لمالك أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة، وقال الشافعي والكوفيون: يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع، انتهى. وهو مذهب أحمد كما في "المغني".
وأما المسألة الثانية، وهي التي أشار إليها بالباب الثاني وهي النظر إلى السماء فقد قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء فكرهه شريح وطائفة وأجازه الأكثرون.
قال الحافظ
(2)
: وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع". وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: عقد هذا الباب لما تقرر أن الأولى أن ينظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده ومع ذلك لو رأى إلى إمامه ولم ينظر إلى ذلك الموضع لم تفسد عليه صلاته، والحديث المعلق مناسبته بترجمة الباب باعتبار أنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم نظر قدامه في صلاته، ولم ينظر إلى موضع سجوده، فيقاس عليه المأموم إذا نظر إلى إمامه، وقد مرَّ غير مرة أن البخاري ربما يعقد الترجمة لأمر خاص من بين العام مع أن مراده إثبات ذلك العام، انتهى مختصرًا، وهذا هو الأصل الثامن عشر من أصول التراجم.
(1)
"فتح الباري"(2/ 232).
(2)
"فتح الباري"(2/ 234).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 235).
(92 -
باب رفع البصر إلى السماء. . .) إلخ
تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
(93 -
باب الالتفات في الصلاة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: هذا أيضًا تقييد وتفسير لما تقدم قريبًا من أن الالتفات المذكور من قبل المرخص فيه هو الذي يتضمن إصلاحًا وإلا فهو اختلاس شيطان ينقص به أجره وثوابه، انتهى.
وفي هامشه: والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أطلق الترجمة ولم يجزم فيه بشيء لوسع الاختلاف في حكم الالتفات، وذكر فيه روايتين، الأولى دالة على المنع لكونه اختلاسًا من الشيطان، والثانية على الجواز لنظره صلى الله عليه وسلم إلى الخميصة، فالترجمة عندي من الأصل الرابع من أصول التراجم.
وقال الحافظ
(2)
: لم يبين المؤلف حكمه، لكن الحديث الذي أورده دال على الكراهة وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها للتنزيه وقيل: يحرم إلا لضرورة، وهو قول أهل الظاهر، انتهى.
وبسط الكلام على أنواع الالتفات في "الأوجز"
(3)
، وحاصله: أن الالتفات ثلاثة أنواع: الأول: بالنظر وهو جائز عند الكل، لكن الأولى تركه لأنه ينافي الخشوع، والثاني: بتحويل الوجه هو مكروه عند الكل إلا لضرورة، والثالث: بتحويل الصدر مفسد عند الحنفية والشافعية، وقالت المالكية كما في "الشرح الكبير": كره الالتفات يمينًا وشمالًا ولو بجميع جسده حيث بقيت رجلاه للقبلة بلا حاجة، وإلا فلا كراهة، وعند الحنابلة كما في "نيل المآرب"
(4)
: محل الكراهة إذا كان الالتفات بلا حاجة كخوف
(1)
"لامع الدراري"(3/ 256).
(2)
"فتح الباري"(2/ 234).
(3)
"أوجز المسالك"(3/ 369).
(4)
انظر: "نيل المآرب"(1/ 176).
ومرض، والمراد بالالتفات الذي يكره، ولا تبطل به الصلاة إذا لم يستدبر بجملته ويستدبر القبلة، ويبطلها استدبار القبلة حيث شرط استقبالها، انتهى.
(94 -
باب هل يلتفت لأمر ينزل به)
قال الحافظ
(1)
: الجامع بين جميع ما ذكر في الترجمة حصول التأمل المغائر للخشوع، وأنه لا يقدح إلا إذا كان لغير حاجة، انتهى.
(95 -
باب وجوب القراءة للإمام والمأموم. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: استدل على مدعاه بأن الوارد مطلق عن تقييد بشيء من الصلوات أو المصلين، ثم إن الحسن وزفر ذهبا إلى إيجاب القراءة في ركعة من الفريضة، والحنفية في اثنتين، ومالك في الثلاث، والشافعي في الأربعة، وهو الذي قصد المؤلف إثباته، وأنت تعلم أنه غير ثابت.
نعم! غاية ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها كلها، ونحن لا ننكر ذلك، وإنما النزاع في إثبات ركنيتها فكان دوامه على القراءة كدوامه على الأذان والإقامة وغيرهما من السنن، فعليهم إثبات أن القراءة ركن تفسد الصلاة بعدمها، انتهى.
وفي هامشه: وجه الشيخ قُدِّس سرُّه توجيهًا كليًّا لتطابق الترجمة بالروايات بأن الإمام البخاري أخذ في هذا الباب الاستدلال بالعموم، وهو أصل مطرد وهو الأصل الخمسون، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوجيه في الروايات وإبداء الاحتمالات كما ذكره الشرَّاح ونقل عنهم في هامش "اللامع".
والأوجه عندي: أن هذا الباب بمنزلة الكتاب لأبواب القراءة الآتية كلها فما سيأتي من الأبواب شرح وتفصيل لهذا الباب بمنزلة الباب في
(1)
"فتح الباري"(2/ 235).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 260).
الباب، وهذا مما لا بد منه لئلا يرد ما أوردوا على بعض الأبواب الآتية من أنه لا حاجة لهذا الباب كما قالوا في "باب القراءة في المغرب"، وفي "باب الجهر بالمغرب" وغير ذلك من الأبواب فإنها ليست بأبواب مستقلة، بل تفصيل للقراءة في الصلوات كلها، وما يجهر وما يخافت.
وقال القسطلاني
(1)
: قوله: "باب وجوب القراءة. . ." إلخ، هذا مذهب الجمهور خلافًا للحنفية، حيث قالوا: لا تجب على المأموم، انتهى.
وليت شعري كيف صدر الكلام من مثل العلامة القسطلاني فإن عدم وجوب القراءة على المقتدي مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة غير الشافعي مع الاختلاف بينهم في ندبها للمقتدي، ولا تجب القراءة على المقتدي إلا في قول واحد من أقوال الإمام الشافعي كما بسط في "الأوجز"
(2)
عن فروعهم، فتدبر قول العلامة القسطلاني:"هذا مذهب الجمهور خلافًا للحنفية"، فإن الجمهور عنده اسم لمن هو على مسلكه وإن كانت شرذمة قليلة، ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم لوجوب القراءة مطلقًا، ولم يبوب في صحيحه ترجمة لفاتحة الكتاب خاصة مع تخريجه رواية عبادة بن الصامت الآتية قريبًا، ومن عادته المعروفة أنه يترجم على رواية واحدة عدة أبواب لمسائل مختلفة، فظاهر صنيعه أنه مال في تلك المسألة إلى قول الحنفية: إن الفرض مطلق القراءة وهي رواية لأحمد والأخرى له وهو مذهب الإمامين مالك والشافعي أن الفرض قراءة الفاتحة خاصة.
وقال مولانا العلامة الشيخ أنور في "الفيض"
(3)
: عمم المصنف في الترجمة بالأنواع كلها وجهر به ولم يتكلم في حق المقتدي بحرف، وأخفاه
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 451).
(2)
"أوجز المسالك"(2/ 167).
(3)
"فيض الباري"(2/ 271).
مع أن جملة الخبر ومحط النظر هو ذلك لا غير، وهذا يدل على أن في النفس منه شيء، ولو كان هناك منصف لكفى له صنيع المؤلف رحمه الله وشفاه في هذا الباب، فإنه مع شغفه بإيجاب الفاتحة [على] المقتدي لم يجد إلى إثباته سبيلًا، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" لم يقم عنده دليل على الإيجاب وإلا لجهر به على عادته إلى آخر ما بسطه.
(96 -
باب القراءة في الظهر)
قال الحافظ
(1)
: هذه الترجمة والتي بعدها يحتمل أن يكون المراد بهما إثبات القراءة فيهما وإنها تكون سرًّا إشارة إلى من خالف في ذلك كابن عباس، ويحتمل أن يراد به تقدير المقروء أو تعيينه، والأول أظهر لكونه لم يتعرض في البابين لإخراج شيء مما يتعلق بالاحتمال الثاني، انتهى.
وفي "الفيض"
(2)
: إن المصنف لما لم يجد دليلًا للفرق بين الفاتحة والسورة ترجم على نفس القراءة الفاتحة وغيرها سواء.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: دلالة الرواية على الترجمة على تقدير نسخة العشي ظاهرة وعلى النسخة المكتوبة في المتن وهو قوله: "صلاتي العشاء"، فالمدعى حاصل بالقياس، فلما ثبت القرآن في العشاء يثبت أيضًا في الظهر إذ لا قائل بالفصل، وما نقل عن ابن عباس أنه كان لا يرى القراءة في الظهر والعصر فضعيف أو مؤول، ثم الظاهر أن سعدًا ذكر في كلامه الصلوات الخمس بأسرها من صلاة الفجر، وصلاتي العشى وصلاة العشاء غير أن الرواة اختلفوا في رواية قطعة قطعة منها ولم يستوفوا كلامه، انتهى.
قال الكرماني
(4)
: قوله: "صلاتي العشى" يريد بها صلاتي الظهر، والعصر ليطابق الترجمة، لكن الجوهري قال: العشي من المغرب إلى
(1)
"فتح الباري"(2/ 244).
(2)
"فيض الباري"(2/ 284).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 266).
(4)
"شرح الكرماني"(5/ 125).
العتمة، والعشاء بالكسر والمد مثله، والعشاءان المغرب والعتمة، وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، انتهى.
وعامة الشرَّاح ذكروا المطابقة بلفظ العشي ولم يذكروا المطابقة بلفظ العشاء مع ذكرهم إياه في اختلاف النسخ، انتهى من هامش "اللامع".
(97 -
باب القراءة في العصر)
تقدم الكلام عليه في الباب السابق وعلى ما يؤخذ من الترجمة تصريحًا أو إشارة.
(98 -
باب القراءة في المغرب)
قال الحافظ
(1)
: المراد تقديرها لا إثباتها لكونها جهرية، بخلاف ما تقدم في "باب القراءة في الظهر" من أن المراد إثباتها، انتهى.
(99 -
باب الجهر في المغرب)
قال الحافظ
(2)
: اعترض ابن المنيِّر على هذه الترجمة والتي بعدها بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه وهو عجيب؛ لأن الكتاب موضوع لبيان الأحكام من حيث هي، وليس هو مقصورًا على الخلافيات، انتهى.
(100 -
باب الجهر في العشاء)
قال الحافظ
(3)
: قدَّم ترجمة الجهر على ترجمة القراءة عكس ما صنع في المغرب ثم الصبح، والذي في المغرب أولى ولعله من النساخ، انتهى.
وتعقبه العيني كدأبه فقال
(4)
: المقصود الأعظم بيان الحكم لا الترتيب
(1)
"فتح الباري"(2/ 246).
(2)
"فتح الباري"(2/ 248).
(3)
"فتح الباري"(2/ 250).
(4)
"عمدة القاري"(4/ 470).
في الأبواب، وأيضًا راعى المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله لأنه في الجهر، ورعاية المناسبة مطلوبة، انتهى.
(101 -
باب القراءة في العشاء
بالسجدة)
لعل غرض الترجمة الرد على قول الإمام مالك حيث كره السجدة في الفريضة، يعني: في المشهور عنه، لكن أشكل عليه أن الثابت بالحديث فعل الصحابي والحديث المرفوع ليس فيه السجدة في الصلاة.
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: لا حجة فيه على مالك لأنه ليس مرفوعًا، وغفل من رواية أبي الأشعث عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ:"صليت خلف أبي القاسم فسجد بها"
(2)
أخرجه ابن خزيمة، انتهى.
قلت: الأوجه في الاستدلال قوله: "خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"، فإن هذا اللفظ كالصريح في الصلاة إلا أنه ليس فيه تصريح بصلاة العشاء إلا أن يقال: إنه رضي الله تعالى عنه أومأ إلى الاتباع فيكون إشارة إلى فعله صلى الله عليه وسلم.
(102 - باب القراءة في العشاء)
قد تقدم في "باب وجوب القراءة على الإمام والمأموم" أن الأوجه عندي: أن الأبواب الآتية تفصيل لهذا الباب فكن منه على ذكر.
(103 -
باب يطول في الأوليين. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: أي: من صلاة العشاء، ذكر فيه حديث سعد، وقد تقدم الكلام عليه هناك ووجهه ها هنا إما الإشارة إلى إحدى الروايتين في قوله:"صلاتي العشاء أو العشي" وإما لإلحاق العشاء بالظهر والعصر لكون كل منهن رباعية، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 250).
(2)
"صحيح ابن خزيمة"(ح: 561).
(3)
"فتح الباري"(2/ 251).
(104 -
باب القراءة في الفجر)
قال الحافظ
(1)
: كأن المصنف قصد بإيراد حديثي أم سلمة وأبي برزة في هذا الباب بيان حالتي السفر والحضر، ثم ثلّث بحديث أبي هريرة الدال على عدم اشتراط قدر معين، انتهى.
وأيضًا قال في الباب الآتي: قوله: "قالت أم سلمة رضي الله عنهما" وصله المصنف في "باب طواف النساء" من "كتاب الحج"، ولفظه:"قالت: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: طوفي وراء الناس وأنت راكبة، قالت: فطفت حينئذ والنبي صلى الله عليه وسلم" الحديث، وليس فيه بيان أن الصلاة حينئذ كانت الصبح، ولكن تبين ذلك من رواية أخرى أوردها بعد ستة أبواب ولفظه فقال:"إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي"، وأما ما أخرجه ابن خزيمة بلفظ:"قالت: وهو يقرأ في العشاء الآخرة"، فشاذ إلى أن قال: فعرف بهذا اندفاع الاعتراض الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المذكورة صلاة الصبح فقال: ليس في الحديث بيانها.
قال الحافظ: هو رد للحديث الصحيح بغير حجة، انتهى مختصرًا.
(105 -
باب الجهر بقراءة صلاة الفجر)
قال الحافظ
(2)
: قال ابن رُشيد: ليس في حديث أم سلمة نص على ما ترجم له من الجهر بالقراءة، إلا أنه يؤخذ بالاستنباط من حيث إن قولها:"طفت وراء الناس" يستلزم الجهر بالقراءة لأنه لا يمكن سماعها للطائف من ورائهم إلا أن كانت جهرية، ثم ذكر البخاري حديث ابن عباس في قصة سماع الجن القرآن، والمقصود منه ها هنا قوله:"وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له" وهو ظاهر في الجهر، ثم ذكر حديث ابن عباس أيضًا قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم. . . إلخ.
(1)
"فتح الباري"(2/ 252، 253).
(2)
"فتح الباري"(2/ 254).
ووجه المناسبة منه: ما تقدم من إطلاق قرأ على جهر لكن كان يبقى خصوص تناول ذلك لصلاة الصبح فيستفاد ذلك من الذي قبله، فكأنه يقول: هذا الإجمال ها هنا مفسر بالبيان في الذي قبله؛ لأن المحدث بهما واحد أشار إلى ذلك ابن رُشيد، ويمكن أن يكون مراد البخاري بهذا ختم تراجم القراءة في الصلوات إشارة منه إلى أن المعتمد في ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينبغي لأحد أن يغير شيئًا مما صنعه، انتهى.
(106 -
باب الجمع بين السورتين في ركعة. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك أن فرض القراءة ساقط كيف ما قرأ لإطلاق قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، فلا يتقيد بشيء من القيود، نعم الاستحباب والسُّنِّية شيئان آخران لا ينكر ثبوتهما في بعض دون بعض بالروايات، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح، وفيه حمل للترجمة على أمر متفق عليه، وكأنه حمل عليه الحافظ أيضًا نقلا عن ابن المنيِّر إذ قال: إن جميع ما استدل به البخاري محمول على بيان الجواز، واختاره العلامة العيني أيضًا فتكون الترجمة من الثامن عشر من أصول التراجم، ولا يبعد عند هذا العبد الضعيف أن الترجمة من أصل آخر معروف من أصول التراجم المتقدمة في الجزء الأول، وهو الأصل الثالث عشر، فقد ترجم ابن أبي شيبة في "مصنفه":"باب من كان لا يجمع بين السورتين في ركعة"، وأخرج فيه عن عكرمة بن خالد قال: كان أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث لا يجمع بين السورتين في ركعة ولا يجاوز سورة إذا ختمها حتى يركع، وأخرج عن أبي عبد الرحمن أنه كان لا يقرن بين السورتين في ركعة، وغير ذلك من الآثار المذكورة في هامش "اللامع"، فغرض المؤلف بهذه الترجمة هو الرد على هذا وهو الأصل الثالث عشر.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 288).
ثم ذكر المصنف في الترجمة أربع مسائل:
الأولى: هذه أعني الجمع بين السورتين في ركعة وهي خلافية، قال العلامة العيني
(1)
: في حديث أنس رضي الله عنه جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية، انتهى.
قلت: لا بأس بالجمع بين السورتين في النافلة عند أحمد، وفي المكتوبة عنه روايتان: الكراهة وعدمها كما في "المغني"
(2)
، وقال ابن عابدين
(3)
عن أبي حنيفة أنه قال: لا أحب أن يقرأ سورتين بعد الفاتحة في المكتوبات، ولو فعل لا يكره، وفي النوافل لا بأس به، انتهى.
والمسألة الثانية: القراءة بالخواتيم، وعامة الشرَّاح على أن هذا الجزء من الترجمة لا يثبت بشيء من الروايات ولا الآثار إلا أن يثبت بالإلحاق أو بعموم قول قتادة: كل كتاب الله، ويمكن عندي أن يقال: إنه لما فرق السورة في الركعتين فلا بد أن يقرأ في الأولى بالأوائل، وفي الثانية بالأواخر، فوجد القراءة بالخواتيم من هذا الوجه إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"، وفيه أيضًا: قال الموفق
(4)
: لا تكره القراءة أواخر السور وأوساطها في إحدى الروايتين، والرواية الثانية يكره، انتهى. وعندنا الحنفية مكروه، كما في "الدر المختار".
المسألة الثالثة: قراءة سورة قبل سورة، قال الحافظ
(5)
: إنه خلاف الأولى عند مالك والشافعي، وعن أحمد والحنفية أنه مكروه.
والمسألة الرابعة: القراءة بأول سورة.
قال العيني
(6)
: لا خلاف فيه، ولا كراهة إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن لعذر فلا كراهة أيضًا عند الجمهور، وعن مالك في المشهور كراهته،
(1)
"عمدة القاري"(4/ 491).
(2)
"المغني"(2/ 168).
(3)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 194).
(4)
"المغني"(2/ 166).
(5)
"فتح الباري"(2/ 257).
(6)
"عمدة القاري"(4/ 487).
وبقي ها هنا المسألة الخامسة والسادسة لم يذكرهما الإمام في الترجمة ومذكوران في قول قتادة إلا أن الإمام البخاري لم يصرِّح بهما في الترجمة وهما تفريق سورة واحدة في الركعتين، وترديد سورة واحدة في الركعتين إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(107 -
باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: لعل المراد أن يثبت فرضيتها فيهما وهو غير ثابت إلا السُّنِّية، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح، فإن المسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"
(2)
، وجملتها أن القراءة واجبة في ركعة واحدة فقط عند زفر والحسن وغيرهما، وفي ركعتين في المشهور عن الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وفي ثلاث ركعات على ما نقل عن مالك، وفي أربع ركعات عند الشافعية، وهو المصحح عند الحنابلة، ولا يبعد في غرض الترجمة أن تكون إشارة إلى مسألة أخرى خلافية أيضًا وهي: الزيادة على الفاتحة فيما بعد الأوليين، وعليه حمل الحافظ الترجمة، وكذا العلامة العيني.
وتوضيح الخلاف فيها أن الأئمة الثلاثة كرهوا قراءة شيء بعد الفاتحة في الأخريين وثالثة المغرب، لرواية أبي قتادة المذكورة في الباب، وللشافعي فيه قولان: القديم مع الجمهور، والجديد استحباب السورة في الأخريين أيضًا، كما في "الأوجز" فتكون الترجمة ردًّا عليه، انتهى.
(108 -
باب من خافت القراءة في الظهر والعصر)
والمسألة وفاقية، قال الحافظ
(3)
: ودلالة حديث خباب رضي الله عنه للترجمة واضحة، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 293).
(2)
"أوجز المسالك"(2/ 127).
(3)
"فتح الباري"(2/ 261).
(109 -
باب إذا أسمع الإمام الآية)
أي: لا يضره ذلك، قال الحافظ
(1)
: أي: في السرية، خلافًا لمن قال يسجد للسهو إن كان ساهيًا، وكذا لمن قال: يسجد مطلقًا، انتهى.
(110 -
باب يطول في الركعة الأولى)
والمسألة خلافية بين العلماء، قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"
(2)
: والمذهب عندنا ما في "الهداية"
(3)
: ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية إعانة للناس على إدراك الجماعة، وركعتا الظهر سواء، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: أحب إلي أن يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها، وحديث الباب محمول على الإطاعة من حيث الثناء والتعوذ، انتهى.
وفي هامشي على "البذل": ودليلنا - الشيخين - رواية مسلم: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين بقدر ثلاثين آية"، ولذا بوّب ابن حبان "السبب الذي من أجله يطول الأولى" ثم ادّعى أن طول الأولى يكون للترتيل وغيره، قاله ابن رسلان.
وفي "المغني"
(4)
: يستحب أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، ليلحقه القاصد للصلاة، وقال الشافعي: يكون الأوليان متساويين، ووافقنا أبو حنيفة في الصبح، ووافق الشافعي في بقية الصلوات، انتهى.
قلت: وفي "شرح الإقناع"
(5)
: ويسن أن يطول من تسن له السورة قراءة أولى على ثانية للاتباع، انتهى.
وفي حاشيته للبجيرمي قوله: من تسن له السورة، وهو الإمام والمنفرد، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 261).
(2)
"بذل المجهود"(4/ 190).
(3)
"الهداية"(1/ 56).
(4)
"المغني"(2/ 277).
(5)
"شرح الإقناع"(2/ 67).
قال النووي
(1)
في "شرح مسلم": الأشهر عندنا أن لا يطول، والصحيح المختار استحباب تطويل الأولى قصدًا، انتهى.
(111 -
باب جهر الإمام بالتأمين)
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: إن قصد إثبات سُنِّية الجهر، وأنه هو الحق، فغير ثابت بما ذكره في الباب، وإن قصد جواز الجهر كجواز الإسرار فثابت بما ذكره ها هنا، وتثبت سُنِّية الإخفاء بما ذكره غيره من حملة الحديث، ثم إن مقصوده بقوله: آمين دعاء، أنه لما كان دعاء كان الإسرار والجهر جائزين فيه كجوازهما في سائر الأدعية المأثورة وغيرها، قلنا: لا يجوز في شيء من الصلوات الجهرية ولا السرية أن يرفع صوته بالدعاء وإن كانت صلاته لا تفسد أيضًا بذلك، فيلزم أن يكون الحكم بين الدعاء وآمين غير مفترق حسب استدلالكم.
وأما لجة المسجد بتأمين ابن الزبير ومن معه فليس بمستلزم جهرهم به؛ لأن اللجة واللجلجة وهو اضطراب الصوت وتحركه من جهة إلى جهة، وهو حاصل بالإسرار والجهر كليهما، فلا دلالة فيه على تعيين
(3)
الجهر، وقوله: وكان أبو هريرة ينادي الإمام. . . إلخ، لا ينهض حجة على المدعي أيضًا؛ لأن الظاهر منه عدم المسارعة به حتى لا يحصل التوافق لمن خلفه، فكما تفوت الموافقة بالإسراع في الجهر فكذلك هو فائت في الإسرار أيضًا؛ لأن الإمام إذا قصد الانفراغ منه بعجلة كان المؤتمون غير ملتحقين به في وقت قوله إياه، وإذا تأنى فيه ولم يتعجل كانوا معه، بل الظاهر منه أن الإمام كان يخفيه، إذ لا حاجة عند جهره به إلى شيء من ذلك، فإن تأمينه مسموع معلوم، فإذا قاله الإمام يقوله المؤتم أيضًا، ولا يلزم فوات المطابقة، وليس المأموم مشتغلًا في شيء من القراءة وغيرها حتى يخل ذلك
(1)
"شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 411).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 295).
(3)
في الأصل: "تعليم الجهر".
بمطابقته به، بل هو فارغ مصغ إلى إمامه، فإذا سمعه يؤمن أخذ في التأمين، فأما إذا أمن الإمام سرًّا فللمأموم مظنة الفوات إذا أسرع الإمام في تقضيه ولم يتأن، فأمره أن لا يتعجل.
وكذلك قوله: كان ابن عمر لا يدعه ويحضهم، ليس نصًا في الجهر، بل يحتمل كلًّا منهما، وأما أنه لو أخفاه لما سمعه نافع، فأمر مبني على محض توهم؛ لأن كثيرًا من التسبيحات والثناء والتشهد وغير ذلك كان معلومًا للصحابة، ولم يجهر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فكذلك التأمين علم به نافع وإن لم يجهر به ابن عمر، بل كان ذلك بتعليم منه في خارج الصلاة مع أن من اتصل الإمام في الصف ودنا منه فإنه يسمع في إسراره أيضًا إذا لم يسر أدنى مراتب الإسرار، بل أخذ أوسطها، وأما إذا أخذ بأقصى مراتبها الداخل في أدنى الجهر، فلا شك أنه يسمعه بعض من يليه من الصف الثاني أيضًا، فلا يبعد أن يكون ابن عمر يسره هذا الإسرار ويسمعه ويعلم به نافع وغيره ممن هو قريب بابن عمر.
ولعل هذا هو منشأ الخلاف بين لفظي الرواة، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أسر به إسرارًا دخل في أدنى الجهر عبره بعضهم بالجهر لما رأى أن صوته في التأمين فوق صوته بالقراءة في السرية، ومن رأى أن صوته بالتأمين أدنى من صوته بالقراءة في الجهرية عبره بالإسرار، ولا يضر لو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالتأمين حتى سمعه غير من في الصف المتقدم مع أنه لم يثبت، وذلك لأنه لو ثبت منه ذلك لكان سبيله سبيل إسماع الآية أحيانًا في الصلاة السرية، فكما لا تثبت سُنِّية إسماع الآية لا تثبت سُنِّية الجهر بالتأمين.
وأما تعويل المؤلف في احتجاجه بالرواية الموردة في الباب فأمر مطرب عجاب؛ لأنها لا تدل على مدعاه بوجه، ولعله استند بذلك الحديث بأن المأمور به مطلق القول وظاهره الجهر، وأنت تعلم ما فيه فقد ورد في غير ذكر ولا ذكرين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله مع أن الجهر لم يكن مرادًا فيه ولا ثابتًا، نعم يمكن أن يكون احتجاجه بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فقولوا" لأنه
يتناول الجهر والإسرار، فلا يتقيد بأحد متناويله، وهذا مع أنه لا يستلزم مدعاه وهو إثبات الجهر مدفوع بأن المطلق كثيرًا ما يتقيد بالنصوص الأخر الدالة على تقييده مع أن الأمر بهذا الاهتمام ومزيد الاعتناء به يقتضي أن الإمام غير جاهر به، إذ لو كان جاهرًا لم تكن الموافقة مظنة فوات مع أنه قد ورد في بعض طرقه:"إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين"، فعلم أنهم ليس لهم سماع لتأمين الإمام وإلا لما بنى الأمر على ختمة الفاتحة لكون التأمين مسموعًا فلا يفتقر إلى إبداع علامة له، وكذلك قول ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين غير مثبت للمراد، إذ لا تنصيص فيه على الجهر، والقول لا يساوق الجهر، انتهى.
ومسألة الجهر بالتأمين خلافية شهيرة وجملتها أن الإمام يجهر بالتأمين في الجهرية عند أحمد، وهو القول القديم للشافعي، ويسر عند الحنفية وهو القول الجديد للشافعي، وبه قالت المالكية كما قال الباجي، وهكذا المذاهب بعينها في المأموم، كما في "الأوجز"
(1)
عن كتب فروعهم، انتهى من هامش "اللامع".
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: أنت تعلم أن ما وقع في حديث الباب من قوله: وإذا قال الأئمة
(3)
. . . إلخ، لا يدل على ترجمة الباب ظاهرًا ولهذا استدل بهذا الحديث من قال: إن التأمين للمأموم دون الإمام، وقال الشافعي رحمه الله: معناه أنه إذا قال الإمام هذا اللفظ فاسعدوا التأمين، فإنه هو أيضًا يقول ذلك يستحسن لكم أن توافقوه في زمانه، وكأن المؤلف أشار بعقد الترجمة إلى أن الحديث محمول على هذا المعنى، ومثله لا يستنكر من البخاري، انتهى.
(1)
"أوجز المسالك"(2/ 192).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 238).
(3)
كذا في الأصل، والصواب بدله:"إذا أمن الإمام. . ." إلخ، (ز).
(112 -
باب فضل التأمين)
قال الحافظ
(1)
: أورد فيه رواية الأعرج؛ لأنها مطلقة غير مقيدة بحالة الصلاة، قال ابن المنيِّر: وأي فضل أعظم من كونه قولًا يسيرًا لا كلفة فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة، انتهى.
ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله: "إذا قال أحدكم" لكن في رواية "مسلم" من هذا الوجه "إذا قال أحدكم في صلاته" فيحمل المطلق على المقيد، نعم في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد، وساق مسلم إسنادها "إذا أمن القارئ فأمنوا" فهذا يمكن حمله على الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارئ مطلقًا لكل من سمعه من مصل أو غيره، ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة، فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه، انتهى.
قلت: لو حمل الترجمة على الإطلاق فحينئذ هو تقوية لرواية أبي داود: "فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة" الحديث بطوله.
(113 -
باب جهر المأموم بالتأمين)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: والكلام فيه مثله في ما تقدم، انتهى.
وفي هامشه: تقدم في أول الباب السابق أن نقلة المذاهب اختلفوا في ذكر قولي الإمام الشافعي الجديد والقديم، والعجب أن عامة الشرَّاح الشافعية من الحافظ والقسطلاني والنووي في "شرح مسلم" لم يتعرضوا لتفسير القولين إلا ما قال الحافظ في "الفتح"
(3)
: الجهر للمأموم ذهب إليه الشافعي في القديم وعليه الفتوى، وقال الرافعي: قال الأكثر: في المسألة قولان، الأصح الجهر، انتهى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 266).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 309).
(3)
"فتح الباري"(2/ 267).
واختلط الكلام في "شرح المهذب" للنووي، ثم ذكر في هامش "اللامع" توضيح هذا الاختلاط إلى أن قال: وقد بسطت في ذلك لأن نقلة المذاهب من المشايخ اختلفوا في نقل قولي الإمام الشافعي الجديد والقديم، وما ظهر لي بعد إن أصل اختلاف القولين في المأموم الجديد السر والقديم الجهر، وأما الإمام فالمعروف من مذهبه الجهر في القولين، انتهى.
قال العيني
(1)
: قال ابن المنيِّر: مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن في الحديث الأمر بقول: آمين، والقول إذا وقع به الخطاب مطلقًا حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار وحديث النفس قيد بذلك.
قلت: المطلق يتناول الجهر والإخفاء، وتخصيصه بالجهر والحمل عليه تحكم فلا يجوز، وقال ابن رُشيد: تؤخذ المناسبة من جهة أنه قال: إذا قال الإمام فقولوا، فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهرًا فكان الظاهر الاتفاق في الصفة.
قلت: هذا أبعد من الأول وأكثر تعسفًا؛ لأن ظاهر الكلام أن لا يقولها الإمام كما روى مالك لأنه قسم، والقسمة تنافي الشركة، وقوله: إنما قال ذلك جهرًا، لا يدل عليه معنى الحديث أصلًا، فكيف يقول: فكان الظاهر الاتفاق في الصفة، والحديث لا يدل على ذات التأمين من الإمام؟ فكيف يطلق الاتفاق في الصفة وهي مبنية على الذات إلى آخر ما بسطه، ثم قال: ويمكن أن يوجه وجه لمناسبة الحديث للترجمة، وهو أن يقال: أما ظاهر الحديث فإنه يدل على أن المأموم يقولها، وهذا لا نزاع فيه، وأما أنه يدل على جهره بالتأمين، فلا يدل ولكن يستأنس له بما ذكره قبل ذلك وهو قوله:"أمن ابن الزبير" إلى قوله: "خيرًا"، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 504).
(114 -
باب إذا ركع دون الصف)
قال الحافظ
(1)
: كان اللائق إيراد هذه الترجمة في أبواب الإمامة، وقد سبق هناك ترجمة "المرأة وحدها تكون صفًا" إلى أن قال: وقال ناصر الدين ابن المنيِّر: هذه الترجمة مما نوزع فيها البخاري حيث لم يأت بجواب "إذا" لإشكال الحديث واختلاف العلماء في المراد بقوله: "ولا تعد"، انتهى.
(115 -
باب إتمام التكبير في الركوع)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(2)
: المراد بالإتمام الإتيان به من غير أن يحذف كما شاع ذلك في إمارة بني أمية، وسبب اهتمام المؤلف بعقد الأبواب في بيان إتمام التكبيرات في الركوع والسجود والجلسة هو تهاون بني أمية في ذلك كما يدل عليه التاريخ، انتهى.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: في الركوع، الظرف إما متعلق بالإتمام أو بالتكبير، وأيًّا ما كان فالغرض منه أن لا يحذف التكبير حذفًا، بل يأتي به كما هو بالمد والشد، وأداء الحروف من مخارجها، ودلالة الرواية على هذا المعنى من حيث إنه قال فيها إلى آخر ما بسط في طريق الاستدلال فارجع إليه لو شئت، انتهى مختصرًا.
وفي هامشه: اختلفوا في غرض الترجمة على أقوال، وما اختاره الشيخ ها هنا من الغرض لطيف جدًا فإنه أقرب بلفظ الإتمام في الترجمة وأوفق بقول الفقهاء في تكبيرات الانتقال، وإليه يظهر ميل الحافظ إذ قال
(4)
: قوله: إتمام التكبير، أي: مده بحيث ينتهي بتمامه، انتهى.
وقال العيني
(5)
: قال الكرماني: المراد من الإتمام أن يمد التكبير
(1)
"فتح الباري"(2/ 268).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 241).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 311).
(4)
"فتح الباري"(2/ 269).
(5)
"عمدة القاري"(4/ 509).
الذي هو للانتقال من القيام إلى الركوع بحيث يتمه في الركوع بأن تقع راء "الله أكبر" فيه، أو إتمام الصلاة بالتكبير في الركوع، أو إتمام عدد تكبيرات الصلاة، انتهى.
والظاهر عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الإمام البخاري بالترجمة الرد على رواية أبي داود، وذكره الحافظ
(1)
احتمالا إذ قال: ولعله أراد بلفظ الإتمام الإشارة إلى تضعيف ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبزى قال: صلَّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير، فإن هذا الحديث ضعيف كما صرَّح به أئمة الحديث، كما بسط في هامش "اللامع".
(116 -
باب إتمام التكبير في السجود)
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: الكلام فيه مثله فيما تقدم، ويحتمل أن يراد في البابين بالإتمام نفس إتيانه بالتكبير، فإن إتيان التكبير إتمام له كما أن تركه تقصير به، فلا يفتقر إلى تكلف، والأول أولى، انتهى.
(117 -
باب التكبير إذا قام من السجود)
والغرض منه على قياس ما عرفت في الأبواب السابقة قوله: "صلَّيت" أي: الظهر "خلف شيخ" هو أبو هريرة رضي الله عنه "فكبَّر ثنتين وعشرين تكبيرة" لأن في كل تكبيرة خمس تكبيرات، فيحصل في كل رباعية عشرون تكبيرة سوى تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وفي الثلاثية سبع عشرة، وفي الثنائية إحدى عشرة، ففي الصلوات الخمس أربع وتسعون تكبيرة، انتهى من "القسطلاني"
(3)
.
(1)
"فتح الباري"(2/ 269).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 315).
(3)
"إرشاد الساري"(2/ 496).
(118 -
باب وضع الأكف على الركب)
الظاهر أنه أشار إلى الرد على ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من التطبيق.
قال القسطلاني
(1)
: قال الترمذي: الطبيق منسوخ عند أهل العلم لا خلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون، انتهى.
قيل: ولعل ابن مسعود لم يبلغه النسخ، واستبعد لأنه كان كثير الملازمة له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان صاحب نعله، يلبسه إياها إذا قام وإذا جلس أدخلها في ذراعيه، فكيف يخفى عليه أمر وضع يديه على ركبتيه، أو لم يبلغه النسخ؟ انتهى.
وهكذا ذكر الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"
(2)
ثم قال: فالصواب أن يقال: إنه قائل بجواز كلا الأمرين على التخيير، والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة عن علي قال:"إذا ركعت فإن شئت قلت: هكذا يعني وضعت يديك على ركبتيك وإن شئت طبقت"
(3)
وإسناده حسن، فهذا ظاهر في أنه كان يرى التخيير، كذا قال العيني
(4)
، انتهى.
(119 -
باب إذا لم يتم الركوع)
قال الحافظ
(5)
: أفرد الركوع بالذكر مع أن السجود مثله لكونه أفرده بترجمة تأتي، وغرضه سياق صفة الصلاة على ترتيب أركانه، واكتفى عن جواب "إذا" بما ترجم به بعد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يتم ركوعه بالإعادة، انتهى.
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 499).
(2)
"بذل المجهود"(4/ 95).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 245).
(4)
"عمدة القاري"(4/ 520).
(5)
"فتح الباري"(2/ 275).
وهذا على مسلك الشافعية، والأوجه عندي: أن المصنف ترك الجواب لقوة الخلاف في ذلك، فإن المسألة خلافية معروفة، ومن دأبه المطَّرد في الكتاب عدم الجزم بالحكم، لقوة الخلاف كما تقدم في الأصل الخامس والثلاثين، والحافظ بنفسه ذكر هذا الأصل، لكنه تركه ها هنا رعاية لمسلكه، انتهى.
قال العيني
(1)
: قوله: "ما صلَّيت" قال بعضهم: هو نظير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: "فإنك لم تصل" فعلى هذا يرجع النفي إلى الكمال لا إلى حقيقة الصلاة، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف والشافعي وأحمد، ثم بسط الاختلاف في ذلك، وذكر اختلاف المالكية فيما بينهم في هذه المسألة إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(120 -
باب استواء الظهر في الركوع)
قال الحافظ
(2)
: أي: من غير ميل في الرأس عن البدن وقوله: "هصر"، بفتح الهاء والصاد المهملتين، أي: أماله، وسيأتي هذا الحديث موصولًا في "باب سُنَّة الجلوس في التشهد" وزاد أبو داود من وجه آخر عن أبي حميد:"ووتر يديه فتجافى عن جنبيه" وله من وجه آخر: "ثم هصر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده"، انتهى.
قلت: وفيه بوجه آخر: "ثم يعتدل فلا ينصب رأسه، ولا يقنع"، وهذا بعينه الترجمة فهي من الأصل الحادي عشر، وهو الإشارة إلى بعض طرق الحديث.
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: قوله: "ثم هصر ظهره" وهو يستلزم استواء الظهر ولذا ذكره ها هنا، انتهى.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 522).
(2)
"فتح الباري"(2/ 275).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 319).
وفي تقرير المكي: قوله: "ثم هصر"، أي: كسر صلبه إلى جانب البطن حتى استوى الظهر والرأس والعجز، انتهى. وعلى هذا فتكون الترجمة شارحة.
(121 -
باب حد إتمام الركوع. . .) إلخ
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(1)
: يعني بذلك حد الاستحباب والسُّنَّة، وإلا فالواجب والفرض يتأديان بدون المذكور في الرواية أيضًا، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح، فإنه لم يقل أحد من الأئمة أن هذا المقدار الذي ذكر في الحديث فرض، بل قالت الشافعية: إن تطويل الاعتدال مفسد للصلاة.
قال القسطلاني
(2)
: قد اختلف هل الاعتدال ركن طويل أو قصير؟ والمرجح عند الشافعية أنه قصير تبطل الصلاة بتطويله، انتهى.
وقال الدردير
(3)
: الثالثة عشر: طمأنينة في جميع الأركان وهي استقرار الأعضاء، قال الدسوقي: اعلم أن القول بفرضيتها صححه ابن الحاجب، والمشهور في المذهب أنها سُنَّة، وقيل: فضيلة، انتهى.
قال الموفق
(4)
: يجب أن يطمئن في ركوعه، ومعناه أن يمكث إذا بلغ حد الركوع قليلًا، وقال أبو حنيفة: الطمأنينة غير واجبة، انتهى.
فعلم من ذلك كله أن مقدار الفرض عند القائلين بالفرضية أيضًا هو المكث القليل، والزائد على ذلك سُنَّة، وأشار إليه الشيخ في كلامه، انتهى مختصرًا.
قال الحافظ
(5)
: قوله: "وحد إتمام الركوع" ووقع في بعض الروايات
(1)
"لامع الدراري"(3/ 319).
(2)
"إرشاد الساري"(2/ 502).
(3)
"حاشية الدسوقي"(1/ 387).
(4)
"المغني"(2/ 177).
(5)
"فتح الباري"(2/ 276).
عند الكشميهني وغيره ها هنا "باب إتمام الركوع" ففصله عن الباب الذي قبله بباب، وعند الباقين الجميع في ترجمة واحدة إلا أنهم جعلوا التعليق عن أبي حميد في أثنائها لاختصاصه بالجملة الأولى، ودلالة حديث البراء على ما بعدها، ومطابقة حديث البراء لقوله:"حد إتمام الركوع" من جهة أنه دال على تسوية الركوع والسجود وغيرهما، وقد ثبت في بعض طرقه عند مسلم تطويل الاعتدال فيؤخذ منه إطالة الجميع، انتهى مختصرًا.
قال السندي
(1)
: لا يخفى أن المساواة بين هذه الأمور لا تدل على الاعتدال في الركوع إذ يمكن تحققها بلا اعتدال، وكأن مدار الدليل أن بعض هذه الأشياء معلومة بالتطويل قطعًا فمساواة الباقي تفيد المطلوب، انتهى.
(122 -
باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة)
قال الحافظ
(2)
: قال ابن المنيِّر: هذه من الترام الخفية، وذلك أن الخبر لم يقع فيه بيان ما نقصه المصلي، لكنه صلى الله عليه وسلم لما قال له:"ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" إلى آخر ما ذكر له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كل فرد منها، فكل من لم يتم ركوعه أو سجوده مأمور بالإعادة.
قال الحافظ: ووقع في حديث رفاعة عند ابن أبي شيبة في هذه القصة "دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها"
(3)
، فالظاهر أن المصنف أشار بالترجمة إلى ذلك، انتهى.
قلت: فكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى وجه أمره صلى الله عليه وسلم بالإعادة.
(1)
"حاشية السندي"(1/ 144).
(2)
"فتح الباري"(2/ 277).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 287).
(123 -
باب الدعاء في الركوع)
قال الحافظ
(1)
: ترجم بعد هذا بأبواب التسبيح والدعاء في السجود، وساق فيه حديث الباب، فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح - مع أن الحديث واحد - أنه قصد الإشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع كمالك، أما التسبيح فلا خلاف فيه، فاهتم ها هنا بذكر الدعاء لذلك، انتهى.
قلت: وتفصيل مذهب مالك ما رواه أبو داود حدثنا القعنبي قال: قال مالك: لا بأس بالدعاء في الصلاة في أوله وأوسطه، وفي آخره في الفريضة وغيرها
(2)
.
قال الشيخ في "البذل"
(3)
: وفي المدونة
(4)
: قال مالك: لا بأس بأن يدعوا الرجل لجميع حوائجه في المكتوبة حوائج دنياه وآخرته في القيام والجلوس والسجود، قال: وكان يكرهه في الركوع، وقال في محل آخر: قلت لابن القاسم: أرأيت مالكًا حين كره الدعاء في الركوع كان يكره التسبيح في الركوع؟ قال: لا، انتهى مختصرًا.
(124 -
باب ما يقول الإمام ومن خلفه. . .) إلخ
في تقرير المكي: قوله: في الحديث "قال: اللهم ربنا ولك الحمد"، يعني: جمع بينهما، وإذا جمع صلى الله عليه وسلم بينهما كان من خلفه أيضًا جمعهما، وكذا روي عن أبي حنيفة الجمع أيضًا في رواية، لكن أكثر أحاديثه التقسيم، ولذلك صار التقسيم مذهبه المشهور، انتهى. وتوضيح الخلاف في ذلك كما في "الأوجز"
(5)
: أن المنفرد يجمع بينهما على المشهور عند الأئمة الأربعة، حتى قال الحافظ
(6)
: حكى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع عليه، وأما
(1)
"فتح الباري"(2/ 281).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 767).
(3)
"بذل المجهود"(4/ 136).
(4)
"المدونة الكبرى"(1/ 74، 100).
(5)
"أوجز المسالك"(2/ 101).
(6)
"فتح الباري"(2/ 283، 284).
الإمام فيأتي بهما عند الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك: يأتي الإمام بالتسميع فقط، وأما المؤتم فيأتي بالتحميد فقط عند الجمهور خلافًا للشافعي، إذ قال: يجمع بينهما، فإذا وضح ذلك فعامة الشرَّاح على أن الإمام البخاري وافق الشافعي في ذلك في أن الإمام والمؤتم كل واحد منهما يجمع بينهما، ويرد على ذلك أنه ليس في الحديث ذكر المؤتم فأجابوا عنه بوجوه.
قال الكرماني
(1)
: دلالة الحديث عليه بانضمام "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وقال الحافظ
(2)
: أجاب عنه ابن رُشيد بأنه أشار إلى التذكير بالمقدمات لتكون الأحاديث عند الاستنباط نصب عيني المستنبط، فقد تقدم حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وحديث "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويمكن أن يكون قاس المأموم على الإمام لكن فيه ضعف، انتهى.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الباب الآتي وهو "باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد" جزء من الباب السابق على الأصل السادس من أصول التراجم، فحينئذ لا يرد أصلًا أنه لم يذكر في الباب ما يقول المؤتم، ويؤيد ذلك أن الحافظ قال أولًا في "باب فضل اللَّهم ربنا لك الحمد": ثبت لفظ باب عند من عدا أبا ذر والأصيلي، والراجح حذفه، انتهى.
فيكون مسلك الإمام البخاري في الإمام الجمع بينهما على مسلك الشافعي ومن وافقه، وأما المؤتم فيأتي بالتحميد فقط على مسلك الجمهور خلافًا للشافعي، وعلى هذا يناسب ذكر الباب الثالث بابًا بلا ترجمة أيضًا؛ لأنه لا تعلق له بفضل التحميد، لكن له تعلقًا ظاهرًا بباب ما يقول الإمام ومن خلفه في القومة، فكأن الإمام البخاري ذكر أولًا ما يقوله الإمام
(1)
"شرح الكرماني"(5/ 152).
(2)
"فتح الباري"(2/ 282).
والمؤتم، ثم فصل بباب بلا ترجمة ما ورد في الروايات في القومة، وليس بمعمول به فكأنه فصل بالبابين بين المعتاد وغير المعتاد، وأما ذكر القنوت فيه فليس في النسخ الشهيرة كما أقر به الشرَّاح؛ ولأنه على نسخة القنوت لا يناسبه حديث رفاعة بن رافع الوارد في هذا الباب، ووجه في تقرير مولانا حسين علي البنجابي بأنه يفهم من إطلاقه عدم القنوت، فالقنوت في حدوث واقعة وعدمه في غيره، انتهى.
وهذا توجيه لطيف على ثبوت القنوت في الترجمة، وعلى هذا تزول الإيرادات عن الأبواب والروايات في ألفاظ التحميد، ولذا اختلفت الأئمة في الراجح من ألفاظه، فعندنا الحنفية أفضلها: اللَّهم ربنا ولك الحمد، وعند الحنابلة: ربنا ولك الحمد بالواو، وفي رواية: اللَّهم ربنا لك الحمد، أي: بدون الواو، والمعروف في متون المالكية: ربنا لك الحمد، وكذا عند الشافعية، قال البجيرمي: أفضلها: ربنا لك الحمد، على المعتمد، انتهى.
لكن حكى الحافظ
(1)
عن النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح، انتهى.
قال ابن القيم في "الهدي": أما الجمع بين اللَّهم والواو فلم يصح، انتهى.
وتعقب عليه الزرقاني والحافظ
(2)
في الباب الآتي إذ قال: وفي رواية الكشميهني: ولك الحمد بإثبات الواو، ففيه رد على ابن القيم، انتهى.
(125 -
باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد)
تقدم ما يتعلق به من الكلام في الباب السابق.
(1)
"فتح الباري"(2/ 282).
(2)
"فتح الباري"(2/ 283).
(126 -
باب)
بلا ترجمة، تقدم بعض ما يتعلق به أيضًا فيما سبق.
قال الحافظ
(1)
: كذا للجميع بغير ترجمة إلا للأصيلي فحذفه، والراجح إثباته؛ لأن الأحاديث المذكورة فيه لا دلالة فيها على فضل اللَّهم ربنا لك الحمد إلا بتكلف، فالأولى أن يكون بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، وذلك أنه لما قال أولًا:"باب ما يقول الإمام. . ." إلخ، وذكر فيه قوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم ربنا ولك الحمد" استطرد إلى فضل ذكر هذا القول بخصوصه، ثم فصل بلفظ "باب" لتكميل الترجمة الأولى فأورد بقية ما ثبت على شرطه مما يقال في الاعتدال كالقنوت وغيره، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ":
(2)
قوله: "باب القنوت" هذا الباب قد وجد في كثير من النسخ غير مترجم، وفي بعضها "باب القنوت" وعلى كلا التقديرين فمناسبته بما سبق باعتبار أن ما ذكر في الحديث يدل على قراءة القنوت بعد سمع الله لمن حمده، فهو أيضًا ذكر فيها بعد الركوع في القنوت، كما كان سمع الله لمن حمده أيضًا ذكر فيها، انتهى.
ورقم على هذا الباب في "تراجم" شيخ الهند كما تقدم في الجزء الأول رمز (نـ) أعني نقطة واحدة، وهي إشارة إلى تشحيذ الأذهان.
(127 -
باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع)
في رواية الأكثرين الاطمأنينة، وفي رواية الكشميهني:"باب الطمأنينة" وهي الأصح والموجودة في اللغة، انتهى. قاله العيني
(3)
، والمراد بها السكون، وحدّها ذهاب الحركة التي قبلها، كذا في "الفتح"
(4)
، وتقدم
(1)
"فتح الباري"(2/ 284).
(2)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 243).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 537).
(4)
"فتح الباري"(2/ 288).
في "باب حد إتمام الركوع" الاختلاف في أن الاعتدال ركن طويل أو قصير فتذكر.
(128 -
باب يهوي بالتكبير حين يسجد. . .) إلخ
لعل الغرض منه شرح الحديث، فقد قال الحافظ
(1)
تحت قوله في الحديث: "ثم يكبر حين يهوي ساجدًا": فيه أن التكبير ذكر الهُوي فيبتدأ به من حين يشرع في الهُويِّ بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجدًا، انتهى.
قوله: (وكان ابن عمر. . .) إلخ، قال الحافظ
(2)
: استشكل إيراد هذا الأثر في هذه الترجمة، وأجاب ابن المنيِّر بما حاصله: أنه لما ذكر صفة الهوي إلى السجود القولية أردفها بصفته الفعلية، وقال أخوه: أراد بالترجمة وصف حال الهوي من فعال ومقال، انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أن أثر ابن عمر من جملة الترجمة، فهو مترجم به لا مترجم له، والترجمة قد تكون مفسرة لمجمل الحديث وهذه منها، انتهى.
واختار القسطلاني
(3)
والعيني التوجيه الذي حكاه الحافظ عن ابن المنيِّر.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(4)
: قوله: "وكان ابن عمر. . ." إلخ، وذلك لأنه كان ثقيلًا لا يحمله ركبتاه إلا بتعسر، فكان يستعين بيديه، وذكره في الباب من حيث أن كلًّا منهما متعلق بكيفية السجدة، انتهى.
وعلى هذا تكون الترجمة من الأصل الثامن عشر ولا يرد على ذلك شيء لأنه أصل مطرد.
(1)
"فتح الباري"(2/ 291).
(2)
"فتح الباري"(2/ 291).
(3)
"إرشاد الساري"(2/ 516)، و"عمدة القاري"(4/ 539).
(4)
"لامع الدراري"(3/ 327).
(129 -
باب فضل السجود)
ولم يذكر فضل الركوع؛ لأنه لم يشرع مستقلًا، وفي هامش "اللامع": اعلم أن الإمام البخاري أفرد من جملة أركان الصلاة بفضل السجود خاصة بابًا مفردًا، إما إشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، أو لأن للسجود وجودًا مستقلًا في جميع أجزاء الصلاة وهو في سجدة التلاوة عند الجميع، وفي سجدة الشكر والسجدة عند الآيات كما ترجم به أبو داود عند القائلين بهما ولم أر من تعرض لذلك من الشرَّاح إلا ما يستأنس من القسطلاني
(1)
إذ قال: قوله: "حرَّم الله على النار"، هذا موضع الترجمة، واستشهد له ابن بطال لحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد"، وهو واضح، وقال تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال بعضهم: إن الله تعالى يباهي بالساجدين من عبيده ملائكته المقربين، الحديث.
(130 -
باب يبدي ضبعيه. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: تقدم قبيل أبواب القبلة أنه وقع في كثير من النسخ وقوع هاتين الترجمتين هذه والتي بعدها هناك وأعيدا ها هنا وأن الصواب إثباتهما هنا، وذكرنا توجيه ذلك بما يغني عن إعادته، انتهى.
قلت: وقد تقدم البسط في ذلك هناك.
(131 -
باب يستقبل بأطراف رجليه القبلة)
قال القسطلاني
(3)
: هذا الباب والذي قبله ثبتا في الفرع كأصله، وفي كثير من الأصول، وسقطا في بعضها.
قال الكرماني
(4)
: لأنهما ذكرا مرة قبل "باب فضل استقبال القبلة"،
(1)
"إرشاد الساري"(2/ 524).
(2)
"فتح الباري"(2/ 295).
(3)
"إرشاد الساري"(2/ 529).
(4)
"شرح الكرماني"(5/ 166).
وتعقب بأنه لم يذكر هناك إلا الأول، وأما الباب الثاني فلم يذكر هناك بترجمة، فلهذا كان الصواب إثباتهما، انتهى.
قلت: هو كذلك لأن المصنف ذكره هناك تعليقًا لا ترجمة كما تقدم الكلام عليه هناك.
(132 -
باب إذا لم يتم سجوده)
ذكر الإمام البخاري فيه الحديث الذي تقدم في "باب إذا لم يتم الركوع"، وتقدم الكلام هناك على المسألة.
(133 -
باب السجود على سبعة أعظم)
قال الحافظ
(1)
: لفظ المتن الذي أورده في هذا الباب "على سبعة أعضاء"، لكنه أشار بذلك إلى لفظ الرواية الأخرى، وقد أوردها من وجه آخر في الباب الذي يليه، انتهى.
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: ووضع تمام الجبهة مستلزم لوضع الأنف، ويتطرق النقصان في الصلاة لو لم يضع الأنف؛ لأن فيه نقصًا بوضع الجبهة مع أنها صحيحة، انتهى.
وأجاد الشيخ الكلام على أحاديث البابين، وأشار بذلك إلى الجمع بين ما يظهر اختلافها، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الأول سبعة أعضاء وعدّ منها الجبهة فقط، وفي الثاني ذكر هذا اللفظ، وأشار بلفظ الجبهة إلى الأنف، وهو عضو
(3)
مستقل غير الجبهة، فكيف أشار النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجبهة إلى الأنف؟ وأجاب عنه الشيخ بأن وضع تمام الجبهة مستلزم لوضع الأنف أيضًا، فإن أحدًا إن لم يضع الأنف لا بد أن يرتفع شيء من أسفل الجبهة، فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالإشارة إلى الأنف إلى أن تكميل وضع الجبهة يكون بوضع الأنف، فللَّه دره.
(1)
"فتح الباري"(2/ 296).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 341).
(3)
في الأصل: "عظم" وهو تحريف.
قال الحافظ
(1)
: قوله: "على الجبهة" وفي الحديث الآتي "أشار بيده على أنفه"، وعند النسائي في آخر الحديث:"قال ابن طاوس: ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه وقال: هذا واحد"، فهذه رواية مفسرة.
قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود والأنف تبع، وقال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما جعلا كعضو واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية، قال: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكتفى بالسجود على الأنف كما يكتفى بالسجود على بعض الجبهة، وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف إلى أن قال: وجواز الاقتصار على بعض الجبهة قال به كثير من الشافعية، ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده، وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها، وعن الأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: يجب أن يجمعهما وهو قول للشافعي أيضًا، انتهى.
قال العيني
(2)
: احتج بالحديث أحمد وإسحاق على أنه لا يجزيه من ترك السجود على شيء من الأعضاء السبعة، وهو الأصح من قولي الشافعي، وكأن البخاري مال إلى هذا القول، ولم يذكر الأنف في هذا الحديث، وذكره في الحديث الآتي قريبًا، واختلفوا في السجود على الأنف هل هو فرض مثل غيرها؟ ثم بسط الاختلاف في ذلك، وحاصله: أنه يجوز الاقتصار على الجبهة عند الجمهور خلافًا لأحمد، وأما الاقتصار على الأنف دون الجبهة فلا يجوز إلا عند أبي حنيفة، انتهى.
وفي هامش "الكوكب"
(3)
: السجدة واجبة على الأعضاء السبعة الواردة في الحديث عند الشافعية في أظهر قوليه وزفر ورواية لأحمد، وفي
(1)
"فتح الباري"(2/ 296).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 555).
(3)
"الكوكب الدري"(1/ 278).
الأخرى له، وبه قال مالك والحنفية: لا يجب غير الوجه، ثم في الوجه هل يجب الجمع بين الجبهة والأنف أم لا؟ مختلف إلى آخر ما فيه.
(134 -
باب السجود على الأنف)
سيأتي الكلام على الفرق بين هذا الباب والآتي في الباب الآتي.
(135 -
باب السجود على الأنف في الطين)
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: المقصود بهذا الباب بيان تأكد السجود على الأنف أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم به حتى لم يتركه في حالة الحرج أعني الطين، ولو لم يكن متأكدًا لتركه في مثل هذه الحالة، انتهى.
وقال الحافظ
(2)
: هذه الترجمة أخص من التي قبلها، وكأنه يشير إلى تأكد أمر السجود على الأنف بأنه لم يترك مع وجود عذر الطين الذي أثر فيه، انتهى. قلت: لا شك أن غرض هذه الترجمة هو ذاك كما جزم به المشايخ، لكن الترجمة السابقة من "باب السجود على الأنف" الظاهر منها أن الغرض هو الإشارة إلى الاختلاف في الاكتفاء بالأنف وإلا فلا وجه لها، وتقدم قريبًا اختلاف الأئمة في ذلك.
(136 -
باب عقد الثياب وشدها. . .) إلخ
اعلم أن الإمام البخاري ترجم بثلاثة أبواب: الأول "باب عقد الثياب. . ." إلخ، وأورد عليه أنها من أبواب الثياب ليست في محلها حتى قال بعضهم: إن ذلك من النساخ فذكروا بابين من أبواب الثياب ها هنا، وذكروا ترجمتين من أبواب صفة الصلاة في أبواب الثياب، وهما "باب إذا لم يتم السجود" و"باب يبدي ضبعيه".
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 248).
(2)
"فتح الباري"(2/ 298).
والأوجه عندي: أن ذلك كله من لطائف البخاري ودقة نظره المعروفة تشحيذًا للأذهان، والغرض من ذكر هذا الباب ها هنا أن ما سيأتي من النهي عن كف الثياب محمول على الأمن من الكشف، أما إذا خاف كشف العورة فلا بد من عقدها لأن الفرض أهم من المستحبات.
قال الحافظ
(1)
: قوله: باب عقد الثياب. . . إلخ؛ كأنه يشير إلى أن النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة محمول على غير حالة الاضطرار، ووجه إدخال هذه الترجمة في أحكام السجود من جهة أن حركة السجود والرفع منه تسهل مع ضم الثياب وعقدها لا مع إرسالها وسدلها، أشار إلى ذلك ابن المنيِّر، انتهى.
والأوجه عندي: أنه ذكره في أبواب السجود لأن الكشف أقرب في السجود لما فيه من إبداء الضبعين وتجافي اليدين، فكأنه رضي الله عنه ذكر الثياب ها هنا مخافة أن لا يبالي أحد بإتمامه اهتمامًا باشتمال الثياب وعدم الكشف، فذكر في الموضعين المسألتين اهتمامًا بهما لئلا يقصر أحد في إحداهما اهتمامًا بالآخر، ثم ذكر الإمام ثانيًا "باب لا يكف شعره"، وثالثًا "باب لا يكف ثوبه. . ." إلخ، وفرقهما على عادته اهتمامًا بكل واحد منهما.
قال الحافظ
(2)
: المراد بالشعر شعر الرأس، ومناسبة هذه الترجمة لأحكام السجود من جهة أن الشعر يسجد مع الرأس إذا لم يكف أو يلف، وجاء في حكمة النهي عن ذلك أن غرزة الشعر يقعد عليها الشيطان حالة الصلاة، كما جاء في "سنن أبي داود"، انتهى.
ثم لا يذهب عليك أن المصنف ذكر في "باب لا يكف ثوبه" حديث ابن عباس المذكور في الباب الماضي، وسياق الحديث في البابين على نسق واحد ومع ذلك أطلق الإمام الترجمة الأولى، وقيَّد الثانية بقوله:"في الصلاة" ولم أر من نبَّه على ذلك الفرق.
(1)
"فتح الباري"(2/ 298).
(2)
"فتح الباري"(2/ 299).
والأوجه عندي: أن النهي عن كف الشعر عند الإمام مطلق سواء فعله قبل الصلاة أو فيها؛ لكونه معقد الشيطان، والنهي عن كف الثوب عنده مقيد بالصلاة فكأنه مال في ذلك خاصة إلى ما جنح إليه الداودي.
فقد قال العيني
(1)
في "باب السجود على سبعة أعظم" تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكف شعرًا وثوبًا": فيه كراهة كف الثوب والشعر، وظاهر الحديث النهي عنه في حال الصلاة، وإليه مال الداودي خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها، واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، انتهى من هامش "اللامع".
(137 -
باب لا يكف شعرًا)
تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
وكتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: يعني بذلك أن ما تقدم من جواز عقد الثياب وضمها فإنما هو حيث خاف كشف الستر؛ لأن الفرض أهم، وأما إذا أمن ذلك فإنه لا يكف شعرًا لما فيه من ترك الخشوع والالتفات إلى الغير ومنع الثياب وما يكفه عن السجدة، انتهى.
وفي "تراجم شيخ المشايخ"
(3)
: أي: لا يصلي الصلاة بهذه الهيئة؛ لأن المستحب أن يصلي الرجل في الهيئة المعتادة المستحسنة عنده، وهيئة كف الشعر وجمعه وشده على الرأس هيئة غير معتادة للعرب، بل عادتهم إرسال الشعر، وها هنا أسرار دقيقة تضيق عنها نطاق النطق والبيان، انتهى.
(138 -
باب لا يكف ثوبه في الصلاة)
تقدم الكلام عليه، وفي "القول الفصيح" لمولانا فخر الدين أحمد رحمه الله: ثم في وضع مسألة النهي عن كف الثياب عقيب عقد الثياب
(1)
"عمدة القاري"(4/ 557).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 347).
(3)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 249).
وشدها إيماء إلى أن النهي عن الكف فيما إذا كان الثوب فاضلًا مسترسلاً على البدن، أما إذا كان الثوب ضيقًا لا تستمسك على البدن إلا بالشد والعقد فيه، ولو ترك غير مشدود انكشفت عورته في الركوع أو السجود، فالعقد متعين البتة حتى لا تبدوا عورته، انتهى.
(139 -
باب التسبيح والدعاء في السجود)
تقدم الكلام على هذه الترجمة فيما تقدم من "باب الدعاء في الركوع".
(140 -
باب المكث بين السجدتين)
أي: الجلوس بين السجدتين قدر الاعتدال وهو ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم سجد ثم رفع رأسه هنية"، وهل يقرأ بين السجدتين شيئًا من الدعاء؟ مختلف بين العلماء. قال الموفق
(1)
: المستحب عند أحمد أن يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، رب اغفر لي، يكرر ذلك مرارًا، والواجب منه مرة، وقال في موضع آخر: المشهور عن أحمد أنه واجب، وفي رواية أنه غير واجب، وهو قول أكثر الفقهاء، انتهى.
قلت: ولم يذكر هذا الذكر صاحب "شرح الاقناع"، وفي "البذل"
(2)
تحت حديث "وكان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي": قال القاري: هو محمول على التطوع عندنا، انتهى.
(141 -
باب لا يفترش ذراعيه في السجود. . .) إلخ
قال الحافظ
(3)
: قال ابن المنيِّر: أخذ لفظ الترجمة من حديث أبي حميد، والمعنى من حديث أنس، وأراد بذلك أن الافتراش المذكور في حديث أبي حميد بمعنى الانبساط في حديث أنس، انتهى.
(1)
"المغني"(2/ 207).
(2)
"بذل المجهود"(4/ 299).
(3)
"فتح الباري"(2/ 301).
والذي يظهر لي أنه أشار إلى رواية أبي داود، فإنه أخرج حديث الباب بلفظ "ولا يفترش" بدل ينبسط، انتهى.
(142 -
باب من استوى قاعدًا. . .) إلخ
في "تراجم شيخ المشايخ"
(1)
: المقصود من الباب إصالة إثبات جلسة الاستراحة، وهي التي تكون في الوتر، أي: ما بعد الركعة الأولى أو بعد الثالثة، انتهى.
وفي هامش "اللامع": واختلفوا في النهوض في الفرد هل يقوم على صدور قدميه أو يجلس أولًا ثم يقوم، وإلى الثاني مال الإمام البخاري، وفي "البذل"
(2)
: قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، وبه قال أحمد والمعروف عنه روايتان كما في "المغني"
(3)
: قال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، أي: لا يجلس، انتهى.
قال العيني
(4)
: في حديث الباب دليل لمذهب الشافعية على ندبية جلسة الاستراحة، انتهى.
وقال الطحاوي: لو كانت هذه الجلسة مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص، انتهى.
(143 -
باب كيف يعتمد على الأرض)
وهذا السادس من الأبواب المبدوءة بلفظ "كيف".
وكتب الشيخ في "اللامع"
(5)
تحت قوله: "وإذا رفع رأسه في السجدة الثانية. . ." إلخ: هذا بيان لكيفية الاعتماد، وأنه بعد رفع الرأس من السجدة
(1)
"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 250).
(2)
"بذل المجهود"(4/ 286).
(3)
"المغني"(2/ 212).
(4)
"عمدة القاري"(4/ 567).
(5)
"لامع الدراري"(3/ 354).
وبعد الجلوس، وأنه على الأرض لا على شيء من جسده فكان موافقًا للترجمة، انتهى.
وفي هامشه: هذا توجيه لمطابقة الحديث بالترجمة فإنهم أوردوا على الحديث بأنه لا يوافق الترجمة.
قال الحافظ
(1)
: إن قيل: ترجم على كيفية الاعتماد، وفي الحديث إثبات الاعتماد فقط، أجاب الكرماني بأن بيان الكيفية مستفاد من قوله: جلس واعتمد على الأرض ثم قام، فكأنه أراد بالكيفية أن يقوم معتمدا عن جلوس لا عن سجود، وقيل: يستفاد من الاعتماد أنه يكون باليد؛ لأنه افتعال من العماد والمراد به الاتكاء وهو باليد، انتهى.
ولا يبعد عندي أن غرض المصنف بالترجمة ليس بيان الكيفية، بل ذكر لفظ "كيف" تنبيهًا على اختلافهم في بيان كيفية الاعتماد، وغرض الترجمة إثبات الاعتماد على الأرض عند النهوض كما نبّهت على ذلك في مقدمة "اللامع" من أن الإمام البخاري طالما يشير بلفظ "كيف" إلى مجرد الاختلاف في الكيفية بدون إثبات الكيفية، ومسألة الاعتماد على الأرض عند النهوض عن السجود أو التشهد أيضًا خلافية شهيرة، والمعروف على ألسنة المشايخ أن الاعتماد على الأرض عند النهوض يستحب عند الشافعي ومالك، ولا يستحب عند الحنفية، وليس كذلك، بل الاعتماد على الأرض مندوب عند الشافعي فقط دون الأئمة الثلاثة.
ذكر صاحب "السعاية": ذكر الفقية المالكي ابن أبي زيد في رسالته: تسجد للثانية كما فعلت أولًا، ثم تقوم من الأرض كما أنت معتمدًا على يديك: لا ترجع جالسًا لتقوم من جلوس، انتهى.
وظاهره أن مذهب مالك في الاعتماد مثل مذهب الشافعي، وفي
(1)
"فتح الباري"(2/ 303).
الجلسة مثل مذهبنا لكن المشهور المحكي عنه في كتب أصحابنا أن مذهبه فيهما كمذهبنا، انتهى كلام "السعاية".
قلت: وهو كذلك ليس الاعتماد على الأرض مندوبًا مستقلًا عند المالكية، لكن المستحب عندهم في الرفع عن السجدة تقديم الركبتين وتأخير اليدين، فيتوهم من ذلك من توهم أنهم قائلون بندبية الاعتماد على الأرض، ومذهب الحنفية في ذلك ما في "الدر المختار"
(1)
أنه يكبر للنهوض على صدور قدميه بلا اعتماد وقعود، قال ابن عابدين: قال في الكفاية: أشار به إلى خلاف الشافعي في موضعين: أحدهما: يعتمد بيديه على ركبتيه عندنا، وعنده على الأرض، والثاني: الجلسة الخفيفة، انتهى.
وقال الموفق
(2)
بعد ذكر القولين لأحمد في جلسة الاستراحة: وعلى كلتا الروايتين ينهض إلى القيام على صدور قدميه معتمدًا على ركبتيه، قال القاضي: لا يختلف قوله، أنه لا يعتمد على الأرض، سواء يجلس للاستراحة أو لا يجلس، وقال مالك والشافعي: السُّنَّة أن يعتمد على يديه في النهوض، انتهى. مختصرًا من هامش "اللامع".
(144 -
باب يكبر وهو ينهض من السجدتين)
قال الحافظ
(3)
: ذهب أكثر العلماء إلى أن المصلي يشرع في التكبير أو غيره عند ابتداء الخفض أو الرفع، إلا أنه اختلف عن مالك في القيام إلى الثالثة من التشهد الأول، فروى في "الموطأ" عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما "أنهم كانوا يكبرون في حال قيامهم"، وروى ابن وهب عنه أن التكبير بعد الاستواء أولى، وفي "المدونة": لا يكبر حتى يستوي قائمًا، ووجهه بعض أتباعه بأن تكبير الافتتاح يقع بعد القيام فينبغي أن يكون هذا نظيره من حيث إن الصلاة فرضت أولًا ركعتين ثم زيدت الرباعية فيكون
(1)
"رد المحتار على الدر المختار"(2/ 213).
(2)
"المغني"(2/ 213).
(3)
"فتح الباري"(2/ 304).
افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه، وكان ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يستحب رفع اليدين حينئذ لتكمل المناسبة، ولا قائل منهم به، انتهى.
وقال الحافظ أيضًا: وأما مقصود الباب فالمشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر حين يقوم ولا يؤخره حتى يستوي قائمًا كما تقدم عن "الموطأ"، وأما ما تقدم في "باب ما يقوم الإمام ومن خلفه" من حديثه بلفظ:"وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر" فيحمل على أن المعنى إذا شرع في القيام، قال ابن المنيِّر: أجرى البخاري الترجمة وأثر ابن الزبير مجرى التبيين لحديثي الباب؛ لأنهما ليسا صريحين في أن ابتداء التكبير يكون مع أول النهوض، انتهى.
قلت: وهذا الغرض أعني الرد على المالكية هو الأوجه عندي، وما نقل الحافظ من إشكال ابن رشيد من تكرار هذه الترجمة بما سبق "باب التكبير إذا قام من السجود"، وبسط الكلام في توجيهه لا يحتاج إليه عندي، وذلك لاختلاف الغرضين في الموضعين، فالغرض ها هنا كما عرفت آنفًا هو الرد على المالكية، والغرض من الباب السابق هو بيان تكبيرات الانتقال كما يظهر من سياق التراجم هناك، وتقدم في الأصول أن الاتحاد في الألفاظ مع اختلاف الأغراض لا يسمى تكرارًا وهو الأصل الثاني والعشرون.
(145 -
باب سُنَّة الجلوس في التشهد)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: وسُنَّته عندنا للرجل في التشهدين غير ما هو سُنَّة للمرأة فيهما.
وقال العيني
(2)
على قوله: "جلسة الرجل": إنه المختار عند الحنفية، ولا يصح هذا إلا إذا أريد بجلسة الرجل جلسته على ما ذهب إليه أصحاب
(1)
"لامع الدراري"(3/ 357).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 571).
التورك، فإن جلسته عند هؤلاء يقارب جلسة المرأة عندنا، والله أعلم، انتهى.
وفي هامشه بعد نقل عبارة العيني: والظاهر عندي أن في عبارة العيني سقوطًا من الكاتب لأن ذلك الكلام يخالفه كلام العيني بنفسه فيما سيأتي قريبًا من قوله: وأما جلوس المرأة فهو التورك عندنا، انتهى.
واعلم أن ها هنا مسألتين: إحداهما: التفريق بين جلسة الرجل والمرأة، فالتفريق بينهما مسلك الحنفية والحنابلة، بخلاف المالكية والشافعية فإنهم لم يفرقوا بينهما، والمسألة الثانية: سُنَّة الجلوس فعندنا الافتراش مطلقًا في جميع الصلوات، والتورك مطلقًا عند مالك، وأما عند الشافعي وأحمد فالجمع بينهما بأن السُّنَّة عند الشافعية في الجلسات بين الصلاة كالحنفية وفي الجلسة الأخيرة كالمالكية، وعند أحمد الافتراش في الجلسات كلها كالحنفية إلا في صلاة فيها تشهدان فيتورك في الثاني منهما، والإمام البخاري ترجم بسُنَّة الجلوس، ولم يحكم في الترجمة بشيء، بل ذكر فيها الروايتين، فالظاهر أن الترجمة على الأصل الرابع من أصول التراجم، ويحتمل أن يكون من الأصل الخامس والثلاثين.
قال الحافظ
(1)
: قال ابن المنيِّر: ضمن هذه الترجمة ستة أحكام: وهي أن هيئة الجلوس غير مطلق الجلوس، والتفرقة بين الجلوس للتشهد الأول والأخير وبينهما وبين الجلوس بين السجدتين، وأن ذلك كله سُنَّة، وأن لا فرق بين الرجال والنساء، وأن ذا العلم يحتج بعمله، انتهى.
قال الحافظ: وهذا الأخير إنما يتم إذا ضم أثر أم الدرداء إلى الترجمة، انتهى.
والظاهر عندي أن غرضه من أثرها أن لا فرق بين ذلك في الرجال والنساء كما قال به الشافعية.
(1)
"فتح الباري"(2/ 305).
وفي تقرير المكي: قوله: فقيهة، فعلم أن جلسة الرجل للمرأة أيضًا جائز، وهو الغرض للبخاري، انتهى.
ثم اختلفوا في أن أم الدرداء هذه كبيرة أو صغيرة، أما الكبيرة فهي صحابية اسمها خيرة بنت أبي حدرد، والصغيرة تابعية اسمها هجيمة، واختلفوا أيضًا في أن قوله:"وكانت فقيهة" من قول البخاري أو من كلام مكحول إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"
(1)
. فارجع إليه لو شئت.
(146 -
باب من لم ير التشهد الأول واجبًا. . .) إلخ
اعلم أن الإمام البخاري ترجم للتشهد ثلاثة أبواب، الأول هذا واستدل له بأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى الثالثة ولم يرجع إلى الجلوس، فلو كان فرضًا لا بد من الرجوع إليه وهذا واضح جدًا، ولما كانت المسألة كالإجماعية جزم بالحكم فيها، ولم يلتفت إلى الخلاف لشذوذه، كما بسط في "الأوجز"
(2)
من أن التشهدين معًا سُنَّة مؤكدة عند مالك، ولا يذهب عليك أن سجدة السهو عندهم يجب بترك السنن المؤكدة، وعن أحمد الإيجاب فيها، والصواب في مذهبه أن التشهد الأول واجب تبطل الصلاة بتركه عمدًا ويسجد السهو في السهو، والثاني ركن، كما في "المغني"
(3)
.
وأما عند الشافعي فالتشهد الثاني عنده من الأركان، والأول من الأبعاض التي تجبر بسجدة السهو، وعندنا الحنفية الثاني واجب، وكذا الأول في ظاهر الرواية، وقيل: الأول سُنَّة، والمعروف [في المتون] الأول، والواجب عندنا ما يجبر بسجدة السهو، إذا عرفت ذلك فظهر لك أن ترجمة الإمام توافق الأئمة الأربعة، فإنه لم يقل أحد منهم: إنه فرض وركن من أركان الصلاة، وما حكي عنهم من الوجوب في ذلك كالحنفية والحنابلة فهو وجوب دون وجوب، فالنفي في الترجمة عن الوجوب الذي
(1)
"لامع الدراري"(3/ 359، 360).
(2)
"أوجز المسالك"(3/ 425).
(3)
"المغني"(2/ 217).
بمعنى الفرض، لكن بقي حينئذ أنه إذا لم يكن ركنًا وفرضًا فماذا حكمه؟ فترجم لذلك الترجمة الثانية "
باب التشهد في الأولى
" ولم يفصح في ذلك بحكم على عادته المعروفة، كما في الأصل الخامس والثلاثين لكنه أتى فيها رواية تدل على حكمه، وهو وجوب سجدة السهو وهو مذهب الأئمة الأربعة وإليه ميل البخاري إذ أورد فيه رواية سجود السهو، ثم لما كان حكم التشهد الآخر غير الأول عند الجمهور أفرد له ترجمة ثالثة ولم يذكر فيها أيضًا حكمًا على الأصل المذكور، لكنه ذكرها على نسق الترجمة الثانية إشارة منه إلى أن حكمهما عنده واحد، وأتى فيها رواية ألفاظ التشهد تجديدًا وتكميلًا للفائدة، انتهى ما في هامش "اللامع".
(147 - باب التشهد في الأولى)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: أي: بيان حكمه إذا تركه المصلي ماذا يفعل؟ والباب المعقود قبل ذلك إنما كان المقصود منه بيان أن التشهد ليس ركنًا للصلاة تفوت بفوته، فلا تكرار، وأيضًا ففي هذا الباب دلالة على أن السجود للسهو واحد لا يتكرر بتكرر السهو، وترك الواجبين، فإن التشهد لما كان واجبًا والقعدة الأولى واجبًا وبتركهما لم يسجد إلا سجدتين لا أربعًا علم أن السجود غير متكرر بتكرر السهو، ولو عقد الباب لهذا لكان أبعد من توهم التكرار، انتهى.
قلت: هو واضح لكن الباب حينئذ يكون من أبواب السهو الآتية بعد ذلك، لا من أبواب صفة الصلاة، فالظاهر من محل التبويب أن المقصود هو الذي تقدم في كلام الشيخ قُدِّس سرُّه، وعلى ما اخترته كما تقدم في الباب السابق لا إشكال في التراجم الثلاثة، ولا شائبة للتكرار فيها، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 363).
(148 -
باب التشهد في الآخرة)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: دلالة الرواية عليه من حيث إن المذكور فيها غير مقيد بالأولى والآخرة فلا يتقيد بشيء منهما، بل يثبت في كل جلسة ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم طويلة، انتهى.
وقد عرفت فيما سبق غرض الإمام البخاري بإفراد هذه الترجمة عندي الإشارة إلى اختلافهم في حكم التشهدين، وذكر ألفاظ التشهد فيه تجديدًا للفائدة ولا تختص هذه الألفاظ بالأخير، بل يعم التشهدين، ومع ذلك تقييد الإمام البخاري الترجمة بالتشهد الأخير إشارة إلى بعض طرقه على الأصل الحادي عشر، وذكر تشهد ابن مسعود في هذا الباب مصير منه إلى اختياره، انتهى.
(149 -
باب الدعاء قبل السلام)
كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"
(2)
: أشار بزيادة لفظ: "قبل السلام" إلى أن الدعاء لم يثبت إلا في القعدة الأخيرة، وإن كان المذكور في الرواية مطلقًا، انتهى.
وفي هامشه: قال الكرماني
(3)
: الحديث يدل على أن الدعاء كان في الصلاة فدلالته على الترجمة من حيث إن لكل مقام ذكرًا مخصوصًا، فيتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ عن الكل، وهو آخر الصلاة، أو علم من مثل الحديث الذي في الباب بعده، انتهى.
وتعقب عليه الحافظ
(4)
: بأن ما قال الكرماني من أن لكل مقام ذكرًا فيه نظر؛ لأن التعين الذي ادعاه لا يختص بهذا المحل إلى أن قال: والذي يظهر لي أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث تعيينه بهذا
(1)
"لامع الدراري"(3/ 369).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 371).
(3)
"شرح الكرماني"(5/ 185).
(4)
"فتح الباري"(2/ 318).
المحل، فقد وقع في بضع طرق حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"، انتهى مختصرًا.
وعلى هذا فيكون الترجمة من الأصل الحادي عشر، وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله: "في صلاتي" يعم جميعها، فمن مظانها هذا الموطن، انتهى.
قلت: وهذا هو الأصل الخمسون من أصول التراجم.
قال الحافظ
(1)
: ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك كان عند قوله لما علمهم التشهد: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"، ومن ثم أعقب المصنف الترجمة بذلك، انتهى.
يعني: ومن ثم ذكر البخاري بعد ذلك "
باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد
"، انتهى. إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(150 - باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد)
تقدم بعض ما يتعلق بهذا الباب في الباب السابق.
قال الحافظ
(2)
: يشير إلى أن الدعاء السابق في الباب الذي قبله لا يجب، وإن كان قد ورد بصيغة الأمر، وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضًا، ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يترجم بعد التشهد بابًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر في هذا الباب أيضًا حديثًا يتعلق بها، ولا يقال: إن حديثها لم يكن على شرطه، فإنه يترجم بها في "كتاب الدعوات"، ويذكر فيه حديث كعب بن عجرة، وفيه صلاة التشهد، وأخرج أيضًا بمعناه حديث الخدري اللَّهم إلا أن يقال: إنها ليست بواجبة عنده في الصلاة، فهي داخلة في عموم الأدعية في الصلاة، وذكرها ها هنا كان يوهم الإيجاب، والمسألة خلافية شهيرة بين الأئمة، قال
(1)
"فتح الباري"(2/ 320).
(2)
"فتح الباري"(2/ 320).
الموفق
(1)
: الصلاة في التشهد واجبة في صحيح المذهب، وهو قول الشافعي، وعن أحمد: أنها غير واجبة، وهذا قول مالك والشافعي
(2)
وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر: هو قول جل أهل العلم إلا الشافعي، انتهى.
(151 -
باب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: الظاهر أن المراد إثبات أن المسح وعدمه كلاهما جائز، ويمكن أن يكون القصد إثبات عدم الجواز بمعنى أن الترك على حاله هو الأولى، والمعنى على الأول: باب من لم ير المسح سُنَّة، وعلى الثاني: باب من لم ير المسح مكروهًا، والرواية يمكن الاستدلال بها على كل من المرامين، انتهى.
وفي هامشه: قال ابن المنيِّر ما حاصله: ذكر البخاري المستدل ودليله ووُكّل الأمر فيه لنظر المجتهد هل يوافق الحميدي أو يخالفه، وإنما فعل ذلك لما يتطرق إلى الدليل من الاحتمالات؛ لأن بقاء أثر الطين لا يستلزم نفي مسح الجبهة، إذ يجوز أن يكون مسحها وبقي الأثر بعد المسح، ثم بعد ذكر عدة احتمالات قال: وفي قوله: رأيت الحميدي. . . إلخ، إشارة إلى أنه يوافقه على ذلك، ومن ثم لم يتعقبه، انتهى.
قلت: في قوله: إشارة إلى أنه يوافقه. . . إلخ، أن المعروف في أصول التراجم أن الترجمة من باب من قال كذا، إشارة إلى أن المصنف لم يره، وقد تقدم ما فيه في أصول التراجم، فمجرد ذكره قول الحميدي ليس بحجة على أنه وافقه لاحتمال أنه ذكر قوله لبيان من في الترجمة كما أشار إليه ابن المنيِّر من أن الإمام ذكر المستدل وهو الحميدي ودليله، ووكّل
(1)
"المغني"(2/ 228، 229).
(2)
كذا في الأصل، وفي "الشرح الكبير" بدله:"الثوري" وهو الصحيح (ز).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 378).
الأمر فيه إلى المجتهد، وتقدم في "باب السجود على الأنف في الماء والطين" اختلاف الأئمة في ذلك، انتهى.
(152 -
باب التسليم)
قال الحافظان
(1)
ابن حجر والعيني: أي: في آخر الصلاة، وإنما لم يشر إلى حكمه هل هو واجب أم سُنَّة؟ لوقوع الاختلاف فيه، لتعارض الأدلة.
قال العيني: واختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأحمد: إذا انصرف المصلي من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن التسليم ليس بفرض حتى لو تركه لا تبطل صلاته، انتهى مختصرًا.
(153 -
باب يسلم حين يسلم الإمام. . .) إلخ
قال الحافظ
(2)
: قال ابن المنيِّر: ترجم بلفظ الحديث، وهو محتمل؛ لأن يكون المراد أنه يبتدأ السلام بعد ابتداء الإمام له، فيشرع فيه قبل أن يتمه الإمام، ويحتمل أن يكون المراد أن المأموم يبتدأ السلام إذا أتمه الإمام، فلما كان محتملًا للأمرين وكل النظر فيه إلى المجتهد، انتهى.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون أراد أن الثاني ليس بشرط؛ لأن اللفظ يحتمل الصورتين، فأيهما فعل المأموم جاز، وكأنه أشار إلى أنه يندب أن لا يتأخر المأموم في سلامه بعد الإمام متشاغلًا بدعاء وغيره، ويدل عليه ما ذكره من أثر ابن عمر، انتهى.
وبهذا الأخير جزم العلامة العيني
(3)
وقال: في هذا عن أبي حنيفة روايتان، في رواية: يسلم بعد سلام إمامه، وفي رواية: يسلم مع الإمام،
(1)
"فتح الباري"(2/ 322)، و"عمدة القاري"(4/ 597).
(2)
"فتح الباري"(2/ 323).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 600).
وقال الشافعي: يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى، انتهى.
قلت: وقد تقدم حكم المتقدم على الإمام في "باب متى يسجد من خلف الإمام" وتقدم هناك أن المشهور عن المالكية أن المقارنة في السلام مفسدة، وعند الشافعي وأحمد مكروه.
(154 -
باب من لم يرد السلام على الإمام)
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: يمكن أن يكون المراد بذلك بيان حكم من لم ينو الإمام بتسليمته، واكتفى بلفظ التسليمة، وتخصيص الإمام بالذكر لأن من تركه فهو لمن سواه أترك، فصار المعنى أن من لم ينو في تسليمته أحدًا واكتفى بمجرد اللفظ ولم يفهم المراد به ولا عين المسلم عليه فماذا حكمه؟ ثم أثبت بإطلاق الرواية وعدم تقييد التسليم فيها بشيء من النيات وغيرها أن صلاته جائزة لا تفسد، وأما أنه هل ترك بذلك سُنَّة أو مستحبًا؟ فأمر آخر غير متعرض به ها هنا، والله أعلم، ولعل معنى قوله: واكتفى بتسليم الصلاة على هذا التقدير أنه لم ينو بتسليمته إلا الخروج من الصلاة لا غير، انتهى.
وفي هامشه: غرض الترجمة عندي واضح لا غبار عليه، والعجب أن المشايخ والشرَّاح اختلفوا في غرضه على أقوال مع وضوح غرض البخاري بذلك، وهو أنه أراد الرد على من قال بتسليمة ثالثة ردًا على الإمام لرواية أبي داود
(2)
: عن سمرة قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأخرج مالك في "الموطأ" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه إذا قضى تشهده، وأراد أن يسلم قال: السلام عليكم عن يمينه، ثم يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه، وبسط في "الأوجز"
(3)
: أن مذهب الإمام مالك وحدة السلام للإمام والفذ تلقاء وجهه وتثليث السلام للمأموم، انتهى.
(1)
"لامع الدراري"(3/ 381).
(2)
"سنن أبي داود"(1001).
(3)
"أوجز المسالك"(2/ 250).
وقال الحافظ
(1)
: أورد البخاري فيه حديث عتبان واعتماده فيه على قوله: "وسلمنا حين سلم" فإن ظاهره أنهم سلموا نظير سلامه، وسلامه إما واحدة، وهي التي يتحلل بها من الصلاة، وإما هي وأخرى معها، فيحتاج من يستحب تسليمة ثالثة على الإمام بين التسليمتين - كما تقوله المالكية - إلى دليل خاص، وإلى رد ذلك أشار البخاري، وقال ابن بطال: أظنه قصد الرد على من يوجب التسليمة الثانية، وقد نقله الطحاوي عن الحسن، وفي هذا الظن بعد، انتهى.
قلت: والبعد ظاهر، فإن التسليمتين ثبتا من فعله صلى الله عليه وسلم في روايات عديدة ذكرها العيني
(2)
عن عشرين صحابيًا، فكيف يمكن أن يرد عليه البخاري، وأعجب منه ما قال الكرماني
(3)
: يحتمل أن يراد به التسليمة الأولى التي بها تحلل الصلاة، وأن يراد ما في التحيات من "سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" المتناول للإمام، انتهى.
فإنه لا تعلق له بالترجمة بقوله: "باب من لم يرد السلام" اللَّهم إلا أن يقال: إنه أثبتها بعدم ذكر الثالث واكتفى في العمل على رواية أبي داود المذكورة بالتسليمة الأولى في الصلاة أو بتسليمة التحيات، انتهى.
(155 -
باب الذكر بعد الصلاة)
سكتوا عن غرض المصنف بذلك، ويحتمل عندي أن يكون غرضه الرد على من كره الفصل بين المكتوبات والرواتب بالأوراد، وحمل الروايات الواردة في ذلك على الفراغ من الرواتب كما بسط البحث في ذلك شارح "المنية" وغيره، ويحتمل أيضًا في غرض الترجمة أنه أراد بذلك دفع ما توهم به بعض الخلف من أن الأدعية الواردة في دبر الصلاة محمولة على ما قبل السلام، قال ابن القيم: دبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان
(1)
"فتح الباري"(2/ 323).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 601).
(3)
"شرح الكرماني"(5/ 189).
شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان، انتهى.
ولذا ترجم الإمام بلفظ الذكر بعد الصلاة، وأورد فيه حديث الدبر أيضًا تنبيهًا على أن المراد منه بعد الصلاة، ويحتمل أيضًا أن الإمام أشار بلفظ الذكر في الترجمة وإيراده حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ التكبير إلى أن المراد منه مطلق الذكر لا تخصيص التكبير، ولذا فسَّر الكرماني قول ابن عباس في الحديث بالتكبير، أي: بذكر الله، انتهى من هامش "اللامع".
وبسط فيه الكلام على حديث الباب أشد البسط، ومما يجب التنبيه عليه أن رفع الأيدي في الدعاء بعد الصلوات المكتوبة أنكره بعض العلماء وليس بوجيه، فإنه ثابت في الروايات الكثيرة كما بسط في "إعلاء السنن" للشيخ التهانوي، و"آثار السنن" للعلامة النيموي ومحمد الزبيدي في "رسالة رفع اليدين بعد الصلاة" المطبوعة على آخر "المنتقى" طبع في الهند، ولشيخنا التهانوي فيها رسالة وجيزة مسماة بـ "استحباب الدعوات عقيب الصلوات" وفيها عن ابن السني في "عمل اليوم والليلة"
(1)
برواية أنس مرفوعًا: "ما من عبد يبسط كفيه في دبر كل صلاة يقول: اللَّهم" الحديث، وفيها عن "ميزان الاعتدال" أنه حديث ضعيف، لكنه يعمل به في الفضائل، ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة
(2)
في "مصنفه" عن الأسود العامري عن أبيه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فلما سلم انحرف ورفع يديه ودعا" الحديث، ولا يخفى أن أئمة الحديث ذكروا أن رواية الضعيف مع الضعيف توجب الارتفاع من درجة السقوط إلى درجة الاعتبار.
وقال السيوطي في "فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء": وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن الزبير في حديث طويل "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته" رجاله ثقات، انتهى.
(1)
"عمل اليوم والليلة"(138).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 302).
وذكر فيها أقوال العلماء عن نصوص الأئمة الأربعة ثم قال: فتحصل من ذلك كله أن الدعاء دبر الصلوات مسنون ومشروع في المذاهب الأربعة.
قوله: (لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومثله يعد مرفوعًا عند الشيخين والجمهور خلافًا لمن أوقفه، كذا قال الحافظ
(1)
، ثم رفع الصوت بالذكر لم يقل به أحد من الأئمة أو الفقهاء إلا ابن حزم، وأوله الشافعي بأنه كان للتعليم، كذا في هامش "الهندية".
(156 -
باب يستقبل الإمام. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(2)
: أراد بذلك إثبات أن ذلك جائز لا ضير فيه، وأما إثبات المداومة عليه وأنه السُّنَّة فغير مقصود ها هنا وإن كان صحيحًا في نفسه، انتهى.
وفي هامشه: ترجم الإمام بأربع تراجم مسلسلة، كلها يتعلق بمسألة واحدة، وهي مسألة الجلوس بعد الصلاة، فترجم أولًا "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم" وأشار بذلك إلى جوازه كما اختاره الشيخ، أو إلى ندبه كما اختاره بعض المشايخ، ولعل الشيخ قُدِّس سرُّه اختار الجواز؛ لأن الإمام إذ ذاك مخير بين الاستقبال إلى الناس والتحول إلى اليمين أو الشمال كما سيأتي مفصلًا فلا ترجيح لإحدى الصور على الأخرى.
وفي تقرير المكي: ليس المراد به الانصراف للدعاء بعد الصلاة لا يكون بعدها سُنَّة، فإنه لم يكن باستقبال الناس، بل بالانصراف إلى الأيمن أو الأيسر، وما جاء فيه من لفظ الاستقبال فالمراد به الانصراف مجازًا لأن في الانصراف أيضًا بعض الاستقبال، بل المراد به - أي: في الباب - الاستقبال التام إلى الناس بعد الصلاة لأمر كالوعظ والترغيب في شيء أو نحوه، انتهى. وهذا هو الأوجه عندي، ثم بسط فيه الكلام في
(1)
"فتح الباري"(2/ 325).
(2)
"لامع الدراري"(3/ 400).
حكمة الاستقبال وكيفية الانحراف من الشروح وكتب الفقه، وفيه: وعلم من هذا كله أن الإمام عند جمهور العلماء مخير في الجلوس بعد الصلاة سواء يجلس مستقبل القوم أو على يمينه أو يساره، والثالث أرجح عند الحنفية كما في "العيني" عن "التوضيح"، والثاني عند أكثر الشافعية كما في "الفتح" وهو مختار الإمام أحمد، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.
(157 -
باب مكث الإمام في مصلَّاه بعد السلام)
وهذه الترجمة هي الثانية من التراجم الأربعة.
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: قصد بذلك إثبات أن ما ورد في النهي عنه فإنما هو تنزه وأدب، ومع ذلك فلو صلى هناك فإن صلاته جائزة صحيحة، والاستدلال بالرواية على هذا المدعى ظاهر، انتهى.
وفي هامشه: حاصل ما أفاده الشيخ أن التطوع في موضع الفرض جائز لا بأس به، وما ورد من النهي أدب وبيان للأولى، وعلى هذا فالترجمة مستأنفة لا تعلق لها بما سبق.
والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنها متعلقة بما سبق كالثالثة والرابعة، والغرض أن ما تقدم من استقبال القوم ليس بواجب حتى لو مكث على حاله مستقبل القبلة فهو جائز، وعلى هذا ذكر التطوع في مكانه استطراد؛ لأنه أيضًا يكون مستقبل القبلة.
وشرح الحافظ هذه الترجمة بوجه آخر، إذ قال
(2)
: "باب مكث الإمام. . ." إلخ، أي: بعد استقبال القوم، فيلائم ما تقدم، ثم إن المكث لا يتقيد بحال من ذكر أو دعاء أو تعليم أو صلاة نافلة، ولهذا ذكر في الباب مسألة تطوع الإمام في مكانه، انتهى.
وأنت خبير بأن تقدير المكث بعد الانحراف بهذا المقدار مشكل، فإن
(1)
"لامع الدراري"(3/ 407).
(2)
"فتح الباري"(2/ 335).
الوارد في الروايات من الأدعية دبر الصلاة يزيد على هذا المقدار بكثير، انتهى.
وقال العيني
(1)
: هذا باب في بيان مكث الإمام، ولم يبيِّن البخاري حكمه، هل هو مستحب أو مكروه؟ لأجل الاختلاف فيه بين السلف، فأكثر العلماء على كراهته إلا أن يكون مكثه لعلة، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: كل صلاة يتنفل بعدها يقوم، وما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فهو مخير، وقال أبو محمد من المالكية: ينتقل في الصلوات كلها ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شيء من سجود السهو ولا غيره، انتهى.
ثم التطوع في المكان الذي صلَّى فيه الفريضة ظاهر صنيع البخاري أنه لا بأس بذلك عنده.
قال العيني
(2)
: الجمهور على أن الإمام لا يتطوع في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وكرهه ابن عمر للإمام ولم ير به بأسًا لغيره، وعن القاسم: أن الإمام إذا سلم فواسع أن ينتقل في مكانه، وذكر ابن التين أنه قول أشهب، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.
(158 -
باب من صلَّى بالناس فذكر حاجته فتخطاهم)
هذه هي الثالثة من التراجم الأربعة.
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: أثبت بذلك أن النهي عن التخطي في الجمعة وغيرها سواء، وأن المنهي عنه ما إذا وجد بدًّا منه وكان في غير حاجة، وأما عند الحاجة فلا، انتهى.
وفي هامشه: ما أفاده الشيخ واضح وظاهر، والغرض على ما اخترته فيما سبق أنها أيضًا متعلقة بما سبق أن المكث المذكور سواء كان مستقبلًا للقوم أو منحرفًا إلى جهة ليس بواجب، بل مندوب إن لم تكن له حاجة،
(1)
"عمدة القاري"(4/ 622).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 623).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 412).
فإن كانت يجوز له الخروج من المسجد سريعًا، وذكر التخطي في الترجمة لمزيد إفادة، وهي التي ذكرها الشيخ قُدِّس سرُّه من أن النهي عنه مقيد بعدم الاضطرار إليه، وهو مختار الحافظين
(1)
ابن حجر والعيني إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(159 -
باب الانفتال والانصراف. . .) إلخ
هذه هي الرابعة من التراجم الأربعة.
اختلف العلماء في أن المراد بذلك الذهاب إلى حاجته أو الجلوس في المسجد منحرفًا إلى اليمين والشمال والخلاف في ذلك وسيع، وما يظهر لي أن عامة الفقهاء حملوها على الجلوس بعد الصلاة ولذا سووا بين الصور الثلاثة من الاستقبال والتحول يمينًا وشمالًا، ولا يبعد أن الإمام ترجم له مستقبلًا لذلك الاختلاف، فالغرض عندي أن الاستقبال المذكور فيما سبق ليس بمتعين، بل لو شاء جلس منحرفًا إلى اليمين أو الشمال لكنهم لما اختلفوا في المراد بالانصراف ترجم له بترجمة مستقلة، والقرينة على ما اخترته أن الإمام البخاري جمع في الترجمة بين الانفتال والانصراف، فكأنه أشار إلى أن المراد بالانصراف ها هنا هو الانفتال وهو الانحراف جالسًا، كما يشير إليه حديث أبي داود
(2)
: أنه صلى الله عليه وسلم سلَّم عن يمينه وعن يساره ثم انفتل كانفتال أبي رمثة، فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى، الحديث، وهذا كالنص على أن هذا الانفتال كان جالسًا لا ذاهبًا إلى بيته، وعلى ذلك حمل الشيخ ابن تيمية أحاديث الانصراف إذ ترجم أولًا "باب الانحراف بعد السلام وقدر اللبث بينهما" إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 337)، و"عمدة القاري"(4/ 627).
(2)
"سنن أبي داود"(ح: 1007).
(160 -
باب ما جاء في الثوم النّي والبصل)
ها هنا عدة أبحاث:
الأول: في ذكر هذه الترجمة ها هنا دون أبواب المساجد.
قال الحافظ
(1)
: هذه الترجمة والتي بعدها من أحكام المساجد، وأما التراجم التي قبلها فكلها من صفة الصلاة لكن مناسبة هذه الترجمة من جهة أنه بنى صفة الصلاة على الصلاة في الجماعة، ولهذا لم يفرد ما بعد "كتاب الأذان" بكتاب؛ لأنه ذكر فيه أحكام الإقامة ثم الإمامة ثم الصفوف ثم الجماعة ثم صفة الصلاة، فلما كان ذلك كله مرتبطًا بعضه ببعض واقتضى فضل حضور الجماعة بطريق العموم ناسب أن يورد فيه من قام به عارض كأكل الثوم، ومن لا يجب عليه ذلك كالصبيان، ومن تندب له في حالة دون حالة كالنساء، فذكر هذه التراجم فختم بها صفة الصلاة، انتهى.
والأوجه عندي: أن الإمام البخاري ذكر هذه الأبواب بمنزلة مسائل شتى في آخر أبواب الصلاة، ولما كانت هذه الأبواب متضمنة لمسائل عديدة من الصلاة وغيرها أفردها بالذكر.
والبحث الثاني: أن الإمام ذكر في هذا الباب مسألتين: أولاهما: بقوله: "ما جاء في الثوم النّي. . ." إلخ، وأشار بذلك عندي إلى الاختلاف في جواز أكل هذه الأشياء، وهذه المسألة لم تكن من باب الصلاة، لكنه ذكرها تبعًا للمسألة الآتية لاستنباطهما من أحاديث الباب ولذا جمعهما في باب، وأفرده عما سبق.
قال الكرماني
(2)
: الثوم ونحوه من البقول حلال بالإجماع، وحكي تحريمها عن أهل الظاهر؛ لأنها تمنع من حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(1)
"فتح الباري"(2/ 339).
(2)
"شرح الكرماني"(5/ 200).
والمسألة الثانية: التي أشار إليها في الترجمة بقوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، أيضًا خلافية، وكان منشأ الخلاف اختلافهم في المراد بقوله:"سجدنا" فذكره بعينه في الترجمة، وفي "الكرماني" عن النووي: مذهب بعض العلماء أن النهي خاص بمسجده صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أنه عام لكل مسجد، انتهى.
والبحث الثالث: أن الإمام ذكر في الترجمة الكراث أيضًا وليس له ذكر في الحديث.
قال الحافظ
(1)
: أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه مسلم
(2)
من رواية يحيى القطان عن ابن جريج بلفظ: "من أكل من هذه البقلة الثوم"، وقال مرة:"من أكل الثوم والبصل والكراث" وهذا أولى من قول بعضهم: إنه قاسه على البصل، ويحتمل أن يكون استنبط الكراث من عموم الخضراوات، فإنه يدخل فيها دخولًا أوليًّا لأن رائحته أشد.
البحث الرابع: أنه ذكر في الترجمة من الجوع أو غيره.
قال الحافظ
(3)
: لم أر التقييد بالجوع وغيره صريحًا، لكنه مأخوذ من كلام الصحابي في بعض طرق حديث جابر عند مسلم
(4)
: بلفظ: "فغلبتنا الحاجة" الحديث، انتهى.
وعلى هذا فغرض الترجمة أنه إذا منع عنها في حالة الجوع والحاجة فغيرهما بالأولى، أو يقال: إن الإمام البخاري أشار بذلك إلى عموم روايات الباب لا يختص بحاجة وغيرها فتكون الترجمة من الأصل الخمسين، وعلى ما اختاره الشرَّاح تكون مركبة من الأصل الحادي عشر والتاسح عشر إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".
(1)
"فتح الباري"(2/ 339).
(2)
"صحيح مسلم"(ح: 564).
(3)
"فتح الباري"(2/ 340).
(4)
"صحيح مسلم"(ح: 564).
(161 -
باب وضوء الصبيان. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: "قوله: وضوء الصبيان"، أي: إنه ثابت سُنَّة وإن لم يكن واجبًا عليهم، والحجة عليه قوله:"فقمت وتوضأت" وغير ذلك "ومتى يجب عليهم الغسل والطهور". والحجة عليه قوله: "على كل محتلم". "وحضورهم الجماعة العيدين والجنائز" أورده دفعًا لما يتوهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم الصبيان" الحديث، أن الصبيان لا يجوز لهم حضور المسجد والمصلى وغيرهما لأن حضورهم لا بأس به إذا وقع الأمن من التلويث، والحجة عليه الرواية الأولى والرابعة والخامسة والسادسة، وكل ذلك بَيّن بأدنى تفكر. "وصفوفهم" أي: وهذا باب في بيان صفوفهم كيف هي، والحجة عليه قوله:"فصففت عليه أنا واليتيم"، وقول ابن عباس: دخلت في الصف، انتهى.
وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع" أشد البسط، وفيه: أن هذا الباب أيضًا عندي من مسائل شتى، ولذا أفرده عما سبق، ولذا ذكر فيه مسائل شتى من وضوئهم وحضورهم الجماعة وغير ذلك.
قال العيني
(2)
: الترجمة مركبة من ستة أجزاء، انتهى.
قلت: هذا إذا عد قوله: "ومتى يجب عليهم الغسل والطهور" واحدًا، والظاهر أنهما اثنان، والمراد من الطهور الوضوء لتقابله بالغسل، فتكون الترجمة مركبة من سبعة أجزاء.
وقوله: "وصفوفهم". الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مسألة خلافية، وهي التي أشار إليها الشيخ قُدِّس سرُّه بقوله: كيف صفوفهم، فإنهم اختلفوا في الصبيان هل يجعل لهم
(1)
"لامع الدراري"(3/ 424).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 638).
صفوف مستقلة أو يدخلون في صفوف الرجال؟ قال الشعراني: قول الشافعي مع قول مالك إنه يقف خلف الإمام الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، وبعض أصحاب الشافعي على أن يقف بين كل رجلين صبي ليتعلم الصلاة منهم، انتهى إلى آخر ما بسط الاختلاف من كتب الفروع في هامش "اللامع".
(162 -
باب خروج النساء إلى المساجد. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(1)
: فيه دلالة على أن جواز خروجهن مقيَّد بعدم الفتنة كيف ما كان، فلما كان الغلس والليل سببين لارتفاع الفتنة جاز خروجهن فيهما، فإذا كانتا سببين للفتنة كما نشاهده في زماننا لم يجز الحضور فيهما أيضًا، انتهى.
قال العيني
(2)
: لما كان في هذا الباب خلاف بين الأئمة لم يجزم البخاري بنفي ولا إثبات، انتهى.
قلت: تقييد الإمام البخاري الترجمة بالليل والغلس يشير إلى جواز خروجهن بهذا القيد، ولذا قالت الشرَّاح: إن الإمام أشار بالترجمة إلى أن المطلق من الروايات في هذا الباب مقيد بذلك القيد واستنبط منه الشيخ قيد عدم الفتنة، هو لطيف جدًا، وموافق لما اختاره جمهور الفقهاء من المنع عن خروجهن في هذا الزمان مطلقًا لما نشاهده من الفتن الشهيرة إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" من اختلاف العلماء في هذه المسألة من كتب الفروع والشروح.
(164 -
باب صلاة النساء خلف الرجال)
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: يعني بذلك أن مقامهم خلف مقام
(1)
"لامع الدراري"(3/ 432).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 646).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 438).
الرجال، ودلالة الرواية على الترجمة في لفظ:"قبل أن يدركهن"، فإن انصراف النساء قبل أن يدركهن الرجال لا يمكن إلا وهن خلفهم، فلو كن متقدمات أو متوسطات لم يتصور ذلك، انتهى.
قال العيني
(1)
: غرض الترجمة بيان أن صلاة النساء خلف صفوف الرجال؛ لأن مبنى أمرهن على الستر وتأخرهن من الرجال أستر لهن إلى آخر ما قال.
قلت: وعلى هذا يكون الباب من الأصل الحادي والأربعين إشارة إلى ما ورد: "أخروهن من حيث أخرهن الله" وهو الأوجه عندي.
وقال السندي
(2)
: المراد قيامهن في الجماعة خلف صفوف الرجال، ويحتمل أن يقال: المراد اقتداؤهن بالرجال في الصلاة، ولعل هذا هو توجيه ذكر هذا الباب مرتين في الكتاب كما في بعض النسخ، فيحمل مرة على تأخر الصف ومرة على صحة الاقتداء، انتهى مختصرًا.
قلت: والتكرار في نسخة الكرماني، ولم يتعرض لذلك الحافظان ابن حجر والعيني، نعم تعرض له القسطلاني إلى آخر ما في هامش "اللامع".
(165 -
باب سرعة انصراف النساء من الصبح. . .) إلخ
كتب الشيخ في "اللامع"
(3)
: هذا مشير أيضًا إلى منعهن منه عند الفتنة، انتهى.
وفي هامشه: هذا أيضًا عندي من الأصل الحادي والأربعين، أشار الإمام البخاري بذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"، قال الزيلعي: أخرجه الجماعة إلا البخاري، انتهى. فإن المرأة كلما كانت في آخر الصفوف تكون أسرع للخروج.
(1)
"عمدة القاري"(4/ 650).
(2)
"حاشية السندي"(1/ 156).
(3)
"لامع الدراري"(3/ 440).
قال الحافظ
(1)
: قيَّد الترجمة بالصبح لأن طول التأخير فيه يفضي إلى الإسفار، فناسب الإسراع بخلاف العشاء، فإنه يفضي إلى زيادة الظلمة فلا يضر المكث، انتهى.
(166 -
باب استئذان المرأة زوجها. . .) إلخ
الظاهر عندي: أن الترجمة شارحة، يعني: أن المراد في الحديث الاستئذان للصلاة لا لغيرها لما تقدم في "باب خروج النساء إلى المساجد بالليل" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن"، فهذا نص في ذلك، ثم براعة الاختتام عند الحافظ في قوله: الخروج إلى المسجد؛ لأنه خروج إلى مناجاة ربه، فإن المصلي يناجي ربه، انتهى.
أي: البراعة في لفظ الخروج، وعندي أن الخروج إلى المسجد خروج إلى بيت الله وهو منتهى الموت، أو يقال: إن الخروج إلى مناجاة ربه هو المرتب على الموت.
وهذا آخر الجزء الثاني من الأبواب والتراجم للبخاري
وقد أمعن النظر فيه وأوضح إجماله الأعزان المكرمان ختني المولوي
الحافظ محمد عاقل صدر المدرسين بمدرسة مظاهر العلوم، والختن الآخر
المولوي الحافظ محمد سلمان من أكابر المدرسين بالمدرسة المذكورة،
جزاهما الله عني وعن سائر الناظرين لهذا الجزء أحسن الجزاء،
وبارك الله في علومهما وأذاقهما شراب حبه،
ويتلوه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى أوله "كتاب الجمعة"،
والحمد لله أولًا وآخرًا،
والصلاة والسلام على رسوله سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه سرمدًا ودائمًا
29/ ذو القعدة سنة: 1392 يوم الخميس
محمد زكريا عفي عنه
(1)
"فتح الباري"(2/ 351).