المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

42 - ‌ ‌ كتاب المساقاة هكذا في النسخ الهندية، وهكذا في نسخ - الأبواب والتراجم لصحيح البخاري - جـ ٤

[محمد زكريا الكاندهلوي]

فهرس الكتاب

42 -

‌ كتاب المساقاة

هكذا في النسخ الهندية، وهكذا في نسخ الكرماني والعيني والقسطلاني، وليس هو في نسخة "الفتح"، وهو الأوجه عندي، وفي نسخة "الفتح" بعد التسمية: في الشرب، وقول الله عز وجل:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ} الآية [الأنبياء: 30]

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، وزاد غيره في أوله "كتاب المساقاة" ولا وجه له فإن التراجم التي فيه غالبها تتعلق بإحياء الموات.

وبسط العيني

(2)

في اختلاف النسخ ثم قال: أما المساقاة فهي: المعاملة بلغة أهل المدينة، ومفهومها اللغوي هو الشرعي، وهي معاقدة دفع الأشجار والكروم إلى من يقوم بإصلاحهما، على أن يكون له سهم معلوم من ثمرها، ولأهل المدينة لغات يختصون بها، كما قالوا للمساقاة: معاملة، وللمزارعة: مخابرة، وللإجارة: بيع، وللمضاربة: مقارضة، انتهى.

وذكر في "الأوجز"

(3)

فيه عدة أبحاث:

الأول: في لغتها، وتقدم شيء من ذلك.

والثاني: في تعريفها عند الفقهاء.

والثالث: في حكمها، فجمهور العلماء من السلف والخلف على إباحتها، حتى حكى غير واحد من نقلة المذاهب الإجماع على ذلك، ولا شك أن الإجماع متعقب، كما بسط في "الأوجز".

وفي "المغني"

(4)

: قال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز المساقاة، قال

(1)

"فتح الباري"(5/ 29).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 50).

(3)

"أوجز المسالك"(13/ 402، 407).

(4)

"المغني"(7/ 530).

ص: 5

ابن رشد

(1)

: وعمدة الجمهور - منهم الأئمة الثلاثة وصاحبا أبي حنيفة - في جوازها حديث ابن عمر في معاملة أهل خيبر.

وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله، فعمدتهم مخالفة هذا الأثر للأصول مع أنه حكم مع اليهود، واليهود يحتمل أنهم أقرهم على أنهم عبيد، ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم أهل ذمة. . .، إلى آخر ما بسط في "الأوجز".

والرابع: ما في "الدسوقي"

(2)

: أن المساقاة مستثناة للضرورة من أمور خمسة ممنوعة.

والخامس: أن القائلين بجوازها اختلفوا في محل الجواز، فقال داود: لا تكون إلا في النخل فقط، وقال الشافعي: في النخل والكرم فقط، وقال مالك: تجوز في كل أصل ثابت كرُمّان والزيتون وما أشبه ذلك. . .، إلى آخر ما في هامش "اللامع"

(3)

.

(باب في الشرب)

بكسر المعجمة، والمراد به الحكم في قسمة الماء، قاله عياض

(4)

. وقال: ضبطه الأصيلي بالضم، والأول أولى، قال ابن المنيِّر: من ضبطه بالضم أراد المصدر، وقال غيره: المصدر مثلَّث، وقرئ:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] مثلثًا، والشرب في الأصل بالكسر النصب والحظ من الماء، انتهى [من "الفتح"]

(5)

.

قوله: ({وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ})[الأنبياء: 30] كتب الشيخ في "اللامع"

(6)

: يعني بذلك - والله أعلم - أن كل شيء فهو من الماء لكونه أصل الأشياء بأسرها فإن خلق السماوات والعناصر الثلاثة إنما هو من الماء،

(1)

"بداية المجتهد"(2/ 244).

(2)

"حاشية الدسوقي"(3/ 539).

(3)

"اللامع"(6/ 261، 262).

(4)

"مشارق الأنوار"(2/ 308).

(5)

"فتح الباري"(5/ 29).

(6)

"لامع الدراري"(6/ 262، 263).

ص: 6

وتخصيص الشيء بالحي في الآية على هذا التقدير مبني على أنهم المقصودون بالذكر ها هنا وإن لم يكن الحكم يختص بهم، انتهى. وذكر في هامشه الاختلاف في تفسير هذه الآية.

قوله: (فراتًا عذبًا) قال الحافظ

(1)

: وهو منتزع من قوله تعالى: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان: 53] انتهى، وهي في سورة الفاطر [12]. وفي "الجلالين"

(2)

: {عَذْبٌ فُرَاتٌ} : شديد العذوبة، وفي "الجمل"

(3)

: فرت ككرم: عذب، انتهى.

والأوجه عندي: أنه تلميح إلى قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]؛ لأن الواقع ها هنا بالنصب، وما أشار إليه الحافظ هو بالرفع، قال العلَّامة العيني

(4)

: ومن عادة الإمام البخاري أنه إذا ترجم لباب في شيء يذكر فيه ما يناسبه من الألفاظ التي في القرآن ويفسرها تكثيرًا للفوائد، وتقدم في مقدمة "اللامع" في بيان خصائص الكتاب.

(1 -‌

‌ باب من رأى صدقة الماء وهبته. . .) إلخ

كذا في نسخة الحافظ، وليس في النسخ الهندية التي بأيدينا، قال الحافظ

(5)

: كذا لأبي ذر. وللنسفي: "ومن رأى. . ." إلى آخره، جعله من الباب الذي قبله، ولغيرهما "باب في الشرب ومن رأى". وأراد المصنف بالترجمة الرد على من قال: إن الماء لا يملك، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(6)

قوله: "فقال: يا غلام أتأذن لي. . ." إلخ، فيه دلالة على الترجمة، حيث صار المحرز بإحرازه الماء كيف ما كان هبة أو شراء أو تحصيلًا من البئر بنفسه مستندًا بالتصرف فيه وأولى من غيره، وكما جازت الهبة والصدقة فيه مشتركًا يجوز منقسمًا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 29).

(2)

"الجلالين"(ص 364، 436).

(3)

"الجمل"(3/ 489).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 15).

(5)

"فتح الباري"(5/ 30).

(6)

"لامع الدراري"(6/ 263).

ص: 7

(2 -‌

‌ باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء)

قال ابن بطال

(1)

: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بمائه حتى يروى.

قلت: وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك، وكأن الذين ذهبوا إلى أنه يملك - وهم الجمهور - هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك.

والمراد بالفضل في حديث الباب: ما زاد على الحاجة، ولأحمد عن أبي هريرة:"لا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه" ثم ذكر الحافظ

(2)

الاختلاف في مصداق الماء الذي لا يجوز منعه، وبسط الكلام عليه في "الأوجز"

(3)

.

(3 -‌

‌ باب من حفر بئرًا في ملكه. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: إنما أورده ههنا لما أنه لما لم يضمن الساقط في البئر لكونها في ملكه يكون له فضل اختصاص بالماء أيضًا لكونه قد حصل بسعيه وفي ملكه فلا يفضل عليه غيره إذا لم يفضل الماء عن حاجته، وله المنع عن أن يدخل أحد في ملكه، نعم يجب له بذل الماعون إذا اضطر إليه أحد، انتهى.

وفي هامشه: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في توجيه ذكر هذا الباب في هذا الكتاب، وإلا فالظاهر أن محل هذا الباب كتاب الديات، وسيأتي فيه "باب المعدن جبار والبئر جبار". . . إلى آخر ما بسط فيه.

وقال ابن المنيِّر

(5)

: الحديث مطلق والترجمة مقيدة بالملك وهي

(1)

(6/ 495).

(2)

"فتح الباري"(5/ 31، 32).

(3)

"أوجز المسالك"(14/ 117 - 121).

(4)

"لامع الدراري"(6/ 264، 265).

(5)

"المتواري"(ص 264).

ص: 8

إحدى صور المطلق، وأقعدها سقوط الضمان لأنه إذا لم يضمن إذا حفر في غير ملكه فالذي يحفر في ملكه أحرى بعدم الضمان، انتهى.

وإلى التفرقة بين الحفر في ملكه وغيره ذهب الجمهور، وخالف الكوفيون، انتهى من "الفتح"

(1)

، وسيأتي التفصيل في الديات إن شاء الله.

(4 -‌

‌ باب الخصومة في البئر والقضاء فيها)

قال الحافظ

(2)

: أورد الحديث مختصرًا، وسيأتي بتمامه في "التفسير" وفي "الأيمان والنذور" وغير موضع، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(3)

: مطابقة الحديث بالترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم حكم في البئر المذكورة بطلب البينة من المدعي وبيمين المدعى عليه عند عجز المدعي عن إقامة البينة، انتهى.

(5 -‌

‌ باب إثم من منع ابن السبيل من الماء)

أي: الفاضل عن حاجته، ويدل عليه قوله في حديث الباب:"رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل"، قال ابن بطال

(4)

: فيه دلالة على أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ حاجته لم يجز له منع ابن السبيل، انتهى.

وقد ترجم المصنف بذلك بعد أربعة أبواب "من رأى أن صاحب الحوض أحق بمائه"، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(6 -‌

‌ باب سَكْر الأنهار)

السَكْر بفتح المهملة وسكون الكاف: السد والغلق، قاله في "الفتح"

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 33).

(2)

"فتح الباري"(5/ 33).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 59).

(4)

(6/ 499).

(5)

"فتح الباري"(5/ 34).

(6)

"فتح الباري"(5/ 35).

ص: 9

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: أراد بذلك إثبات جواز السد لما أن ظاهره الكراهة لما فيه من اشتراك العامة، ولكونه من محض فضله تعالى على عباده، فلا ينبغي حبسه على أحد دون أحد، ولا يذهب عليك أن الكلام ها هنا وفي بابين بعده إنما هو في الأنهار التي ليست مملوكة لأحد ولا هي جارية بحفرهم بل هي من الله تعالى، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام في تفصيل أنواع المياه وحكمها، وفيه أيضًا: اختلفوا في اسم هذا الرجل اختلافًا كثيرًا، بسطه الحافظان ابن حجر والعيني

(2)

، ولخصه القسطلاني

(3)

، إذ قال: قوله: "رجل من الأنصار" زاد البخاري في "الصلح": "قد شهد بدرًا" واسمه قيل: حميد، فيما أخرجه أبو موسى المديني في "الذيل": قال: وهذا مردود لما في بعض طرقه أنه شهد بدرًا، وليس في البدريين أحد اسمه حميد، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس حكاه ابن بشكوال في "المبهمات" له، واستبعد، وقيل: هو حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: ثعلبة بن حاطب، قاله ابن باطيش، إلى آخر ما بسط فيه.

(7 -‌

‌ باب شرب الأعلى قبل الأسفل)

كأنه يشير إلى ما وقع في مرسل سعيد بن المسيب في هذه القصة "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل"، قال العلماء: الشرب من نهر أو مسيل غير مملوك يقدم الأعلى فالأعلى، ولا حق للأسفل حتى يستغني الأعلى، وحدّه أن يغطي الماء الأرض حتى لا تشربه ويرجع إلى الجدار ثم يطلقه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"لامع الدراري"(6/ 265 - 266).

(2)

"فتح الباري"(5/ 35 - 36)، و"عمدة القاري"(9/ 66، 67).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 389).

(4)

"فتح الباري"(5/ 38).

ص: 10

وقال القسطلاني

(1)

: وتأتي صفة إرسال الماء من الأعلى إلى الأسفل في الباب اللاحق إن شاء الله تعالى، انتهى.

قال الخطابي

(2)

وغيره: وإنما حكم صلى الله عليه وسلم على الأنصاري في حال غضبه - مع نهيه أن يحكم الحاكم وهو غضبان - لأن النهي معلل بما يخاف على الحاكم من الخطإ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون لعصمته من ذلك حال السخط، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(8 -‌

‌ باب شرب الأعلى إلى الكعبين)

قال الحافظ

(4)

: يشير إلى ما حكاه الزهري من تقدير ذلك كما سيأتي في آخر الباب، انتهى.

قال القسطلاني

(5)

تحت حديث الباب: وكان أولًا أمره أن يسامح ببعض حقه، فلما لم يرض الأنصاري استقصى الحكم وحكم به، وأما قول ابن الصباغ وغيره: إنه لما لم يقبل الخصم ما حكم به أوّلًا، ووقع منه ما وقع، أمَره أن يستوفي أكثر من حقه عقوبة للأنصاري لما كانت العقوبة بالأموال، ففيه نظر؛ لأن سياق الحديث يأبى ذلك لا سيما قوله:"واستوعى للزبير حقه" في صريح الحكم كما في رواية شعيب في "الصلح"، ومعمر في "التفسير"، فمجموع الطرق قد دلَّ على أنه أمر الزبير أوّلًا أن يترك بعض حقه، وثانيًا أن يستوفيه، وقول الكرماني تبعًا للخطابي: ولعل قوله: "واستوعى له حقه" من كلام الزهري، إذ عادته الإدراج فيه بشيء؛ لأن الأصل في الحديث أن يكون حكمه كله واحدًا، حتى يرد ما يبين ذلك، ولا يثبت الإدراج بالاحتمال، انتهى.

وفي "الفيض"

(6)

: قوله: "حتى يرجع الماء إلى الجدر" ترجمته

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 394).

(2)

"الأعلام"(2/ 1172).

(3)

"فتح الباري"(5/ 39).

(4)

"فتح الباري"(5/ 39).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 395).

(6)

"فيض الباري"(3/ 562 - 563).

ص: 11

"دول"، وقدّرها الفقهاء بالكعبين، ثم إنهم لا يذكرون تفصيل الأعلى أو الأسفل في كتبنا، فتتبعته حتى وجدت مسألة عن محمد في "غاية البيان" للإتقاني وهو أقدم من ابن الهمام، يمكن حمل الحديث عليها، نقل عن محمد أن ذلك يبنى على العرف، فإن جرى العرف بسقي الأعلى، كما في الحديث فكذلك، وإن جرى على التقسيم، فعلى ما جرى به العرف، انتهى.

(9 -‌

‌ باب فضل سقي الماء)

أي: لكل من احتاج إلى ذلك.

وقوله: (بينا رجل) لم أقف على اسمه.

قوله: (يمشي) وللدارقطني في "الموطآت" من طريق روح عن مالك: "يمشي بفلاة"، وله من طريق ابن وهب عن مالك:"يمشي بطريق مكة"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(10 -‌

‌ باب من رأى أن صاحب الحوض أو القربة أحق بمائه)

في "الفيض"

(2)

: أي: إذا أحرز الماء في الإناء فليس لأحد أن يأخذ منه إلا بإجازته، انتهى.

ذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث سهل بن سعد، ومناسبته للترجمة ظاهرة إلحاقًا للحوض والقربة بالقدح، فكان صاحب القدح أحق بالتصرف فيه شربًا وسقيًا، وقد خفي هذا على المهلب فقال: ليس في الحديث إلا أن الأيمن أحق من غيره بالقدح، وأجاب ابن المنيِّر: بأن مراد البخاري أنه إذا استحق الأيمن ما في القدح بمجرد جلوسه واختص به

(1)

"فتح الباري"(5/ 41).

(2)

"فيض الباري"(3/ 564).

ص: 12

فكيف لا يختص به صاحب اليد والمتسبب في تحصيله؟! ثم ذكر الحافظ مناسبة بقية الأحاديث الواردة في الباب بالترجمة، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

(11 -‌

‌ باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم

-)

وفي "الفيض"

(2)

: ولا ذكر للحمى في فقه الحنفية، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: يعني بذلك أن الكلأ حق العامة فلا يجوز حبسه إلا للعامة، فكان الحمى جائزًا لبيت المال لا لغيره، وما ورد من الحمى لغير بيت المال في بعض الروايات فالمراد به الشجر الواقع في تلك الأرض، أو الأرض نفسها ليتصرف فيها، وفي أشجارها، وأما الكلأ فلا، فإذا حمى الإمام أو نائبه لبيت المال كان للفقير رعي دوابه فيه، لكونه ممن يستحق بيت المال، وأما الغني فلا، إلا إذا اضطر، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ: قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين: أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: معناه إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة. وأخذ أصحاب الشافعي من هذا أن له في المسألتين قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن رجحوا الأول بما سيأتي أن عمر رضي الله عنه حمى بعد النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بالحمى: منع الرعي في أرض مخصوصة من المباحات فيجعلها الإمام مخصوصة برعي بهائم الصدقة مثلًا، انتهى.

ثم لا يخفى عليك ما في "البذل"

(4)

عن الشوكاني: وقد ظن بعضهم أن بين الأحاديث القاضية بالمنع من الحمى والأحاديث القاضية بجواز

(1)

"اللامع"(6/ 269).

(2)

"فيض الباري"(3/ 565).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 271 - 272).

(4)

"بذل المجهود"(10/ 333).

ص: 13

الإحياء معارضةً، ومنشأ هذا الظن عدم الفرق بينهما، وهو فاسد، فإن الحمى أخص من الإحياء مطلقًا.

قال ابن الجوزي: ليس بين الحديثين معارضة، فالحمى المنهي عنه ما يحمى من الموات الكثيرة العشب لنفسه خاصة؛ كفعل الجاهلية، والإحياء المباح ما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة، فافترقا، انتهى.

(12 -‌

‌ باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار)

قال الحافظ

(1)

: أراد بهذه الترجمة أن الأنهار الكائنة في الطرق لا يختص بالشرب منها أحد دون أحد، ثم أورد فيه حديثين:

أحدهما: عن أبي هريرة في "ذكر الخيل"، والمقصود منه قوله فيه:"ولو أنها مرت بنهر فشربت منه. . ." إلخ، فإنه يشعر بأن من شأن البهائم طلب الماء، ولم يرد ذلك صاحبها، فإذا أجر على ذلك من غير قصد فيؤجر بقصده من باب الأولى، فثبت المقصود من الإباحة المطلقة.

وثانيهما: حديث زيد بن خالد في "اللقطة"، والمقصود منه قوله فيه:"معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء. . ." إلخ، انتهى.

(13 -‌

‌ باب بيع الحطب والكلأ)

في "الفيض"

(2)

: وهما من المباح الأصل، وأما إذا أحرزهما حُزَمًا أو جُرَزًا، فيجوز بيعهما؛ كالماء، ولهما باب في "الهداية" عقده عند باب الشرب، فراجع التفاصيل فيه، وأما في الحديث فهو جائز عندنا أيضًا، انتهى.

وقال الحافظ: والكلأ بفتح الكاف واللام بعده همزة بغير مدّ وهو العشب رطبه ويابسه، وموقع هذه الترجمة من "كتاب الشرب" اشتراك الماء

(1)

"فتح الباري"(5/ 46).

(2)

"فيض الباري"(3/ 567).

ص: 14

والحطب والمرعى في جواز انتفاع الناس بالمباحات منها من غير تخصيص، قال ابن بطال

(1)

: إباحة الاحتطاب في المباحات والاختلاف من نبات الأرض متفق عليه، حتى يقع ذلك في أرض مملوكة فترتفع الإباحة، ووجهه أنه إذا ملك بالاحتطاب والاحتشاش فلأن يملك بالإحياء له أولى، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي "الدر المختار"

(3)

: وفسد بيع الكلأ لحديث: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار"

(4)

، قال ابن عابدين

(5)

: الكلأ كجبل العشب رطبه ويابسه، "قاموس "، قال في "البحر": ويدخل فيه جميع أنواع ما ترعاه المواشي رطبًا كان أو يابسًا، بخلاف الأشجار؛ لأن الكلأ ما لا ساق له، والشجر له ساق، فلا تدخل فيه، حتى يجوز بيعها إذا نبتت في أرضه لكونها ملكه، انتهى.

(14 -‌

‌ باب القطائع)

جمع قطيعة، تقول: أقطعته أرضًا: جعلتها له قطيعة، والمراد به ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات، فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه، واختصاص الإقطاع بالموات متفق عليه في كلام الشافعية، انتهى من "الفتح"

(6)

.

وفي "البذل"

(7)

: والقطيعة هي قطعة أرض يقطعها الإمام لأحد.

وأما مذهب الحنفية في الإقطاع فهو ما قال في "البدائع"

(8)

: الأراضي في الأصل نوعان: أرض مملوكة، وأرض مباحة غير مملوكة، والمملوكة نوعان: عامرة، وخراب، والمباحة نوعان أيضًا: نوع هو من مرافق البلدة

(1)

"نقله عن المهلب"(6/ 508).

(2)

"فتح الباري"(5/ 47).

(3)

"الدر المختار"(2/ 25).

(4)

انظر: "سنن أبي داود"(3477).

(5)

"رد المحتار"(7/ 256).

(6)

"فتح الباري"(5/ 47).

(7)

"بذل المجهود"(10/ 292 - 300).

(8)

"بدائع الصنائع"(5/ 281 - 284).

ص: 15

محتطبًا لهم ومرعى لمواشيهم، ونوع ليس من مرافقها وهو المسمى بالموات، وأما الأراضي المملوكة العامرة، فليس لأحد أن يتصرف فيها من غير إذن صاحبها؛ لأن عصمة الملك تمنع من ذلك، وأما أرض الموات وهي أرض خارج البلد لم تكن ملكًا لأحد ولا حقًا له خاصًا، فلا يكون داخل البلد موات أصلًا، وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها محتطبًا بها لأهلها أو مرعى لهم، لا يكون مواتًا حتى لا يملك الإمام إقطاعها، فالإمام يملك إقطاع الموات من مصالح المسلمين لما يرجع ذلك إلى عمارة البلاد، والتصرف فيما يتعلق بمصالح المسلمين للإمام؛ ككري الأنهار العظام وإصلاح قناطرها ونحوه.

ولو أقطع الإمام الموات إنسانًا فتركه ولم يعمره، لا يتعرض له إلى ثلاث، فإذا مضى ثلاث سنين فقد عاد مواتًا كما كان، وله أن يقطعه غيره لقوله عليه الصلاة والسلام:"ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق"

(1)

، انتهى، ملخص ما في "البدائع".

قوله: (سترون بعدي أثرة) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك أنكم كما أعملتم بإخوانكم المهاجرين اليوم بإيثاركم إياهم على أنفسكم فكذلك فلتكونوا إذا استأثروا عليكم أنفسهم فافهم، حتى يتبين لك ما بين الكلام الأول والثاني من المناسبة التي لا تظهر في أول وهلة، انتهى.

وفي هامشه: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في بيان المناسبة بين الجملتين ولم يتعرض لذلك الشرَّاح.

(15 -‌

‌ باب كتابة القطائع)

لمن أقطعه الإمام لتكون وثيقة بيده حتى لا ينازعه أحد، كذا في الشروح.

(1)

انظر: "نصب الراية"(4/ 290).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 275).

ص: 16

وقال الحافظ

(1)

: واعترض على المصنف بأن رواية الليث لا ذكر للكتابة فيها، وأجيب بأنها مذكورة في الشق الثاني، وبأنه جرى على عادته في الإشارة إلى ما يرد في بعض الطرق وقد تقدم أنه عنده في الجزية من رواية زهير، انتهى.

وقال السندي

(2)

: قيل: لا دلالة في الحديث الذي ذكره على المطلوب، وهو مدفوع بأن قولهم:"فاكتب لإخواننا" صريح في المطلوب على أنه جاء في بعض رواية الحديث: "دعا الأنصار ليكتب لهم البحرين" فأشار المصنف بهذه الترجمة إلى أن قوله: "ليقطع لهم" محمول على ذلك بقرينة تلك الرواية، والله أعلم، انتهى.

(16 -‌

‌ باب حلب الإبل على الماء)

قال القسطلاني

(3)

: أي: عند الماء، كذا قاله ابن حجر، ونازعه العيني بأن "على" لم تجئ بمعنى "عند"، بل هي هنا بمعنى الاستعلاء، وأجاب في "انتقاض الاعتراض" بأن كثيرًا من أهل العربية قالوا: إن حروف الجر تتناوب وحمل "على" على الاستعلاء يقتضي أن يقع المحلوب في الماء وليس ذلك مرادًا، انتهى.

(17 -‌

‌ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل)

هو من اللف والنشر، أي: له حق المرور في الحائط أو نصيب في النخل.

وقوله: (للبائع الممر. . .) إلخ، هذا كله من كلام المصنف استنبطه

(1)

"فتح الباري"(5/ 49).

(2)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 54).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 415).

ص: 17

من الأحاديث المذكورة في الباب، وتوهم بعض الشرَّاح أنه بقية الحديث المرفوع، فوهم في ذلك وهمًا فاحشًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

: والممر من الحقوق فإن كانت الأرض مملوكة له فحق الممر ظاهر، وإن لم تكن فقد أثبت الفقهاء أيضًا، وذلك لأنه لا يختص بالملكية عندهم، ويجري فيه الوصية، والهبة، دون البيع، انتهى.

وسكت الحافظ ها هنا عن براعة الاختتام، ويمكن أن يتكلف له في قوله:"حتى يرفع": هو المشير إلى رفع الجنازة، وأيضًا العرية: هي النخلة الْمُعْرَاة، أي: التي أكل ما عليها، كما في "القاموس"

(3)

، فهو أيضًا يشير إلى الفناء والاختتام، ويمكن أن يوجه في لفظ أسامة "والسام هو الموت" كما تقدم، فتدبر.

* * *

(1)

"فتح الباري"(5/ 50).

(2)

"فيض الباري"(3/ 569).

(3)

"القاموس"(ص 1204).

ص: 18

43 -

‌ كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس

قال الحافظ

(1)

: جمع المصنف بين هذه الأمور الثلاثة، لقلَّة الأحاديث الواردة فيها، ولتعلق بعضها ببعض، انتهى.

قال العيني

(2)

: "الاستقراض" هو طلب القرض، "والحجر" هو المنع لغةً، وشرعًا: منع عن التصرف، وأسبابه كثيرة، محلها الفروع. و"التفليس" من فلّسه الحاكم تفليسًا يعني: يحكم بأنه يصير إلى أن يقال: ليس معه فلس، ويقال: المفلس من تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلسًا؛ لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: اعلم أن الحجر عندنا يكون بثلاثة أشياء: إما الصبا، أو الجنون، أو الرق، وأما عند صاحبيه: فبالإفلاس، والسفاهة أيضًا. ولا عبرة بالتفليس عندنا في القضاء، وهو الإعلان بإفلاس رجل، وذلك لأن المال غادٍ ورائح، فيمكن أن يحصل له مال عقيب الحكم بالإفلاس، ثم الحجر اسم لإبطال التصرفات القولية، وأما الفعلية فلا سبيل إلى إبطالها، انتهى.

(1 -‌

‌ باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أي فهو جائز، وكأنه يشير إلى ضعف ما جاء عن ابن عباس مرفوعًا:"لا أشتري ما ليس عندي ثمنه" وهو حديث أخرجه

(1)

"فتح الباري"(5/ 53).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 100).

(3)

"فيض الباري"(3/ 571، 572).

(4)

"فتح الباري"(5/ 53).

ص: 19

الإمام أبو داود

(1)

والحاكم تفرد به شريك عن سماك، واختلف في وصله وإرساله، ثم أورد فيه حديث جابر في شراء النبي صلى الله عليه وسلم منه جمله في السفر وقضائه ثمنه في المدينة، وهو مطابق للركن الثاني من الترجمة، وحديث عائشة مطابق للركن الأول.

قال ابن المنيِّر: وجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لو حضره الثمن ما أخره، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته دينًا، لما عرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

تحت الباب: لما كان النهي عن بيع ما ليس عندك يوهم أنه لعل البيع بما ليس عندك من الثمن لا يجوز أيضًا، دفعه بإيراد الروايتين: الأولى منهما دالة على جواز الشراء إذا لم يكن بحضرته ثمنه وإن كان في بيته، وثانيتهما على جوازه إذا لم يكن له الثمن لا بحضرته ولا في بيته، نعم إذا اشترى وليس من قصده أن يؤديه إليه كان منهيًا عنه، ولذلك عقد الباب الثاني، انتهى.

قوله: (إلا دينارًا أرصده لدين. . .) إلخ، فيه الترجمة حيث قدَّم الدَّيْن على الصدقة وغيرها من وجوه الخير، انتهى.

(2 -‌

‌ باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها)

قال الحافظ

(3)

: حذف الجواب اعتناءً بما وقع في الحديث، قال ابن المنيِّر

(4)

: هذه الترجمة تشعر بأن التي قبلها مقيّدة بالعلم وبالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز فقد أخذ لا يريد الوفاء إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه فقد

(1)

"سنن أبي داود"(ح: 3344)، "المستدرك على الصحيحين"(2/ 28)، (ح: 2209).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 280، 281).

(3)

"فتح الباري"(5/ 54).

(4)

"المتواري"(ص 267).

ص: 20

نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة، فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال فهناك مرتبة ثالثة وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز؟ انتهى.

(3 -‌

‌ باب أداء الديون) (وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} الآية [النساء:

58])

قال ابن المنيِّر: أدخل الدين في الأمانة لثبوت الأمر بأدائه، إذ المراد بالأمانة في الآية هو المراد بها في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] وفسرت هناك بالأوامر والنواهي فيدخل فيها جميع ما يتعلق بالذمة وما لا يتعلق، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: ويحتمل أن تكون الأمانة على ظاهرها، وإذا أمر الله بأدائها ومدح فاعلها - وهي لا تتعلق بالذمة - فحال ما في الذمة أولى، وأكثر المفسرين على أن الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة حاجب الكعبة، وعن ابن عباس: هي عامة في جميع الأمانات.

(4 -‌

‌ باب استقراض الإبل)

قال الحافظ

(2)

: أي: جوازه ليرد المقترض نظيره أو خيرًا منه، ثم قال بعد ذكر الحديث: وفيه ما ترجم له وهو استقراض الإبل، ويلتحق بها جميع الحيوانات وهو قول أكثر أهل العلم، ومنع من ذلك الثوري والحنفية، واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. . .، إلى آخر ما بسط من الكلام على دلائل الفريقين.

(1)

"فتح الباري"(5/ 55).

(2)

"فتح الباري"(5/ 57).

ص: 21

(5 -‌

‌ باب حسن التقاضي)

قال العلَّامة العيني

(1)

: أي هذا باب في بيان استحباب حسن التقاضي، أي: حسن المطالبة، انتهى.

(6 -‌

‌ باب هل يعطى أكبر من سنه

؟)

قال القسطلاني

(2)

: بفتح الطاء، أي: هل يعطي المستقرض للمقرض أكبر من سنه؟ أي: الذي اقترضه، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: ولما كان مظنة كونه ربا يوهم حرمته، دفعه بأن الربا ما كان مشروطًا أو معروفًا، فأما إذا زاده من عند نفسه من غير العرف والشرط فإنه منة منه عليه، كما مَنَّ الدائن عليه بقضاء حاجته فلا يكون ربا، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مسألة خلافية ذكرها الحافظ، وستأتي قريبًا، ولما كان لفظ الحديث:"إلا سنًّا أفضل من سنه" والفضيلة تحتمل جودة الوصف والزيادة في الكم معًا نبَّه الإمام البخاري على ذلك بلفظ الاستفهام.

وقال الحافظ: في الحديث جواز وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد فيحرم حينئذ اتفاقًا، وبه قال الجمهور، وعن المالكية تفصيل في الزيادة: إن كانت بالعدد منعت، وإن كانت بالوصف جازت، انتهى.

قال الموفق: كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، فإن أقرضه مطلقًا بغير شرط فقضاه خيرًا منه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز، انتهى مختصرًا.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 108).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 430).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 284).

ص: 22

(7 -‌

‌ باب حسن القضاء)

أي: استحباب حسن أداء الدين، وأورد فيه الحديث المذكور، وهو ظاهر فيما ترجم له، كذا في "الفتح"

(1)

، والتقاضي من جانب الدائن، والقضاء من جانب المديون، ولذا بوّب بعده، كذا في "الفيض"

(2)

.

(8 -‌

‌ باب إذا قضى دون حقه أو حلّله. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: وهذا كما تقدم من أن مظنة الربا كان يوهم حرمته، فإن من استدان عشرة دراهم ثم رضي البائع أن يأخذ ثمانية فلا شك أنه فضل منها فضلة عند المديون، وليست على عوض فدفعه بأن الثمانية ههنا ليست مقابلة بالعشرة حتى يلزم ما ألزمته، بل الثمانية بالثمانية، والدرهمان أسقطهما الدائن وله أن يسقط من حقه ما شاء كلًّا أو بعضًا.

قوله: (أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا) ولما جاز تحليله عن البعض جاز تحليله عن الكل لعدم الفارق، فثبتت الترجمة بكلا جزئيها، انتهى.

وبسط الشراح في قوله: "وحلَّله" بأنه بالواو أو بلفظ "أو" فارجع إليه لو شئت.

(9 -‌

‌ باب إذا قاصّ أو جازفه في الدين. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أي عند الأداء، فهو جائز.

قوله: (تمرًا بتمر) قال المهلب

(5)

: لا يجوز عند أحد من العلماء أن يأخذ من له دين تمر من غريمه تمرًا مجازفة بدينه لما فيه من الجهل والغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة في حقه أقل من دينه إذا علم الآخذ ذلك ورضي، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 59).

(2)

"فيض الباري"(3/ 574).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 285).

(4)

"فتح الباري"(5/ 60).

(5)

انظر: "شرح ابن بطال"(6/ 519).

ص: 23

قال الحافظ: كأنه أراد بذلك الاعتراض على ترجمة البخاري، ومراد البخاري ما أثبته المعترض لا ما نفاه، وغرضه بيان أنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما يغتفر ابتداء؛ لأن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا، ويجوز في المعاوضة عند الوفاء، وذلك بيِّنٌ في حديث الباب. . . إلى أن قال الحافظ: وقد أخذ الدمياطي كلام المهلب فاعترض به فقال: هذا لا يصح، ثم اعتل بنحو ما ذكره المهلب، وتعقبه ابن المنيِّر

(1)

بنحو ما أجبت به فقال: بيع المعلوم بالمجهول مزابنة فإن كان تمرًا نحوه فمزابنة وربا، لكن اغتفر ذلك في الوفاء؛ لأن التفاوت متحقق في العرف فيخرج عن كونه مزابنة، انتهى.

وفي تقرير مولانا حسين علي البنجابي: قوله: "تمرًا بتمر أو غيره" فإنه إن زاد المستقرض فزيادة من غير شرط، وإن نقصه فهو إسقاط من صاحب القرض، انتهى.

وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: "تمر بتمر. . ." إلخ، أي: جنسًا بجنس أو بغير جنس

(2)

، انتهى.

(10 -‌

‌ باب من استعاذ من الدين)

قال الحافظ

(3)

: قال المهلب

(4)

: يستفاد من هذا الحديث سد الذرائع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الدين؛ لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث والخلف في الوعد مع ما لصاحب الدين عليه من المقال، انتهى.

ويحتمل أن يراد بالاستعاذة من الدين الاستعاذة من الاحتياج إليه حتى لا يقع في هذه الغوائل، أو من عدم القدرة على وفائه حتى لا تبقى تبعته، ولعل ذلك هو السر في إطلاق الترجمة، ثم رأيت في حاشية

(1)

"المتواري"(ص 274).

(2)

انظر: "اللامع"(6/ 286).

(3)

"فتح الباري"(5/ 61).

(4)

انظر: "شرح ابن بطال"(6/ 520).

ص: 24

ابن المنيِّر: لا تناقض بين الاستعاذة من الدين وجواز الاستدانة؛ لأن الذي استعيذ منه غوائل الدين، فمن أدان وسلم منها فقد أعاذه الله وفعل جائزًا، انتهى.

(11 -‌

‌ باب الصلاة على من ترك دينًا)

لعل الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى أن ما ورد في الروايات من ترك الصلاة على المديون كان في أول الأمر قبل قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ترك كلًّا فإلينا" ولذا أورد من الحديث هذا القدر.

وقال الحافظ: قال ابن المنيِّر: أراد بهذه الترجمة أن الدين لا يخل بالدين، وأن الاستعاذة منه ليست لذاته بل لما يخشى من غوائله، وأورد الحديث الذي فيه "من ترك دينًا فليأتني" وأشار به إلى بقيَّته وهو أنه كان لا يصلي على من عليه دين، فلما فتحت الفتوح صار يصلِّي عليه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب مطل الغني ظلم)

ترجم بلفظ الحديث، وهو طرف من حديث مضى تامًّا في "الحوالة"

(2)

مع الكلام عليه.

(13 -‌

‌ باب لصاحب الحق مقال)

قال العلَّامة القسطلاني

(3)

: فلا يلام إذا تكرر طلبه لحقه، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة المقدم قريبًا، وهو نص في ذلك، وذكر الحديث المعلق لما فيه من تفسير المقال، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 61).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2288).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 439).

(4)

"فتح الباري"(5/ 62).

ص: 25

(14 -‌

‌ باب إذا وجد ماله عند مفلس. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

: قوله: "في البيع" بأن يبيع رجل متاعًا لرجل ثم يفلس المشتري ويجد البائع متاعه الذي باعه عنده، "و" في "القرض" بأن يقرض لرجل ثم يفلس المقترض فيجد المقرض ما أقرضه عنده، "و" في "الوديعة" بأن يودع شخص عند آخر وديعة ثم يفلس المودَع، وجواب "إذا" قوله:"فهو" أي: فكل من البائع والمقرض والمودِع بكسر الدال "أحق به" أي: بمتاعه من غيره من غرماء المفلس، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "في البيع" إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه نصًا، وقوله:"والقرض" هو بالقياس عليه، أو لدخوله في عموم الخبر، وهو قول الشافعي في آخرين، والمشهور عن المالكية التفرقة بين القرض والبيع، وقوله:"والوديعة" هو بالإجماع، وقال ابن المنيِّر

(3)

: أدخل هذه الثلاثة إما لأن الحديث مطلق، وإما لأنه وارد في البيع، والآخران أولى لأن ملك الوديعة لم ينتقل، والمحافظة على وفاء من اصطنع بالقرض معروفًا مطلوب، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: واعلم أنه إذا اشترى شيئًا وقبضه، ولم يؤد ثمنه حتى أفلس، فإن كان المبيع قائمًا في يده اختلف فيه الفقهاء، فقال الشافعي: إن البائع أحق به، للحديث، وقال أبو حنيفة وصاحباه: إن البائع فيه أسوة الغرماء، أما إذا لم يقبضه فالمسألة عندنا أيضًا كالمسألة فيما بعد القبض عنده، أما البخاري فالحديث عنده عام في الأمانات والمعاوضات سواء، وأجاب عنه الطحاوي بحمل حديثهم على العواري والأمانات والغصوب، وأما غير تلك الصور؛ كالمعاوضات والديون فلم يرد الحديث فيه، وإنما ورد في ما وجد ماله بعينه، والمبيع ليس من ماله، بل هو من مال

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 440).

(2)

"فتح الباري"(5/ 63).

(3)

"المتواري"(ص 275).

(4)

"فيض الباري"(3/ 577، 378).

ص: 26

المشتري؛ لأن تبدل الملك يوجب تبدل العين، فوجب أن يحمل على العواري والودائع مما يصدق فيه على الشيء أنه من ماله. . .، إلى آخر ما بسط في المسألة، ثم قال: قوله: "وقال الحسن. . ." إلخ، ولا يجري هذا إلا على مذهب الصاحبين، فإن للتفليس أحكامًا عندهما، وأما عند الإمام الأعظم فلا حكم له، وراجع المسألة في "كتاب الحجر"، انتهى.

(15 -‌

‌ باب من أخَّر الغريم إلى الغد أو نحوه)

قال القسطلاني

(1)

: "من أخَّر" أي: من الحكام "الغريم" أي: مطالبته بالدين لربه "إلى الغد أو نحوه" كيومين أو ثلاثة، ثم قال بعد ذكر الحديث: وموضع الترجمة منه قوله: "سأغدو عليك"، وقد سقطت الترجمة وحديثها هذا في رواية النسفي وتبعه أكثر الشرَّاح، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

الغرض منه التنبيه على أن المطل أمر عرفي، فليس التأخير بيوم أو يومين مطلًا، انتهى.

(16 -‌

‌ باب من باع مال المفلس أو المعدم. . .) إلخ

قال القسطلاني

(3)

: المعدم بكسر الدال، أي: الفقير.

قوله: (فقسمه) أي: ثمن مال المفلس "بين الغرماء" بنسبة ديونهم الحالة لا المؤجلة، فلا يدخر منه شيء للمؤجل، ولا يستدام له الحجر، كما لا يحجر به.

قوله: (أو أعطاه) أي: أعطى الحاكم المعدم ثمن ما باعه يومًا بيوم، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: لا يفهم من الحديث معنى قوله في

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 443).

(2)

"فيض الباري"(3/ 579).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 444).

(4)

"فتح الباري"(5/ 66).

(5)

(6/ 526).

ص: 27

الترجمة: "فقسمه بين الغرماء"؛ لأن الذي دبر لم يكن له مال غير الغلام كما سيأتي في "الأحكام"

(1)

، وليس فيه أنه كان عليه دين، وإنما باعه لأن من سُنَّته أن لا يتصدق المرء بماله كله ويبقى فقيرًا، ولذا قال:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، انتهى.

وأجاب ابن المنيِّر

(2)

بأنه لما احتمل أن يكون باعه عليه لما ذكر الشارح، واحتمل أن يكون باعه عليه لكونه مديانًا، ومال المديان إما أن يقسمه الإمام بنفسه، أو يسلمه إلى المديان ليقسمه، فلذا ترجم على التقديرين، مع أن أحد الأمرين يخرج من الآخر؛ لأنه إذا باعه عليه لحق نفسه فلأن يبيعه عليه لحق الغرماء أولى، انتهى.

والذي يظهر لي أن في الترجمة لفًا ونشرًا، والتقدير: من باع مال المفلس فقسمه بين الغرماء، ومن باع مال المعدم فأعطاه حتى ينفق على نفسه، و"أو" في الموضعين للتنويع، ويخرج أحدهما من الآخر كما قال ابن المنيِّر، وقد ثبت في بعض طرق حديث جابر في قصة المدبر أنه كان عليه دين أخرجه النسائي

(3)

وغيره، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(17 -‌

‌ باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: أورده لدفع توهم الكراهة فيه لما أن للأجل شبهًا بالمبيع فيلزم الزيادة في أحد الجانبين ولا عوض لها، ثم إن الأجل عندنا في القرض ليس بلازم، حتى جاز للدائن أن يطلب قبل حلوله، غاية ما في الباب أنه يكون بذلك مخلفًا لوعده، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه لطيف جدًا، وما يظهر لهذا

(1)

انظر: "صحيح البخاري"(ح 7186).

(2)

"المتواري"(ص 276).

(3)

"سنن النسائي"(4652، 4653)، و"صحيح البخاري"(2141).

(4)

"فتح الباري"(5/ 66).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 295، 296).

ص: 28

العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مسألة خلافية وهي لزوم التأجيل في القرض والدين، وفي "الهداية"

(1)

: أن التأجيل في القرض غير لازم عندنا، وإلى ذلك نبَّه الشيخ بقوله: ثم إن الأجل. . . إلخ.

قال الحافظ: أما القرض إلى أجل فهو مما اختلف فيه، والأكثر على جوازه في كل شيء، ومنعه الشافعي، وأما البيع إلى أجل فجائز اتفاقًا، وكأن البخاري احتج للجواز في القرض بالجواز في البيع مع ما استظهر به من أثر ابن عمر وأثر أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: إذا أقرضه إلى أجل أو أجَّله في البيع هو جائز فيهما عند الجمهور خلافًا للشافعية في القرض، فلو شرط أجلًا لا يجر منفعة للمقرض لغا الشرط دون العقد، نعم يستحب الوفاء باشتراط الأجل، قاله ابن الرفعة، انتهى.

وقال العيني

(3)

: قوله: "باب إذا أقرضه. . ." إلخ، هاتان مسألتان جوابهما محذوف، أي: يجوز. . .، إلى آخر ما بسطه.

(18 -‌

‌ باب الشفاعة في وضع الدين)

قال الحافظ

(4)

: أي: في تخفيفه، ذكر فيه حديث جابر في دين أبيه، وفيه حديث في قصة بيع الجمل جمعهما في سياق واحد، والمقصود منه قوله:"فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضًا فأبوا، فاستشفعت بالنبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأبوا"، انتهى.

(19 -‌

‌ باب ما ينهى عن إضاعة المال)

أي: صرفه في غير وجهه أو في غير طاعة الله، قاله القسطلاني

(5)

.

(1)

انظر: "الهداية"(2/ 60).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 445).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 125).

(4)

"فتح الباري"(5/ 67).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 449).

ص: 29

(وقول الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]) قال الحافظ: كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "إن الله" والأول هو الذي وقع في التلاوة.

قوله: (و {لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]) كذا للأكثر، ولابن شبويه والنسفي:"لا يحب" بدل "لا يصلح"، قيل: وهو سهو، ووجهه عندي - إن ثبت - أنه لم يقصد التلاوة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (أصلواتك تأمرك أن نترك. . .) إلخ، كتب الشيخ [في "اللامع"]

(2)

: يعني: بذلك أنهم عدوا الإيفاء في الكيل إضاعة، وقبحوا عليه ذلك، فَعُلِم منه أن الإضاعة منهية عنها مقبحة شرعًا وعرفًا، وإن كان خصوص، هذا الذي زعموه إضاعة غير داخل فيه، فافهم وتفكر، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أجود مما حكاه الحافظ عن المفسرين؛ لارتباط الآيات وموافقة الآية بحالهم المعروف من نقص الكيل. . .، إلى آخر ما فيه.

قوله: (والحجر في ذلك) بالحجر عطفًا على إضاعة المال، أي: والحجر في السفه، والحجر في اللغة المنع، وفي الشرع المنع من التصرفات المالية، والأصل فيه:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية [النساء: 6]، وقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} الآية [البقرة: 282].

والحجر نوعان: نوع شرع لمصلحة الغير كالحجر على المفلس للغرماء، والراهن للمرتهن في المرهون وغير ذلك، ونوع نخمرع لمصلحة المحجور عليه وهو ثلاثة: حجر الجنون والصبا والسفه، وكل منها أعم مما بعده.

قلت: ولا يبعد أن يقال: إن الإمام البخاري مال في مسألة الحجر إلى قول الإمام أبي حنيفة إذ ترجم بالحجر ولم يحكم عليه في الترجمة

(1)

"فتح الباري"(5/ 68).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 297، 298).

ص: 30

بشيء، وأورد فيه حديث "لا خلابة"، وهو مستدل أبي حنيفة في تلك المسألة.

قوله: (ومما ينهى عن الخداع) أي: في البيع وهو عطف على سابقه أيضًا، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(20 -‌

‌ باب العبد راعٍ في مال سيده)

ذكر فيه حديث ابن عمر وفيه: "والخادم في مال سيده وهو مسؤول" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره:"في مال سيده راع وهو مسؤول". ولفظ الترجمة يأتي في "النكاح"، وفيه "والعبد راع على مال سيده". وكأن المصنف استنبط قوله:"ولا يعمل إلا بإذنه" من قوله: "وهو مسؤول" لأن الظاهر أنه يسأل هل جاوز ما أمره به أو وقف عنده، انتهى [من "الفتح"]

(2)

.

قلت: فإذًا ينبغي للإمام أيضًا أن لا يعمل ولا يتصرف في أموال الرعية إلا بإذنهم.

وسكت الحافظ رحمه الله عن براعة الاختتام واختلط كلامه في هذه الأبواب فارجع إليه.

والأوجه عندي: أن البراعة في قوله: "كلكم مسؤول" فإن المسؤولية تكون في الآخرة، فافهم، وهذا على تقدير أن يسلم الكتاب الآتي كتابًا مستقلًا، وإلا فالأوجه عندي أنه ليس كتابًا مستقلًا.

* * *

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 450).

(2)

"فتح الباري"(5/ 69).

ص: 31

44 -

‌ في الخصومات

اختلفت نسخ البخاري في ذكر هذه الترجمة، ففي النسخ الهندية بعد البسملة:"في الخصومات باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي"، وفي نسخة "الفتح":"بسم الله الرحمن الرحيم ما يذكر في الإشخاص، والخصومة بين المسلم واليهود".

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، ولبعضهم "واليهودي" بالإفراد، وزاد أبو ذر أوله "في الخصومات" وزاد في أثنائه "والملازمة"، والإشخاص بكسر الهمزة: إحضار الغريم من موضع إلى موضع، يقال: شخص بالفتح من بلد إلى بلد، وأشخص غيره، والملازمة مفاعلة من اللزوم، والمراد أن يمنع الغريم غريمه من التصرف حتى يعطيه حقه، انتهى.

وفي نسخة العيني: "كتاب الخصومات"، قال العلَّامة العيني

(2)

: وهو جمع خصومة، وهي اسم، قال الجوهري: خاصمه مخاصمة وخصامًا، والاسم الخصومة، والخصم معروف. ثم ذكر اختلاف النسخ كما تقدم في كلام الحافظ رحمه الله، ونسخة القسطلاني توافق النسخ الهندية، انتهى من هامش "اللامع"

(3)

.

وعند هذا العبد الضعيف ليس هذا كتابًا مستقلًا بل هذا داخل فيما سبق لما سيأتي فيه بعض مسائل الحجر.

(1 -‌

‌ باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة. . .) إلخ

تقدم الكلام عليه آنفًا، وفي "الفيض"

(4)

: قوله: "والخصومة بين

(1)

"فتح الباري"(5/ 71).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 133).

(3)

"اللامع"(6/ 299).

(4)

"فيض الباري"(3/ 583).

ص: 32

المسلم واليهودي" يعني: أن اتحاد الملَّتين ليس بشرط في الدعاوي، وهكذا ينبغي، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: قوله: "فأخذت بيده فأتيت به" وفيه الترجمة حيث كان إشخاصًا، انتهى.

وفي هامشه: وبذلك جزم الحافظ، وتعقب عليه العيني كما في هامش "اللامع".

قوله: (فأكون أول من يفيق) قيل: هو مشكل لأن الأحاديث دالة على أن موسى قد توفي وأنه صلى الله عليه وسلم زاره في قبره. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(2)

في تقرير الإشكال والجواب عنه، وكذا بسط الكلام عليه صاحب "الفيض"

(3)

.

(2 -‌

‌ باب من ردّ أمر السفيه)

قال القسطلاني

(4)

: السفه ضد الرشد الذي هو صلاح الدين والمال، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: يعني أن للإمام أن يرد تصرف أمثال هؤلاء وإن لم يكن سبق منه المنع، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ: يعني وفاقًا لابن القاسم، وقصره أصبغ على من ظهر سفهه، وقال غيره من المالكية: لا يرد مطلقًا إلا ما تصرف فيه بعد الحجر، وهو قول الشافعية وغيرهم، انتهى.

قال العيني

(6)

: قال بعضهم: يرد تصرف السفيه مطلقًا، وهو قول ابن القاسم أيضًا، ثم ذكر نحو ما تقدم عن الحافظ، ثم قال: وعند

(1)

"لامع الدراري"(6/ 299).

(2)

"اللامع"(6/ 300، 302).

(3)

"فيض الباري"(3/ 584، 585).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 459).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 303، 305).

(6)

"عمدة القاري"(9/ 142).

ص: 33

أبي حنيفة: لا يحجر بسبب سفه ولا يرد تصرفه مطلقًا، وعند أبي يوسف ومحمد: يحجر عليه في تصرفات لا تصح مع الهزل كالبيع والهبة وغيرهما، ولا يحجر عليه في غيرها؛ كالطلاق ونحوه إلى آخر ما ذكر من المذاهب، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: وأشار البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التفصيل بين من ظهرت منه الإضاعة فيرد تصرفه فيما إذا كان في الشيء الكثير أو المستغرق، وعليه تحمل قصة المدبر، وبين ما إذا كان في الشيء اليسير أو جعل له شرطًا يأمن به من إفساد ماله فلا يرد، وعليه تحمل قصة الذي كان يخدع، انتهى.

(4 -‌

‌ باب كلام الخصوم بعضهم في بعضهم)

أي: فيما لا يوجب حدًا ولا تعزيرًا فلا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، انتهى [من "الفتح"]

(2)

.

وفي "الفيض"

(3)

: يعني: إذا عاب أحد الخصمين على الآخر بحضرة القاضي، فهل فيه تعزير؟ انتهى، وهكذا قال العيني

(4)

.

(5 -‌

‌ باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة)

أي: بأحوالهم، أو بعد معرفتهم بالحكم ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم.

ثم قال الحافظ: ذكر المصنف حديث أبي هريرة في إرادة تحريق البيوت على الذين لا يشهدون الصلاة، وغرضه منه أنه إذا أحرقها عليهم بادروا بالخروج منها، فثبتت مشروعية الاقتصار على إخراج أهل المعصية

(1)

"فتح الباري"(5/ 71).

(2)

"فتح الباري"(5/ 73).

(3)

"فيض الباري"(3/ 588).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 144).

ص: 34

من باب الأولى، ومحل إخراج الخصوم إذا وقع منهم من المراء واللدد ما يقتضي ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(6 -‌

‌ باب دعوى الوصي للميت)

أي: عن الميت في الاستلحاق وغيره من الحقوق، قال ابن المنيِّر ما ملخصه: دعوى الوصي عن الموصى عليه لا نزاع فيه، وكأن المصنف أراد بيان مستند الإجماع، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(7 -‌

‌ باب التوثق ممن يخشى مَعَرّته)

قال الحافظ

(3)

: بفتح الميم والمهملة وتشديد الراء، أي: فساده وعبثه.

قال العيني

(4)

: والتوثق الإحكام، وقالوا: عقد وثيق، أي: محكم، وأوثقه ووثقه بالتشديد، أي: أحكمه، وشده بالوثاق، أي: بالقيد، انتهى مختصرًا.

قوله: (وقيد ابن عباس. . .) إلخ، وصله ابن سعد في "الطبقات"

(5)

وأبو نعيم في "الحلية"

(6)

عن عكرمة بلفظ: "كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل" فذكره، والكبل بفتح الكاف وسكون الموحدة هو القيد، انتهى من "الفتح"

(7)

.

(8 -‌

‌ باب الربط والحبس في الحرم)

كأنه أشار بذلك إلى ردِّ ما ذُكر عن طاوس فعند ابن أبي شيبة عنه أنه "كان يكره السجن بمكة، ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت

(1)

"فتح الباري"(5/ 74).

(2)

"فتح الباري"(5/ 75).

(3)

"فتح الباري"(5/ 75).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 150).

(5)

(5/ 287)، ترجمة عكرمة.

(6)

(3/ 326)، وانظر أيضًا:"التغليق"(3/ 326).

(7)

"فتح الباري"(5/ 75).

ص: 35

رحمة"، فأراد البخاري معارضته بأثر عمر وابن الزبير، وصفوان ونافع وهم من الصحابة، وقوّى ذلك بقصة ثمامة وقد ربط في مسجد المدينة وهي أيضًا حرم فلم يمنع ذلك من الربط فيه، انتهى.

فائدة: قال ابن الهمام

(1)

: لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه سجن، إنما كان يحبس في المسجد أو الدهليز حتى اشترى عمر رضي الله عنه دارًا بمكة بأربعة آلاف درهم واتخذه محبسًا، وقيل: بل لم يكن في عهد عمر ولا عثمان رضي الله عنهما أيضًا إلى زمن علي فبناه، [وهو] أول سجن بني في الإسلام.

قال في "الفائق"

(2)

: إن عليًّا رضي الله عنه بنى سجنًا من قصب فسماه نافعًا

(3)

، فنقبه اللصوص، وتسيب الناس منه، ثم بنى سجنًا من مدر فسماه مخيسًا، والمخيس: موضع التخييس، وهو التذليل، انتهى، كذا في هامش "اللامع"

(4)

.

(9 -‌

‌ باب في الملازمة)

ذكر فيه حديث كعب بن مالك أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد دين، وقد تقدم الكلام عليه في أبواب المساجد في‌

‌ باب التقاضي

والملازمة في المسجد.

(10 - باب التقاضي)

أي: المطالبة بالدين، ولا يشكل عليك التكرار بما تقدم في أبواب المساجد من باب التقاضي والملازمة، كما تقدم هناك، ثم البراعة عندي وكذا عند الحافظ في قوله:"فدعني حتى أموت".

(1)

"فتح القدير"(7/ 277، 278).

(2)

"الفائق في غريب الحديث"(1/ 350).

(3)

وفي "الفائق"(1/ 350): "مانعًا"، وهو تحريف.

(4)

"اللامع"(6/ 308، 309).

ص: 36

45 -

‌ كتاب اللقطة

قال الحافظ

(1)

: اللقطة: الشيء الذي يلتقط، وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين، وقال عياض

(2)

: لا يجوز غيره، وقال الزمخشري في "الفائق"

(3)

: اللُّقطة بفتح القاف، والعامة تسكنها، كذا قال، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون، قال: وأما بالفتح فهو اللاقط، قال الأزهري: هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: هي اللغة الشيء الملقوط، وشرعًا ما وجد من حق ضائع محترم غير محرز ولا ممتنع بقوته ولا يعرف الواجد مستحقه، وفي الالتقاط معنى الأمانة والولاية من حيث إن الملتقط أمين فيما التقطه، والشرع ولّاه حفظه، انتهى.

ثم إنهم اختلفوا في حكم الالتقاط وبوَّب له المصنف فيما سيأتي بـ "باب هل يأخذ اللقطة" قال الموفق

(5)

: قال إمامنا: الأفضل ترك الالتقاط، وروي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما، واختار أبو الخطاب إذا وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها، فالأفضل أخذها، وهذا قول الشافعي، وحكي عنه قول آخر: إنه يجب أخذها، لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وممن رأى أخذها ابن المسيب وأبو حنيفة، وقال مالك: إن كان شيئًا له بال يأخذها أحب إليّ، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(6)

،

(1)

"فتح الباري"(5/ 78).

(2)

"مشارق الأنوار"(1/ 454).

(3)

"الفائق"(1/ 338).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 473).

(5)

"المغني"(8/ 291).

(6)

"أوجز المسالك"(14/ 219).

ص: 37

وفيه عن الدردير

(1)

: وجب أخذه لخوف خائن، لو تركه مع علمه أمانة نفسه، لا إن علم خيانته فيحرم أخذه.

وفي "الدر المختار"

(2)

: ندب رفعها لصاحبها إن أمن على نفسه تعريفها وإلا فالترك أولى، ووجب عند خوف ضياعها، انتهى.

(1 -‌

‌ باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: وذكر العلامة وإن لم يكن مذكورًا في تلك الرواية، إلا أنه معلوم بملاحظة الرواية الأخرى، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ: لم يقع في سياق الحديث ما ترجم به صريحًا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من رواية مسلم فإنه روى هذا الحديث مطولًا بطرق متعددة، وفي بعضها قال:"فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه"، انتهى مختصرًا.

قلت: وما أورد أبو داود على هذه الزيادة أنها غير محفوظة رد عليه الحافظان ابن حجر والعيني، ومسألة الباب خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز" فذهب مالك وأحمد إلى أنها تدفع لمن عرف العفاص والوكاء، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن تدفع إليه ولا يجبر على ذلك إلا ببينة. . .، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(4)

، انتهى من هامش "اللامع"

(5)

.

(2 -‌

‌ باب ضالة الإبل)

قال الحافظ

(6)

: أي هل تلتقط أم لا؟ الضائع والضال في الحيوان كاللقطة في غيره، والجمهور على القول بظاهره في أنها لا تلتقط، وقال

(1)

"الشرح الكبير"(4/ 119).

(2)

"الدر المختار"(4/ 465).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 311).

(4)

"أوجز المسالك"(14/ 218، 228).

(5)

"اللامع"(6/ 311).

(6)

"فتح الباري"(5/ 80).

ص: 38

الحنفية: الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشافعية، وكذا إذا وجدت بقرية فيجوز التملك على الأصح عندهم، والخلاف عند المالكية أيضًا، انتهى.

وقال العيني

(1)

: في التقاط الإبل عند المالكية ثلاثة أقوال، وعند الشافعية يجوز للحفظ فقط، انتهى.

وقال الموفق

(2)

: كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه، ولا التعرض له سواء كان لكبر جثته؛ كالإبل، والخيل، والبقر، أو لطيرانه كالطيور، أو لسرعته كالظباء والصيود، أو بنابه؛ كالكلاب والفهود، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك في ضالة الإبل: من وجدها في القرى عرّفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها، ورواه المزني عن الشافعي، وقال أبو حنيفة: يباح التقاطها، انتهى مختصرًا.

وأما حديث الباب فقال ابن الهمام

(3)

: أجاب عنه في "المبسوط" بأن ذلك كان إذ ذاك لغلبة أهل الصلاح والأمانة، لا تصل إليها يد خائنة، فإذا تركها وجدها، وأما في زماننا، فلا يأمن وصول يد خائنة إليها بعده، ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها، فهو أولى. . .، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(4)

.

وفي "البذل"

(5)

عن "البدائع"

(6)

: "ولنا ما روي أن رجلًا وجد بعيرًا بالحرة

(7)

، فعرّفه، ثم ذكره لسيدنا عمر رضي الله عنه، فأمره أن يعرّفه، فقال الرجل لسيدنا عمر: قد شغلني عن ضيعتي، فقال سيدنا عمر: أرسله حيث وجدته"

(8)

.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 163).

(2)

"المغني"(8/ 343).

(3)

انظر: "فتح القدير"(5/ 254).

(4)

"أوجز المسالك"(14/ 240، 242).

(5)

"بذل المجهود"(6/ 586).

(6)

"بدائع الصنائع"(5/ 296).

(7)

الحرة: الأرض ذات الحجارة السوداء، والمقصود هنا: حرة المدينة. انظر: "بذل المجهود"(6/ 586)، و"القاموس"(ص 349).

(8)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(ح: 18608، 18609).

ص: 39

وأما الحديث فلا حجة له فيه؛ لأن المراد منه أن يكون صاحبه قريبًا منه، ألا ترى أنه قال عليه الصلاة والسلام:"حتى يلقاها ربها"، وإنما يقال ذلك إذا كان قريبًا، أو كان رجاء اللقاء ثابتًا، ونحن به نقول، ولا كلام فيه. . .، إلى آخر ما بسط.

(3 -‌

‌ باب ضالّة الغنم)

كأنه أفردها بترجمة ليشير إلى افتراق حكمها عن الإبل، وقد انفرد مالك بتجويز أخذ الشاة وعدم تعريفها متمسكًا بقوله:"هي لك"، وأجيب بأن اللام ليست للتمليك، كما أنه قال أو للذئب والذئب لا يملك باتفاق، وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها منه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: وبه تمسك مالك رحمه الله في أنه يأخذها ويملكها بالأخذ ولو جاء صاحبها؛ لأنه صار حكمه حكم الذئب فلا غرامة، وردّ عليه بأن اللام ليست للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يأكلها الملتقط بالضمان. . .، إلى آخر ما في "الأوجز"

(3)

.

(4 -‌

‌ باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها)

أي: غنيًا كان أو فقيرًا، واستدل بحديث الباب على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف، وهو ظاهر نص الشافعي، انتهى من "الفتح"

(4)

، زاد القسطلاني

(5)

: وخصها الحنفية بالفقير دون الغني؛ لأن تناول مال الغير بغير إذنه غير جائز بلا ضرورة بإطلاق النصوص، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 83).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 163).

(3)

"أوجز المسالك"(14/ 233).

(4)

"فتح الباري"(5/ 84).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 481).

ص: 40

قال الموفق

(1)

: إذا عرّف اللقطة حولًا فلم تعرف، ملكها ملتقطها، وصارت من ماله، غنيًا كان الملتقط أو فقيرًا، وبه قال الشافعي وإسحاق، وقال مالك وأصحاب الرأي والثوري: يتصدق بها، فإذا جاء صاحبها خيّره بين الأجر والغرم، قالوا: وليس له أن يتملكها إلا أن أبا حنيفة قال: له ذلك، إن كان فقيرًا من غير ذوي القربى، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(2)

.

وها هنا مسألة أخرى ذكرها الحافظ ها هنا وترجم عليها البخاري فيما سيأتي من "باب إذا جاء صاحبها اللقطة بعد سنة. . ." إلخ، وهي ما قال الحافظ

(3)

: واختلف العلماء في ما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة، ثم جاء صاحبها هل يضمنها أم لا؟ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابسي صاحب الشافعي، ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة. ومن حجة الجمهور قوله في الرواية الماضية:"ولتكن وديعة عندك. . ."، إلى آخر ما بسط في دلائل مسلك الجمهور، ثم قال: وإذا تقرر هذا أمكن حمل قول المصنف في الترجمة: "فهي لمن وجدها" أي: في إباحة التصرف فيها حينئذ، وأما أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكت عنه، انتهى.

قلت: وما أفاده الحافظ رحمه الله أخيرًا فهو وجهه، فعلى هذا لا تنافي بين هذه الترجمة وبين ما ستأتي من "باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه؛ لأنها وديعة عنده"، فافهم.

(5 -‌

‌ باب إذا وجد خشبة في البحر. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أي: ماذا يصنع به، هل يأخذه أو يتركه؟ وإذا أخذه هل يتملكه أو يكون سبيله سبيل اللقطة؟ وقد اختلف العلماء فيه، انتهى.

(1)

"المغني"(8/ 299).

(2)

"أوجز المسالك"(14/ 228).

(3)

"فتح الباري"(5/ 84، 85).

(4)

"فتح الباري"(5/ 85).

ص: 41

وفي "الفيض"

(1)

: والتعريف في مثل هذه الأشياء اليسيرة يكون بقدر ما يرى، فيعرفها أيامًا معدودة، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(2)

: روى ابن عبد الحكم عن مالك: إذا ألقى البحر خشبة فتركها أفضل، ورخصت طائفة في أخذ اللقطة اليسيرة والانتفاع بها وترك تعريفها، وممن روي عنه ذلك عمر وعلي وعائشة، وهو قول عطاء والنخعي وطاوس، وقال عطاء: لا بأس للمسافر إذا وجد السوط والسقاء والنعلين أن ينتفع بها، استدل من يبيح ذلك بحديث الخشبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه أخذها حطبًا لأهله ولم يأخذها ليعرفها، ولم يقل إنه فعل ما لا ينبغي.

وفي "الهداية": إن كانت اللقطة مما يعلم أن صاحبها لا يتطلبها؛ كالنواة وقشور الرمان فإلقاؤه إباحة أخذه، فيجوز الانتفاع به من غير تعريف، ولكنه يبقى على ملك مالكه؛ لأن التمليك من المجهول لا يصح، إلى آخر ما بسط العيني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: والأصح عند الشافعية أنه لا فرق في اللقطة بين القليل والكثير في التعريف وغيره، وفي وجه لا يجب التعريف أصلًا، وقيك: تعرّف مرة، وقيل: ثلاثة أيام، وهذا كله في قليل له قيمة، أما ما لا قيمة له كالحبة الواحدة فله الاستبداد به على الأصح، ثم ذكر مذهب الحنفية مثل ما تقدم آنفًا عن "الهداية" في كلام العيني، وزاد: وعند المالكية كذلك إلا أنه يزول ملك صاحبه عنه، انتهى.

وقال العيني

(5)

: قيل: ليس في الباب ذكر السوط، وأجيب: بأنه استنبطه بطريق الإلحاق، وقيل: كأنه فاته عنه، وقال بعضهم - الحافظ -

(1)

"فيض الباري"(3/ 597).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 166).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 166).

(4)

"فتح الباري"(5/ 85، 86).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 166).

ص: 42

أشار بالسوط إلى أثر يأتي بعد أبواب في حديث أُبي بن كعب، ثم تعقَّب العيني عليه.

(6 -‌

‌ باب إذا وجد تمرة في الطريق)

قال الحافظ

(1)

: أي يجوز له أخذها وأكلها وكذا نحوها من المحقرات، وهو المشهور المجزوم به عند الأكثر، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

تبعًا للحافظ تحت حديث الباب: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم تركها تورعًا خشية أن تكون من الصدقة، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفًا، فدل على أن مثل ذلك من المحقرات يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف، لكن هل يقال: إنها لقطة رخص في ترك تعريفها أو ليست لقطة؛ لأن اللقطة ما من شأنه أن يتملك دون ما لا قيمة له، انتهى.

(7 -‌

‌ باب كيف تعرف لقطة أهل مكة

؟)

كأنه أشار بذلك إلى إثبات لقطة الحرم، فلذلك قصر الترجمة على الكيفية، ولعله أشار إلى ضعف الحديث الوارد في النهي عن لقطة الحاج، أو إلى تأويله بأن المراد النهي عن التقاطها للتملك لا للحفظ، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: والحديث الذي أشار إليه الحافظ هو ما أخرجه الإمام أبو داود عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج"

(4)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: دلالة الرواية عليه من حيث أن تعريف لقطة مكة كتعريف لقطة غيرها، وتخصيص مكة لكونها مظنة مبادرة اللاقط إلى إنفاقها؛ لأن الناس يأتونها من بُعْد، فيبعد احتمال العود، أو لأن الجناية

(1)

"فتح الباري"(5/ 86).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 483).

(3)

"فتح الباري"(5/ 87).

(4)

"سنن أبي داود"(1719).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 314).

ص: 43

على مال الغير وإن كانت ممنوعة إلا أنها في البلد الحرام أشد، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: واستدل بحديثي الباب على أن لقطة مكة لا تلتقط للتمليك بل للتعريف خاصة وهو قول الجمهور، وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها؛ لأنها إن كانت للمكي فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها، فإذا عرَّفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال

(2)

، وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف، انتهى.

وفي "البذل"

(3)

: قال في "البدائع"

(4)

: وكل جواب عرّفه في لقطة الحل فهو الجواب في لقطة الحرم. . .، إلى آخر ما بسط في الدلائل.

وفي هامشه: قال الموفق

(5)

: ظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحرم سواء، وعن أحمد رواية أخرى: لا يجوز لقطة الحرم للتملك، وعن الشافعي كالمذهبين، انتهى.

(8 -‌

‌ باب لا تحلب ماشية أحد بغير إذن)

هكذا أطلق الترجمة على وفق ظاهر الحديث إشارة إلى الرد على من خصصه أو قيّده، انتهى [من "الفتح"]

(6)

.

قال القسطلاني

(7)

تبعًا للحافظ بعد ذكر الحديث: وفيه النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا بغير إذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبَّه به على ما هو أعلى منه.

(1)

"فتح الباري"(5/ 88).

(2)

(6/ 557).

(3)

"بذل المجهود"(6/ 614، 615).

(4)

"بدائع الصنائع"(5/ 299).

(5)

"المغني"(8/ 305).

(6)

"فتح الباري"(5/ 88، 89).

(7)

"إرشاد الساري"(5/ 490).

ص: 44

وقال النووي في "شرح المهذب"

(1)

: اختلف العلماء في من مر ببستان أو زرع أو ماشية فقال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور، منهم الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء، وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك، وفي الرواية الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالتين، وعلَّق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث، قال البيهقي: يعني: حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة"، أخرجه الترمذي

(2)

.

وذهب كثير من السلف إلى الجواز مطلقًا في الأكل والشرب سواء علم بطيب نفسه أو لم يعلم لرواية أبي داود

(3)

والترمذي وصححه عن سمرة مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوت ثلاثًا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل"، وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح فهو أولى بأن يعمل به، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه فلا يلتفت إليه. . .، إلى آخر ما بسط في وجوه الجمع بين الروايات المتعارضة في هذه المسألة.

(9 -‌

‌ باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: أراد بذلك أنه لا فصل بين مدة ومدة، بل تجب القيمة على الملتقط كلما أتى المالك، انتهى.

قلت: هذه المسألة خلافية تقدم الكلام عليها في "باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة. . ." إلخ، فارجع إليه، وبسط الكلام عليه أيضًا في

(1)

"شرح المهذب"(9/ 54).

(2)

"جامع الترمذي"(ح: 1287).

(3)

"سنن أبي داود"(ح: 2619)، و"جامع الترمذي" (ح: 1296).

(4)

"لامع الدراري"(6/ 314).

ص: 45

هامش "اللامع"

(1)

، وأما مسألة مدة التعريف فخلافية، قال الموفق

(2)

: قدر التعريف سنة، روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي (الثاقب)، وروي عن عمر رواية أخرى ثلاثة أشهر، وعنه ثلاثة أعوام لرواية أُبيّ، وقال الحسن بن صالح: ما دون عشرة دراهم يعرِّفها ثلاثة أيام، وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرّفها جمعة أو نحوها، انتهى من "الأوجز"

(3)

.

وفي "البذل"

(4)

: وللحنفية فيها ثلاث روايات:

أولاها: ما ذكرها محمد في "الأصل" وهو ظاهر الرواية، تقديره بالحول من غير فصل بين قليل وكثير، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.

وثانيتها: ما ذكرها صاحب "الهداية"

(5)

: فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرَّفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا عرَّفها حولًا، قال العبد الضعيف: هذه رواية عن أبي حنيفة.

قال في "العناية"

(6)

: قوله: هذه رواية عن أبي حنيفة، يشير إلى أنها ليست ظاهر الرواية، فإن الطحاوي قال: إذا التقط لقطة يعرِّفها سنة سواء كان شيئًا نفيسًا أو خسيسًا في ظاهر الرواية.

وثالثتها: ما ذكرها صاحب "الهداية"

(7)

أيضًا: قيل: الصحيح أن شيئًا من هذه المقادير ليس بلازم، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرّفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، ثم يتصدق بها وهو الذي اختاره السرخسي في "مبسوطه"

(8)

.

(1)

"اللامع"(6/ 314، 316).

(2)

"المغني"(8/ 393).

(3)

"أوجز المسالك"(14/ 224).

(4)

"بذل المجهود"(6/ 575، 576).

(5)

"الهداية"(2/ 417).

(6)

انظر: "العناية" مع "فتح القدير"(6/ 112، 113).

(7)

"الهداية"(2/ 417).

(8)

"المبسوط" للسرخسي (11/ 3).

ص: 46

قال الشامي في حاشيته على "الدر"

(1)

: وصححه في "الهداية"، وفي "المضمرات" و"الجوهرة": وعليه الفتوى، وهو خلاف ظاهر الرواية من التقدير بالحول في القليل والكثير "بحر". قلت: والمتون على قول السرخسي. . .، إلى آخر ما بسط شيخنا في "البذل".

(10 -‌

‌ باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: كذا للأكثر، وسقطت "لا" بعد حتى عند ابن شبويه، وأظن الواو سقطت من قبل حتى، والمعنى لا يدعها فتضيع ولا يدعها حتى يأخذها من لا يستحق. وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره اللقطة، ومن حجتهم حديث الجارود مرفوعًا:"ضالة المسلم حرق النار" أخرجه النسائي

(3)

بإسناد صحيح، وحمل الجمهور ذلك على من لا يعرفها، وأما ما أخذه من حديث الباب فمن جهة أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أُبي رضي الله عنه أخذه الصرة، فدل على أنه جائز شرعًا، انتهى.

قلت: ولا يبعد أن المصنف أتى بلفظ الاستفهام؛ لأن حديث أبي ليس بنص في الأخذ بل لبيان الحكم بعد الأخذ، أو يقال: إنه أشار بلفظ هل إلى رواية النسائي فإنها نص في المنع، وحديث الباب فعل لا عموم له، وتقدم الكلام على مسألة الباب في أول "كتاب اللقطة".

(11 -‌

‌ باب من عرّف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان)

كأنه أشار بالترجمة إلى رد قول الأوزاعي في التفرقة بين القليل والكثير فقال: إن كان قليلًا عرَّفه وإن كان مالًا كثيرًا رفعه إلى بيت المال، والجمهور على خلافه، نعم فرَّق بعضهم بين اللقطة والضوال، وبعض المالكية والشافعية بين المؤتمن وغيره، فقال: يعرف المؤتمن، وأما غير

(1)

"رد المحتار"(6/ 436).

(2)

"فتح الباري"(5/ 92).

(3)

"السنن الكبرى" للنسائي (رقم 5792، 5793).

ص: 47

المؤتمن فيدفعها إلى السلطان ليعطيها المؤتمن ليعرفها، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ: كذا بغير ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر، فهو إما من الباب أو كالفصل منه، فيحتاج إلى مناسبة بينهما على الحالين، فإنه ساق فيه طرفًا من حديث البراء في قصة الهجرة، والغرض منه شرب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من لبن الشاة، وليس في ذلك مناسبة ظاهرة لحديث اللقطة، لكن قال ابن المنيِّر

(2)

: مناسبة هذا الحديث لأبواب اللقطة الإشارة إلى أن المبيح للبن هنا أنه في حكم الضائع إذ ليس مع الغنم في الصحراء سوى راع واحد فالفاضل عن شربه مستهلك، فهو كالسوط الذي اغتفر التقاطه، وأعلى أحواله أن يكون كالشاة الملتقطة في الضيعة وقد قال فيها:"هي لك أو لأخيك أو للذئب"، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التكلف، ومع ذلك فلم تظهر مناسبته للترجمة بخصوصها، انتهى.

واختار العيني والقسطلاني ما حكى الحافظ عن ابن المنيِّر.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن من عادة الإمام البخاري المعروفة ذكر الأضداد في الكتب، وهو الأصل التاسع والستون من أصول التراجم، فنبَّه الإمام البخاري بذكر هذا الحديث ها هنا أن المال الذي عرف مالكه ليس بداخل في اللقطة، وذكره في باب بلا ترجمة؛ لأن الباب بلا ترجمة يكون لوجوه مختلفة، تقدم في المقدمة، منها الأصل الخامس والعشرون: أنه قد يحذف الترجمة تشحيذًا للأذهان، فينبغي أن يترجم هذا الباب بما قلته: إن المال الذي عرف مالكه ليس بلقطة، ويمكن إدخاله في

(1)

"فتح الباري"(5/ 93).

(2)

"المتواري"(ص 280).

ص: 48

الأصل السابع والخمسين أيضًا باعتبار أنه لا تعلق له بالترجمة السابقة، بل هو رجوع إلى الأصل، وهو أبواب اللقطة باعتبار الضد؛ كذكر أبواب الكفر في "كتاب الإيمان"، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "فشرب حتى رضيت"، وعندي في قوله:"ينفض ضرعها من الغبار" فإن الناس بعد دفن الميت وإهالة التراب عليه ينفضون أيديهم من الغبار. والأوجه منه عندي في قوله: "حتى برد أسفله" فإن بدء برد الميت عند الموت يكون من الأسفل.

* * *

(1)

"اللامع"(6/ 319، 320).

ص: 49

46 -

‌ أبواب المظالم والقصاص

هكذا في النسخ الهندية، وفي نسخة الفتح والقسطلاني "كتاب المظالم في المظالم والغصب"، وفي نسخة العيني "كتاب المظالم والغصب".

قال الحافظ

(1)

: وللنسفي "كتاب الغصب باب في المظالم"، والمظالم جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم، واسم لما أخذ بغير حق، والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب أخذ حق الغير بغير حق، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: المظالم جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها حكاه الجوهري وغيره، والكسر أكثر، والغصب لغةً أخذ الشيء ظلمًا، وقيل: أخذه جهرًا بغلبة، وشرعًا: الاستيلاء على حق الغير عدوانًا، انتهى.

قال العيني

(3)

: القصاص اسم لمعنى المقاصة، وهو مقاصة ولي المقتول القاتل، والمجروح الجارح، وهي مساواته إياه في قتل أو جرح ثم عم في كل مساواة، انتهى.

(باب في المظالم والغصب)

أي: في بيان تحريم المظالم وتحريم الغصب، وقد تقدم الكلام على معناه آنفًا، ثم المصنف لم يذكر في هذا الباب حديثًا ولم يتعرض له الشرَّاح، إذ ليس في نسخهم ها هنا لفظ الباب كما تقدم، وأما على النسخة الهندية فيمكن أن يوجه بأن الحديث الآتي في الترجمة الآتية مثبت لكليهما، وقد تقدم في الأصل السابع والعشرين من أصول التراجم أن المصنف تارة

(1)

"فتح الباري"(5/ 95).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 497).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 184).

ص: 50

يذكر بابًا مع الترجمة لكن لا يذكر فيه حديثًا، وفيه وجهان: مرة يذكر تحت الترجمة آية أو حديثًا أو قولًا من الصحابة والتابعين، وإلا على الترجمة فالترجمة مثبتة بذلك، واكتفى المصنف بذلك إما لأن حديثًا على شرطه ليس عنده، أو لقصد التمرين، ومرة لا يذكر في الباب شيئًا منها فيحمله الشرَّاح على سهو الناسخين أو سهو المصنف وغير ذلك، والتحقيق عندنا أن المؤلف لا يفعل ذلك إلا في موضع يكون دليل الترجمة مذكورًا قبلها في الباب السابق أو بعدها، إلى آخر ما تقدم.

(1 -‌

‌ باب قصاص المظالم)

قال الحافظ

(1)

: يعني: يوم القيامة، ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري، وقد ترجم عليه في "كتاب الرقاق":"باب القصاص يوم القيامة"

(2)

، ويأتي الكلام عليه هناك، انتهى.

قلت: ولعل الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى أن المظالم لا تعفى بالتوبة فقط، بل لا بد من القصاص يوم القيامة، إما بإعطاء حسنات الظالم للمظلوم، أو بإعطاء الله تعالى من عنده كما ورد.

(2 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:

18])

ذكر فيه حديث ابن عمر "يدني الله المؤمن فيضع عليه كنفه" الحديث، ووجه دخوله في أبواب الغصب الإشارة إلى أن عموم قوله هنا "أغفرها لك" مخصوص بحديث أبي سعيد الماضي في الباب قبله، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 96).

(2)

(11/ 295)، باب (48).

(3)

"فتح الباري"(5/ 96، 97).

ص: 51

(3 -‌

‌ باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه)

بضم أوله، يقال: أسلم فلان فلانًا إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة.

ثم قال تحت شرح الحديث: قوله: "ولا يسلمه" أي: لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(4 -‌

‌ باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا)

قال الحافظ: ترجم بلفظ الإعانة، وأورد الحديث بلفظ النصر، فأشار إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي حديث جابر مرفوعًا:"أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا" أخرجه ابن عدي، وأبو نعيم في "المستخرج".

قال ابن بطال

(2)

: النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة، وقال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه، فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسًا ومعنى.

ثم قال الحافظ: قيل: إن أول من قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" جندب بن العنبر، وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: وعلى هذا يمكن أن يقال: إن غرض الترجمة الإشارة إلى تفسير هذه المقولة المعروفة في الجاهلية بما فسره صلى الله عليه وسلم، والرد على ما عليه أهل الجاهلية.

(1)

"فتح الباري"(5/ 97).

(2)

(6/ 572).

(3)

"فتح الباري"(5/ 98).

ص: 52

(5 -‌

‌ باب نصر المظلوم)

إنما كرر هذا الباب مع أنه تقدم اهتمامًا له أو لإرادة التعميم، أي: وإن لم يكن أخًا له.

قال الحافظ

(1)

: هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح، ويتعين أحيانًا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، انتهى.

وقال القسطلاني في شرح الحديث

(2)

: قوله: "ونصر المظلوم" مسلمًا كان أو ذميًّا واجب على الكفاية ويتعين على السلطان، وقد يكون بالقول أو بالفعل، انتهى.

(6 -‌

‌ باب الانتصار من الظالم)

أي: هذا باب في بيان الانتصار، أي: الانتقام، قاله العيني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: أما الآية الأولى فروى الطبري من طريق السدي قوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: فانتصر بمثل ما ظلم به فليس عليه ملامة، وعن مجاهد {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} فانتصر فإن له أن يجهر بالسوء، وعنه: نزلت في رجل نزل بقوم فلم يضيفوه فرخص له أن يقول فيهم، وعن ابن عباس: المراد بالجهر من القول الدعاء، فرخص للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، وأما الآية الثانية فروى الطبري من طريق السدي أيضًا في قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، قال: يعني: ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 99).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 505).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 192).

(4)

"فتح الباري"(5/ 99).

ص: 53

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

تحت الآية الثانية: قد يستنبط من تلك الآيات إشارة ما إلى ترتيب الخلافة، فقوله:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث لم يقترف الفواحش والكبائر في جاهلية ولا إسلام، {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] شأن عمر رضي الله عنه حيث ترك الخلافة شورى بين نفر من الصحابة، {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} عثمان حيث بغوا عليه وقتلوه ظلمًا، {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} علي كرم الله وجهه المنتقم من الأعداء، ولما كان البغي على عثمان بغيًا على علي، وانتصار علي انتصار عثمان لكونهما نائبين منيبين، ورضاء كل منهما بفعل الآخر صح إسناد الفعلين إليهما، معًا، والله تعالى أعلم، انتهى.

وبسط الكلام عليه في هامشه: من كلام صاحب "الإشاعة في أشراط الساعة" وذكر فيه أيضًا ما ترجح عند هذا العبد الفقير فارجع إليه لو شئت.

(7 -‌

‌ باب عفو المظلوم)

لم يذكر المصنف في هذه الترجمة وفي الترجمة السابقة حديثًا، وقد تقدم منا الكلام عليه آنفًا في "باب المظالم والغصب" من الأصل السابع والعشرين.

(8 -‌

‌ باب الظلم ظلمات يوم القيامة)

الترجمة هي عين الحديث، والظلمات جمع ظلمة وهو خلاف النور، وضم اللام فيه لغة، ويجوز في الظلمات ضم اللام وفتحها وسكونها، قال المهلب: الذي يدل عليه القرآن: أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدي سبيلًا، قال الله تعالى في المؤمنين:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] وقال في المنافقين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] فأثاب الله

(1)

"لامع الدراري"(6/ 323، 327).

ص: 54

المؤمن بلزوم نور الإيمان لهم، ولذذهم بالنظر إليه، وقوى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم ومنعهم لذة النظر إليه، انتهى [من "العمدة"]

(1)

.

(9 -‌

‌ باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم)

قال العلَّامة القسطلاني

(2)

في شرح الحديث: قوله: "ليس بينها وبين الله حجاب" كناية عن الاستجابة وعدم الرد كما صرَّح به في حديث أبي هريرة عند الترمذي مرفوعًا بلفظ: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله تعالى فوق الغمام" الحديث، انتهى.

(10 -‌

‌ باب من كانت له مظلمة عند الرجل. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

رحمه الله: المظلمة بكسر اللام على المشهور، وحكي فتحها وحكي الضم أيضًا، انتهى.

قال العيني

(4)

: قوله: "مظلمة" أي: المأخوذ بغير حق، وقوله:"هل يبين؟ " أي: هل يحتاج إلى بيان تلك المظلمة حتى يصح التحليل؟ وفيه خلاف، فلذلك لم يذكر جواب "هل"، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: فيه إشارة إلى الخلاف في صحة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوي قول من ذهب إلى صحته، وقد ترجم بعد باب "إذا حلله ولم يبين كم هو"، وفيه إشارة إلى الإبراء من المجمل أيضًا، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 194، 195).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 509).

(3)

"فتح الباري"(5/ 101).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 196).

(5)

"فتح الباري"(5/ 101).

ص: 55

وفي "الدر المختار"

(1)

: البراءة عن الحقوق المجهولة لا يصح عند الشافعي، ويصح عندنا لعدم إفضائه إلى المنازعة، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: هو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد، وتمليك المجهول لا يصح، ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة، وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم، فلا تكون مفسدة، انتهى.

(11 -‌

‌ باب إذا حلَّله من ظلمه فلا رجوع فيه)

أي: معلومًا عند من يشترطه أو مجهولًا عند من يجيزه، وهو فيما مضى باتفاق، وأما فيما سيأتي ففيه الخلاف، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الخلع عقد لازم فلا يصح الرجوع فيه، ويلتحق به كل عقد لازم كذلك. كذا قال الكرماني

(3)

فوهم، ومورد الحديث والآية إنما هو في حق من يسقط حقها من القسمة، وليس من الخلع في شيء، فمن ثم وقع الإشكال فقال الداودي: ليست الترجمة بمطابقة للحديث، فوجهه ابن المنيِّر

(4)

بأن الترجمة تتناول إسقاط الحق من المظلمة الفائتة والآية مضمونها إسقاط الحق المستقبل حتى لا يكون عدم الوفاء به مظلمة لسكوته، قال ابن المنيِّر: لكن البخاري تلطف في الاستدلال وكأنه يقول: إذا نفذ الإسقاط في الحق المتوقع فلأن ينفذ في الحق المحقق أولى، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(6)

تحت الباب: يعني بذلك ما هو إسقاط محض، فأما إذا حللته مما لم يوجد بعد من القسم وأمثاله فلها الرجوع فيه؛ لأن الإسقاط لم يوجد إلا فيما وجد، فلها أن تمنع ما فوق

(1)

"الدر المختار"(2/ 21).

(2)

"الهداية"(5/ 89 - 90).

(3)

"الكرماني"(11/ 22).

(4)

"المتواري"(ص 282).

(5)

"فتح الباري"(5/ 102).

(6)

"لامع الدراري"(6/ 328، 329).

ص: 56

ذلك؛ لأنه ليس رجوعًا فيما أسقطته بل هو امتناع عن الإسقاط في ما بعد، فلا يعترض بالرواية في إثبات الأحناف للمرأة الرجوع فيما أسقطته من قسمه.

ثم دلالة الرواية على الترجمة - أي: الماضية كما تقدم في أول الباب -، وكذلك في الترجمة الآتية محتاجة إلى فضل، تدبر.

وحاصل المعنيين: قياس الموجود والماضي على المستقبل والآتي، والاستدلال بحصة الشرب الشائع على الحق المبهم، انتهى.

(12 -‌

‌ باب إذا أذن له أو حلَّله له ولم يبين كم هو

؟)

أي: أذن رجل لرجل آخر في استيفاء حقه. . . إلخ، قاله القسطلاني

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: أورد فيه حديث سهل بن سعد في استئذان الغلام في الشرب، ومطابقته - وقد خفيت على ابن التِّين فأنكرها - من جهة أن الغلام لو أذن في شرب الأشياخ قبله لجاز؛ لأن ذلك هو فائدة استئذانه، فلو أذن لكان قد تبرع بحقه، وهو لا يعلم قدر ما يشربون ولا قدر ما كان هو يشربه، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: ولم يظهر لي وجه المناسبة بين الترجمة والحديث فالله أعلم، وقد قيل: إنها تؤخذ من معنى الحديث؛ لأنه لو أذن الغلام. . . إلى آخر ما تقدم.

ثم لا يخفى عليك الفرق بين هذه الترجمة وبين ما سبق قبل باب، فإن الأولى في الإبراء عن الحقوق المجهولة بأن لا يعرف نوع الحقوق هل كانت من المال أو العرض أو غيرهما، وهذه الترجمة في الإبراء من الحقوق

(1)

إرشاد الساري" (5/ 511).

(2)

"فتح الباري"(5/ 103).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 512).

ص: 57

المجملة بأن يكون النوع معلومًا بأن يكون الدراهم مثلًا، لكن لم يعلم مقدارها، فافهم.

(13 -‌

‌ باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض)

كأنه يشير إلى توجيه تصوير غصب الأرض، خلافًا لمن قال: لا يمكن ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (أن سعيد بن زيد. . .) إلخ، قال الحافظ: قد تقدم من رواية ابن إسحاق قصة لسعيد في هذا الحديث وسيأتي في "بدء الخلق"

(2)

: "أنه خاصمته أروى في حقٍّ زعمت أنه انتقصه لها إلى مروان، فقال مروان: دعوها وإياها، فترك سعيد ما ادعت"، وفي رواية لمسلم:"أن سعيدًا قال: اللَّهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها"، وفي رواية:"فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها وذكروا كلهم أنها عميت، وأنها سقطت في بئرها وماتت"، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(3)

.

(14 -‌

‌ باب إذا أذن إنسان لآخر شيئًا جاز)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: وإنما ذكره ها هنا لما فيه من حق الآخر والآذن، فكان لكل منهما الاقتران بعد إذن صاحبه فيكون التعدي معفوًا بالإذن، انتهى.

وفي هامشه

(5)

: قال الحافظ: أورد المصنف فيه حديثين: أحدهما لابن عمر في النهي عن القران، والمراد به أن لا يقرن تمرة بتمرة عند الأكل لئلَّا يجحف برفقته، فإن أذنوا له في ذلك جاز؛ لأنه حقهم فلهم أن يسقطوه، وهذا يقوّي مذهب من يصحح هبة المجهول، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 104).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 3198).

(3)

"فتح الباري"(5/ 104).

(4)

"لامع الدراري"(6/ 33، 334).

(5)

هامش "اللامع"(6/ 333، 334)، و"فتح الباري"(5/ 106).

ص: 58

قال العيني

(1)

: قال القرطبي: حمل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم مطلقًا، وحمله جمهور الفقهاء على حالة المشاركة بدليل مساق الحديث، وصوَّب النووي التفصيل فإن كان مشتركًا بينهم حرم إلا برضاهم وإلا فلا، انتهى.

(15 -‌

‌ باب قول الله تعالى {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:

204])

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: إنما ذكره ها هنا لأن المظالم والمنازعات تكون منجرة إلى اللدد فينبغي الاحتراز عن الوقوع فيه، انتهى.

وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك إلى دفع ما يرد على الإمام البخاري أن محل هذا الباب كتاب التفسير، قال الكرماني

(3)

: الألد شديد الجدل والإضافة بمعنى في، أو جعل الخصام ألد على المبالغة، وقيل: الخصام جمع الخصم، انتهى.

(16 -‌

‌ باب إثم من خاصم في باطل)

أورد فيه حديث أم سلمة وفيه: "فإنما هي قطعة من النار"، وهو ظاهر فيما ترجم به، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في "كتاب الأحكام" إن شاء الله تعالى، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(17 -‌

‌ باب إذا خاصم فجر)

أي: ذم من إذا خاصم فجر أو إثمه، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وقال القسطلاني

(6)

: قوله: "فجر" أي: مال عن الحق، والمراد به هنا الشتم والرمي بالأشياء القبيحة والبهتان، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 206).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 335).

(3)

"شرح الكرماني"(11/ 26).

(4)

"فتح الباري"(5/ 107).

(5)

"فتح الباري"(5/ 107).

(6)

"إرشاد الساري"(5/ 520).

ص: 59

(18 -‌

‌ باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أي: هل يأخذ منه بقدر الذي له ولو بغير حكم حاكم؟ وهي المسألة المعروفة بمسألة الظفر، وقد جنح المصنف إلى اختياره، ولهذا أورد أثر ابن سيرين على عادته في الترجيح بالآثار، انتهى.

قلت: هو أصل معروف مطرد من أصول التراجم، وهو الأصل الأربعون، وحاصله يؤخذ مختار البخاري من الآثار التي يودعها في الترجمة.

ثم قال الحافظ: واستدل بحديث عقبة بن عامر ثاني حديثي الباب على مسألة الظفر وبها قال الشافعي، وجزم بجواز الأخذ فيما إذا لم يمكن تحصيل الحق بالقاضي؛ كأن يكون غريمه منكرًا ولا بيِّنة له عند وجود الجنس، فيجوز عنده أخذه إن ظفر به وأخذ غيره بقدره إن لم يجده ويجتهد في التقويم ولا يحيف، فإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي فالأصح عند أكثر الشافعية الجواز أيضًا، وعند المالكية الخلاف، وجوَّزه الحنفية في المثلي دون المتقوّم لما يخشى فيه من الحيف، واتفقوا على أن محل الجواز في الأموال لا في العقوبات البدنية لكثرة الغوائل في ذلك، ومحل الجواز في الأموال أيضًا ما إذا أمن الغائلة كنسبته إلى السرقة ونحو ذلك، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: قال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل، ومن الموزون الموزون ولا يأخذ غير ذلك، والمفتى به عند المالكية أن يأخذ بقدر حقه إن أمن فتنة أو نسبة إلى رذيلة.

وأما مذهب أحمد فقال الخرقي: من كان له على أحد حق فمنعه منه وقدر له على مال لم يأخذ منه مقدار حقه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"، انتهى [من هامش "اللامع"]

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 108، 109).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 523).

(3)

"هامش اللامع"(6/ 336).

ص: 60

وفي "الدر المختار"

(1)

: ليس لذي الحق أن يأخذ غير جنس حقه، وجوَّزه الشافعي، قال ابن عابدين

(2)

: عدم الجواز كان في زمانهم، أما اليوم فالفتوى على الجواز، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

تحت الباب: وهو عندنا مخصوص بما إذا وجد من جنس ماله، وعمم صاحباه الحكم في النقدين، فمن كان له على آخر دراهم، فله أن يأخذ الدنانير وبالعكس، وأفتى المتأخرون على مذهب الأئمة الآخرين لفساد القضاة، فله أن يأخذ متى ظفر بحقه ولو من غير جنسه، وظاهر الآية والرواية معهم حيث لم يقيّد بشيء دون شيء، انتهى.

(19 -‌

‌ باب ما جاء في السقائف)

جمع سقيفة وهي المكان المظلل كالساباط أو الحانوت بجانب الدار، وكأنه أشار إلى أن الجلوس في الأمكنة العامة جائز، وأن اتخاذ صاحب الدار ساباطًا أو مستظلًا جائز إذا لم يضر المارة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وقال القسطلاني

(5)

: ومراد المؤلف التنبيه على جواز اتخاذها وهي أن صاحب جانبي الطريق يجوز له أن يبني سقفًا على الطريق تمر المارة تحته، ولا يقال: إنه تصرف في هواء الطريق وهو تابع لها يستحقه المسلمون؛ لأن الحديث دال على جواز اتخاذها، ولولا ذلك لما أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا جلس تحتها، انتهى.

وفي "الفيض"

(6)

: قوله: "سقيفة"(جوبال) ولا حاجة فيها إلى الإجازة، لكونها أعدت لمصالح العامة عرفًا، انتهى.

(1)

"الدر المختار"(5/ 744).

(2)

"رد المحتار"(9/ 606).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 336، 337).

(4)

"فتح الباري"(5/ 109).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 524).

(6)

"فيض الباري"(3/ 613).

ص: 61

(20 -‌

‌ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر بالتنوين على إفراد الخشبة، ولغيره بصيغة الجمع وهو الذي في حديث الباب، قال ابن عبد البر: روي اللفظان في "الموطأ" والمعنى واحد لأن المراد بالواحد الجنس، انتهى.

واستدل بحديث الباب على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع أجبر، وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعي في القديم، وعنه في الجديد قولان: أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو قول الحنفية، وحملوا الأمر في الحديث على الندب والنهي على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه، وجزم الترمذي عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(21 -‌

‌ باب صب الخمر في الطريق)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: يعني بذلك: أن الطريق مشترك للعامة فجاز مثل هذه التصرفات فيه، لكونه من جملتهم غير أن جوازه مشروط بما لم يكن مضرًا بالمارة؛ لأن ضرر الخاص محتمل بالضرر العام، فلو كان الطريق ضيّقًا أو صلبًا بحيث لا ينشف أرضه ما أريق فيه منع من الإراقة فيه لئلا تزلّ فيه الأقدام فتتأذى به الأقوام، انتهى.

وفي "هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أجود مما قاله الشرَّاح في غرض الباب، قال الحافظ: باب صب الخمر في الطريق، أي: المشتركة، إذا تعيَّن ذلك طريقًا لإزالة مفسدة تكون أقوى من المفسدة

(1)

"فتح الباري"(5/ 110).

(2)

"فتح الباري"(5/ 110).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 342 - 343).

ص: 62

الحاصلة بصبها، قال المهلب: إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق، انتهى.

(22 -‌

‌ باب أفنية الدور والجلوس فيها. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أما الأفنية فهي جمع فناء بكسر الفاء والمد وقد تقصر، وهو المكان المتسع أمام الدار، والترجمة معقودة لجواز تحجيره بالبناء، وعليه جرى العمل في بناء المساطب في أبواب الدور، والجواز مقيَّد بعدم الضرر للجار والمار، والصعدات بضمتين جمع صعد بضمتين أيضًا وقد يفتح أوله، وهو جمع صعيد كطريق وطرقات وزنًا ومعنًا، والمراد به ما يراد من الفناء، انتهى.

(23 -‌

‌ باب الآبار على الطريق إذا لم يتأذّ بها)

الآبار بمد وتخفيف والموحدة، ويجوز بغير مد وتسكين الموحدة بعدها همزة، وهو الأصل في هذا الجمع، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: أي: حكم الآبار التي حفرت على الطرق، والآبار جمع بئر وهو بهمزة مفتوحة وموحدة ساكنة ثم همزة مفتوحة، قال في "الصحاح": ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار بمد الهمزة وفتح الموحدة، وبه ضبط في البخاري، انتهى.

وقال بعد ذكر الحديث: وفيه جواز حفر الآبار في الصحراء لانتفاع عطشان وغيره بها.

فإن قلت: كيف ساغ مع مظنة الاستضرار بها بساقط بليل أو وقوع بهيمة أو نحوها فيها؟ أجيب: بأنه لما كانت المنفعة أكثر ومتحققة

(1)

"فتح الباري"(5/ 113).

(2)

"فتح الباري"(5/ 114).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 530، 531).

ص: 63

والاستضرار نادرًا ومظنونًا غلب الانتفاع وسقط الضمان فكانت جبارًا فلو تحققت المضرة لم يجز وضمن الحافر، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

: والمراد من الطريق أرض ليس لها مالك، وكانت مباحة الأصل، انتهى.

(24 -‌

‌ باب إماطة الأذى. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أي إزالته، وزاد القسطلاني

(3)

: عن المسلمين، معنى كون الإماطة صدقة أنه تسبب إلى سلامة من يمر به من الأذى فكأنه تصدق عليه بذلك فحصل له أجر الصدقة، وقد جعل صلى الله عليه وسلم الإمساك عن الشر صدقة على النفس، انتهى.

وسيأتي بقية الكلام عليه في "باب من أخذ الغصن. . ." إلخ، قريبًا.

(25 -‌

‌ باب الغرفة والعلية المشرفة)

" الغرفة" بضم المعجمة وسكون الراء، أي: المكان المرتفع في البيت، "والعُلِّيِّة" بضم أوله وتكسر وبتشديد اللام المكسورة وتشديد التحتانية، قوله:"المشرفة" بالمعجمة والفاء وتخفيف الراء، انتهى من "الفتح"

(4)

.

كتب الشيخ رحمه الله في "اللامع"

(5)

: إن حمل الغرفة على الباب الصغير، والعلية على المكان الذي فيه الغرفة لسلم عن التكرار، والمقصود بذلك بيان جوازه ودفع ما يتوهم من كراهته لما فيه من الاطلاع على عورات الجوار وأحوالهم، غير أن الجواز مشروط بما إذا لم يضر الجار والمارة، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(3/ 614).

(2)

"فتح الباري"(5/ 114).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 531).

(4)

"فتح الباري"(5/ 116).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 343، 344).

ص: 64

وفي هامشه: قال القسطلاني عن الكرماني: العلية مثل الغرفة، وقال الجوهري: الغرفة والعلية هو من العطف التفسيري، انتهى.

قال العيني: المشرفة من الإشراف على الشيء وهو الإطلاع عليه، فيفهم من كلامه أنها على أربعة أقسام: الأول: علية مشرفة على مكان على سطح، الثاني: مشرفة على مكان على غير سطح، الثالث: غير مشرفة على مكان على سطح، الرابع: غير مشرفة على مكان على غير سطح، قال ابن بطال: الغرفة على السطوح مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد.

قال العيني: الذي ذكره هي العلية على السطح غير المشرفة، فيفهم منه أنها إذا كانت مشرفة على مكان فهي غير مباحة، وكذلك إذا كانت على غير سطح وكانت مشرفة، ولم أر أحدًا من شرَّاح البخاري حقق هذا الموضع، انتهى.

وفي "الدر المختار": لا يمنع الشخص من التصرف في ملكه إلا إذا كان الضرر بجاره ضررًا بيِّنًا فيمنع من ذلك حتى يمنع الجار من فتح الطاق، وهذا جواب المشايخ استحسانًا، وجواب ظاهر الرواية عدم المنع مطلقًا، ورجحه في "الفتح"، إلى آخر ما في هامش "اللامع".

(26 -‌

‌ باب من عقل بعيره على البلاط، أو باب المسجد)

قال الحافظ

(1)

: "البلاط" بفتح الموحدة وهي حجارة مفروشة كانت عند باب المسجد، وقوله:"أو باب المسجد" هو بالاستنباط من ذلك، وأشار به إلى ما ورد في بعض طرقه، وأورد فيه طرفًا من حديث جابر في قصة جمله، وغرضه هنا قوله:"فعقلت الجمل في ناحية البلاط" فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: ودلالة الرواية عليه من حيث أن المراد

(1)

"فتح الباري"(5/ 117).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 350).

ص: 65

بناحية البلاط هي الطرف الداخل في البلاط، وإن أريد بها الخارج منه فدلالتها عليها من حيث إنه لما عقل على طرفه المتصل بها كان البعير على سعة من الدخول على البلاط، ولعله جلس عليه أو وقف، انتهى.

وتعرض لهذا الإشكال والجواب وعنه العلَّامة العيني

(1)

وما أفاده الشيخ أوضح منه وأبسط.

وفي "الفيض"

(2)

: البلاط كانت حجارة مفروشة من المسجد إلى السوق تسمى بالبلاط، وكان العقل فيه انتفاعًا بأرض غير مملوكة، انتهى.

(27 -‌

‌ باب الوقوف والبول عند سباطة قوم)

قال الحافظ

(3)

: وجاز البول في السباطة وإن كانت لقوم بأعيانهم؛ لأنها أعدت لإلقاء النجاسات والمستقذرات، انتهى.

(28 -‌

‌ باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به)

قال القسطلاني

(4)

: أي: ثواب من أخذ الغصن، وفي رواية "من أخَّر الغصن" أي: الذي يؤذي المارين، انتهى.

وقال الحافظ

(5)

: وينظر في هذه الترجمة وفي التي قبلها بثلاثة أبواب وهي إماطة الأذى، وكأن تلك أعم من هذه لعدم تقييدها بالطريق وإن تساويا في فضل عموم المزال، وفيه: أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر، قال ابن المنيِّر: إنما ترجم به لئلا يتخيل أن الرمي بالغصن وغيره مما يؤذي تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيمنع، فأراد أن يبين أن ذلك لا يمنع لما فيه من الندب إليه، وقد روى مسلم من حديث أبي برزة قال: "قلت:

(1)

"عمدة القاري"(9/ 232).

(2)

"فيض الباري"(3/ 618).

(3)

"فتح الباري"(5/ 118).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 543).

(5)

"فتح الباري"(5/ 118).

ص: 66

يا رسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل أنتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين"، انتهى.

قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الغرض مما تقدم هو ما أفاده الحافظ رحمه الله من بيان الجواز وأنه ليس تصرفًا في ملك الغير، والغرض من هذا الباب عندي هو بيان الفضل والثواب، وألطف منه أن يقال: إن المقصود من الباب السابق بيان إماطة الأذى الساقطة على الطريق، والمقصود من هذا الباب إزالة الأذى المعلق على الطريق، فقد قال الحافظ

(1)

: أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ "غصن شوك"، وفي حديث أنس عند أحمد "أن شجرة كانت على طريق الناس تؤذيهم" الحديث، فتأمل.

(29 -‌

‌ باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء)

على وزن مفعال من الإتيان لا من الموت، والمعنى أن يكثر فيه الإتيان؛ قاله صاحب "الفيض"

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: الميتاء بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها مثناة ومد، من الإتيان والميم زائدة، قيل: الميتاء أعظم الطريق وهي التي يكثر مرور الناس بها، وقيل: هي الطريق الواسعة، وقيل: وهي العامرة.

قوله: (وهي الرحبة تكون. . .) إلخ، وهو مصير منه إلى اختصاص هذا الحكم بالصورة التي ذكرها، وقد وافقه الطحاوي على ذلك فقال: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى من حمله على الطريق التي يراد ابتداؤها إذا اختلف من يبتدئها في قدرها كبلد يفتحها المسلمون وليس فيها طريق مسلوك، وكموات يعطيه الإمام لمن يحييها إذا أراد أن يجعل فيها طريقًا للمارة ونحو ذلك، وقال غيره: مراد الحديث أن أهل الطريق إذا تراضوا

(1)

"فتح الباري"(5/ 118).

(2)

"فيض الباري"(3/ 619).

(3)

"فتح الباري"(5/ 118).

ص: 67

على شيء كان لهم ذلك، وإن اختلفوا جعل سبعة أذرع، إلى آخر ما فيه.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: يعني: إذا انهدمت البيوت التي كانت على الطريق، ثم أراد الملاك بناءها، ولم يعلم كم كان الطريق في الأصل يجعل سبعة أذرع، انتهى.

(30 -‌

‌ باب النهبى بغير إذن صاحبه. . .) إلخ

أي: صاحب الشيء المنهوب، والنهبى بضم النون فعلى من النهب، وهو أخذ المرء ما ليس له جهارًا، هو غير جائز، ومفهوم الترجمة أنه إذا أذن جاز، ومحله في المنهوب المشاع كالطعام يقدم للقوم فلكل منهم أن يأخذ مما يليه ولا يجذب من غيره إلا برضاه، وكره مالك وجماعة النهب في نثار العرس؛ لأنه إما أن يحمل على أن صاحبه أذن للحاضرين في أخذه فظاهره يقتضي التسوية، والنهب يقتضي خلافها، وإما أن يحمل على أنه علق التمليك على ما يحصل لكل أحد، ففي صحته اختلاف فلذلك كرهه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العلَّامة العيني

(3)

: اختلف العلماء في ما ينثر على رؤوس الصبيان وفي الأعراس، فتكون فيه النهبة، فكرهه مالك والشافعي، وأجازه الكوفيون، انتهى.

(31 -‌

‌ باب كسر الصليب وقتل الخنزير)

وفيه إشارة إلى من قتل خنزيرًا أو كسر صليبًا لا يضمن لأنه فعل مأمورًا به، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سيفعله، وهو إذا نزل كان مقررًا لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي تقريره، ولا يخفى أن محل جواز كسر الصليب إذا كان مع المحاربين، أو الذمي إذا

(1)

"لامع الدراري"(6/ 351).

(2)

"فتح الباري"(5/ 121).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 237).

ص: 68

جاوز به الحد الذي عوهد عليه، فإذا لم يتجاوز وكسره مسلم كان متعديًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

تحت الباب: قلت: لا غرو أن يكون كسره الصليب بعد النزول ككسر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام في فتح مكة، وكذا يمكن أن يكون وضع الجزية ناظرًا إلى منصب التشريع، أي: ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجزء أنموذجًا له، وفوّضه إليه بأمره ليتولاه هو بنفسه، انتهى.

قوله: (حكمًا مقسطًا) قال العلَّامة السندي

(3)

: فيه تنبيه على أنه لا يأتي فينا على أنه نبي مرسل إلينا وإن كان نبيًا في الواقع بل يأتي فينا على أنه حاكم، وزاد هذا التنبيه وضوحًا وصفه بقوله:"مقسطًا" إذ من يجيء نبيًا لا يحتاج إلى أن يوصف بكونه عدلًا، بخلاف من يجيء حاكمًا، فافهم، انتهى.

(32 -‌

‌ باب هل تكسر الدنان. . .) إلخ

بكسر الدال جمع دن الحب، وهو الخابية فارسي معرب، "والزقاق" بكسر الزاء جمع زق، أي: التي فيها الخمر أيضًا.

وفي مسألة الباب تفصيل، فإن كانت الأوعية بحيث تراق، وإذا غسلت طهرت وينتفع بها لم يجز إتلافها، وإلا جاز. وقال أبو يوسف وأحمد في رواية: إن كان الدن أو الزق لمسلم لم يضمن، وقال محمد وأحمد في رواية: يضمن لأن الإراقة بغير الكسر ممكنة، وإن كان الدن لذمي فقال الحنفية: يضمن بلا خلاف؛ لأنه مال متقوّم في حقهم، وقال الشافعي وأحمد: لا يضمن؛ لأنه غير متقوّم في حق المسلم فكذا في حق الذمي، وإن كان الدن لحربي فلا يضمن بلا خلاف، وعن مالك: زق الخمر لا يطهره الماء لأن الخمر غاص فيه، انتهى من "القسطلاني"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 121).

(2)

"فيض الباري"(3/ 620).

(3)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 73).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 547، 548).

ص: 69

قوله: (فإن كسر صنمًا. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: أي هل يضمن أم لا؟ أما الصنم والصليب فمعروفان يتخذان من خشب ومن حديد ومن نحاس وغير ذلك، وأما الطنبور فهو بضم الطاء آلة من آلات الملاهي معروفة وقد تفتح طاؤه، وأما ما لا ينتفع بخشبه فبينه وبين ما تقدم خصوص وعموم.

وقال الكرماني

(2)

: المعنى: أو كسر شيئًا لا يجوز الانتفاع بخشبه قبل الكسر كآلة الملاهي، يعني: فيكون من العام بعد الخاص، قال: ويحتمل أن يكون "أو" بمعنى "حتى" أي: كسر ما ذكر إلى حد لا ينتفع بخشبه، انتهى.

[و] في "الهداية"

(3)

: من كسر لمسلم بربطًا، أو طبلًا، أو دفًا، أو مزمارًا، فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز، وهذا عند أبي حنيفة، وقال صاحباه: لا يضمن، ولا يجوز بيعها، وقيل: الاختلاف في الذي يضرب للهو، فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف، وقيل: الفتوى في الضمان على قولهما، ثم ذكر دلائل الفريقين.

قوله: (فاتخذت منه نمرقتين. . .) إلخ، يشكل عليه ما سيأتي من حديث عائشة في "كتاب بدء الخلق" بلفظ:"حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل كأنها نمرقة، فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه" الحديث، وجمع بينهما مولانا محمد حسن المكي فقال: قوله: "نمرقة" أي: وسادة كبيرة، وقول عائشة:"فاتخذت منه نمرقتين" فالمراد بهما الوسادة الصغيرة التي توطأ بالأرجل وتتقلب من موضع إلى موضع، فإن التماثيل فيها جائزة، وأيضًا التماثيل التي في تلك النمرقتين قد صارت منكسرة منقطعة بالفتك، بخلاف هذه النمرقة الكبيرة فإنها فيها سالمة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 122).

(2)

"الكرماني"(11/ 44).

(3)

"الهداية"(6/ 524، 525).

ص: 70

قلت: وسيأتي في "كتاب اللباس" في "باب ما وطئ من التصاوير" حديث عائشة: "فجعلناه وسادة".

وفي هامشه: وفيه دليل لمن قال: إن امتناع الملائكة مخصوص بغير المهانة، كما رجحه ابن الهمام.

وبسط في الحاشية الكلام عليها، وفيها عن "موطأ محمد": وبهذا نأخذ ما كان فيه من تصاوير من بساط يبسط، أو فراش يفترش، أو وسادة فلا بأس بذلك، وإنما يكره من ذلك في الستر وما ينصب نصبًا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

وسيأتي شيء من الكلام عليه في "كتاب اللباس"، إن شاء الله.

(33 -‌

‌ باب من قتل دون ماله)

وفي نسخة الشروح "قاتل" بدل "قتل".

قال الكرماني

(2)

: قوله: "دون ماله" أي: عند ماله، وقال القرطبي:"دون" في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، ويستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل على ماله إنما يجعله خلفه أو تحته، ثم يقاتل عليه، وجواب "من" محذوف ولم يذكره اكتفاءً بما في الحديث، قاله العيني

(3)

، وقال أيضًا: قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأن المقاتلة لا تستلزم القتل، والشهادة مرتبة على القتل.

قلت: قد ذكرت الآن أن تقدير الترجمة: من قاتل دون ماله فقتل، فماذا حكمه؟ فالجواب: إنه شهيد، واقتصر في الحديث على لفظ: قتل لأنه يستلزم المقاتلة، وقيل أيضًا: ما وجه إدخال هذا الحديث في هذه الأبواب؟ وأجيب بأنه يدل أن للإنسان أن يدفع من قصد ماله ظلمًا، وهذا النوع داخل في المظالم؛ لأن فيه دفع الظلم، فافهم، انتهى.

(1)

"هامش اللامع"(10/ 19).

(2)

"الكرماني"(11/ 47).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 248).

ص: 71

قال الحافظ

(1)

: وفي رواية لأبي داود والترمذي: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد"، وكأن البخاري أشار إلى ذلك في الترجمة لتعبيره بلفظ:"قاتل"، انتهى، وستأتي في كلام السندي نكتة في هذا التعبير.

قال النووي

(2)

: فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه، وقال بعض المالكية: لا يجوز إذا طلب المال الخفيف، قال القرطبي

(3)

: سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟ انتهى.

وقد أجاد في بيان النكتة العلَّامة السندي

(4)

حيث قال: قوله في الحديث: "من قتل دون ماله. . ." إلخ؛ كأنه فهم منه أن يقوم لحفظ المال والدفع عنه فيقتل لذلك، وأما الذي يقتل من غير دفع عن المال فلا يقال له: إنه قتل دون ماله، فأشار في الترجمة حيث قال:"من قاتل إلى هذا"، والله تعالى أعلم.

(34 -‌

‌ باب إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره)

أي: هل يضمن المثل أو القيمة؟ والقصعة بفتح القاف إناء من خشب.

قوله: (فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) هي صفية كما رواه أبو داود والنسائي، أو حفصة، رواه الدارقطني وابن ماجه، أو أم سلمة، رواه الطبراني في "الأوسط"، وإسناده أصح من إسناد الدارقطني، وهو أصح ما ورد في ذلك، ويحتمل التعدد، قاله القسطلاني

(5)

، والبسط في "الفتح"

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 124).

(2)

"المنهاج"(21/ 164).

(3)

"المفهم"(1/ 353).

(4)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 73).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 552).

(6)

"فتح الباري"(5/ 124، 126).

ص: 72

واستشكل على الحديث بأنه إنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء كالدراهم ولسائر المثليات، والقصعة إنما هي من المتقومات، والجواب ما حكاه البيهقي: بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت زوجتيه فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن ذلك على سبيل الحكم على الخصم، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

والبسط في "الفتح"

(2)

مع بيان اختلاف الأئمة في الضمان بالمثل، أو القيمة، فارجع إليه لو شئت.

(35 -‌

‌ باب إذا هدم حائطًا فليبن مثله)

خلافًا لمن قال: تلزمه القيمة من المالكية وغيرهم، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال ابن عابدين رحمه الله

(4)

: لو هدم دار غيره بغير أمره وبغير أمر السلطان حتى ينقطع عن داره ضمن، ولم يأثم بمنزلة جائع في مفازة ومع صاحبه طعام له أخذه كرها، ثم يضمنه ولا إثم عليه، انتهى.

ثم البراعة في قوله: "وكسروا صومعته، وأنزلوه" عند الحافظ.

والأوجه عندي: في قوله: "فقالت: اللَّهم لا تمته".

* * *

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 552).

(2)

"فتح الباري"(5/ 124، 126).

(3)

"فتح الباري"(5/ 127).

(4)

"رد المحتار"(9/ 289).

ص: 73

47 -

‌ كتاب الشركة

هكذا في نسخة "الفتح" والعيني ونسخة الحاشية، وأما في متن النسخ الهندية وكذا في نسخة القسطلاني ففيهما: "‌

‌باب الشركة في الطعام والنهد

. . ." إلخ.

قال الحافظ

(1)

: والشركة بفتح المعجمة وكسر الراء، وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تحذف الهاء، وقد يفتح أوله مع ذلك فهي أربع لغات.

وهي لغة: الاختلاط، وشرعًا: ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدًا من الاختلاط بتحصيل الربح، وقد تحصل بغير قصد كالإرث.

وقال العيني

(2)

: وهي على نوعين: شركة الملك، وهي أن يملك اثنان عينًا أو إرثًا أو شراء أو هبة أو ملكًا بالاستيلاء، أو اختلط مالهما بغير صنع، فكل هذا شركة ملك وكل واحد منهما أجنبي في قسط صاحبه، والنوع الثاني: شركة العقد، وهي أن يقول أحدهما: شاركتك في كذا، وهي على أربعة أنواع: مفاوضة، وعنان، وتقبل، وشركة وجوه، وبيانها في الفروع، وذكر العلَّامة القسطلاني

(3)

تعريف كل واحد من هذه الأربعة.

(1 - باب الشركة في الطعام والنهد)

قال الحافظ: قوله: "الشركة في الطعام والنهد" أما الطعام فسيأتي القول فيه في باب مفرد، وأما النهد هو بكسر النون وبفتحها إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، يقال: تناهدوا وناهد بعضهم بعضًا، قاله الأزهري، وقال الجوهري نحوه، لكن قال: على قدر نفقة صاحبه، وقال

(1)

"فتح الباري"(5/ 129).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 257).

(3)

انظر: "إرشاد الساري"(5/ 556).

ص: 74

عياض

(1)

مثل قول الأزهري إلا أنه قيده بالسفر والخلط، ولم يقيده بالعدد، والمعروف أنه خلط الزاد في السفر، وقد أشار إلى ذلك المصنف في الترجمة حيث قال:"يأكل هذا بعضًا وهذا بعضًا".

قوله: (والعروض) بضم أوله جمع عرض بسكون الراء مقابل النقد، وأما بفتحها فجميع أصناف المال، وما عدا النقد يدخل فيه الطعام فهو من الخاص بعد العام، ويدخل فيه الربويات، ولكنه اغتفر في النهد لثبوت الدليل على جوازه، واختلف العلماء في صحة الشركة كما سيأتي.

قوله: (وكيف قسمة ما يكال ويوزن؟) أي: هل يجوز قسمة مجازفة أو لا بد من الكيل في المكيل والوزن في الموزون؟ وأشار إلى ذلك بقوله: "مجازفة أو قبضة قبضة" أي: متساوية.

قوله: (لما لم ير المسلمون. . .) إلخ، بكسر اللام وتخفيف الميم، وكأنه أشار إلى أحاديث الباب، وقد ورد الترغيب في ذلك، روي عن الحسن أنه قال:"أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم"، انتهى كله من "الفتح"

(2)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: "لما لم ير. . ." إلخ، يعني: بذلك أن الظاهر وإن كان عدم جوازه لما بين أفراد الآكلين من تفاوت غير يسير، فمن مقل في الأكل ومن مكثر فيه، غير أن العرف جار بإهدار هذا التفاوت في الشركاء، انتهى.

قوله: (وكذلك مجازفة الذهب والفضة) قال الحافظ

(4)

: كأنه ألحق النقد بالعرض للجامع بينهما وهو المالية، لكن إنما يتم ذلك في قسمة الذهب مع الفضة، أما قسمة أحدهما خاصة - حيث يقع الاشتراك في الاستحقاق - فلا

(1)

انظر: "مشارق الأنوار"(2/ 37).

(2)

"فتح الباري"(5/ 129).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 356، 357).

(4)

"فتح الباري"(5/ 129).

ص: 75

يجوز إجماعًا، قاله ابن بطال

(1)

، وقال ابن المنيِّر: شرط مالك في منعه أن يكون مصكوكًا والتعامل فيه بالعدد فعلى هذا يجوز بيع ما عداه جزافًا، ومقتضى الأصول منعه، وظاهر كلام البخاري جوازه، ويمكن أن يحتج له بحديث جابر في مال البحرين، والجواب عن ذلك أن قسمة العطاء ليست على حقيقة القسمة؛ لأنه غير مملوك للآخذين قبل التمييز، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: ذهب البخاري إلى جواز قسمة المكيلات والموزونات في النهد مجازفةً، وهذه الترجمة إحدى الترجمتين اللتين حكم عليهما ابن بطال أنهما خلاف الإجماع، وقد مر مني الجواب أنها ليست من باب المعارضات التي تجري فيها المماكسة، أو تدخل تحت الحكم، وإنما هي من باب التسامح والتعامل، وقد جرى به التعامل من لدن عهد النبوة إلى يومنا هذا، انتهى مختصرًا.

ويأتي في "كتاب الأطعمة" تبويب المؤلف بالنهد والاجتماع على الطعام.

(2 -‌

‌ باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما)

أورد فيه حديث أنس وهو طرف من حديثه الطويل في "الزكاة"

(3)

، وتقدم فيه، وقيَّده المصنف في الترجمة بالصدقة لوروده فيها؛ لأن التراجع لا يصح بين الشريكين في الرقاب، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(3 -‌

‌ باب قسمة الغنم)

كتب الشيخ نوَّر الله مرقده في "اللامع"

(5)

: وهذا كما تقدم في إهدار التفاوت؛ إذ لا شك في التفاوت بين أفراد الغنم باعتبار صغر الجثة وكبرها، وكذلك في أفراد البعران، انتهى.

(1)

(7/ 7).

(2)

"فيض الباري"(4/ 4).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 1454).

(4)

"فتح الباري"(5/ 130).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 360).

ص: 76

وإليه يشير كلام الحافظ

(1)

إذ قال: "باب قسمة الغنم" أي: بالعدد، انتهى.

وقال العيني

(2)

: فيما يستفاد من الحديث: فيه جواز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم، وبه قال مالك والكوفيون، إذا كان ذلك على التراضي، وقال الشافعي: لا يجوز قسم شيء من الحيوان بغير تقويم، قال: إنما كان ذلك على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا معنى التقويم، وقال القرطبي: وهذه الغنيمة لم يكن فيها غير الإبل والغنم، ولو كان فيها غير ذلك لقوم جميعًا وقسمه على القيمة، انتهى.

(4 -‌

‌ باب القران في التمر بين الشركاء. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا في جميع النسخ، ولعل "حتى" في قوله:"حتى يستأذن أصحابه" كانت "حين" فتحرفت، أو سقط من الترجمة شيء إما لفظ النهي من أولها أو "لا يجوز" قبل "حتى"، انتهى.

قلت: وتعقب العيني

(4)

على احتمال التحريف وقال: لا يحتاج إلى ظن التحريف، بل فيه حذف، وباب الحذف شائع تقديره: باب حكم القران في التمر، لا ينبغي لأحد منهم أن يقرن حتى يستأذن، انتهى.

واختار القسطلاني

(5)

حذف المضاف من أول الباب فقال: "باب ترك القران. . ." إلخ.

وقال الحافظ

(6)

: قال ابن بطال

(7)

: النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر، انتهى.

قلت: وقد تقدم الكلام عليه في "باب إذا أذن إنسان لآخر. . ." إلخ، من أبواب المظالم.

(1)

"فتح الباري"(5/ 131).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 267).

(3)

"فتح الباري"(5/ 131).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 271).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 565).

(6)

"فتح الباري"(5/ 132).

(7)

(7/ 10).

ص: 77

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

تحت الباب: فيه من إهدار التفاوت ما لا يخفى، فمن عاجل في الأكل وآخر مبطوء به فيتفاوت أكلهما، غير أن التفاوت في الإقران والتثنية في الأكل لما كان كثيرًا نهي عنه، انتهى.

(5 -‌

‌ باب تقويم الأشياء بين الشركاء. . .) إلخ

قال ابن بطال

(2)

: لا خلاف بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائز، وإنما اختلفوا في قسمتها بغير تقويم، فأجازه الأكثر إذا كان على سبيل التراضي، ومنعه الشافعي، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: وظاهر الترجمة يشعر بأن ميل المصنف إلى قول الشافعي رحمه الله.

(6 -‌

‌ باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه)

قال القسطلاني

(4)

: يقرع بضم أوله وفتح ثالثه وكسره من القرعة، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: الاستهام الاقتراع، والمراد به هنا بيان الأنصبة في القسم، والضمير يعود على القسم بدلالة القسمة، انتهى.

قال القسطلاني

(6)

بعد ذكر الحديث: مطابقته للترجمة غير خفية، وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة، قال ابن بطال: والعلماء متفقون على القول بالقرعة إلا الكوفيين فإنهم قالوا: لا معنى لها لأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها، ويأتي مزيد لما ذكرته في باب الشهادات، انتهى.

وفي "الفيض"

(7)

: واعلم أن القرعة ليست بحجة عندنا في موضع

(1)

"لامع الدراري"(6/ 362، 363).

(2)

(7/ 11).

(3)

"فتح الباري"(5/ 132).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 569).

(5)

"فتح الباري"(5/ 133).

(6)

"إرشاد الساري"(5/ 570).

(7)

"فيض الباري"(4/ 6).

ص: 78

من المواضع، فهي للتطييب لا للغير، وجعلها الآخرون حجة مع بعض تفصيل عندهم، انتهى.

قلت: ويشكل ها هنا لفظ الاستهام في الترجمة مع أن المشهور أن الإمام البخاري رحمه الله قائل بحجية القرعة وترجم لها بمواضع من كتابه، منها "باب الاستهام في الأذان"، و"باب القرعة في المشكلات"، و"باب القرعة بين النساء"، وغير ذلك، وقد تقدم منا في "باب الاستهام في الأذان" بأن هذه المواضع كلها من القرعة التي لم ينكرها الحنفية أيضًا، ولم يترجم الإمام البخاري بقرعة قالت الحنفية بنسخها في موضع من كتابه، فهل هذا مصير منه أن القرعة لتطييب القلب لا لإثبات الحكم، كما هو مذهب الأحناف؟ فتأمل، فإتيان المصنف ها هنا بلفظ "هل" المشعر بعدم اختياره يؤيد ما قلنا، فافهم.

(7 -‌

‌ باب شركة اليتيم وأهل الميراث)

قال الحافظ

(1)

: الواو بمعنى مع، قال ابن بطال

(2)

: اتفقوا على أنه لا تجوز المشاركة في مال اليتيم إلا إن كان لليتيم في ذلك مصلحة راجحة، انتهى.

وفي سياق حديث الباب إجمال واختصار كما ذكر في هامش "اللامع"

(3)

، والسياق الواضح ما سيأتي في الوصايا في باب قوله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2].

(8 -‌

‌ باب الشركة في الأرضين وغيرها)

أراد الإشارة إلى جواز قسمة الأرض والدار، وإلى جوازه ذهب الجمهور صغرت الدار أو كبرت، واستثنى بعضهم التي لا ينتفع بها

(1)

"فتح الباري"(5/ 133).

(2)

(7/ 15).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 364).

ص: 79

لو قسمت فتمتنع قسمتها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(9 -‌

‌ باب إذا اقتسم الشركاء الدور وغيرها. . .) إلخ

قال ابن المنيِّر: ترجم بلزوم القسمة، وليس في الحديث إلا نفي الشفعة، لكن لكونه يلزم من نفيها نفي الرجوع - إذ لو كان للشريك أن يرجع لعادت مشاعة - فعادت الشفعة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي "الفيض"

(3)

: وفي فقه الحنفية أنه لو ظهر الغبن الفاحش بعد التقسيم، له أن يرجع عنه، وإلا فلا رجوع له، انتهى.

(10 -‌

‌ باب الاشتراك في الذهب والفضة)

قال ابن بطال

(4)

: أجمعوا على أن الشركة الصحية أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلطا ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعًا، إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه، وأجمعوا على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة، لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر، فمنعه الشافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلا الثوري، انتهى.

وزاد الشافعي أن لا تختلف الصفة أيضًا كالصحاح والمكسرة، وإطلاق البخاري الترجمة يشعر بجنوحه إلى قول الثوري، وقوله:"وما يكون فيه الصرف" أي: كالدراهم المغشوشة والتبر وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الأكثر: يصمح في كل مثلي وهو الأصح عند الشافعية، وقيل: يختص بالنقد المضروب، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 134).

(2)

"فتح الباري"(5/ 134).

(3)

"فيض الباري"(4/ 8).

(4)

(7/ 17).

(5)

"فتح الباري"(5/ 134 - 135).

ص: 80

(11 -‌

‌ باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة)

الواو في قوله: "والمشركين" عاطفة وليست بمعنى مع، والتقدير مشاركه المسلم للذمي ومشاركة المسلم للمشركين، انتهى [من "الفتح"]

(1)

.

وقال العيني

(2)

: قوله: "والمشركين" من باب عطف العام على الخاص، على أن المراد من المشركين هم المستأمنون، فيكونون في معنى أهل الذمة، وأما المشرك الحربي فلا تتصور الشركة بينه وبين المسلم في دار الإسلام، على ما لا يخفى، وحكمها أنها تجوز؛ لأن هذه المشاركة في معنى الإجارة واستيجار أهل الذمة جائز، انتهى.

قال الحافظ: ذكر المصنف فيه حديث ابن عمر في إعطاء اليهود خيبر، وقد تقدم في "المزارعة"

(3)

، وهو ظاهر في الذمي وألحق المشرك به؛ لأنه إذا استأمن صار في معنى الذمي، وأشار المصنف إلى مخالفة من خالف في الجواز كالثوري والليث وأحمد، وبه قال مالك إلا أنه أجازه إذا كان يتصرف بحضرة المسلم، واحتج الجمهور بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وإذا جاز في المزارعة جاز في غيرها، انتهى من "الفتح"

(4)

.

قال العيني

(5)

: وعند أصحابنا: مشاركة المسلم معِ أهل الذمة في شركة المفاوضة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف، انتهى.

(12 -‌

‌ باب قسمة الغنم والعدل فيها)

قال الحافظ

(6)

: ذكر فيه حديث عقبة بن عامر، وقد مضى توجيه إيراده في الشركة في أوائل الوكالة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 135).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 287).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2328).

(4)

"فتح الباري"(5/ 135).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 287).

(6)

"فتح الباري"(5/ 135).

ص: 81

وقال في "كتاب الوكالة" في "باب وكالة الشريك الشريك في القسمة"

(1)

: شاهد الترجمة منه قوله: "ضح به أنت" فإنه علم به أنه كان من جملة من كان له حظ في تلك القسمة فكأنه كان شريكًا لهم وهو الذي تولى القسمة بينهم. وأبدى ابن المنيِّر احتمالًا أن يكون صلى الله عليه وسلم وهب لكل واحد من المقسوم فيهم ما صار إليه فلا تتجه الشركة، وأجاب بأنه ساق الحديث في الأضاحي من طريق أخرى بلفظ "أنه قسم بينهم ضحايا"، قال: فدل على أنه عين تلك الغنم للضحايا فوهب لهم جملتها ثم أمر عقبة بقسمتها، فيصح الاستدلال به لما ترجم له، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: وتبويب البخاري بقوله: "قسمة الغنم والعدل فيها" يدل على أنه فهم أن هذه القسمة هي القسمة المعهودة التي يعتبر فيها تسوية الأجزاء، وفيه نظر. . .، إلى آخر ما ذكره، وهكذا قال صاحب "الفيض"

(3)

من أنها ليست من شركة الفقه في شيء.

ولا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم بثلاث تراجم متقاربة: الأولى: "باب قسمة الغنم" كما تقدم، والثانية: هذه، والثالثة: ما سيأتي من "باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم"، ولم يتعرض الشرَّاح للفرق بين هذه الثلاثة، فالفرق بين الثالثة والأوليين واضح، وهو أن الغرض من الثالثة أن تعديل عشر شياه ببعير باعتبار القسمة دون الأضحية، ردًا على من استدل لهذا الحديث على أن الجزور يجزئ في الأضحية عن عشرة، كما قال به إسحاق وغيره. وأما الفرق بين الأوليين فخفي، ولا يبعد أن يقال: إن غرض الأولى أن قسمة الغنم تكون باعتبار العدد لا القيمة، وإليه أشار الشيخ قُدِّس سرُّه بإهدار التفاوت، وبه جزم الحافظ كما تقدم، وغرض الثانية التنبيه على اعتبار العدل فيها مع صرف النظر عن التفاوت اليسير

(1)

"فتح الباري"(4/ 479).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 576).

(3)

"فيض الباري"(4/ 9).

ص: 82

بخلاف التفاوت الفاحش، فإن الحديث الوارد فيها يدل على أن عقبة لم يتعرض لتفاوت الغنم، إلا أن التفاوت بين الغنم والعتود لما كان فاحشًا فتعرض له وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى [من هامش "اللامع"]

(1)

.

(13 -‌

‌ باب الشركة في الطعام وغيره)

أي: من المثليات، والجمهور على صحة الشركة في كل ما يتملك، والأصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلي، وسبيل من أراد الشركة بالعروض عندهم أن يبيع بعض عرضه المعلوم ببعض عرض الآخر المعلوم ويأذن له في التصرف، وفي وجه لا يصح إلا في النقد المضروب كما تقدم، وعن المالكية: تكره الشركة في الطعام، والراجح عندهما الجواز، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قال العلَّامة العيني

(3)

: وجواب الترجمة أنه يجوز ذلك؛ لأن الشركة بيع من البيوع فيجوز في الطعام وغيره، وأجاز الكوفيون، وقال في بيان اختلاف الأئمة: وأجاز الكوفيون وأبو ثور الشركة بالطعام، واختلفوا في الشركة بالعروض، فجوَّزها مالك، ومنعها الكوفيون والشافعي وأحمد، انتهى.

وفي "المغني"

(4)

لابن قدامة: أما العروض فلا تجوز الشركة في ظاهر المذهب، ذكره ذلك الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، إلى آخر ما بسطه.

(14 -‌

‌ باب الشركة في الرقيق)

أورد فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة فيمن أعتق شقصًا - أي: نصيبًا - من عبد، وهو ظاهر فيما ترجم له لأن صحة العتق فرع صحة الملك، انتهى، [من "الفتح"]

(5)

.

(1)

"لامع الدراري"(6/ 360 - 361).

(2)

"فتح الباري"(5/ 136).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 288، 289).

(4)

"المغني"(7/ 123).

(5)

"فتح الباري"(5/ 137).

ص: 83

(15 -‌

‌ باب الاشتراك في الهدي)

قال القسطلاني

(1)

: "الهدي" ما يهدى إلى الحرم من النعم "والبُدن" بضم الموحدة وسكون المهملة من عطف الخاص على العام.

وقوله: (والشركة في الهدي) قال في "فتح الباري"

(2)

: فيه بيان أن الشركة وقعت بعد ما ساق النبي صلى الله عليه وسلم الهدي من المدينة وهي ثلاث وستون بدنة، وجاء علي من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبع وثلاثون بدنة فصار جميع ما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي مائة بدنة، وأشرك عليًا معه فيها، انتهى.

وقال المهلب: ليس في حديث الباب ما ترجم به من الاشتراك في الهدي بعد ما أهدى بل لا يجوز الاشتراك بعد الإهداء ولا هبته ولا بيعه، والمراد منه ما أهدى علي من الهدي الذي كان معه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل له ثوابه، فيحتمل أن يفرد بثواب ذلك الهدي كله فهو شريك له في هديه لأنه أهدى عنه عليه الصلاة والسلام متطوعًا من ماله، ويحتمل أن يشركه في ثواب هدي واحد فيكون بينهما إذا كان متطوعًا، وقال القاضي عياض: عندي أنه لم يكن شريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه، انتهى مختصرًا.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: ولا يجوز الإشراك في الهدي عندنا لوقوعه معينًا منه بنية القربة فيه، وتأويل ما روي أنه أشركه في الهدي الذي أتاه به من اليمن وكان فيه ما أتى به لهدي نفسه فكان الإشراك في الهدي لكونه منهما ومشتركًا بينهما لا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أو المعنى أشركه في أجر هديه بإشراكه في الذبح وغيره من حوائجه المتعلقة بالهدي.

وفي هامشه: في المسألة تفصيل، ففي "الدر المختار": صح اشتراك

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 580).

(2)

"فتح الباري"(5/ 138).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 365 - 367).

ص: 84

ستة في بدنة شُرِيَت للقربة؛ لأن ذلك جائز في الضحايا فيجوز ها هنا، قال في "الفتح" عن "الأصل" و"المبسوط": إن اشترى بدنة لمتعة مثلًا ثم اشترك فيها ستة بعد ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه؛ لأنه لما أوجبها صار الكل واجبًا، بعضها بإيجاب الشرع، وبعضها بإيجابه، فإن فعل فعليه أن يتصدق بالثمن، إلى آخر ما بسطه من التفاصيل في ذلك، والتفريق بين الغني والفقير، فقول الشيخ: لا يجوز الإشراك في الهدي، محمول على هدي التطوع، وهو مقتضى حديث الباب، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.

(16 -‌

‌ باب من عدل عشرة من الغنم)

تقدم الكلام عليه قريبًا

(1)

، فكن منه على ذكر، ثم البراعة عند الحافظ في قوله:"أفنذبح بالقصب؟ " وعند هذا العبد الضعيف في قوله: "فرمى رجل"، وكذا في قوله:"نلقى العدو"، وكذا في قوله:"ما أنهر الدم" كما تقدم في المقدمة، فارجع إليه.

* * *

(1)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2500).

ص: 85

48 -

‌ كتاب الرهن

كذا في نسخة العلَّامة العيني، وفي نسخة الحافظ والقسطلاني:"كتاب في الرهن في الحضر وقول الله. . ." إلخ.

قال القسطلاني

(1)

: وللكشميهني: كتاب الرهن، ولغير أبى ذر باب بدل كتاب، - وكذا في النسخ الهندية - وفي النسخة المقروءة على الميدومي "كتاب الرهن، باب الرهن في الحضر. . ." إلخ، ولابن شبويه:"باب ما جاء. . ." إلخ.

والرهن لغة: الثبوت، ومنه الحالة الراهنة، أي: الثابتة، وقال الإمام: الاحتباس، ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].

وشرعًا: جعل عين متمولة وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه، ويطلق أيضًا على العين المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقوله: "في الحضر" إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر وهو قول الجمهور، وإنما قيَّده - في الآية - بالسفر لأنه مظنة فَقْد الكاتب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر، وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم في "باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة" في أوائل البيوع

(3)

من هذا الوجه بلفظ "ولقد رهن درعًا له بالمدينة عند يهودي" وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 584).

(2)

"فتح الباري"(5/ 140).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2068).

ص: 86

(2 -‌

‌ باب من رهن درعه)

غرض الترجمة واضح.

(3 -‌

‌ باب رَهْنِ السِّلاح)

قال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر: إنما ترجم برهن السلاح بعد رهن الدرع؛ لأن الدرع ليست بسلاح حقيقة وإنما هي آلة يتقى بها السلاح، ولهذا قال بعضهم: لا تجوز تحليتها، وإن قلنا بجواز تحلية السلاح كالسيف.

ثم قال بعد ذكر الحديث: قال ابن بطال ليس في قولهم: "نرهنك اللأمة" دلالة على جواز رهن السلاح، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة في الحرب وغيره، وقال ابن التِّين: ليس فيه ما بوَّب له؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الخديعة، وإنما يؤخذ جواز رهن السلاح من الحديث الذي قبله، انتهى.

وقال العيني

(2)

: المطابقة بين الحديث والترجمة في قوله: "ولكنا نرهنك. . ." إلخ، بحسب ظاهر الكلام، وإن لم يكن في نفس الأمر حقيقة الرهن، وهذا المقدار كاف في وجه المطابقة.

وقال ابن التِّين: وإنما يجوز بيعه ورهنه عند من تكون له ذمة أو عهد باتفاق، وكان لكعب عهد ولكنه نكث ما عاهد عليه من أنه لا يعين على النبي صلى الله عليه وسلم فانتقض عهده بذلك، وأجيب بأنه لو لم يكن معتادًا عندهم رهن السلاح عند أهل العهد لما عرضوا عليه، إذ لو عرضوا عليه ما لم تجر به عادتهم لاستراب بهم وفاتهم ما أرادوا من مكيدته. . .، إلى آخر ما فيه، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 143).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 299).

(3)

"فتح الباري"(5/ 143).

ص: 87

(4 -‌

‌ باب الرهن مركوب ومحلوب)

هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الحاكم وصححه، انتهى من "الفتح" و"العيني"

(1)

. وفي الحديث حجة لمن قال: يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بالركوب والحلب إذا قام بمصلحته ولو لم يأذن له المالك، وهو قول أحمد وإسحاق وطائفة من السلف، وذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى أنه لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، بل الفوائد كلها للراهن، وعليه مؤنه، وأوَّلوا حديث الباب بوجوه ذكرت في هامش "اللامع"

(2)

بالبسط.

(5 -‌

‌ باب الرهن عند اليهود وغيرهم)

قال القسطلاني

(3)

: مراد المؤلف جواز معاملة غير المسلمين وإن كانوا يأكلون أموال الربا كما أخبر الله تعالى عنهم، ولكن مبايعتهم وأكل طعامهم مأذون لنا فيه بإباحة الله، وقد ساقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر كما مر، انتهى.

(6 -‌

‌ باب إذا اختلف الراهن والمرتهن. . .) إلخ

أي: في أصل الرهن كأن قال: رهنتني كذا! فأنكر، أو في قدره كأن قال: رهنتني الأرض بأشجارها! فقال: بلِ وحدها، أو تعيينه كـ: هذا العبد فقال: بل الثوب، أو قدر المرهون به كـ: بعشرة فقال: بل بعشرين.

قوله: (ونحوه) كاختلاف المتبايعين، قاله القسطلاني

(4)

.

وقال أيضًا: "المدعي" هو من إذا ترك ترك، و"المدعى عليه" هو من إذا ترك لا يترك بل يجبر، انتهى.

وبراعة الاختتام عند الحافظ رحمه الله في قوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} الآية [آل عمران: 77]. وعندي يمكن أيضًا في قوله: "لقي الله وهو عليه غضبان".

(1)

"فتح الباري"(5/ 143)، و"عمدة القاري"(9/ 301).

(2)

"اللامع"(6/ 368، 369).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 591).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 591).

ص: 88

49 -

‌ كتاب العتق

هكذا في نسخة العيني، وفي النسخ الهندية "في العتق" بدون لفظ كتاب، وهكذا في نسخة "الفتح" و"القسطلاني".

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، زاد ابن شبويه بعد البسملة "باب" وزاد المستملي قبل البسملة "كتاب العتق" ولم يقل: باب، والعتق بكسر المهملة إزالة الملك، يقال: عتق يعتق عتقًا بكسر أوله ويفتح وعتاقًا وعتاقة، قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عتق الفرس إذا سبق، وعتق الفرخ إذا طار؛ لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء، انتهى.

وقال العيني

(2)

: هو لغة: القوة، وفي الشرع: عبارة عن قوة شرعية في مملوك، وهي إزالة الملك عنه. والرق ضعف شرعي يثبت في المحل فيعجزه عن التصرفات الشرعية، ويسلبه أهلية القضاء والشهادة والتزوج، وغير ذلك. والإعتاق إثبات العتق عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة: إثبات الفعل المفضي إلى حصول العتق، انتهى.

وذكر ابن عابدين

(3)

الاختلاف في معناه لغة وشرعًا، ثم قال: حقق في "الفتح" هذا المقام بما يشفي المرام، انتهى.

(1 -‌

‌ باب في العتق وفضله وقول الله تعالى. . .) إلخ

بالرفع على الاستئناف وبالجر عطفًا على المجرور السابق، قاله القسطلاني

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 146).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 309).

(3)

"رد المحتار"(5/ 380).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 594).

ص: 89

قال العيني

(1)

تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأنه يخبر عن فضل عظيم في العتق، انتهى.

وفي "الفتح"

(2)

: في الحديث أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى خلافًا لمن فضل عتق الأنثى محتجًا بأن عتقها يستدعي صيرورة ولدها حرًّا سواء تزوجها حرّ أو عبد بخلاف الذكر، ومقابله في الفضل أن عتق الأنثى غالبًا يستلزم ضياعها، ولأن في عتق الذكر من المعاني العامة ما ليس في الأنثى كصلاحيته للقضاء وغيره مما يصلح للذكور دون الإناث، انتهى.

(2 -‌

‌ باب أي الرقاب أفضل

؟)

أي: للعتق، وقوله في الحديث:"أعلاها ثمنًا" بالعين المهملة للأكثر، وللكشميهني بالغين المعجمة، ومعناهما متقارب، وفي رواية لمسلم:"أكثرها ثمنًا" وهو يبين المراد، قال النووي

(3)

: محله - والله أعلم - فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلًا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها فوجد رقبة نفيسة أو رقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل، قال: وهذا بخلاف الأضحية فإن الواحدة السمينة فيها أفضل؛ لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم، انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فرب شخص واحد إذا أعتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عددًا منه، ورب محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم، انتهى كله من "الفتح"

(4)

.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 310).

(2)

"فتح الباري"(5/ 147).

(3)

"المنهاج"(2/ 78).

(4)

"فتح الباري"(5/ 148، 149).

ص: 90

(3 -‌

‌ باب ما يستحب من العتاقة)

بفتح العين ووهم من كسرها، والمراد الإعتاق وهو ملزوم العتاقة، وقوله:(في الكسوف أو الآيات) بلفظ "أو" وفي بعض الروايات بغير ألف، و"أو" للتنويع لا للشك.

وقال الكرماني

(1)

: هي بمعنى الواو لا بمعنى بل، لأن عطف الآيات على الكسوف من عطف العام على الخاص، وليس في حديث الباب سوى الكسوف، وكأنه أشار إلى قوله في بعض طرقه:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(4 -‌

‌ باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء)

قال ابن التِّين: أراد أن العبد كالأمة لاشتراكهما في الرق، انتهى.

وكأنه أشار إلى رد قول إسحاق بن راهويه: إن هذا الحكم مختص بالذكور، وهو خطأ، وادعى ابن حزم أن لفظ العبد في اللغة يتناول الأمة وفيه نظر، ولعله أراد المملوك.

وقال القرطبي

(3)

: العبد اسم للمملوك الذكر في أصل وضعه، والأمة اسم لمؤنثه بغير لفظه، ومن ثم قال إسحاق: إن هذا لا يتناول الأنثى، وخالفه الجمهور

(4)

، انتهى.

ثم اعلم أن مسألة الباب - يعني: إعتاق العبد المشترك - خلافية شهيرة، اختلفوا على ثلاثة أقوال، وحاصل المذاهب فيه: أن الرجل إذا أعتق بعض مملوكه يعتق كله في الحال بغير استسعاء عند الأئمة الثلاثة وصاحبي أبي حنيفة، وقال الإمام الأعظم رحمه الله: يستسعي في الباقي. وإن كان العبد مشتركًا بينهما فأعتق أحدهما نصيبه، فقال الإمام أبو حنيفة:

(1)

"شرح الكرماني"(11/ 77).

(2)

"فتح الباري"(5/ 150).

(3)

"المفهم"(4/ 311).

(4)

انظر: "فتح الباري"(5/ 151).

ص: 91

الشريك الآخر مخيَّر بين ثلاثة أمور: يعتق نصيبه أو يستسعي، والولاء لهما في الوجهين، أو يغرم الأول فالولاء له، ويستسعي العبد. وقال صاحباه: ليس له إلا الضمان مع اليسار أو السعاية مع الإعسار، ولا يرجع العبد على المعتق بشيء، والولاء للمعتق في الوجهين. وقالت الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: إن كان الأول موسرًا يغرم والولاء له، وإلا فقد عتق منه ما عتق ولا يستسعي. وهذا الاختلاف مبني على اختلاف آخر وهو: أن الإعتاق متجز عند الإمام أبي حنيفة ومن وافقه مطلقًا، يعني: في حالتي اليسر والعسر، وليس بمتجز مطلقًا عند صاحبيه ومن وافقهما، ومتجز في حالة العسر دون اليسر في المشهور من أقوال الأئمة الثلاثة الباقية، وهذا تفصيل المذاهب الأئمة الستة، وإلا ففي المسألة أقوال أخر، فقد ذكر النووي

(1)

فيها عشرة مذاهب، والعيني

(2)

على البخاري أربعة عشر مذهبًا، وفي "الأوجز"

(3)

عشرين مذهبًا، انتهى من هامش "اللامع"

(4)

.

(5 -‌

‌ باب إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن عمر: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" أي: وإلا فإن كان المعتق لا مال له يبلغ قيمة بقية العبد فقد تنجز عتق الجزء الذي كان يملكه وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أولًا إلى أن يستسعي العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرق إن قوي على ذلك، فإن عجز نفسه استمرت حصة الشريك موقوفة، وهو مصير منه إلى القول بصحة الحديثين جميعًا والحكم برفع الزيادتين معًا وهو قوله في حديث ابن عمر:"وإلا فقد عتق منه ما عتق".

(1)

انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي"(5/ 396).

(2)

انظر: "عمدة القاري"(9/ 274، 275).

(3)

"أوجز المسالك"(11/ 550 - 560).

(4)

"اللامع"(6/ 372).

(5)

"فتح الباري"(5/ 157).

ص: 92

وقد تقدم بيان من جزم بأنها من جملة الحديث، وبيان من توقف فيها أو جزم بأنها من قول نافع، وقوله في حديث أبي هريرة:"فاستسعي به غير مشقوق عليه. . ." إلى آخر ما قال، انتهى.

قلت: كذا قال الحافظ في غرض الترجمة، وعندي ليس كذلك، بل الغرض عندي أن الإمام البخاري رحمه الله أشار بذلك إلى الرد على من أنكر الاستسعاء، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وقد اعترف به الحافظ حيث قال بعد قول البخاري:"تابعه حجاج ابن حجاج. . ." إلخ؛ كأنه أشار بهذا إلى الرد على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ، وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها، انتهى، فافهم.

(6 -‌

‌ باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: "ونحوه" أي: من التعليقات لا يقع شيء منها إلا بالقصد، وكأنه أشار إلى رد ما روي عن مالك أنه يقع الطلاق والعتاق عامدًا كان أو مخطئًا ذاكرًا كان أو ناسيًا، وقد أنكره كثير من أهل مذهبه، ووقوع الخطإ في الطلاق والعتاق أن يريد أن يلفظ بشيء غيرهما فيسبق لسانه إليهما، وأما النسيان ففي ما إذا حلف ونسي، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: اختلفت الأئمة في فروع هاتين المسألتين كما بسط في شروح البخاري و"الأوجز" و"المغني"، والجملة ما في "العيني": قال أصحابنا: طلاق الخاطئ والناسي والهازل واللاعب والذي يتكلم به من غير قصد واقع. وفي "التوضيح": قد اختلف العلماء في الناسي في يمينه هل يلزمه حنث أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخاري في الباب،

(1)

"فتح الباري"(5/ 160).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 373).

ص: 93

وثانيهما: وهو قول الشعبي وطاووس من أخطأ في الطلاق فله نيَّته، وفيه قول ثالث: يحنث في الطلاق خاصة، قاله أحمد، وذهب مالك والكوفيون إلى أنه يحنث في الخطإ أيضًا، وادعى ابن بطال أنه الأشهر عن الشافعي، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: واختلف السلف في طلاق الناسي، فكان الحسن يراه كالعمد إلا إن اشترط فقال: إلا أن أنسى، وعن عطاء أنه كان لا يراه شيئًا وهو قول الجمهور، وكذلك اختلف في طلاق المخطئ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، وعن الحنفية يلزمه الطلاق، انتهى.

قال العيني: أما حكم طلاق الغالط والناسي فإنه واقع، وهو قول عطاء والشافعي في قول، وإسحاق ومالك والكوفيين، انتهى.

قال الموفق: لا خلاف عن أحمد أنه إذا أراد أن يقول لزوجته: اسقيني ماء فسبق لسانه فقال: أنت طالق أو أنت حرة أنه لا طلاق فيه، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(2)

.

وفي "البذل"

(3)

في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد": الحديث يدل على أن من تلفظ هازلًا بلفظ نكاح أو طلاق أو رجعة أو عتاق وقع منه ذلك، أما في الطلاق فقد قال بذلك الشافعية والحنفية وغيرهم، وخالف في ذلك أحمد ومالك فقالا: إنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية، انتهى.

قوله: (ولا عتاقة إلا لوجه الله) قال القسطلاني

(4)

: أي: لذاته ولجهة رضاه، ومراده بذلك إثبات اعتبار النية لأنه لا يظهر كونه لوجه الله تعالى إلا مع القصد، وفي حديث ابن عباس مرفوعًا كما في "الطبراني":"لا طلاق إلا لعدة ولا عتاقة إلا لوجه الله"، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: يرد به ما ذهب إليه الحنفية من نفاذ

(1)

"فتح الباري"(9/ 390).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 366).

(3)

"بذل المجهود"(8/ 181).

(4)

"إرشاد الساري"(5/ 608 - 609).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 374).

ص: 94

العتق ولو للشيطان أو الصنم، وجوابه ما مر من المصنف نفسه من جواز صدقة المشركين وإعتاقهم فإنه أثبت ثمة جواز الإعتاق منهم مع أنهم ليسوا أهل نية وإخلاص حتى يكون فعلهم لوجه الله تعالى، انتهى.

قوله: (لكل امرئ ما نوى. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: أشار المصنف بهذا الاستنباط إلى بيان أخذ الترجمة من حديث "الأعمال بالنيات"، ويحتمل أن يكون أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض الطرق كعادته، وهو الحديث الذي يذكره أهل الفقه والأصول كثيرًا بلفظ "رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه

(2)

، إلا أنه بلفظ "وضع" بدل "رفع"، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: وجوابه معروف من أن المرفوع هو الإثم لإجزاء الفعل، انتهى. وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"

(4)

في آخر كتاب الإيمان.

(7 -‌

‌ باب إذا قال لعبده هو لله. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: قوله: (ونوى العتق) أي: صح، وقوله:(والإشهاد في العتق) قيل: هو بجر الإشهاد، أي: وباب الإشهاد في العتق، وهو مشكل لأنه إن قدر منونًا احتاج إلى خبر، وإلا لزم حذف التنوين من الأول ليصح العطف عليه وهو بعيد، والذي يظهر أن يقرأ "والإشهاد" بالضم فيكون معطوفًا على "باب" لا على ما بعده، و"باب" بالتنوين، ويجوز أن يكون التقدير: وحكم الإشهاد في العتق، قال المهلب: لا خلاف بين العلماء إذا قال لعبده: هو لله، ونوى العتق أنه يعتق، وأما الإشهاد في العتق فهو من حقوق المعتق، وإلا فقد تم العتق وإن لم يشهد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 160، 161).

(2)

انظر: "سنن ابن ماجه"(ح: 2045).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 373).

(4)

"اللامع"(1/ 610، 611).

(5)

"فتح الباري"(5/ 163).

ص: 95

(8 -‌

‌ باب أم الولد)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أي: جواز استيلاد الأمة، وقوله:(هو لك يا عبد بن زمعة) فيه الترجمة حيث أثبت نسبه لكونها أم ولد له، انتهى.

هذا ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في غرض الترجمة.

وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "باب أم الولد" أي: هل يحكم بعتقها أم لا؟ أورد فيه حديثين وليس فيهما ما يفصح في الحكم عنده، وأظن ذلك لقوة الخلاف في المسألة بين السلف، وإن كان الأمر استقر عند الخلف على المنع حتى وافق في ذلك ابن حزم ومن تبعه من أهل الظاهر على عدم جواز بيعهن ولم يبق إلا شذوذ، انتهى.

وذكر العلَّامة العيني

(2)

أسماء القائلين بعدم جواز بيعها وذكر منهم الأئمة الأربعة وقال: وكذا الشافعي في أكثر كتبه، وقد أجاز بيعها في بعض كتبه، وقال المزني: قطع في أربعة عشر موضعًا من كتبه بأن لا تباع، وهو الصحيح من مذهبه، ثم قال: وكان أبو بكر الصديق وعلي وابن عباس وابن الزبير وجابر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم يجيزون بيع أم الولد، وبه قال داود، إلى آخر ما بسط.

(9 -‌

‌ باب بيع المدبر)

قال الحافظ

(3)

: أي: جوازه، أو ما حكمه؟ وقد تقدمت هذه الترجمة بعينها في "كتاب البيوع"، وقد تقدم هناك نقل مذاهب الفقهاء في بيع المدبر، وأن الجواز مطلقًا مذهب الشافعي وأهل الحديث، وعن الحنفية والمالكية تخصيص المنع بمن دبر تدبيرًا مطلقًا، أما إذا قيده - كأن يقول: إن مت من مرضي هذا ففلان حر - فإنه يجوز بيعه، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(6/ 376).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 331).

(3)

"فتح الباري"(5/ 166).

ص: 96

والمشهور من مذهب أحمد كالشافعي، قاله القسطلاني

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

: قد مرّ الكلام فيه، وأن تراجم المصنف في هذا الباب متهافتة، والذي يلوح منها أنه اختار مذهب الشافعي، انتهى.

(10 -‌

‌ باب بيع الولاء وهبته)

أي: حكمه، والولاء بالفتح والمد: حق ميراث المعتق من المعتق بالفتح، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: أنهما لا يجوزان ودلالة الرواية على المدعى في لام الاختصاص، ولو جاز بيعه أو هبته أو نقله بغيرهما من أسباب الملك لم يبق له اختصاص بالمعتق، والاختصاص ثابت بقوله:"لمن أعتق" فبطل النقل، انتهى.

وفي هامشه: قال العيني: فقهاء الحجاز والعراق مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، قال ابن المنذر: وعليه جماهير أهل العلم، وقام الإجماع على أنه لا يجوز تحويل النسب فكان حكم الولاء كحكم النسب في ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته كذلك الولاء، ولا نقله ولا تحويله، انتهى مختصرًا.

(11 -‌

‌ باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى)

بضم الياء وفتح الدال المهملة بأن يعطي مالًا ويستنقذه من الأسر (إذا كان) أخوه أو عمه (مشركًا)، انتهى من "القسطلاني"

(5)

.

وقال الحافظ

(6)

: قيل: إنه أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف الحديث الوارد في من ملك ذا رحم فهو حر، وهو حديث أخرجه أصحاب السنن،

(1)

"إرشاد الساري"(5/ 618).

(2)

"فيض الباري"(4/ 29).

(3)

"فتح الباري"(5/ 167).

(4)

"لامع الدراري"(6/ 377، 378).

(5)

"إرشاد الساري"(5/ 621).

(6)

"فتح الباري"(5/ 168).

ص: 97

واستنكره ابن المديني، ورجح الترمذي إرساله، وقال البخاري: لا يصح، وجرى الحاكم وابن حزم وابن القطان على ظاهر الإسناد فصححوه، وقد أخذ بعمومه الحنفية والثوري والأوزاعي والليث، وقال داود: لا يعتق أحد على أحد، وذهب الشافعي إلى أنه لا يعتق على المرعي إلا أصوله وفروعه لا لهذا الدليل بل لأدلة أخرى، وهو مذهب مالك وزاد: الإخوة حتى من الأم. . .، إلى آخر ما بسط من هامش "اللامع"

(1)

.

قوله: (وكان عليّ له نصيب. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: هو كلام المصنف ساقه مستدلًا به على أنه لا يعتق بذلك، أي: فلو كان الأخ ونحوه يعتق بمجرد الملك لعتق العباس وعقيل على علي رضي الله عنهم في حصة من الغنيمة، وأجاب ابن المنيِّر عن ذلك. . .، إلى آخر ما قال.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: والجواب أن الملك لا يثبت قبل الإحراز وكانت المفاداة هناك قبل أن يدخلوا المدينة، نعم لو اختير جعلهم أرقاء، ثم دخلو المدينة معهم كان الإيراد واردًا، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: غرضه أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك عباسًا، فلم يعتق عليه؛ قلت: أين الملك فيه قبل التقسيم؟ وليس هناك إلا حق الملك، والحرية تعقب الملك نفسه دون حقه، أما المفاداة كما في الحديث، فجائزة عندنا أيضًا، كما في "الدر المختار"، انتهى.

وبسط الكلام عليه في هامش "اللامع"

(5)

، فارجع إليه لو شئت.

(12 -‌

‌ باب عتق المشرك)

يحتمل أن يكون مضافًا إلى الفاعل أو المفعول، وعلى الثاني جرى ابن بطال

(6)

وقال: لا خلاف في جواز عتق المشرك تطوعًا، وإنما اختلفوا

(1)

"لامع الدراري"(6/ 378).

(2)

"فتح الباري"(5/ 168).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 379 - 380).

(4)

"فيض الباري"(4/ 300).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 379 - 380).

(6)

(7/ 51 - 52).

ص: 98

في عتقه عن الكفارة، وحديث الباب حجة في الأول؛ لأن حكيمًا لما أعتق وهو كافر لم يحصل له الأجر إلا بإسلامه، فمن فعل ذلك وهو مسلم لم يكن بدونه بل أولى، انتهى.

وقال ابن المنيِّر: الذي يظهر أن مراد البخاري أن المشرك إذا أعتق مسلمًا نفذ عتقه وكذا إذا أعتق كافرًا فأسلم العبد، انتهى

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: هذا يرد على المؤلف ما قبل ذلك من قوله: "لا عتاقة إلا لوجه الله"، انتهى.

وتقدم شيء من الكلام عليه في "باب الخطأ والنسيان"، فارجع إليه.

(13 -‌

‌ باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب. . .) إلخ

قال القسطلاني

(3)

: حذف مفعولات الأربعة للعلم بها ثم عطف على قوله: "ملك"، قوله:"وسبى الذرية" ثم قال: وقد ساق المؤلف هنا أربعة أحاديث دالة على ما ترجم به إلا البيع لكن في بعض طرق حديث أبي هريرة ذكره كما سيأتي، انتهى.

قال العيني

(4)

: قوله: "فوهب. . ." إلخ، تفصيل لقوله:"ملك"، فذكر خمسة أشياء: الهبة، والبيع، والجماع، والفداء، والسبي، انتهى.

وفي "البذل"

(5)

: ذهب الجمهور إلى جواز استرقاق العرب، وأنكره الحنفية والشافعي في القديم، لكن الحنفية جوَّزوا استرقاق نسائهم وذراريهم، انتهى.

وقال الحافظ

(6)

: هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف في استرقاق العرب وهي مسألة مشهورة، والجمهور على أن العربي إذا سبي جاز أن

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 169).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 381).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 624).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 342).

(5)

"بذل المجهود"(9/ 330 - 331).

(6)

"فتح الباري"(5/ 170).

ص: 99

يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقًا، وذهب الأوزاعي والثوري وأبو ثور إلى أن على سيد الأمة تقويم الولد ويلزم أبوه بأداء القيمة ولا يسترق الولد أصلًا، وجنح المصنف إلى الجواز، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: ولا يرد على الإمام ما أورده بهذه الروايات لأن مذهبه أن العرب لا يستبقون على الكفر، لا أنهم لا يسترقون مطلقًا، فجاز استرقاقهم مؤمنين لا كفارًا، وليس في شيء من الروايات ما يرد على ذلك؛ لأن الثابت بها هو استرقاقهم، قلنا: كان ذلك بعد أن أسلموا، قال ابن الهمام في "شرح الهداية": ولنا قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أي: إلى أن يسلموا، وروي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال:"لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف"، وذكر محمد بن الحسن عن يعقوب عن الحسن عن مقسم عن ابن عباس، وقال:"أو القتل" مكان السيف، وعنه عليه الصلاة والسلام:"لا رق على عربي" وأخرجه البيهقي عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان ثابتًا على أحد من العرب رق لكان اليوم"، انتهى عبارة "الفتح".

(14 -‌

‌ باب فضل من أدَّب جاريته)

سقط لفظ "فضل" من رواية أبي ذر والنسفي، وزاد النسفي "وأعتقها"، انتهى

(2)

.

ولا يخفى عليك أن الإمام البخاري ذكر من ها هنا إلى آخر العتق أبوابًا لا تعلق لها بالعتق على الظاهر، ولم يتعرض لها الشراح، والظاهر عندي أن المصنف ذكرها استطرادًا وتبعًا لكونها مما يتعلق بالعبيد والإماء، وإن لم يكن من قبيل العتق، فتدبر.

(1)

"لامع الدراري"(6/ 383 - 384).

(2)

انظر: "فتح الباري"(5/ 173).

ص: 100

(15 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العبيد إخوانكم. . .") إلخ

قال الحافظ

(1)

: لفظ هذه الترجمة أورد المصنف معناه من حديث أبي ذر، وقد رويناه في كتاب الإيمان لابن منده بلفظ "إنهم إخوانكم، فمن لايَمَكم منهم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تكتسون"، انتهى.

(16 -‌

‌ باب العبد إذا أحسن عبادة ربه. . .) إلخ

أي: بيان فضله وثوابه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(17 -‌

‌ باب كراهية التطاول على الرقيق. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي الترافع عليهم، والمراد مجاوزة الحد في ذلك، والمراد بالكراهة كراهة التنزيه من غير تحريم، ولذلك استشهد للجواز بقوله تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] وبغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على الجواز، ثم أردفها بالحديث الوارد في النهي عن ذلك، واتفق العلماء على أن النهي فيه للتنزيه، حتى أهل الظاهر، إلا ما قال ابن بطال

(4)

في لفظ الرب إذ قال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: رب، كما لا يجوز أن يقال له: إله. . .، إلى آخر ما فيه.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: أشار بذلك إلى دفع ما في الروايات من التعارض بحسب الظاهر حيث نهى في بعضها أن يقول: سيدي أو ربي، أو عبدي أو أمتي ومع ذلك فقد ورد في كثير من الآيات والروايات إضافته إليه بلفظ السيد والرب. وحاصل الدفع أنه إن قال ذلك مطاولة ومفاخرة كان منهيًّا عنه، وإن لم يكن كذلك فلا ضير فيه لجوازه بحسب نفس ذاته،

(1)

"فتح الباري"(5/ 174).

(2)

"فتح الباري"(5/ 175).

(3)

"فتح الباري"(5/ 178).

(4)

(7/ 68).

(5)

"لامع الدراري"(6/ 387، 388).

ص: 101

غير أنه لا يكون أولى لما فيه من ترك الأولى، والروايات والآيات واردة بحسب أصل الجواز، انتهى.

وفي هامشه: قال السندي: الكراهة مخصوصة بصورة الإضافة إلى ياء المتكلم كأن يقول: عبدي أو أمتي، انتهى.

وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أولى وأجود، وقريب منه ما قال صاحب "الفيض"

(1)

، فارجع إليه لو شئت.

(18 -‌

‌ باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه)

أي: فليجلسه معه ليأكل، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(19 -‌

‌ باب العبد راع في مال سيده)

أي: ويلزمه حفظه، ولا يعمل إلا بإذنه.

وقوله: (ونسب. . .) إلخ؛ كأنه يشير بذلك إلى حديث ابن عمر "من باع عبدًا وله مال فماله للسيد" وقد تقدمت الإشارة إليه في "باب من باع نخلًا قد أبرت" من "كتاب البيوع"

(3)

وفي "كتاب الشرب"

(4)

، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(20 -‌

‌ باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه)

قال الحافظ

(6)

: العبد بالنصب على المفعولية، والفاعل محذوف للعلم به، وذكر العبد ليس قيدًا، وإنما خص بالذكر لأن المقصود هنا بيان حكم الرقيق، كذا قرره بعض الشرَّاح، وأظن المصنف أشار إلى ما أخرجه في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة فذكر الحديث بلفظ "إذا ضرب أحدكم خادمه"، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(4/ 35 - 36).

(2)

"فتح الباري"(5/ 388).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2204).

(4)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2379).

(5)

"فتح الباري"(5/ 181).

(6)

"فتح الباري"(5/ 182، 183).

ص: 102

ثم قال: وهذا النهي ظاهره التحريم، ويؤيده حديث سويد بن مقرن الصحابي:"أنه رأى رجلًا لطم غلامه فقال: أو ما علمت أن الصورة محترمة" أخرجه مسلم وغيره، انتهى.

ثم براعة سكت عنها الحافظ لأنه جعل آخر العتق عند كتاب الهبة، ويمكن عندي أن تكون في قوله:"إذا قاتل أحدكم" الحديث، فافهم.

* * *

ص: 103

50 -

‌ كتاب المكاتب

هكذا في نسخة العيني، وكذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "الفتح":"باب في المكاتب"، وفي نسخة القسطلاني:"في المكاتب" بدون لفظ "كتاب" ولفظ "باب".

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، ولغيره "كتاب المكاتب"، وأثبتوا كلهم البسملة، وكاف الكتابة تكسر وتفتح كعين العتاقة، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: المكاتب بفتح المثناة الفوقية: الرقيق الذي يكاتبه مولاه على مال يؤديه إليه، فإذا أداه عتق، فإن عجز رد إلى الرق، وبكسر التاء السيد الذي تقع منه المكاتبة، والكتابة بكسر الكاف عقد عتق بلفظها بعوض منجم بنجمين فأكثر، وهي خارجة عن قواعد المعاملات عند من يقول: إن العبد لا يملك، لدورانها بين السيد ورقيقه، ولأنها بيع ماله بماله، وكانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام، فأقرها الشارع صلى الله عليه وسلم، وقال الروياني: إنها إسلامية لم تكن في الجاهلية، والأول هو الصحيح، وأول من كوتب في الإسلام بريرة، ومن الرجال سلمان، وهي لازمة من جهة السيد إلا إن عجز العبد، وجائزة له على الراجح، انتهى.

زاد الحافظ

(3)

: وحكى ابن التِّين أن أول من كوتب أبو المؤمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعينوه"، ثم قال: واختلف في تعريف الكتابة، وأحسنه: تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 184).

(2)

"إرشاد الساري"(5/ 646).

(3)

"فتح الباري"(5/ 184).

ص: 104

(باب إثم من قذف مملوكه)

ليس هذا الباب في متن النسخ الهندية، لكن هو موجودة في نسخة الشروح:"الفتح" و"العيني"، و"القسطلاني"، وكذا في هامش النسخ الهندية.

قال الحافظ

(1)

: كذا للجميع هنا إلا النسفي وأبا ذر، ولم يذكر من أثبت هذه الترجمة فيها حديثًا، ولا أعرف لدخولها في أبواب المكاتب معنى، ثم وجدتها في رواية ابن شبويه مقدمة قبل كتاب المكاتب فهذا هو المتجه، وعلى هذا فكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضًا ليكتب فيها الحديث الوارد في ذلك فلم يكتب كما وقع له في غيرها، وقد ترجم في كتاب الحدود

(2)

"باب قذف العبيد" وأورد فيه حديث "من قذف مملوكه - وهو بريء مما قال - جلد يوم القيامة" الحديث، فلعله أشار بذلك إلى أنه يدخل في هذه الأبواب، انتهى.

(1 -‌

‌ باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم. . .) إلخ

قوله: (نجومه) بالجر عطفًا على سابقه، وبالرفع على الاستئناف، "في كل سنة نجم" ونجم الكتابة هو القدر المعين الذي يؤديه المكاتب في وقت معين، وأصله أن العرب كانوا يبنون أمورهم في المعاملة على طلوع النجم؛ لأنهم لا يعرفون الحساب فيقول أحدهم: إذا طلع النجم الفلاني أديت حقك، فسميت الأوقات نجومًا بذلك ثم سمي المؤدى في الوقت نجمًا، واشترط الشافعي التأجيل وقوفًا مع التسمية بناءً على أن الكتابة من الضم، وأقل ما يحصل به الضم نجمان، ولأنه أمكن لتحصيل القدرة على الأداء وجوّز الحنفية والمالكية الكتابة حالًا ومؤجلًا ومنجمًا وغير منجم؛ لأنّ الله تعالى لم يذكر التنجيم، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 184).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 6858).

(3)

"إرشاد الساري"(5/ 647).

ص: 105

وزاد الحافظ

(1)

: وأما قول المصنف: "في كل سنة نجم" فأخذه من صورة الخبر الوارد في قصة بريرة كما سيأتي التصريح به بعد باب

(2)

، ولم يرد المصنف أن ذلك شرط فيه، فإن العلماء اتفقوا على أنه لو وقع التنجيم بالأشهر جاز، انتهى.

قال الموفق: ظاهر كلام الخرقي أن الكتابة لا تصح حالة ولا تجوز إلا منجمة، وهو ظاهر المذهب وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: تجوز حالة، ثم ذكر دلائل الفريقين كما في هامش "اللامع"

(3)

.

(2 -‌

‌ باب ما يجوز من شروط المكاتب. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: المراد بكتاب الله حكمه من كتابه أو سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة، قال القرطبي

(6)

: قوله: "ليس في كتاب الله" أي: ليس مشروعًا في كتاب الله تأصيلًا ولا تفصيلًا، انتهى.

قال القسطلاني

(7)

: ليس في حديثي الباب إلا ذكر شرط الولاء وجمع في الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني وإن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، أي: في حكمه من كتاب أو سُنَّة أو إجماع، وقد اشترط لصحة الكتابة شروط، ثم بسطها، انتهى.

(3 -‌

‌ باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس)

من عطف الخاص على العام؛ لأن الاستعانة تقع بالسؤال وبغيره، وكأنه يشير إلى جواز ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أقرَّ بريرة على سؤالها عائشة في إعانتها على كتابتها، وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" من طريق

(1)

"فتح الباري"(5/ 185).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2561).

(3)

"اللامع"(6/ 393).

(4)

"فتح الباري"(5/ 188).

(5)

(7/ 69).

(6)

"المفهم"(4/ 326).

(7)

"إرشاد الساري"(5/ 652).

ص: 106

يحيى بن أبي كثير يرفعه في هذه الآية {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال: حرفةً، ولا ترسلوهم كلًّا على الناس، فهو مرسل أو معضل فلا حجة فيه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وتعقب العيني

(2)

على قول الحافظ من عطف الخاص على العام بأنه ما التفت إلى سين الاستعانة، فإنها للطلب، والطلب لا يكون إلا من غيره، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: وإنما لم تحرم عليه المسألة لاضطراره إلى فك رقبته من وثاق الرق، واحتياجه إليه أشد من احتياج الساغب إلى الطعام؛ لأن العبد خارج من الآدمية حكمًا، فجوَّز له السعي في تحصيل إنسانية، مع أن غلَّته لا تفي بدل كتابته، فيستعين بالمسألة، انتهى.

(4 -‌

‌ باب بيع المكاتب إذا رضي. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

في رواية [السرخسي والمستملي:]"المكاتبة"، والأول أصح لقوله:"إذا رضي"، وهذا اختيار منه لأحد الأقوال في مسألة بيع المكاتب إذا رضي بذلك ولو لم يعجز نفسه، وهو قول أحمد وربيعة والأوزاعي وأحد قولي الشافعي ومالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين وبعض المالكية، وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها، واستدلوا باستعانة بريرة عائشة في ذلك، وليس في استعانتها ما يستلزم العجز، إلى آخر ما قال، وفي "الهداية"

(5)

: لو رضي المكاتب بالبيع ففيه روايتان، الأظهر الجواز، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 195).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 372).

(3)

"لامع الدراري"(6/ 395).

(4)

"فتح الباري"(5/ 194).

(5)

"الهداية"(5/ 94).

ص: 107

(5 -‌

‌ باب إذا قال المكاتب: اشترني وأعتقني. . .) إلخ

قال العيني

(1)

: جواب إذا محذوف، تقديره جاز، انتهى

وحمل الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

هذا الباب على أن المصنف أراد به إثبات البيع بشرط واحد كما هو مذهب الحنابلة، فكتب الشيخ: أورده لإثبات أن الشرط الواحد رخص فيه، قلنا: لم يكن ذاك من هذا القبيل، وإنما كانت هذه عِدَة منها رضي الله تعالى عنها، وإنما كان ذلك شرطًا لو أدخل في صلب العقد مع أنه لم يجر له ذكر فيما بين المتعاقدين، ولو سلم ففيه دلالة على أن الفاسد من البيوع مفيد للملك [كما تقدم في "باب إذا لم يوقت الخيار - ز"] ينفذ الإعتاق من المشتري شراء فاسدًا. . .، إلى آخر ما قال.

وفي هامشه: تقدم الكلام على مسألة البيع بشرط واحد أو بشرطين في كتاب البيوع في "باب إذا اشترط في البيع شروطًا" وذكر الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الباب المذكور أيضًا حديث بريرة هذا، ولذا بنى الشيخ قُدِّس سرُّه تقريره على تلك المسألة، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أراد ها هنا فروعًا خلافية تتعلق بالكتابة والعتق فترجم أولًا "بباب بيع المكاتب إذا رضي" كما تقدم الكلام عليه، ثم ترجم ثانيًا بهذه الترجمة، وأراد به إثبات بيعه بشرط العتق، وهي مسألة خلافية.

قال الحافظ: إذا وقع البيع بشرط العتق صح على أصح القولين عند الشافعية والمالكية، وعن الحنفية يبطل، انتهى.

وفي "الشرح الكبير"

(3)

لابن قدامة في بحث الشروط في البيع: إذا شرط العتق ففي صحته روايتان: إحداهما: يصح، والثانية: الشرط فاسد، انتهى.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "الولاء لمن أعتق"، وعندي في قوله:"مات"، فافهم.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 376).

(2)

"لامع الدراري"(6/ 396، 397).

(3)

"الشرح الكبير"(4/ 55).

ص: 108

51 -

‌ كتاب الهبة

الهبة: بكسر الهاء وتخفيف الموحدة، تطلق بالمعنى الأعم على أنواع: الإبراء وهو هبة الدَّين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يكرم به الموهوب له، ومن خصها بالحياة أخرج الوصية وهي تكون أيضًا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وصنيع المؤلف محمول على المعنى الأعم لأنه أدخل فيها الهدايا، انتهى من "الفتح"

(1)

، وأجاد القسطلاني

(2)

في البحث في معناه، وبسط الكلام عليه.

(2 -‌

‌ باب القليل من الهبة)

قال الحافظ

(3)

: مناسبة الحديث للترجمة بطريق الأولى؛ لأنه إذا كان يجيب من دعاه إلى ذلك القدر اليسير فلأن يقبله ممن أحضره إليه أولى، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

بعد ذكر الحديث: وهذا يدل على جواز القليل من الهدية وأنه لا يرد والهدية في معنى الهبة فتحصل المطابقة بين الحديث والترجمة، انتهى.

(3 -‌

‌ باب من استوهب من أصحابه شيئًا)

أي: سواء كان عينًا أو منفعة جاز، أي: بغير كراهة في ذلك إذا كان

(1)

"فتح الباري"(5/ 197).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 3).

(3)

"فتح الباري"(5/ 199).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 6).

ص: 109

يعلم طيب أنفسهم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: والغرض من هذه الترجمة، وكذا من الترجمة الآتية ظاهر، وهو استثناؤهما من ذم السؤال الوارد في كثير من الروايات، ومحل الاستثناء هو ما تقدم من كلام الحافظ من قوله:"إذا كان يعلم طيب أنفسهم".

(4 -‌

‌ باب من استسقى. . .) إلخ

ماءً أو لبنًا أو غير ذلك مما تطيب به نفس المطلوب منه

(2)

، وغرض الترجمة قد تقدم في الباب السابق.

(5 -‌

‌ باب قبول هدية الصيد)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: أفرده بالذكر لما في تحصيله من تعب، فلعل متوهمًا يتوهم أنه لا يجوز قبوله لما يلحق المهدي فيه من الضرر، انتهى.

وفي هامشه: ولا يبعد عندي أنه أشار بذلك إلى دفع ما يتوهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع الصيد فقد غفل" أخرجه الإمام أبو داود والترمذي وغيرهما، من أن الاشتغال بذلك سبب الغفلة، وقبول هدية إعانة على ذلك، وسيأتي في كتاب الذبائح "باب ما جاء في التصيد" قال ابن المنيِّر: مقصوده بهذه الترجمة التنبيه على أن الاشتغال بالصيد لمن هو عيشه به مشروع، ولمن عرض له ذلك وعيشه بغيره مباح، وأما التصيد لمجرد اللهو فهو محل الخلاف. . .، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع".

ثم اعلم أن المصنف ذكر في هذا الباب حديثين على ما في النسخ الهندية، وترجم في نسخ الشروح على الحديث الثاني حديث صعب بن جثامة

(1)

"فتح الباري"(5/ 200).

(2)

انظر: "فتح الباري"(5/ 201).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 2 - 3).

ص: 110

ترجمة بـ "باب قبول هدية الصيد" وليست هذه في النسخ الهندية.

قال الحافظ

(1)

: كذا ثبت لأبي ذر، وسقطت هذه الترجمة هنا لغيره وهو الصواب، وشاهد الترجمة من الحديث مفهوم قوله:"لم نردّه عليك إلا أنّا حرم"، انتهى.

(7 -‌

‌ باب قبول الهدية)

قال الحافظ

(2)

: كذا لأبي ذر وهو تكرار بغير فائدة، انتهى.

قلت: وهذا بحسب نسخة الحافظ، كما تقدم، ثم قال الحافظ: وهذه الترجمة بالنسبة إلى ترجمة قبول هدية الصيد من العام بعد الخاص، انتهى.

قلت: ويمكن عندي في غرض الترجمة أن المصنف لوَّح به إلى ما في أبي داود من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون مهاجريًا قرشيًا أو أنصاريًا أو دوسيًا أو ثقفيًا" وسيأتي قريبًا في "البخاري" عن عمر بن عبد العزيز: "كانت الهدية في زمنه صلى الله عليه وسلم هدية، واليوم رشوة".

ثم لا يذهب عليك ما قال الحافظ

(3)

في آخر حديث الباب حديث أم عطية، إذ قال: استشكلت قصة عائشة في حديث أم عطية مع حديثها في قصة بريرة؛ لأن شأنهما واحد، وقد أعلمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما بما حاصله: أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة، فلو تقدمت إحدى القصتين على الأخرى لأغنى ذلك عن إعادة ذكر الحكم، ويبعد أن تقع القصتان دفعة واحدة، انتهى.

ولم يذكر الحافظ الجواب عن هذا الإشكال، ويمكن التفصي عنه بتنويع الصدقتين: النفل والواجب، بأن تكون إحدى القصتين واردة في صدقة النفل، والأخرى في صدقة الواجب، فاحتيج إلى بيان الحكم في

(1)

"فتح الباري"(5/ 202، 203).

(2)

"فتح الباري"(5/ 204).

(3)

"فتح الباري"(5/ 205).

ص: 111

النوع الآخر أيهما كان، أو يقال: إن قصة أم عطية متقدمة، لكنها كانت حرة، فوجد الإشكال في قصة بريرة لكونها مولاة لعائشة، ومال العبد مال لمولاه، أو يقال: إن قصة بريرة متقدمة إلا أن في قصة بريرة كان المتصدق غير النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف قصة أم عطية، فإن المتصدق فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم، ففيها نوع رجوع في الصدقة، فافهم، وهذا الأخير أوجه الأجوبة عندي.

(8 -‌

‌ باب من أهدى إلى صاحبه، وتحرى بعض نسائه)

يقال: تحرى الشيء إذا قصده دون غيره، قاله الحافظ

(1)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك: أن فعل هؤلاء لا يضر بالعدل الواجب على الزوج لأنهم لم يؤمروا بذلك ولو رضي الزوج بفعلهم ذلك وصنيعهم هذا كان غير مؤاخذ عليه أيضًا لأنهما فعلان قلبيان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك"، انتهى.

وفي هامشه: قال الكرماني في الحديث: إنه ليس على الرجل حرج في إيثار بعض نسائه بالتحف من المآكل، وإنما يلزمه العدل في المبيت وإقامة النفقة والكسوة، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: وتعقبه ابن المنيِّر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وإنما فعله الذين أهدوا له وهم باختيارهم في ذلك، وإنما لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس من كمال الأخلاق أن يتعرض الرجل إلى الناس بمثل ذلك لما فيه من التعرض بطلب الهدية، مع أن الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يشركهن في ذلك، وإنما وقعت المنافسة لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة، وفيه قصد الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها ليزيد ذلك في سرور المهدي إليه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 206).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 5 - 7).

(3)

"فتح الباري"(5/ 208).

ص: 112

(9 -‌

‌ باب ما لا يرد من الهدية)

قال الحافظ

(1)

: كأنه أشار إلى ما رواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا: "ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن واللبن" قال الترمذي: يعني بالدهن: الطيب، وإسناده حسن إلا أنه ليس على شرط البخاري، فأشار إليه واكتفى بحديث أنس، قال ابن بطال: إنما كان لا يرد الطيب لمناجاة الملائكة.

قال الحافظ: لو كان هذا هو السبب لكان من خصائصه، وليس كذلك فإن أنسًا اقتدى به في ذلك، وقد ورد النهي عن رده مقرونًا ببيان الحكمة في حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعًا:"من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة"، انتهى.

(10 -‌

‌ باب من رأى الهبة الغائبة جائزة)

قال العلَّامة العيني

(2)

: الهبة الغائبة أي: التي توهب؛ لأن نفس الهبة مصدر، فلا يوصف بالغيبة.

وفي "الفيض"

(3)

: أراد من الهبة الشيء الموهوب، والمعنى أن هبة الشيء جائزة، وإن كان غائبًا عن المجلس، أو كان الموهوب له أيضًا غائبًا، وحاصله: أنه لا يشترط لصحة الهبة حضور الموهوب له، أو الشيء الموهوب، انتهى.

قلت: ويتفرع عليه أن القبض لا يشترط لصحة الهبة كما هو مختار المصنف، والمسألة خلافية، ستأتي في "باب إذا وهب هبة أو وعد. . ." إلخ.

قال القسطلاني

(4)

بعد ذكر الحديث: ومراد المؤلف منه هنا قوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"فتح الباري"(5/ 209).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 398).

(3)

"فيض الباري"(4/ 48).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 22).

ص: 113

"وإني رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يُطيب ذلك فليفعل"، مع قولهم:"طيبنا لك"، ففيه أنهم وهبوا ما غنموه من السبي قبل أن يقسم، وذلك في معنى الغائب وتركهم إياه في معنى الهبة، كذا قرره في "فتح الباري"، وفيه من التعسف ما لا يخفى، وإطلاق الترك على الهبة بعيد.

وزعم ابن بطال أن فيه دليلًا على أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان في ذلك مصلحة، وتعقبه ابن المنيِّر بأنه لا دليل فيه على ذلك بل في نفس الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا بعد تطييب نفوس المالكين، ولا يسوغ للسلطان نقل أملاك الناس وكل أحد أحق بماله، وتعقبه ابن الدماميني من المالكية فقال: لنا في المذهب صورة ينقل فيها السلطان ملك الإنسان جبرًا كدار ملاصقة للجامع الذي احتيج إلى توسعته لكنه لا ينقل إلا بالثمن، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: ولا يمكن الإيراد بذلك على من وقف تمامها على القبض فإن الهبة جائزة عنده إلا أنها لم تتم بعد، أو يكون ما ورد في الرواية عدة فلا يرد الذي أوردتم، انتهى.

قلت: إن كلام الشرَّاح ههنا نص في أنه صلى الله عليه وسلم رد سبي هوازن قبل القسمة، وسيأتي في "باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة" من قوله:"وقد وهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهوازن ما غنموا منهم وهو غير مقسوم"، ويشكل على هذا ما يأتي في "المغازي" في هذه القصة في باب قوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] وفيه قوله: "قد استأنيت بكم"، أي: أخَّرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم حتى ظننت أنكم لا تقدمون وقد قسمت السبي، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 13).

ص: 114

ففيه تصريح بأن رد السبايا كان بعد القسمة، ولم يتعرض لذلك الشرَّاح ها هنا بل كلهم متضافرون على أن ردها كان قبل القسمة، وعليه بنوا كلامهم في شروح التراجم، اللَّهم إلا أن يقال: إن هذا مبني على اختلاف الروايات، فقد تقدم في "كتاب الوكالة" في "باب إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع قوم" عن العلَّامة العيني أن رد سبيهم إليهم كان قبل القسمة عند ابن إسحاق وعند غيره بعدها، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

مختصرًا.

(11 -‌

‌ باب المكافأة في الهبة)

قال الحافظ

(2)

: المراد بالهبة هنا المعنى الأعم، انتهى، المكافأة بالهمزة وقد يترك مفاعلة بمعنى المقابلة، واستدل بالحديث بعض المالكية على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق وكان ممن يطلب مثله الثواب كالفقير للغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومذهب الشافعية لا يجب بمطلق الهبة والهدية إذ لا يقتضيه اللفظ ولا العادة، ومطابقة الحديث للترجمة متجهة إذا أريد بلفظ الهبة معناها الأعم، انتهى

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: وبه، أي: بقول بعض المالكية قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد كالحنفية: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول، ولأن موضوع الهبة التبرع فلو أبطلناه لكان في معنى المعاوضة، انتهى مختصرًا.

وفي "الفيض"

(5)

: أراد المصنف أن الهبة بشرط العوض جائزة، وفي "الهداية": أنها هبة ابتداءً، وبيع انتهاءً، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 12 - 13).

(2)

"فتح الباري"(5/ 210).

(3)

انظر: "إرشاد الساري"(6/ 23).

(4)

"فتح الباري"(5/ 210).

(5)

"فيض الباري"(4/ 49).

ص: 115

(12 -‌

‌ باب الهبة للولد. . .) إلخ

اشتملت هذه الترجمة على أربعة أحكام:

الأول: الهبة للولد، وإنما ترجم به ليرفع إشكال من يأخذ بظاهر الحديث المشهور "أنت ومالك لأبيك" لأن مال الولد إذا كان لأبيه فلو وهب الأب ولده شيئًا كان كأنه وهب نفسه، ففي الترجمة إشارة إلى ضعف الحديث المذكور أو إلى تأويله، وهو حديث أخرجه ابن ماجه من حديث جابر. وبسط الحافظ

(1)

في تخريجه ثم قال: فمجموع طرقه لا تحطه عن القوة، فتعين تأويله.

الحكم الثاني: العدل بين الأولاد في الهبة، وهي من مسائل الخلاف كما سيأتي، وحديث الباب حجة لمن أوجبه.

والثالث: رجوع الوالد فيما وهب للولد، وهي خلافية أيضًا.

الرابع: أكل الوالد من مال الولد بالمعروف، قال ابن المنيِّر

(2)

: وفي انتزاعه من حديث الباب خفاء، ووجهه لما جاز للأب بالاتفاق أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه فلأن يسترجع ما وهبه له بطريق الأولى، انتهى.

وقال العيني

(3)

في المسألة الثالثة: إن الأب إذا وهب لابنه، هل له أن يرجع؟ فيه خلاف، فعند الشافعي وأحمد وإسحاق: ليس للواهب أن يرجع فيما وهب، إلا الذي ينحله الأب لابنه، وغير الأب من الأصول كالأب عند الشافعي في الأصح، وليس لغير الأب الرجوع عند مالك إلا أن عنده أن الأم لها الرجوع أيضًا، إذا كان أبوه حيًّا، وهذا هو الأشهر عند مالك، وروي عنه المنع، انتهى. وعند أصحابنا الحنفية: لا رجوع فيما يهبه لكل ذي رحم محرم بالنسب، كالأخ والأخت، وكل من لو كان امرأة لا يحل له أن يتزوجها، وبه قال طاوس والحسن وأحمد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 211، 212).

(2)

"المتواري"(ص 284).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 402).

ص: 116

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: إن أراد المصنف بعدم الجواز أنه لا يصلح فهو مسلَّم، ودلالة الرواية عليه واضحة، وإن أراد أن الهبة لم تقع أصلًا فهو غير مسلَّم، والرواية دالَّة على خلافه؛ لأنه الإرجاع لا يمكن دونه، انتهى.

وفي هامشه: هذه هي المسألة الثانية من المسائل الأربعة المذكورة قبل، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن التسوية في عطية الأولاد واجب، فلو فضل بعضها فهي باطلة، وهو قول الثوري وإسحاق وبه صرَّح البخاري، وبه قال سائر الظاهرية وبعض المالكية، والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن أحمد أنها تصح ويجب أن يرجع، وعنه يجوز التفاضل إن كان بسبب؛ كأن يحتاج الولد لزمانته أو كثرة عالته أو اشتغاله بالعلم ونحوه من الفضائل فيجوز، وقال أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي: يجوز أن ينحل لبعض ولده دون بعض، وقال الشافعي: ترك التفضيل حسن الأدب، وقال طاوس: لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" في الدلائل.

(13 -‌

‌ باب الإشهاد في الهبة)

قال العلَّامة العيني

(2)

: مطابقة الحديث بالترجمة تؤخذ من معنى الحديث، فهو ظاهر، انتهى.

(14 -‌

‌ باب هبة الرجل لامرأته. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي: هل يجوز لأحد منهما الرجوع فيها؟ وقول النخعي: "جائزة" أي: فلا رجوع فيها، ثم قال الحافظ بعد قول الزهري: التفصيل المذكور بين أن يكون خدعها فلها أن ترجع أو لا فلا، هو قول

(1)

"لامع الدراري"(7/ 15 - 16).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 409).

(3)

"فتح الباري"(5/ 216 - 217).

ص: 117

المالكية إن أقامت البينة على ذلك، وقيل: يقبل قولها في ذلك مطلقًا، وإلى عدم الرجوع من الجانبين مطلقًا ذهب الجمهور، انتهى.

قلت: وميل الإمام البخاري إلى عدم جواز الرجوع كما تدل عليه الآثار التي ذكرها في الباب على الأصل الأربعين من أصول التراجم، قال العيني

(1)

: عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: والمرأة بمنزلة ذي رحم، إذا وهب أحدهما لصحابه لم يكن له أن يرجع، انتهى، وتفصيل المذاهب في هامش "اللامع"

(2)

.

قوله: (العائد في هبته. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: أورده ها هنا لإثبات أنه ليس له أن يعود فيما أعطاها، ولا هي فيما أعطته، انتهى.

وفي هامشه: وهو كذلك في الزوجين عندنا كما تقدم، والحديث من مستدلات الأئمة في عدم جواز الرجوع في هبة الأجنبي، والمسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"

(4)

ففيه استدل بالحديث الشافعي وأحمد وإسحاق على أنه ليس للواهب أن يرجع فيما وهبه إلا الذي ينحله الأب لابنه، وعند مالك: له أن يرجع في الأجنبي الذي قصد منه الثواب ولم يثبه، وبه قال أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: للواهب الرجوع عن هبته ما دامت قائمة ولم يعوض منها، وفي "المحلى": قال أبو حنيفة: يصح الرجوع في الهبة إلا بأحد سبعة أمور: القرابة، والموت، والزوجية، والهلاك، والخروج عن الملك، والعوض، والزيادة.

وبسط في "الأوجز" في دلائل الحنفية والجواب عن الحديث، انتهى.

(15 -‌

‌ باب هبة المرأة لغير زوجها. . .) إلخ

وغرض المؤلف من الترجمة هو ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

حيث كتب: لما ورد في بعض الروايات أنها ليس لها أن

(1)

"عمدة القاري"(9/ 409).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 16، 17).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 17).

(4)

"أوجز المسالك"(14/ 201 - 206).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 18).

ص: 118

تستبد بالتصرف في خالص مالها دون الزوج، بيَّن المؤلف أن التصرف لها في مالها وإن كان خلاف الأولى للحديث غير أنه نافذ منها إن فعلت، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: قوله: "إذا كان لها زوج" أي: ولو كان لها زوج، ثم قال: وبهذا الحكم قال الجمهور، وخالف طاوس فمنع مطلقًا، وعن مالك لا يجوز لها أن تعطي بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة إلا من الثلث، وعن الليث لا يجوز مطلقًا إلا في الشيء التافه، وأدلة الجمهور من الكتاب والسُّنَّة كثيرة، قال ابن بطال

(2)

: أحاديث الباب أصح، وحملها مالك على الشيء اليسير، وجعل حده الثلث فما دونه، انتهى.

زاد العيني

(3)

: أي: قياسًا على الوصية، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: لعله تعريض إلى مذهب مالك، فإنه قال: لا يجوز للزوجة أن تتصرف في مال نفسها إلا بإذن زوجها، واختار المصنف مذهب الجمهور، انتهى. وقال الموفق

(5)

: وظاهر كلام الخرقي أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله، بالتبرع، والمعاوضة، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى: ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض، إلا بإذن زوجها، وبه قال مالك. . .، إلى آخر ما بسط في الدلائل، وسيأتي في كتاب الأدب "باب صلة المرأة أمها ولها زوج".

(16 -‌

‌ باب بمن يبدأ بالهدية

؟)

قال الحافظ

(6)

: أي: عند التعارض في أصل الاستحقاق، وحديث ميمونة فيه الاستواء في صفة ما من الاستحقاق فيقدم القريب على الغريب،

(1)

"فتح الباري"(5/ 218).

(2)

(7/ 108 - 109).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 413).

(4)

"فيض الباري"(4/ 52 - 53).

(5)

"المغني"(6/ 602).

(6)

"فتح الباري"(5/ 220).

ص: 119

وحديث عائشة المذكور بعده فيه الاستواء في الصفات كلها فيقدم الأقرب في الذات، انتهى.

(17 -‌

‌ باب من لم يقبل الهدية لعلة)

أي: بسبب ينشأ عنه الريبة كالقرض ونحوه.

قوله: (وقال عمر بن عبد العزيز. . .) إلخ، وصله ابن سعد

(1)

بقصة فيه، فروى من طريق فرات بن مسلم قال: إنه اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئًا يشتري به، فركبنا معه، فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح، فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق، فقلت له في ذلك فقال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية فقال: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة، وقال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونًا على ما لا يحل، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: (واليوم رشوة) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا فلم يكن هناك مظنة جور في الحكم وإمكان ذلك فاستوى المهدي وغيره، ولا كذلك فينا معاشر الأمراء والحكام، وقوله:(فلينظر أيهدى له أم لا) فيه الترجمة حيث أنكر النبي صلى الله عليه وسلم قبوله الهدية لأنها كانت لعلة، انتهى.

(18 -‌

‌ باب إذا وهب هبة أو وعد. . .) إلخ

قال القسطلاني

(4)

: قوله: "قبل أن تصل" أي: الهبة أو الذي وعده به "إليه" أي: إلى الموهوب له أو الموعود له لم ينفسخ عقد الهبة لأنه يؤول إلى اللزوم كالبيع، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: قال الإسماعيلي: هذه الترجمة لا تدخل في الهبة بحال.

(1)

"طبقات ابن سعد"(5/ 377).

(2)

"فتح الباري"(5/ 221).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 18 - 19).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 36).

(5)

"فتح الباري"(5/ 222).

ص: 120

قال الحافظ: قال ذلك بناء على أن الهبة لا تصح إلا بالقبض، وإلا فليست هبة، وهذا مقتضى مذهبه، لكن من يقول: إنها تصح بدون القبض يسميها هبة، وكأن البخاري جنح إلى ذلك، انتهى.

قلت: ومسألة الباب خلافية بسطت في "الأوجز"

(1)

، وفيه عن "المغني"

(2)

: المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض، وهو قول أكثر الفقهاء، منهم أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم ذلك بمجرد العقد؛ لأنه تبرع، فلا يصبر فيه القبض كالوصية والوقف، ولنا إجماع الصحابة، وأما غير المكيل والموزون، فتلزم الهبة فيه بمجرد العقد، وهو قول مالك، وعن أحمد رواية أخرى: لا تلزم الهبة في الجميع إلا بالقبض، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، لما ذكرنا في المسألة الأولى، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(3)

: "وشرائط صحتها في الواهب: العقل والبلوغ والملك" فلا تصح هبة صغير ورقيق ولو مكاتبًا "و" شرائط صحتها في الموهوب أن يكون مقبوضًا غير مشاع مميزًا غير مشغول"، انتهى.

قوله: (وكانت فصلت الهدية. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: أي: أفرزت من مال المهدي وليس المراد القبض كما فهم المحشي؛ لأنه يلغو عليه قوله: "وهو حي"؛ لأن القبض لا يمكن إلا وهو حي، وعندنا هي للمهدي ولورثته؛ لأن إفرازه عن ماله لا يخرجها عن ملكه، نعم قول الحسن يوافق رأي الحنفية إن كان المراد بالرسول في كلامه رسول المهدى له، وهو الظاهر من مقابلة كلامه بكلام عبيدة مع أن الرسول إذا كان رسول المهدي كان في حكم نفسه فلا يناسب بناء الاختلاف عليه فتدبر، انتهى.

(1)

"أوجز المسالك"(14/ 192 - 194).

(2)

"المغني"(8/ 240).

(3)

"الدر المختار"(5/ 255).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 19 - 20).

ص: 121

وبسط شيء من الكلام عليه في هامش "اللامع"

(1)

، وفيه عن "الفيض"

(2)

: حاصل قول عبيدة أن المدار على الفضل. قلنا: المدار على القبض دون التقسيم، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: قال الإسماعيلي: ليس ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لجابر هبة، وإنما هي عدة على وصف، لكن لما كان وعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخلف نزلوا وعده منزلة الضمان في الصحة فرقًا بينه وبين غيره من الأمة ممن يجوز أن يفيء وأن لا يفيء.

قال الحافظ: وجه إيراده أنه نزل الهدية إذا لم تقبض منزلة الوعد بها، وقد أمر الله بإنجاز الوعد، لكن حمله الجمهور على الندب، انتهى.

وتعقب القسطلاني

(4)

على إيراد الإسماعيلي إذ قال: فيه نظر، وبيانه كما في "المصابيح": أن الترجمة لشيئين، أحدهما: إذا وهب ثم مات قبل وصولها فساق لها ما ذكره عن عبيدة والحسن، ثانيهما: إذا وعد ثم مات، وساق له حديث جابر، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لو جاء مال البحرين. . ." إلخ، وعد بلا ريب، فلم يقع للمؤلف رحمه الله إخلال لما وقع في الترجمة على ما لا يخفى. . .، إلى آخر ما قال، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: ولم يثبت شيء مما قصده المؤلف أن الهبة تتم من غير قبض؛ لأن الهبة هنا إنما تمت لإعطاء أبي بكر، وإلا فلم يكن إلا عدة محضة كما يدل عليه قول أبي بكر:"من كان له عدة. . ." إلخ، ولعل المؤلف قصد بترجمته أن من وعد وعدًا أو وهب هبة بمعنى أنه قصد أن يهبها فإن إيفاءه مستحسن وواجب في مكارم الأخلاق لا في شريعة الحلال والحرام وهو مسلم، ودلالة الرواية عليه غير مستنكرة، انتهى.

(1)

"اللامع"(7/ 20).

(2)

"فيض الباري"(4/ 54).

(3)

"فتح الباري"(5/ 222).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 38).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 21 - 22).

ص: 122

والظاهر عندي: أن ميل الإمام البخاري إلى أن إيفاء الوعد واجب؛ فإنه ترجم في "كتاب الشهادات": "باب من أمر بإنجاز الوعد" كما سيأتي هناك.

(19 -‌

‌ باب كيف يقبض العبد والمتاع

؟)

أي: الموهوب، والترجمة في الكيفية لا في أصل القبض، وكأنه أشار إلى قول من قال: يشترط في الهبة حقيقة القبض دون التخلية، وسأشير إليه بعد ثلاثة أبواب، قال ابن بطال

(1)

: كيفية القبض عند العلماء بإسلام الواهب لها إلى الموهوب وحيازة الموهوب لذلك، قال: واختلفوا هل من شرط صحة الهبة الحيازة أم لا؟ وقول الجمهور إنها لا تتم إلا بالقبض، وهو قول الشافعي في الجديد، وفي القديم - وبه قال داود - تصح بنفس العقد وإن لم تقبض، وعن أحمد: تصح بدون القبض في العين المعينة دون الشائعة، وعن مالك كالقديم لكن قال: إن مات الواهب قبل القبض وزادت على الثلث افتقر إلى إجازة الوارث، انتهى من "الفتح"

(2)

بزيادة من "القسطلاني"

(3)

.

قلت: المسألة التي ترجم بها الإمام البخاري كما تقدم عن الحافظ، هي مسألة كيفية القبض، كما تقدم.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: لعل المؤلف قصد بذلك أن ما قال بعضهم: إن قبض الضمان لا ينوب عن قبض الأمانة غير مسلم، وأن الواجب هو القبض المطلق كيف ما كان: قبض أمان أو قبض ضمان، حتى إن قبض ابن عمر كان قبض أمانة حين هو راكب عليه وهو مملوك لعمر، ثم صارت قبضته قبضة ضمان حين ملكه النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله راكبه، ثم لما وهبه النبي صلى الله عليه وسلم إياه صار قبضه قبض أمانة وأنت تعلم ما فيه، انتهى.

(1)

(7/ 116).

(2)

"فتح الباري"(5/ 223).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 39).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 22 - 24).

ص: 123

قلت: فهذا غرض آخر للترجمة، واختاره مولانا محمد حسن المكي أيضًا في تقريره، كما بسط في هامش "اللامع"

(1)

، فارجع إليه لو شئت.

(20 -‌

‌ باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر. . .) إلخ

أي: الموهوب له، قال الحافظ

(2)

: أي جازت، ونقل فيه ابن بطال

(3)

اتفاق العلماء، وأن القبض في الهبة هو غاية القبول، وغفل رحمه الله عن مذهب الشافعي، فإن الشافعية يشترطون القبول في الهبة دون الهدية، إلا إن كانت الهبة ضمنية كما لو قال: أعتق عبدك عني، فعتقه عنه، فإنه يدخل في ملكه هبة ويعتق عنه ولا يشترط القبول، ومقابل إطلاق ابن بطال قول الماوردي: قال الحسن البصري: لا يعتبر القبول في الهبة كالعتق، قال: وهو قول شذ به عن الجماعة وخالف فيه الكافة إلا أن يريد الهدية فيحتمل، انتهى.

على أن في اشتراط القبول في الهدية وجهًا عند الشافعية، وقد اعترض الإسماعيلي بأنه ليس في الحديث أن ذلك كان هبة، بل لعله كان من الصدقة فيكون قاسمًا لا واهبًا، انتهى.

قال الحافظ: وقد تقدم في الصوم التصريح بأن ذلك كان من الصدقة، وكأن المصنف يجنح إلى أنه لا فرق في ذلك، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: ولا يلزم القبول باللفظ عندنا، وهو مذهب البخاري، انتهى.

قلت: وهو مذهب الجمهور خلافًا للشافعي كما تقدم.

(21 -‌

‌ باب إذا وهب دينًا على رجل. . .) إلخ

أي: "إذا وهب" رجل"دينًا" له "على رجل" لآخر أو لمن هو عليه، قاله القسطلاني

(5)

.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 22).

(2)

"فتح الباري"(5/ 223).

(3)

(7/ 118).

(4)

"فيض الباري"(4/ 55).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 41).

ص: 124

وقال الحافظ

(1)

: أي: صح ولو لم يقبضه منه ويقبض له، قال ابن بطال

(2)

: لا خلاف بين العلماء في صحة الإبراء من الدين إذا قبل البراءة، وإنما اختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فمن اشترط في صحة الهبة القبض لم يصحح هذه ومن لم يشترطه صححها، لكن شرط مالك أن تسلم إليه الوثيقة ويشهد له بذلك على نفسه أو يشهد بذلك ويعلنه إن لم يكن به وثيقة، انتهى.

قال الحافظ: وعند الشافعية في ذلك وجهان: جزم الماوردي بالبطلان، وصححه الغزالي، وصحح العمراني وغيره الصحة، وهكذا في "العيني"

(3)

وزاد: قال الشافعي وأبو حنيفة: الهبة غير جائزة لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة، وقال أصحابنا الحنفية: تمليك الدين من غير من هو عليه لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه، ولو ملكه ممن هو عليه يجوز؛ لأنه إسقاط وإبراء، انتهى.

وكتب مولانا حسين علي البنجابي: هذا هو إسقاط دين، وأما إذا وهب الدائن الدين لغير المديون فلا يملك بالهبة؛ لأنه لا يتم إلا بالقبض كما جاء في حديث نقله صاحب "الهداية"، انتهى.

قال الحافظ في حديث جابر: تؤخذ الترجمة من قوله: "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم غرماء والد جابر أن يقبلوا ثمر حائطه وأن يحللوه" فلو قبلوا كان في ذلك براءة ذمته من بقية الدين، ويكون في معنى الترجمة، وهو هبة الدين، ولو لم يكن جائزًا لما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، انتهى.

(22 -‌

‌ باب هبة الواحد للجماعة)

قال الحافظ

(5)

: أي: يجوز ولو كان شيئًا مشاعًا، قال ابن بطال

(6)

:

(1)

"فتح الباري"(5/ 224).

(2)

(7/ 119).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 425).

(4)

انظر: "اللامع"(7/ 27).

(5)

"فتح الباري"(5/ 225).

(6)

(7/ 120).

ص: 125

غرض المصنف إثبات هبة المشاع، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، كذا أطلق، وتعقب بأنه ليس على إطلاقه وإنما يفرق في هبة المشاع بين ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، والعبرة بذلك وقت القبض لا وقت العقد، وهكذا في "العيني"

(1)

وقال: العبرة في الشيوع وقت القبض لا وقت العقد، حتى لو وهب مشاعًا وسلم مقسومًا، انتهى.

وإلى ذلك أشار الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

إذ كتب: قوله: (وقالت أسماء للقاسم. . .) إلخ، وكانا ابني أخيه وكان له بنون فكان ذلك وصية منها، والوصية بالمشاع جائزة عندنا أيضًا، أو كانت وهبت لهما فلما اقتسماها تمت الهبة، ونحن نقر أيضًا إن وهب مشاعًا فاقتسمه الموهوب لهم فإنها تتم بالقسمة وإن لم تتم بالهبة نفسها، ومع ذلك ففعل أسماء رضي الله عنها ليس حجة على مجتهد.

وقوله: (أعطيت هؤلاء) فيه الترجمة حيث استرخصه أن يعطيهم ولو لم تكن هبة المشاع جائزة لما استأذنه بلفظ الجمع الذي ذكره في كلامه، والجواب: أما أولًا: فبأن إعطاءه إياهم لو وقع كما قصده النبي صلى الله عليه وسلم لأعطى كلًّا منهم نصيبه والباقي من كل واحد واحد منهم كان باقيًا على ملكه حتى يعطيه آخر، فلم يكن إعطاؤه إياهم إلا إعطاء واحد بعد واحد، ولو سلم أنه قصد أن يعطيهم جميعًا فالقسمة في هذا المجلس كانت مجوزة للهبة ومتممة لها كما ذكرنا في قصة أسماء فافهم، انتهى من "اللامع".

وفي هامشه

(3)

: قال الحافظ: قد اعترض الإسماعيلي بأنه ليس في حديث سهل ما ترجم به وإنما هو من طريق الإرفاق وأطال في ذلك، والحق كما قال ابن بطال: إنه صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ وكان نصيبه منه مشاعًا غير متميز فدل على صحة هبة المشاع، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 427).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 27 - 29).

(3)

"اللامع"(7/ 29).

ص: 126

وفي "الفيض"

(1)

: قوله: "باب يهبه الواحد. . ." إلخ، اعلم أنه يشترط لصحة الهبة عندنا أن لا يكون مشاعًا، وذلك لأن القبض من تمام الهبة، وهو ضعيف في المشاع، ثم إن كان الواهب واحدًا، والموهوب له جماعةً، فهو مشاع عند الإمام الأعظم، وقال صاحباه: إنه ليس بمشاع وإن كان الواهب جماعةً، والموهوب له واحدًا، فلا شيوع عند الإمام، وأما البخاري فذهب إلى هدر الشيوع ولم يره شيئًا، فتصح عنده هبة المشاع أيضًا. . .، إلى آخر ما بسط فيه.

(23 -‌

‌ باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة)

قال الحافظ

(2)

: أما المقبوضة فتقدم حكمها، وأما غير المقبوضة فالمراد القبض الحقيقي، وأما التقديري فلا بد منه؛ لأن الذي ذكره من هبة الغانمين لوفد هوازن ما غنموه قبل أن يقسم فيهم ويقبضوه، فلا حجة فيه على صحة الهبة بغير قبض؛ لأن قبضهم إياه وقع تقديرًا باعتبار حيازتهم له على الشيوع، نعم قال بعض العلماء: يشترك في الهبة وقوع القبض الحقيقي ولا يكفي القبض التقديري بخلاف البيع، وهو وجه للشافعية، وأما الهبة المقسومة فحكمها واضح، وأما غير المقسومة فهو المقصود بهذه الترجمة، وهي مسألة هبة المشاع، والجمهور على صحة هبة المشاع للشريك وغيره سواء انقسم أو لا، وعن أبي حنيفة: لا يصح هبة جزء مما ينقسم مشاعًا لا من الشريك ولا من غيره.

قوله: (وقد وهب النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، سيأتي موصولًا في الباب الذي يليه بأتم من هذا، وقوله:(هو غير مقسوم) من تفقه المصنف، انتهى.

وقد تقدم في "باب من رأى الهبة الغائبة جائزة" شيء من الكلام على أن رد سبي هوازن كان قبل القسمة أو بعدها، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فيض الباري"(4/ 56).

(2)

"فتح الباري"(5/ 226).

ص: 127

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: وأنت تعلم أن سبي هوازن لم يكونوا مما يقبل القسمة ولا كلام فيه، فإن تقسيم رجل رجل منهم حتى يصير بعضه لأخيه وبعضه الآخر لأبيه وهكذا مما يتعذر، وهذا إذا سلم أنه كان هبة لهم، والذي يقتضيه النظر أنه لم تكن هبة لهم بل كان قبول شفاعتهم في رفع الأسر عن المستعبدين وإطلاقهم، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "باب الهبة المقبوضة. . ." إلخ، وسّع بالقبض أيضًا، كما كان وسّع بالشيوع وعدمه، وتمسك له بقصة سبي هوازن، وسنبين إن شاء الله تعالى أنه كان إعتاقًا لا هبة، كما فهمه المصنف، فينهدم أساس التفريعات كلها من جواز هبة المشاع، وعدم اشتراط القبض، انتهى.

(24 -‌

‌ باب إذا وهب جماعة لقوم. . .) إلخ

أورد فيه حديث المسور في قصة هوازن، وجه الدلالة منه للترجمة ظاهر؛ لأن الغانمين وهم جماعة وهبوا بعض الغنيمة لمن غنموها منهم وهم قوم هوازن، انتهى.

قوله: (أو وهب رجل جماعة) كذا في النسخ الهندية، وليست هذه الزيادة في نسخ الشروح الثلاثة:"الفتح" و"القسطلاني" و"العيني".

قال الحافظ

(3)

: زاد الكشميهني في روايته: "أو وهب رجل جماعة جاز" وهذه الزيادة غير محتاج إليها لأنها تقدمت مفردة قبل باب، انتهى.

قلت: ويمكن أن يقال في دفع التكرار: إن المراد بالجماعة الأشياء الموهوبة لا الموهوب لهم، فيفترق عما تقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم استوهب من الغانمين سهامهم فوهبوها له، فوهب صلى الله عليه وسلم تلك السهام لهم.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 30 - 31).

(2)

"فيض الباري"(4/ 59).

(3)

"فتح الباري"(5/ 227).

ص: 128

وفي "الفيض"

(1)

: بوّب بجواز الشيوع بكلا نحويه، وتمسك بسبي هوازن، وغرضه أن يسوغ فيه الأمران. . .، إلى آخر ما قال.

(25 -‌

‌ باب من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق بها. . .) إلخ

قوله: (ويذكر عن ابن عباس. . .) إلخ، بيّن المصنف بذلك ما هو الغرض من الترجمة، قال العيني

(2)

: لما كان وضع الترجمة يخالف ما روي عن ابن عباس أشار إليه بصيغة التمريض، ولم يكتف بذلك حتى أكده بقوله:"ولم يصح" أي: ولم يصح هذا عن ابن عباس، ويحتمل أن يكون المعنى: ولم يصح في هذا الباب شيء، انتهى.

وبسط الحافظان ابن حجر والعيني في تخريجه ورفعه ووقفه وشواهده، قال الحافظ

(3)

: هذا الحديث جاء عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصلح إسنادًا من المرفوع، قال ابن بطال

(4)

: لو صح حديث ابن عباس لحمل على الندب فيما خف من الهدايا وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، ثم ذكر حكاية أبي يوسف المشهورة، وفيما قاله نظر؛ لأنه لو صح لكانت العبرة بعموم اللفظ فلا يخص القليل من الكثير إلا بدليل، وأما حمله على الندب فواضح، انتهى.

وذكر العيني

(5)

حكاية أبي يوسف القاضي: أن الرشيد أهدى إليه مالًا كثيرًا وهو جالس مع أصحابه، فقيل له هذا الحديث، فقال أبو يوسف: إنه لم يرد في مثله، وإنما ورد في ما خف من الهدايا من المأكل والمشرب. ويروى من غير هذا الوجه: أنه كان جالسًا وعنده أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فحضر من عند الرشيد طبق وعليه أنواع من التحف

(1)

"فيض الباري"(4/ 61).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 431).

(3)

"فتح الباري"(5/ 227 - 228).

(4)

(7/ 125).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 432).

ص: 129

المثمنة، فروى أحمد أو يحيى هذا الحديث، فقال أبو يوسف: ذلك في التمر والعجوة، يا خازن! ارفعه، انتهى.

وكتب الشيخ التهانوي في "التشرف": قلت: معنى الحديث: إذا كان قصد المهدي تشريك القوم في الهدية كما هو الغالب فيما يؤكل ويشرب ومع ذلك فقد وضعها بين يدي شيخ المجلس أدبًا ويعلم ذلك بالقرائن، أما لو كان قصده الإهداء إلى معين كما هو الغالب في نحو الثياب والنقد فلا وجه لشركة غيره معه، فإن الملك من أحكام التمليك فإذا كان التمليك خاصًا كان الملك خاصًا فافهم، نعم لو فرَّقها على أهل المجلس جميعًا كان أقرب إلى المروءة وآداب الصحبة كما هو المعتاد للقوم في أكثر الأحوال إلا لمقتض قوي، انتهى. والبسط في هامش "اللامع"

(1)

.

(26 -‌

‌ باب إذا وهب بعيرًا لرجل. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أي وتنزل التخلية منزلة النقل، فيكون ذلك قبضًا فتصح الهبة، انتهى.

(27 -‌

‌ باب هدية ما يكره لبسها)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: إما مطلقًا كالمصور أو خاصة للرجال كالحرير وغيره، وجواز هديته لإمكان الانتفاع به بجهة أخرى غير اللبس، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: والمراد بالكراهة أعم من التحريم والتنزيه، وهدية ما لا يجوز لبسه جائزة، فإن لصاحبه التَّصرف بالبيع والهبة لمن يجوز لباسه كالنساء، ويستفاد من الترجمة الإشارة إلى منع ما لا يستعمل أصلًا للرجال والنساء كآنية الأكل والشرب من ذهب وفضة، انتهى.

(1)

"اللامع"(7/ 34 - 35).

(2)

"فتح الباري"(5/ 228).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 36).

(4)

"فتح الباري"(5/ 229).

ص: 130

وما أفاده الشيخ رحمه الله أوجه لا سيما على مذهب الحنفية والشافعية، والعجب من الحافظ كيف استفاد من الترجمة للإشارة إلى منع ما لا يستعمل أصلًا كآنية الذهب والفضة، مع أن مذهب الشافعية جواز اتخاذها، قال ابن قدامة: لا يختلف المذهب فيما علمنا في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وحكي عن الشافعي إباحته لتخصيص النهي بالاستعمال، ولأنه لا يلزم من تحريم الاستعمال تحريم الاتخاذ، إلى آخر ما بسط، وفي "الدر المختار": لا بأس باتخاذ الأواني منهما، أي: من الذهب والفضة للتجمل، انتهى.

(28 -‌

‌ باب قبول الهدية من المشركين. . .) إلخ

كأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عقبة في "المغازي": أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فأهدى له، فقال:"إني لا أقبل هدية مشرك" الحديث، رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وأخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن عياض بن حمار قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال: "أسلمت؟ " قلت: لا، قال:"إني نهيت عن زبد المشركين"، والزبد بفتح الزاي وسكون الموحدة: الرفد، صححه الترمذي وابن خزيمة، وأورد المصنف عدة أحاديث دالة على الجواز، فجمع بينها الطبري بأن الامتناع فيما أهدي له خاصة والقبول فيما أهدي للمسلمين، وفيه نظر؛ لأن من جملة أدلة الجواز ما وقعت الهدية فيه له خاصة، وجمع غيره بأن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام، وهذا أقوى من الأول، وقيل: يحمل القبول على من كان من أهل الكتاب، والرد على من كان من أهل الأوثان، وقيل: يمتنع ذلك لغيره من الأمراء، وأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ادعى نسخ المنع بأحاديث القبول، ومنهم من عكَس، وهذه الأجوبة الثلاثة ضعيفة، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال ولا التخصيص، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 230 - 231).

ص: 131

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك أن المنهي عنه إنما هو القبول على جهة المودة أو ما يورث المودة لا مطلقًا، انتهى.

قلت: وهذا الجواب رجحه الحافظ، كما تقدم.

(29 -‌

‌ باب الهدية للمشركين وقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ. . .} [الممتحنة: 8] إلخ

وهي جائزة كما في "السير الكبير"، إلا ما أعد للحرب في أوان الحرب، انتهى

(2)

.

ساق إلى آخر الآية، وفي بعض الروايات إلى قوله:{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، والمراد منها بيان من يجوز بره منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتًا ونفيًا ليست على الإطلاق، ومن هذه المادة قوله تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(30 -‌

‌ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته. . .) إلخ

كذا بَتَّ الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها، وتقدم في "باب الهبة للولد" أنه أشار في الترجمة إلى أن للوالد الرجوع فيما وهبه للولد، فيمكن أنه يرى صحة الرجوع له وإن كان حرامًا بغير عذر، واختلف السلف في أصل المسألة، وقد أشرنا إلى تفاصيل مذاهبهم في "باب الهبة للولد"، وأما الصدقة فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 37).

(2)

انظر: "فيض الباري"(4/ 66).

(3)

"فتح الباري"(5/ 233).

(4)

انظر: "فتح الباري"(5/ 235).

ص: 132

(31 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته لها أن الصحابة بعد ثبوت عطية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لصهيب لم يستفصلوا هل رجع أم لا؟ فدل على أن لا أثر للرجوع في الهبة، انتهى

(1)

.

وتعقب عليه العيني

(2)

، والأوجه عندي: ما قاله الحافظ رحمه الله، كما بسط في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه لو شئت.

(32 -‌

‌ باب ما قيل في العمرى والرقبى. . .) إلخ

أي: ما ورد في ذلك من الأحكام، والعمرى بضم المهملة وسكون الميم مع القصر، وحكي ضم الميم مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، مأخوذ من العمر، والرقبى بوزنها مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إِياها، أي: أبحتها لك مدة عمرك، وقيل لها عمرى لذلك، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وقال القسطلاني

(5)

: والرقبى بوزن العمرى مأخوذة من الرقوب لأن كلًّا منهما يرقب موت صاحبه، انتهى.

قال العيني

(6)

: وأما الرقبى، فهو أن يقول الرجل للرجل، أرقبتك داري إن مت قبلك فهي لك وإن مت قبلي فهي لي، انتهى.

قال الحافظ

(7)

: هذا أصلها لغةً، وشرعًا فالجمهور على أن العمرى

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 237).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 448 - 449).

(3)

"اللامع"(7/ 40 - 41).

(4)

"فتح الباري"(5/ 238).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 65).

(6)

"عمدة القاري"(9/ 452).

(7)

"فتح الباري"(5/ 238).

ص: 133

إذا وقعت كانت ملكًا للآخذ، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرَّح باشتراط ذلك، وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، انتهى.

وفي "البذل"

(1)

: قال الخطابي

(2)

في العمرى: إذا اتصل به القبض كان تمليكًا لرقبته، وإذا ملكها في حال حياته، وجاز له التصرف فيها، ملكها بعده وارثه الذي يرث أملاكه، وهذا قول الشافعي وقول أصحاب الرأي، وحكي عن مالك أنه قال: العمرى تمليك المنفعة دون الرقبة، فإن جحلها عمرى له فهي له مدة عمره، ولا تورث، وإن جعلها له ولعقبه بعده كانت منفعته ميراثًا لأهله، انتهى.

قال النووي

(3)

: قال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون الموقتة، انتهى.

وأما الرقبى فقد قال الحافظ

(4)

: منعها مالك وأبو حنيفة ومحمد، ووافق أبو يوسف الجمهور، انتهى.

قلت: وبالجواز قال الشافعي وأحمد، قاله العيني

(5)

وغيره.

قال صاحب "الهداية"

(6)

: الرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد ومالك، وقال أبو يوسف: جائزة؛ لأن قوله: "داري لك" تمليك، وقوله:"رقبى" شرط فاسد كالعمرى، ولهما أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى وردّ الرقبى، ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك، واللفظ من المراقبة؛ كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل؛ فإذا لم تصح تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به.

وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه - رضي الله تعالى

(1)

"بذل المجهود"(11/ 276).

(2)

"معالم السنن"(3/ 174 - 175).

(3)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 83).

(4)

"فتح الباري"(5/ 240).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 452).

(6)

"الهداية"(3/ 228).

ص: 134

عنه -: قد اختلف فيه أئمتنا الثلاثة، فمن جوَّزها أراد بالرقبى الهبة، بشرط أن ترجع إلى الواهب لو مات الموهوب له قبله، ومن أبطلها فسرها بتعليق التمليك على الموت السابق من أيهما؛ كأن يقول:"إن مت قبلي فهو لي، وإن مت قبلك فهو لك"، وهو باطل لا محالة؛ لأن تعليق التمليك على شرط هو على خطر الوجود قمار، فكان الخلاف لفظيًّا مبنيًا على اختلاف التفسير، انتهى من "البذل"

(1)

.

ثم لا يخفى عليك ما قال الحافظ وغيره: إن المصنف رحمه الله ترجم بالرقبى ولم يذكر إلا الحديثين الواردين في العمرى، وكأنه يرى أنهما متحدا المعنى وهو قول الجمهور، انتهى.

(33 -‌

‌ باب من استعار من الناس الفرس. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: زاد أبو ذر عن مشايخه: "والدابة"، وزاد عن الكشميهني "وغيرها"، وذكر بعض الشرَّاح ممن أدركناه قبل الباب "كتاب العارية" ولم أره في شيء من النسخ ولا الشروح، والبخاري أضاف العارية إلى الهبة لأنها هبة المنافع، انتهى.

قال العيني

(3)

: وفي كتاب صاحب "التوضيح": {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، "كتاب العارية"، وغالب النسخ هذا ليس بموجود فيه، وهذه النسخة أولى لأن العادة أن تتوج الأبواب بالكتاب، والعارية بتشديد الياء وتخفيفها، وتجمع على عواري، وفيها لغة ثالثة: عارة، وقيل: عارات بالألف مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، وقيل: مشتقة من التعاور، وهو: التناوب، قال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، وفي الشرع: هي تمليك المنفعة بلا عوض. . .، إلى آخر ما فيه من الاختلاف في تفسيرها.

(1)

"بذل المجهود"(11/ 283 - 284).

(2)

"فتح الباري"(5/ 240 - 241).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 455).

ص: 135

وفي "الفيض"

(1)

: لما فرغ المصنف من باب الهبة وملحقاته دخل في باب العارية لكونها تمليكًا للمنافع، كما أن الهبة تمليك للعين، وإنما أدخله في تضاعيف أبواب الهبة؛ لأنه أراد من الهبة اللغوية، سواء كانت للمنافع أو الأعيان، انتهى.

قلت: وعلى تقدير ثبوت "كتاب العارية"، كما في بعض النسخ، تكون البراعة في "باب العمرى والرقبى" واضحة، إذ في كليهما إشارة إلى الموت، فافهم.

(34 -‌

‌ باب الاستعارة للعروس عند البناء)

قال العلَّامة العيني

(2)

: العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إِعراسهما، ويقال: اسم لهما عند دخول أحدهما بالآخر، وفي غير هذه الحالة الرجل يسمى عريسًا والمرأة عروسًا، قوله:"عند البناء" أي: الزفاف، قال ابن الأثير: البناء والابتناء: الدخول بالزوجة، انتهى.

والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: قوله: "باب الاستعارة. . ." إلخ، وهذا من مراسم الناس أن المفلسين منهم يستعيرون الأشياء للعروس، إذ لا يقدرون على أن يشتروها من أموالهم، انتهى.

ويأتي أيضًا في "كتاب النكاح": "باب استعارة الثياب للعروس وغيرها"، وفي "كتاب اللباس":"باب استعارة القلائد"، وذكر فيهما حديث الباب أيضًا، المقصود بيان الجواز.

قلت: وثياب العروس غالبًا تكون ثمينة غالية، فينبغي للمرء أن يقتصر

(1)

"فيض الباري"(4/ 68).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 459).

(3)

"فيض الباري"(4/ 68).

ص: 136

فيه على الاستعارة من الغير تحرّزًا عن الإسراف المذموم، ولا يبعد أيضًا أن يقال نظرًا إلى تراجم الإمام البخاري فإنه ترجم لهذا المعنى في ثلاثة مواضع، كما تقدم: أنه أشار إلى استحسان الاستعارة في تلك المواضع اتباعًا لهؤلاء السلف، وأوضحت هذا المعنى في رسالة "آب بيتي"

(1)

باللغة الأردوية.

(35 -‌

‌ باب فضل المنيحة)

حذف "باب" من رواية أبي ذر، و"المنيحة" بالنون والمهملة وزن عظيمة، هي في الأصل العطية، قال أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين:

أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له

والآخر: أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنًا ثم يردها.

والمراد بها في أول أحاديث الباب هنا عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد هي لصاحبها، وقال القزاز: قيل: لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة، والأول أعرف، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(36 -‌

‌ باب إذا قال: أخدمتك هذه الجارية. . .) إلخ

قال القسطلاني

(3)

: (على ما يتعارف الناس) أي: على عرفهم في صدور هذا القول منهم أو على عرفهم في كون الإخدام هبة أو عارية. (وقال بعض الناس): قال الكرماني: قيل: أراد به الحنفية. (هذه عارية) قال الحنفية: لأنه صريح في إعارة الاستخدام، وقال الكرماني أيضًا: قوله: (وإن قال: كسوتك. . .) إلخ، يحتمل أن تكون من تتمة قول الحنفية، ومقصود المؤلف منه أنهم تحكموا حيث قالوا: ذلك عارية وهذا هبة، ويحتمل أن يكون عطفًا على الترجمة.

(1)

(ص 174).

(2)

"فتح الباري"(5/ 243).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 75 - 76).

ص: 137

قال القسطلاني بعد ذكر الحديث: غرض المؤلف أن لفظ الإخدام للتمليك، وكذلك الكسوة، لكن قال ابن بطال: استدلاله بقوله: "فأخدمها هاجر" على الهبة لا يصح، وإنما صحت الهبة في هذه القصة من قوله:"فأعطوها هاجر".

قال في "فتح الباري": مراد البخاري أنه إن وجدت قرينة تدل على العرت حمل عليها، فإن كان جرى بين قوم عرف في تنزيل الإخدام منزلة الهبة فأطلقه شخص وقصد التمليك نفذ، ومن قال: هي عارية في كل حال فقد خالف، والله أعلم، انتهى.

قلت: ما أفاده الحافظ غاية توجيه لكلام البخاري وإلا فالظاهر أن ميل البخاري في ذلك خلاف الجمهور، وإلا فهل ترى إن جرى بين قوم عرف في تنزيل الكسوة منزلة العارية فهل يكفي حينئذ عارية اللباس في الكفارة؟

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: قوله: (قال بعض الناس. . .) إلخ، وأنت تعلم أنه أقر بنفسه في الترجمة أن المدار على العرف فلا يرد إيراده على الإمام لأنه رضي الله عنه إنما حكم على حسب عرفه والكسوة مستعملة في الهبة فكانت كذلك، انتهى.

وفي هامشه: كلام الشيخ رحمه الله تعالى مبني على ما هو المعروف بين الناس أن قول البخاري في "صحيحه": "قال بعض الناس" يكون ردًا على الحنفية، ولذا قال الكرماني: قيل: أراد به الحنفية، وقد عرفت فيما سبق مني في "كتاب الزكاة" في "باب الركاز" وهو أول المواضع التي قال فيها البخاري: قال بعض الناس: أن ما هو المعروف ليس بمطرد، فهذا الموضع الذي نحن بصدده لم يتفرد فيه الحنفية بل هي مسألة إجماعية.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: لا أعلم خلافًا أن من قال:

(1)

"لامع الدراري"(7/ 44).

(2)

"فتح الباري"(5/ 246).

(3)

(7/ 155).

ص: 138

أخدمتك هذه الجارية أنه قد وهب له الخدمة خاصة، فإن الإخدام لا يقتضي تمليك الرقبة، كما أن الإسكان لا يقتضي تمليك الدار، قال: واستدلاله بقوله: "فأخدمهما هاجر" على الهبة لا يصح، فذكر نحو ما تقدم في كلام القسطلاني، وقال أيضًا: ولم يختلف العلماء فيمن قال: كسوتك هذا الثوب مدة معينة أن له شرطه وإن لم يذكر أجلًا فهو هبة، وقد قال تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [إلى قوله]{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

: "باب إذا قال: أخدمتك. . ." إلخ، الظاهر أن المصنف لم يحكم في لفظ الإخدام بشيء، وتركه على العرف، فإن كان عرفهم أنه الهبة فهو هبة، وإن كان أنه العارية على ما تعارفوا، وقوله:"قال بعض الناس" المراد به ها هنا أبو حنيفة، وقد مرّ أن المصنف لا يريد به الردّ دائمًا، والأقرب أنه اختار تفصيل الإمام الأعظم؛ لأنه أيضًا فوّضه إلى العرف، ولما كان العرف في لفظ الخدمة أنه للعارية بخلاف الكسوة، ظهر وجه الفرق بينهما، وإنما قلنا: إنه وافقنا في المسألة؛ لأنه لو أراد الخلاف لأخرج حديثًا يؤيد مرامه، كما هو دأبه، وإن سلمناه فردّه ضعيف جدًا لوضوح الفرق بين اللفظين كما عرفت آنفًا، انتهى.

قلت: وأيضًا الفرق بينهما إجماعي كما تقدم، انتهى من هوامش "اللامع"

(2)

مختصرًا.

(37 -‌

‌ باب إذا حمل رجلًا على فرس. . .) إلخ

قال القسطلاني

(3)

: قوله: (فهو كالعمرى) أي: فحكمه كالعمرى في عدم الرجوع فيه، (وقال بعض الناس) أبو حنيفة رحمه الله:(له أن يرجع فيها) أي: في الفرس الذي حمله عليها ناويًا الهبة لأنه يجوز عنده الرجوع في الهبة للأجنبي، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(4/ 70 - 71).

(2)

"اللامع"(7/ 44 - 46).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 76 - 77).

ص: 139

وقال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: ما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله: هو لك، فهو كالصدقة، فإذا قبضها لم يجز الرجوع فيها، وما كان منه تحبيسًا في سبيل الله فهو كالوقف لا يجوز الرجوع فيه عند الجمهور، وعن أبي حنيفة أن الحبس باطل في كل شيء.

قال الحافظ: والذي يظهر أن الإمام البخاري أشار إلى الرد على من قال بجواز الرجوع في الهبة، ولوكانت للأجنبي، وإلا فقد قدمنا تقرير أن الحمل المذكور في قصة عمر كان تمليكًا، وأن قول من قال: كان تحبيسًا احتمال بعيد، انتهى.

والذي أشار إليه الحافظ بقوله: "قدمنا تقريره" هو ما ذكره في "باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته"، وتقدم اختلاف الأئمة في رجوع الوالد في "باب الهبة للولد" وتقدم الخلاف في العود في هبة الأجنبي في "باب هبة الرجل لامرأته"، انتهى من هامش "اللامع"

(3)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: قوله: "له أن يرجع فيها" ولا ريب في صدق مقالته تلك؛ لأنه إن كان عارية فهو أحق به من المعرى له، فلا يحظر من الرجوع، وإن سلم كونه هبة، فله أن يرجع فيها لجواز الرجوع في سائر الهبات، فكذا هذا، إذ لا فرق، والله تعالى أعلم، انتهى.

ثم البراعة فعند الحافظ رحمه الله في قوله: "ولا تعد في صدقتك".

وعندي في قوله: "كالعمرى" فإنه هدية إلى آخر العمر، ويمكن أيضًا في قوله:"في سبيل الله" فإن أصله الجهاد، وهو مذكِّر للموت، فافهم.

* * *

(1)

"فتح الباري"(5/ 247).

(2)

(7/ 156 - 157).

(3)

"اللامع"(7/ 46 - 47).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 46).

ص: 140

52 -

‌ كتاب الشهادات

قال الحافظ

(1)

: جمع شهادة، مصدر شهد يشهد، قال الجوهري: الشهادة خبر قاطع، والمشاهدة: المعاينة، مأخوذة من الشهود، أي: الحضور؛ لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره، وقيل: مأخوذ من الإعلام.

قال العيني

(2)

: يعني: بالشهادة الحضور، قال صلى الله عليه وسلم:"الغنيمة لمن شهد الوقعة" أي: حضرها، والشاهد أيضًا يحضر مجلس القاضي ومجلس الواقعة، ومعناها شرعًا: إخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان.

وفي "الفيض"

(3)

: قال الفقهاء: إثبات الحق على الغير يسمى دعوى، وإثبات حق الغير على نفسه يسمى إقرارًا، وإثبات حق الغير على الغير يسمى شهادةً، انتهى.

(1 -‌

‌ باب ما جاء في البيِّنة. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: كذا للأكثر، وسقط لبعضهم لفظ "باب"، ولم يسق في الباب حديثًا إما اكتفاء بالآيتين، وإما إشارة إلى الحديث الماضي قريبًا في ذلك في آخر "باب الرهن"

(5)

، وستأتي ترجمة الشق الآخر وهي "اليمين على المدعى عليه" قريبًا، قال ابن المنيِّر

(6)

: وجه الاستدلال بالآية للترجمة أن المدعي لو كان القول قوله لم يحتج إلى الإِشهاد ولا إلى كتابة الحقوق وإِملائها، فالأمر بذلك يدل على الحاجة إليه، ويتضمن أن البينة على

(1)

"فتح الباري"(5/ 247).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 469).

(3)

"فيض الباري"(4/ 72).

(4)

"فتح الباري"(5/ 248).

(5)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2514).

(6)

"المتواري"(ص 308).

ص: 141

المدعي، ولأن الله حين أمر الذي عليه الحق بالإملاء اقتضى تصديقه في ما أقر به، وإذا كان مصدقًا فالبيِّنة على من ادعى تكذيبه، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

تحت الآية الثانية: ودلالته على الترجمة من حيث إن المذكور في الآية الشهادة ولو على الوالدين والأقربين، والشهادة عليهم تقتضي كونهم مدعى عليهم، فلزم بذلك أن البينة على المدعي دون المدعى عليه، انتهى.

(2 -‌

‌ باب إذا عدّل رجل أحدًا فقال: لا نعلم إلا خيرًا. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: دفع بذلك ما يتوهم أن هذا اللفظ ليس فيه تصريح بتزكيته بحسب الواقع وإنما هو إخبار عن علمه.

وحاصل الدفع أن المرء لا يخبر إلا عن علمه، فلو لم يصرِّح في الشهادة بهذا القيد لكان المراد هو الإخبار عن علمه أيضًا لا عن الواقع، إذ لا وقوف عليه، انتهى.

وفي هامشه: أبدع الشيخ قُدِّس سرُّه في مرام البخاري وأجاد، وأشار الإمام البخاري بذلك إلى مسألة خلافية شهيرة وهي ما قال الحافظان ابن حجر والعيني عن ابن بطال أنه قال

(3)

: حكى الطحاوي عن أبي يوسف: إذا قال ذلك قبلت شهادته، واحتج بحديث الإفك، وعن محمد: لا بد أن يقول المعدل: هو عدل جائز الشهادة، والأصح أنه يكتفي بقوله: هو عدل، وأنكر مالك أن يكون ذلك تزكية حتى يقول: رضي، أي: بالقصر، وقال الشافعي: حتى يقول: عدل، وفي قول: عدل عليّ ولي، وفي "التوضيح": الأصح عندنا - يعني الشافعية - أنه يكفي أن يقول: هو عدل، ولا يشترط

(1)

"لامع الدراري"(7/ 50).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 50 - 51).

(3)

(8/ 6).

ص: 142

عليّ ولي، ثم لا يقبله حسى يسأله عن معرفته، ولا بد من معرفة المزكي حاله الباطنة فإن كان يعرفها يقبل، وإلا لا، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

و"العيني"

(2)

.

وفي "الهداية"

(3)

: قيل: لا بد أن يقول المعدل: هو حر عدل جائز الشهادة؛ لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفي بقوله: عدل؛ لأن الحرية ثابتة بالدار، وهذا أصح، انتهى.

ثم قال الحافظ: لم يبت البخاري الحكم في الترجمة، بل أوردها مورد السؤال لقوة الخلاف فيها، انتهى.

قلت: وظاهر ميل البخاري إلى ما حكى الطحاوي عن أبي يوسف إذ أورد في الباب حديث الإفك، وموضع الترجمة منه قول أسامة:"أهلك ولا نعلم إلا خيرًا"، انتهى.

(3 -‌

‌ باب شهادة المختبئ)

بالخاء المعجمة والموحدة، أي: الذي يختفي عند تحمل الشهادة. (وأجازه) أي: الاختباء عند تحملها.

قوله: (وكذلك يفعل بالكاذب) كأنه أشار إلى السبب في قبول شهادته، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في الجديد إذا عاين المشهود عليه، وقال أبو حنيفة: لا، انتهى من "الفتح"

(4)

و"القسطلاني"

(5)

.

قال العيني

(6)

: وروي عن شريح والشعبي والنخعي أنهم كانوا لا يجيزون شهادة المختبئ، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختفى ممن يشهد عليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في القديم، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 249).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 472 - 473).

(3)

"الهداية"(5/ 425).

(4)

"فتح الباري"(5/ 250).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 83).

(6)

"عمدة القاري"(9/ 474).

ص: 143

وفي "المغني"

(1)

: وروي عن أحمد رواية أخرى: لا تسمع شهادته، وقال مالك: إن كان المشهود عليه ضعيفًا ينخدع لا يقبل وإلا قبلت، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

تحت الباب: يعني بذلك: من اكتفى بالسمع ولم يشترط الرؤية أورد فيه روايات لا تدل على ما ادعاه، وأما قول الحسن فمع أنه لا يلزم تسليم قوله يمكن أنه شهد القصة ورآها، وإن لم يشهدوه عليها، وليس فيه تصريح بأنه لم ير القصة حتى يتم ما ادعاه، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تركته بين" لا حجة لهم فيه؛ لأنه كان يرى ابن صياد والرؤية هي المناط وكانت حاصلة، فنقول: لو أن المختبئ رأى من الداخل من يتكلم ولو لم يشافهه ولم يواجهه بحيث يبصر كل منهما صاحبه جازت الشهادة لارتفاع علة المنع وهو ما في الأصوات من اختلاط واشتباه، انتهى.

(4 -‌

‌ باب إذا شهد شاهد بشيء فقال آخرون: ما علمنا ذلك)

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: أراد بالشهادة أعم منها ومن الإخبار فصح إيراد حديث الفضل في هذا الباب، ودلالة الرواية عليه ظاهرة، فإنه اعتبر إخبار المرأة السوداء وإثباتها الرضاع ولم يعتبر إخبار النافي وإن كان اعتبار إخبارها في التقوى دون الفتوى، ولا يضر ذلك لأن قوله في الترجمة يحكم بقول من شهد أعم من الحكم الواجب والمبني على الاحتياط، انتهى.

وفي هامشه: قد تقدم هذا في باب العشر، وأن المثبت مقدم على النافي، وهو وفاق من أهل العلم إلا من شذ، ولا سيما إذا لم يتعرض إلا

(1)

"المغني"(14/ 211 - 212).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 52 - 53).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 55).

ص: 144

لنفي علمه، وأشار إلى ذلك بقوله:"وكذلك إن شهد شاهدان. . ." إلخ، وقد اعترض بأن الشهادتين اتفقتا على الألف وانفردت إحداهما بالخمسمائة، والجواب أن سكوت الأخرى عن خمسمائة في حكم نفيها، انتهى.

وتعقب العيني على قول الحافظ: وهو وفاق من أهل العلم إذ قال: فيه خلاف، فقال الكرخي: المثبت أولى من النافي، وقال عيسى بن أبان: يتعارض المثبت والنافي فلا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل مرجح. . .، إلى آخر ما قال، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

قوله: (هذا كما أخبر بلال. . .) إلخ، قال القسطلاني

(2)

: وإِطلاق الشهادة على إِخبار بلال تجوز.

وقال الكرماني

(3)

: فإن قلت: ليس هذا من باب ما علمنا، بل هما متنافيان لأن أحدهما قال: صلى، والآخر قال: لم يصل؟ وأجاب: بأن قوله: "لم يصل" معناه أنه ما علم أنه صلى، قال: ولعل الفضل كان مشتغلًا بالدعاء ونحوه فلم يره صلى فنفاه عملًا بظنه، انتهى.

(5 -‌

‌ باب الشهداء العدول. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: أي: بحسب ما يبدو لنا من أحوالهم وبذلك ينطبق الحديث بالترجمة، انتهى.

وفي هامشه

(5)

: كما هو نص قول عمر، ومعناه ثابت مرفوعًا كما سيأتي في "البخاري" في "باب بعث علي وخالد إلى اليمن" إذ قال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم

(1)

"اللامع"(7/ 54).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 87).

(3)

"شرح الكرماني"(11/ 162 - 163).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 55).

(5)

"اللامع"(7/ 55 - 56).

ص: 145

أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" الحديث، وما أفاده الشيخ رحمه الله هو الظاهر من غرض الترجمة لأنه ليس في الحديث ما يدل على مصداق العدل.

وبسط العلَّامة العيني الأقوال في تفسيره، والأوجه عندي: أن ميل الإمام البخاري في ذلك إلى قول الإمام أبي حنيفة، ففي "الهداية"

(1)

: قال أبو حنيفة: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا في قذف" ولأن الظاهر هو الانزجار عمّا ما هو محرم دينه وبالظاهر كفاية إذ لا وصول إلى القطع إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود؛ لأنه يحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها، وقال صاحباه: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق؛ لأن القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول فيتعرف عن العدالة، وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، والفتوى على قولهما في هذا الزمان، انتهى مختصرًا.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(2)

، وعنه في هامش "اللامع"

(3)

وفيه من رواية "الموطأ" في قصة وفي آخرها: قال عمر رضي الله تعالى عنه: "والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول" قال الباجي

(4)

: معناه لا يؤسر إلا بالصحابة الذين جميعهم عدول أو بالعدل من غيرهم، فمن لم يكن من الصحابة ولم تعرف عدالته لم تقبل شهادته وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: مجرد الإسلام يقتضي العدالة حتى يعرف فسقه، انتهى.

(1)

"الهداية"(5/ 423 - 424).

(2)

"أوجز المسالك"(13/ 567 - 570).

(3)

"اللامع"(7/ 56).

(4)

"المنتقى"(5/ 191).

ص: 146

(6 -‌

‌ باب تعديل كم يجوز

؟)

أي: هل يشترط في قبول التعديل عدد معين؟ أورد فيه حديثي أنس وعمر في ثناء الناس بالخير والشر، وفيهما قوله عليه الصلاة والسلام "وجبت" قال ابن بطال

(1)

: فيه إشارة إلى الاكتفاء لتعديل واحد، وفيه غموض، وكأن وجهه أن في قوله:"ثم لم نسأله عن الواحد" إشعارًا بعيدًا بأنهم كانوا يعتمدون قول الواحد في ذلك لكنهم لم يسألوا عن حكمه في ذلك المقام، وسيأتي للمصنف بعد أبواب التصريح بالاكتفاء في التزكية بواحد

(2)

، وكأنه لم يصرِّح به ها هنا لما فيه من الاحتمال، انتهى مختصرًا.

قلت: ولا يبعد عندي أن الإمام البخاري أشار بالترجمتين إلى المذهبين، قال الكرماني

(3)

: قال ابن بطال: اختلفوا في عدد المعدلين، فقال مالك والشافعي: لا يقبل في الجرح والتعديل أقل من رجلين، وبه قال أحمد كما في "المغني"

(4)

، وقال أبو حنيفة: يقبل تعديل الواحد وجرحه، وذكر العيني

(5)

أبا يوسف مع أبي حنيفة، ومحمدًا مع الشافعي، فالظاهر أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى المذهب الأول، وبالآتية وهي "باب إذا زكّى رجل رجلًا. . ." إلخ، إلى المذهب الثاني، وميل الإمام البخاري إلى المذهب الثاني لأنه صرَّح فيها بالحكم بكفاية تعديل الواحد ولم يصرِّح ها هنا بالحكم، انتهى من هامش "اللامع"

(6)

، وذكر القسطلاني

(7)

مالكًا وصاحبا أبي حنيفة مع الشافعي.

وكتب الشيخ رحمه الله في "اللامع"

(8)

: ودلالة الرواية على الترجمة

(1)

(8/ 26).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2662).

(3)

"شرح الكرماني"(11/ 164).

(4)

"المغني"(14/ 47).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 483).

(6)

"اللامع"(7/ 57).

(7)

"إرشاد الساري"(6/ 90).

(8)

"لامع الدراري"(7/ 57).

ص: 147

بحسب إطلاقها وعدم تقييدها بعدد دون عدد، فإنها تدل بإطلاقها على الاكتفاء بتعديل واحد من المؤمنين أيضًا، انتهى.

(7 -‌

‌ باب الشهادة على الأنساب. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك: أنه يجوز له الشهادة بما فاض واشتهر من الأخبار، وإن لم يشهد القصة بنفسه؛ كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بإرضاع ثويبة أبا سلمة وإياه، مع أنه لم يذكر إرضاعها إياهما بنفسه النفيسة، انتهى.

وفي هامشه

(2)

قال الكرماني

(3)

: قال ابن بطال: مقصود هذا الباب أن ما صح من الأنساب والموت والرضاع بالاستفاضة وثبت في النفوس لا يحتاج فيه إلى معرفة الشهود ولا إلى عددهم، ألا ترى أن الرضاع الذي كان في الجاهلية وكان مستفيضًا معلومًا عندهم ثبت به الحرمة في الإسلام، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة، وذكر منها النسب والرضاعة والموت القديم، فأما النسب فيستفاد من أحاديث الرضاعة فإنه من لازمه وقد نقل فيه الإجماع، وأما الرضاعة فيستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب فإنها كانت في الجاهلية وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له، وأما الموت القديم فيستفاد منه حكمه بالإلحاق، قاله ابن المنيِّر، واحترز بالقديم عن الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزمان عليه، وحدَّه بعض المالكية بخمسين سنة، وقيل: بأربعين، انتهى.

ومسألة الباب خلافية، قال العيني

(5)

: يجوز عند مالك والشافعي والكوفيين الشهادة بالسماع المستفيض في النسب والموت القديم والنكاح،

(1)

"لامع الدراري"(7/ 58).

(2)

"اللامع"(7/ 58 - 59).

(3)

"شرح الكرماني"(11/ 168).

(4)

"فتح الباري"(5/ 254).

(5)

"عمدة القاري"(9/ 484).

ص: 148

وقال الطحاوي: إن شهادة السماع يجوز في النكاح دون الطلاق، ويجوز عند مالك والشافعي الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعي الثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين، وقال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين ونحوها إلا مما يكثر من السنين وهو بمنزلة سماع الولاء، وقال ابن القاسم: شهادة السماع إنما هي من أتت عليه أربعون سنة أو خمسون، انتهى.

(8 -‌

‌ باب شهادة القاذف والسارق والزاني. . .) إلخ

قال العيني

(1)

: القاذف هو الذي يقذف أحدًا بالزنا، وأصل القذف الرمي، ولم يصرِّح بالجواب لمكان الخلاف فيه، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: أي: هل تقبل بعد توبتهم أم لا؟ انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: قوله: {إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] أي: أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف فإن شهادتهم مقبولة؛ لأن الله تعالى استثنى التائبين عقب النهي عن قبول شهادتهم، وقال الحنفية: ذكره بالتأبيد يدل على أنها لا تقبل بعد استيفاء الحد لكل حال والاستثناء منصرف إلى ما يليه وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، وقالوا: الاستثناء منقطع لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إذ التوبة تجبُّ ما قبلها من الذنوب فلا يكون التائب فاسقًا، وأما الشهادة فلا تقبل أبدًا لأن ردها من تتمة الحد لأنه يصلح جزاء فيكون مشاركًا للأول في كونه حدًّا، وقوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لا يصلح أن يكون جزاء لأنه ليس بخطاب للأئمة بل إِخبار عن صفة قائمة بالقاذفين، فلا يصلح أن يكون من تمام الحدِّ. . .، إلى آخر ما قال.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 491).

(2)

"فتح الباري"(5/ 255).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 96).

ص: 149

قال الحافظ

(1)

: وهذا الاستثناء عمدة من أجاز شهادته إذا تاب، وبهذا قال الجمهور: إن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل، ويزول عنه اسم الفسق سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، وتأولوا قوله تعالى:{أَبَدًا} على أن المراد ما دام مصرًا على قذفه؛ لأن أبد كل شيء على ما يليق به، وبالغ الشعبي فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحد سقط عنه، وذهب الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة، وقال بذلك بعض التابعين، وفيه مذهب آخر يقبل بعد الحد لا قبله، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: وقد بحث في الأصول أن الاستثناء إذا وقع بعد عدة أمور، هل يرجع إلى الأقرب، أو إلى الجميع؟ فليراجع، انتهى.

وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه الكلام عليه في "اللامع"

(3)

أشد البسط.

وفي هامشه: هذه مسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"

(4)

وهي قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، قال الموفق

(5)

: تقبل شهادته عندنا ومالك والشافعي وإسحاق وجماعة ذكر أسماءهم في "الأوجز". . .، إلى آخر ما فيه.

وقال الحافظ

(6)

: جمع البخاري في الترجمة بين السارق والقاذف للإِشارة إلى أنه لا فرق في قبول التوبة منهما، وإلا فقد نقل الطحاوي الإجماع على قبول شهادة السارق إذا تاب، نعم ذهب الأوزاعي إلى أن المحدود في الخمر لا تقبل شهادته وإن تاب، ووافقه الحسن بن صالح، وخالفهما في ذلك جميع فقهاء الأمصار، انتهى.

قوله: (وقال بعض الناس) هذا منقول عن الحنفية، واحتجوا في رد

(1)

"فتح الباري"(5/ 255 - 256).

(2)

"فيض الباري"(4/ 79).

(3)

انظر: "لامع الدراري"(7/ 60 - 74).

(4)

"أوجز المسالك"(13/ 574 - 577).

(5)

"المغني"(4/ 188).

(6)

"فتح الباري"(5/ 258).

ص: 150

شهادة المحدود بأحاديث، قال الحافظ: لا يصح منها شيء، "ثم قال" أي: بعض الناس الذي أشار إليه، وهو منقول عن الحنفية أيضًا، واعتذروا بأن الغرض شهرة النكاح، وذلك حاصل بالعدل وغيره عند التحمل، أما عند الأداء فلا يقبل إلا العدل.

قوله: (وأجاز شهادة العبد. . .) إلخ، هو منقول عنهم أيضًا واعتذروا بأنها جارية مجرى الخبر لا الشهادة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وتعقب العلَّامة العيني

(2)

على قول الحافظ، فارجع إليه لو شئت.

وفي "الفيض"

(3)

: وحاصله أن الإمام أبا حنيفة ردّ أولًا شهادة المحدود، ثم ناقضه واعتبرها في النكاح. قلت: ليس الأمر كما فهم المصنف، فإن الإمام ردّها للثبوت، وقبلها للانعقاد، وبينهما فرق لا يخفى. . .، إلى آخر ما أوضح الفرق، فارجع إليه.

قوله: (وكيف تعرف توبته؟) أي: القاذف، وهذا من كلام المصنف، وهو من تمام الترجمة، وكأنه أشار إلى اختلاف في ذلك، فعن أكثر السلف: لا بد أن يكذب نفسه، وبه قال الشافعي، وعن مالك: إذا ازداد خيرًا كفاه، ولا يتوقف على تكذيب نفسه لجواز أن يكون صادقًا في نفس الأمر، وإلى هذا مال المصنف، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وبسط الكلام على هذا الباب في "اللامع" وهامشه أشد البسط، فارجع إليه لو شئت التفصيل.

(9 -‌

‌ باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد)

ذكر فيه حديث النعمان بن بشير في قصة هبة أبيه له، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُشْهِدْني على جَور" وقوله في الترجمة: "إذا أشهد" يؤخذ منه أنه لا يشهد

(1)

"فتح الباري"(5/ 257).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 496).

(3)

"فيض الباري"(4/ 80).

(4)

"فتح الباري"(5/ 257 - 258).

ص: 151

على جور إذا لم يشهد بطريق الأولى، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

على مناسبة أحاديث الباب بالترجمة.

(10 -‌

‌ باب ما قيل في شهادة الزور)

أي: من التغليظ والوعيد، وقوله:(لقول الله عز وجل:. . .) إلخ، أشار إلى أن الآية سيقت في ذم متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار منه لأحد ما قيل في تفسيرها، ثم ذكر الحافظ

(3)

بعض الأقوال في تفسيرها.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: دلالة الحديثين على أحد جزئي الترجمة واضحة ولا يظهر دلالتهما على جزئها الثاني وهو كتمان الشهادة، والجواب: أن شهادة الزور وهو الكذب فيها مستلزم لكتمان الشهادة في حق غير المشهود له، فالترجمة ثابتة بكلا جزئيها من غير تكلف، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ وجيه لطيف جدًّا، وإلى الجواب عن هذا الإشكال أشار الحافظ بقوله: قوله: "تلووا ألسنتكم بالشهادة" هو تفسير ابن عباس أخرجه الطبري عنه في قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] أي: تلووا ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها، ومن طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها، والإعراض عنها الترك، وكأن المصنف أشار بنظم كتمان الشهادة مع شهادة الزور إلى هذا الأثر وإلى تحريم شهادة الزور لكونها سببًا لإبطال الحق، فكتمان الشهادة أيضًا سبب لإبطال الحق، وإلى الحديث الذي أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود مرفوعًا:"إن بين يدي الساعة" فذكر أشياء ثم قال: "وظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق"، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 259).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 76 - 79).

(3)

"فتح الباري"(5/ 261).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 81).

(5)

"فتح الباري"(5/ 262).

ص: 152

(11 -‌

‌ باب شهاة الأعمى وأمره ونكاحه. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: مال المصنف إلى إجازة شهادة الأعمى، فأشار إلى الاستدلال لذلك بما ذكر من جواز نكاحه ومبايعته وقبول تأذينه، وهو قول مالك والليث، سواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، وفصل الجمهور فأجازوا ما تحمله قبل العمى لا بعده، وكذا ما يتنزل فيه منزلة المبصر؛ كأن يشهده شخص بشيء ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه، وعن الحكم: يجوز في الشيء اليسير دون الكثير، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادته بحال إلا في ما طريقه الاستفاضة، وليس في جميع ما استدل به المصنف دفع للمذهب المفصل إذ لا مانع من حمل المطلق على المقيد، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: لا تقبل شهاة الأعمى، وقال زفر - وهو رواية عن أبي حنيفة -: تقبل فيما يجري فيه التسامع، وقال أبو يوسف والشافعي: يجوز إذا كان بصيرًا وقت التحمل، انتهى مختصرًا.

قال الموفق

(3)

: تجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقبل شهادته؛ وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة، وإذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه، ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم، فشهد عليه، ولم يجزها في غير ذلك؛ لأن الأصوات تشتبه فلا يحصل اليقين. . .، إلى آخر ما بسطه.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: الترجمة مبنية على عدم الفرق بين الشهادة والإخبار أو على قياس أحدهما على الآخر، والجامع بناء كل منهما على العلم بالواقعة، وأنت تعلم أن في الشهادة زيادة تأكد على الإخبار، فلذلك لم نجوِّز شهادته وإن قبل إخباره، والجواب عن كل

(1)

"فتح الباري"(5/ 264).

(2)

"الهداية"(5/ 434 - 435).

(3)

"المغني"(14/ 178 - 179).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 82 - 84).

ص: 153

ما أورده المؤلف يسير، فأما من ذكره من التابعين فلا معتبر بهم، وأما رد شهادة ابن عباس فلا استحالة فيه، ألا ترى مسروقًا رد شهادة الحسن لأبيه علي رضي الله تعالى عنهم، فلا يبعد أن يرد شهادة ابن عباس لعارض عدم اطلاعه حق الاطلاع على القضية، وإن كان ممن يهتدى به ويقتدى، انتهى.

وبسط الكلام على الباب في "اللامع" وهامشه أشد البسط فارجع إليه.

(12 -‌

‌ باب شهادة النساء)

قال ابن المنذر: أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال وقالوا: لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء، فمنعها الجمهور وأجازها الكوفيون، قال: واتفقوا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء، واختلفوا في الرضاع كما سيأتي في الباب الذي بعده، وهذا التفصيل لا ينافي الترجمة لأنها معقودة لإثبات شهادتهن في الجملة، واختلفوا في ما لا يطلع عليه الرجال هل يكفي فيه قول المرأة وحدها أم لا؟ فعند الجمهور لا بد من أربع، وعن مالك: يكفي شهادة اثنتين، وعن الشعبي والثوري: تجوز شهادتها وحدها في ذلك وهو قول الحنفية، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(13 -‌

‌ باب شهادة الإماء والعبيد)

أي: في حال الرق، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تقبل مطلقًا، وقالت طائفة: تقبل مطلقًا، وقد نقل المصنف بعض ذلك وهو قول أحمد وإسحاق: وقيل: تقبل في الشيء اليسير، وهو قول الشعبي والنخعي وغيرهما، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 266).

(2)

"فتح الباري"(5/ 267).

ص: 154

وقال القسطلاني

(1)

: واتفقت الأئمة الثلاثة على عدم قبول شهادة العبد مطلقًا؛ لأنه ناقص الحال قليل المبالاة فلا يصلح لهذه الأمانة، وقال الحنابلة: تقبل شهادة عبد حتى في حد وقود نصًا، وعنه: لا تقبل فيهما وهي أشهر، انتهى.

قلت: وظاهر ميل البخاري إلى مذهب الحنابلة، وهو القبول مطلقًا.

(14 -‌

‌ باب شهادة المرضعة)

ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث في قصة المرأة التي أخبرته أنها أرضعته وأرضعت امرأته، وتقدم في الباب الذي قبله أيضًا، واحتج به مَنْ قَبِل شهادة المرضعة وحدها، قال علي بن سعد: سمعت أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث، وهو قول الأوزاعي، وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة؛ لأنها شهادة على فعل نفسها. . .، إلى آخر ما في "الفتح"

(2)

.

وفي هامش "الكوكب الدري"

(3)

: واختلف الناس في عدد من يقبل شهادتها في الرضاع، فروي عن ابن عباس أنه قال: شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضعة، ويستحلف مع شهادتها، وبه قال أحمد بن حنبل، واشترط اليمين، وقال عطاء: لا يجوز في ذلك أقل من أربع نسوة، وإليه ذهب الشافعي، وقال مالك: يجوز شهادة امرأتين، كذا في "البذل"

(4)

مختصرًا.

وأما عند الحنفية ففي "الدر المختار"

(5)

: الرضاع حجته حجة المال، وهي شهادة عدلين أو عدل وعدلتين، ولا تقع الفرقة إلا بتفريق القاضي،

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 112).

(2)

"فتح الباري"(5/ 268 - 269).

(3)

"الكوكب الدري"(2/ 249 - 250).

(4)

"بذل المجهود"(11/ 332).

(5)

"رد المحتار"(4/ 420).

ص: 155

قال ابن عابدين: أفاد أنه لا يثبت بخبر الواحد امرأة كان أو رجلًا قبل العقد أو بعده، وبه صرَّح في "الكافي" ثم حكى ابن عابدين اختلاف المشايخ في ذلك، انتهى.

قال القسطلاني

(1)

: احتج بالحديث من قبل شهادة المرضعة وحدها، وأجاب الجمهور بحمل النهي في قوله:"فنهاه عنها" على التنزيه، والأمر في قوله:"دعها عنك" على الإرشاد، انتهى.

(15 -‌

‌ باب تعديل النساء بعضهن بعضًا)

قال الحافظ

(2)

: كذا للأكثر، زاد أبو ذر قبله "حديث الإفك" ثم قال:"باب. . ." إلخ. قلت: وهكذا في النسخة الهندية، وقال أيضًا: ساق المصنف فيه حديث الإفك بطوله، والغرض منه هنا سؤاله صلى الله عليه وسلم بريرة عن حال عائشة وجوابها ببراءتها واعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على قولها حتى خطب فاستعذر من عبد الله بن أُبي، وكذلك سؤاله من زينب بنت جحش عن حال عائشة وجوابها ببراءتها أيضًا، وقول عائشة في حق زينب:"هي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع"، ففي مجموع ذلك مراد الترجمة.

قال ابن بطال

(3)

: فيه حجة لأبي حنيفة في جواز تعديل النساء، وبه قال أبو يوسف، ووافق محمد الجمهور، قال الطحاوي: التزكية خبر وليست شهادة فلا مانع من القبول. وفي الترجمة إشارة إلى قول ثالث وهو أن تقبل تزكيتهن لبعضهن لا للرجال؛ لأن من منع ذلك اعتل بنقصان المرأة عن معرفة وجوه التزكية لا سيما في حق الرجال. وقال ابن بطال: لو قيل إنه تقبل تزكيتهن بقول حسن وثناء جميل يكون إبراء من سوء لكان حسنًا كما في قصة الإفك، ولا يلزم منه قبول تزكيتهن في شهادة توجب أخذ مال، والجمهور على جواز قبولهن مع الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 114).

(2)

"فتح الباري"(5/ 272 - 273).

(3)

(8/ 39).

ص: 156

وفي "المغني"

(1)

: لا يقبل الجرح والتعديل من النساء، قال أبو حنيفة: يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة، فاشتبه الرواية، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: لأبي حنيفة أن التزكية في معنى الشهادة، فيشترط فيه العدد كما يشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي في الحدود والقصاص. . .، إلى آخر ما قال، ثم ذكر في هامش "اللامع"

(3)

ها هنا أبحاث مما يتعلق بشرح حديث الإفك هذا، فارجع إليه.

(16 -‌

‌ باب إذا زكى رجل رجلًا كفاه. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: ترجم في أوائل الشهادات "تعديل كم يجوز؟ " فتوقف هناك، وجزم هنا بالاكتفاء بالواحد، وقد قدمت توجيهه هناك، واختلف السلف في اشتراط العدد في التزكية، كما تقدم في الباب المذكور، فارجع إليه.

(17 -‌

‌ باب ما يكره من الإطناب في المدح. . .) إلخ

قال القسطلاني

(5)

: قوله: (وليقل) أي: المادح في الممدوح (ما يعلم) ولا يتجاوزه، ثم قال بعد ذكر الحديث: ولم يأت المؤلف بما يدل لجزء الترجمة الأخير، ويحتمل أن يقال: إن الذي يطنب لا بد أن يقول ما لا يعلم، أو أن حديثي أبي بكرة وأبي موسى متحدان، وقد قال في حديث أبي بكرة: إن كان يعلم ذلك منه، ولا كراهة في مدح الرجل الرجل في وجهه إنما المكروه الإطناب، انتهى.

(18 -‌

‌ باب بلوغ الصبيان وشهادتهم)

أي: حدّ بلوغهم وحكم شهادتهم هل هي معتبرة أم لا؟

(1)

"المغني"(14/ 50).

(2)

"الهداية"(5/ 426).

(3)

"اللامع"(7/ 95 - 97).

(4)

"فتح الباري"(5/ 274).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 132).

ص: 157

وقوله: (وبلوغ النساء) بجر بلوغ عطفًا على قوله: "بلوغ الصبيان" وهو من الترجمة، والذي في الفرع الرفع مبتدأ وخبره قوله:"في الحيض". وقد أجمعوا على أن الحيض بلوغ في حق النساء، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

قال ابن بطال: أجمع العلماء أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي يلزم به العبادات وغيرها، واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضه من النساء، فقال أحمد وإسحاق ومالك: الإنبات، أو أن يبلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ، وقال ابن القاسم: وذلك سبع عشر سنة أو ثمان عشر، وفي النساء هذه الأوصاف أو الحبل، إلا أن مالكًا لا يقيم الحد بالإنبات ما لم يحتلم أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم، فيكون عليه الحد، وأما أبو حنيفة فلم يعتبر الإنبات، وقال: حد البلوغ في الجارية سبع عشرة، وفي الغلام تسع عشرة، وفي رواية: ثماني عشرة وهو قول الثوري، ومذهب الشافعي: أن الإنبات علامة بلوغ الكافر لا المسلم، واعتبر خمس عشرة سنة في الذكور والإناث، وبه قال أبو يوسف ومحمد، انتهى من "العيني"

(2)

.

ونقل عن شيخنا الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في تذكرته "تذكرة الرشيد": أن الإنبات يعتبر عند الضرورة، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: وأما شهادة الصبيان فردها الجمهور، واعتبرها مالك في جراحاتهم بشرط أن يضبط أول قولهم قبل أن يتفرقوا، وقبل الجمهور أخبارهم إذا انضمت إليها قرينة، انتهى.

وفي "العيني"

(4)

: اختلفوا في شهادة الصبيان، فعن النخعي: تجوز شهادة بعضهم على بعض، وعن علي وشريح وغيرهما مثله، وقالت طائفة:

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 133).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 534 - 535).

(3)

"فتح الباري"(5/ 277).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 535).

ص: 158

لا يجوز شهادتهم، روي هذا عن الكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، وذكر مذهب مالك نحو ما تقدم، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(1)

.

وذكر فيه عن أحمد ثلاث روايات: مثل الجمهور، والثانية مثل مالك، والثالثة تقبل إذا كان ابن عشر.

ثم قال الحافظ

(2)

: قد اعترض بأنه ترجم بشهادتهم وليس في حديثي الباب ما يصرَّح بها، وأجيب بأنه مأخوذ من الاتفاق على أن من حكم ببلوغه قبلت شهادته إذا اتصف بشرط القبول، ويرشد إليه قول عمر بن عبد العزيز:"إنه لحد بين الصغير والكبير"، انتهى.

وأجاب عنه العيني

(3)

: بأنه ترجم بها، ولكنه لم يظفر بشيء من ذلك على شرطه، وقال الكرماني

(4)

: استفاد الشهادة من القياس على سائر الأحكام من حيث الإجازة للصبي ولا غسل عليه، انتهى مختصرًا.

(19 -‌

‌ باب سؤال الحاكم المدعي: هل لك بيِّنة؟. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: قوله في الترجمة: "قبل اليمين" أي: قبل يمين المدعى عليه، وهو المطابق للترجمة ولا يصح حمله على المدعي بأن يطلب منه الحاكم يمين الاستظهار بأن بيِّنته شهدت له بحق؛ لأنه ليس في حديث الأشعث تعرض لذلك، بل فيه ما قد يتمسك به في أن يمين الاستظهار غير واجبة، انتهى.

(20 -‌

‌ باب اليمين على المدعى عليه. . .) إلخ

أي: دون المدعي، ويستلزم ذلك شيئين: أحدهما: أن لا تجب يمين الاستظهار، والثاني: أن لا يصح القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي،

(1)

"اللامع"(7/ 99 - 100).

(2)

"فتح الباري"(5/ 277).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 539).

(4)

"شرح الكرماني"(11/ 196).

(5)

"فتح الباري"(5/ 280).

ص: 159

واستشهاد المصنف بقصة ابن شبرمة يشير إلى أنه أراد الثاني، وقوله:"في الأموال والحدود" يشير بذلك إلى الرد على الكوفيين في تخصيصهم اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود، انتهى.

فهذه ثلاث مسائل.

وها هنا مسألة أخرى أيضًا خلافية، وهي رد اليمين على المدعي، فهذه أربع مسائل مناسبة للباب، أراد المصنف بيان الاثنين منها وهي المسألة الثانية والثالثة.

أما الأولى منهما وهي مسألة القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي، ففي "الأوجز"

(1)

عن "المغني"

(2)

: أكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والشافعي، وقال النخعي وأصحاب الرأي: لا يقضى بشاهد واحد ويمين، وقال محمد بن الحسن: من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه، انتهى.

قلت: وميل البخاري إلى مسلك الحنفية، واستدل عليه بالحصر في قوله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه" وبقصة ابن شبرمة، وبحديث ابن عباس.

وأما المسألة الثانية منهما وهي التي أشار إليها بقوله: "في الأموال والحدود"، قال الحافظ: يشير بذلك إلى الرد على الكوفيين في تخصيصهم اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنكاح ونحوه، واستثنى مالك النكاح والطلاق. . .، إلى آخر ما قال.

قلت: نسبة ذلك إلى الجمهور بعيد من مثل الحافظ قُدِّس سره، فقد بسط الخلاف فيه في "الأوجز" وهامش "اللامع"

(3)

عن الموفق وغيره، وفي

(1)

"أوجز المسالك"(13/ 585 - 588).

(2)

"المغني"(14/ 130).

(3)

"اللامع"(7/ 101 - 102).

ص: 160

آخره: وقد عرفت من ذلك أن الإمامين مالكًا وأحمد أيضًا خصاه بالأموال دون الحدود، فلم يبق من الأئمة الأربعة إلا الإمام الشافعي وحده، وأما مالك وأحمد فهما مع الحنفية في هذه المسألة، فتدبر.

وأما المسألة الأولى والرابعة فسيأتي الكلام عليهما في الباب الآتي.

(باب)

بغير ترجمة، قال القسطلاني

(1)

: باب من غير ترجمة وهو ساقط عند أبوي ذر والوقت، ولم يتعرض الحافظ لهذا الباب في "الفتح" وهو موجود في متن "الفتح"، قال العيني

(2)

: قد مرَّ غير مرة أن الباب إذا كان مجردًا يكون كالفصل من الباب الذي قبله، انتهى.

ومع ذلك لم يتعرض العيني لغرض الباب، وقال القسطلاني

(3)

بعد ذكر الحديث: استدل بهذا الحصر على رد القضاء بالشاهد واليمين، فجعل القسطلاني هذا الحديث المذكور في الباب المجرد مطابقًا بالباب السابق.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف - عفا الله عنه -: أن مسألة القضاء بشاهد ويمين تقدمت كالنص في الباب السابق، ولما فصل المصنف هذا الحديث بباب بلا ترجمة فينبغي أن يحمل هذا الباب على المسألتين الباقيتين من المسائل الأربعة المذكورة في الباب السابق، وهي المسألة الأولى والرابعة، فأشار الإمام البخاري بهذا الباب إلى هاتين المسألتين، أما المسألة الرابعة فأثبتها بالحصر في قوله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه" فإنه صلى الله عليه وسلم جعل اليمين نصيب المدعى عليه، قال صاحب "الهداية"

(4)

: ولا ترد اليمين على المدعي، لقوله عليه الصلاة والسلام:"البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر" والقسمة تنافي الشركة، انتهى مختصرًا.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 140).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 547).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 141).

(4)

"الهداية"(6/ 10).

ص: 161

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(1)

وفيه عن "المغني"

(2)

: إن قال - أي: المدعى عليه -: ما أريد أن أحلف، أو سكت، فلم يذكر شيئًا نظرنا في المدّعَى، فإن كان مالًا، أو المقصود منه مال قضي عليه بنكوله، ولم ترد اليمين على المدعي، نص عليه أحمد، وبهذا قال أبو حنيفة، واختار أبو الخطاب أن له رد اليمين على المدعي، وهو قول أهل المدينة، وبه قال شريح ومالك في المال خاصة، وقاله الشافعي في جميع الدعاوى، ولنا قوله صلى الله عليه وسلم:"ولكن اليمين على المدعى عليه" فحصرها في جانب المدعى عليه، فأما غير المال، وما لا يقصد به المال، فلا يقضى فيه بالنكول، نص عليه أحمد في القصاص، انتهى مختصرًا.

وأما المسألة الأولى وهي مسألة الاستظهار تقدم ذكرها في كلام الحافظ مجملًا في الباب السابق، قال العيني

(3)

في الباب المذكور: هذه الترجمة مشتملة على حكمين: أحدهما أن لا يجب يمين الاستظهار، وفيه اختلاف العلماء، وهو أن المدعي إذا أثبت ما يدعيه ببينة فللحاكم أن يستحلفه أن بَيِّنته شهدت بحق، وإليه ذهب شريح والنخعي والأوزاعي وغيرهم، وذهب مالك والكوفيون والشافعي وأحمد إلى أنه لا يمين عليه، وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم أوجب ذلك، والحجة لهم حديث ابن مسعود الذي مضى في الباب السابق من حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل للأشعث: تحلف مع البينة، فلم يوجب على المدعي غير البينة، انتهى.

قلت: والحديث الذي أشار إليه العيني هو الذي ذكره البخاري في هذا الباب المجرد، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه" بالحصر، فهذا يشير إلى أن الإمام البخاري أشار بباب مجرد إلى هذه المسألة.

ثم لا يذهب عليك أن ها هنا مسألة أخرى، وهي خامسة لا تلتبس

(1)

"أوجز المسالك"(13/ 610 - 611).

(2)

"المغني"(14/ 233 - 235).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 539 - 540).

ص: 162

عليك بالرابعة وهي مسألة الخلطة التي ذكرها الإمام مالك في "موطئه"

(1)

عن عمر بن عبد العزيز: أنه إذا جاء الرجل يدعي على الرجل حقًا نظر، فإن كانت بينهما مخالطة أحلف الذي ادعي عليه، وإن لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه.

قال الزرقاني

(2)

: ذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى توجه اليمين على المدعى عليه، سواء كان بينهما خلطة أم لا؛ لعموم حديث ابن عباس في الصحيحين:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه"، لكن حمله مالك وموافقوه على ما إذا كانت بينهما خلطة، لئلا يتبذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة لهذه المفسدة، انتهى، وحكي ذلك عن أحمد أيضًا

(3)

.

(21 -‌

‌ باب إذا ادعى أو قذف. . .) إلخ

قال القسطلاني

(4)

: قوله: (فله أن يلتمس. . .) إلخ، أي: للمدعي أو للقاذف أن يلتمس، أي: يمهل "لطلب البينة" ونحوها كالنظر في الحساب ثلاثة أيام فقط، وهل هذا الإمهال واجب أو مستحب؟ قال الروياني: وإذا أمهلناه ثلاثًا فأحضر شاهدًا بعدها وطلب الإنظار ليأتي بالشاهد الثاني أمهلناه ثلاثة أخرى، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: أورد فيه طرفًا من حديث ابن عباس في قصة المتلاعنين، والغرض منه تمكين القاذف من إقامة البينة على زنا المقذوف لدفع الحدِّ عنه، وإذا ثبت ذلك للقاذف ثبت لكل مدع من باب الأولى، انتهى مختصرًا.

(1)

"الموطأ"(رقم 1406).

(2)

"شرح الزرقاني"(3/ 396).

(3)

انظر: "لامع الدراري"(7/ 103 - 105).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 142).

(5)

"فتح الباري"(5/ 284).

ص: 163

(22 -‌

‌ باب اليمين بعد العصر)

قال صاحب "الفيض"

(1)

: وفيه تغليظ بالزمان، واعتبره الشافعية بالزمان والمكان، ولا تغليظ عندنا إلا بالأسماء الإلهية، نحو أن يقول: بالله العزيز، المحيي المميت. . . إلخ، كما في "شرح الوقاية"

(2)

، وقد أشار البخاري إلى عدم التغليظ بحسب المكان، حيث قال - في الباب الآتي -: ولا يصرف من موضع إلى غيره. . . إلخ، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: أثبت المصنف التغليظ بالزمان ونفى التغليظ بالمكان، انتهى مختصرًا.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(4)

وفيه عن "الشرح الكبير"

(5)

لابن قدامة: إن رأى الحاكم تغليظها بلفظ أو زمن أو مكان جاز، وظاهر كلام الخرقي أن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة، ولا تغلظ في حق المسلم، وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه، وقال مالك والشافعي: تغلظ ثم اختلفا، فذكر الموفق

(6)

اختلافهما في تعيين المكان والنصاب، كما بسط في "الأوجز"

(7)

.

وقال الحافظ

(8)

: قال المهلب

(9)

: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت لتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذبًا لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت، انتهى.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن بعد صلاة الصبح يشاركه مشهود

(1)

"فيض الباري"(4/ 93).

(2)

"شرح الوقاية"(2/ 205).

(3)

"فتح الباري"(5/ 285).

(4)

"أوجز المسالك"(13/ 625 - 627).

(5)

"الشرح الكبير"(12/ 114).

(6)

"المغني"(14/ 224 - 225).

(7)

"أوجز المسالك"(13/ 624 - 625).

(8)

"فتح الباري"(5/ 284).

(9)

انظر: "شرح ابن بطال"(8/ 66).

ص: 164

الملائكة، ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر، ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال، انتهى.

(23 -‌

‌ باب يحلف المدعى عليه حيث ما وجبت عليه اليمين. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قوله: "ولا يصرف" أي: وجوبًا، وهو قول الحنفية والحنابلة، وذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ، ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وبغيرهما بالمسجد الجامع، واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل، واختلفوا في حد القليل والكثير في ذلك، انتهى.

والبسط في "الأوجز" فارجع إليه، وتقدم في الباب السابق أيضًا.

قوله: (ولم يخص مكانًا. . .) إلخ، هو من تفقه المصنف، وقد اعترض عليه بأنه ترجم لليمين بعد العصر، فأثبت التغليظ بالزمان ونفى هنا التغليظ بالمكان، فإن صح احتجاجه بأن قوله:"شاهداك أو يمينه" لم يخص مكانًا دون مكان فليحتج عليه بأنه أيضًا لم يخص زمانًا دون زمان، فإن قال: ورد التغليظ في اليمين بعد العصر، قيل له: ورد التغليظ في اليمين على المنبر في حديث جابر مرفوعًا: "لا يحلف أحد عند منبري هذا" الحديث، أخرجه مالك وأبو داود وغيرهما، وكذا في حديث أبي أمامة مرفوعًا، أخرجه النسائي - وذكر الحافظ حديثين بتمامهما - ويجاب عنه بأنه لا يلزم من ترجمة اليمين بعد العصر أنه يوجب تغليظ اليمين بالمكان، بل له أن يقلب المسألة فيقول: إن لزم من ذكر تغليظ اليمين بالمكان أنها تغلظ على كل حالف، فيجب التغليظ عليه بالزمان أيضًا لثبوت الخبر بذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 285).

ص: 165

(24 -‌

‌ باب إذا تسارع القوم في اليمين)

قال العلَّامة العيني

(1)

: يعني: قوم وجبت عليهم اليمين فتسارعوا جميعًا أيهم يبدأ أولًا، وجواب "إذا" محذوف بيَّنه الحديث، يعني: يقرع بينهم، وهو الجواب، ثم قال بعد ذكر الحديث: قال الخطابي: وإنما يفعل كذلك إذا تساوت درجاتهم في استحباب الاستحلاف، مثل أن يكون الشيء في يد اثنين، كل واحد منهما يدعيه كله، يريد أحدهما أن يحلف ويستحق، ويريد الآخر مثل ذلك، فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف واستحقه، وكذا إذا كثر الخصوم ولم يعلم أيهما السابق فيسهم بينهم، انتهى.

وقد تقدم الكلام على القرعة من حيث الفقه في "باب الاستهام" من "كتاب الأذان"، وتقدم أيضًا في "باب هل يقرع في القسمة"، من "كتاب الشركة".

(25 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ. . .} إلخ [آل عمران:

77])

قال العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان الوعيد الشديد الذي تتضمنه هذه الآية الكريمة في حق الذين يرتكبون الأيمان الكاذبة الفاجرة الآثمة، وقد ذمهم الله تعالى بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} الآية، انتهى.

قال الحافظ: ذكر فيه حديث ابن أبي أوفي في سبب نزولها، وحديث ابن مسعود والأشعث في نزولها أيضًا، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن تكون نزلت في كل من القصتين، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 556).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 56).

(3)

"فتح الباري"(5/ 287).

ص: 166

(26 -‌

‌ باب كيف يستحلف؟. . .) إلخ

على بناء المجهول، وغرضه بذلك أنه لا يجب تغليظ الحلف بالقول، قال ابن المنذر: اختلفوا، فقالت طائفة: يحلفه بالله من غير زيادة، وقال مالك: يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو، وكذا قال الكوفيون والشافعي، قال: فإن اتهمه القاضي غلظه عليه، فيزيد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، قال ابن المنذر: وبأي ذلك استحلفه أجزأ، والأصل في ذلك أنه إذا حلف بالله صدق عليه أنه حلف اليمين.

وقوله: (ولا يحلف بغير الله) هو من كلام المصنف على سبيل التكميل للترجمة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وتعقب العلَّامة العيني

(2)

على ما أفاده الحافظ من غرض الترجمة، وقال: قلت: غرضه بذلك الإشارة إلى أن أصل اليمين أن تكون بلفظ الله، لما يذكر عن قريب من حديث عبد الله بن مسعود، انتهى.

(27 -‌

‌ باب من أقام البيِّنة بعد اليمين. . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: أي: إذا لم تكن للمدعي بيِّنة، فقضي بيمين المدعى عليه ثم وجد المدعي البينة هل يقضى بالبينة؟ نعم، انتهى.

وفي هامشه: قال العيني

(4)

: وجواب "من" محذوف، تقديره: هل تقبل البينة أم لا؟ وإنما لم يصرِّح به لمكان الخلاف فيه على عادته، فالجمهور على أنها تقبل، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي وأحمد، وقال مالك في "المدونة": إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة ثم علمها، قضى

(1)

"فتح الباري"(5/ 287 - 288).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 558).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 105).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 560).

ص: 167

له بها، وإن استحلفه ورضي بيمينه تاركًا البينة، وهي حاضرة أو غائبة، فلا حق له إذا شهدت له، وقال ابن أبي ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه، وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر، انتهى، وهكذا في "الفتح"

(1)

مختصرًا.

(28 -‌

‌ باب من أمر بإنجاز الوعد. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، قاله الكرماني

(3)

، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، انتهى.

ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وأجلّ من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا. . .، إلى آخر ما قال، وقد تقدم في "باب إذا وهب هبة أو وعد" أن الظاهر أن ميل الإمام البخاري إلى أن إيفاء الوعد واجب، فإنه ترجم بلفظ "من أمر. . ." إلخ.

(29 -‌

‌ باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها. . .) إلخ

قال العلَّامة القسطلاني

(4)

: قوله: "لا يسأل" بضم أوله مبنيًا للمفعول، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شهادة الكفار، وقد اختلف في ذلك السلف على ثلاثة أقوال، وذهب الجمهور إلى ردها مطلقًا، وذهب بعض التابعين إلى قبولها مطلقًا إلّا على المسلمين وهو مذهب

(1)

"فتح الباري"(5/ 288).

(2)

"فتح الباري"(5/ 290).

(3)

"شرح الكرماني"(11/ 207).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 157).

(5)

"فتح الباري"(5/ 292).

ص: 168

الكوفيين، فقالوا: تقبل شهادة بعضهم على بعض، وهي إحدى الروايتين عن أحمد وأنكرها بعض أصحابه، واستثنى أحمد حالة السفر فأجاز فيها شهادة أهل الكتاب كما سيأتي بيانه أواخر الوصايا إن شاء الله تعالى، وقال الحسن وإسحاق وغيرهما: لا تقبل ملة على ملة وتقبل بعض الملة على بعضها لقوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]، وهذا أعدل الأقوال لبعده عن التهمة، واحتج الجمهور بقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وبغير ذلك من الآيات والأحاديث، انتهى.

قال القسطلاني

(1)

في شرح الترجمة: إذ لا تقبل شهادتهم خلافًا للحنفية حيث قالوا بقبولها لأهل الذمة على بعضهم وإن اختلفت مللهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين زنيا بشهادة أربعة منهم، انتهى.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(2)

.

(30 -‌

‌ باب القرعة في المشكلات)

وفي "الفيض"

(3)

: وهي عندنا لتطييب الخاطر لا غير، ولا تقوم حجة على أحد، ولم يأت فيه المصنف بما يكون من باب الحكم، وما أتى به فكله من باب الديانات، انتهى.

أي: مشروعيتها، ووجه إدخالها في "كتاب الشهادات" أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق، فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة كذلك تقطع بالقرعة، ومشروعية القرعة مما اختلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسَّرها غيره بما ثبت فيه

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 157).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 235 - 236).

(3)

"فيض الباري"(4/ 99).

ص: 169

الحق لاثنين فأكثر وتقع المشاححة فيه فيقرع لفصل النزاع. . .، إلى آخر ما في "الفتح"

(1)

.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "لأتوهما ولو حبوًا"، فإنها شدة المرض.

والأوجه عندي: في قصة وفاة عثمان بن مظعون، فإنها لا تختص عندي بآخر الحديث بل بآخر الباب، ويمكن أن يقال: في قوله: "لاستهموا" على أحد المعنيين وهو الترامي، فتدبر.

* * *

(1)

"فتح الباري"(5/ 293 - 294).

ص: 170

53 -

‌ كتاب الصلح

قال العيني

(1)

: الصلح في اللغة: اسم بمعنى المصالحة، وهي المسالمة، خلاف المخاصمة، وأصله من الصلاح ضد الفساد، وفي الشرع: الصلح عقد يقطع النزاع بين المدعي والمدعى عليه، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: الصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إما في الأملاك أو في المشتركات كالشوارع، وهذا الأخير هو الذي يتكلم فيه أصحاب الفروع، وأما المصنف فترجم ها هنا لأكثرها، انتهى.

قلت: والفرق بين أكثر تراجم هذا الكتاب يحتاج إلى دقة النظر وإمعانه، وفي "الفيض"

(3)

: والصلح على ثلاثة أنحاء: الصلح مع إقرار، ومع سكوت، ومع إنكار، وكله جائز عندنا، وقال الشافعي: لا يجوز إلا الأول، انتهى.

(1 -‌

‌ باب ما جاء في الإصلاح بين الناس. . .) إلخ

هكذا هذا الباب ها هنا في النسخ الهندية بعد "كتاب الصلح"، وهكذا في نسخة العيني وليس في نسخة "الفتح" والقسطلاني لفظ "باب"، بل فيهما "كتاب الصلح، ما جاء في الإصلاح بين الناس".

قال الحافظ

(4)

: وفي نسخة الصغاني "أبواب الصلح، باب ما جاء" وحذف هذا كله في رواية أبي ذر، واقتصر على قوله:"ما جاء في الإصلاح بين الناس".

(1)

"عمدة القاري"(9/ 572).

(2)

"فتح الباري"(5/ 298).

(3)

"فيض الباري"(4/ 101).

(4)

"فتح الباري"(5/ 298).

ص: 171

قوله: (وخروج الإمام. . .) إلخ، هذا بقية الترجمة، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: قوله: فنزلت {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . . .) إلخ [الحجرات: 9]، ولا يرد ما أورده المحشي من أنها نزل في غير تلك الوقعة، ولعل الباعث له على ذلك ما يستبعد من أن المسلمين كيف غضبوا لعبد الله وكان يوم ذاك كافرًا، والجواب أنه غير مستبعد من اقتضاء البشرية، وانجراء الأسر إلى الحمية لقومه وإن لزم فيه الحمية لكافر، ولو سلم فمعنى قوله: فنزلت، أي: في مثل ذلك، أو فقد كانت نزلت، فعمل النبي صلى الله عليه وسلم بها فصالح بينهما، انتهى.

وفي هامشه: قال ابن بطال: يستحيل نزولها في قصة عبد الله بن أُبيّ وأصحابه؛ لأن أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام في قصة الإفك، وقد رواه البخاري في "كتاب الاستئذان" عن أسامة بن زيد:"أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ في مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أُبيّ" فذكر الحديث، فدل على أن الآية لم تنزل فيه، وإنما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حق اقتتلوا بالعصا والنعال، كذا في "التنقيح"

(2)

، انتهى.

وبسط الكلام على الحديث الحافظ في "الفتح"

(3)

.

(2 -‌

‌ باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس)

قال الحافظ

(4)

: ترجم بلفظ "الكاذب"، وساق الحديث بلفظ "الكذاب"، واللفظ الذي ترجم به لفظ معمر عن ابن شهاب وهو عند مسلم، وكان حق السياق أن يقول: ليس من يصلح بين الناس كاذبًا، لكنه ورد على طريق القلب وهو سائغ.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 108 - 110).

(2)

"التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح"(2/ 420).

(3)

"فتح الباري"(5/ 298 - 299).

(4)

"فتح الباري"(5/ 299 - 300).

ص: 172

ثم قال الحافظ: قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إِنما هو في ما فيه مضرة، أو ما ليس فيه مصلحة، وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين، ويعد امرأته بعطية شيء، ويريد إن قدر الله ذلك.

قال الحافظ: وبالأول جزم الخطابي

(1)

وغيره، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: واعلم أن الكذب جائز في بعض الأحوال عند الشافعية، أما الحنفية فلا أراهم يجوِّزونه صراحة في موضع، نعم وسَّعوا بالكنايات والمعاريض وأمثالها، وراجع له كلام الغزالي رحمه الله، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح)

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: يعني: بذلك أن الإمام وإن كان له التعزير والتأديب إلا أن له أن يصالح بينهما وهذا أولى، انتهى.

وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح لكن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن ما أفاده الشيخ يناسب ما سيأتي بعد عدة أبواب من "باب هل يشير الإمام بالصلح" وسيأتي هناك اختلاف العلماء في ذلك.

والأوجه عندي في هذا الباب الذي نحن بصدده: دفع ما يتوهم من ظاهر موقف الإمام والقاضي كما هو الظاهر من فروع الفقهاء أن حق الأمير والقاضي هو المخاصمة إليه والترافع إليه في مجلسه، فقد قال ابن عابدين عن

(1)

"الأعلام"(2/ 1315).

(2)

"فيض الباري"(4/ 101).

(3)

"فتح الباري"(5/ 300).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 111).

ص: 173

فتاوى الشيخ قاسم: إنه نقل الإجماع على أن تقدم الدعوى الصحيحة شرط لنفاذ الحكم، وأيد ذلك صاحب "البحر" في رسالة ألفها في ذلك، انتهى.

فنبَّه الإمام البخاري بهذه الترجمة على أن الإمام لو ذهب بنفسه إلى الخصمين ليصلح بينهما لا بأس بذلك.

(4 -‌

‌ باب قول الله: ({أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:

128])

في سورة النساء، مخبرًا ومشرِّعًا عن حال الزوجين تارة في نفور الرجل عن المرأة وتارة في حال اتفاقه معها وتارة عند فراقه لها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} أي: يصطلحا بأن تحط له بعض المهر أو القسم أو تهب له شيئًا تستمليه به {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي: من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة، ويجوز أن لا يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور، قاله البيضاوي، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(5 -‌

‌ باب إذا اصطلحوا على صلح جور. . .) إلخ

يجوز في "صلح جور": الإضافة، وأن ينون "صلح" ويكون "جور" صفة له.

ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، والغرض منه هنا قوله:"الوليدة والغنم رد عليك" لأنه في معنى الصلح عما وجب على العسيف من الحد، ولما كان ذلك لا يجوز في الشرع كان جورًا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وهكذا كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

إذ قال: قوله: "أما الوليدة. . ." إلخ، فيه الترجمة حيث أبطل الشرط الغير المشروع، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 170).

(2)

"فتح الباري"(5/ 301).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 111).

ص: 174

وفي "الفيض"

(1)

تحت الباب: هذا إشارة إلى ما أخرجه الحاكم أن كل صلح جائز إلا ما أحلَّ حرامًا، أو حرّم حلالًا، يعني به أن الصلح إذا تضمن الجور، فهل يعتد به أم لا؟ أما مسألة الصلح مع الإنكار فلم يتعرض لها بعد، وراجع لها "الهداية"

(2)

فإنه أجاب عن إيراد الشافعية، انتهى.

(6 -‌

‌ باب كيف يكتب. . .) إلخ

مبنيًّا للمفعول، أي: كيف يكتب الصلح؟.

قوله: (وان لم ينسبه. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: يعني بذلك: أن النسب إنما هو للتعين ورفع الإبهام فلو حصل بدونه لم يفتقر إليه، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(4)

: أي: إذا كان مشهورًا بدون ذلك بحيث يؤمن اللبس فيه فيكتفى في الوثيقة بالاسم المشهور ولا يلزم ذكر الجد والنسب والبلد ونحو ذلك، وأما قول الفقهاء: يكتب في الوثائق اسمه واسم أبيه وجده ونسبه، فهو حيث يخشى اللبس، وإلا فحيث يؤمن اللبس فهو على الاستحباب، انتهى.

قوله: (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: سيأتي في "الشروط" بيان سبب ذلك مطولًا، وقد ذكر المصنف هنا هذا الحديث أتم سياقًا

(5)

، والغرض منه هنا اقتصار الكاتب على قوله:"محمد رسول الله" ولم ينسبه إلى أب ولا جد، وأقره صلى الله عليه وسلم واقتصر على محمد بن عبد الله بغير زيادة، وذلك كله لأمن الالتباس، انتهى.

قوله: (فكتب: هذا ما قاضى) الأصح أن إسناد الكتابة إليه صلى الله عليه وسلم مجاز ولا يحسن جعله معجزة حملًا على الحقيقة، إذ لو كتب بيده الشريفة لكان

(1)

"فيض الباري"(4/ 102).

(2)

انظر: "الهداية"(6/ 130 - 131).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 112).

(4)

"فتح الباري"(5/ 304).

(5)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 2711).

ص: 175

للكفار أن يعلموا أنه يكتب فيتحقق بذلك ظنهم أنه شاعر وكاتب ينظر في الكتب وينبئ عنها، وهذا خلاف المقصود، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية شهيرة بسط الكلام عليها في "التلخيص الحبير" و"نسيم الرياض" و"تذكرة الحفاظ" في ترجمة أبي الوليد.

وبسط الكلام عليها في هامش "اللامع"

(1)

فارجع إليه لو شئت.

(7 -‌

‌ باب الصلح مع المشركين)

قال الحافظ

(2)

: أي: حكمه أو كيفيته أو جوازه، وسيأتي شرحه وبيانه في "كتاب الجزية" في "باب المصالحة والموادعة مع المشركين بالمال وغيره".

وقال الحافظ

(3)

هناك: أما أصل المسألة فاختلف فيه، سئل الأوزاعي عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على مال يؤديه إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة كشغل المسلمين عن حربهم، ولا بأس أن يصالحهم على غير شيء يؤدونه إليهم كما وقع في الحديبية، وقال الشافعي: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم؛ لأن القتل للمسلمين شهادة، وإن الإسلام أعز من أن يعطى المشركون على أن يكفّوا عنهم، إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو؛ وكذلك إذا أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز، انتهى.

وقال العيني

(4)

بعد ذكر قول الأوزاعي والشافعي: وقال ابن بطال: ولم أجد لمالك وأصحابه ولا الكوفيين نصًّا في هذه المسألة، قال العيني: مذهب أصحابنا أن للإمام أن يصالحهم بمال يأخذ منهم أو يدفع إليهم إذا كان الصلح خيرًا في حق المسلمين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ

(1)

"لامع الدراري"(7/ 112 - 116).

(2)

"فتح الباري"(5/ 305).

(3)

"فتح الباري"(6/ 276).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 526).

ص: 176

لَهَا} [الأنفال: 61]، والمال الذي يؤخذ منهم بالصلح يصرف مصارف الجزية، انتهى.

وقال الموفق

(1)

: تجوز مهادنتهم على غير مال لقصة الحديبية، ويجوز ذلك على مال نأخذه منهم؛ فإنها إذا جازت على غير مال، فعلى مال أولى، وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي؛ لأن فيه صَغارًا للمسلمين، وهذا محمول على غير حال الضرورة، فأما إن دعت إليه ضرورة، وهو أن يخاف الأسر، فيجوز؛ لأنه للأسير فداء نفسه بالمال، فكذا ها هنا، انتهى.

قوله: (عن أبي سفيان) يشير إلى حديث أبي سفيان في شأن هرقل، وقد تقدم بطوله في أول الكتاب

(2)

، والغرض منه قوله في أوله:"إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش في المدة التي هادن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش" الحديث، وقوله فيه:"ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها"، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: قوله: "عن أبي سفيان" والغرض منه هنا الإشارة إلى مدة الصلح المذكورة في قوله: "ونحن منه في مدة" وغير ذلك، انتهى.

(8 -‌

‌ باب الصلح في الدية)

أي: بأن يجب القصاص فيقع الصلح على مال معين، ثم قال: وقوله: "زاد الفزاري. . ." إلخ، أي: زاد على رواية الأنصاري ذكر قبولهم الأرش، والذي وقع في رواية الأنصاري "فرضي القوم وعفوا" وظاهره أنهم تركوا القصاص والأرش مطلقًا، فأشار المصنف إلى الجمع بينهما بأن قوله:"عفوا"، محمول على أنهم عفوا عن القصاص على قبول الأرش جمعًا بين الروايتين، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"المغني"(13/ 155 - 156).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 7).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 178).

(4)

"فتح الباري"(5/ 306).

ص: 177

(9 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: "ابني هذا سيد. . .") إلخ

قال الحافظ

(1)

: اللام في قوله: "للحسن" بمعنى: عن، وترجم المصنف بلفظ الحديث احترازًا وأدبًا، وكذلك ترجم بنحوه في "كتاب الفتن"، وقوله جل ذكره:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] لم يظهر لي مطابقة الحديث لهذا القدر من الترجمة، إلا إن كان يريد أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على امتثال أمر الله، وقد أمر بالإصلاح، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلح بين الفئتين المختلفتين سيقع على يد الحسن، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(2)

: أشار بذكر هذه القطعة من الآية الكريمة إلى أن الصلح أمر مشروع ومندوب إليه، انتهى، وتبعه القسطلاني

(3)

في ذلك.

قلت: وبه يندفع إيراد الحافظ، فإن هذا الجزء من الترجمة مثبت للجزء السابق لا مثبت بالفتح، فلا يحتاج حينئذ إلى إثباته بحديث الباب، وهو الأصل الستون من أصول التراجم كما تقدم في الجزء الأول.

(10 -‌

‌ باب هل يشير الإمام بالصلح

؟)

أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف، فإن الجمهور استحبوا للحاكم أن يشير بالصلح وإن اتجه الحق لأحد الخصمين، ومنع من ذلك بعضهم وهو عن المالكية، وزعم ابن التِّين أنه ليس في حديثي الباب ما ترجم به، وإنما فيه الحض على ترك بعض الحق، وتعقب بأن الإشارة بذلك بمعنى الصلح، على أن المصنف ما جزم بذلك فكيف يعترض عليه؟ من "الفتح"

(4)

.

وفي "الفيض"

(5)

: ففي "الدر المختار": أنه يستحب للقاضي أن يشير إلى المتخاصمين أولًا بالصلح، ثم يحكم بما حكم الله به، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 307).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 596).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 183).

(4)

"فتح الباري"(5/ 307 - 308).

(5)

"فيض الباري"(4/ 106).

ص: 178

(11 -‌

‌ باب فضل الإصلاح بين الناس. . .) إلخ

قال ابن المنيِّر

(1)

: ترجم على الإصلاح والعدل، ولم يورد في هذا الحديث إلا العدل، لكن لما خاطب الناس كلهم بالعدل وقد علم أن فيهم الحكام وغيرهم، كان عدل الحاكم إذا حكم، وعدل غيره إذا أصلح، وقال غيره: الإصلاح نوع من العدل، فعطف العدل عليه من عطف العام على الخاص، انتهى من "الفتح"

(2)

.

ثم إن هذه الترجمة بظاهرها مكررة بما سبق نحوها في أول الكتاب، ولم يتعرض له الشرَّاح، اللَّهم إلا أن يقال بالفرق بين الإصلاح المذكور ثمة وبين الإصلاح المذكور ها هنا، فيمكن أن يقال: إن المراد بالإصلاح هناك إصلاح ذات البين، ورفع النزاع بين الناس، وإطفاء نار الفتنة، ويؤيد هذا المعنى الباب الذي يليه "ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس" وأما الإصلاح المذكور ها هنا فالمراد به العدل في الحكم والقضاء، لا رفع النزاع الواقع بين الناس، فتأمل.

(12 -‌

‌ باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى. . .) إلخ

أي: امتنع من عليه الحق من الصلح، قاله القسطلاني

(3)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: يعني بذلك: أنه إذا حكم بأمر هو أصلح للفريقين كليهما، وإن كان فيه تأخير لحق أحدهما إلى بعض وقت آخر وليس فيه كثير ضرر له، ثم لم يرض الفريق الذي قضى فيه لنفعه فللإِمام أن يحكم بعد ذلك باستيفاء صاحب الحق حقه وإن كان فيه ضرر الآخر، انتهى.

ولا يتوهم التكرار بين هذه الترجمة وبين ما سبق من "باب هل يشير

(1)

"المتواري"(ص 318).

(2)

"فتح الباري"(5/ 309).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 188).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 122 - 123).

ص: 179

الإمام بالصلح؟ " فإن محط الغرض ها هنا هو قوله: "فأبى، حكم عليه بالحكم البين" فلا تكرار.

(13 -‌

‌ باب الصلح بين الغرماء)

قال الحافظ

(1)

: قوله: (والمجازفة في ذلك) أي: عند المعاوضة، ومراده أن المجازفة في الاعتياض عن الدين جائزة، وإن كانت من جنس حقه وأقل، وأنه لا يتناوله النهي إذ لا مقابلة من الطرفين، انتهى.

(14 -‌

‌ باب الصلح بالدين والعين)

قال ابن التِّين: ليس في الحديث ما ترجم به، وأجيب بأنه فيه الصلح فيما يتعلق بالدين، وكأنه ألحق به الصلح فيما يتعلق بالعين بطريق الأولى، قال ابن بطال

(2)

: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئًا قبل أن يقبضه مكانه، وإن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير، أو عكسه جاز واشترط القبض، انتهى من "الفتح"

(3)

.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "قم فاقضه"، انتهى، فإنه مشير إلى الاختتام إذ لم يبق شيء بعد القضاء، ولا يبعد عندي أنها في قوله:"وهو في بيته" فإن لفظ "البيت" يطلق على القبر أيضًا، فافهم كما تقدم في آخر المواقيت.

* * *

(1)

"فتح الباري"(5/ 310).

(2)

(8/ 103).

(3)

"فتح الباري"(5/ 311 - 312).

ص: 180

54 -

‌ كتاب الشروط

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، وسقط "كتاب الشروط" لغيره. والشروط جمع شرط بفتح أوله وسكون الراء، وهو ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر غير السبب.

وقال العيني

(2)

: الشرط: العلامة، وفي الاصطلاح: ما يتوقف عليه وجود الشيء ولم يكن داخلًا فيه، وقيل: ما يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.

(1 -‌

‌ باب ما يجوز من الشروط في الإسلام. . .) إلخ

قال الحافظان

(3)

ابن حجر والعيني: المراد به ههنا بيان ما يصح منها مما لا يصح، وقوله:"في الإسلام" عند الدخول فيه، فيجوز مثلًا أن يشترط الكافر أنه إذا أسلم لا يكلف بالسفر من بلد إلى بلد مثلًا، ولا يجوز أن يشترط أن لا يصلي مثلًا، وقوله:"والأحكام" أي: العقود والمعاملات، وقوله:"والمبايعة" من عطف الخاص على العام، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: الظاهر أنه قصد بذلك إثبات أن كل شرط هو مخالف لأمر الشارع فهو رد، لا يجوز العمل بمقتضاه، وما كان بخلاف ذلك فهو أحق شيء بالوفاء، والدليل عليه ما نسخ الله تعالى من شرط ردِّ النساء إلى الكفار فإنهن كن داخلة في الشرط، ومع ذلك فلما كان ردهن تعريضًا للفتنة في الدين، ولا كذلك في الرجال فإنهم على مكنة

(1)

"فتح الباري"(5/ 312).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 606).

(3)

"فتح الباري"(5/ 313)، و"عمدة القاري"(9/ 606).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 125 - 130).

ص: 181

من الخروج والفرار، ومع ذلك فكان ردُّ النساء إليهم تمكينًا لهم على فروجهن {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] منع الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يردهن إليهم، وعلى هذا فلا يرد أنه صلى الله عليه وسلم كيف خالف عهده معهم فيهن. . .، إلى آخر ما بسط.

وقال أيضًا: ثم إن المذكور في الباب هي الروايات الدالة على اشتراط الشروط في الإسلام، وظاهر عطف الأحكام والمبايعة على الإسلام يقتضي إيراد حديث يناسب شرائط الأحكام، فإما أن يقال: قوله في حديث جرير: "بايعته على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة" إنما هو من الاشتراط في الأحكام، أو يقال: قوله: "والنصح لكل مسلم" يتناول كل عقد وحكم، أو يقال: قوله تعالى: {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. . .} إلخ [الممتحنة: 12]، مما يتناول كل حكم، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام على أن ردَّ النساء هل كان داخلًا في عقد الهدنة لفظًا أو عمومًا؟ وفيه بعد بسط الكلام على تلك المسألة: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه لما كان في علم الله تبارك وتعالى استثناء النساء من ذلك قدَّر الله تعالى أن يكون العهد بلفظ "لا يأتيك منا رجل" إلا أنهم فهموا من ذلك العموم؛ لأن النساء في أكثر الأحكام تكون تابعة للرجال، فلما هاجرت النساء أنزل الله تبارك وتعالى آية الامتحان تنبيهًا على أن العهد كان للرجال خاصة، انتهى.

(2 -‌

‌ باب إذا باع نخلًا قد أُبِّرت)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أي: فاشترط فيها شرطًا لا يخالف مقتضى العقد ولا هو مما يخالف الشرع يكون العمل بمقتضاه واجبًا، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 132).

ص: 182

وفي هامشه: كما ورد في الحديث من اشتراط الثمرة فإنه مما لا يخالف مقتضى العقد ولا يخالف الشرع.

قال الحافظ

(1)

: لم يذكر البخاري جواب الشرط اكتفاء بما في الخبر، انتهى.

(3 -‌

‌ باب الشروط في البيع)

إنما أطلق الترجمة للتفصيل في اعتباره بين الفقهاء، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: ترجمة المؤلف ههنا مطلقة تحتمل جواز الاشتراط في البيع وعدم الجواز، ومذهب الشافعية لا يجوز بيع وشرط؛ كبيع بشرط بيع أو قرض، للنهي عنه في حديث أبي داود وغيره إلا في ست عشرة مسألة، ثم بسطها القسطلاني.

قال العلَّامة السندي

(4)

: نبَّه بهذه الترجمة على أن كلام عائشة وأصحاب بريرة كان في البيع والشراء لا في قضاء الكتابة كما هو ظاهر حديث الباب، وإلا يلزم أن يكون اشتراط عائشة على خلاف الحق واشتراطهم على الحق، وعلى هذا فمعنى قوله:"وإن أحبوا أن أقضي عنك الكتابة" أي: أشتريك بما عليك من دين الكتابة وأعتقك، وقولهم:"أن تحتسب عليك" أي: بالعتق لا بالمال، والله تعالى أعلم.

(4 -‌

‌ باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: ولم يكن الشرط داخلًا في صلب العقد بل كان عارية مبتدئة، غير أن من عبَّر عنه بالشرط نظر إلى الحاصل والمآل، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 313).

(2)

"فتح الباري"(5/ 314).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 197، 198).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 116).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 133).

ص: 183

وتقدم الكلام على المسألة في "كتاب البيوع".

(5 -‌

‌ باب الشروط في المعاملة)

أي: من مزارعة وغيرها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(6 -‌

‌ باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح. . .) إلخ

بضم العين المهملة، والمراد: وقت العقد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وسيأتي الاختلاف في هذه المسألة في "كتاب النكاح" إن شاء الله.

(7 -‌

‌ باب الشروط في المزارعة)

قال الحافظ

(3)

: هذه الترجمة أخص من الماضية قبل بباب.

(8 -‌

‌ باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح)

قال الحافظ

(4)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة، وفيه:"ولا يخطبن على خطبة أخيه" وسيأتي الكلام عليه في "كتاب النكاح"، انتهى.

(9 -‌

‌ باب الشروط التي لا تحل في الحدود)

يستفاد من حديث الباب: أن كل شرط وقع في رفع حدٍّ من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(10 -‌

‌ باب ما يجوز من شروط المكاتب)

ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة، ومطابقته للترجمة تفهم من معنى الحديث؛ لأن بريرة قالت لعائشة: اشتريني فأعتقيني، والحال أنها كانت مكاتبة، فكأنها شرطت عليها أن تعتقها إذا اشترتها، انتهى من "العيني"

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 322).

(2)

"فتح الباري"(5/ 323).

(3)

"فتح الباري"(5/ 323).

(4)

"فتح الباري"(5/ 323).

(5)

"فتح الباري"(5/ 324).

(6)

"عمدة القاري"(9/ 623).

ص: 184

(11 -‌

‌ باب الشروط في الطلاق. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أي: تعليق الطلاق، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "وإن بدأ بالطلاق أو أخَّر" يعني بذلك أن الحكم لا يتفاوت في تعليق الطلاق بالشرط سواء قدَّم الشرط وأخَّر الطلاق أو عكس؛ كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار، انتهى.

قال العيني

(3)

: ومذهب شريح وإبراهيم النخعي: إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه وقع الطلاق، بخلاف ما إذا أخَّره، وقد خالفهما الجمهور في ذلك، انتهى.

وقال العلَّامة السندي

(4)

: ذكر في الباب حديث "وأن تشترط المرأة طلاق أختها" قالوا: وهذا موضع الترجمة؛ لأن مفهومه أنها إذا اشترطت ذلك فطلق أختها وقع الطلاق؛ لأنه لو لم يقع لم يكن للنهي معنى، انتهى.

قال العلَّامة السندي: قلت: اللغو ينهى عنه أيضًا، والله تعالى أعلم، انتهى.

وقال شيخ مشايخنا في "تراجمه"

(5)

: قوله: "باب الشروط" هذا أعم من أن يكون الطلاق مشروطًا بشيء أو يكون شيء آخر مشروطًا بطلاق، فصح مطابقة الأثر والحديث كليهما للترجمة، انتهى.

(12 -‌

‌ باب الشروط مع الناس بالقول)

ذكر فيه طرفًا من حديث ابن عباس عن أُبيّ بن كعب في قصة موسى والخضر، والمراد منه قوله:"كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا" وأشار بالشرط إلى قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا

(1)

"فتح الباري"(5/ 325).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 135).

(3)

"عمدة القاري"(9/ 624).

(4)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 118).

(5)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 397).

ص: 185

تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76] والتزام موسى بذلك، ولم يكتبا ذلك، ولم يشهدا أحدًا.

وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دلَّ عليه الشرط، فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، ولم ينكر موسى عليه السلام ذلك، انتهى

(1)

.

قال العيني

(2)

: لم يقع بينه وبين الخضر عليه السلام في ذلك لا إشهاد ولا كتابة، وإنما وقع ذلك شرطًا بالقول، والترجمة الشرط مع الناس بالقول، أي: دون الإشهاد والكتابة، انتهى.

(13 -‌

‌ باب الشروط في الولاء)

ذكر فيه طرفًا من حديث عائشة في قصة بريرة، وقد تقدم الكلام عليه في آخر المكاتب في "باب إذا قال المكاتب: اشترني وأعتقني. . ." إلخ.

(14 -‌

‌ باب إذا اشترط في المزارعة. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا ذكر هذه الترجمة مختصرة، وترجم بحديث الباب في "المزارعة" بأوضح من هذا فقال:"إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله - ولم يذكر أجلًا معلومًا - فهما على تراضيهما" وأخرج هناك حديث ابن عمر بلفظ: "نقركم على ذلك ما شئنا" وأورده ههنا بلفظ: "نقركم ما أقركم الله"، فأحال في كل ترجمة على لفظ المتن الذي في الأخرى، وبيَّنت إحدى الروايتين مراد الأخرى وأن المراد بقوله:"ما أقركم الله" ما قدر الله أنا نترككم فيها، فإذا شئنا فأخرجناكم تبين أن الله قدَّر إخراجكم، انتهى.

قلت: وقد تقدم في "أبواب المزارعة" الكلامُ على ما إذا لم يشترط

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 326).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 625).

(3)

"فتح الباري"(5/ 327).

ص: 186

السنين في المزارعة والمساقاة، واختلافُ العلماء في ذلك، وجوابُ الحنفية عن حديث خيبر بأنه خراج عندهم، وغير ذلك.

قوله: (وأعطاهم قيمة ما كان لهم) ذكر صاحب "الفيض"

(1)

الكلام عليه، وأثبت فيه التعارض برواية "الموطأ"، ومال إلى أنه وقع سقط في البخاري فارجع إليه لو شئت.

(15 -‌

‌ باب الشروط في الجهاد. . .) إلخ

قوله: (مع الناس بالقول) ليس هذا في نسخة الشروح.

قال الحافظ

(2)

: كذا للأكثر، أي: بدون الزيادة، وزاد المستملي "مع الناس بالقول" وهي زياده مستغنى عنها لأنها تقدمت في ترجمة مستقلة

(3)

، إلا أن تحمل الأولى على الاشتراط بالقول خاصة وهذه على الاشتراط بالقول والفعل، انتهى.

قوله: (حتى كانوا ببعض الطريق) قال الحافظ

(4)

: اختصر المصنف صدر هذا الحديث الطويل مع أنه لم يسقه بطوله إلا في هذا الموضع، وبقيته عنده في "المغازي"

(5)

، إلى آخر ما ذكر، وقد تكلم الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(6)

على بعض أجزاء هذا الحديث مما يحتاج إلى إِيضاح وتشريح.

(16 -‌

‌ باب الشروط في القرض. . .) إلخ

غرض الترجمة ظاهر، أي: التأجيل في القرض، وتقدم الخلاف في ذلك في "باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى" من أن التأجيل في القرض ليس

(1)

"فيض الباري"(4/ 115، 116).

(2)

"فتح الباري"(5/ 333).

(3)

كتاب الشروط، باب (12).

(4)

"فتح الباري"(5/ 334).

(5)

كتاب المغازي، باب (35)، (ح: 4147).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 137 - 149).

ص: 187

بلازم عند الحنفية والشافعية، وقال مالك بلزومه، واليه ظاهر ميل المؤلف كما تقدم.

قوله: (إذا أجله في القرض جاز) كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: بمعنى أنه لا يملك المطالبة قبل حلول الأجل، وهذا القول وإن لم يكن نصًا فيه، بك يمكن أن يكون معناه أن التأجيل جائز وإن لم يكن العمل بمقتضاه واجبًا، حتى أن الدائن جاز له المطالبة قبل حلول الأجل فلا يخالف رأي الحنفية، غير أن مذهب ابن عمر معلوم في ذلك أنه الأول، فيكون حمل كلامه على الأخير توجيهًا للقول بما لا يرضى به قائله، انتهى.

(17 -‌

‌ باب المكاتب وما لا يحل من الشروط)

قال العلَّامة العيني

(2)

: تقدم في كتاب الشروط "باب ما يجوز من شروط المكاتب"، وقوله ههنا: باب المكاتب. . . إلخ، أعم من ذلك، وتقدم أيضًا في كتاب العتق: باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله وحديث الأبواب الثلاثة واحد، وتكرار التراجم لا يدل على زيادة فائدة إلا في شيء واحد، وهو أنه فسر قوله: ليس في كتاب الله، بقوله:"التي تخالف كتاب الله" لأن المراد بكتاب الله حكمه، وحكمه تارة يكون بطريق النص وتارة بطريق الاستنباط، وكل ما لم يكن من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله، انتهى.

(18 -‌

‌ باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار)

قال الحافظ

(3)

: الثنيا بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتانية، مقصور، أي: الاستثناء، "في الإقرار" سواء كان استثناء قليل من كثير أو كثير من قليل، واستثناء القليل من الكثير لا خلاف في جوازه، وعكسه

(1)

"لامع الدراري"(7/ 150).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 652).

(3)

"فتح الباري"(5/ 354).

ص: 188

مختلف فيه، فذهب الجمهور إلى جوازه أيضًا، وأقوى حججهم قوله تعالى:{إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] مع قوله عز وجل: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] لأن أحدهما أكثر من الآخر لا محالة، وقد استثنى كلًا منهما عن الآخر، وذهب بعض المالكية كابن الماجشون إلى فساده، وإليه ذهب ابن قتيبة وزعم أنه مذهب البصريين من أهل اللغة، وأن الجواز مذهب الكوفيين، انتهى.

(19 -‌

‌ باب الشروط في الوقف)

ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة وقف عمر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في الكتاب الذي يليه

(1)

.

قال العيني

(2)

: ومطابقة الحديث للترجمة في قول عمر رضي الله تعالى عنه: "أنه لا يباع". . . إلى آخره، ثم بسط العلَّامة العيني في بيان ما يستفاد من الحديث الكلام على حقيقة الوقف وحكمه مع بيان الخلاف فيه.

ثم اعلم أن براعة الاختتام عند الحافظ في قوله: "لا تباع ولا توهب"، وعند هذا العبد الضعيف "في الوقف"، فإنه تصدق إلى الأبد صدقة جارية يصل الميت بها ما كان في حياته بعد مماته، وأيضًا في قوله:"في سبيل الله".

* * *

(1)

كتاب الوصايا، باب (29).

(2)

"عمدة القاري"(9/ 658، 659).

ص: 189

55 -

‌ كتاب الوصايا

قال الحافظ

(1)

: الوصايا جمع وصية كالهدايا، وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصى به من مال أو غيره من عهد ونحوه، فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم، وفي الشرع: عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت، وقد يصحبه التبرع، قال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أوصيه

(2)

إذا وصلته، وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، وتطلق شرعًا أيضًا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: هي لغةً: الإيصال؛ لألن الموصي وصل خير دنياه بخير عقباه، وشرعًا: تبرع بحق مضاف إلى ما بعد الموت ليس بتدبير ولا تعليق عتق وإن التحقا بها حكمًا في حسابهما من الثلث كالتبرع المنجز في مرض الموت أو الملحق به، انتهى.

وفي "الهداية"

(4)

: القياس يأبى جواز الوصية؛ لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته، إلا أنا استحسناه لحاجة الناس إليها، فإن الإنسان مغرور بأمله مقصر في عمله، فإذا عرض له المرض، وخاف البيان يحتاج إلى تلافي بعض ما فرط منه، وقد نطق به الكتاب والسُّنَّة، وعليه إجماع الأمة، انتهى ملخصًا.

قال ابن عابدين

(5)

: الوصية أربعة أقسام: واجبة؛ كالوصية برد الودائع والديودن المجهولة، ومستحبة؛ كالوصية بالكفارات وفدية الصلاة ونحوها،

(1)

"فتح الباري"(5/ 355).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 244).

(3)

كذا في "الفتح" وهو تحريف، والصواب: أَصيه، كما في "عمدة القاري"(10/ 3).

(4)

"الهداية"(8/ 227، 228).

(5)

"رد المحتار"(10/ 354).

ص: 190

ومباحة؛ كالوصية للأغنياء من الأجانب والأقارب، ومكروهة؛ كالوصية لأهل الفسوق والمعاصي، انتهى.

(1 -‌

‌ باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وصية الرجل مكتوبة عنده. . .") إلخ

هكذا في نسخ الشروح الثلاثة، وكذا في النسخة المصرية التي عليها حاشية السندي، وليس هذا الباب بموجود في النسخ الهندية التي بأيدينا، بل فيها "كتاب الوصايا، وقال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 180] ".

قال الحافظ

(1)

: باب الوصايا، أي: حكم الوصايا، وقوله:"وقال النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، لم أقف على هذا الحديث باللفظ المذكور، وكأنه بالمعنى، فإن المرء هو الرجل لكن التعبير به خرج مخرج الغالب، وإلا فلا فرق - في الوصية الصحيحة - بين الرجل والمرأة، ولا يشترط فيها إسلام ولا رشد ولا ثيوبة ولا إذن زوج، وإنما يشترط في صحتها العقل والحرية، وأما وصية الصبي المميز ففيها خلاف: منعها الحنفية والشافعي في الأظهر، وصححها مالك وأحمد والشافعي في قول، انتهى.

قوله: (ما حق امرئ مسلم) بسط العلَّامة السندي

(2)

في إعرابه أشد البسط، فارجع إليه.

وقال الحافظ

(3)

: واستدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود، ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ.

(1)

"فتح الباري"(5/ 356).

(2)

انظر: "حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 124).

(3)

"فتح الباري"(5/ 358 - 359).

ص: 191

ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به؛ كوديعة ودين لله أو لآدمي، قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه". . . إلى آخر ما بسط، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: مذهب الأربعة أنها مندوبة لا واجبة. . .، إلى آخر ما بسط.

(2 -‌

‌ باب أن يترك ورثته أغنياء. . .) إلخ

هكذا اقتصر على لفظ الحديث فترجم به، ولعله أشار إلى أن من لم يكن له من المال إلا القليل لم تندب له الوصية، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(3 -‌

‌ باب الوصية بالثلث. . .) إلخ

أي: جوازها أو مشروعيتها، وقد استقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن كان له وارث، فمنعه الجمهور وجوَّزه الحنفية وإسحاق وأحمد في رواية. . .، إلى آخر ما قال، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(4 -‌

‌ باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أورد فيه حديث عائشة في قصة مخاصمة سعد، وترجم له في "كتاب الإشخاص"

(5)

: "دعوى الموصي للميت" أي: عن الميت، وانتزاع الأمرين المذكورين في الترجمة من الحديث المذكور واضح، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 246).

(2)

"فتح الباري"(5/ 363).

(3)

"فتح الباري"(5/ 369).

(4)

"فتح الباري"(5/ 371).

(5)

كتاب الفرائض، باب (18)، (ح 6749).

ص: 192

(5 -‌

‌ باب إذا أومأ المريض برأسه. . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أراد بذلك إثبات أن الإشارة قائمة مقام الكلام إذا لم يلتبس المراد بها، وإنما أدير القتل ههنا على اعترافه لعدم ثبوت الدم بخبر الواحد، لا لأن الإشارة لا تفي بالمراد، انتهى.

اعلم أن ههنا مسألتين: إحداهما ما ترجم به البخاري من قوله: "إذا أومأ المريض. . ." إلخ، والمراد بها الوصية بالإيماء، والثانية ما يظهر من حديث الباب وهي مسألة القصاص، وعامة الشرَّاح لم يتعرضوا للمسألة الأولى.

وقال الحافظ

(2)

: سيأتي الكلام عليه في القصاص

(3)

، وقد عرفت أن المذكور في الترجمة هي مسألة الوصية بالإيماء، فأشار الشيخ قُدِّس سرُّه إلى المسألة الأولى بقوله: أراد بذلك، وإلى الثانية منهما بقوله: إنما أدير القتل ههنا. . . إلخ.

قال العيني

(4)

في كتاب الخصومات: اختلف العلماء في إشارة المريض، فذهب مالك والشافعي إلى أنه إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من حضره، جازت وصيته، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري: إذا سئل المريض عن الشيء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشيء حتى يتكلم، قال أبو حنيفة: إنما يجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم، وأما من اعتقل ولم يوم

(5)

به ذلك فلا يجوز إشارته. . .، إلى آخر ما قال.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 163 - 164).

(2)

"فتح الباري"(5/ 371).

(3)

كتاب الديات، باب (4)، (ح 6876).

(4)

"عمدة القاري"(9/ 141).

(5)

كذا في الأصل بالواو من الإيماء، والظاهر:"لم يدم" بالدال من الدوام، (ز).

ص: 193

وقال الموفق

(1)

: تصح وصية الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها أقيمت مقام نطقه، فإن لم تفهم إشارته، فلا حكم لها، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، فأما الناطق إذا اعتقل لسانه، فعرضت عليه وصيته، فأشار بها، وفهمت إشارته، لم تصح وصيته، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: تصح، انتهى.

وأما المسألة الثانية فسيأتي في كتاب الديات إن شاء الله.

(6 -‌

‌ باب لا وصية لوارث)

هذه ترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته، وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" ثم قال: والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم؛ لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة لرواية الدارقطني وفيه: "إلا أن يشاء الورثة" ورجاله ثقات، إلا أنه معلول، وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(7 -‌

‌ باب الصدقة عند الموت)

أي: جوازها، وإن كانت في حال الصحة أفضل، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(8 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: ({مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ .. . .} [النساء:

11])

قال الحافظ

(4)

: أراد المصنف بهذه الترجمة الاحتجاج بما اختاره من جواز إقرار المريض بالدين مطلقًا، سواء كان المقر له وارثًا أو أجنبيًا،

(1)

"المغني"(8/ 511).

(2)

"فتح الباري"(5/ 372).

(3)

"فتح الباري"(5/ 374).

(4)

"فتح الباري"(5/ 374، 375).

ص: 194

ووجه الدلالة أنه سبحانه وتعالى سوّى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصِّل، فخرجت الوصية للوارث بالدليل الذي تقدم، وبقي الإقرار بالدين على حاله، وقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدم من المواريث كلها لا بما يليه وحده، وكأنه قيل: قسمة هذه الأشياء تقع من بعد وصية، والوصية هنا المال الموصى به، انتهى.

قوله: (أجازوا إقرار المريض بدين. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: إن كان المجاز دين الصحة فلا خلاف لنا ولهم، وإن أثبت أحد أنه دين المرض فلا يلزمنا قولهم، وكونه متهمًا في دعواه لا يرفع الشبهة عن إخباره ولا يحصل الأمن واستيقان الصدق في إقراره، وكونه متهمًا أظهر، وقد ثبت أن الشرع اعتبر التهمة في تلك الأبواب حتى إنه لم يجوز شهادة المرء لأبويه، وهل هذا إلا اتهامًا وظنًا بالمسلم سوءًا، فهل كان الرجل لتلك الشبهة مظنة نفاق كما أوردتموه بالرواية؟ وإن كان لا بد كذلك فلا ضير فيه إذا ثبت مثله في الشرع، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية شهيرة، وما يظهر من الشروح من تفرد الحنفية بذلك ليس بذاك، فإن الجمهور في ذلك مع الحنفية الكرام، قال الموفق

(2)

: إن أقر لوارث لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببيِّنة، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال عطاء وإسحاق وغيرهما: يقبل؛ لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في المرض كالأجنبي، وللشافعي قولان كالمذهبين، وقال مالك: يصح إذا لم يتهم، ويبطل إن اتهم، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن إقرار المريض لغير الوارث جائز، لكن إن كان عليه دين في الصحة فقد قالت طائفة - منهم النخعي وأهل الكوفة -: يبدأ بدين الصحة، ويتحاص أصحاب الإقرار في المرض، انتهى

(4)

.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 166 - 168).

(2)

"المغني"(7/ 332، 333).

(3)

"فتح الباري"(5/ 376).

(4)

"اللامع"(7/ 166).

ص: 195

قوله: (وقال بعض الناس: لا يجوز. . .) إلخ، وأجاب العلَّامة العيني

(1)

عن الحنفية، وأورد عليه العلَّامة السندي

(2)

وبسط الكلام عليه، فارجع إليه لو شئت.

وأيضًا قال العيني: العجب من البخاري أنه خصص الحنفية بالتشنيع عليهم وهم ما هم منفردون فيما ذهبوا إليه، لكن ليس هذا إلا بسبب أمر سبق فيما بينهم، انتهى.

(9 -‌

‌ باب تأويل قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. . .} إلخ [النساء:

11])

أي: بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدين مع أن الدين هو المقدم في الأداء، وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة.

قوله: (ويذكر. . .) إلخ، هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والترمذي

(3)

وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه قال: "قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدين" وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم، وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به، وقد أورد في الباب ما يعضده أيضًا، ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة، وهي ما لو أوصى لشخص بألف مثلًا وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينًا يستغرق موجوده وصدقه الوارث، ففي وجه للشافعية تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، ثم قال: وإنما قدمت الوصية بمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها واختلف في تعيين ذلك

(1)

"عمدة القاري"(10/ 24).

(2)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 126).

(3)

"المسند"(1/ 79)، "سنن الترمذي" (ح: 2122).

ص: 196

المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور، ثم ذكرها الحافظ مع الزيادة عليها

(1)

.

وتكلم الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

على شرح هذا الباب بالبسط، فارجع إليه لو شئت.

وفي هامشه: اعلم أولًا أن الإمام البخاري بوّب على هذه الآية بترجمتين: الأولى ما تقدم من قوله: "باب قول الله عز وجل {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ. . .} " إلخ، والثانية هي هذه، والفرق بينهما ظاهر وهو أن الغرض من الأولى كما تقدم الاحتجاج على جواز إقرار المريض بالدين مطلقًا، وأما الغرض من هذه الترجمة الثانية أنه تعالى قدَّم الوصية في الذكر على الدين مع أن الدين مقدَّم على الوصية، انتهى من هامش "اللامع".

(10 -‌

‌ باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه)

وفي "الفيض"

(3)

: شرع المصنف في مسائل الوقف، ووافق في أكثر مسائله صاحبي أبي حنيفة، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: حذف المصنف جواب قوله: "إذا" إشارة إلى الخلاف في ذلك، أي: هل يصح أم لا؟ وأورد المصنف المسألة الأخرى مورد الاستفهام لذلك أيضًا، وتضمنت الترجمة التسوية بين الوقف والوصية فيما يتعلق بالأقارب، وقد استطرد المصنف من هنا إلى مسائل الوقف فترجم لما ظهر له منها، ثم رجع أخيرًا، إلى تكملة كتاب الوصايا، وقد قال الماوردي: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم إذا لم يكن وارثًا ولا قاتلًا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 377، 378).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 171 - 186).

(3)

"فيض الباري"(4/ 134).

(4)

"فتح الباري"(5/ 380).

ص: 197

ثم اعلم أن الترجمة كما لا يخفى تشتمل على مسألتين: الأولى: الوصية والوقف للأقارب، والثانية: مصداق الأقارب، والمسألة الأولى لها صورتان إما أن يكون الوصية لأقارب نفسه، أو لأقارب غيره.

قال القسطلاني

(1)

: قد اختلف في ذلك، فقال الشافعية: لو أوصى لأقارب نفسه لم تدخل ورثته بقرينة الشرع، وقيل: يدخلون لوقوع الاسم عليهم، ثم يبطل نصيبهم لعدم إجازتهم لأنفسهم ويصح الباقي لغيرهم ويدخل في الوصية لأقارب زيد الوارث وغيره، والقريب والبعيد، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى، والفقير والغني لشمول الاسم لهم، ويستوي قرابة الأب والأم، ولو كان الموصي عربيًا لشمول الاسم، وقيل: لا تدخل قرابة الأم إن كان الموصي عربيًا لأن العرب لا تعدها قرابةً ولا تفتخر بها، هذا ما صححه في "المنهاج" كأصله، لكن قال الرافعي في شرحيه: الأقوى الدخول، وصححه في أصل "الروضة"، وقال أحمد كالشافعية إلا أنه أخرج الكافر، وقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم، وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم، زاد زفر: ويقدم من قرب، فهو رواية عن أبي حنيفة وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشترط ذلك، وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان يرثه أم لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء، انتهى.

زاد العيني

(2)

في مذهب أبي حنيفة: كل ذي رحم محرم من قبل أبيه أو أمه ولا يدخل فيه الوالدان والولد؛ لأنه تعالى عزّ اسمه عطف الأقربين على الوالدين، والعطف يدل على المغايرة، وقال قوم من أهل الحديث وجماعة من الظاهرية: الوصية لكل من جمعه وفلانًا أبوه الرابع إلى ما هو

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 263، 264).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 29).

ص: 198

أسفل من ذلك، وذكره الحافظ

(1)

رواية عن الإمام أحمد، قلت: هو المرجح في مذهبه.

قوله: (وكانا أقرب إليه مني) بسط الكلام عليه في هامش "اللامع"

(2)

، ويشكل عليه ما سيأتي في تفسير سورة آل عمران وفيه:"وأنا أقرب إليه"، عكس ما ههنا، وأجاب شيخ مشايخنا مولانا أحمد علي المحدث السهارنفوري في هامشه

(3)

في التفسير: لعل قوله ههنا من حيث إنه كان داخلًا في عيال أبي طلحة؛ لأن أبا طلحة نكح أم أنس فكان أنس ربيبًا له، فمن هذه الحيثية كان أقرب منهما إليه، وأما من حيث القرابة فكانا أقرب إليه من أنس، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: قوله: "وأنا أقرب إليه" أي: باعتبار التربية، وكانا أقرب إليه بحسب النسب، وليس فيه شكاية على إيثاره إياهما عليه بل بيان لوجه إيثاره إياهما عليه، والمعنى: إني وإن كنت أقرب إليه بحسب وجوب التربية والمعاشرة، إلا أنهما لمَّا كانا أقرب إليه مني نسبًا آثرهما علي، انتهى.

وبسط الكلام في هامش "اللامع"

(5)

على أنساب هؤلاء الأربعة وأوضحه بصورة الجدول.

(11 -‌

‌ باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب)

هكذا أورد الترجمة بالاستفهام لما في المسألة من الاختلاف كما تقدم، وموضع الشاهد من الحديث قوله فيه:"ويا صفية ويا فاطمة" فإنه سوّى صلى الله عليه وسلم في ذلك بين عشيرته فعمهم أولًا ثم خص بعض البطون ثم ذكر عمه العباس وعمته صفية وابنته، فدل على دخول النساء في الأقارب وعلى

(1)

"فتح الباري"(5/ 380).

(2)

"اللامع"(7/ 182).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(9/ 31).

(4)

"لامع الدراري"(9/ 40).

(5)

"اللامع"(7/ 180).

ص: 199

دخول الفروع أيضًا، وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلمًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أي: بأن يقف على نفسه ثم على غيره، أو بأن يشترط لنفسه من المنفعة جزءًا معيَّنًا، أو يجعل للناظر على وقفه شيئًا ويكون هو الناظر؟ وفي هذا كله خلاف، فأما الوقف على النفس فسيأتي البحث فيه في "باب الوقف كيف يكتب؟ "

(3)

وأما شرط شيء من المنفعة فسيأتي في "باب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]. . ." إلخ

(4)

، وأما ما يتعلق بالنظر فأذكره. ثم قال: قوله: "وقد يلي الواقف وغيره. . ." إلخ، هو من تفقه المصنف، وهو يقتضي أن ولاية النظر للواقف لا نزاع فيها، وليس كذلك وكأنه فرعه على المختار عنده، وإلا فعند المالكية أنه لا يجوز، وقيل: إن دفعه الواقف لغيره ليجمع غلَّته ولا يتولى تفرقتها إلا الواقف جاز، والذي احتج به المصنف من قصة عمر ظاهر في الجواز، ثم قوّاه بقوله:"وكذلك كل من جعل بدنة. . ." إلخ، وقال ابن بطال

(5)

: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته، ثم قال: وإنما يجوز له ذلك إن شرطه في الوقف أو افتقر هو أو ورثته، انتهى.

قال الحافظ

(6)

: والذي عند الجمهور جواز ذلك إذا وقفه على الجهة العامة دون الخاصة كما سيأتي في ترجمة مفردة

(7)

، انتهى.

وقال الحافظ

(8)

في "باب الوقف كيف يكتب؟ ": يستنبط من الحديث

(1)

"فتح الباري"(5/ 382).

(2)

"فتح الباري"(5/ 383).

(3)

كتاب الوصايا، باب (28).

(4)

كتاب الوصايا، باب (22).

(5)

(8/ 171).

(6)

"فتح الباري"(3/ 384).

(7)

كتاب الوصايا، باب (33).

(8)

"فتح الباري"(5/ 403، 404).

ص: 200

صحة الوقف على النفس وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكية ابن شعبان، وجمهورهم على المنع إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته، ومن الشافعية ابن سريج وطائفة، واستدل له بقصة عمر هذه، إلى آخر ما بسط.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: وفي "المغني"

(2)

: من وقف شيئًا فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها، إلا أن يكون قد وقف شيئًا للمسلمين، فيدخل في جملتهم، مثل أن يقف مسجدًا، فله أن يصلي فيه، أو مقبرة فله الدفن فيها، أو بئرًا فله الاستقاء منها، لا نعلم في هذا كله خلافًا، وإذا اشترط في الوقف أن ينفق منه على نفسه، أو أهله صح الوقف والشرط، فذكر نحو ما تقدم في كلام الحافظ.

والأوجه عندي: أن ههنا مسألتين: إحداهما انتفاع الواقف من وقفه وهو مقصود هذا الباب، والثانية اشتراط الواقف لنفسه شيئًا وسيأتي في باب مستأنف قريبًا، وهو "باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا أو اشترط لنفسه. . ." إلخ، وطالما التبستا على الشرَّاح فيذكرونهما واحدة، وميل البخاري إلى الجواز في كلتيهما.

(13 -‌

‌ باب إذا وقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي: صحيح وهو قول الجمهور، وعن مالك: لا يتم الوقف إلا بالقبض، وبه قال محمد بن الحسن والشافعي في قول، واحتج الطحاوي للصحة بأن الوقف شبجه بالعتق لاشتراكهما في أنهما تمليك لله تعالى فينفذ بالقول المجرد عن القبض، ويفارق الهبة في أنها تمليك الآدمي فلا تتم إلا بقبضه، واستدل البخاري في ذلك بقصة عمر فقال: لأن عمر

(1)

هامش "اللامع"(7/ 187).

(2)

"المغني"(8/ 191).

(3)

"فتح الباري"(5/ 384).

ص: 201

أوقف وقال: "لا جناح على من وليه أن يأكل" ولم يخص إن وليه عمر أو غيره، وفي وجه الدلالة منه غموض، وقد تعقب بأن غاية ما ذكر عن عمر هو أن كل من ولي الوقف أبيح له التناول، وقد تقدم ذلك في الترجمة التي قبلها، ولا يلزم من ذلك أن كل أحد يسوغ له أن يتولى الوقف المذكور.

قال الحافظ: والذي يظهر أن مراده أن عمر لما وقف ثم شرط لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإِخراجه عن يده فكان تقريره لذلك دالًا على صحة الوقف وإن لم يقبضه الموقوف عليه، قال الداودي: ما استدل به البخاري على صحة الوقف قبل القبض من قصة عمر حمل للشيء على ضده وتمثيله بغير جنسه. . .، إلى آخر ما بسطه.

(14 -‌

‌ باب إذا قال: داري صدقة لله. . .) إلخ

أي: تتم الصدقة قبل تعيين جهة مصرفها ثم يعيِّن بعد ذلك فيما شاء، وقوله:"فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم" هو من تفقه المصنف، وقوله:"قال بعضهم. . ." إلخ، أي: لا يجوز حتى يعيِّن، وسيأتي بيانه في الباب الآتي الذي يليه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(15 -‌

‌ باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة أخصر من التي قبلها؛ لأن الأولى فيما إذا لم يعيِّن المتصدق عنه ولا المتصدق عليه، وهذه فيما عيَّن المتصدق عنه فقط، قال ابن بطال

(3)

: ذهب مالك إلى صحة الوقف وإن لم يعيِّن مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعي في قول، والقول الآخر للشافعي أن الوقف لا يصح حتى يعيِّن جهة مصرفه وإلا فهو باق على ملكه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 385).

(2)

"فتح الباري"(5/ 385).

(3)

(8/ 173).

ص: 202

قال العيني

(1)

: قال أبو حنيفة: إذا قال الرجل: أرضي هذه صدقة، ولم يزد على هذا شيئًا أنه ينبغي له أن يتصدق بأصلها على الفقراء والمساكين، أو يبيعها ويتصدق بثمنها على المساكين، ولا يكون وقفًا، ولو مات كان جميع ذلك ميراثًا بين ورثته، انتهى.

(16 -‌

‌ باب إذا تصدق أو أوقف بعض ماله. . .) إلخ

هذه الترجمة معقودة لجواز وقف المنقول، والمخالف فيه أبو حنيفة، ويؤخذ منها جواز وقف المشاع، والمخالف فيه محمد بن الحسن لكن خصَّ المنع بما يمكن قسمته، واحتج له الجوري - بضم الجيم - من الشافعية بأن القسمة بيع وبيع الوقف لا يجوز، وتعقب بأن القسمة إفراز فلا محذور، ووجه كونه يؤخذ منه وقف المشاع ووقف المنقول هو من قوله:"أو بعض رقيقه أو دوابه" فإنه يدخل فيه ما إذا وقف جزءًا من العبد أو الدابة أو وقف أحد عبديه أو فرسيه مثلًا فيصح كل ذلك عند من يجيز وقف المنقول ويرجع إليه في التعيين. وشاهد الترجمة من الحديث قوله: "أمسك عليك بعض مالك" فإنه عام من أن يكون مقسومًا أو مشاعًا، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(2)

.

قال العيني

(3)

: أما أبو حنيفة فلا يرى بالوقف أصلًا، فضلًا عن صحة وقف المنقول، وأما إذا وقف بعض ماله فهو وقف المشاع، فإنه يجوز عند أبي يوسف والشافعي ومالك؛ لأن القبض ليس بشرط عندهم، وعند محمد: لا يجوز وقف المشاع فيما يقبل القسمة؛ لأن القبض شرط عنده، انتهى.

وبجواز وقف المشاع قال أحمد، كما في "المغني"

(4)

.

ثم لا يذهب عليك أنهم قالوا: في غرض الترجمة أمران:

(1)

"عمدة القاري"(10/ 37).

(2)

"فتح الباري"(5/ 387).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 39).

(4)

"المغني"(8/ 233).

ص: 203

الأول: وقف المنقول، وسيأتي في ترجمة مستقلة في "باب وقف الدواب والكراع"، قال الحافظ

(1)

: هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات، انتهى. على هذا فتكون الترجمة مكررة.

فالأوجه حملها على وقف المشاع، وهو الأمر الثاني من قول الشرَّاح، وعليه حمل الشيخ الترجمة، ولا يقال: إنه سيأتي أيضًا "باب إذا وقف جماعة أرضًا مشاعًا"، فإن هذا الباب الأول في وقف الواحد المشاع، والثاني في وقف جماعة مشاعًا، فافترقا

(2)

.

(17 -‌

‌ باب من تصدق إلى وكيله. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: هذه الترجمة وحديثها سقط من أكثر الأصول ولم يشرحه ابن بطال، وثبت في رواية أبي ذر عن الكشميهني خاصة، وقد نوزع البخاري في انتزاع هذه الترجمة من قصة أبي طلحة، وأجيب بأن مراده أن أبا طلحة لما أطلق أنه تصدق وفوَّض إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعيين المصرف، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"دعها في الأقربين" كان شبيهًا بما ترجم به، ومقتضى ذلك الصحة، انتهى.

(18 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى. . .} [النساء: 8]) إلخ

قال القسطلاني

(4)

: وكان ذلك واجبًا في ابتداء الإسلام لأن أنفسهم تتشوّف إلى شيء من ذلك إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم آيسون لا يعطون شيئًا؛ فأمر الله تعالى برأفته ورحمته أن يرضخ لهم شيء من الوسط إحسانًا إليهم وجبرًا لقلوبهم، ثم نسخ ذلك بآية المواريث، وهذا مذهب

(1)

"فتح الباري"(5/ 405).

(2)

انظر: "لامع الدراري"(7/ 190 - 191).

(3)

"فتح الباري"(5/ 387).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 276).

ص: 204

الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، وقالت طائفة: هي محكمة وليست بمنسوخة.

وبسط الكلام على هذه الآية في هامش "اللامع"

(1)

.

(19 -‌

‌ باب ما يستحب لمن توفي فجاءة. . .) إلخ

وفي الترجمة مسألتان: الأولى: التصدق عن الميت، والثانية: قضاء النذر عنه، وهما خلافيتان، تقدم الكلام على الثانية منهما في "باب من مات وعليه صوم" من كتاب الصيام، وأما المسألة الأولى فقال النووي في "شرح مقدمة مسلم"

(2)

تحت قول عبد الله بن المبارك: ولكن ليس في الصدقة اختلاف.

قال النووي: من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فإن الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين وهذا هو الصواب، وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه الشافعي في كتابه "الحاوي" عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب، فهو مذهب باطل قطعًا وخطأ بيِّن مخالف لنصوص الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، فلا التفات إليه ولا تعريج عليه، وأما الصلاة والصوم فمذهب الشافعي وجماهير العلماء أنه لا يصل ثوابهما إلى الميت إلا إذا كان الصوم واجبًا على الميت فقضاه عنه وليُّه أو من أذن له الولي فإن فيه قولين للشافعي أشهرهما عنه أنه لا يصح، وأصحهما عند محققي متأخري أصحابه أنه يصح، وأما قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وقال بعض أصحابه: يصل ثوابها إلى الميت. . . إلى آخر ما بسط في الاختلاف والدلائل.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 193 - 194).

(2)

"صحيح مسلم بشرح النووي"(1/ 137 - 138).

ص: 205

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(1)

في "كتاب الأقضية" أشد البسط بما لا مزيد عليه، وفيه نقلًا عن النووي في "شرح الأذكار"

(2)

: واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يصل، وذهب أحمد وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، انتهى.

وأما مذهب المالكية فقال الدردير

(3)

: وفُضِّلَ تطوع وليه أو قريبه عن الميت وكذا عن الحي بغير الحج كصدقة ودعاء وهدي وعتق؛ لأنها تقبل النيابة، لا كصوم وصلاة، ويكره تطوعه عنه بالحج، وأما القرآن فأجازه بعضهم، وكرهه بعضهم، قال الدسوقي: قوله: فأجازه بعضهم، وهو الذي جرى به العمل، وهو ما عليه المتأخرون، وقوله: كرهه بعضهم، وهو أصل المذهب، انتهى.

وأما مذهب الحنفية فقال ابن عابدين

(4)

: صرَّح علماؤنا في "باب الحج عن الغير" بأن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صومًا أو صدقةً أو غيرها، كذا في "الهداية"

(5)

، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، لكن استثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما، بخلاف غيرها؛ كالصدقة والحج، وخالف المعتزلة في الكل، وتمامه في "فتح القدير"

(6)

إلى آخر ما ذكر.

(20 -‌

‌ باب الإشهاد في الوقف والصدقة)

قال الحافظ

(7)

: ألحق المصنف الوقف بالصدقة، لكن في الاستدلال لذلك بقصة سعد نظر؛ لأن قوله:"أشهدك" يحتمل إرادة الإشهاد المعتبر

(1)

"أوجز المسالك"(14/ 260 - 269).

(2)

"الأذكار" للنووي (ص 258).

(3)

"الشرح الكبير"(1/ 423) و (2/ 10).

(4)

"رد المحتار"(4/ 10 - 11).

(5)

"الهداية"(1/ 178).

(6)

"فتح القدير"(3/ 142 - 143).

(7)

"فتح الباري"(5/ 391).

ص: 206

ويحتمل أن يكون معناه الإعلام، واستدل المهلب للإشهاد في الوقف بقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] قال: فإذا أمر بالإشهاد في البيع وله عوض فلأن يشرع في الوقف الذي لا عوض له أولى، وقال ابن المنيِّر: كأن البخاري أراد دفع التوهم عمَّن يظن أن الوقف من أعمال البر فيندب إخفاؤه، فبيَّن أنه يشرع إظهاره؛ لأنه بصدد أن ينازع فيه ولا سيما من الورثة، انتهى.

(21 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. . .} [النساء: 2]) إلخ

أي: إذا بلغوا الحلم كاملةً موفرة، " {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} " المراد بالخبيث أموالهم الحرام عليكم، وبالطيب الحلال من أموالكم، قال سعيد بن جبير: لا تعطوا هزيلًا وتأخذوا سمينًا، وقال السدّي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدراهم الجيدة ويطرح مكانها الزائف، ويقول: درهم بدرهم، فنُهو عن ذلك، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(22 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:

6])

الغرض من الترجمة عندي الإشارة إلى أنه ينبغي للوصي والولي الاحتراز عن الأكل بغير المعروف.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: غرضه بإيراد الروايتين في هذا الباب إثبات أن المحبوس في حق أحد وعمله يأكل منه بقدر عمالته، غير أن العامل على مال اليتيم لا يجوز له الأخذ على عمالته إن كان غنيًا لتصريح النص بذلك الاستثناء ولا كذلك في غيره، أي: اليتيم فإنه يرخص في أخذ العمالة ثمة الغني والفقير، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 279).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 195 - 196).

ص: 207

وفي هامشه: بسط الكلام على تلك المسألة في "الأوجز"

(1)

، وفيه: قال ابن القاسم عن مالك: لا أعلم أنه يجوز لولي اليتيم أن يصيب من مال اليتيم شيئًا إلا من اللبن، إن كان بموضع لا ثمن له، وحكى الصاوي عن مالك: له أجرة مثله مطلقًا زادت عن كفايته أو لا.

وبسط الجصّاص في "أحكام القرآن"

(2)

في تفسير الآية، ثم قال: والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضًا ولا غيره غنيًا كان أو فقيرًا، وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضًا إذا احتاج ثم يقضيه، انتهى.

ومذهب الشافعية كما في "الفتح"

(3)

: أن يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته، ولا يجب رده على الصحيح، انتهى.

(23 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى. . .} [النساء: 10]) إلخ

الغرض من الباب عند هذا العبد الضعيف التأكيد للمعنى المقصود من الترجمة السابقة، فافهم.

(24 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى. . .} [البقرة: 220]) إلخ

اعلم أن المصنف قد أجاد في ترتيب هذه التراجم الثلاثة، حيث أشار بالترجمة الأولى إلى الاحتياط في أموال اليتامى، وبالترجمة الثانية إلى تأكيده، وما في ترك الاحتياط من الوعيد الشديد، وبالثالثة إلى مفهوم الاحتياط، وهو ما فيه إصلاحهم كما نطق به نص التنزيل العزيز.

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 445 - 450).

(2)

"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 64 - 65).

(3)

"فتح الباري"(5/ 392).

ص: 208

(25 -‌

‌ باب استخدام اليتيم في السفر والحضر. . .) إلخ

لعله أشار بذلك إلى دفع ما يُتوهم من أن الاستخدام فيه ازدراء لليتيم، فدفعه المصنف بقوله:"إذا كان صلاحًا له".

وقال القسطلاني

(1)

: مطابقة الحديث للترجمة في السفر والحضر من قوله: "فخدمته في السفر والحضر" وفي قوله: "ونظر الأم" من جهة أن أبا طلحة لم يفعل ذلك إلا بعد رضا أم سليم، وفي قوله:"أو زوجها" من قوله: "فأخذ أبو طلحة بيدي" إلى آخره.

وزاد الحافظ

(2)

في مطابقة "نظر الأم" إذ قال: أو أشار إلى ما ورد في بعض طرقه "أن أم سليم هي التي أحضرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة" وأما أبو طلحة فأحضره إليه لما أراد الخروج إلى غزوة خيبر كما سيأتي ذلك صريحًا في "باب من غزا بصبي للخدمة" من كتاب الجهاد

(3)

.

(26 -‌

‌ باب إذا وقف أرضًا ولم يبيِّن الحدود. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: يعني بذلك: أن ذكر الحدود وإنما هو لتعيين الموقوف وتمييزه من غيره، فإذا حصل التمييز بدون ذكر الحدود كما في الرواية، فإن الحديقة تكون متميزة منحازة بحدودها لم يفتقر إلى ذكر الحدود، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(5)

: قوله: "ولم يبيِّن الحدود" كذا أطلق الجواز وهو محمول على ما إذا كان الموقوف أو المتصدق به مشهورًا متميزًا بحيث يؤمن أن يلتبس بغيره، وإلا فلا بدَّ من التحديد اتفاقًا، ويحتمل أن يكون مراد البخاري أن الوقف يصح بالصيغة التي لا تحديد فيها بالنسبة

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 287).

(2)

"فتح الباري"(5/ 395).

(3)

كتاب الجهاد، باب (74).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 198).

(5)

"فتح الباري"(5/ 396).

ص: 209

إلى اعتقاد الواقف وإرادته لشيء معيَّن في نفسه، وإنما يعتبر التحديد لأجل الإشهاد عليه ليبين حق الغير، انتهى.

قال ابن عابدين

(1)

: لم يذكر المصنف، أي: صاحب "الدر" لصحة الوقف اشتراط تحديد العقار؛ لأن الشرط كونه معلومًا، إلى آخر ما في هامش "اللامع".

(فائدة): قال الحافظ

(2)

: أشار الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي: وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، انتهى. (الوقف للغني والفقير).

(27 -‌

‌ باب إذا وقف جماعة أرضًا مشاعًا. . .) إلخ

قال ابن المنيِّر

(3)

: احترز عما إذا وقف الواحد المشاع فإن مالكًا لا يجيزه لئلا يدخل الضرر على الشريك، وفي هذا نظر؛ لأن الذي يظهر أن البخاري أراد الرد على من ينكر وقف المشاع مطلقًا، وقد تقدم قبل أبواب

(4)

أنه ترجم "إذا تصدق أو وقف بعض ماله فهو جائز" وهو وقف الواحد المشاع، ثم قال الحافظ بعد ذكر مطابقة الحديث للترجمة: وأما ما ذكره الواقدي أن أبا بكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم وقدره عشرة دنانير، فإن ثبت ذلك كانت الحجة للترجمة من جهة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، إذ لو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم، انتهى مختصرًا

(5)

.

(28 -‌

‌ باب الوقف كيف يكتب

؟)

لمَّا كان الوقف معاملةً دائمةً ناسب لها الكتابة، قاله صاحب "الفيض"

(6)

.

(1)

"رد المحتار"(6/ 552).

(2)

"فتح الباري"(5/ 403)

(3)

"المتواري"(ص 328).

(4)

كتاب الوصايا، باب (16).

(5)

"فتح الباري"(5/ 399).

(6)

"فيض الباري"(4/ 144).

ص: 210

وقال العيني

(1)

: ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: "إن شئت حبست أصلها" إلى آخر الحديث، ويؤخذ من هذه الألفاظ شروط وهي تكتب كلها في كتاب الوقف، وقد كتب عمر رضي الله عنه كتاب وقفه، كتبه معيقيب، وكان كاتبه، وشهد عبد الله بن الأرقم، وكان هذا في زمن خلافته؛ لأن معيقيبًا كان يكتب له في خلافته، إلى آخر ما ذكر.

(29 -‌

‌ باب الوقف للفقير والغني والضيف)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك: أنه لا ضير في الوقف على الأغنياء تبعًا للفقراء، فإذا أطلق الوقف ولم يقيِّده بالفقراء كان للأغنياء أكله أيضًا، وإن خصصه بهم لم يجز للأغنياء أن يأكلوا منه، ولا يجوز الوقف على الأغنياء فقط، انتهى.

وفي هامشه: حكى ابن عابدين

(3)

عن "النهر" عن "المحيط": لو وقف على الأغنياء وحدهم لم يجز لأنه ليس بقربة، أما لو جعل آخره للفقراء فإنه يكون قربة في الجملة. . . إلى آخر ما بسط من البحث في ذلك.

وقال الحافظ

(4)

في فوائد حديث عمر رضي الله عنه في الوقف: وفيه جواز الوقف على الأغنياء لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة وهو الأصح عند الشافعية، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: يعني أن الوقف ليس صدقة محضة، فيجوز أن تصرف غلته إلى الأغنياء أيضًا، وفي "الهداية": التصدق على الغني هبة، والهبة للفقير تصدق، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 61).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 198، 199).

(3)

"رد المحتار"(6/ 519).

(4)

"فتح الباري"(5/ 403).

(5)

"فيض الباري"(4/ 144).

ص: 211

(30 -‌

‌ باب وقف الأرض للمسجد)

قال ابن المنيِّر: لعل البخاري أراد الرد على من خصَّ جواز الوقف بالمسجد، وكأنه قال: قد نفذ وقف الأرض المذكورة قبل أن تكون مسجدًا فدل على أن صحة الوقف لا تختص بالمسجد، ووجه أخذه من حديث الباب أن الذين قالوا: لا نطلب ثمنها إلا إلى الله، كأنهم تصدقوا بالأرض المذكورة فتم انعقاد الوقف قبل البناء. قلت: ولا يخفى تكلفه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(31 -‌

‌ باب وقف الدواب والكراع. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات، و"الكراع" بضم الكاف وتخفيف الراء اسم لجميع الخيل، فهو بعد الدواب من عطف الخاص على العام، و"العروض" بضم المهملة جمع عرض بالسكون وهو جميع ما عدا النقد من المال، و"الصامت" ضد الناطق، والمراد به من النقد الذهب والفضة، ووجه أخذ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصة فرس عمر أنها دالة على صحة وقف المنقولات فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كل شيء بحسبه، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: مطابقة الحديث للترجمة في قوله: "حمل على فرس في سبيل الله" قاله العيني

(4)

، وفيه نظر؛ لأنه إنما تصدق به على الرجل من غير أن يقفه، إلى آخر ما ذكر فارجع إليه لو شئت.

ويشكل ههنا وقف الصامت، إذ المراد منه النقدان ولا يصدق عليه تعريف الوقف من تحبيس الأصل وتصدق المنافع، وأجاب عنه

(1)

"فتح الباري"(5/ 405).

(2)

"فتح الباري"(5/ 405).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 295).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 64).

ص: 212

الحافظ

(1)

بأنه يمكن الانتفاع بالصامت بطريق الارتفاق بأن يحبس مثلًا منه ما يجوز لبسه للمرأة فيصح بأن يحبس أصله وينتفع به النساء باللبس عند الحاجة إليه، انتهى.

والأوجه عندي: أن الإمام البخاري ذكر أثر الزهري لهذا الإشكال، وأشار إليه فإن من ذهب إلى صحة وقف الصامت قال: يعطيه مضاربة وينتفع بربحها، ولما كانت الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعين فبدلها قائم مقامها، فتدبر.

(32 -‌

‌ باب نفقة القيِّم للوقف)

قال العيني

(2)

: القيِّم: العامل على الوقف، ويدخل فيه الأجير والناظر والوكيل، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: "ما تركتُ بعد نفقة نسائي" فيه الترجمة إن أريد بالقيِّم المتولي وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أريد به الحافظ عليه والناظر فالترجمة في قوله:"مئونة عاملي"، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: الحديث دالٌّ على مشروعية أجرة العامل على الوقف، والمراد بالعامل في هذا الحديث: القيم على الأرض والأجير ونحوهما أو الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، وهم من قال: إن المراد بـ أجرة حافر قبره.

قال العيني

(5)

: قال ابن بطال: أراد البخاري بتبويبه أن يبين أن المراد بقوله: "مئونة عاملي" عامل أرضه التي أفاءها الله عليه من بني النضير وفدك وسهمه من خيبر، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(5/ 406).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 64).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 199).

(4)

"فتح الباري"(5/ 406).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 64).

ص: 213

وبسط الكلام على حديث الباب في "الأوجز"

(1)

وفيه: يتحصل من المجموع خمسة أقوال في المراد بالعامل: الخليفة، والصانع، والناظر، والخادم، وحافر قبره، وفي ترجمة المصنف إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر.

(33 -‌

‌ باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا أو اشترط لنفسه. . .) إلخ

المقصود من هذه الترجمة الإشارة إلى جواز شرط الواقف لنفسه منفعة من وقفه، وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبًا في وقفه أن ذلك جائز، وقد مضى هذا المعنى في "باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟ "، انتهى

(2)

.

قلت: ما حكى العلَّامة العيني عن ابن بطال من عدم الخلاف في ذلك ليس بصحيح، والمسألة خلافية شهيرة، والأوجه عندي: أن ههنا مسألتين: إحداهما: انتفاع الواقف بوقفه وقد تقدم في الباب المذكور، والثانية: اشتراط الواقف لنفسه شيئًا، وهو المقصود من هذه الترجمة، وهو جائز عند أبي يوسف وأحمد، ولا يجوز عند مالك والشافعي ومحمد.

(34 -‌

‌ باب إذا قال الواقف: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: يعني بذلك: أن الوقف غير متوقف على خصوص لفظ الوقف بل المقصود هو المعنى كيفما حصل، انتهى.

وبه جزم العلَّامة العيني

(4)

وابن المنيِّر، والمسألة خلافية.

(1)

"أوجز المسالك"(17/ 546 - 550).

(2)

انظر: "عمدة القاري"(10/ 65).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 201).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 68).

ص: 214

قال الحافظ

(1)

: قال الإسماعيلي: قول المالك: "لا أطلب ثمنه إلا إلى الله" لا يصيِّره وقفًا، وقد يقول الرجل هذا لعبده فلا يصيِّره وقفًا، ويقوله للمدبر فيجوز بيعه، قال ابن المنيِّر

(2)

: مراد البخاري أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه إما بمجرده وإما بقرينة، كذا قال، وفي الجزم بأن هذا مراده نظر، بل يحتمل أنه أراد أنه لا يصير بمجرد ذلك وقفًا، انتهى.

قلت: وما ذكره الحافظ من الاحتمال توجيه للقول بما لا يرضى به قائله فإن الإمام البخاري يقول: إذا قال الواقف كذا فهو جائز، ومعناه ظاهر أنه يجوز الوقف، والحافظ يقول: أي لا يصير به وقفًا، والعجب من العلَّامة العيني أنه كيف ترك التعقب على ذلك مع شدته في التعقبات عليه، ولعل الباعث للحافظ على ذلك أن الوقف لا يصح بهذا اللفظ عند الشافعية.

وبسط الكلام على اختلاف الأئمة في هذه المسألة في هامش "اللامع"

(3)

، فارجع إليه.

(35 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . .} [المائدة: 106]) إلخ

قال العيني

(4)

: هذا باب في بيان سبب نزول قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]، وإنما قلنا كذلك لأن في حديث الباب صرَّح بقوله: وفيهم نزلت هذه الآية، انتهى.

وكتب مولانا محمد حسن المكي في تقريره: قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . .} إلخ المراد بها الوصية، ولهذا أوردها في "كتاب الوصايا"، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"

(5)

: الشهادة هي الوصية

(1)

"فتح الباري"(5/ 409).

(2)

"المتواري"(ص 329).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 201 - 202).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 69).

(5)

"الكوكب الدري"(4/ 129 - 130).

ص: 215

ههنا، وقيل: اليمين، وغير ذلك من الأقوال ذكرها في هامش "اللامع"

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: قال الزجاج في "المعاني": هذه الآيات الثلاث من أشكل ما في القرآن إعرابًا وحكمًا ومعنىً، انتهى.

وبسط الكلام على هذا الباب في هامش "اللامع"

(3)

.

(36 -‌

‌ باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: وذلك لأن حقهم لم يتعلق بالمال ما لم تقض ديونه، فلا حاجة إلى إحضارهم عند قضاء الديون؛ لأنهم بعدُ كالأجانب في ماله والأمر إلى الوصي فيه، انتهى.

قال الحافظان ابن حجر

(5)

والعيني

(6)

: لا خلاف بين العلماء في حكم هذه الترجمة أنه جائز، انتهى.

ثم البراعة سكت عنها ولعله لوضوحها لأن الوصايا كلها عندي مذكِّر للموت، ويمكن في قوله:"اسْتُشْهِدَ" فافهم.

* * *

(1)

هامش "اللامع"(7/ 203).

(2)

"فتح الباري"(5/ 410).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 203 - 205).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 205).

(5)

"فتح الباري"(5/ 413).

(6)

"عمدة القاري"(10/ 74).

ص: 216

56 -

‌ كتاب الجهاد

كذا لابن شبويه، وكذا للنسفي لكن قدَّم البسملة، وسقط "كتاب" للباقين واقتصروا على "باب فضل الجهاد"، لكن عند القابسي "كتاب فضل الجهاد" ولم يذكر "باب". والجهاد بكسر الجيم أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهادًا: بلغت المشقة، وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزيِّنه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: قال ابن العربي في "العارضة"

(3)

: مذهب الصوفية أن الجهاد الأكبر جهاد العدو الداخل وهو النفس، قالوا: وهو المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وليس المجاهد من جاهد العدو المبائن وإنما المجاهد من جاهد العدو المخالط، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رجع من غزوة:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، انتهى مختصرًا. فهذا حديث معروف عند الصوفية ذكره الغزالي في عدة مواضع من "الإحياء"، قال صاحب "الإتحاف"

(4)

: قال العراقي: رواه البيهقي من حديث جابر وقال: هذا إسناد فيه ضعف، انتهى.

ثم اختلفوا في حكم جهاد الكفار، قال الحافظ

(5)

: وللناس في

(1)

"فتح الباري"(6/ 3).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 207).

(3)

"عارضة الأحوذي"(7/ 122).

(4)

"إتحاف السادة المتقين"(8/ 397).

(5)

"فتح الباري"(6/ 37).

ص: 217

الجهاد حالان: إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والأخرى بعده، فأما الأولى: فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية اتفاقًا، ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، قال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام، وقال السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما: إنه كان عينًا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم، وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق: أنه كان عينًا على من عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ولو لم يخرج.

الحال الثاني: بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، وقيل: تجب كل ما أمكن وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضًا: أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بقلبه، والله أعلم.

وفي "البذل"

(1)

عن "الهداية"

(2)

: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه؛ إلا أن يكون النفير عامًا فحينئذ يصير من فروض الأعيان لقوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، انتهى.

(1)

"بذل المجهود"(9/ 7).

(2)

"الهداية"(1/ 378).

ص: 218

(1 -‌

‌ باب فضل الجهاد والسير. . .) إلخ

السير بكسر السين جمع السيرة وهي الطريقة، وترجموه بها لأن الأحكام المذكورة فيه متلقاة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، كذا قال الكرماني

(1)

، وتبعه الحافظ

(2)

.

قال ابن عابدين

(3)

: هذا الكتاب يعبر بالسير والجهاد والمغازي، فالسير جمع سيرة وهي فعلة بكسر الفاء من السير، فتكون لبيان هيئة السير وحالته، إلا أنها غلبت في لسان الشرع على أمور المغازي وما يتعلق بها كالمناسك على أمور الحج، انتهى.

قال الشيخ ابن عابدين

(4)

: وفضل الجهاد عظيم، كيف وحاصله بذل أعز المحبوبات وهو النفس، وإدخال أعظم المشقات عليه تقربًا بذلك إلى الله تعالى، وأشق منه قصر النفس على الطاعات على الدوام، ومجانبة هواها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم وقد رجع من غزاة:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أخَّره في الفضيلة عن الصلاة على وقتها في حديث ابن مسعود، أي: المذكور في البخاري قريبًا، ولا تردد في أن المواظبة على أداء فرائض الصلاة في أوقاتها أفضل من الجهاد؛ لأنها فرض عين، ولأن الجهاد ليس إلا للإيمان وإقامة الصلاة، فكان حسنًا لغيره والصلاة حسنة لعينها وهي المقصودة منه، انتهى.

قال الخرقي

(5)

: قال أبو عبد الله: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وقال صاحب "الفيض"

(6)

: إن شغل العلم أفضل الأشغال عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد الجهاد أفضلها، كذا في "منهاج السُّنَّة" لابن تيمية، وفي "كتاب السفاريني" عن أحمد رواية نحو

(1)

"الكرماني"(12/ 92).

(2)

"فتح الباري"(6/ 4).

(3)

"رد المحتار"(6/ 193).

(4)

"رد المحتار"(6/ 195).

(5)

انظر: "المغني"(13/ 10).

(6)

"فيض الباري"(4/ 150).

ص: 219

أبي حنيفة ومالك، وهذا كله إذا لم يكن الجهاد فرض الوقت؛ لأن الكلام في الفضائل دون الفرائض، وقال أيضًا في موضع آخر

(1)

: إن مالكًا وأبا حنيفة ذهبا إلى أن الاشتغال بالعلم خير من الاشتغال بالنوافل على عكس ما ذهب إليه الشافعي، وعن أحمد روايتان: إحداهما في فضل العلم، ولأخرى في فضل الجهاد، كما في "منهاج السُّنَّة"، انتهى.

قلت: وما حكى من مسلك الشافعية يخالفه ما في "المرقاة"

(2)

عن "شرح السُّنَّة" عن الشافعي رحمه الله تعالى: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، قال القاري: لأنه إما فرض عين أو فرض كفاية، وهما أفضل من النافلة، انتهى. وبسط الكلام في هامش "اللامع"

(3)

.

(2 -‌

‌ باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

في الباب السابق: ثم إن الفضيلة المذكورة ههنا جزئية وهي كون المجاهد مشتغلًا فيما خرج لأجله ليله ونهاره في يقظته ورقدته حاضرًا أو لاهيًا، ولذلك كان له الأجر في كل ما يفعله هو أو أجيره أو دابته إلى غير ذلك، وليس تلك الفضيلة في سائر الطاعات غير الجهاد فإن المصلي والصائم يؤجران ما كانا في صلاتهما أو صومهما لا بعد، وإن كانت فضيلة الصلاة أو غيرها من الطاعات أزيد من فضل الجهاد في نفسها لا من تلك الحيثية، وعلى هذا فلا تنافي بين هذه الرواية والتي تقدمت من أفضل العمل الصلاة لوقتها، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(5)

: واختلاف الأحاديث في أفضل الأعمال لاختلاف السائلين واختلاف مقاصدهم، أو باختلاف الوقت أو بالنسبة إلى بعض الأشياء، انتهى. وغير ذلك من وجوه الجمع.

(1)

"فيض الباري"(1/ 240).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(11/ 469).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 208 - 210).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 208).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 78).

ص: 220

(3 -‌

‌ باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء. . .) إلخ

قال العلَّامة القسطلاني

(1)

: كأن يقول: اللهم اجعلني من المجاهدين في سبيلك، وكأن يقول: اللَّهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن المنيِّر

(3)

وغيره: وجه دخول هذه الترجمة في الفقه أن الظاهر من الدعاء بالشهادة يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم وإِعانة من يعصي الله على من يطيعه، لكن القصد الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس ما ذكره مقصودًا لذاته وإنما يقع من ضرورة الوجود.

قلت: أو لما يوهمه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية" الحديث، وقد ترجم به المصنف فيما سيأتي، ثم أورد المصنف فيه حديث أنس في قصة أم حرام، وهو ظاهر فيما ترجم له في حق النساء، ويؤخذ منه حكم الرجال بطريق الأولى، وأغرب ابن التِّين فقال: ليس في الحديث تمني الشهادة وإنما فيه تمني الغزو، ويجاب بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو، انتهى.

قوله: (وقال عمر: اللَّهم ارزقني. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: وكانت المدينة مخصصة بمنقبة وكرامة فسأل الشهادة فيها دون المعركة لئلا يدفن خارجًا منها ولا يموت خارجها ولو شهيدًا، انتهى.

(4 -‌

‌ باب درجات المجاهدين في سبيل الله. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: أي: بيانها، "يقال: هذه سبيلي. . ." إلخ، يريد المؤلف أن السبيل يؤنث ويذكر وبذلك جزم الفراء، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 312).

(2)

"فتح الباري"(6/ 10 - 11).

(3)

"المتواري"(ص 154 - 155).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 211).

(5)

"فتح الباري"(6/ 11).

ص: 221

(5 -‌

‌ باب الغدوة والروحة في سبيل الله. . .) إلخ

أي: بيان فضلها، والغدوة بالفتح المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها.

قوله: (في سبيل الله) أي: الجهاد.

قوله: (وقاب قوس) أي: قدره، والقاب بتخفيف القاف وآخره موحدة معناه القدر، وكذلك القيد بكسر القاف، وقيل: القاب ما بين مقبض القوس وسيته، وقيل: ما بين الوتر والقوس، وقيل: المراد بالقوس هنا الذراع الذي يقاس به، وكأن المعنى بيان فضل قدر الزراع من الجنة، انتهى

(1)

.

(6 -‌

‌ باب الحور العين. . .) إلخ

أي: بيان صفتهن.

قوله: (يحار فيه الطرف) أي: يتحير، قال ابن التِّين: هذا يشعر بأنه رأى أن اشتقاق الحور من الحيرة، وليس كذلك، فإن الحور بالواو والحيرة بالياء.

قال الحافظ

(2)

: قلت: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر.

(7 -‌

‌ باب تمني الشهادة)

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: دفع بذلك التوهم الناشئ عن نهي التمني المتعلق بالموت، انتهى.

وفي هامشه: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في غرض الترجمة، وعلى

(1)

انظر: "فتح الباري"(6/ 14).

(2)

"فتح الباري"(6/ 15).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 212).

ص: 222

ما أفاده لا تكون الترجمة مكررة لما تقدم قريبًا من "باب الدعاء بالجهاد" ولم يتعرض لذلك العيني ولا القسطلاني، وأحال الحافظ

(1)

هذه الترجمة على الماضية فقال: تقدم توجيهه في أول "كتاب الجهاد"، وأن تمنيها والقصد لها مرغب فيه مطلوب، انتهى.

قلت: وعلى هذا فتكون الترجمة مكررة، وأما على ما أفاده الشيخ يكون الغرض من هذه الترجمة الثانية دفع ما يتوهم من النهي عن تمني الموت، وأما الترجمة الأولى التي أشار إليها الحافظ بقوله: تقدم توجيهه، هو ما قال في الباب المذكور: قال ابن المنيِّر وغيره: وجه دخول هذه الترجمة في الفقه. . . إلى آخر ما تقدم.

(8 -‌

‌ باب فضل من يُصْرَعُ في سبيل الله فمات. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: قوله: "فهو منهم" أي: من المجاهدين، قوله:"وقول الله عز وجل. . ." إلخ، أي: يحصل الثواب بقصد الجهاد إذا خلصت النية فحال بين القاصد وبين الفعل مانع، فإن قوله:{ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء: 100] أعم من أن يكون بقتل أو وقوع من دابته وغير ذلك فتناسب الآية الترجمة، قال ابن بطال

(3)

: روى ابن وهب من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد" فكأنه لما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه في الترجمة، انتهى.

(9 -‌

‌ باب من ينكب ويطعن في سبيل الله)

قال القسطلاني

(4)

: "من ينكب" بضم أوله وفتح ثالثه وآخره موحدة، أي: أدمي عضو منه أو أعم، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 16).

(2)

"فتح الباري"(6/ 18).

(3)

(5/ 17، 18).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 326).

ص: 223

وقال الحافظ

(1)

: والنكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه، والمراد بيان فضل من وقع له ذلك في سبيل الله، انتهى.

قوله: (أقوامًا من بني سليم. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم، والمبعوثون هم القراء وهم من الأنصار، قال الحافظ: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر، وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين، والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري. . .، إلى آخر ما بسط من توجيهه، كما ذكر في هامش "اللامع"

(3)

، وهو من منتقدات شيخنا السهارنفوري كما تقدم في "مقدمة اللامع"، ووجهه الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

فارجع إليه.

(10 -‌

‌ باب من يُجْرَحُ في سبيل الله)

أي: فضله، وقوله في الحديث:"والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله" جملة معترضة قصد بها التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(11 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا. . .} [التوبة: 52]) إلخ

سيأتي في تفسير براءة تفسير {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} بأنه الفتح أو الشهادة، وبه تتبين مناسبة قول المصنف بعد هذا:"والحرب سجال" ثم أورد المصنف طرفًا من حديث أبي سفيان قي قصة هرقل، والغرض منه قوله فيه:"فزعمت أن الحرب بينكم. . ." إلخ، وقال ابن المنيِّر

(6)

: التحقيق أنه ما ساق حديث هرقل إلا لقوله: "وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة"

(1)

"فتح الباري"(6/ 19).

(2)

"فتح الباري"(6/ 19).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 214 - 215).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 245).

(5)

"فتح الباري"(6/ 20).

(6)

"المتواري"(ص 155).

ص: 224

قال: فبذلك يتحقق أن لهم إحدى الحسنيين، إن انتصروا فلهم العاجلة والعاقبة، وإن انتصر عدوهم فللرسل العاقبة، انتهى.

وهذا لا يستلزم نفي التقدير الأول ولا يعارضه، بل الذي يظهر أن الأول أولى؛ لأنه من نقل أبي سفيان عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآخر فمن قول هرقل مستندًا فيه إلى ما تلقفه من الكتب، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا. . .} [الأحزاب: 23]) إلخ

قال الحافظ

(2)

: المراد بالمعاهدة المذكورة ما تقدم ذكره من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15] وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد، وهذا قول ابن إسحاق، وقيل: ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤووه وينصروه ويمنعوه، والأول أولى، انتهى.

(13 -‌

‌ باب عمل صالح قبل القتال. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: يعني بذلك: أن الصالح يؤجر في عمله ما لا يؤجر الفاسق، فوجب تقديم العمل الصالح ليؤجر أكثر مما يؤجر دونه، ودلالة الرواية ظاهرة، فإن الإسلام من العمل الصالح، وقد أمر بتقديمه، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(4)

: قال ابن المنيِّر

(5)

: مناسبة الترجمة والآية للحديث ظاهرة، وفي مناسبة الترجمة للآية خفاء، وكأنه من جهة أن الله تعالى عاتب من قال: إنه يفعل الخير ولم يفعله، وأثنى على من وفى

(1)

"فتح الباري"(6/ 20 - 21).

(2)

"فتح الباري"(6/ 22).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 217).

(4)

"فتح الباري"(6/ 24 - 25).

(5)

"المتواري"(ص 156).

ص: 225

وثبت عند القتال، أو من جهة أنه أنكر على من قدم على القتال قولًا غير مرضي، فكشف الغيب أنه أخلف، فمفهومه ثبوت الفضل في تقديم الصدق، والعزم الصحيح على الوفاء وذلك من أسلم الأعمال، قال الحافظ: وهذا الثاني أظهر فيما أرى.

وقال الكرماني

(1)

: المقصود من الآية في الترجمة قوله في آخرها: {صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]؛ لأن الصف في القتال من العمل الصالح قبل القتال، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "باب عمل صالح. . ." إلخ، لعله مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:"كما تحيون تموتون وكما تموتون تحشرون" فهذا يشعر بأنه ينبغي أن تكون خاتمة المرء على عمل خير؛ وكان السلف يستحبون أن يكون لهم عمل صالح قبل القتال، لدلالته على الإخلاص، انتهى.

(14 -‌

‌ باب من أتاه سهم غرب. . .) إلخ

الغرب: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء آخره موحدة منونًا كسهم صفة له، قال أبو عبيد وغيره: أي: لا يعرف راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء على غير قصد من راميه، وعن أبي زيد فيما حكاه الهروي: إن جاء من حيث لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان، وإن عرف راميه لكن أصاب من لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء، وأنكر ابن قتيبة السكون ونسبه لقول العامة وجوَّز الفتح وإضافة سهم لغرب، انتهى من "القسطلاني"

(3)

. .

وزاد الحافظ

(4)

: وقصة حارثة منزلة على الثاني، فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به، انتهى.

قلت: ولعل الإمام البخاري ترجم به لدفع ما يتوهم من أنه إذا لم يدر

(1)

"الكرماني"(12/ 110).

(2)

"فيض الباري"(4/ 160).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 336).

(4)

"فتح الباري"(6/ 27).

ص: 226

القاتل فلا يدري أقتل من سهم كافر أو مسلم، فنبَّه الإمام البخاري بالترجمة والحديث على أن قتيل المعركة شهيد وإن لم يدر قاتله.

(15 -‌

‌ باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)

قال الحافظ

(1)

: أي فضله، أو الجواب محذوف تقديره: فهو المعتبر.

وبسط الحافظ في شرح قوله: "لتكون كلمة الله هي العليا" فذكر فيه خمس مراتب، فارجع إليه لو شئت.

وفي "الفيض"

(2)

تحت الباب: أعرض عن التفصيل المتعذر، وعدل إلى الجواب الجملي، فقال: من قاتل لإعلاء كلمة الله فهو في سبيل الله، انتهى.

(16 -‌

‌ باب من اغبرّت قدماه في سبيل الله. . .) إلخ

أي: بيان ما له من الفضل، قال ابن بطال: والمراد في سبيل الله جميع طاعاته، قال الحافظ: وهو كما قال، إلا أن المتبادر عند الإطلاق من لفظ سبيل الله الجهاد، وقد أورده المصنف في "فضل المشي إلى الجمعة"

(3)

استعمالًا للفظ في عمومه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(17 -‌

‌ باب مسح الغبار عن الرأس)

قال ابن المنيِّر

(5)

: ترجم بهذا وبالذي بعده دفعًا لتوهم كراهية غسل الغبار ومسحه، لكونه من جملة آثار الجهاد، كما كره بعض السلف المسح بعد الوضوء.

(1)

"فتح الباري"(6/ 28، 29).

(2)

"فيض الباري"(4/ 161).

(3)

كتاب الجمعة، باب (18)، (ح: 907).

(4)

"فتح الباري"(6/ 29).

(5)

"المتواري"(ص 157).

ص: 227

قال الحافظ

(1)

: الفرق بينهما من جهة أن التنظيف مطلوب شرعًا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقاء أثره، وأما الوضوء فالمقصود به الصلاة فاستحب بقاء أثره حتى يحصل المقصود فافترق المسحان، انتهى.

(18 -‌

‌ باب الغُسل بعد الحرب والغبار)

أي: جوازه، وتقدم توجيهه في الباب السابق، قاله القسطلاني

(2)

.

(19 -‌

‌ باب فضل قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا. . .} [آل عمران: 169]) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي: فضل من ورد فيه قول الله، وقد حذف الإسماعيلي لفظ "فضل" من الترجمة، انتهى.

تكلم الحافظ في مطابقة الحديث الثاني بالترجمة فإنها خفية، وأجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

حيث قال: قوله: "اصطبح ناس الخمر" دلالته على الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] ظاهرة، فإنهم لو أخذوا على فعلتهم تلك كان ذلك إضاعةً لفعل المحسنين حيث كانوا لم يرتكبوا محرم مذهبهم، انتهى.

(20 -‌

‌ باب ظل الملائكة على الشهيد)

ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل أبيه، وهو ظاهر فيما ترجم له، قاله الحافظ

(5)

. وفي "الفيض"

(6)

: ولعل في هذا الإظلال إجلالًا للميت، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 30).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 341).

(3)

"فتح الباري"(6/ 31).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 219).

(5)

"فتح الباري"(6/ 32).

(6)

"فيض الباري"(4/ 164).

ص: 228

(21 -‌

‌ باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا)

قال الحافظ

(1)

: أورد فيه حديث قتادة "ما أحد يدخل الجنة يحب" بلفظ الحب، وقد ورد بلفظ التمني في رواية النسائي والحاكم عن أنس مرفوعًا وفيه:"فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى؟ أسألك أن تردني" الحديث، وقال ابن بطال

(2)

: هذا الحديث أجلّ ما جاء في فضل الشهادة، انتهى.

(22 -‌

‌ باب الجنة تحت بارقة السيوف. . .) إلخ

من إضافة الصفة إلى الموصوف، وقد تطلق البارقة ويراد بها نفس السيف فتكون الإضافة بيانية، وقد أورده بلفظ "تحت ظلال السيوف" وكأنه أشار بالترجمة إلى حديث عمار بن ياسر، أخرجه الطبراني بإسناد صحيح عن عمار أنه قال يوم صفين:"الجنة تحت الأبارقة" كذا وقع فيه والصواب "البارقة" وهي السيوف اللامعة، وكذا وقع على الصواب في ترجمة عمار من "طبقات ابن سعد"، لكن المصنف لم يسقه لكونه ليس على شرطه، واستنبط معناها مما هو على شرطه فإنه إذا ثبت لها ظلال ثبت لهما بارقة ولمعان، انتهى من "الفتح"

(3)

و"القسطلاني"

(4)

.

(23 -‌

‌ باب من طلب الولد للجهاد. . .) إلخ

أي: ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر وإن لم يقع ذلك، انتهى من "الفتح"

(5)

.

قوله: (إلا امرأة واحدة جاءت بشق) كتب الشيخ في "اللامع"

(6)

: ولعل إتيانها بشق كان مبنيًا على ما عزم سليمان من أن يقول: إن شاء الله، ثم إنه

(1)

"فتح الباري"(6/ 32).

(2)

(5/ 30).

(3)

"فتح الباري"(6/ 33).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 347 - 348).

(5)

"فتح الباري"(6/ 34).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 220 - 222).

ص: 229

لم يمكن له أن يتم عزمه فبقي ناقصًا، فكذلك الولد صار باقيًا بنقصان فيه ولم يكمل، انتهى.

وفي هامشه: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في وجه الإتيان بواحدٍ ساقطًا أحد شقيه، ولم يتعرض لذلك الشرَّاح، وفيه أيضًا: قال الحافظ

(1)

: حكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وقال غير واحد من المفسرين: إن المراد بالجسد المذكور شيطان. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"، وذكر فيه أيضًا اختلاف الروايات في عدد النسوة اللاتي جامعهن سليمان عليه السلام في تلك الليلة.

(24 -‌

‌ باب الشجاعة في الحرب والجبن)

أي: مدح الشجاعة وذم الجبن، بضم الجيم وسكون الموحدة ضد الشجاعة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وزاد العيني

(3)

: وأما الجبن الذي يؤكل فهو بتشديد النون، انتهى.

(25 -‌

‌ باب ما يتعوذ من الجبن)

بضم أول يُتعوَّذ على البناء للمجهول، أي: بيان التعوذ من الجبن، وكلمة "ما" مصدرية.

(26 -‌

‌ باب من حدّث بمشاهده. . .) إلخ

قال القسطلاني

(4)

: أي: ليتأسى بذلك ويرغب فيه لا للرياء والسمعة.

قوله: (فما سمعت أحدًا منهم يحدث. . .) إلخ، خشية التزايد والنقصان والدخول في الوعيد.

قوله: (يحدث عن يوم أُحد) أي: بما وقع له فيه من ثبات القدم أو نحو

(1)

"فتح الباري"(6/ 461).

(2)

"فتح الباري"(6/ 35).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 130).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 353 - 354).

ص: 230

ذلك، وقد كان من أهل النجدة، وذكر المؤلف في "المغازي" عن قيس قال:"رأيت يد طلحة شلاء وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد"، وعن أبي عثمان النهدي "أنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأيام غير طلحة وسعد" ولهذا حدَّث طلحة عن مشاهده يوم أُحد ليقتدى به ويرغب الناس في مثل فعله، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(27 -‌

‌ باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: النفير: الخروج إلى قتال الكفار.

قوله: (وما يجب. . .) إلخ، أي: وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، انتهى.

قلت: وتقدم الكلام على حكم الجهاد عند الجمهور في مبدأ هذا الكتاب، وفي "الأوجز"

(3)

: قال ابن المسيب: الجهاد فرض عين، لقوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وغير ذلك من العمومات، انتهى.

ولا يبعد أن يقال: إن ميل المصنف إلى هذا القول بذكره في الترجمة ما استدل به ابن المسيب، فتدبر.

قوله: ({انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا. . .}) إلخ [التوبة: 41]، هذه الآية متأخرة في التنزيل عن الآية الثانية، لكن قدَّمها المصنف، ولعل وجهه عند هذا العبد الضعيف الإشارة إلى الحالتين المذكورتين في أول "كتاب الجهاد" من كلام الحافظ، أي: الجهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، والحال الثانية بعده صلى الله عليه وسلم، فقد قيل: إنه كان فرض عين في الحال الأولى، وفرض كفاية في الحال الثانية، إلا وقت النفير العام، فلعل المصنف قدم الآية المتأخرة لدلالتها على فرض

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 354).

(2)

"فتح الباري"(6/ 37).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 9 - 10).

ص: 231

الخروج مطلقًا، وأشار به إلى أن الجهاد كان فرض عين في الحال الأولى، وأخَّر المتقدمة لكونها مقيدة بقوله:{إِذَا قِيلَ لَكُمُ} [التوبة: 38] فإن فرضية الجهاد في الحال الثاني مقيدة بالنفير العام، وهو المستفاد بقوله:"وإذا قيل لكم" فتأمل.

(28 -‌

‌ باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم. . .) إلخ

أي: القاتل.

(فيسدّد بعد) أي: يعيش على سداد، أي: استقامة في الدين، قال ابن المنيِّر: في الترجمة "فيسدّد" والذي وقع في الحديث "فيستشهد" وكأنه نبَّه بذلك على أن الشهادة ذكرت للتنبيه على وجوه التسديد، وأن كل تسديد كذلك وإن كانت الشهادة أفضل، لكن دخول الجنة لا يختص بالشهيد، فجعل المصنف الترجمة كالشرح لمعنى الحديث.

قال الحافظ: ويظهر لي أن البخاري أشار في الترجمة إلى ما أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرًا ثم سدّد المسلم وقارب" الحديث، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(29 -‌

‌ باب من اختار الغزو على الصوم)

أي: لئلا يضعفه الصوم عن القتال، ولا يمتنع ذلك لمن عرف أنه لا ينقصه كما سيأتي بعد ستة أبواب، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(30 -‌

‌ باب الشهادة سبع سوى القتل)

قال العلَّامة العيني

(3)

: قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأن الترجمة سبع، وفي الحديث: خمسة، قال ابن بطال: هذا يدل على أن البخاري مات ولم يهذب كتابه، وأجيب بأن البخاري أراد التنبيه على أن

(1)

"فتح الباري"(6/ 40).

(2)

"فتح الباري"(6/ 42).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 146).

ص: 232

الشهادة لا تنحصر في القتل بل لها أسباب أخر، وتلك الأسباب اختلفت الأحاديث فيها، ففي بعضها: خمسة، وهو الذي صح عند البخاري، ووافق شرطه، وفي بعضها سبع، لكن لم يوافق شرطه فنبَّه عليه في الترجمة إيذانًا بأن الوارد في عددها من الخمسة أو السبعة ليس على معنى التحديد، وقال الكرماني

(1)

: الجواب: أن بعض الرواة نسي الباقي، قال العيني: وفيه نظر لا يخفى، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك وفيه "الشهداء سبعة" سوى القتل في سبيل الله، انتهى.

قلت: وعندي يمكن أن يقال: إن لفظ "سبع" يطلق ويراد به الكثرة، ومعنى الترجمة أن أسباب الشهادة سوى القتل كثيرة، فافهم.

وفي "الأوجز"

(3)

في حديث جابر بن عتيك المذكور: قال السيوطي في "التنوير"

(4)

: وقد جمعتهم فناهزوا الثلاثين.

قلت: وسمَّاها "أبواب السعادة في أسباب الشهادة".

وجمع العيني

(5)

الروايات الواردة في ذلك لا يسعها هذا الأوجز، نعم سيأتي في آخر الحديث تلخيص ما أطلق عليه الشهادة في تلك الروايات، وفيه بعد تلخيصها: وهكذا كما رأيت ترتقي الشهادة إلى قريب من ستين، انتهى.

(31 -‌

‌ باب قول الله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ. . .} الآية [النساء:

95])

أي: بيان سبب نزول هذه الآية الشريفة.

(1)

"الكرماني"(12/ 125).

(2)

"فتح الباري"(6/ 43).

(3)

"أوجز المسالك"(4/ 542 - 547).

(4)

"تنوير الحوالك"(1/ 233).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 143 - 146).

ص: 233

(32 -‌

‌ باب الصبر عند القتال)

المقصود بيان فضله.

(33 -‌

‌ باب التحريض على القتال)

قال الحافظ

(1)

: انتزاع الترجمة من الحديث من جهة أن في مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريضًا للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك، انتهى.

(34 -‌

‌ باب حفر الخندق)

قال العيني

(2)

: أي: في ذكر حفر الصحابة رضي الله تعالى عنهم الخندق حول المدينة، انتهى.

قوله: (حول المدينة) كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: أراد بذلك في حواليه وفي جانب منها، فإن الخندق لم يحفر حول المدينة بل حول الجيش، غير أنهم كانوا على قرب من المدينة نحوًا من ثلاثة أميال، فعبر عنه بقوله:"حول المدينة" فليحفظ.

(35 -‌

‌ باب من حبسه العذر عن الغزو)

العذر الوصف الطارئ على المكلف المناسب للتسهيل عليه، ولم يذكر الجواب، وتقديره: فله أجر الغازي إذا صدقت نيَّته، انتهى

(4)

.

(36 -‌

‌ باب فضل الصوم في سبيل الله)

قال ابن الجوزي

(5)

: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد، وقال القرطبي

(6)

: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصدًا وجه الله، وقال

(1)

"فتح الباري"(6/ 46).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 151).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 222).

(4)

"فتح الباري"(6/ 47).

(5)

"كشف المشكل"(3/ 153)، (رقم 1463/ 1771).

(6)

"المفهم"(3/ 217).

ص: 234

ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، إلى آخر ما في "الفتح"

(1)

، ولا يقال: هذا يعارض ما تقدم من "باب من اختار الغزو على الصوم"

(2)

لأن فضل الصوم محمول على من لم يخش ضعفه، ولا سيّما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، انتهى من "الفتح" وغيره.

(37 -‌

‌ باب فضل النفقة في سبيل الله)

قال القسطلاني

(3)

: أي الإنفاق في الجهاد وغيره مما يقصد به وجه الله تعالى، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: قال المهلب

(5)

: في هذا الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال؛ لأن المجاهد يعطى أجر المصلي والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك؛ لأن باب الريَّان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يدعى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل المال في سبيل الله.

قال الحافظ: وما جرى فيه على ظاهر الحديث يرده ما قدمته في "الصيام" من زيادة في الحديث لأحمد حيث قال فيه: "لكل أهل عمل باب يدعون بذلك العمل" وهذا يدل على أن المراد بسبيل الله ما هو أعم من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة، انتهى.

وبسط العلَّامة السندي

(6)

في الجمع بين الروايتين فقال: المقصود تكريمه بالمناداة وإلا فهو يدخل الجنة من ذلك الباب. ثم قال بعد ما بسط الكلام: الخلاف لا يخلو إما أن يكون لسهو وقع من بعض الرواة وهو الظاهر في مثل هذا، وإما أن يكون لأنهما واقعتان في مجلسين، فلعله صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولًا بالمناداة من باب واحد وثانيًا بالمناداة من تمام الأبواب، فأخبر في كل مجلس بما أوحي إليه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 48).

(2)

كتاب الجهاد، باب (29).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 371).

(4)

"فتح الباري"(6/ 49).

(5)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 49).

(6)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 144).

ص: 235

(38 -‌

‌ باب فضل من جهّز غازيًا أو خلفه بخير)

قال الحافظ

(1)

: "جهّز" أي: هيّأ له أسباب سفره، "أو خَلَفه" بفتح المعجمة واللام الخفيفة، أي: قام بحال من يتركه، ومطابقة حديث أنس للترجمة من جهة قوله:"أو خلفه في أهله" لأن ذلك أعم من أن يكون في حياته أو بعد موته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويعلل ذلك لأن أخاها قتل معه، ففيه أنه خلفه في أهله بخير بعد وفاته، وذلك من حسن عهده صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وذكر الشيخ قُدِّس سرُّه وجه المطابقة بنوع آخر فقال: ويمكن أن تكون أم سليم خليفة من أخيها على أهله وأولاده بعد خروجه إلى القتال فيكون إيراد الرواية ههنا لذلك، انتهى

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: فإن قلت: هل من جهّز غازيًا على الكمال ويخلفه بخير في أهله له أجر غازيين أو غاز واحد؟ أجاب ابن أبي جمرة: بأن ظاهر اللفظ يفيد أن له أجر غازيين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جعل كل فعل مستقلًا بنفسه غير مرتبط بغيره، انتهى.

ثم في رواية لمسلم

(4)

أن رسول الله بعث بعثًا وقال: "ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما"، وفي رواية له:"وأيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير، كان له مثل نصف أجر الخارج"، وذكر الحافظ

(5)

وجه الجمع فارجع إليه لو شئت.

(39 -‌

‌ باب التحنط عند القتال)

أي: استعمال الحنوط وهو ما يطيب به الميت، وقد تقدم بيانه في كتاب الجنائز

(6)

، انتهى من "القسطلاني"

(7)

. قال الأزهري: يدخل فيه

(1)

"فتح الباري"(6/ 50، 51).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 222).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 375).

(4)

"صحيح مسلم"(ح: 1896).

(5)

"فتح الباري"(6/ 50).

(6)

كتاب الجنائز، باب (20).

(7)

"إرشاد الساري"(6/ 376).

ص: 236

الكافور، والصندل الأحمر، والأبيض، وقال غيره: الحنوط ما يخلط من الطيب للموتى خاصةً، ولا يقال لطيب الأحياء حنوط

(1)

، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "وهو يتحنط" ليكون أنظف وأزكى عند لقاء ربه تبارك وتعالى، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: كان من دأب السلف أنهم إذا تهيأوا للقتال حنطوا مخافة أن تتغير أجسادهم بعد القتل؛ لأن الأوان أوان الحرب، وقد يتأخر فيه الدفن. . .، إلى آخر ما قال.

قلت: وما أفاده الشيخ الكَنكَوهي أوجه كما لا يخفى.

(40 -‌

‌ باب فضل الطليعة)

أي: من يُبْعَثُ إلى العدو ليطلع على أحوالهم، وهو اسم جنس يشمل الواحد فما فوقه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(41 -‌

‌ باب هل يبعث الطليعة وحده)

قال العيني

(5)

: وجواب: هل، محذوف، والتقدير: يبعث، أو: يجوز بعثه وحده، انتهى.

وقال الحافظ

(6)

: وفي الحديث: جواز استعمال التجسس في الجهاد، وفيه أيضًا جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي عن السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك، انتهى.

قلت: وسيبوب البخاري لهذا المعنى ترجمة مستقلة بـ "باب السير وحده"

(7)

، ويذكر فيه حديثين متعارضين.

(1)

"إرشاد الساري"(3/ 378).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 224).

(3)

"فيض الباري"(4/ 173).

(4)

"فتح الباري"(6/ 52).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 165).

(6)

"فتح الباري"(6/ 53).

(7)

كتاب الجهاد، باب (135)، (ح: 2997، 2998).

ص: 237

والأوجه عندي: في الفرق بين الترجمتين أن مبنى الطليعة على السر والإخفاء لأنها تبعث إلى العدو للتجسس والاطلاع على أحواله، ولذا قال ابن المنيِّر

(1)

: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر، فيؤخذ من حديث جابر جواز السفر منفردًا للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم إلى بالانفراد كإرسال الجاسوس، انتهى.

قلت: ولهذا الفرق المذكور بين مطلق السفر والسير لمصلحة الحرب لم يذكر في هذا الباب إلا حديث جابر الدال على الجواز ولم يذكر حديث المنع، كما ذكره في الباب الآتي لكنه نبَّه بقوله:"هل" على الأمن من الموانع والمضار، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(2)

وسيأتي شيء من الكلام هناك إن شاء الله.

(42 -‌

‌ باب سفر الاثنين)

أي: جوازه، والمراد سفر الشخصين لا سفر يوم الاثنين، بخلاف ما فهمه الداودي ثم اعترض على البخاري، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وقال القسطلاني

(4)

: وحديث "الراكبان شيطانان" المروي بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة قال الطبري: إنه زجر أدب وإرشاد حسمًا للمادة فلا يتناول ما إذا وقعت الحاجة له، انتهى.

(43 -‌

‌ باب الخيل معقود في نواصيها الخير. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: هكذا ترجم بلفظ الحديث من غير مزيد، وقد استنبط منه ما يأتي في الباب بعده، انتهى.

(1)

"المتواري"(ص 169).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 228).

(3)

"فتح الباري"(6/ 53).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 380).

(5)

"فتح الباري"(6/ 54).

ص: 238

(44 -‌

‌ باب الجهاد مَاضٍ مع الْبَرِّ والفاجر. . .) إلخ

هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى مرفوعًا وموقوفًا عن أبي هريرة.

قوله: (لقول النبي صلى الله عليه وسلم:. . .) إلخ، سبقه إلى الاستدلال بها الإمام أحمد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسَّره بالأجر والمغنم، والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيِّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر، انتهى

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: ودلالة الرواية على الترجمة من حيث إن الجهاد لما كان ماضيًا إلى يوم القيامة، ومن المعلوم أن الناس إلى يوم القيامة ليس جميعهم بارًا، فلم يكن مضي الجهاد إلى يوم القيامة إلا وهو جائز مع البر والفاجر، انتهى.

(45 -‌

‌ باب من احتبس فرسًا في سبيل الله. . .) إلخ

الغرض من الترجمة بيان فضله كما في "الفتح"

(3)

وغيره، ويستنبط من الحديث جواز وقف المنقولات، وتقدم الكلام عليه فقهًا في محله.

(46 -‌

‌ باب اسم الفرس والحمار)

أي: مشروعية تسميتهما، وكذا غيرهما من الدواب بأسماء تخصها غير أسماء أجناسها، وقد اعتنى من ألَّف في السيرة النبوية لسرد أسماء ما ورد في الأخبار من خيله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من دوابه، وفي الأحاديث الواردة في هذا الباب ما يقوي قول من ذكر أنساب بعض الخيول العربية الأصلية؛ لأن الأسماء توضع للتمييز بين أفراد الجنس، انتهى

(1)

"فتح الباري"(6/ 56).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 229 - 230).

(3)

"فتح الباري"(6/ 57).

ص: 239

من "الفتح"

(1)

.

قلت: وترجم الإمام أبو داود في "السنن""باب في الرجل يسمي دابته" وكتب عليه شيخنا في "البذل"

(2)

: عقد هذا الباب إشارة إلى مشروعية تسمية الدواب من الحمار والفرس، انتهى.

وفي تقرير الوالد قُدِّس سرُّه: لئلا يتوهم أنه من رسوم الجاهلية، انتهى.

(47 -‌

‌ باب ما يذكر من شؤم الفرس)

أي: هل هو على عمومه، أو مخصوص ببعض الخيل؟ وهل هو على ظاهره، أو مؤول؟ وقد أشار بإيراد حديث سهل بعد حديث ابن عمر إلى أن الحصر الذي في حديث ابن عمر ليس على ظاهره، وبترجمة الباب الذي بعده وهي:"الخيل لثلاثة" إلى أن الشؤم مخصوص ببعض الخيل دون بعض، وكل ذلك من لطيف نظره ودقيق فكره، انتهى من "الفتح"

(3)

.

ثم اختلفت الروايات في إثبات الشؤم ونفيه، وكذا اختلفوا في وجوه الجمع بينهما، وترجم الإمام البخاري في "كتاب النكاح":"باب ما يتقى من شؤم المرأة".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه هناك في "اللامع"

(4)

: أشار بذلك إلى توجيه الجمع بين روايتي إثبات الشؤم للمرأة ونفيه عنها بأن الشؤم المنفي هو الشؤم بمعنى النحوسة، والمثبت هو بمعنى الإضرار والمخالفة والعداوة ظاهرة كانت أو باطنة، انتهى.

وفي هامشه: بسط الكلام على الحديث في "الأوجز"

(5)

وفيه: قال

(1)

"فتح الباري"(6/ 58).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 134).

(3)

"فتح الباري"(6/ 60).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 266 - 267).

(5)

"أوجز المسالك"(17/ 320 - 324).

ص: 240

الحافظ

(1)

: مال مالك وابن قتيبة وغيرهما إلى ظاهره، وقال آخرون: المراد على شرط وجوده كما ورد في الروايات، قال الحافظ: وقع في رواية الباب في "البخاري" عن ابن عمر بلفظ: "إن كان في شيء" وهكذا في الروايات الأخر التي ذكرت في "الأوجز"، وهذه الروايات تقتضي عدم الجزم بذلك، قال الطحاوي

(2)

: ففي هذه الروايات: "إن تكن في شيء" أي: لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء، فإذا لم تكن في هؤلاء الثلاث فليست في شيء، قال الحافظ

(3)

: وقال آخرون: يحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع، انتهى.

قلت: وأوجه الأقوال عندي في ذلك ما أفاده الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"

(4)

إذ قال: وأصح التأويلات فيه أن الشؤم يراد به معنيان: النحوسة المطلقة، والثاني: اشتماله على ما يكرهه الطبيعة، ويجتذب منه المشاق، وكونه سببًا لما يتنفر منه الطبيعة، فحيث نفى الشؤم أصلًا، أو قال: لو كان الشؤم لكان في هذه الثلاثة، فالمراد هو المعنى الأول، وحيث أثبته أراد الثاني، انتهى.

وفي مكتوبات

(5)

الشيخ المجدد السرهندي قُدِّس سرُّه: أن النحوسة كانت في الأيام قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين صارت كلها سواء، لا نحوسة فيها، ولا شؤم، انتهى من هامش "فيض الباري"

(6)

.

(48 -‌

‌ باب الخيل لثلاثة)

قال الحافظ

(7)

: هكذا اقتصر على صدر الحديث، وأحال بتفسيره على ما ورد فيه، وقد فهم بعض الشرَّاح منه الحصر فقال: اتخاذ الخيل لا يخرج

(1)

"فتح الباري"(6/ 61).

(2)

"شرح معاني الآثار"(2/ 381).

(3)

"فتح الباري"(6/ 62).

(4)

"الكوكب الدري"(3/ 418 - 419).

(5)

(1/ 256 - 278).

(6)

"فيض الباري"(4/ 177).

(7)

"فتح الباري"(6/ 64).

ص: 241

عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا، فيدخل في المطلوب الواجب والمندوب، ويدخل في الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد، واعترض بعضهم بأن المباح لم يذكر في الحديث وقال: والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع، وأما المباح الصرف فيسكت عنه لما عرف أن سكوته عنه عفو، انتهى.

ويحتمل عندي في وجه الغرض من الترجمة أنه الإشارة إلى نفي ما سبق من شؤم الفرس من حيث الحصر الوارد في الحديث، فإنه لم يتعرض فيه إلى الشؤم فافهم، وهذا ما عندي، وأما عند الحافظ فقد تقدم في الباب السابق من أن المؤلف أشار بهذه الترجمة إلى أن الشؤم مخصوص ببعض الخيول.

(49 -‌

‌ باب من ضرب دابة غيره في الغزو)

أي: إعانة له ورفقًا به، قاله الحافظ

(1)

.

(50 -‌

‌ باب الركوب على دابة صعبة)

قال الحافظ: "الصعبة" بسكون العين، أي: الشديدة، و"الفحولة" بالفاء والمهملة جمع فحل، والتاء فيه لتأكيد الجمع، وأخذ المصنف ركوب الصعبة من ركوب الفحل؛ لأنه في الغالب أصعب ممارسة من الأنثى، وأخذ كونه فحلًا من ذكره بضمير المذكر، وقال ابن المنيِّر: هو استدلال ضعيف؛ لأن العود يصح على اللفظ، ولفظ الفرس مذكر وإن كان يقع على المؤنث وعكسه الجماعة، فيجوز إعادة الضمير على اللفظ وعلى المعنى، إلى آخر ما في "الفتح"

(2)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: دلالة الرواية على هذا المعنى من حيث

(1)

"فتح الباري"(6/ 66).

(2)

"فتح الباري"(6/ 66).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 232).

ص: 242

إن الدابة الصعبة كما تخل بالسير وقطع المسافة، فكذلك القطوف البطيء المشي، فلما جاز الركوب عليه جاز على صعبة أيضًا، والاستدلال على ركوب الفحولة من حيث إطلاق اللفظة أو تذكيرها، انتهى.

قلت: ظاهر كلام الشيخ أنه حمل الترجمة على بيان الجواز، وعليه حمل العلَّامة العيني

(1)

.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الإمام البخاري ترغيب الركوب على الدابة الصعبة والفحولة كما يدل عليه أثر راشد بن سعد: "كان السلف يستحبون الفحولة" ودلالة الرواية عليه بما صار حال فرس أبي طلحة بعد ركوبه صلى الله عليه وسلم حتى قال: "وجدناه لبحرًا"، وبهذا اللفظ استدل البخاري على الترجمة، ووجه أفضلية الركوب على الدابة الصعبة أنه دليل على مهارة الراكب بالركوب وتدربه على الفروسية البالغة، ولأجل ذلك كان عمر رضي الله عنه يأمر بقطع الركب، وإليه أشار البخاري كما سيأتي قريبًا بـ "باب ركوب الفرس العري"، انتهى من هامش "اللامع"

(2)

.

(51 -‌

‌ باب سهام الفرس. . .) إلخ

أي: ما يستحقه الفارس من الغنيمة بسبب فرسه، قاله الحافظ

(3)

.

والمسألة خلافية شهيرة، فعند الإمام أبي حنيفة للفرس سهم، وعند الأئمة الثلاثة وصاحبي أبي حنيفة للفرس سهمان، وأما قوله:"يسهم للخيل والبراذين" فأيضًا مسألة خلافية بسطت في "الأوجز"

(4)

، فبقول مالك المذكور قال الشافعي والحنفية من أن سهم الخيل والبراذين سواء، وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات: إحداها: موافقة للجمهور، والثانية: أن للبرذون سهمًا واحدًا، قال الخلّال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه واحد، والثالثة: أن البراذين إن أدركت إدراك العراب،

(1)

"عمدة القاري"(10/ 181).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 232).

(3)

"فتح الباري"(6/ 67).

(4)

"أوجز المسالك"(9/ 250 - 266).

ص: 243

أسهم لها مثل الفرس العربي، وإلا فلا، وههنا مسألة ثالثة وهي ما قاله: لا يسهم لأكثر من فرس، بسط الكلام على ذلك في "الأوجز".

قال الحافظ: قوله: "لا يسهم لأكثر. . ." إلخ، هو بقية كلام مالك، وهو قول الجمهور، وقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين لا لأكثر، انتهى.

وفي "الأوجز"

(1)

: وبقول مالك قال أبو حنيفة والشافعي ومحمد وأهل الظاهر، وذلك لأنه إنما يسهم لفرس يركبه فارس، وأما فرس لا يركبه فلا منفعة فيه، وهذا الفارس لا يمكن أن يقاتل على اثنين منهما في وقت واحد، فوجب أن لا يسهم إلا لفرس واحد، كذا في "المنتقى"

(2)

، انتهى مختصرًا.

(52 -‌

‌ باب من قاد دابة غيره في الحرب)

أي: إعانة للغازي فالمقصود بيان فضله كما تقدم نظيره من "باب من ضرب دابة غيره" ولك أن تقول: إنه أشار بذلك إلى أن النهي عن الجلب لا يتناول هذا.

(53 -‌

‌ باب الركاب والغرز للدابة)

قيل: الركاب يكون من الحديد والخشب، والغرز لا يكون إلا من الجلد، وقيل: هما مترادفان، أو الغرز للجمل، والركاب للفرس، وحديث الباب ظاهر فيما ترجم له من الغرز، وأما الركاب فألحقه به لأنه في معناه، قال ابن بطال

(3)

: كأنه أشار إلى أن ما جاء عن عمر أنه قال: "اقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا" ليس على منع اتخاذ الركب أصلًا، وإنما أراد تدريبهم على ركوب الخيل، انتهى

(4)

.

(1)

"أوجز المسالك"(9/ 258).

(2)

"المنتقى"(3/ 196).

(3)

(5/ 70).

(4)

"فتح الباري"(6/ 69 - 70).

ص: 244

(54 -‌

‌ باب ركوب الفرس العري)

بضم المهملة وسكون الراء، أي: ليس عليه سرج ولا أداة، ولا يقال في الآدميين إنما يقال عريان، ثم قال الحافظ: وفي الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والفروسية البالغة، فإن الركوب المذكور لا يفعله إلا من أحكم الركوب وأدمن على الفروسية، وفيه أيضًا ما يشير إلى أنه ينبغي للفارس أن يتعاهد للفروسية، ويروض طباعه عليها، لئلا يفجأه شدة فيكون قد استعد لها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(55 -‌

‌ باب الفرس القطوف)

يمكن عندي أن يقال: إن الغرض الكلي لمثل هذه التراجم العديدة إثبات ركوبه صلى الله عليه وسلم على تلك الأنواع من الخيول فتكون هذه التراجم من الأصل الرابع عشر.

قال العلَّامة العيني: القطوف: بفتح القاف وضم الطاء المهملة، وهو من الدواب: المقارب الخطو، وقيل: الضيق المشي، يقال: قطفت الدابة تقطف قطافًا وقطوفًا بالضم، إذا أبطأت السير مع تقارب الخطو، وقال الثعالبي: إن مشى وثبًا فهو قطوف، وإن كان يرفع يديه ويقوم على رجليه فهو سبوت، وإن التوى براكبه فهو قموص، وإن منع ظهره فهو شموس، انتهى من "العيني"

(2)

.

(56 -‌

‌ باب السبق بين الخيل)

أي: مشروعية ذلك، والسبق بفتح المهملة وسكون الموحدة وهو المراد هنا، وبالتحريك الرهن الذي يوضع بذلك، قاله الحافظ

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 70).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 189).

(3)

"فتح الباري"(6/ 71).

ص: 245

(57 -‌

‌ باب إضمار الخيل للسبق)

إشارة إلى أن السُّنَّة في المسابقة أن يتقدم إضمار الخيل وإن كانت التي لا تضمر لا تمتنع المسابقة عليها، قاله الحافظ

(1)

.

وفي "العيني"

(2)

أي: بيان إضمار الخيل لأجل السبق، هل هو شرط أم لا؟ والإضمار والتضمير أن يظاهر على الخيل بالعلف حتى يسمن، ثم لا تعلف إلا قوتًا لتخف، وقيل: يشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها فيذهب رهلها، ويشتد لحمها، فيكون أقوى لجريه، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: وقد أورد ابن بطال هنا سؤالًا وهو كيف ترجم على إضمار الخيل؟ وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "سابق بين الخيل التي لم تضمر"، وأجاب بأنه أشار بطرف من الحديث إلى بقيته لأن تمام الحديث:"سابق بين الخيل التي أضمرت وبين الخيل التي لم تضمر"، وتعقبه ابن المنيِّر فقال: إنما كان البخاري يترجم على الشيء من الجهة العامة لما قد يكون ثابتًا ولما قد يكون منفيًا، فمعنى قوله:"باب إضمار الخيل. . ." إلخ، هل هو شرط أو لا؟ فبيَّن أنه ليس بشرط، وهذا أقعد لمقاصد البخاري من قول الشارح: إنما ذكر طرفًا من الحديث. . . إلخ؛ لأن لقائل أن يقول: إذا لم يكن بد من الاختصار فذكر الطرف المطابق للترجمة أولى لا سيما والطرف المطابق هو أول الحديث، قال ابن حجر: ولا منافاة بين كلامه وكلام ابن بطال بل أفاد النكتة في الاقتصار، انتهى.

(58 -‌

‌ باب غاية السبق للخيل المضمّرة)

قال الحافظ

(4)

ابن حجر: أي: بيان ذلك وبيان غاية التي لم تضمر، ثم قال بعد ذكر الحديث: وفيه مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث بل

(1)

"فتح الباري"(6/ 71).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 190).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 401 - 402).

(4)

"فتح الباري"(6/ 71 - 72).

ص: 246

من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك.

قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب والأقدام، وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب، وفيه جواز إضمار الخيل، ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو، انتهى مختصرًا.

(59 -‌

‌ باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

وفي بعض النسخ: "باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء والعضباء. . ." إلخ، قاله العيني

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: كذا أفرد الناقة في الترجمة إشارة إلى أن العضباء والقصواء واحدة، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: اختلف أهل السِّيَر في أن القصواء والجدعاء والعضباء كانت ثلاث نوق للنبي صلى الله عليه وسلم، أو كلها أسماء لناقة واحدة، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

في "كتاب المغازي": قوله: "وهي الجدعاء" وليست هي بالجدعاء التي هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة بالقصواء، انتهى.

وفي هامشه: المسألة خلافية، وبسطه أشد البسط، وفيه: قال الحافظ

(5)

: اختلف هل العضباء هي القصواء أو غيرها؟ فجزم الحربي بالأول وقال: تسمى العضباء والقصواء والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن

(1)

"عمدة القاري"(10/ 192).

(2)

"فتح الباري"(6/ 73).

(3)

"فيض الباري"(4/ 182).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 320).

(5)

"فتح الباري"(6/ 74).

ص: 247

الواقدي، وقال غيره بالثاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكر له عدة نوق غير هذه تتبعها من اعتنى بجمع السيرة، انتهى.

(60 -‌

‌ باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قوله: "قاله أنس" يشير إلى حديثه الطويل في قصة حنين، وسيأتي موصولًا مع شرحه في "المغازي"

(2)

وفيه "وهو على بغلة بيضاء"، قوله:"وقال أبو حميد: أهدى ملك أيلة" يشير إلى حديثه الطويل في غزوة تبوك، ومما ينبَّه عليه هنا أن البغلة البيضاء التي كان عليها في حنين غير البغلة البيضاء التي أهداها له ملك أيلة؛ لأن ذلك كان في تبوك وغزوة حنين كانت قبلها. . .، إلى آخر ما قال.

(61 -‌

‌ باب جهاد النساء)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

أي: ما هو؟ أو المعنى بيان جوازه، ودلالة الروايتين عليه ظاهرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على السائلة سؤالها، فكان تقريرًا لجوازه لهن، غير أنه مشروط بعدم الفتنة، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: دلَّ حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن ليس في قوله: "جهادكن الحج" أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن عليهن واجبًا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 75).

(2)

كتاب المغازي، باب (54)، وفيه:"عن البراء لا عن أنس".

(3)

"لامع الدراري"(7/ 234).

(4)

"فتح الباري"(6/ 76).

(5)

(5/ 75).

ص: 248

قال الحافظ: وقد لمَّح البخاري بذلك في إيراده الترجمة مجملة وتعقيبها بالتراجم المصرَّحة بخروج النساء إلى الجهاد، انتهى.

(62 -‌

‌ باب غزوة المرأة في البحر)

تقدم في كلام الحافظ آنفًا ما هو الغرض عنده، وعندي: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى الاختلاف فيه، والمعروف عن الإمام مالك المنع مطلقًا للمرأة، بسط الكلام عليه في "الأوجز"

(1)

، وفيه: وفي الحديث جواز ركوب البحر الملح للغزو، وكان عمر يمنع منه، ثم أذن فيه عثمان، ثم منع منه عمر بن عبد العزيز، ثم أذن فيه من بعده، واستقر الأمر عليه، ونقل عن عمر أنه إنما منع عن ركوبه لغير الحج والعمرة، ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقًا، وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال فيه، إذ يتعسر الاحتراز من ذلك، وخص أصحابه ذلك بالسفن الصغار، وأما الكبار التي يمكنهن فيها من الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج فيه.

وفي "التمهيد"

(2)

لابن عبد البر: كان مالك يكره للمرأة الحج في البحر فهو للجهاد أكره، انتهى من هامش "اللامع"

(3)

.

ثم لا يخفى عليك ما في "الأوجز"

(4)

في ذيل شرح حديث الباب عن ابن عبد البر

(5)

: واحتج بذلك قوم، وقالوا: شهيد البر أفضل، وقال آخرون: شهيد البحر أفضل، والغزو في البحر أفضل، واحتجوا بحديث منقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر، فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر، وإن شهيد البحر له أجر شهيدي البر، وإن أفضل الشهداء عند الله يوم القيامة أصحاب الوكوف، قالوا:

(1)

"أوجز المسالك"(9/ 403).

(2)

"التمهيد"(1/ 233).

(3)

"هامش اللامع"(7/ 235).

(4)

"أوجز المسالك"(9/ 406).

(5)

"التمهيد"(1/ 235 - 240).

ص: 249

يا رسول الله! وما أصحاب الوكوف؟ قال: قوم تكفأ بهم مراكبهم في سبيل الله". وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر، انتهى من "الأوجز".

(فائدة): وأول من ركب البحر للغزاة معاوية، وذلك في خلافة عثمان، كما في "الفتح"

(1)

.

(63 -‌

‌ باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه)

قال العيني

(2)

: أراد أنه لما غزا أخذ معه من نسائه واحدة منهن، ولكن بعد القرعة بينهن، كما صرَّح به في حديث الباب، انتهى.

(64 -‌

‌ باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال)

قال الحافظ

(3)

بعد ذكر عدة روايات: ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنيِّر

(4)

: بوَّب على قتالهن وليس هو في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: وقد وقع عند مسلم عن أنس "أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه" ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبيِّن أنهن لا يقاتل وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله:"وقتالهن مع الرجال" أي: هل هو سائغ؟ أو إذا خرجن مع الرجال في الغزو يقتصرن على ما ذكر من مداواة الجرحى ونحو ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 77).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 198).

(3)

"فتح الباري"(6/ 78).

(4)

"المتواري"(ص 161).

(5)

"فتح الباري"(6/ 78).

ص: 250

(65 -‌

‌ باب حمل النساء القرب إلى الناس. . .) إلخ

أي: مشروعية ذلك، والقرب بكسر القاف جمع قربة، قاله العيني

(1)

.

(66 -‌

‌ باب مداواة النساء الجرحى)

من الرجال وغيرهم، جمع جريح، قال الحافظ

(2)

: وفي الحديث جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة، قال ابن بطال

(3)

: ويختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل، في قول بعضهم كالزهري وإسحاق، وعند سعيد بن المسيب ومالك والكوفيين وأحمد: تيمم بالصعيد، وهو أصح الأوجه عند الشافعية، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي ولا تيمم، وقيل: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت أن الغسل عبادة والدواء ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، انتهى بزيادة من "العيني"

(4)

.

(67 -‌

‌ باب ردّ النساء الجرحى والقتلى)

كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني:"إلى المدينة" بعد قوله: القتلى، وقال ابن التِّين: كانوا يوم أُحد يجمعون الرجلين والثلاثة من الشهداء على دابة وتردهن النساء إلى موضع قبورهم، انتهى من "العيني"

(5)

.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 201).

(2)

"فتح الباري"(6/ 80).

(3)

(5/ 80).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 203).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 203).

ص: 251

(68 -‌

‌ باب نزع السهم من البدن)

أي: مشروعية نزع السهم من بدن المصاب، قاله العيني

(1)

.

وقال الحافظ: قال المهلب

(2)

: فيه جواز نزع السهم من البدن وإن كان في غبه الموت، وليس ذلك من الإلقاء إلى التهلكة إذا كان يرجو الانتفاع بذلك، قال: ومثله البط والكي وغير ذلك من الأمور التي يتداوى بها، وقال ابن المنيِّر: لعله ترجم بهذا لئلا يتخيل أن الشهيد لا ينزع منه السهم بل يبقى فيه، كما أمر بدفنه بدمائه حتى يبعث كذلك، فبيَّن بهذه الترجمة أن هذا مما شرع، انتهى.

والذي قاله المهلب أولى؛ لأن حديث الباب يتعلق بمن أصابه ذلك وهو في الحياة بعد، والذي أبداه ابن المنيِّر يتعلق بنزعه بعد الوفاة، انتهى كله من "الفتح"

(3)

.

(69 -‌

‌ باب الحراسة في الغزو في سبيل الله عز وجل

-)

أي: بيان ما فيها من الفضل، وفي الحديث: الأخذ بالحذر والاحتراس من العدو، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل، وإنما عانى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتد البأس كان أمام الكل، وأيضًا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأن التوكل عمل القلب وهي عمل البدن، انتهى.

ثم قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: نسخ ذلك بحديث عائشة عند الترمذي

(6)

: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

(1)

"عمدة القاري"(10/ 203).

(2)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 81).

(3)

"فتح الباري"(6/ 81).

(4)

"فتح الباري"(6/ 82).

(5)

(5/ 82).

(6)

"سنن الترمذي"(ح: 3046).

ص: 252

النَّاسِ} [المائدة: 67]، قال القرطبي

(1)

: ليس في الآية ما ينافي الحراسة كما أن إعلام الله بنصر دينه وإظهاره ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العُدَد، وعلى هذا فالمراد العصمة من الفتنة والإضلال أو إزهاق الروح، والله أعلم، انتهى.

(70 -‌

‌ باب فضل الخدمة في الغزو)

أي: سواء كانت من صغير لكبير أو عكسه أو مع المساواة، وأحاديث الباب الثلاثة يؤخذ منها حكم هذه الأقسام، ثم قال بعد الحديث الأول: وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها المصنف في غير مظنتها، وأليق المواضع بها المناقب، وكذا قال بعد الحديث الثالث، وزاد: لكونه لم يذكره في الصيام واقتصر على إيراده هنا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

بعد الحديث الأول وحكاية قول الحافظ: وفيه - أي: في كلام الحافظ - إشعار بأنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لكن قال العيني

(4)

: إن المطابقة تؤخذ مما زاده مسلم

(5)

وهو قوله: "في سفر" لشموله الغزو وغيره، انتهى.

قلت: لكن صرَّح الحافظ بحصول المطابقة كما تقدم.

وقال القسطلاني أيضًا بعد الحديث الثالث: ولم تظهر لي المطابقة بين الترجمة والحديث، نعم يحتمل أن تكون مما زاده مسلم حيث قال:"في سفر" الشامل لسفر الغزو وغيره مع قوله: "فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا" المفسر بالخدمة، انتهى.

(1)

"المفهم"(6/ 280).

(2)

"فتح الباري"(6/ 84).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 419 - 421).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 209).

(5)

"صحيح مسلم"(ح: 2513).

ص: 253

(71 -‌

‌ باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر)

قال الحافظ

(1)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة، وهو ظاهر فيما ترجم له؛ لأنه يتناول حالة السفر من هذا الإطلاق بطريق الأولى، قال ابن بطال

(2)

في شرح الحديث: وإذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره فإذا حمل غيره على دابة نفسه احتسابًا كان أعظم أجرًا، انتهى.

(72 -‌

‌ باب فضل رباط يوم في سبيل الله)

الرباط بكسر الراء: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التِّين: بشرط أن يكون غير الوطن، قاله ابن حبيب عن مالك، انتهى.

قلت: وفيه نظر في إطلاقه فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسه عموم وخصوص وجهي، واستدلال المصنف بالآية اختيار لأشهر التفاسير، فعن الحسن البصري وقتادة:{اصْبِرُوا} على طاعة الله {وَصَابِرُوا} أعداء الله في الجهاد {وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] في سبيل الله، وعن محمد بن كعب القرظي: صابروا لانتظار الوعد ورابطوا العدو، إلى أن قال الحافظ: وفي "الموطأ" عن أبي هريرة مرفوعًا: "وانتظار الصلاة فذلكم الرباط"، وفي "المستدرك" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن الآية نزلت في ذلك، واحتج بأنه لم يكن في زمن رسول الله غزو فيه رباط، انتهى.

قال الحافظ: وحمل الآية على الأول أظهر، وأما التقييد باليوم في الترجمة وإطلاقه في الآية فكأنه أشار إلى أن مطلقها يقيّد بالحديث، فإنه يشعر بأن أقل الرباط يوم لسياقه في مقام المبالغة، وذكره مع موضع سوط يشير إلى ذلك أيضًا، انتهى كله من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 85).

(2)

(5/ 86).

(3)

"فتح الباري"(6/ 85 - 86).

ص: 254

(73 -‌

‌ باب من غزا بصبي للخدمة)

يشير إلى أن الصبي لا يخاطب بالجهاد ولكن يجوز الخروج به بطريق التبعية، قاله الحافظ

(1)

.

والوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه أراد إثبات الجواز لدفع توهم ما ورد في حق بعض الصبيان من الصحابة لما عرضوا للخروج إلى الغزو ردهم النبي صلى الله عليه وسلم، منهم ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وغيرهم رضي الله عنهم، ووجه الدفع أن عرضهم إنما كان للقتال لا للخدمة.

(74 -‌

‌ باب ركوب البحر)

قال الحافظ

(2)

: كذا أطلق الترجمة، وخصوص إيراده في أبواب الجهاد يشير إلى تخصيصه بالغزو، وقد اختلف السلف في جواز ركوبه، وفي حديث زهير بن عبد الله يرفعه:"من ركب البحر إذا ارتج فقد برئت منه الذمة"، وفي رواية:"فلا يلومن إلا نفسه" أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" وفيه تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه الجواز عند عدمه، وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبر والبحر سواء، ومنهم من فرَّق بين الرجل والمرأة وهو عن مالك، فمنعه للمرأة مطلقًا، وهذا الحديث حجة للجمهور، انتهى.

وتقدمت المذاهب في "باب غزوة المرأة في البحر".

(75 -‌

‌ باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب)

أي: ببركتهم ودعائهم، ذكر فيه طرفًا من الحديث الطويل تقدم موصولًا في بدء الوحي

(3)

، والغرض منه قوله في الضعفاء "وهم أتباع

(1)

"فتح الباري"(6/ 87).

(2)

"فتح الباري"(6/ 88).

(3)

"صحيح البخاري"(ح 7).

ص: 255

الرسل"، وطريق الاحتجاج به حكاية ابن عباس ذلك وتقريره له، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(76 -‌

‌ باب لا يقال: فلان شهيد. . .) إلخ

أي: على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم: فلان شهيد ومات فلان شهيدًا، ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد" وهو حديث أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما.

وقال الحافظ أيضًا في حديث سهل بن سعد في قصة الذي بالغ في القتال: ووجه أخذ الترجمة منه أنهم شهدوا برجحانه في أمر الجهاد، فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة، وقد ظهر منه أنه لم يقاتل لله وإنما قاتل غضبًا لقومه، فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا، وإن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأُحد وغيرهما شهداء، والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب، والله أعلم.

وقد يتعجب من المهلب حيث قال: إن حديث الباب ضد ما ترجم به البخاري لأنه قال: "لا يقال فلان شهيد" والحديث فيه ضد الشهادة، وكأنه لم يتأمل مراد البخاري، وهو ظاهر كما قررته بحمد الله تعالى، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(77 -‌

‌ باب التحريض على الرمي. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: قوله: "وقول الله عز وجل" لمح بما جاء في تفسير القوة

(1)

"فتح الباري"(6/ 88).

(2)

"فتح الباري"(6/ 91).

(3)

"فتح الباري"(6/ 91).

ص: 256

في هذه الآية أنها الرمي، وهو عند مسلم من حديث عقبة بن عامر، ولفظه:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي ثلاثًا"، انتهى.

(78 -‌

‌ باب اللهو بالحراب ونحوها)

وفي "الفيض"

(1)

: المراد به اللهو للتعليم، انتهى.

وقال العيني

(2)

: أي: مشروعية اللهو بالحراب، بكسر الحاء: جمع الحربة، وقوله:"ونحوها" أي: نحو الحراب من آلات الحرب كالسيف والقوس والنبل، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: وكأنه يشير بقوله: "ونحوها" إلى ما روى أبو داود والنسائي

(4)

من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "ليس من اللهو - أي: مشروع أو مطلوب - إلا تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله"، انتهى.

وقال القسطلاني

(5)

: قال الحافظ ابن حجر وتبعه العيني

(6)

: لم يقع في هذه الرواية ذكر الحرب، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما تقدم بيانه في "باب أصحاب الحراب في المسجد"

(7)

من "كتاب الصلاة"، انتهى.

ومراده حديث عائشة قالت: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم"، قال القسطلاني: وهذا عجيب، فقد ثبت ذكر ذلك في حديث هذا الباب في غير ما نسخة، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(4/ 191).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 222).

(3)

"فتح الباري"(6/ 93).

(4)

"سنن أبي داود"(ح: 2515)، "سنن النسائي" (ح: 3578).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 434).

(6)

"عمدة القاري"(10/ 22 - 223).

(7)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 454).

ص: 257

(79 -‌

‌‌

‌ باب

المِجَنِّ ومن تترس بتُرْسِ صاحبه)

المجن بكسر الميم وفتح الجيم وتثقيل النون، أي: الدرقة، وفي "الفيض"

(1)

: المجن من الجلد، والترس من الحديد، انتهى.

قال ابن المنيِّر: وجه هذه التراجم دفع من يتخيل أن اتخاذ هذه الآلات ينافي التوكل، والحق أن الحذر لا يرد القدر، ولكن يضيق مسالك الوسوسة لما طبع عليه البشر، قوله:"ومن تترس" أي: فلا بأس به، وقال أيضًا بعد آخر حديث الباب: ودخول هذا الحديث هنا غير ظاهر لأنه لا يوافق واحدًا من ركني الترجمة، وقد أثبت ابن شبويه في روايته قبله لفظ "باب" بغير ترجمة، وله مناسبة بالترجمة التي قبله من جهة أن الرامي لا يستغني عن شيء يقي به عن نفسه سهام من يراميه، انتهى كله من "الفتح"

(2)

.

(80 - باب)

بغير ترجمة، هكذا في النسخة الهندية، أي: موافقًا لرواية ابن شبويه، وتقدم ما يتعلق به من كلام الحافظ في الباب السابق.

(81 -‌

‌ باب الدّرق)

أي: جواز اتخاذ ذلك أو مشروعيته، والدرق جمع درقة، وهي الحجفة، ويقال: هو الترس الذي يتخذ من الجلود، انتهى.

وتقدم في أبواب العيدين

(3)

"باب الحراب والدرق" وذكر هنا هذا الحديث بعينه، ثم يشكل ههنا تكرار الترجمة بما تقدم من باب المجن، فإنهم فسروا المجن بالدرقة، فإما أن يقال بالفرق بين المجن والدرقة، كما قيل، أو يقال: إن المقصود من السابقة هو الجزء الثاني من الترجمة أعني

(1)

"فيض الباري"(4/ 192).

(2)

"فتح الباري"(6/ 94).

(3)

كتاب العيدين، باب (2)، (ح: 949).

ص: 258

"ومن تترس بترس صاحبه"

(1)

.

(82 -‌

‌ باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق)

الحمائل بالمهملة جمع حميلة وهي ما يقلد به السيف، قاله الحافظ.

وقال العيني

(2)

: هي جمع حمالة بالكسر، علاقة مثل السيف المحمل، هذا قول الخليل، وقال الأصمعي: حمائل السيف لا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها: محمل، وقال بعضهم: جمع حميلة.

قلت: هذا ليس بصحيح، والحميلة ما حمله السيل من الغثاء، انتهى.

والغرض من الحديث هنا قوله: "وفي عنقه السيف" فدل على جواز ذلك، قال ابن المنيِّر: مقصود المصنف من هذه التراجم أن يبين زي السلف في آلة الحرب وما سبق استعماله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أطيب للنفس وأنفى للبدعة، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وقلت: وعلى هذا تكون الترجمة من الأصل الرابع عشر.

(83 -‌

‌ باب ما جاء في حلية السيوف)

أي: من الجواز وعدمه، والحلية والحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، وتطلق الحلية على الصفة أيضًا، انتهى من "العيني"

(4)

.

وقال القسطلاني

(5)

بعد ذكر الحديث: ولا يلزم من كون حلية سيوفهم ما ذكر عدم جواز غيره فيجوز للرجل تحلية السيف وغيره من آلات الحرب بالفضة كالرمح وأطراف السهام والدرع وغيرها لأنه يغيظ الكفار، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم غنية عن ذلك لشدتهم في أنفسهم وقوتهم في إيمانهم،

(1)

"فتح الباري"(6/ 95)، و"عمدة القاري"(10/ 227).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 228).

(3)

"فتح الباري"(6/ 95).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 229).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 441 - 442).

ص: 259

ولا يجوز تحلية شيء مما ذكر بالذهب قطعًا ويحرم على النساء تحلية آلات الحرب بالفضة والذهب جميعًا لأن في استعمالهن ذلك تشبهًا بالرجال، كذا قاله الجمهور فيما حكاه في "الروضة" وصوَّبه، انتهى مختصرًا.

قلت: وما ذكره القسطلاني من مذهب الجمهور هو مذهب الحنفية، كما في "الدر المختار"

(1)

وهكذا قال الموفق، ثم قال الموفق

(2)

: وما عدا ذلك من الذهب فقد روي عن أحمد الرخصة فيه في السيف، وروي عنه رواية أخرى تدل على تحريم ذلك، انتهى.

وبسط الكلام في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه.

(84 -‌

‌ باب من علّق سيفه بالشجر في السفر. . .) إلخ

قال العيني

(4)

: "القائلة" الظهيرة، وقد يكون بمعنى النوم في الظهيرة، وفائدة هذه الترجمة بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن توكله بالله وصدق يقينه وإظهار معجزته وبيان عفوه وصفحه عمن يقصده بسوء، انتهى.

(85 -‌

‌ باب لبس البيضة)

بفتح وهو ما يلبس في الرأس من آلات السلاح.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه

(5)

: يعني بذلك: جوازه بدفع ما يتوهم أنه ينافي التوكل، انتهى.

(86 -‌

‌ باب من لم ير كسر السلاح عند الموت)

كأنه يشير إلى رد ما كان عليه أهل الجاهلية من كسر السلاح وعقر الدواب إذا مات الرئيس فيهم، وربما كان يعهد بذلك لهم، ولعل المصنف

(1)

"رد المحتار"(9/ 492).

(2)

"المغني"(12/ 523).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 240).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 230).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 240).

ص: 260

لمح بذلك إلى من نقل عنه أنه كسر رمحه عند الاصطدام حتى لا يغنمه العدو أن لو قتل وكسر جفن سيفه وضرب بسيفه حتى قتل كما جاء نحو ذلك عن جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فأشار إلى أن هذا شيء فعله جعفر وغيره عن اجتهاد، والأصل عدم جواز إتلاف المال؛ لأنه يفعل شيئًا محققًا في أمر غير محقق، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وترجم الإمام أبو داود في "السنن"

(2)

: "باب في الدابة تُعَرْقَبُ في الحرب" وذكر فيه فعل جعفر بن أبي طالب المذكور في كلام الحافظ المتقدم.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: "باب من لم ير. . ." إلخ، أي: يتوقف جوازه على تضمنه فائدةً وإلا كان إسرافًا منهيًا عنه، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: زعم الكرماني

(5)

أن مناسبة الحديث بالترجمة أنه صلى الله عليه وسلم مات وعليه دين ولم يبع فيه شيئًا من سلاحه ولو كان رهن درعه، وعلى هذا فالمراد بكسر السلاح بيعه، ولا يخفى بعده، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(6)

: قوله: "إلا سلاحه. . ." إلخ، فإنه لم يكسر سلاحه لأنه لم يتضمن فائدة، ولا كذلك إذا تضمن كسره منفعة معتدة كمن خاف وقوعه في أيدي العدو أو من يخاف عنه على نفسه أو غيره؛ كصبي أو مجنون أو كان فيه تهمة أو لوث كما كان في فتنة الهند، انتهى.

وقال القسطلاني

(7)

: وفي إبقاء السلاح كما قال ابن المنيِّر عنوان للمسلم على إبقاء ذكره واستنماء أعماله الحسنة التي سنَّها للناس وعادته

(1)

"فتح الباري"(6/ 97).

(2)

"سنن أبي داود"(ح: 2566).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 241).

(4)

"فتح الباري"(6/ 97).

(5)

"الكرماني"(12/ 172).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 241 - 242).

(7)

"إرشاد الساري"(6/ 444).

ص: 261

الجميلة التي حمل عليها العباد بخلاف أهل الجاهلية ففي فعلهم ذلك إشارة إلى انقطاع أعمالهم وذهاب آثارهم، انتهى.

قلت: ومطابقة الحديث للترجمة على ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من غرض الترجمة أوفق مما قاله الشرَّاح.

(87 -‌

‌ باب تفرق الناس عن الإمام. . .) إلخ

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له، قال القرطبي

(1)

: هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحد من الناس، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

قال الحافظ: لكن قد قيل: إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] كما في رواية ابن أبي شيبة، فيحتمل إن كان محفوظًا أن يقال: كان مخيرًا في اتخاذ الحرس فتركه مرة لقوة يقينه، فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ترك ذلك، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: لم يتعرض الحافظ ولا غيره لغرض الترجمة، والأوجه عندي: أنه أشار بهذه الترجمة إلى الجواز لدفع ما يتوهم من رواية أبي داود "إن تفرقكم في الشعاب والأودية من الشيطان" فقد أخرج الإمام أبو داود

(3)

في "باب ما يؤمر من انضمام العسكر" عن أبي ثعلبة الخُشَني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلًا - قال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلًا - تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان" فلم ينزل بعد ذلك منزلًا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم، فحينئذ وقع

(1)

"المفهم"(2/ 476).

(2)

"فتح الباري"(6/ 98).

(3)

"سنن أبي داود"(ح: 2628).

ص: 262

التعارض بين ترجمتي الإمام البخاري وأبي داود، وكذا بين الروايتين، فيمكن أن يجاب عنه: بأن المنع عن التفرق إنما هو عند ابتداء النزول لمصالح تقتضيه؛ كأن يكون جميع العسكر بمرأى من الإمام ليراقبهم ويشاورهم ونحو ذلك من الفوائد، وأما جواز التفرق فالمراد به التفرق بعد النزول مجتمعًا في وقت آخر لقيلولة وغيرها من الحاجات، ولعل الإمام البخاري أشار إليه بقوله في الترجمة:"عند القائلة والاستظلال بالشجر"، والله تعالى أعلم.

(88 -‌

‌ باب ما قيل في الرماح. . .) إلخ

أي: في اتخاذها واستعمالها من الفضل، انتهى

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: "باب ما قيل في الرماح" إن أراد بذلك جواز اتخاذه فهو ظاهر الاستنباط بالرواية، وإن قصد غير ذلك فكما قال المحشي، انتهى.

قلت: وهذا الباب هو أيضًا عندي من الأصل الرابع عشر، كما تقدم قريبًا.

(89 -‌

‌ باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم

-)

أي: من أي شيء كانت؟ وقوله: "والقميص في الحرب" أي: حكمه وحكم لبسه، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: الظاهر أن المراد بذلك إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له درع وبذلك تنطبق الروايات، وما قال المحشي: إن المقصود بيان أن درعه مم كانت، فلا يدرى وجهه، إذ لا يناسبه الرواية الأولى إلا أن يقال: إثبات أنها كانت من حديد يكفي

(1)

"فتح الباري"(6/ 98).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 242).

(3)

"فتح الباري"(6/ 99).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 242 - 243).

ص: 263

ولو في رواية، ثم تحمل بقية الروايات عليه وإن لم تذكر فيها مم كانت، انتهى.

وفي هامشه: هذا - أي: إثبات الدرع له - هو المتعين بملاحظة الروايات، وما قال المحشي في بيان المقصود لا يوافقه الروايات، انتهى.

(90 -‌

‌ باب الجبّة في السفر والحرب)

قال العيني

(1)

: أي بيان لبس الجبة في السفر والحرب، يعني: في الغزاة، وهو من عطف الخاص على العام، وقال بعد ذكر الحديث: مطابقته للترجمة في قوله: "وعليه جبة شامية" وكان في السفر وكان في غزاة، انتهى.

(91 -‌

‌ باب الحرير في الحرب)

أي: جواز لبسه، قاله القسطلاني

(2)

، وقال الحافظ

(3)

: وقد ترجم في اللباس

(4)

"ما يرخص للرجال من الحرير للحكة" ولم يقيِّده بالحرب فزعم بعضهم أن الحرب في الترجمة بالجيم وفتح الراء، وليس كما زعم لأنها لا يبقى لها في أبواب الجهاد مناسبة، ويلزم منه إعادة الترجمة في اللباس، إذ الحكة والجرب متقاربان، وجعل الطبري جوازه في الغزو مستنبطًا من جوازه للحكة فقال: دلَّت الرخصة في لبسه بسبب الحكة أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع سلاح العدو ونحو ذلك فإنه يجوز، وقد تبع الترمذي البخاري فترجم له "باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب" ثم المشهور عن القائلين بالجواز أنه لا يختص بالسفر، وعن بعض يختص.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 238).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 451).

(3)

"فتح الباري"(6/ 101).

(4)

كتاب اللباس، باب (29).

ص: 264

وقد اختلف السلف في لباسه، فمنع مالك وأبو حنيفة مطلقًا، وقال الشافعي وأبو يوسف بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب، وقال المهلب: لباسه في الحرب لإرهاب العدو وهو مثل الرخصة في الاختيال في الحرب، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

: اعلم أن الثوب إذا كانت لحمته وسداه حريرًا، فهو حرام مطلقًا، وإن كان سداه حريرًا فقط فهو حلال مطلقًا، وإن كانت لحمته حريرًا فقط، فهو جائز في الحرب، دون غيره، وأما مسألة التداوي، فهي مسألة أخرى، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما، لما روى الشعبي رحمه الله أنه عليه السلام رخَّص في لبس الحرير والديباج في الحرب؛ ولأن فيه ضرورة، فإن الخالص منه أدفع لمعرّة السلاح، وأهيب في عين العدو لبريقه، ويكره عند أبي حنيفة؛ لأنه لا فصل فيما روينا، والضرورة اندفعت بالمخلوط، وهو الذي لحمته حرير، وسداه غير ذلك، وما رواه محمول على المخلوط، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(3)

: قال ابن العربي: اختلف العلماء في لباسه على عشرة أقوال، ثم ذكرها.

(92 -‌

‌ باب ما يذكر في السكين)

أي: من جواز استعماله، فإن قلت: روى أبو داود النهي عن قطع اللحم بالسكين. قلت: هو منكر، وقيل: إنما يكره قطع الخبز بالسكين، قاله العيني

(4)

.

(1)

"فيض الباري"(4/ 196).

(2)

"الهداية"(7/ 181).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 240).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 242).

ص: 265

(93 -‌

‌ باب ما قيل في قتال الروم)

قال الحافظ

(1)

: أي: من الفضل، واختلف في الروم فالأكثر أنهم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم، واسم جدهم قيل: روماني، وقيل: هو ابن ليطا بن يونان بن يافث بن نوح، انتهى.

قال العيني

(2)

: مطابقة حديث الباب للترجمة في قوله: "يغزون البحر" لأن المراد من غزو البحر هو قتال الروم الساكنين من وراء البحر الملح، انتهى.

وترجم الإمام أبو داود "باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم" وأخرج فيه عن ثابت بن قيس بن شماس قصة امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلّاد تسأل عن ابنها وهو مقتول، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابنك له أجر شهيدين" قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب" الحديث، وفي هامش "البذل"

(3)

: استدل بحديث الباب ابن قدامة

(4)

على أن قتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: أراد بيان الأقوام التي قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

قلت: وفيه ما فيه كما لا يخفى، قال المهلب

(6)

: في هذا الحديث منقبة لمعاوية رضي الله عنه لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وتعقبه ابن التِّين وابن المنيِّر بما حاصله: أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "مغفور لهم" مشروط بأن يكونوا

(1)

"فتح الباري"(6/ 102).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 243).

(3)

"بذل المجهود"(9/ 27).

(4)

"المغني"(13/ 13).

(5)

"فيض الباري"(4/ 197).

(6)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 107).

ص: 266

من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقًا، انتهى.

وههنا بحث لعن يزيد هل يجوز أم لا؟ بسط الكلام عليه في هامش "اللامع"

(1)

أشد البسط فارجع إليه لو شئت.

(94 -‌

‌ باب قتال اليهود)

ذكر فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة في ذلك، وهو إخبار بما يقع في مستقبل الزمان، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(95 -‌

‌ باب قتال الترك)

قال العيني

(3)

: أي: قتال المسلمين مع الترك الذي هو من أشراط الساعة، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: اختلف في أصل الترك، فقال الخطابي

(5)

: هم بنو قنطوراء أمة كانت لإبراهيم عليه السلام، وقال كراع: هم الديلم، وقال أبو عمر بن عبد البر: وهم من أولاد يافث وهم أجناس كثيرة، وقال وهب بن منبه: هم بنو عم يأجوج ومأجوج، لما بنى ذو القرنين السَّدَّ كان بعض يأجوج ومأجوج غائبين فتركوا لم يدخلوا مع قومهم فسموا الترك، إلى آخر ما قال.

وقال العيني

(6)

في شرح قوله: "ينتعلون نعال الشعر": قال بعضهم - أي: الحافظ -: هذا الحديث والذي بعده ظاهر في أن الذين ينتعلون نعال

(1)

"لامع الدراري"(7/ 244 - 246).

(2)

"فتح الباري"(6/ 103).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 245).

(4)

"فتح الباري"(6/ 104).

(5)

"الأعلام"(3/ 1405).

(6)

"عمدة القاري"(10/ 246).

ص: 267

الشعر غير الترك، وتعقب عليه العيني وقال في آخره: ومع هذا لا تبقى مطابقة بين الحديث والترجمة أصلًا، انتهى.

(96 -‌

‌ باب قتال الذين ينتعلون الشَّعر)

وهم غير الترك على ما اختاره الحافظ

(1)

كما تقدم، وأما على رأي العلَّامة العيني

(2)

والقسطلاني

(3)

فهم من الترك، فحينئذ تتكرر الترجمة، واجتهد العيني في دفع هذا التكرار إذ قال: وهم أيضًا من الترك، كما ذكرنا، لكن لما روى الحديث المذكور في الباب السابق عن أبي هريرة رضي الله عنه من وجه آخر، عقد له هذه الترجمة؛ لأن لفظ أبي هريرة في الحديث الماضي:"لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر" وقع في آخر الحديث، وهو في هذا الحديث وقع في صدره، انتهى.

وهذا كما ترى لا يجدي شيئًا، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري ترجم به مستقلًا إشارة إلى الاختلاف في مصداقهم كما تقدم بعض الخلاف فيه، وقيل: هم قوم من الخوارج، كما في "أشراط الساعة"، والله أعلم.

(97 -‌

‌ باب من صفّ أصحابه عند الهزيمة. . .) إلخ

أي: صفَّ من ثبت معه بعد هزيمة من انهزم، ذكر فيه حديث البراء في قصة حنين، وهو ظاهر فيما ترجم له، ووقع في آخره "ثم صف أصحابه وذلك بعد أن نزل واستنصر" والمراد بقوله:"واستنصر" أي: استنصر الله بعد أن رمى الكفار بالتراب، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 104).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 248).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 457).

(4)

"فتح الباري"(6/ 105).

ص: 268

(98 -‌

‌ باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة)

ذكر المصنف فيه خمسة أحاديث، ومطابقتها للترجمة ظاهرة إلا الحديث الأخير منها، وفيه:"فلم تسمعي ما قلت: وعليكم"، قال الحافظ

(1)

: وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه "يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا"، ففيه مشروعية الدعاء على المشركين ولو خشي الداعي أنهم يدعون عليه، انتهى.

(99 -‌

‌ باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب

. . .؟)

قال الحافظ

(2)

: المراد بالكتاب الأول التوراة والإنجيل، وبالكتاب الثاني ما هو أعم [منهما] ومن القرآن وغير ذلك، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: قوله: "هل يرشد المسلم" أي: إلى طريق الهدى ويعرفهم بمحاسن الإسلام ليرجعوا إليه، "أو يعلمهم الكتاب؟ " أي: القرآن رجاء أن يرغبوا في دين الإسلام، انتهى.

فاختار القسطلاني أن المراد بالكتاب الثاني القرآن على خلاف ما قال الحافظ، وتعقب العلَّامة العيني

(4)

أيضًا على تفسير الحافظ.

والأوجه عندي: ما اختاره العيني والقسطلاني، وأورد فيه طرفًا من حديث ابن عباس في شأن هرقل، وإرشادهم منه ظاهر، وأما تعليمهم الكتاب فكأنه استنبطه من كونه كتب إليهم بعض القرآن بالعربية، وكأنه سلَّطهم على تعليمه إذ لا يقرؤونه حتى يترجم لهم حتى يعرف المترجم كيفية استخراجه، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف، فمنع مالك من تعليم الكافر القرآن، ورخَّص الإمام أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي، والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في

(1)

"فتح الباري"(6/ 107).

(2)

"فتح الباري"(6/ 107).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 464).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 255).

ص: 269

الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه، وبين من يتحقق أن ذلك لا ينجع

(1)

فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين، انتهى

(2)

.

(100 -‌

‌ باب الدعاء للمشركين بالهدى. . .) إلخ

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له، وقوله:"ليتألفهم" من تفقه المصنف إشارة منه إلى الفرق بين المقامين، وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم كما تقدم في الأحاديث التي قبل هذا بباب، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم كما في قصة دوس، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قال القسطلاني

(4)

في شرح الحديث: "اللَّهم اهد دوسًا" إلى الإسلام "وأت بهم" مسلمين وهذا من كمال خلقه العظيم ورحمته ورأفته بأمته، جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته وصلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأما دعاؤه عليه الصلاة والسلام على بعضهم فذلك حيث لا يرجو ويخشى ضررهم وشوكتهم، انتهى.

(101 -‌

‌ باب دعوة اليهود والنصارى، وعلى ما يقاتلون. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: أي: إلى الإسلام، وقوله:"وعلى ما يقاتلون" إشارة إلى ما ذكر في الباب الذي بعده عن علي حيث قال: "نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا" وفيه أمره صلى الله عليه وسلم له بالنزول بساحتهم، ثم دعائهم إلى الإسلام ثم القتال،

(1)

كذا في "إرشاد الساري"، وفي "الفتح":"لا ينجح".

(2)

انظر: "فتح الباري"(6/ 107)، و"إرشاد الساري"(6/ 464 - 465).

(3)

"فتح الباري"(6/ 108).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 465).

(5)

"فتح الباري"(6/ 108).

ص: 270

ووجه أخذه من حديثي الباب أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يتوجه إلى مقاتلتهم.

وقوله: (والدعوة قبل القتال) كأنه يشير إلى حديث ابن عون في إغارة النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق على غرة، وهو متخرج عنده في "كتاب الفتن"، انتهى.

وقال العيني

(1)

بعد الحديث الأول: للترجمة أربعة أجزاء، الجزء الأول: هو قوله: "دعوة اليهودي والنصراني"، ووجه المطابقة فيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا هرقل إلى الإسلام، وهو على دين النصارى، واليهودي ملحق به، والجزء الثاني: هو قوله: "على ما يقاتلون عليه" ووجه المطابقة فيه أنه صلى الله عليه وسلم أشار في كتابه أن مراده أن يكونوا مثلنا، وإلا يقاتلون عليه، كما في حديث علي الآتي بعد هذا الباب، فقال:"نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا"، والجزء الثالث: هو قوله: "وما كتب إلى كسرى وقيصر" وهذا ظاهر، والجزء الرابع: هو قوله: "قبل القتال" فإنه صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإيمان بالله وتصديق رسوله ولم يكن بينه وبينهم قبل ذلك قتال، فافهم، فإنه فتح لي من الفيض الإلهي، ولم يسبقني إلى ذلك أحد.

وقال أيضًا قبل ذلك: وهذا أوجه وأقرب إلى القبول من قول بعضهم في بيان المطابقة في بعض المواضع بين الحديث والترجمة أنه أشار بهذا إلى حديث خرَّجه فلان ولم يذكره في كتابه، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "والدعوة قبل القتال" هي مسألة خلافية: فذهب طائفة منهم عمر بن عبد العزيز إلى اشتراط الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وذهب الأكثر إلى أن ذلك كان في بدء الأمر، قبل انتشار دعوة الإسلام، فإن وجد من لم تبلغه الدعوة لم يقاتل حتى يدعى، نص عليه

(1)

"عمدة القاري"(10/ 257 - 258).

(2)

"فتح الباري"(6/ 108).

ص: 271

الشافعي، وقال مالك: من قربت داره قتل بغير دعوة لاشتهار الإسلام، ومن بعدت داره فالدعوة أقطع للشك، انتهى.

وقال الخرقي: يقاتل أهل الكتاب والمجوس، ولا يدعون لأن الدعوة قد بلغتهم، ويُدعى عبدةُ الأوثان قبل أن يُحاربوا، قال الموفق

(1)

: أما قوله في أهل الكتاب والمجوس فهو على عمومه؛ لأن الدعوة قد انتشرت وعمّت، فلم يبق منهم من لم تبلغه إلا نادر بعيد، وأما قوله في عبدة الأوثان فليس بعام، فمن بلغه الدعوة منهم لا يدعون، وإن وجد منهم من لم تبلغه الدعوة دعي قبل القتال، وكذلك إن وجد من أهل الكتاب، انتهى.

ومذهب الحنفية في ذلك كالجمهور كما في "الهداية"

(2)

وغيره: ويستحب لمن بلغته الدعوة مبالغة في الإنذار، ولا يجب.

وبسط الكلام في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه.

وقال الحافظ

(4)

في فوائد الحديث: وفيه الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة، وأن الكتابة تقوم مقام النطق، انتهى.

(102 -‌

‌ باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة. . .) إلخ

أي: الاعتراف بها، "وقوله تعالى" بالجر عطفًا على السابق، قاله القسطلاني

(5)

.

قال الحافظ

(6)

: أورد فيه أحاديث: أحدها: حديث ابن عباس في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وفيه حديث عن أبي سفيان وقد تقدم بطوله

(1)

"المغني"(13/ 29).

(2)

"الهداية"(4/ 223).

(3)

"هامش اللامع"(7/ 249 - 251).

(4)

"فتح الباري"(6/ 109).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 467).

(6)

"فتح الباري"(6/ 112).

ص: 272

في بدء الوحي

(1)

وهو ظاهر فيما ترجم له، وأما قوله تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} [آل عمران: 79] فالمراد من الآية الإنكار على من قال: {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} ومثلها قوله تعالى: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: 31].

وثانيها: حديث سهل بن سعد في إعطاء علي الراية يوم خيبر، والغرض منه قوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام".

ثالثها: حديث أنس في ترك الإغارة على من سمع منهم الأذان، وهو دالٌّ على جواز قتال من بلغته الدعوة بغير دعوة، وغير ذلك من الفوائد.

رابعها: حديث أبي هريرة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا. . ." إلخ، وهو ظاهر فيما ترجم له أولًا حيث قال:"وعلى ما يقاتلون عليه؟ "، انتهى.

قلت: وأنت خبير بأن هذه الترجمة جزء للباب السابق، لا لهذا الباب كما أقر به الحافظ فتأمل.

(103 -‌

‌ باب من أراد غزوة فَوَرَّى بغيرها. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أما الجملة الأولى فمعنى "ورى" ستر، وتستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره، وأصله من الوري بفتح ثم سكون وهو ما يجعل وراء الإنسان؛ لأن من ورّى بشيء كأنه جعله وراءه، وقيل: هو في الحرب أخذ العدو على غرة، وأما الخروج يوم الخميس فلعل سببه ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم:"بورك لأمتي في بكورها يوم الخميس" وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني من حديث نبيط بن شريط بفتح المعجمة.

(1)

انظر: "صحيح البخاري"(ح 7).

(2)

"فتح الباري"(6/ 113).

ص: 273

ثم أورد المصنف أطرافًا من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة غزوة تبوك

(1)

ظاهرة فيما ترجم له، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "باب من أراد غزوة. . ." إلخ، وكانت عامّة عادات النبي صلى الله عليه وسلم التورية في الغزوات، لكونها أنفع في الحروب، إلا في تبوك، فإنه جلّى للناس أمرهم ليتأهبوا، انتهى.

(104 -‌

‌ باب الخروج بعد الظهر)

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه وكأنه أورده إشارة إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "بورك لأمتي في بكورها" لا يمنع جواز التصرف في غير وقت البكور، وإنما خص البكور بالبركة لكونه وقت النشاط، وحديث "بورك لأمتي. . ." إلخ، أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان من حديث صخر الغامدي، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(105 -‌

‌ باب الخروج آخر الشهر)

أي: ردًا على من كره ذلك من طريق الطيرة، وقد نقل ابن بطال أن أهل الجاهلية كانوا يتحرون أوائل الشهور للأعمال، ويكرهون التصرف في محاق القمر، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وفي "الفيض"

(5)

: يشير إلى ضعف ما نقل عن علي أن أواخر الشهر منحوسة، وفسَّر بعضهم قوله تعالى:{فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] بأواخر الأيام، ونبَّه على أنه ليس بشيء، انتهى.

(1)

انظر: "صحيح البخاري"(ح 4418).

(2)

"فيض الباري"(4/ 203، 204).

(3)

"فتح الباري"(6/ 114).

(4)

"فتح الباري"(6/ 114).

(5)

"فيض الباري"(4/ 205).

ص: 274

(106 -‌

‌ باب الخروج في رمضان)

قال الحافظ

(1)

: أراد به رفع وهم من يتوهم كراهة ذلك، انتهى.

أي: السفر في رمضان.

(107 -‌

‌ باب التَّودِيْع عند السفر)

أعم من أن يكون من المسافر للمقيم أو عكسه، وحديث الباب ظاهر للأول، ويؤخذ الثاني منه بطريق الأولى، وهو الأكثر في الوقوع، انتهى من "الفتح"

(2)

و"العيني"

(3)

.

(108 -‌

‌ باب السمع والطاعة للإمام. . .) إلخ

أي: وجوب السمع والطاعة للإمام، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة

(4)

.

(109 -‌

‌ باب يُقَاتل من وراء الإمام ويتقى به)

يقاتل بفتح المثناة، ولم يزد البخاري على لفظ الحديث، والمراد به المقاتلة للدفع عن الإمام، سواء كان ذلك من خلفه حقيقة أو قدامه، ووراء يطلق على المعنيين، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(6)

: قوله: "وإنما الإمام جنة" التشبيه في مجرد المقاتلة معه لا القتال دونه، انتهى.

قلت: وما أفاده الشيخ واضح، يعني: ليس التشبيه بالجنة بأن يكون الإمام مقدمًا على القوم والقوم خلفه، كما تقدم في شرح الرجمة من كلام الحافظ.

قوله: (نحن الآخرون السابقون) هذه الجملة طرف من حديث سبق بيانه في كتاب الجمعة وسبق في الطهارة أن عادته في إيراد هذه النسخة - وهي شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - أن يصدر بأول

(1)

"فتح الباري"(6/ 115).

(2)

"فتح الباري"(6/ 115).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 272).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 274).

(5)

"فتح الباري"(6/ 116).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 254).

ص: 275

حديث فيها، ويعطف الباقي عليه لكونه سمعها هكذا، وأن مسلمًا في نسخة معمر عن همام عن أبي هريرة سلك طريقًا نحو هذه، فإنه يقول في أول كل حديث منها: فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، انتهى من "الفتح"

(1)

. قلت: وهذا التوجيه هو الأوجه عندي من بين التوجيهات الأخر كما تقدم في الطهارة.

(110 -‌

‌ باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا وقال بعضهم: على الموت)

كأنه أشار إلى أن لا تنافي بين الروايتين لاحتمال أن يكون ذلك في مقامين، أو أحدهما يستلزم الآخر.

قوله: (لقوله تعالى. . .) إلخ، قال ابن المنيِّر

(2)

: أشار البخاري بالاستدلال بالآية إلى أنهم بايعوا على الصبر، ووجه أخذه منها قوله تعالى:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] والسكينة الطمأنينة في موقف الحرب، فدل ذلك على أنهم أضمروا في قلوبهم أن لا يفروا فأعانهم على ذلك، ثم ذكر الحافظ التعقب على قول ابن المنيِّر هذا، فارجع إليه

(3)

.

قوله: (لا أبايع على هذا أحدًا. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: لأن احتمال الخطأ لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم دون غيره، فلعلي يتبين لي خطأ الأمير فأتركه ويلزم الموت على خلاف الحق، أو ترك البيعة، والثاني أسهل، انتهى.

قوله: (فبايعته الثانية) وإنما كرر عليه البيعة لأن الشدة في بيعة الشجعان أهيب للعدو، فإن البطل المقدام في الحروب الشجاع إذا تبايع على أنه لا يفر إلى أن يموت، كان ثباته في البلاء أظهر، وفي ثباته وتوطئة النفس على الهلاك هلاك نفوس الأعداء ما لا يخفى، فكان تكراره مفيدًا، انتهى من "اللامع"

(5)

. وبسط في هامشه الكلام على هذين القولين.

(1)

"فتح الباري"(6/ 116).

(2)

"المتواري"(ص 164، 165).

(3)

"فتح الباري"(6/ 118).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 255).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 256، 257).

ص: 276

(111 -‌

‌ باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون)

المراد بالعزم: الأمر الجازم الذي لا تردد فيه، والذي يتعلق به الجار والمجرور محذوف تقديره، مثلًا: محله، والمعنى: وجوب طاعة الإمام محله فيما لهم به طاقة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(112 -‌

‌ باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار. . .) إلخ

أي: لأن الرياح تهب غالبًا بعد الزوال، فيحصل بها تبريد حدة السلاح والحرب وزيادة في النشاط.

وأورد فيه حديث عبد الله بن أبي أوفى بمعنى ما ترجم به، لكنه ليس فيه:"إذا لم يقاتل أول النهار"، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه، فعند المصنف في الجزية

(2)

من حديث النعمان بن مقرن: "كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات"، وفي رواية:"وينزل النصر". فيظهر أن فائدة التأخير لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار مظنة لذلك، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(3)

.

(113 -‌

‌ باب استئذان الرجل الإمام. . .) إلخ

أي: في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك، قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [النور: 62]. قال ابن التين: هذه الآية احتج بها الحسن على أنه ليس لأحد أن يذهب من العسكر حتى يستأذن الأمير، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال، والذي يظهر أن الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلا فلو كان ممن عينه الإمام فطرأ له ما يقتضي التخلف أو الرجوع فإنه يحتاج إلى الاستئذان، انتهى

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 119).

(2)

"صحيح البخاري"(ح 3160).

(3)

"فتح الباري"(6/ 120، 121).

(4)

"فتح الباري"(6/ 121).

ص: 277

(114 -‌

‌ باب من غزا وهو حديث عهد بعرسه. . .) إلخ

بكسر العين؛ أي: بزوجته، وبضمها؛ أي: بزمان عرسه، وفي رواية الكشميهني:"بعرس"، وهو يؤيد الاحتمال الثاني.

قوله: (فيه جابر. . .) إلخ، يشير إلى حديثه المذكور في الباب قبله، وأن ذلك في بعض طرقه، وسيأتي في أوائل النكاح بلفظ:"فقال: ما يعجلك؟ قلت: كنت حديث عهد بعرس. . ." الحديث، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: ولم يتعرض الشراح ههنا لغرض الترجمة، وتعرض له الشيخ قُدِّس سره في "اللامع"

(2)

إذ قال: يعني بذلك أنه لا ضير فيه إذا لم يكن قلبه مشغولًا به؛ لأن ذلك يخل بالاجتهاد في أمر الجهاد، انتهى.

ويدل عليه الحديث الذي أشار إليه الإمام البخاري إذ فيه: "فقال: ما يعجلك؟. . ." إلخ، كما تقدم في كلام الحافظ.

وقريب منه ما في "الفيض"

(3)

: إذ قال: قوله: "باب من غزا. . ." إلخ، وإنما اهتم به لما روي عن يوشع عليه الصلاة والسلام حين خرج في الغزو نادى في الناس: أن لا يصحبه من كان حديث عهد بعرس، وليصحبه من كان فارغ القلب ليست له حاجة إلى البناء وغيره، انتهى.

قلت: ذكر الشراح هذا الغرض في الباب الآتي، وكلا البابين متقاربان.

(115 -‌

‌ باب من اختار الغزو بعد البناء)

قال الحافظ: قوله: "فيه أبو هريرة. . ." إلخ، يشير إلى حديثه الآتي في الخمس

(4)

من طريقهما عنه فقال: "غزا نبيّ من الأنبياء، فقال: لا يتبعني

(1)

"فتح الباري"(6/ 122).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 259).

(3)

"فيض الباري"(4/ 210).

(4)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 3124).

ص: 278

رجل ملك بضع امرأة [وهو يريد أن يبني بها] ولمَّا يَبْنِ بها. . ." الحديث. وترجم عليه في النكاح: "من أحب البناء بعد الغزو"

(1)

، وساق الحديث، والغرض هنا من ذلك أن يتفرغ قلبه للجهاد، ويقبل عليه بنشاط.

وقال الكرماني

(2)

: كأنه اكتفى بالإشارة إلى هذا الحديث؛ لأنه لم يكن على شرطه.

قال الحافظ: ولم يستحضر أنه أورده موصولًا في مكان آخر كما سيأتي قريبًا، والجواب الصحيح أنه جرى على عادته الغالبة في أنه لا يعيد الحديث الواحد إذا اتحد مخرجه في مكانين بصورته غالبًا، بل يتصرف فيه بالاختصار ونحوه في أحد الموضعين، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(116 -‌

‌ باب مبادرة الإمام عند الفزع)

قال العيني

(4)

: أي: مسارعة الإمام بالركوب عند وقوع الفزع، والفزع في الأصل الخوف، فوضع موضع الإغاثة والنصر؛ لأن من شأنه الإغاثة، انتهى.

(117 -‌

‌ باب السرعة والركض عند الفزع)

أي: سرعة الإمام والمبادرة إلى الركوب عند وقوع الفزع، والركض ضرب من السير. انتهى من "العيني"

(5)

، و"القسطلاني"

(6)

(118 -‌

‌ باب الخروج في الفزع وحده)

كذا ثبتت هذه الترجمة بغير حديث، وكأنه أراد أن يكتب فيه حديث أنس المذكور من وجه آخر فاخترم قبل ذلك، قال الكرماني

(7)

: ويحتمل أن

(1)

"صحيح البخاري" كتاب النكاح، باب (58)، (ح: 5157)، وفيه:"باب من أحبّ البناء قبل الغزو".

(2)

(12/ 204).

(3)

"فتح الباري"(6/ 122).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 286).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 287).

(6)

"إرشاد الساري"(6/ 498).

(7)

"شرح الكرماني"(12/ 205).

ص: 279

يكون اكتفى بالإشارة إلى الحديث الذي قبله. كذا قال، وفيه بعد: وقد ضم أبو علي ابن شبويه هذه الترجمة إلى التي بعدها فقال: "باب الخروج في الفزع وحده، والجعائل. . ." إلى آخره. وليس في أحاديث باب الجعائل مناسبة لذلك أيضًا، إلا أنه يمكن حمله على ما قلت أوَّلًا. انتهى من "الفتح"

(1)

.

وأفاد ابن بطال

(2)

غرضًا يتعلق بهذه التراجم الثلاثة، حكاه الحافظ إذ قال: جملة ما في هذه التراجم أن الإمام ينبغي له أن يشح بنفسه لما في ذلك من النظر للمسلمين، إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والثبات البالغ، فيحتمل أن يسوغ له ذلك، وكان في النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما ليس في غيره، ولا سيما مع ما علم أن الله يعصمه وينصره، انتهى.

(119 -‌

‌ باب الجعائل والحملان في السبيل. . .) إلخ

الجعائل بالجيم جمع جعيلة، وهي: ما يجعله القاعد من الأجرة لمن يغزو عنه. والحملان بضم المهملة وسكون الميم، مصدر كالحمل.

قال ابن بطال

(3)

: إن أخرج الرجل من ماله شيئًا فتطوع به أو أعان الغازي على غزوه بفرس ونحوه فلا نزاع فيه، وإنما اختلفوا فيما إذا آجر نفسه أو فرسه في الغزو؛ فكره ذلك مالك، وكره أن يأخذ جعلًا على أن يتقدم إلى الحصن. وكره أصحاب أبي حنيفة الجعائل إلَّا إن كان بالمسلمين ضعف، وليس في بيت المال شيء، وقالوا: إن أعان بعضهم بعضًا جاز لا على وجه البدل. قال الشافعي: لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ يأخذه، وإنما يجوز من السلطان دون غيره.

والذي يظهر أن البخاري أشار إلى الخلاف فيما يأخذه الغازي، هل يستحقه بسبب الغزو فلا يتجاوزه إلى غيره، أو يملكه فيتصرف فيه ما شاء؟

(1)

"فتح الباري"(6/ 123).

(2)

(5/ 136).

(3)

(5/ 137).

ص: 280

كما سيأتي بيان ذلك. انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

الجعيلة: الأجرة التي يجعلها القاعد لمن يغزو عنه في الجهاد، ولا ريب في كونه مكروهًا؛ أما أخذ أجرة الجهاد فهو جائز، وإن حبط الأجر. وفي "الكنز"؛ وكره الجعل، وهو بمعنى قطعة من المال يضعها الإمام على الناس لتسوية أمر الجهاد، وهو مكروه إذا كانت في بيت المال فسحة، أما إذا لم يكن فيه مال فلا بأس، ولعل المصنف أيضًا نظر إليه، انتهى.

قوله: (ولكن لا أجد حمولة. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: ولا بد من فصل بين مرادي الجملتين لئلّا يلزم التكرار، فإما أن يحمل الأول على الوجدان بطريق الملك والثاني بغيره من عارية ونحوها، أو يراد بالأول وجدان الحمولة نفسها وبالثاني وجدان ما يوصل إلى تحصيل الحمولة من الذهب والفضة ونحوهما إلى غير ذلك، انتهى.

قلت: أجاد الشيخ قدس سره في دفع التكرار ولم يتعرض لذلك الشراح.

(120 -‌

‌ باب الأجير. . .) إلخ

للأجير في الغزو حالان: إما أن يكون استؤجر للخدمة، أو استؤجر ليقاتل.

أما الأول: قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: لا يسهم له. وقال الأكثر: يسهم له؛ لحديث سلمة: "كنت أجيرًا لطلحة أسوس فرسه"، أخرجه مسلم، وفيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم له". وقال الثوري: لا يسهم للأجير إلا إن قاتل.

(1)

"فتح الباري"(6/ 124).

(2)

"فيض الباري"(4/ 212).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 260).

ص: 281

وأما الأجير: إذا استؤجر ليقاتل؛ فقال المالكية والحنفية: لا يسهم له. وقال الأكثر: له سهمه. وقال أحمد: لو استأجر الإمام قومًا على الغزو لم يسهم لهم سوى الأجرة. وقال الشافعي: هذا فيمن لم يجب عليه الجهاد، أما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف فإنه يتعين عليه الجهاد؛ فيسهم له ولا يستحق أجرة.

قوله: (وأخذَ عطية بن قيس. . .) إلخ، وهذا الصنيع جائز عند من يجيز المخابرة، وقال بصحته هنا الأوزاعي وأحمد خلافًا للثلاثة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(121 -‌

‌ باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم

-)

قال الحافظ

(2)

: اللواء بكسر اللام والمد هي الراية، ويسمى أيضًا العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش، ثم صارت تحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء: ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية. وقيل: اللواء العلم الضخم، والعلم علامة لمحمل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب. وجنح الترمذي إلى التفرقة، فترجم بالألوية، ثم ترجم للرايات.

ثم ذكر الحافظ عدة روايات مختلفة في صفة لون لواء النبي صلى الله عليه وسلم ورايته، وقال أيضًا: في هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب، انتهى.

(122 -‌

‌ باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بالرعب. . .") إلخ

قال الحافظ

(3)

: قوله: "جابر" يشير إلى حديثه الذي أوله: "أعطيت

(1)

"فتح الباري"(6/ 125).

(2)

"فتح الباري"(6/ 126 - 127).

(3)

"فتح الباري"(6/ 128).

ص: 282

خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي"، فإن فيه: "ونُصرت بالرعب مسيرة شهر"، ووقع في الطبراني من حديث أبي أمامة: "شهرًا أو شهرين"، وله من حديث السائب بن يزيد: "شهرًا أمامي وشهرًا خلفي". وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك؛ كالشام والعراق واليمن ومصر ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه، وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو، انتهى.

(123 -‌

‌ باب حمل الزاد في الغزو)

أشار بهذه الترجمة إلى أن حمل الزاد في السفر ليس منافيًا للتوكل. انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: أي: جواز حمل الزاد في الغزو، وهو لا ينافي التوكل، انتهى.

قلت: وعندي المقصود: بيان الاستحباب والترغيب في حمله؛ لذكره الآية المتضمنة بالأمر، وتأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم لئلّا يضعف فيخل بالمقصود؛ أي: الجهاد، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس من البر الصيام في السفر"

(3)

، فمنع صلى الله عليه وسلم عن الصوم خشية الضعف، فيكون مخلًّا بالمقصود، فافهم.

قوله: (كنا نتزوّد لحوم الأضاحي. . .) إلخ، فلما كان ذلك في سفر المدينة وهي مدينة مباركة وموطن مألوف، فأولى أن يحتمل الزاد في الغزو لما أن المسير فيه إلى أرض العدو، والضيافة معلومة - أي: أنها غير ممكنة - والسفر محتاجون فيه إلى مزيد قوة لأجل الغزو، انتهى من "اللامع"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 129).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 295).

(3)

أخرجه ابن ماجه (برقم 1665)، كتاب الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر.

(4)

"لامع الدراري"(7/ 264).

ص: 283

وقال القسطلاني

(1)

في وجه المطابقة: إنه وإن لم يكن سفر غزو لكن سفر الغزو مقيس عليه، انتهى.

(124 -‌

‌ باب حمل الزاد على الرقاب)

أي: عند تعذر حمله على الدواب، قاله الحافظ

(2)

، والأوجه عند هذا العبد الضعيف أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى قلة الزاد لئلَّا يحتاج إلى الحمولات ولا يشتغل بحفظها فافهم.

(125 -‌

‌ باب إرداف المرأة خلف أخيها)

قال العلامة العيني

(3)

: أي: جواز إرداف المرأة خلف أخيها، يقال: أردفته إردافًا: إذا أركبته معك. والردف، بكسر الراء: المرتدف: وهو الذي يركب خلف الراكب، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: إنما أورده ههنا لأن مثل هذه الأمور والحاجات كثيرًا ما تعرو في السفر لا سيما الجهاد، فبيّن بذلك جوازه، وكذلك كثير من الأبواب الموردة ههنا من هذا القبيل، انتهى.

(126 -‌

‌ باب الارتداف في الغزو والحج. . .) إلخ

أي: في سفرة الغزاة وسفرة الحج. ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، ويقاس الغزو على الحج، انتهى من "العيني"

(5)

.

(127 -‌

‌ باب الردف على الحمار)

كتب الشيخ في "اللامع"

(6)

يعني بذلك أنه لا بأس فيه إذا لم يكن الحمار يثقل عليه ذلك ويربو على قدر طاقته، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 508).

(2)

"فتح الباري"(6/ 130).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 298).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 265).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 299).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 265).

ص: 284

قلت: وهو كذلك كما تقدم الكلام عليه في كتاب الحج في "باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة"، ويشكل ذكر حديث ابن عمر في هذا الباب لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذاك راكبًا على راحلته لا الحمار، وذكر الحافظ

(1)

أيضًا هذا الإشكال ولم يجب عنه، وأجاب عنه العيني

(2)

فقال: كلاهما في نفس الارتداف سواء والفرق في الدابة، وتواضعه صلى الله عليه وسلم في إردافه على الحمار أقوى وأعظم من إردافه على الراحلة، فيلحق هذا بذلك، انتهى.

(128 -‌

‌ باب من أخذ بالركاب ونحوه)

أي: من الإعانة على الركوب وغيره، قاله الحافظ

(3)

.

قلت: وهذا كما تقدم من "باب من قاد دابة غيره في الحرب" ومن "باب من ضرب دابة غيره. . ." إلخ.

(129 -‌

‌ باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: قوله: "وكذلك يروى. . ." إلخ، وصل روايته إسحاق بن راهويه في "مسنده"

(5)

عنه بلفظ: "كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو".

قوله: (وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف، خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(6)

أراد بإيراد الروايات المتخالفة أن الجواز مقيد بالأمن والنهي بغيره، ودلالة قوله:"وهم يعلمون القرآن" على مدعاه

(1)

"فتح الباري"(6/ 132).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 301).

(3)

"فتح الباري"(6/ 241).

(4)

"فتح الباري"(6/ 133).

(5)

"تغليق التعليق"(3/ 453).

(6)

"لامع الدراري"(7/ 265 - 266).

ص: 285

حسب قاعدتهم ظاهرة، فإنهما إذا علموا لا بد لهم من تعليمه، والتعليم أعم من التعليم حفظًا وكتابةً، انتهى.

وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: "وهم يعلمون"؛ أي: يقرؤون القرآن، والقراءة قد تكوت من المصحف وقد تكون من الحفظ، فثبت جواز السفر بالمصحف إلى أرض العدو؛ لأن الفعل يعم عند البخاري، أو هو:"يعلّمون" بالتشديد، والتعليم في زمن الصحابة غالبًا كان من المصحف فثبت الجواز أيضًا، انتهى.

ثم مسألة الباب خلافية، قال الحافظ

(1)

: قال ابن عبد البر

(2)

: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه، فمنع مالك أيضًا مطلقًا، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعي الكراهة مع الخوف وجودًا وعدمًا، وقال بعضهم كالمالكية، ثم ذكر الاختلاف في تعليم الكافر القرآن، وقال أيضًا تحت قول البخاري:"وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم. . . إلخ" عن المهلب

(3)

: إن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة، فيجوز في تلك دون هذه، انتهى.

قلت: فعلى هذا ميل الإمام البخاري إلى مسلك الحنفية، وفي "الدر المختار"

(4)

: "نهينا عن إخراج ما يجب تعظيمه" ويحرم الاستخفاف به، كمصحف وكتب فقه وحديث. قال ابن عابدين: خلافًا لقول الطحاوي: إن ذلك إنما كان عند قلة المصاحف كيلا تنقطع عن أيدي الناس، وأما اليوم فلا يكره، والبسط في "هامش اللامع"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 133 - 134).

(2)

"الاستذكار"(13/ 51).

(3)

نقله عن "شريح ابن بطال (5/ 149 - 150).

(4)

(4/ 316).

(5)

"هامش اللامع"(7/ 266 - 268).

ص: 286

(130 -‌

‌ باب التكبير عند الحرب)

أي: جوازه أو مشروعيته.

(131 -‌

‌ باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير)

قال الحافظ

(1)

: "أربعوا"؛ أي: ارفقوا. قال الطبري: فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين. انتهى. قال الحافظ: وتصرف البخاري يقتضي أن ذلك خاص بالتكبير عند القتال، وأما رفع الصوت في غيره فقد تقدم في كتاب الصلاة حديث ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على العهد النبوي إذا انصرفوا من المكتوبة، وتقدم البحث فيه هناك، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: "باب ما يكره. . ." إلخ، يعني به: البالغ حد الكراهة، الخارج عن التوسط والجواز، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"اربعوا على أنفسكم"، انتهى.

وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك إلى دفع ما يتوهم في الحديث من النهي عن الجهر بالذكر، كما قال ذلك بعض القائلين بالمنع عن الذكر المعتاد عند المشايخ، وأجاب الشيخ في "الكوكب" بجواب آخر إذ قال: استدل بذلك من منع الجهر بالذكر، ولا يتم، فقد ورد أنه كان ثَمّ عدو فأراد أن لا يعلموا بهم، فكأن الممانعة لأمر خارج، لا لشيء في نفس الذكر، وهذا هو الحق، فإن الذكر ليس شيء من أنواعه منهيًا عنه، وإنما ذلك لأمر خارج عنه. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع". وفي "الفيض"

(3)

: "باب ما يكره من رفع الصوت"؛ أي: في غير الجهاد، انتهى. وتقدم عن الحافظ ما يخالف ذلك.

(1)

"فتح الباري"(6/ 135).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 268).

(3)

"فيض الباري"(4/ 217).

ص: 287

(132 -‌

‌ باب التسبيح إذا هبط واديًا)

أورد فيه حديث جابر: "كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا". ثم قال: "‌

‌باب التكبير إذا علا شرفًا

" أورد فيه حديث جابر المذكور.

قال المهلب: تكبيره صلى الله عليه وسلم عند الارتفاع استشعار لكبرياء الله عز وجل، وعندما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء، وتسبيحه في بطون الأودية مستنبط من قصة يونس، فإن بتسبيحه في بطن الحوت نجّاه الله تعالى من الظلمات، فسبّح النبي صلى الله عليه وسلم في بطون الأودية لينجيه الله منها، وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(133 - باب التكبير إذا علا شرفًا)

تقدم الكلام عليه في الباب السابق.

(134 -‌

‌ باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة)

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

؛ أي: إذا لم يكن عاصيًا في سفره، وبه جزم الحافظان ابن حجر

(3)

، والعيني

(4)

، وقال القسطلاني

(5)

: أي سفر طاعة.

(135 -‌

‌ باب السير وحده)

وقد تقدم "باب هل يبعث الطليعة وحده" ولا يبعد أن يقال: إن الغرض من الأول بيان جوازه، ثم أعقبه هناك بـ "باب سفر الاثنين" لإثبات الجواز أيضًا، والغرض ههنا بيان عدم الأولوية، ولذا ذكره فيه الحديث

(1)

"فتح الباري"(6/ 135 - 136).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 269).

(3)

"فتح الباري"(6/ 136).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 309).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 521).

ص: 288

الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما المقتضي لعدم الجواز، ولا أقل من عدم الأولوية. وأما الحديث الأول فإنه وإن كان بظاهره يفيد الجواز، لكن يمكن أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام ندب ثانيًا وثالثًا ليكون مع الزبير شخص آخر حذرًا عن سفر شخص واحد.

(136 -‌

‌ باب السرعة في السير. . .) إلخ

أي: في الرجوع إلى الوطن. قال المهلب

(1)

: تعجله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليريح نفسه ويفرح أهله، انتهى. وتقدم في كتاب الحج ما في معناه من "باب أسرع ناقته إذا بلغ المدينة"، ومن "باب المسافر إذا جدبه السير"، وتقدم الكلام عليهما في محله.

(137 -‌

‌ باب إذا حمل على فرس)

أي: ليجاهد عليها في سبيل الله (فرآها تباع) هل له أن يشتريها أم لا؟ قاله القسطلاني

(2)

.

قلت: والمسألة التي أشار إليها القسطلاني خلافية تقدمت في "باب هل يشتري صدقته" من "كتاب الزكاة"، ولا يبعد عندي أن يحمل الترجمة على معنى الرجوع في الهبة، فالمعنى: إذا تصدق رجل فرسًا ليجاهد عليه في سبيل الله، ثم رأى المتصدِّق أنها تباع على خلاف ما أراد من التصدق، فهل يرجع في تلك الصدقة أم لا؟ فافهم.

(138 -‌

‌ باب الجهاد بإذن الأبوين)

[أي:] المسلمين، قاله القسطلاني

(3)

. وفي "الفتح"

(4)

كذا أطلق، وهو قول الثوري، وقيده بالإسلام الجمهور، انتهى.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 156).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 526).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 527).

(4)

"فتح الباري"(6/ 140).

ص: 289

قال العيني

(1)

: قال أكثر أهل العلم، منهم الأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد: إنه لا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه، ما لم تقع ضرورة وقوة العدو، فإذا كان كذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار فوجب الجهاد على الكل، فلا حاجة إلى الإذن من والد وسيد. وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع" إن كان أبواه يضيعان بخروجه ففرضه ساقط عنه إجماعًا وإلا فالجمهور يوفقه على الاستئذان. والأجداد كالآباء، والجدات كالأمهات، وهذا إذا كانا مسلمين. فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه ولو نفلًا، وطاعتهما حينئذ معصية. وعن الثوري: هما كالمسلمين، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(2)

ولا يفرض الجهاد على صبي وبالغ له أبوان أو أحدهما؛ لأن طاعتهما فرض عين. قال ابن عابدين: "له أبوان"، مفاده أنهما لا يأثمان في منعه، وإلا لكان له الخروج حتى يبطل عنهما الإثم مع أنهما في سعة من منعه إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة، وشمل الكافرين أيضًا أو أحدهما إذا كره خروجه مخافةً ومشقةً. . . إلى آخر ما بسط.

وسيأتي في "كتاب الأدب" أيضًا "باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين".

(139 -‌

‌ باب ما قيل في الجرس. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي: من الكراهة، وقيده بالإبل لورود الخبر فيها بخصوصها. انتهى.

قوله: (ونحوه) أي: مما يعلق كالقلائد، والنهي للتنزيه، كما حكاه النووي عن الجمهور، قاله القسطلاني

(4)

. ثم ذكر الأقوال في حكمة النهي، وبسط الكلام عليه في هامش "اللامع"

(5)

.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 314، 315).

(2)

(4/ 300).

(3)

"فتح الباري"(6/ 141).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 529).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 271 - 273).

ص: 290

(140 -‌

‌ باب من اكتتب في جيش. . .) إلخ

قال العيني

(1)

: اكتتب بلفظ المعلوم والمجهول، يقال: اكتتب فلان إذا كتب نفسه في ديوان السلطان، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث ابن عباس في ذلك. ويستفاد منه أن الحج في حق مثله أفضل من الجهاد؛ لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقه تحصيل حج الفرض لامرأته، وكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرد الجهاد الذي يحصل المقصود منه بغيره، وفيه مشروعية كتابة الجيش ونظر الإمام لرعيته بالمصلحة، انتهى.

(141 -‌

‌ باب الجاسوس. . .) إلخ

أي: حكمه إذا كان من جهة الكفار، ومشروعيته إذا كان من جهة المسلمين، ومناسبة الآية إما لما سيأتي في التفسير أن القصة المذكورة في حديث الباب كانت سبب نزولها، وإما لأن ينتزع منها حكم جاسوس الكفار، فإذا اطلع عليه بعض المسلمين لا يكتم أمره، بل يرفعه إلى الإمام ليرى فيه رأيه. وقد اختلف العلماء في جواز قتل جاسوس الكفار، وسيأتي البحث فيه في "باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: والظاهر عند هذا العبد الضعيف هو الاحتمال الأول؛ أي: الجاسوس من جهة الكفار، وحكمه ظاهر، أنه لا يجوز، لقصة حاطب، والآية المذكورة في الترجمة. وأما حكم الجاسوس من جهة المسلمين فهو مشروع؛ لإرساله صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه وغيره لتجسس الظعينة والكتاب.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 318).

(2)

"فتح الباري"(6/ 143).

(3)

"فتح الباري"(6/ 143 - 144).

ص: 291

(142 -‌

‌ باب الكسوة للأسارى)

أي: بما يواري عوراتهم، إذ لا يجوز النظر إليها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(143 -‌

‌ باب فضل من أسلم على يديه رجل)

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له.

(144 -‌

‌ باب الأسارى في السلاسل)

أي: مشروعية قيدهم بالسلاسل، لئلا يتوهم متوهم أن فيه تعذيب خلق الله، فتأمل.

(145 -‌

‌ باب فضل من أسلم من أهل الكتابين)

قال العلامة القسطلاني

(2)

: "من أهل الكتابين"؛ أي: التوراة والإنجيل، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قال المهلب: جاء النص في هؤلاء الثلاثة لينبه به على سائر من أحسن في معنيين في أيّ فعل كان من أفعال البر. قال ابن المنير

(4)

: مؤمن أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبينا صلى الله عليه وسلم، لما أخذ الله عليهم من العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر فكيف يتعدد إيمانه حتى يتعدد أجره؟ ثم أجاب بأن إيمانه الأول الموصوف بكذا رسول، والثاني بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الموصوف، فظهر التغاير فثبت التعدد، انتهى. ويحتمل أن يكون تعدد أجره، لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم، فحصل له الأجر الثاني بمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 144).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 537).

(3)

"فتح الباري"(6/ 146).

(4)

"المتواري"(ص 170 - 171).

ص: 292

قال القسطلاني

(1)

: واستشكل دخول اليهود في ذلك؛ لأن شرعهم نسخ بعيسى عليه الصلاة والسلام، والمنسوخ لا أجر في العمل به فيختص الأجران بالنصراني. وأجيب: بأنا لا نسلم أن النصرانية ناسخة لليهودية، نعم لو ثبت ذلك لكان كذلك. كذا قرره الكرماني وتبعه البرماوي وغيره. لكن قال في "الفتح": لا خلاف أن عيسى عليه الصلاة والسلام أرسل إلى بني إسرائيل فمن أجاب منهم نسب إليه، ومن كذب منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنًا فلا يتناوله الخبر؛ لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيِّه. . . إلى آخر ما بسط من الكلام عليه.

وقوله: (فله أجران) أجر الإيمان بنبيه، وأجر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وبسط شيخنا الكَنكَوهي قدّس سره في شرح قوله: "ثلاثة يعطون أجرهم مرتين"؛ أي: في وجه تضعيف الأجر لهم، فارجع إلى "الكوكب الدري"

(2)

لو شئت، وفي هامشه: وأفاد والدي المرحوم عند تدريس "مشكاة المصابيح" أن مناط تكرار الأجر هو التزاحم، فكل فعل يوجد فيه التزاحم يثنّى عليه الأجر؛ فرجل أدى حق الله وحق مولاه يتحقق التزاحم في كل من فِعليه فيثنّى الأجر على كل من فِعليه، فله أربعة أجور: اثنان على تأديته حقوق المولى، واثنان على تأديته حقوقه تعالى؛ ورجل تعلم الكتاب الأول والثاني [فلا تزاحم فيه إلا عند الثاني] إذ صار جاهلًا بعدما كان عالمًا، وصار مبتديًا بعدما كان منتهيًا، فيكرر أجره على هذا؛ ورجل أدب أمَته لا تزاحم فيه، لكن إعتاقها بعدما تأدبت وكذا التزوج بعده، فهذان الفعلان على كل واحد منهما الأجران، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 539).

(2)

(2/ 230).

ص: 293

(146 -‌

‌ باب أهل الدار يبيتون. . .) إلخ

بفتح المثناة التحتية بعد الموحدة مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُغار عليهم بالليل بحيث لا يميز بين أفراد "فيصاب الولدان"؛ أي: الصغار بسبب التبييت؛ أي: هل يجوز ذلك أم لا؟

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى تفسير ثلاث آيات من القرآن يوافقن ما في الخبر على عادته، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: وفهم من تقييده بإصابة من ذكر قصر الخلاف عليه، وجواز البيات إذا عري عن ذلك. قال أحمد: لا بأس بالبيات، ولا أعلم أحدًا كراهه، انتهى.

قوله: (هم منهم)؛ أي: من أهل الدار من المشركين، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل إذا لم يوصل إلى قتل الرجال إلا بذلك قتلوا وإلا فلا تقصد الأطفال والنساء بالقتل مع القدرة على ترك ذلك، جمعًا بين الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتل النساء والصبيان وما هنا، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

قوله: (بياتًا ليلًا. . .) إلخ، وهذه عادة المصنِّف إذا وقع في الخبر لفظة توافق ما وقع في القرآن أورد تفسير اللفظ الواقع في القرآن، جمعًا بين المصلحتين وتبركًا بالأمرين، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(147 -‌

‌ باب قتل الصبيان في الحرب)

قال الحافظ: أورد فيه حديث ابن عمر من طريق ليث بن سعد بلفظ: "فأنكر"، ثم قال:"باب قتل النساء في الحرب" وأورد الحديث المذكور من طريق عبيد الله بن عمر بلفظ: "فنهى"، واتفق الجميع كما نقل ابن بطال

(5)

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 540).

(2)

"فتح الباري"(6/ 146).

(3)

"إرشاد الساري"(6/ 541).

(4)

"فتح الباري"(6/ 146).

(5)

(5/ 168).

ص: 294

وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان. وقال أيضًا في موضع آخر: وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم. وحكى الحازمي قولًا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب، انتهى.

قلت: وتبويب الإمام البخاري يدل على أنه حمل هذا الحديث على البيات، وهو قول الجمهور كما تقدم، وهذا إذا لم تقاتل المرأة، أما لو قاتلت فيجوز قتلها عند الشافعي والكوفيين وأحمد، كما في "المغني". وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت القتل. قال الحافظ: ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود وغيره من حديث رباح بن الربيع: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل"، فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت، انتهى من "الفتح"

(1)

بزيادة واختصار.

(148 -‌

‌ باب قتل النساء في الحرب)

تقدم الكلام عليه آنفًا في الباب الذي قبله.

(149 -‌

‌ باب لا يعذب بعذاب الله)

قال الحافظ

(2)

رحمه الله: هكذا بت الحكم في هذه المسألة لوضوح دليلها عنده، ومحله إذا لم يتعين التحريق طريقًا إلى الغلبة على الكفار حال الحرب، ثم قال الحافظ في شرح الحديث: واختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر، وابن عباس وغيرهما، مطلقًا، سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصًا، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما.

(1)

"فتح الباري"(6/ 148 - 149).

(2)

"فتح الباري"(6/ 150).

ص: 295

قال المهلب

(1)

: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، ورد على قول المهلب ابن المنير، كما في "الفتح"

(2)

.

وقال ابن قدامة

(3)

: أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار، بغير خلاف نعلمه، وقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار، وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره، فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافًا، ثم قال: وأما رميهم قبل أخذهم بالنار فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها؛ لأنهم في معنى المقدور عليه، وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم، وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي، انتهى.

قلت: وإليه أشار الحافظ بقوله: "ومحله إذا لم يتعين التحريق. . ." إلخ، كما تقدم.

(150 -‌

‌ باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]) إلخ

فيه حديث ثمامة. قال الحافظ

(4)

: كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة في قصة إسلام ثمامة بن أثال، وستأتي موصولة مطولة في أواخر كتاب المغازي، والمقصود منها هنا قوله:"إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت"؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ولم ينكر عليه التقسيم، ثم منَّ عليه بعد ذلك. فكان في ذلك تقوية لقول الجمهور: إن الأمر في أسرى الكفرة من الرجال إلى الإمام، يفعل ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين. وعن مالك: لا يجوز المنُّ بغير فداء. وعن الحنفية: لا يجوز المنُّ أصلًا لا بفداء ولا بغيره، انتهى مختصرًا.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 172).

(2)

"فتح الباري"(6/ 150).

(3)

"المغني"(13/ 138).

(4)

"فتح الباري"(6/ 151 - 152).

ص: 296

وكتب الشيخ قُدِّس سره في "الكوكب الدري"

(1)

في أسير الجهاد أربعة شقوق، إما يمنُّ عليه فيتركه، أو يفدي، أو يقتل، أو يسترق، والأولان قد نسخا بآية السيف، انتهى.

وفي "البذل"

(2)

: قال أصحابنا الأحناف في ظاهر الرواية: لا يفادي الأسير بالمال، ولا يفادون بأسرى المسلمين أيضًا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادي أسرى المسلمين بأسرى المشركين، وهو قول الأئمة الثلاثة. . .، إلى آخر ما بسط فيه.

وذكر الخرقي في مذهب الحنابلة التخيير بين الأربعة، وبسط الكلام عليه الموفق

(3)

، وقال: وهو مذهب الشافعي، وعن مالك: كمذهبنا، وعنه لا يجوز المن بغير عوض. وقال أصحاب الرأي - الثاقب -: إن شاء ضرب أعناقهم وإن شاء استرقهم لا غير، ولا يجوز منٌّ ولا فداء. . .، إلى آخر ما بسط في الدلائل.

(151 -‌

‌ باب هل للأسير أن يقتل أو يخدع. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: قوله: "فيه المسور. . ." إلخ، يشير بذلك إلى قصة أبي بصير، وقد تقدم في أواخر الشروط، وهي ظاهرة فيما ترجم له، وهي من مسائل الخلاف أيضًا، ولهذا لم يبت الحكم فيها. قال الجمهور: إن ائتمنوه يف لهم بالعهد، حتى قال مالك: لا يجوز أن يهرب منهم، وخالفه أشهب فقال: لو خرج به الكافر ليفادي به فله أن يقتله. وقال أبو حنيفة: إعطاء العهد على ذلك باطل، ويجوز له أن لا يفي لهم به. وقال الشافعية: يجوز أن يهرب من أيديهم، ولا يجوز أن يأخذ من أموالهم، قالوا: وإن لم يكن بينهم عهد جاز له أن يتخلص منهم بكل طريق ولو بالقتل وأخذ المال وتحريق الدار وغير ذلك. انتهى.

(1)

(2/ 409).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 330).

(3)

"المغني"(13/ 45).

(4)

"فتح الباري"(6/ 153).

ص: 297

(152 -‌

‌‌

‌ باب

إذا حرّق المشرك المسلم هل يحرق

؟)

أي: جزاء بفعله، وكأنه أشار بذلك إلى تخصيص النهي في قوله:"لا يعذب بعذاب الله" بما إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص. وليس في حديث الباب التصريح بأن العرنيين فعلوا ذلك بالرعاء، لكنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه عند مسلم عن أنس قال:"إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين لأنهم سملوا أعين الرعاء". قال ابن بطال

(1)

: ولو لم يرد ذلك لكان أخذ ذلك من قصة العرنيين بطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز سمل أعينهم وهو تعذيب بالنار ولو لم يفعلوا ذلك بالمسلمين فجوازه إن فعلوه أولى، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(153 - باب)

بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق، والمناسبة بينهما أن لا يتجاوز بالتحريق، حيث يجوز إلى من لم يستوجب ذلك، فإنه أورد فيه حديث أبي هريرة في تحريق قرية النمل، وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه:"أن الله أوحى إليه: فهلا نملة واحدة" ولا يخفى أن صحة الاستدلال بذلك متوقفة على أن شرع من قبلنا هو شرع لنا؟ انتهى من "الفتح"

(3)

.

(154 -‌

‌ باب حرق الدور والنخيل)

أي: التي للمشركين، كذا وقع في جميع النسخ:"حرق"، وضبطوه بفتح أوله وإسكان الراء، وفيه نظر؛ لأنه لا يقال في المصدر:"حرق"، وإنما يقال: تحريق وإحراق؛ لأنه رباعي، انتهى من "الفتح"

(4)

. وتعقب عليه العلامة العيني

(5)

بأنه يجوز أن يكون الحرق اسمًا للإحراق. . . إلى آخر ما بسط.

(1)

(5/ 179).

(2)

"فتح الباري"(6/ 153).

(3)

"فتح الباري"(6/ 154).

(4)

"فتح الباري"(6/ 154).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 339).

ص: 298

ثم مسألة الباب خلافية. قال الحافظ

(1)

: ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرههه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك، وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال، ونحو ذلك القتل بالتغريق. وقال غيره: إنما نهى أبو بكر عن ذلك؛ لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح؛ فأراد إبقاءها على المسلمين، انتهى. وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(2)

وهامش "اللامع"

(3)

.

وقال القسطلاني

(4)

: واستدل الجمهور بحديث الباب على جواز التحريق والتخريب إذا تعين طريقًا في نكاية العدو، وخالف بعضهم فقال: لا يجوز قطع المثمر أصلًا، وحمل ما ورد في ذلك إما على غير المثمر وإما على أن الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهذا قول الليث والأوزاعي وأبو ثور، انتهى.

(155 -‌

‌ باب قتل النائم المشرك)

قال الحافظ

(5)

: ذكر فيه قصة قتل أبي رافع اليهودي، وهي ظاهرة فيما ترجم له؛ لأن الصحابي طلب قتل أبي رافع وهو نائم، وإنما ناداه ليتحقق أنه هو لئلَّا يقتل غيره ممن لا غرض له إذ ذاك في قتله، وبعد أن أجابه كان في حكم النائم؛ لأنه حينئذ استمر على خيال نومه، بدليل أنه بعد أن ضربه لم يفر من مكانه ولا تحوّل من مضجعه، حتى عاد إليه فقتله، ثم قال في فوائد الحديث: وأما قتله إذا كان نائمًا فمحله أن يعلم أنه مستمر على كفره وأنه قد يئس من فلاحه، وطريق العلم بذلك إما بالوحي وإما بالقرائن الدالة على ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 155).

(2)

"أوجز المسالك"(9/ 81، 82).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 279 - 280).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 552).

(5)

"فتح الباري"(6/ 155، 156).

ص: 299

(156 -‌

‌ باب لا تمنَّوا لقاء العدو)

قال ابن بطال

(1)

: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق رضي الله عنه:"لأن أُعافى فأشْكُر أحبّ إليّ من أن أُبتلى فاصبِر". وقال غيره: إنما نهي عنه لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم، إلى آخر ما بسط في الحكم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: وقد تقدم ما بظاهره ينافي هذا الباب، وهو "باب الدعاء بالجهاد والشهادة. . ." إلخ. ويمكن الجمع بينهما بأن النهي على سبيل الإعجاب مثلًا، والدعاء يحمل على بذل الجهد في إعلاء كلمة الله، فافهم.

(157 -‌

‌ باب الحرب خدعة)

بفتح الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة كما في الفرع وأصله وهي الأفصح، وجزم بها أبو ذر الهروي والقزاز. وقال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: بضم الخاء مع سكون الدال، وجوز بضم أوله وفتح ثانيه كهُمَزَة ولُمَزَة وهي صيغة مبالغة. وحكى المنذري بفتح الأول والثاني جمع خادع. وحكى مكي وغيره خِدعة بكسر أوله وسكون ثانيه، فهي خمسة. ومعنى الإسكان أنها تخدع أهلها، من وصف الفاعل باسم المصدر، أو وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه. وعن الخطابي أنها المرة الواحدة؛ يعني: أنه إذا خدع مرة لم تقل عثرته، ومعنى الضم مع السكون أنها تخدع الرجال؛ أي: هي محل الخداع وموضعه، ومع فتح الدال؛ أي: تخدع الرجال تمنيهم الظفر ولا تفي لهم كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء الدلالة على الواحدة، فإن

(1)

(5/ 185).

(2)

"فتح الباري"(6/ 156).

ص: 300

الخداع إن كان من المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم، ولو وقع مرة واحدة فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قلّ، انتهى كله من "القسطلاني"

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: وقال النووي

(3)

: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيف ما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. قال ابن المنير: معنى الحديث: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.

قال الحافظ: ذكر الواقدي: أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق، انتهى.

(158 -‌

‌ باب الكذب في الحرب)

ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل كعب بن الأشرف. قال ابن المنير: الترجمة غير مطابقة؛ لأن الذي وقع منهم في قتل كعب يمكن أن يكون تعريضًا؛ لأن قولهم: "عنّانا"؛ أي: كلفنا بالأوامر والنواهي، وقولهم:"سألنا الصدقة"؛ أي: طلبها منا ليضعها مواضعها، انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر أنه لم يقع منهم في ما قالوا بشيء من الكذب أصلًا، وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم أولًا:"ائذن لي أن أقول، قال: قل" فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحًا وتلويحًا، وهذه الزيادة وإن لم تذكر في سياق حديث الباب فهي ثابتة فيه كما في الباب الذي بعده، على أنه لو لم يرد ذلك لما كانت الترجمة منافرة للحديث؛ لأن معناها حينئذ باب الكذب

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 558).

(2)

"فتح الباري"(6/ 158).

(3)

"المنهاج"(12/ 44).

ص: 301

في الحرب هل يسوغ مطلقًا أو يجوز منه الإيمان دون التصريح؟ وقد جاء من ذلك صريحًا ما أخرجه الترمذي مرفوعًا: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحديث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس". قال النووي

(1)

: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى، انتهى في "الفتح"

(2)

.

(159 -‌

‌ باب الفَتْكِ بأهل الحرب)

أي: جواز قتل الحربي سرًّا. وبين هذه الترجمة وبين الترجمة الماضية - وهي "قتل المشرك النائم" - عموم وخصوص وجهي، وإنما فتكوا به لأنه نقض العهد، وأعان على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه، ولم يقع لأحد ممن توجه إليه تأمين له بالتصريح، وإنما أوهموه ذلك وآنسوه حتى تمكنوا من قتله، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: ويشكل عليه ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن". ويمكن الجواب عنه بما في "الدرجات" للدمنتي في تفسير الفتك: هو قتل المؤمن غيره غدرًا في حال غفلته، انتهى. فهذا الحديث محمول على الغدر وهو لا يجوز. وأما فتك كعب بن الأشرف إنما كان لنقضه العهد وغيره، كما تقدم في كلام الحافظ، أو يقال بضعف هذا الحديث، فقد تكلم الحافظ المنذري على إسناده كما في "البذل"

(4)

في "باب العدو يؤتى على غِرَّةٍ".

(160 -‌

‌ باب ما يجوز من الاحتيال والحذر. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: قوله: "معرته" بفتح الميم وتشديد الراء؛ أي: شره وفساده. انتهى.

(1)

"المنهاج"(12/ 44).

(2)

"فتح الباري"(6/ 159).

(3)

"فتح الباري"(6/ 160).

(4)

"بذل المجهود"(9/ 501).

(5)

"فتح الباري"(6/ 160).

ص: 302

قلت: لعله أراد المصنف أنه غير داخل في العذر المنهي عنه.

(161 -‌

‌ باب الرجز في الحرب. . .) إلخ

الرجز - بفتح الراء والجيم والزاي - من بحور الشعر على الصحيح، وجرت عادة العرب باستعماله في الحرب ليزيد في النشاط ويبعث الهمم. وفيه: جواز رفع الصوت في عمل الطاعة لينشط نفسه وغيره. وكأن المصنف أشار في الترجمة بقوله: "ورفع الصوت في حفر الخندق" إلى أن كراهة رفع الصوت في الحرب مختصة بحالة القتال، وذلك فيما أخرجه أبو داود ومن طريق قيس بن عباد قال:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال". انتهى من "الفتح"

(1)

.

(162 -‌

‌ باب من لا يثبت على الخيل)

أي: ينبغي لأهل الخير أن يدعو له بالثبات. وفيه إشارة إلى فضيلة ركوب الخيل والثبات عليها، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(163 -‌

‌ باب دواء الجرح بإحراق الحصير. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: اشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام، وحديث الباب ظاهر فيها، وقد أفرد الثاني منها في "كتاب الطهارة"

(4)

، وأورد فيه هذا الحديث بعينه، انتهى.

(164 -‌

‌ باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب. . .) إلخ

أي: من المقاتلة في أحوال الحرب.

قوله: (وعقوبة من عصى إمامه)؛ أي: بالهزيمة وحرمان الغنيمة. والغرض من ثاني حديثي الباب في قصة أُحد أن الهزيمة وقعت بسبب

(1)

"فتح الباري"(6/ 161).

(2)

"فتح الباري"(6/ 161).

(3)

"فتح الباري"(6/ 162).

(4)

انظر: "صحيح البخاري"(ح 243).

ص: 303

مخالفة الرماة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبرحوا من مكانكم"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(165 -‌

‌ باب إذا فزعوا بالليل)

أي: ينبغي لأمير العسكر أن يكشف الخبر بنفسه أو بمن يندبه لذلك، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(166 -‌

‌ باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: "يا صباحاه

")

قال ابن المنير

(3)

: موضع هذه الترجمة أن هذه الدعوة ليست من دعوى الجاهلية المنهي عنها؛ لأنها استغاثة على الكفارة.

وقوله: (يا صباحاه) هو منادى مستغاث، والألف للاستغاثة والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس استغاثة بهم في وقت الصباح، وكانت عادتهم يغيرون في وقت الصباح، فكأنه قال: تأهبوا لما دهمكم صباحًا، انتهى من "الفتح"

(4)

.

قوله: (واليوم يوم الرضع) اختلفوا في معناه على أقوال، ذكرت في هامش "اللامع" وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

معناه: أن اليوم يوم ظهور الكرام من اللئام. وأراد بالرضع اللئام فإنهم يسترضعون من دون أن يحلبوا لئلا يفطن بذلك مسكين أو ضيف فيسأل ويعتري، فإذا مصه مصًا من الضرع أمن ذلك، وهذا إذا أريد باللبن لبن الناقة. فإن أريد لبن المرأة فهو كناية عن الذي لم يجرب الأمور ولم يباشرها، فكأنه لما لم يخرج عن بيته كان كمن لم يزل يشرب لبن أمه مدة عمره، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 163).

(2)

"فتح الباري"(6/ 163).

(3)

" المتواري"(ص 176).

(4)

"فتح الباري"(6/ 164).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 283 - 284).

ص: 304

(167 -‌

‌ باب من قال: خذها وأنا ابن فلان. . .) إلخ

هي كلمة تقال عند التمدح. قال ابن المنير: موقعها من الأحكام أنها خارجة عن الافتخار المنهي عنه لاقتضاء الحال ذلك.

قلت: وهو قريب من جواز الاختيار - بالخاء المعجمة - في الحرب دون غيرها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(168 -‌

‌ باب إذا نزل العدو على حكم رجل)

أي: فأجازه الإمام، نفذ، ذكر فيه حديث أبي سعيد في نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه. قال ابن المنير

(2)

: يستفاد من الحديث لزوم حكم المحكم برضى الخصمين، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وزاد القسطلاني

(4)

: سواء كان في أمور الحرب أو غيرها، وهو رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على علي رضي الله عنه. . .، إلى آخر ما ذكر من فوائد الحديث.

(169 -‌

‌ باب قتل الأسير، وقتل الصبر)

وفي رواية الكشميهني: "قتل الأسير صبرًا"، وهي أخصر، وأورد فيه حديث أنس في قتل ابن خطل.

وقد تقدم أن الإمام يتخير - متبعًا ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين- بين قتل الأسير، أو المن عليه بفداء، أو بغير فداء، أو استرقاقه، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وقال القسطلاني

(6)

: قوله: "قتل الصبر" بأن يمسَك ذو روح ثم يرمى بشيء حتى يموت. وفي الحديث: النهي عن قتل شيء من الدواب صبرًا.

(1)

"فتح الباري"(6/ 164 - 165).

(2)

"المتواري"(ص 167).

(3)

"فتح الباري"(6/ 165).

(4)

"إرشاد الساري"(6/ 574).

(5)

"فتح الباري"(6/ 165).

(6)

"إرشاد الساري"(6/ 575).

ص: 305

والصبر لغة: الحبس، وإذا شدت يدا رجل ورجلاه وأمسكه آخر وضرب عنقه، يقال: قتل صبرًا. وقال أيضًا: وفيه جواز إقامة الحد والقصاص بمكة خلافًا لأبي حنيفة. . .، إلى آخر ما ذكر.

قلت: وقد تقدم الكلام على المسألة واختلاف الأئمة في "باب لا يحل القتال بمكة" من "كتاب الحج".

(170 -‌

‌ باب هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(1)

: أي: هل يطلب أن يجعل نفسه أسيرًا؟ يعني: هل يسلم نفسه للأسر أم لا؟ وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أشياء: الأول: قوله: "هل يستأسر الرجل؟ " والثاني: قوله: "ومن لم يستأسر"، والثالث: قوله: "ومن ركع ركعتين عند القتل"، ثم قال بعد ذكر الحديث: المطابقة للجزء الأول في قوله: "فنزل إليهم ثلاثة رهط" وللجزء الثاني في قوله: "أما أنا فوالله لا أنزل اليوم. . ." إلخ، وللجزء الثالث في قول خبيب:"ذروني أركع ركعتين"، انتهى ملخصًا.

(171 -‌

‌ باب فكاك الأسير)

أي: من أيدي العدو بمال أو غيره. والفكاك - بفتح الفاء ويجوز كسرها -: التخليص. قال ابن بطال

(2)

: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهويه: من بيت المال. وروي عن مالك أيضًا. وقال أحمد: يفادي بالرؤوس، وأما بالمال فلا أعرفه، ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى واتفقوا على المفاداة تعينت، ولم تجز مفاداة أسارى المشركين بالمال، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 369 - 370).

(2)

(5/ 210).

(3)

"فتح الباري"(6/ 167).

ص: 306

(172 -‌

‌ باب فداء المشركين)

أي: بمال يؤخذ منهم، كذا في الشروح الثلاثة

(1)

(173 -‌

‌ باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان)

أي: هل يجوز قتله؟ وهي من مسائل الخلاف. قال مالك: يتخير فيه الإمام، وحكمه حكم أهل لحرب. وقال الأوزاعي والشافعي: إن ادعى أنه رسول قبل منه. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يقبل ذلك منه، وهو فَيْئ للمسلمين. قاله الحافظ

(2)

.

قلت: وما حكى الحافظ من مذهب أحمد يخالفه ما قال الموفق

(3)

إذ قال: فإن دخل بغير أمان سئل، فإن قال: جئت رسولًا؛ فالقول قوله؛ لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك، ولم تزل الرسل تأتي من غير تقدم أمان. . . إلى أن قال: وكذلك أيضًا - لم يقبل قوله - مدعي الرسالة، إذا لم يكن معه رسالة يؤديها، أو كان ممن لا يكون مثله رسولًا. انتهى. وكذلك عندنا فيه تفصيل. قال ابن نجيم، ولو قال: أنا رسول، فإن وجد معه كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم بعلامة تعرف ذلك كان آمنًا، وإن لم يعرف فهو زور، فيكون هو وما معه فيئًا. . .، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(4)

.

(تنبيه) قد ترجم الإمام أبو داود على حديث الباب "باب الجاسوس المستأمن" مع أنه ليس في الحديث ذكر الاستئمان، والظاهر المطابق للحديث ترجمة الإمام البخاري، وذكرت في هامشي على "البذل"

(5)

توجيهًا لما فعل الإمام أبو داود فارجع إليه، ويستفاد من كلام العيني

(6)

وجه

(1)

انظر: "إرشاد الساري"(6/ 582)، و"عمدة القاري"(10/ 376)، و"فتح الباري"(6/ 168).

(2)

"فتح الباري"(6/ 168).

(3)

"المغني"(13/ 83).

(4)

"أوجز المسالك"(9/ 149، 150).

(5)

"بذل المجهود"(9/ 261).

(6)

"عمدة القاري"(10/ 377).

ص: 307

لترجمة الإمام أبي داود إذ قال: إن العين المذكور في الحديث أوهم أنه ممن له أمان، فلما قضى حاجته من التجسس انفتل مسرعًا، فعلموا أنه حربي دخل بغير أمان، انتهى.

ثم هذا الخلاف المذكور إنما هو في الجاسوس الحربي الكافر، أما لو كان الجاسوس مسلمًا فهل يجوز قتله؟ مسألة خلافية أيضًا، فذهب الإمام مالك ومن وافقه إلى جواز قتله، فقد قال الحافظ

(1)

في حديث قصة حاطب بن أبي بلتعة: واستدل باستئذان عمر على قتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس ولو كان مسلمًا، وهو قول مالك ومن وافقه، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر على إرادة القتل لولا المانع، وبيَّن المانع وهو كون حاطب شهد بدرًا، وهذا منتف في غير حاطب، فلو كان الإسلام مانعًا من قتله لما علل بأخص منه، انتهى.

وفي "البذل"

(2)

في شرح حديث الباب، حديث سلمة بن الأكوع: قال النووي

(3)

: وفيه قتل الجاسوس الحربي، وهو كذلك بإجماع المسلمين، وأما الجاسوس المعاهد والذمي، فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضًا للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله. وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك. قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.

وأما الجاسوس المسلم. فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء - رحمهم الله تعالى -: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله. وقال مالك رحمه الله تعالى: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد. وقال القاضي عياض: قال كبار

(1)

"فتح الباري"(10/ 684).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 251 - 264، 265).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(6/ 311).

ص: 308

أصحابه: يقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة. قال ابن الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر. انتهى. وفي هامشه: حكى العيني

(1)

عن أبي حنيفة: يحبس ويوجع عقوبة، وبه صرّح محمد في "السير الكبير".

(174 -‌

‌ باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون)

قال القسطلاني

(2)

: "يقاتل" بفتح رابعة "عن أهل الذمة" لأنهم بذلوا الجزية على أن يأمنوا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم فيقاتل عنهم كما يقاتل عن المسلمين، انتهى. أي: ولو نقضوا العهد.

وتعقب ابن التين بأنه ليس في الحديث ما يدل على الترجمة من عدم الاسترقاق، وأجاب ابن المنير بأنه أخذ من قوله:"وأوصيه بذمة الله" فإن مقتضى الوصية بالإشفاق أن لا يدخلوا في الاسترقاق، والذي قال:"إنهم يسترقون إذا انقضوا العهد": ابن القاسم، وخالفه الأشهب والجمهور، ومحل ذلك إذا سبى الحربي الذمي ثم أسر المسلمون الذمي، وأغرب ابن قدامة فحكى بالإجماع، وكأنه لم يطلع على خلاف ابن القاسم، وكأن البخاري اطلع عليه فلذلك ترجم به، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وتعقب العيني

(4)

على قول الحافظ: وأغرب ابن قدامة. . . إلخ، إذ قال: يحتمل أنه أراد به إجماع الأئمة الأربعة، انتهى.

قوله: (ولا يسترقون) كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

؛ أي: لا يسترقهم المسلمون أو لا يتركون من غير حماية حتى يسترقهم آخرون، ودلالة قوله:"أوصيه بذمة الله". وكذا قوله: "ولا يكلفون فوق طاقتهم" على هذا المعنى ظاهرة. انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 323).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 585).

(3)

"فتح الباري"(6/ 170).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 379).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 285).

ص: 309

(175 -‌

‌ باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم

؟)

هكذا في النسخة الهندية من غير ذكر حديث، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"الفتح" و"القسطلاني" و"العيني" هذه الترجمة موفرة، وذكر تحتها حديث ابن عباس الآتي في النسخة الهندية في "باب جوائز الوفد". قال الحافظ

(1)

: قوله: "باب جوائز الوفد"، "باب هل يستشفع" كذا في جميع النسخ من طريق الفربري، إلا أن في رواية ابن شبويه عن الفربري تأخير ترجمة "جوائز الوفد" عن ترجمة "هل يستشفع" - كما في النسخة الهندية - وكذا هو عند الإسماعيلي وبه يرتفع الإشكال، فإن حديث ابن عباس مطابق لترجمة "جوائز الوفد" لقوله فيه:"وأجيزوا الوفد" بخلاف الترجمة الأخرى، وكأنه ترجم بها وأخلى بياضًا ليورد فيه حديثًا يناسبها فلم يتفق ذلك، ووقع للنسفي حذف ترجمة "جوائز الوفد" أصلًا واقتصر على ترجمة "هل يستشفع. . ."، إلى آخر ما قال.

وكتب الشيخ قُدِّس سره في "اللامع"

(2)

قوله: "باب هل يستشفع. . ." إلخ، كما فعله جابر؛ حيث ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي ليخفف عن دينه شيئًا، فافهم، انتهى.

قلت: وحديث جابر هذا وإن لم يذكره البخاري ههنا لكن لما كان مشهورًا وقد ذكر في البخاري في مواضع كثيرة لم يذكره البخاري ههنا تشحيذًا للأذهان، وهذا أصل مطرد من أصول التراجم وهو الأصل السابع والعشرون، وقد تقدم عن الحافظ أنه قال: كأنه ترجم بها وأخلى بياضًا ليورد فيها حديثًا يناسبها.

قلت: فحديث جابر الذي أشار إليه الشيخ قدس سره يناسب هذا الباب، فللَّه در الشيخ ما أدق نظره.

(1)

"فتح الباري"(6/ 170).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 285، 286).

ص: 310

(176 -‌

‌ باب جوائز الوفد)

جمع جائزة وهي: العطلة. والوفد: الجماعة يَرِدون، انتهى من "القسطلاني"

(1)

. وقال العيني

(2)

: والوفد هم القوم يجتمعون ويَرِدون البلاد، واحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارةٍ واسترفادٍ وانتجاعٍ وغير ذلك، انتهى.

قوله: (وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال ابن المنير

(3)

: والذي بقي من هذا الرسم ضيافات الرسل وإقطاعات الأعراب ورسومهم في أوقات، ومنه إكرام أهل الحجاز إذا وفدوا، انتهى.

قوله: (أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: استفهام إنكار؛ يعني: أنهم لما اختلفوا في الكتابة حين طلب النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة. قال بعضهم: إنه لم يهجر حتى يختلف فيه، فهلَّا تسألونه عن ذلك فيفصل بينكم بشيء؟ انتهى. وبسط في هامشه كلام الشراح في معناه وتوجيهه.

(177 -‌

‌ باب التجمل للوفد)

قال القسطلاني

(5)

: ولم ينكر عليه الصلاة والسلام عليه طلبه التجمل وإنما أنكر عليه التجمل بهذا الشيء المنهي عنه، وهذا موضع الترجمة، انتهى.

(178 -‌

‌ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي)

قال الحافظ

(6)

: وقد تقدم توجيه هذه الترجمة في "باب هل يعرض الإسلام على الصبي؟ " في "كتاب الجنائز"، ووجه مشروعية عرض الإسلام

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 586).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 380).

(3)

"فتح الباري"(9/ 590)، كتاب المغازي، باب (83)، (ح: 4431)، و"إرشاد الساري"(6/ 588).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 286 - 288).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 590).

(6)

"فتح الباري"(6/ 172).

ص: 311

على الصبي في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "أتشهد أني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وكان إذ ذاك لم يحتلم، فإنه يدل على المدْعِيِّ، ويدل على صحة إسلام الصبي، وأنه لو أقر تقبل لأنه فائدة العرض، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

قوله: "باب كيف يعرض. . ." إلخ، وافق فيه الحنفية، وإسلام الصبي معتبر عندنا دون ارتداده حتى يحتلم، وأما عند الشافعي فإسلامه أيضًا غير معتبر، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

في "كتاب الجنائز": هذه الترجمة معقودة لصحة إسلام الصبي، وهي مسألة خلافية، وقوله:"وهل يعرض عليه؟ " ذكره هنا بلفظ الاستفهام، وترجم في "كتاب الجهاد" بصيغة تدل على الجزم بذلك فقال: وكيف يعرض الإسلام. . . إلخ، وكأنه لما أقام الأدلة هنا على صحة إسلامه استغنى بذلك وأفاد هناك ذكر الكيفية، انتهى.

(179 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ليهود: "أسلموا تسلموا". . .) إلخ

هو طرف من حديث سيأتي موصولًا في الجزية

(3)

في "باب إخراج اليهود من جزيرة العرب".

(180 -‌

‌ باب إذا أسلم قوم في دار الحرب. . .) إلخ

أشار بذلك إلى الرد على من قال من الحنفية: إن الحربي إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئًا للمسلمين، وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وذكر العلامة العيني

(5)

في هذه المسألة تفصيلًا فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فيض الباري"(4/ 241).

(2)

"فتح الباري"(4/ 134).

(3)

"صحيح البخاري"، كتاب الجزية والموادعة، باب (6)، (ح: 3167).

(4)

"فتح الباري"(6/ 175).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 387).

ص: 312

وفي "الفيض"

(1)

أي: إذا أسلم قوم طوعًا بدون جهاد وقتال في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على تلك الدار، فإنهم يستقرون على أملاكهم في الأراضي وغيرها عند الشافعي، وعندنا يستقرون على أملاكهم في المنقولات دون الأراضي، فإنها تتبع الدار، وتصير ملكًا للغانمين، بخلاف المنقولات، فإنها تابعة للمالكين، فتبقى معصومة، والمصنف لم يأت فيه بحديث صريح؛ ولعلّ مسألة الحنفية فيما إذا أسلم قوم من بينهم، وبقي الكفر فيمن حولهم، ويقرب من مذهب الحنفية مذهب مالك في "موطئه"، وراجع "البحر"، فإن فيه جزئيات يستقيم عليها مذهب الحنفية أيضًا.

وقوله: (خيف بني كنانة) احتج المصنف بالإضافة إلى كنانة أن الأراضي كانت للمالكين، وهو ضعيف جدًا.

قوله: (قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام) فيه دليل على كون تلك الأراضي مملوكة لهم، وذا لا يرد علينا؛ لأن المتبادر منه أنهم أسلموا كلهم، ومسألتنا فيما إذا أسلم قوم، وبقي الكفر من حولهم، انتهى. وبسط الكلام على المسألة على عدة أبواب ومباحث من حكم الصلح والعنوة وانتقال الأملاك فارجع إليه لو شئت، وسيأتي في "البخاري" في "باب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم. . . إلخ" حديث ابن عمر في إجلاء اليهود والنصارى من أرض الحجاز بلفظ:"وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين".

(181 -‌

‌ باب كتابة الإمام للناس)

أي: من المقاتلة أو غيرهم، والمراد: ما هو أعم من كتابته بنفسه أو بأمره، ثم قال بعد ذكر الحديث: وفيه مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح.

(1)

"فيض الباري"(4/ 344).

ص: 313

وقال ابن المنير

(1)

: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب.

ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس وفيه: "إني اكتتبت في غزوة كذا" مشعرة بأنه كان من عادتهم كتابة من يتعين للخروج في المغازي، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(2)

.

وقد ترجم الإمام أبو داود "باب في تدوين العطاء" قال الشيخ قدس سره في "البذل"

(3)

: قال في "القاموس"

(4)

: والديوان ويفتح، مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأوّل من وضعه عمر رضي الله تعالى عنه. انتهى.

(182 -‌

‌ باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر)

قال ابن المنير

(5)

: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل في الإمام إذا حمى حوزة الإسلام وكان غير عادل أنه يطرح النفع في الدين لفجوره فيجوز الخروج عليه، فأراد أن هذا التخيل مندفع بهذا النص، وأن الله قد يؤيد دينه بالفاجر، وفجوره على نفسه، وقال الحافظ أيضًا: قال المهلب

(6)

وغيره: لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نستعين بمشرك" لأنه إما خاص بذلك الوقت، وإما أن يكون المراد به الفاجر غير المشرك، انتهى. ثم ذكر الحافظ عدة توجيهات لدفع التعارض.

(183 -‌

‌ باب من تأمر في الحرب بغير إمرة. . .) إلخ

أي: جاز ذلك، وحديث الباب ظاهر فيما ترجم له به.

(1)

"المتواري"(ص 180، 181).

(2)

"فتح الباري"(6/ 179).

(3)

"بذل المجهود"(10/ 137).

(4)

"القاموس المحيط"(3/ 325).

(5)

نقله عن "شرح ابن بطال"(5/ 222).

(6)

"فتح الباري"(6/ 179، 180).

ص: 314

قال ابن المنير

(1)

: يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت بذلك المعين شرعًا وتجب طاعته حكمًا، كذا قال. ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(184 -‌

‌ باب العون بالمدد)

بفتح الميم: ما يمد به الأمير بعض العسكر من الرجال، قاله الحافظ

(3)

.

قال العيني

(4)

: أي: باب في بيان عون الجيش بالمدد، وهو في اللغة ما يمد به الشيء أن يزاد ويكثر، ومنه أمد الجيش بمدد إذا أرسل إليه زيادة، ويجمع على أمداد. وقال ابن الأثير: هم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد، انتهى.

وقال الحافظ: وحديث الباب ظاهر فيما ترجم به. قال ابن المنير: وفيه: أن الاجتهاد والعمل بالظاهر لا يضر صاحبه أن يقع التخلف ممن ظن به الوفاء، انتهى من "الفتح"

(5)

.

قوله: (أتاه رعل وذكوان. . .) إلخ، هذا وهم؛ لأن هؤلاء ليسوا أصحاب بئر معونة، وإنما هم أصحاب الرجيع، وقد تقدم التنبيه عليه قبل ذلك أيضًا.

(185 -‌

‌ باب من غلب العدو فأقام على عرصتهم ثلاثًا)

العرصة: بفتح المهملتين وسكون الراء بينهما هي البقعة الواسعة بغير بناء من دار وغيرها.

(1)

"المتواري"(ص 181).

(2)

"فتح الباري"(6/ 180).

(3)

"فتح الباري"(6/ 180).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 395).

(5)

"فتح الباري"(6/ 181).

ص: 315

قال المهلب

(1)

: حكمة الإقامة لإراحة الظهر والأنفس، ولا يخفى أن محله إذا كان في أمن من عدو طارق.

وقال ابن الجوزي

(2)

: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا.

وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد أن تقع ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله، وإظهار شعار المسلمين، وإذا كان ذلك في حكم الضيافة ناسب أن يقيم عليها ثلاثًا؛ لأن الضيافة ثلاثة، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(186 -‌

‌ باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أشار بذلك إلى الرد على قول الكوفيين: إن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، واعتلّوا بأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء، ولا يتم الاستيلاء إلا بإحرازها في دار الإسلام. وقال الجمهور: هو راجع إلى نظر الإمام واجتهاده، وتمام الاستيلاء يحصل بإحرازها بأيدي المسلمين. وكلا الحديثين ظاهر فيما ترجم له، انتهى.

وتعقب العيني

(5)

على كلام الحافظ إذ قال: هذا مردود؛ لأن الباب فيه حديثان، وليس واحد منها يدل على أن قسمة الغنيمة كانت في دار الحرب، أما حديث رافع فيدل على أنها كانت بذي الحليفة، وأما حديث أنس فيدل على أنها كانت في الجعرانة، وكل من ذي الحليفة والجعرانة من دار الإسلام، ففي الحقيقة: الحديثان حجة للكوفيين؛ لأنه لم يقسم إلا في دار الإسلام.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 226).

(2)

"كشف المشكل"(2/ 74)، (رقم 546/ 660).

(3)

"فتح الباري"(6/ 181).

(4)

"فتح الباري"(6/ 181، 182).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 397).

ص: 316

ثم قال في شرح الحديث: وممن أجاز قسمة الغنائم في دار الحرب: مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لا تقسم حتى يخرجها إلى دار الإسلام، لما ذكرنا في أول الباب على أنهم قالوا: روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب، والبيع في معنى القسمة، فكما لا يجوز البيع كذلك لا تجوز القسمة، انتهى.

(187 -‌

‌ باب إذا غنم المشركون مال المسلم. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

: قوله: "ثم وجده المسلم" بعد استيلاء المسلمين عليهم هل يأخذه؛ لأنه أحق به أو يكون من الغنيمة؟ انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وهذا مما اختلف فيه، فقال الشافعي وجماعة: لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئًا من مال المسلم، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها. وقال عطاء والليث ومالك وأحمد: إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة، واحتجوا بحديث عن ابن عباس مرفوعًا بهذا التفصيل أخرجه الدارقطني وإسناده ضعيف جدًا. وعن أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق فقال هو والثوري: صاحبه أحق به مطلقًا، انتهى.

قلت: وهذه المسألة الخلافية المذكورة في الباب مبنية على أصل كلي مختلف فيه بين الأئمة، وهي أن استيلاء الكفار على مال المسلم سبب لملكهم أم لا؟ فعند الشافعي ليس بسبب للملك مطلقًا، وعند مالك يكون سببًا مطلقًا، وعندنا سبب للملك بعد الإحراز إلى دارهم لا قبله. وعن أحمد روايتان: الأول كالشافعي، والثاني كمذهبنا الحنفية، وهو الراجح عندهم، واختلفت الحنفية في العبد الآبق، فقال الإمام: لا يملكونه، وقال صاحباه - وبه قال مالك -: يملكونه، وعن أحمد روايتان، كما بسط في "الأوجز"

(3)

.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 606).

(2)

"فتح الباري"(6/ 182).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 165 - 170).

ص: 317

(188 -‌

‌ باب من تكلم بالفارسية والرطانة)

بفتح الراء ويجوز كسرها وهي التكلم بلسان العجم.

(وقوله تعالى) بالجر عطفًا على السابق: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} ؛ أي: من آيات الله اختلاف لغاتكم أو أجناس نطقكم وأشكاله، خالف جل وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، {وَأَلْوَانِكُمْ} بياض الجلد وسواده، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] قال الحافظ

(2)

: كأنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة؛ لأنه أرسل إلى الأمم كلها على اختلاف ألسنتهم، فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته فاقتضى أن يعرف ألسنتهم ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ويحتمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نطقه بجميع الألسنة لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم، انتهى.

وأما الغرض من الترجمة فقال الحافظ: قالوا: فقه هذا الباب يظهر في تأمين المسلمين لأهل الحرب بألسنتهم، وسيأتي مزيد لذلك في أواخر الجزية في "باب إذا قالوا: صبأنا ولم يقولوا أسلمنا". وقال في موضع آخر: أشار المصنف إلى ضعف ما ورد من الأحاديث الواردة في كراهة الكلام بالفارسية كحديث: "كلام أهل النار بالفارسية"، وكحديث: "من تكلم بالفارسية زادت في خبثه ونقصت من مروءته" أخرجه الحاكم في "مستدركه" وسنده واه، وأخرج فيه أيضًا عن عمر رفعه: "من أحسن العربية

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 607، 608).

(2)

"فتح الباري"(6/ 184).

ص: 318

فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النفاق" الحديث، وسنده واه أيضًا، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: قال ابن المنير: ومقصود البخاري من إدراج هذا الباب في الجهاد أن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون لأجل رسل العجم، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقد نازع الكرماني

(3)

في كون الألفاظ الثلاثة - الواردة في أحاديث الباب، الأول: لفظ السؤر، والثاني: لفظ سَنَه سَنَه، والثالث: لفظ كِخْ كِخْ - عجمية؛ لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون "حسنة" فحذف أوله إيجازًا، والثالث من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن المنير

(4)

فقال: وجه مناسبة أنه صلى الله عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل، فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته.

قلت: وبهذا يجاب عن الباقي، ويزاد بأن تجويزه حذف أول حرف من الكلمة لا يعرف، وتشبيهه بقوله:"كفى بالسيف شا" لا يتجه؛ لأن حذف الأخير معهود في الترخيم، والله أعلم.

ثم إنه قد ورد تكلمه صلى الله عليه وسلم باللغة الفارسية سوى ما ورد عند البخاري في أحاديث هذا الباب، فعند ابن ماجه

(5)

في حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "اشِكَمَتْ دَرْدْ". قلت: نعم. . . الحديث، وفي "هامش ابن ماجه" قال الفيروزآبادي في "باب تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية" ومثَّل:"العنب دو دو والتمر يك، ويا سلمان شكمت درد" ما صح شيء، انتهى. وكذا ذكر بعض الألفاظ الفارسية في "بستان العارفين" لأبي الليث السمرقندي، وفي "المقاصد الحسنة"

(6)

حديث: "العنب دو دو والتمر يك" مشهور بين الأعاجم ولا أصل له، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(6/ 610).

(2)

"فتح الباري"(6/ 185).

(3)

شرح الكرماني" (13/ 63).

(4)

"المتواري"(ص 182).

(5)

(رقم 3458).

(6)

"المقاصد الحسنة"(1/ 467).

ص: 319

(189 -‌

‌ باب الغلول، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:

161])

الغلول بضم المعجمة واللام؛ أي: الخيانة في المغنم. قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه؛ أي: يخفيه فيه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: الغلول مطلق الخيانة، أو في الفيء خاصة، قال في "المشارق": كل خيانة غلول، لكنه صار في عرف الشرع: الخيانة في المغنم، وزاد في "النهاية": قيل: القسمة، فإن كان الغلول مطلق الخيانة فهو أعم من السرقة، وإن كان من المغنم خاصة، فبينه وبينها عموم وخصوص من وجه، ونقل النووي

(3)

الإجماع على أنه من الكبائر. انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن على الغال أن يعيد ما غلّ قبل القسمة، وأما بعدها فقال الثوري والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى بذلك ويقول: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. انتهى.

قال الشيخ في "البذل"

(5)

: وأما قول الحنفية في ذلك فما قال في "السير الكبير": ولو أن رجلًا غلّ شيئًا من الغنائم، ثم ندم، فأتى به الإمام بعد القسمة وتفرق الجيش، فللإمام في ذلك رأي: إن شاء كذبه فيما قال، وإن شاء أخذ ذلك منه، وجعل خمسه لمن سمى الله تعالى. . .، إلى آخر ما بسط.

(1)

"فتح الباري"(6/ 185).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 611).

(3)

"المنهاج"(12/ 216).

(4)

"فتح الباري"(6/ 186).

(5)

"بذل المجهود"(9/ 382).

ص: 320

وفي هامشي على "البذل"

(1)

عن الموفق

(2)

: إذا تاب قبل القسمة ردّ ما أخذه في القسمة بلا خلاف، وإن تاب بعده فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الإمام، ويتصدق بما بقي، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا أعرف للصدقة وجهًا، انتهى مختصرًا.

(190 -‌

‌ باب القليل من الغلول. . .) إلخ

أي: هل يلتحق بالكثير في الحكم أم لا؟ وقوله: "وهذا أصح" أشار إلى تضعيف ما روي عن عبد الله بن عمرو في الأمر بحرق رحل الغال، أخرجه أبو داود

(3)

، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(191 -‌

‌ باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم)

قال الحافظ: موضع الترجمة من الحديث أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور؛ فإنه مشعر بكراهة ما صنعوا من الذبح بغير إذن.

وقال المهلب

(5)

: إنما أكفأ القدور ليعلم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها، وذلك أن القصة وقعت في دار الإسلام لقوله فيها "بذي الحليفة".

وأجاب ابن المنير

(6)

بأنه قد قيل: إن الذبح إذا كان على طريق التعدي كان المذبوح ميتة. وكأن البخاري انتصر لهذا المذهب، أو حمل الإكفاء على العقوبة بالمال، وإن كان ذلك المال لا يختص بأولئك الذين ذبحوا، لكن لما تعلق به طمعهم، كانت النكاية حاصلة لهم.

وقال القرطبي

(7)

: المأمور بإكفائه إنما هو المرق، وأما نفس اللحم

(1)

هامش "البذل"(9/ 381، 382).

(2)

"المغني"(13/ 171).

(3)

"سنن أبي داود"(ح: 2713).

(4)

"فتح الباري"(6/ 187).

(5)

انظر: "شرح ابن بطال"(5/ 236).

(6)

"المتواري"(ص 182).

(7)

"المفهم"(5/ 375).

ص: 321

فلم يتلف، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغانم؛ لأن النهي عن إضاعة المال تقدم. . .، إلى آخر ما في "الفتح"

(1)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

"باب ما يكره من ذبح الإبل. . ." إلخ، يعني به قبل القسمة، انتهى. وفي هامشه: اعلم أن المسلمين يجوز لهم الأكل من المغانم في دار الحرب قبل القسمة سواء كان مهيَّأ للأكل كالطعام والفواكه وغيرها أو غير مهيَّئ للأكل كالدواب، كما بسط في "الأوجز"

(3)

، وفيه بعد ذكر أقاويل العلماء في ذلك: أن الحيوانات يجوز ذبحها وأكلها، إلا ما حكى الحافظ عن الشافعي من التقييد بالحاجة، وما مال إليه الخرقي من المنع بدون الاضطرار، وفي "المغني"

(4)

: ظاهر كلام أحمد إباحته، ويشكل عليهم حديث البخاري هذا، واختلفوا في توجيهه، وظاهر ميل البخاري إلى الكراهة مطلقًا، وترجم عليه أبو داود في "سننه":"باب في النهي عن النهي إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو". وفي "الأوجز"

(5)

اختلفت شراح الحديث في توجيه هذه القصة فقيل: كانت في دار الإسلام، وقيل: كان في الطعام قلة، وقيل: كان الذبح على طريق التعدي. انتهى.

وأما مسألة الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب فسيأتي بعد عدة أبواب من "باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب".

(192 -‌

‌ باب البشارة في الفتوح)

قال القسطلاني

(6)

: أي: مشروعيته، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 188).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 289).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 151 - 155).

(4)

"المغني"(13/ 126).

(5)

"أوجز المسالك"(9/ 156).

(6)

"إرشاد الساري"(6/ 615).

ص: 322

(193 -‌

‌ باب ما يعطى البشير. . .) إلخ

يشير إلى حديثه الطويل في قصة تخلُّفه في غزوة تبوك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وسيأتي أن البشير هو سلمة بن الأكوع، قاله الحافظ

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

كذا في "فتح الباري"، وتبعه العيني

(3)

أن البشير سلمة بن الأكوع. وفي المقدمة: في "المغازي" إن الذي بشر كعبًا بتوبة وسعى إليه حمزة بن عمرو الأسلمي، وكذا هو في "المصابيح" لا ابن الأكوع. انتهى.

(194 -‌

‌ باب لا هجرة بعد الفتح)

أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة، والثاني: قادر، لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من عذرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم، الثالث: عاجز بعذر - مِن أسرٍ أو مرضٍ أو غيره - فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر، انتهى من "الفتح"

(4)

.

قال القسطلاني

(5)

في شرح قوله: "ولكن جهاد ونية"؛ أي: الهجرة بسبب الجهاد في سبيل الله والهجرة بسبب النية الخالصة لله عز وجل كطلب العلم والفرار من الفتن - باقيان مدى الدهر. انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 189).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 617).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 409).

(4)

"فتح الباري"(6/ 190).

(5)

"إرشاد الساري"(6/ 617).

ص: 323

(195 -‌

‌ باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

رحمه الله: مناسبة الحديث بالترجمة ظاهرة في رؤية الشعر من قوله في الرواية الأخرى: "فأخرجت من عقاصها" وهي ذوائبها المضفورة. وفي التجريد من قول علي: "لأجردنك". قال ابن المنير

(2)

: ليس في الحديث بيان هل كانت المرأة مسلمة أو ذمية، لكن لما استوى حكمهما في تحريم النظر لغير حاجة شملهما الدليل. وقال ابن التين: إن كانت مشركة لم توافق الترجمة، وأجيب بأنها كانت ذات عهد فحكمها حكم أهل الذمة، انتهى.

(196 -‌

‌ باب استقبال الغزاة)

أي: عند رجوعهم.

قوله: (قال: نعم فحملنا وتركك) قال الحافظ: ظاهره أن القائل: "فحملنا" هو عبد الله بن جعفر، وأن المتروك هو ابن الزبير. وأخرجه مسلم من طريق أبي أسامة وابن علية كلاهما عن حبيب بن الشهيد بهذا الإسناد مقلوبًا ولفظه:"قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير"، جعل المستفهم عبد الله بن جعفر، والقائل:"فحملنا" عبد الله بن الزبير، والذي في "البخاري" أصح. وقد نبه عياض على أن الذمي وقع في "البخاري" هو الصواب، قال: وتأويل رواية مسلم: أن يجعل الضمير في "حملنا" لابن جعفر فيكون المتروك ابن الزبير. . .، إلى آخر ما في "الفتح"

(3)

.

(197 -‌

‌ باب ما يقول إذا رجع من الغزو)

قال الحافظ

(4)

: قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من عسفان". قال الدمياطي: هذا وهم لأن غزوة عسفان إلى بني لحيان كانت سنة ست،

(1)

"فتح الباري"(6/ 191).

(2)

"المتواري"(ص 183).

(3)

"فتح الباري"(6/ 192).

(4)

"فتح الباري"(6/ 193).

ص: 324

وإرداف صفية رضي الله عنها كان في غزوة خيبر سنة سبع، وجوز بعضهم أن يكون في طريق خيبر مكان يقال له عسفان وهو مردود، والذي يظهر أن الراوي أضاف المقفل إلى عسفان؛ لأن غزوة خيبر كانت عقبها، وكأنه لم يعتد بالإقامة المتخللة بين الغزوتين لتقاربهما، انتهى.

(198 -‌

‌ باب الصلاة إذا قدم من سفر)

قال العلامة العيني

(1)

في حديث جابر: هذا الحديث قد مر في "كتاب الصلاة" في: "باب الصلاة إذا قدم من سفر". انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: أخرجه المؤلف في نحو عشرين موضعًا مطولًا ومختصرًا، انتهى.

وفي الحديث: أن الصلاة عند القدوم من السفر سُنّة وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة والتبرك بالصلاة أو ما يبدأ في الحضر، ونعم المفتاح إلى كل خير، وفيها يناجي العبد ربه، وذلك هدي رسوله وسُنَّته، ولنا فيه الأسوة، قاله العيني

(3)

.

(199 -‌

‌ باب الطعام عند القدوم. . .) إلخ

أي: بيان مشروعية اتخاذ الطعام. . . إلخ، قاله العيني

(4)

.

وهذا الطعام يقال له: النقيعة بالنون والقاف، قيل: اشتق فمن النقع وهو الغبار؛ لأن المسافر يأتي وعليه غبار السفر، وقيل: النقيعة من اللبن إذا برد، وقيل غير ذلك.

قوله: (وكان ابن عمر يفطر. . .) إلخ، والأصل فيه: أن ابن عمر كان لا يصوم في السفر لا فرضًا ولا تطوعًا، وكان يكثر من صوم التطوع في الحضر، وكان إذا سافر أفطر وإذا قدم صام إما قضاء إن كان سافر في

(1)

"عمدة القاري"(10/ 416).

(2)

"إرشاد الساري"(6/ 625).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 417).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 417).

ص: 325

رمضان وإما تطوعًا إن كان في غيره، لكنه يفطر أول قدومه لأجل الذين يغشونه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم ثم يصوم.

قال ابن بطال

(1)

: فيه إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، انتهى من "الفتح"

(2)

.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "قدمت من سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صل ركعتين". ولا يذهب عليك أن "كتاب الجهاد" عندي ينتهي إلى بدء الخلق، فلا حاجة عندي إلى البراعة، أما عند الحافظ قدّس سره فقد تم "كتاب الجهاد" عنده إلى ههنا، وعلى هذا يكفي عند هذا العبد الضعيف للبراعة لفظ "محارب ودثار" الواقعتين في سند آخر حديث الباب، وتقدم توضيحه في "مقدمة اللامع"، وقد أقرّ الحافظ

(3)

بما اخترته في آخر "الجهاد" حيث قال: أحاديث فرض الخمس والجزية هي في التحقيق من بقايا الجهاد، وإنما أفردها زيادة في الإيضاح، كما أفردت العمرة وجزاء الصيد من "كتاب الحج"، انتهى.

* * *

(1)

(5/ 243).

(2)

"فتح الباري"(6/ 194).

(3)

"فتح الباري"(6/ 285).

ص: 326

57 -

‌ كتاب فرض الخمس

قال الحافظ رحمه الله

(1)

: كذا وقع عند الإسماعيلي، وللأكثر "باب"، وحذفه بعضهم، وثبتت البسملة للأكثر، و"الخُمُس" بضم المعجمة والميم ما يؤخذ من الغنيمة، والمراد بقوله:"فرض الخمس" أي: وقت فرضه أو كيفية فرضه أو ثبوت فرضه، والجمهور على أن ابتداء فرض الخمس كان بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 41]، وكانت الغنائم تقسم على خمسة أقسام: فيعزل خمس منها يصرف في من ذكر في الآية، وسيأتي البحث في مستحقيه بعد أبواب، وكان خُمُس هذا الخُمُس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيمن يستحقه بعده صلى الله عليه وسلم، فمذهب الشافعي أنه يصرف في المصالح، وعنه يرد على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية، وهو قول الحنفية مع اختلافهم فيهم كما سيأتي، وقيل: يختص به الخليفة، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة على الغانمين إلا السلب؛ فإنه للقاتل على الراجح كما سيأتي.

وذكر المصنف في الباب حديث علي في قصة الشارفين، قال ابن بطال

(2)

: ظاهره أن الخمس شرع يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر، وقد ذكر إسماعيل القاضي في غزوة بني قريظة قال: قيل: إنه أول يوم فرض فيه الخمس، قال: وقيل: نزل بعد ذلك، قال: ولم يأت ما فيه بيان شاف، وإنما جاء صريحًا في غنائم حنين، قال ابن بطال: وإذا كان كذلك فيحتاج هذا الحديث إلى تأويل.

قال الحافظ: ولم أقف على ما نقله عن أهل السير صريحًا في أنه لم

(1)

"فتح الباري"(6/ 198).

(2)

"شرح ابن بطال"(5/ 248).

ص: 327

يكن في غنائم بدر خمس، وقد جزم الداودي الشارح بأن آية الخمس نزلت يوم بدر، قال السبكي: نزلت الأنفال في بدر وغنائمها، انتهى ملخصًا من "الفتح".

ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث، ووقع في حديث عائشة ثاني حديثي الباب قوله:"فغضبت فاطمة. . ." إلخ.

وكتب عليه الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: وهذا ظن من الراوي حيث استنبط من عدم تكلمها إياه أنها غضبت عليه مع أنها كانت نادمة فيما بدرت إليها وكان عدم التكلم لأجل الندامة، أو المنفي التكلم في هذا الباب، أو المعنى غضبت على نفسها حيث ذهبت إلى الخليفة تطلب شيئًا من الدنيا مع أنه رضي الله تعالى عنه كان بارًا راشدًا غير ظلوم، ولو سلم أنها غضبت عليه لذلك ولم تتكلمه مطلقًا فإن الأمر والجناية عائد إليها لا إليه حيث غضبت على أبي بكر لأنه عمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وتركته لأجل الدنيا مع أن هجران المسلم لا لوجه شرعي قد ورد فيه ما ورد، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام عليه، وفيه عن الحافظ: روى البيهقي من طريق الشعبي أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي رضي الله تعالى عنه: هذا أبو بكر يستأذن عليك، قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت. وهو وإن كان مرسلًا فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع" من التوجيهات.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن ما يتوهم أن سخطها كان لعدم حصول مال الإرث بعيد من شأنها ومن ما هو المعروف من حالها من زهدها ومعالجة الفقر مدة عمرها وإيثارها الفقراء والمساكين على حاجتها وغير ذلك من أحوالها المعروفة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، بل كان ذلك كله

(1)

"لامع الدراري"(7/ 290 - 291).

ص: 328

عند هذا العبد الضعيف من التصلب في الدين وطلب الحق الواجب شرعًا، ومعلوم من أحوال الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا في أمر الدين أشداء على الناس لا يخافون في ذلك لومة لائم ولا مخالفة الأمراء، وكانت بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله تعالى عنها ظنت أن حديث الإرث ليس بعام وذلك حق لها شرعي بخلاف ما فهمه الصديق رضي الله عنه. . .، إلى آخر ما في هامش "اللامع"

(1)

.

(2 -‌

‌ باب أداء الخمس من الدين)

أورد فيه حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس، وترجم عليه في "كتاب الإيمان":"أداء الخمس من الإيمان" وهو على قاعدته في ترادف الإيمان والإسلام والدين، انتهى [من "الفتح"

(2)

].

قلت: ولا يتوهم التكرار؛ لأن المقصود هناك بيان أمور الإيمان، والغرض ههنا بيان أداء الخمس اهتمامًا له.

(3 -‌

‌ باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته)

قال القسطلاني

(3)

: قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي فهو صدقة" لأني لا أورث ولا أخلف مالًا. ونص على نفقة نسائه لكونهن محبوسات عن الأزواج بسببه أو لعظم حقوقهن في بيت المال لفضلهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين، ولذلك اختصصن بمساكنهن ولم يرثها ورثتهن، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: أما نفقتهن فإن شئت قلت: إن الأنبياء إذا كانوا أحياءً في قبورهم فنفقة أزواجهم تكون في مال الله لا محالة، وإن شئت قلت: إنهن إذا اخترن الله ورسوله عادت نفقتهن إلى ماله تعالى، انتهى.

(1)

"اللامع"(7/ 290 - 293).

(2)

"فتح الباري"(6/ 209).

(3)

"إرشاد الساري"(7/ 17).

(4)

"فيض الباري"(4/ 258).

ص: 329

وقال الحافظ

(1)

في حديث عائشة ثاني حديثي الباب: قال ابن المنيِّر

(2)

: وجه دخول هذا الحديث في الترجمة أنها لو لم تستحق النفقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ الشعير منها، انتهى.

وأوضح منه عبارة القسطلاني

(3)

إذ قال: مطابقة الحديث للترجمة في قولها: "فأكلت منه. . ." إلخ، فإنها لم تذكر أنها أخذته في نصيبها بالميراث إذ لو لم تستحق النفقة لأخذ الشعير منها لبيت المال، انتهى.

وقال العيني

(4)

في آخر حديث الباب: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "وأرضًا تركها صدقة" وذلك لأن نفقة نسائه صلى الله عليه وسلم بعد موته كانت مما خصه الله به من الفيء، ومنه فدك وسهمه من خيبر، انتهى.

(4 -‌

‌ باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

كتب في "اللامع"

(5)

: يعني بذلك: أن إضافتها إليهن تمليكية، وإليه صلى الله عليه وسلم لأدنى ملابسة، فكان قد ملكهن إياها قبل الموت، فلا يعترض على قوله:"لا نورث ما تركناه صدقة"، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(6)

: قال ابن المنيِّر

(7)

: غرضه بهذه الترجمة أن يبين أن هذه النسبة تحقق دوام استحقاقهن للبيوت ما بقين؛ لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والسر فيه حبسهن عليه.

قال الطبري: قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ملَّك كلًّا من أزواجه البيت الذي هي فيه، فسكنَّ بعده فيهن بذلك التمليك، وقيل: إنما لم ينازعهن في مساكنهن؛ لأن ذلك من جملة مؤنتهن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم استثناها لهن مما كان بيده أيام حياته حيث قال: "ما تركت بعد نفقة نسائي" قال: وهذا

(1)

"فتح الباري"(6/ 209).

(2)

"المتواري"(ص 185).

(3)

"إرشاد الساري"(7/ 18).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 433).

(5)

"لامع الدراري"(7/ 294).

(6)

"فتح الباري"(6/ 211).

(7)

"المتواري"(ص 186، 187).

ص: 330

أرجح، ويؤيده أن ورثتهن لم يرثن عنهن منازلهن، ولو كانت البيوت ملكًا لهن لانتقلت إلى ورثتهن، ولهذا زيدت بيوتهن في المسجد النبوي بعد موتهن لعموم نفعه للمسلمين كما فعل فيما كان يصرفه لهن من النفقات، وادعى المهلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حبس عليهن بيوتهن، ثم استدل به على أن من حبس دارًا جاز له أن يسكن منها في موضع، وتعقبه ابن المنيِّر بمنع أصل الدعوى، ثم على التنزل لا يوافق ذلك مذهبه إلا إن صرَّح بالاستثناء، ومن أين له ذلك؟! انتهى مختصرًا.

قلت: ذكر الإمام البخاري في الترجمة آيتين، في إحداهما: نسبة البيوت إلى الأزواج، وفي الأخرى: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله أشار بذلك إلى الاختلاف في ذلك، وقول البخاري في الترجمة:"وما نسب إليهن" لعله إشارة إلى ترجيح ملكهن، وعليه بنى الشيخ قُدِّس سرُّه تقريره، والمسألة خلافية، كما في هامش "اللامع"

(1)

عن "حاشية الجمل".

(5 -‌

‌ باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك: أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وقت موته كان حقًا مشتركًا بين المسلمين أجمعين لكونه صدقة إلا أن يكون ملَّكه أحدًا من أصحابه قبل موته، وإذا ثبت فيه اشتراك الكل فيد الصحابي الذي هو عنده يد تولية وحفظ، لا يد استبداد بالتصرف وتملك، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: الغرض من هذه الترجمة تثبيت أنه صلى الله عليه وسلم لم يورث ولا بيع موجوده، بل ترك بيد من صار إليه للتبرك، ولو كانت ميراثًا لبيعت وقسمت، ولهذا قال بعد ذلك:"مما لم تذكر قسمته" وقوله: "مما تبرك أصحابه" أي: به، وحذفه للعلم به، كذا للأصيلي، ولأبي ذر عن شيخيه "شرك" بالشين من الشركة وهو ظاهر، وأما قول المهلب: إنه إنما ترجم

(1)

"اللامع"(7/ 294، 295).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 296 - 297).

(3)

"فتح الباري"(6/ 213).

ص: 331

بذلك ليتأسى به ولاة الأمور في اتخاذ هذه الآلات، ففيه نظر، وما تقدم أولى، وهو الأليق لدخوله في أبواب الخمس، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

: قوله: "باب ما ذكر. . ." إلخ، يقول: إن بعض الأشياء قد بقيت بعده صلى الله عليه وسلم بطريق التبرك، ولم تجر فيه القسمة، انتهى.

قال العيني

(2)

: الترجمة مشتملة على تسعة أجزاء، وفي الباب ستة أحاديث، الأول: في ذكر الخاتم، والثاني: في النعل، والثالث: في الكساء الملبد، والرابع: في القدح، والخامس: في الصيف، والسادس: في الصدقة التي كان ذكرها في الصحيفة، ولم يذكر فيه ما يطابق درعه وعصاه وشعره وآنيته، انتهى مختصرًا. ثم ذكر العيني وكذا الحافظ الروايات الدالة على تلك البقية، كما ذكر في هامش "اللامع"

(3)

.

(6 -‌

‌ باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

أي: خمس الغنيمة، والنوائب جمع نائبة وهو ما ينوب الإنسان من الأمر الحادث، قوله:"وإيثار النبي" أي: ولأجل إيثاره، وقوله:"حين سألته" ظرف للإيثار، انتهى من "الفتح"

(4)

و"العيني"

(5)

.

وقال السندي

(6)

: الظاهر أن "الدليل" مبتدأ، خبره قوله:"حين سألته" بتقدير ما فعله حين سألته فإنه حين ذلك ما أعطاها، بل وكلها إلى الله تعالى، فهذا دليل على أن الخمس له أن يصرفه في أيّ مصرف من مصارف الخمس، ولا يلزم إعطاء المصارف الخمس كلها بل له أن يعطي بعضها، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(4/ 261).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 437).

(3)

"اللامع"(7/ 296 - 297).

(4)

"فتح الباري"(6/ 216).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 443).

(6)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(2/ 190).

ص: 332

وقال صاحب "الفيض"

(1)

: واعلم أن أربعة أخماس من الغنيمة للغانمين بالاتفاق، بقي الخمس، فقد تكفل القرآن ببيان مستحقيه، وذكرها في ستة، فخرجها الحنفية على أن ذكر اسم الله تعالى لمجرد التبرك، بقي رسوله، فسقط سهمه بعد وفاته، وأما ذو قرابته فإنما يعطون من أجل الفقر، وكونهم من أقربائه صلى الله عليه وسلم ليس بمعتبر في باب الإعطاء، فيقدمون فقراء ذوي القرابة على غيرهم، وإِذن لم يبق من الستة إلا ثلاثة، وذهب مالك إلى أنهم ليسوا بمستحقين، ولكنهم مصارف، فيصرفه الإمام من ولايته كيف شاء، وكم شاء.

أما الفيء فلم يذهب أحد إلى إيجاب الخمس فيه إلا الشافعي، ولا خمس فيه عند الجمهور، فإنه مال حصل بدون إيجاف خيل ولا ركاب، فيستبد بصرفه الإمام، ولا يخرج منه الخمس، ومذهب الشافعي مرجوح في ذلك، ولعل المصنف رجح مذهب مالك، واختار أن قسمة الخمس إلى الإمام يقسمه كيف شاء، وترجم لذلك أربعة تراجم:

الأولى: هذه الترجمة، وأخرج تحتها حديث شكاية فاطمة، وما كانت تجد من الطحن والرحى، واستدل منه على أن ذوي القرابة لو كانوا مستحقين لأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا من الخمس البتة.

والثانية: باب قول الله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] إلخ، ثم فسَّره بقوله يعني: للرسول قسم ذلك، فجعل القسمة إليه يقسمه كيف يشاء.

والثالثة: ما سيأتي بعد سبعة أبواب "باب من قال: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين. . ." إلخ، حيث جعله في النوائب، ولم يخصه بصنف دون صنف، واستدل عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الأنصار وجابرًا من تمر خيبر، مع أنهما لم يكونا من ذوي القرابة.

(1)

"فيض الباري"(4/ 262، 263).

ص: 333

والرابعة: ما سيأتي بعد تسعة أبواب "باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام. . ." إلخ، فهذه تراجم كلها - كما ترى - قريبة المعاني، ومرماها واحد، وهو الموافقة بمذهب مالك، انتهى.

وقال صاحب "الجمل"

(1)

في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية: أضيف الخمس لهؤلاء الستة وظاهرها أنه يقسم ستة أقسام، وبه قال أبو العالية فقال: إن الذي لله يصرف إلى الكعبة، ثم يقسم ما بقي على خمسة أقسام، وقيل: سهم الله لبيت المال، وقيل: مضموم إلى سهم الرسول، والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم، وقال أيضًا: وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصرف خمس الخمس الذي كان له صلى الله عليه وسلم إلى مصالح المسلمين، وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك: الرأي فيه إلى الإمام، وقال أبو حنيفة: سقط سهمه وسهم ذوي القربى لوفاته صلى الله عليه وسلم، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية، انتهى.

قلت: ومذهب أحمد كمذهب الشافعي كما في "المغني"، وهو كما قال الرازي في تفسيره

(2)

: أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فعند الشافعي أنه يقسم على خمسة أسهم، سهم للرسول يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كعدة الغزاة، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

تحت الترجمة: ودلالة الرواية عليه من حيث إن فاطمة رضي الله تعالى عنها سألته منه فعلم أنه كان لنوائبه، وحاجة فاطمة رضي الله تعالى عنها إنما هي حاجته صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: قال إسماعيل القاضي: هذا الحديث يدل على أن

(1)

"الفتوحات الإلهية"(2/ 245).

(2)

"التفسير الكبير"(15/ 132).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 301).

(4)

"فتح الباري"(6/ 216).

ص: 334

للإمام أن يقسم الخمس حيث يرى؛ لأن الأربعة الأخماس استحقاق للغانمين، والذي يختص بالإمام هو الخمس، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأعز الناس عليه من أقربائه وصرفه إلى غيرهم، انتهى.

وتعقب عليه الحافظ نصرة لمذهب الشافعي، وقد تقدم أن ميل الإمام البخاري في هذه المسألة إلى مسلك الإمام مالك، وقال الحافظ أيضًا: ليس في الحديث ذكر أهل الصفة ولا الأرامل، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وهو ما أخرجه أحمد

(1)

عن علي في هذه القصة مطولًا وفيه: "والله لا أعطيكم وأح أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع" الحديث، انتهى.

(7 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . .} ) إلخ

هذه هي الترجمة الثانية المشار إليها في الباب السابق، وتقدم شيء من الكلام عليه هناك.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك: أن إضافة الخمس إليه تبارك وتعالى تبرك، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه يقسمه وإنما هو لنوائب المسلمين، وأما ما ذكره أولًا فلأن نوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي نوائب المسلمين، واستدل على مدعاه من حيث إنه صلى الله عليه وسلم سمى نفسه قاسمًا والله المعطي، فعلم أنه لم يكن يملك شيئًا، والله أعلم، انتهى.

وفي هامشه: اعلم أن ههنا مسألتين: إحداهما: أن خمس الرسول هل هو ملك له صلى الله عليه وسلم أو مفوض إليه صلى الله عليه وسلم قسمته؟.

والثانية: ماذا يفعل بهذا الخمس الذي لرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؟ وتقدم الكلام على هذه المسألة الثانية في الباب السابق مبسوطًا، وأما المسألة

(1)

"مسند أحمد"(1/ 106)، وانظر أيضًا "تغليق التعليق"(3/ 470).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 302 - 303).

ص: 335

الأولى وهي مقصود البخاري، فقال الحافظ

(1)

: قوله: "للرسول قسم ذلك"، هذا اختيار منه لأحد الأقوال في تفسير هذه الآية، والأكثر على أن اللام في قوله:"للرسول" للملك، وأن للرسول خمس الخمس من الغنيمة سواء حضر القتال أو لم يحضر، وهل كان يملكه أو لا؟ وجهان للشافعية، ومال البخاري إلى الثاني، انتهى.

وقال الكرماني

(2)

: قوله يعني: للرسول قسمته لا أن سهمًا منه له، قال شارح التراجم: مقصود البخاري ترجيح قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملك خمس الخمس، وإنما كان عليه قسمته، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم الغنائم". . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا للجميع، ووقع عند ابن التِّين "أحلت لي" وهو أشبه؛ لأنه ذكر بهذا اللفظ في هذا الباب، وهذا الثاني طرف من حديث جابر الماضي في التيمم

(4)

، وقد تقدم بيان ما كان من قبلنا يصنع في الغنيمة، انتهى.

(9 -‌

‌ باب الغنيمة لمن شهد الوقعة)

هذا لفظ أثر أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب: "أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمار أن الغنيمة لمن شهد الوقعة"، ذكره في قصة، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وقال العيني

(6)

: وعليه جماعة الفقهاء، فإن قلت: قسم النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب ولمن قدم في سفينة أبي موسى من غنائم خيبر لمن لم يشهدها؟

(1)

"فتح الباري"(6/ 217، 218).

(2)

"شرح الكرماني"(13/ 91).

(3)

"فتح الباري"(6/ 220).

(4)

"صحيح البخاري"(ح: 335).

(5)

"فتح الباري"(6/ 224).

(6)

"عمدة القاري"(10/ 455).

ص: 336

قلت: إنما فعل ذلك لشدة احتياجهم في بدء الإسلام فإنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشي لحاجتهم، فضاقت بذلك أحوال الأنصار، وكان المهاجرون في ذلك في شغل، فلما فتح الله خيبر عوض الشارع المهاجرين ورد إلى الأنصار منائحهم، وقال الطحاوي رحمه الله: إنه صلى الله عليه وسلم استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد روي ذلك عن أبي هريرة، كما يجيء عن قريب، انتهى.

قلت: وترجم الإمام أبو داود: "من جاء بعد الغنيمة فلا سهم له"، قال الشيخ في "البذل"

(1)

: قال في "الهداية"

(2)

: وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها خلافًا للشافعي رحمه الله بعد انقضاء القتال، انتهى.

وفي "الموطأ": قال مالك: أرى أن لا يقسم إلا لمن شهد القتال من الأحرار.

وبسط في "الأوجز" الكلام في صفات استحقاق السهم وشرائطه، وفيه عن الباجي

(3)

: قوله: "إلا لمن شهد القتال" هذا كما قال، فمن جاء بعد القتال وإحراز الغنيمة لم يسهم له، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: من جاء بعد تقضِّي القتال وإحراز الغنيمة وقبل الخروج من دار الحرب فله سهمه، ومن جاء بعد الخروج من دار الحرب فلا سهم له، انتهى من "الأوجز"

(4)

.

وذكر العلَّامة العيني

(5)

اختلاف العلماء في حكم الأرض المفتوحة وهي خلافية شهيرة.

(1)

"بذل المجهود"(9/ 415).

(2)

"الهداية"(2/ 385).

(3)

"المنتقى"(3/ 178).

(4)

أوجز المسالك" (9/ 135 - 144).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 456).

ص: 337

(10 -‌

‌ باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره؟. . .) إلخ

قال ابن المنيِّر: أراد البخاري أن قصد الغنيمة لا يكون منافيًا للأجر ولا منقصًا إذا قصد معه إعلاء كلمة الله؛ لأن السبب لا يستلزم الحصر، ولهذا يثبت الحكم الواحد بأسباب متعددة، ولو كان قصد الغنيمة ينافي قصد الإعلاء لما جاء الجواب عامًا ولقال مثلًا: من قاتل للمغنم فليس هو في سبيل الله.

قال الحافظ: وما ادعى أنه مراد البخاري فيه بعد، والذي يظهر أن النقص من الأجر أمر نسبي كما تقدم تحرير ذلك في أوائل الجهاد، فليس من قصد إعلاء كلمة الله محضًا في الأجر مثل من ضم إلى هذا القصد قصدًا آخر من غنيمة أو غيرها، وقال ابن المنيِّر في موضع آخر: ظاهر الحديث أن من قاتل للمغنم - يعني: خاصة - فليس في سبيل الله، وهذا لا أجر له البتة، فكيف يترجم له بنقص الأجر، وجوابه ما قدمته، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: واختار العلَّامة القسطلاني في بيان ميل المصنف ما اختاره ابن المنيِّر، أي: لا ينقص من أجره شيء، ولكن اختار هو بنفسه ما حققه الحافظ أنه نقص نسبي، كما تقدم في كلام الحافظ، وقال العلَّامة العيني تحت الباب

(2)

: أي: من قاتل لأجل حصول الغنيمة هل ينقص أجره؟ وجوابه أنه ليس له أجر فضلًا عن النقصان؛ لأن المجاهد الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي يجاهد لإعلاء كلمة الله، انتهى.

فالعلَّامة العيني حمل الترجمة على من قاتل للغنيمة خاصة، ولذا قال: لا أجر له أصلًا، وترجم الإمام أبو داود في "سننه"

(3)

: "باب في الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة"، وأخرج فيه حديث عبد الله بن حوالة

(1)

"فتح الباري"(6/ 226).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 456).

(3)

انظر: "بذل المجهود"(9/ 102).

ص: 338

الأزدي: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئًا، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا، فقال: اللَّهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها" الحديث، ويستأنس منه أن لا منافاة بين قصد الأجر وقصد الغنيمة فيجتمعان، وإن لزم منه نقص الأجر فإنه أمر آخر.

(11 -‌

‌ باب قسمة الإمام ما يقدم عليه)

أي: من جهة أهل الحرب.

قوله: (ويخبأ لمن لم يحضره) أي: في مجلس القسمة، "أو غاب عنه" أي: في غير بلد القسمة، قال ابن المنيِّر: فيه رد لما اشتهر بين الناس أن الهدية لمن حضر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب كيف قسم النبي صلى الله عليه وسلم قريظة والنضير)

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث أنس وهو مختصر سيأتي بتمامه مع بيان الكيفية المترجم بها في "المغازي"

(3)

، ومحصل القصة أن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله وكانت له خالصة، لكنه آثر بها المهاجرين وأمرهم أن يعيدوا إلى الأنصار ما كانوا واسوهم به لما قدموا عليهم المدينة ولا شيء لهم، فاستغنى الفريقان جميعًا بذلك، ثم فتحت قريظة لما نقضوا العهد فحوصروا فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقسَّمها النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه وأعطى من نصيبه في نوائبه - أي: في نفقات أهله ومن يطرأ عليه - ويجعل الباقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله كما ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أوس عن عمر في بعض طرقه مختصرًا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 226).

(2)

"فتح الباري"(6/ 227).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(ح: 4120).

ص: 339

(13 -‌

‌ باب بركة الغازي في ماله حيًّا ومَيِّتًا. . .) إلخ

" البركة" بالموحدة وصحفه بعضهم بالمثناة الفوقية، "حيًّا وميتًا" أي: في حال كونه حيًّا وميتًا، فكم من فقير أغناه الله ببركة غزوة، قاله القسطلاني

(1)

، وقال أيضًا بعد ذكر الحديث: والظاهر أن الغرض ذكر الكثرة التي نشأت عن البركة في تركة الزبير إذ خلف دينًا كثيرًا ولم يخلف إلا العقار المذكور، ومع ذلك فبورك فيه حتى تحصل منه هذا المال العظيم، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: وقصة الزبير بن العوام في دينه وما جرى لابنه في وفاته من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، والذي يدخل في المرفوع منه قول ابن الزبير:"وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا القدر هو المطابق للترجمة، وما عدا ذلك كله موقوف، انتهى.

قلت: والأوجه عندي: أن قصة الزبير وما يتعلق بها جميع ذلك بيان لما حصل ووجد في زمنه عليه الصلاة والسلام وبعده مما يتعلق بالغنيمة وغيرها، وهذا أصل مطرد من أصول التراجم، وهو الأصل الرابع عشر المتقدمة في الجزء الأول.

وفي هامش "اللامع"

(3)

: في حديث الباب إِشكالات بسطت في الشروح، وأشدها ما في آخر الحديث من قوله:"فأصاب كل امرأة ألف ألفٍ ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف"، انتهى.

وهذان لا يستقيمان أصلًا، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" في تفسير الحساب وإظهار ما وقع فيه من الغلط مع توجيه هذا الغلط.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 51).

(2)

"فتح الباري"(6/ 228).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 306 - 308).

ص: 340

(14 -‌

‌ باب إذا بعث الإمام رسولًا في حاجته. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

بعد ذكر الحديث: واحتج أبو حنيفة بهذا على أن من بعثه الإمام لحاجة يسهم له، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يسهم من الغنيمة إلا لمن حضر الوقعة، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه خاص بعثمان رضي الله عنه، انتهى.

(15 -‌

‌ باب من قال: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين)

هكذا في نسخ الهندية، وليس في نسخ الشروح لفظ:"من قال"، بل فيها:"باب ومن الدليل. . ." إلخ، وهذه ترجمة ثالثة من التراجم الأربعة المعقودة لبيان أن خمس الغنيمة موكول إلى رأي الإمام، كما تقدم في "باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ.

قال الحافظ

(2)

: هو عطف على الترجمة التي قبل ثمانية أبواب حيث قال: "الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال بعد باب:"ومن الدليل على أن الخمس للإمام"، والجمع بين هذه التراجم أن الخمس لنوائب المسلمين وإلى النبي صلى الله عليه وسلم مع تولي قسمته أن يأخذ منه ما يحتاج إليه بقدر كفايته، والحكم بعده كذلك يتولى الإمام ما كان يتولاه.

وجوَّز الكرماني

(3)

أن تكون كل ترجمة على وفق مذهب من المذاهب، وفيه بعد؛ لأن أحدًا لم يقل: إن الخمس للمسلمين دون النبي صلى الله عليه وسلم ودون الإمام، ولا للنبي صلى الله عليه وسلم دون المسلمين، فالتوجيه الأول هو اللائق، وحاصل مذاهب العلماء أكثر من ثلاثة، ثم بسطها الحافظ سبع مذاهب من مذاهب السلف، وتقدم مذاهب الأئمة في أول ترجمة من هذه التراجم.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 51).

(2)

"فتح الباري"(6/ 238).

(3)

"شرح الكرماني"(13/ 104).

ص: 341

وتعقب العلَّامة العيني

(1)

على كلام الحافظ في العطف إذ قال: لا وجه لدعوى هذا العطف البعيد المتخلل بين المعطوف والمعطوف عليه أبواب بأحاديثها، وليست هذه بواو العطف، بل مثل هذا يأتي كثيرًا بدون أن يكون معطوفًا على شيء، وتسمى هذه واو الاستفتاح، وهو المسموع من الأساتذة الكبار، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "باب من قال" ما يستنبط من الترجمة فمقول القول محذوف، والجواب عنه أنه إنما تحلل عندهم نصيبهم لا الخمس الذي كان له، انتهى.

ومطابقة حديث جابر آخر حديث الباب سكت عنه الحافظ، وقال العيني

(3)

: لا يمكن توجيه المطابقة بين حديث الباب وبين الترجمة إلا بأن يقال: لما كان التصرف في الفيء والأنفال والغنائم والأخماس للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث ذكر قسمة الغنيمة، وفي الترجمة ما يدل على هذا، حصلت المطابقة من هذا الوجه، وإن كان فيه بعض التعسف، انتهى من هامش الهندية

(4)

.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى بعضهم أزيد من بعض حمله المعترض على خلاف العدل، كما عند مسلم فإنه أخرج الحديث أتم مما في "البخاري"، وكان تصرفه صلى الله عليه وسلم ذلك من الخمس، فطابق الحديث الترجمة.

(16 -‌

‌ باب ما منّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: أراد بهذه الترجمة أنه كان له صلى الله عليه وسلم أن يتصرف في الغنيمة بما يراه مصلحة فينفل من رأس الغنيمة وتارة من الخمس، واستدل على الأول بأنه كان يمن على الأسارى من رأس الغنيمة وتارة من الخمس، فدل على أنه كان له أن ينفل من رأس الغنيمة.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 470).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 208، 209).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 478).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(6/ 454).

(5)

"فتح الباري"(6/ 243).

ص: 342

وذكر فيه حديث جبير بن مطعم

(1)

: "لو كان المطعم حيًّا. . ." إلخ، قال ابن بطال

(2)

: وجه الاحتجاج به أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز، فدل على أن للإمام أن يمن على الأسارى بغير فداء خلافًا لمن منع ذلك كما تقدم، واستدل به على أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها إلا بعد القسمة، وبه قال المالكية والحنفية، وقال الشافعي: يملكون بنفس الغنيمة، والجواب عن حديث الباب أنه محمول على أنه كان يستطيب أنفس الغانمين، وليس في الحديث ما يمنع ذلك.

ثم قال الحافظ: والذي يظهر أن هذا كان باعتبار ما تقدم في أول الأمر أن الغنيمة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها حيث شاء، وفرض الخمس إنما نزل بعد قسمة غنائم بدر كما تقرر، فلا حاجة إذن في هذا الحديث لما ذكرنا، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

تحت هذا الباب: وهذه أيضًا ناظرة إلى مذهب مالك، فإنه إذا مَنَّ عليهم ولم يأخذ منهم الخمس دلَّ على كونه إلى رأي الإمام، انتهى.

(17 -‌

‌ باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام. . .) إلخ

هذه هي الترجمة الرابعة من التراجم الأربعة المشار إليها قبل قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز: لم يعمهم بذلك. . ." إلخ، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط من ذي قرابته كله، بل قسم لبني المطلب وبني هاشم فقط، ثم لم يعط منهم كلهم أيضًا، بل أعطى بعضًا دون بعض، فدل على أن ما ذكر في القرآن إنما هو مصارف له فقط، دون مستحقيه.

(1)

قال الحافظ في "التغليق"(3/ 477): ليس فيه ذكر صدور المن منه، بل فيه جوازه، وقد وقع ذلك مصرحًا في حديث رواه المصنف من حديث أبي هريرة في كتاب المغازي، باب (70)، (ح: 4372) في قصة ثمامة بن أثال.

(2)

"شرح ابن بطال"(5/ 304).

(3)

"فيض الباري"(4/ 273).

ص: 343

قوله: (ولم يخص قريبًا. . .) إلخ، وهذا نظر الحنفية أن العبرة في أهل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم للفقر دون جهة القرابة، فليست القرابة جهةً مستقلة عندنا، فوافقنا في هذا النظر، وإن كان وافق في أصل المسألة مالكًا كما مرّ، انتهى من "الفيض"

(1)

.

(18 -‌

‌ باب من لم يُخَمِّس الأسلاب. . .) إلخ

السلب بفتح المهملة واللام بعدها موحدة، هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور، وعن أحمد: لا تدخل الدابة، وعن الشافعي: يختص بأداة الحرب، انتهى من "الفتح"

(2)

.

ومسألة تخميس السلب خلافية شهيرة، فعند أحمد وهو المشهور عن الشافعي: أنه لا يخمس، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي والثوري: أنه يخمس، وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب يخمسه، وإلا لا، ومذهب مالك كما في فروعه كلها أن السلب من الخمس، وحكى عنه الحافظ في "الفتح"

(3)

التخيير للإمام في ذلك، وعند الحنفية إن قيد الإمام ذلك بقوله فله السلب بعد الخمس يخمس وإلا لا، وبه جزم في "الفتاوى الهندية" إذ قال: إن نفل الإمام السلب بعد الخمس بأن قال: من قتل قتيلًا فله السلب بعد الخمس يخمس السلب، وإن نفل السلب مطلقًا بأن قال: من قتل قتيلًا فله السلب لا يخمس، كذا في "الأوجز"

(4)

.

قوله: (ومن قتل قتيلًا فله سلبه. . .) إلخ، قال الحافظ

(5)

: هو قطعة من حديث أبي قتادة ثاني حديثي الباب، وأما قوله:"من غير أن يخمس" فهو من تفقهه، وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف في المسألة وهو شهير.

(1)

"فيض الباري"(4/ 274).

(2)

"فتح الباري"(6/ 247).

(3)

"فتح الباري"(6/ 247).

(4)

"أوجز المسالك"(9/ 203).

(5)

"فتح الباري"(6/ 247).

ص: 344

قال الحافظ: ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: من قتل قتيلًا فله سلبه، أو لم يقل ذلك، وهو ظاهر حديث أبي قتادة، وقال: إنه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن الحكم الشرعي، وعن المالكية والحنفية: لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام ذلك، وعن مالك: يخيَّر الإمام بين أن يعطي القاتل السلب أو يخمسه، انتهى.

وفي "الأوجز"

(1)

: وفيه الاختلاف المشهور بين العلماء من أنه يستحقه القاتل قاله الإمام أو لم يقل، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال الحنفية بشرط أن يقوله الإمام قبل إحراز الغنيمة وقت القتال، وروي عن أحمد مثل قولهم، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، وقال مالك: ينفّل الإمام من الخمس إن رأى المصلحة، ولا يقوله من قبل، ومع ذلك لو قاله ينفذ قوله، انتهى.

قلت: وهكذا ذكر الشرَّاح هذه المسألة ههنا، واختلف العلماء في مسائل السلب في فروع كثيرة، ذكرت منها في "الأوجز"

(2)

بعد التتبع البليغ ثمانية عشر بحثًا، ومن جملتها هاتان المسألتان المذكورتان في هذه الترجمة، ومنها اختلافهم في مصداق السلب، وقد تقدم في كلام الحافظ في أول الباب.

قوله: (من غير الخمس) وفي نسخة الشروح "من غير أن يخمس" وهذا بظاهره مكرر فإنه قال أولًا: "من لم يخمس الأسلاب" اللَّهم إلا أن يقال: إن قوله الأول: "من لم يخمس" إشارة إلى كون المسألة خلافية، وأشار بهذا القول الأخير إلى ما هو المختار عنده، ولذا قال الحافظ: هو من تفقه المصنف، فافهم.

قوله: (وحكم الإمام فيه) قال العيني

(3)

: عطف على قوله: "من لم

(1)

"أوجز المسالك"(9/ 204).

(2)

"أوجز المسالك"(9/ 184 - 206).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 484).

ص: 345

يخمس"، وقال القسطلاني

(1)

: "وحكم الإمام فيه" أي: في السلب، عطف على "من لم يخمس"، انتهى.

قلت: لم يتعرض الشرَّاح لمعناه وما هو الغرض منه، ويمكن عندي أن يقال: إن الإمام البخاري أشار به إلى مسألة خلافية من المسائل الثمانية عشر المذكورة في "الأوجز"

(2)

، وهي: الثاني عشر: ما قاله الإمام أحمد: لا يعجبني ذلك إلا بإذن الإمام، فإنه أمر مجتهد فيه، فلا ينفذ بدون إذنه، وقال الموفق

(3)

: يحتمل قوله الاستحباب خروجًا عن الخلاف، وقال الشافعي: لا حاجة إلى إذنه، انتهى.

قلت: وفي "الموطأ" تصريح عن الإمام مالك باشتراط الإذن، انتهى.

(19 -‌

‌ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم. . .) إلخ

وهم من أسلم ونيته ضعيفة، أو كان يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه.

قوله: (وغيرهم) أي: غير المؤلفة ممن تظهر له المصلحة في إعطائه، (من الخمس ونحوه) أي: من مال الخراج والجزية والفيء، قال إسماعيل القاضي: في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلفة من الخمس دلالة على أن الخمس إلى الإمام يفعل فيه ما يرى من المصلحة، وقال الطبري: استدل بهذه الأحاديث من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي من أصل الغنيمة لغير المقاتلين، قال: وهو قول مردود بدليل القرآن والآثار الثابتة، واختلف بعد ذلك من أين كان يعطي المؤلفة؟ فقال مالك وجماعة: من الخمس، وقال الشافعي وجماعة: من خمس الخمس، قيل: ليس في أحاديث الباب شيء صريح بالإعطاء من نفس الخمس.

قوله: (رواه عبد الله بن زيد. . .) إلخ، يشير إلى حديثه الطويل في قصة حنين، كما سيأتي هناك، ثم أورد في الباب تسعة أحاديث، انتهى من "الفتح"

(4)

مختصرًا.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 64).

(2)

"أوجز المسالك"(9/ 204).

(3)

"المغني"(13/ 72).

(4)

"فتح الباري"(6/ 252).

ص: 346

وفي "الفيض"

(1)

: ولعله ذكر المؤلفة قلوبهم تأييدًا لما اختاره من أن الخمس إلى الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعطاهم - مع أنهم لا ذكر لهم في القرآن - دل على أن المذكورين فيه مصارف لا غير، ولذا وسع له أن يصرفه إلى غيرهم أيضًا، فثبت أن لا مزية لمن سمي في القرآن على غيرهم، ونقول: إن هؤلاء كانوا مصارف إلى زمن، ثم نسخ، أو انتهى الحكم بانتهاء العلة، فلا حجة فيه، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(2)

في حديث أسماء المذكور في الباب: "قالت: كنت أنقل النوى من أرض الزبير" الحديث: وجه المطابقة بينه وبين قوله في الترجمة: "وغيرهم" أي: وغير المؤلفة، وفي قوله:"وغيره"، أي: وغير الخمس يؤخذ من هذا، وفيه دقة.

ثم قال في حديث ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز" الحديث، قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأنه ليس للعطاء فيه ذكر، وأجيب: بأن فيه جهات قد علم من مكان آخر أنها كانت جهات عطاء، فبهذا الطريق يدخل تحت الترجمة، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: لعل إيراد هذه الرواية، أي: رواية ابن عمر آخر أحاديث الباب ههنا لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يتركوا لهم بعد الخرص ربعًا أو ثلثًا كما تشهد به الروايات، وليس ذلك إلا إعطاء، فكان هذا الحديث مما يناسب الباب باعتبار إعطاء الغير المؤلفة إن أريد به المؤمنون، وإن كان أعم ممن آمن ولم يكمل إيمانه بعد، وممن لم يكن مؤمنًا بعد، فهو من قبيل إعطاء المؤلفة وكان ذلك إعطاء من الخمس ونحوه معًا؛ لأن ما كان يجيء إلى المسلمين كان يخمس منه أولًا ثم يقسم بين الغانمين على حسب حصصهم، فما انتقص من نصيبهم وجبايتهم بترك الربع والخمس والثلث ونحوه انتقص بحسبه من الخمس

(1)

"فيض الباري"(4/ 278).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 495 - 496).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 313 - 314).

ص: 347

أيضًا، فكان هذا الحط لهم من المسلمين إعطاء أيضًا، فافهم فإنه غريب، وكم للأستاذ مثل ذلك من عجيب، انتهى.

قلت: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في بيان المناسبة حيث أنكر الشرَّاح المطابقة، فقد قال الحافظ

(1)

رحمه الله: قال ابن المنيِّر: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا هذا الأخير، وليس فيه للعطاء ذكر، ثم ذكر ما تقدم عن العلَّامة العيني.

(20 -‌

‌ باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب)

أي: هل يجب تخميسه في الغانمين، أو يباح أكله للمقاتلين؟ وهي مسألة خلاف، والجمهور على جواز أخذ الغانمين من القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله عمومًا، وكذلك علف الدواب، سواء كان قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام وبغير إذنه، والمعنى فيه أن الطعام يعز في دار الحرب فأبيح للضرورة، والجمهور أيضًا على جواز الأخذ ولو لم تكن الضرورة ناجزة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي "البذل"

(3)

: قال القاري

(4)

: قال عياض: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربين ما دام المسلمون في دار الحرب على قدر حاجتهم، ولم يشترط أحد من العلماء استئذان الإمام إلا الزهري، وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئًا إلى عمارة دار الإسلام، فإن أخرجه لزمه ردّه إلى المغنم، ولا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب، انتهى.

وأما مسألة ركوب دوابهم واستعمال سلاحهم فأيضًا خلافية ذكره الشرَّاح، وتحقيق المذاهب فيه في "الأوجز"، ولما لم يتعرض لها المصنف في تراجمه طويناه على غرة.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "حرمها البتة" وعندي في قوله: "فانتحرناها".

(1)

"فتح الباري"(6/ 255).

(2)

"فتح الباري"(6/ 255).

(3)

"بذل المجهود"(9/ 358).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(7/ 572 - 573).

ص: 348

58 -

‌ كتاب الجزية

كذا في نسخة "العيني"، وهكذا في هامش النسخة الهندية، وفي نسخة "القسطلاني" و"الفتح":"باب" بدل "كتاب".

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، ووقع عند ابن بطال وأبي نعيم:"كتاب الجزية"، ووقع لجميعهم البسملة أوله سوى أبي ذر. قوله:"الجزية والموادعة. . ." إلخ، فيه لف ونشر مرتب؛ لأن الجزية مع أهل الذمة، والموادعة مع أهل الحرب، والجزية بكسر الجيم من جزأت الشيء إذا قسَّمته ثم سهّلت الهمزة، وقيل: من الجزاء، أي: لأنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام، أو من الإجزاء؛ لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه، والموادعة المتاركة، والمراد بها متاركة أهل الحرب مدة معينة لمصلحة.

والجزية في الاصطلاح: مال مأخوذ من أهل الذمة لإسكاننا إياهم في دارنا، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفنا عن قتالهم، قال العلماء: الحكمة في وضعها أن الذلّ الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام.

وفي "الدر المختار"

(2)

: وهي - أي: الجزية - ليست رضًا منا بكفرهم كما طعن الملحدة، بل إنما هي عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر فإذا جاز إِمهالهم للاستدعاء إلى الإيمان بدونها فبها أولى، قال ابن عابدين: ولأنها دعوة إلى الاسلام بأحسن الجهات، وهو أن يسكن بين المسلمين فيرى محاسن الإسلام، فيسلم مع دفع شره في الحال، انتهى.

واختلف في سنة مشروعيتها، فقيل: في سنة ثمان، وقيل: في سنة تسع.

(1)

"فتح الباري"(6/ 258 - 259).

(2)

"رد المحتار"(6/ 323).

ص: 349

قوله: (وقول الله عز وجل. . .) إلخ، هذه الآية هي الأصل في مشروعية الجزية، ودلّ منطوق الآية على مشروعيتها مع أهل الكتاب، ومفهومها أن غيرهم لا يشاركهم فيها، انتهى من "الفتح"

(1)

بزيادة من "القسطلاني"

(2)

.

وبسط الكلام على الجزية في "الأوجز"

(3)

، وذكر فيه أبحاثًا كثيرة عديدة في هذه المسألة، وفيه عن "البداية"

(4)

: الكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل: الأولى: ممن يجوز أخذ الجزية؟ الثانية: على أي الأصناف منهم تجب؟ الثالثة: كم تجب؟ الرابعة: متى تجب ومتى تسقط؟ الخامسة: كم أصناف الجزية؟ السادسة: فيماذا يصرف مال الجزية؟ ثم بسط فيه الكلام على هذه المسائل.

قوله: (يعني: أذلاء) قال الحافظ

(5)

: هو تفسير {وَهُمْ صَاغِرُونَ} قال أبو عبيدة في "المجاز"

(6)

: الصاغر: الذليل الحقير، قوله:"والمسكنة مصدر المسكين. . ." إلخ، هذا الكلام ثبت في كلام أبي عبيدة في "المجاز"

(7)

، والقائل "ولم يذهب إلى السكون" قيل: هو الفربري الراوي عن البخاري، أراد أن ينبّه على أن قول البخاري:"أسكن" من المسكنة لا من السكون، وإن كان أصل المادة واحدًا، ووجه ذكر المسكنة هنا أنه لمَّا فسَّر الصغار بالذلة، وجاء في وصف أهل الكتاب أنهم {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ناسب ذكر المسكنة عند ذكر الذلة.

قول: (وما جاء في أخذ الجزية. . .) إلخ، هذه بقية الترجمة، أما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب بالاتفاق، وأما المجوس فقد ذكر مستنده في الباب، وفرق الحنفية فقالوا: تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب، وحكى الطحاوي عنهم: تقبل الجزية من أهل الكتاب

(1)

"فتح الباري"(6/ 258).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 82).

(3)

"أوجز المسالك"(6/ 190 - 198).

(4)

"بداية المجتهد"(1/ 403).

(5)

"فتح الباري"(6/ 259 - 260).

(6)

"مجاز القرآن"(1/ 256).

(7)

"مجاز القرآن"(1/ 42).

ص: 350

ومن جميع كفار العجم، ولا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وعن مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتدّ، وحكى ابن عبد البر الاتفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التِّين عن عبد الملك: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى فقط، وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، ويلتحق بهم المجوس في ذلك، واحتج بالآية المذكورة، فإن مفهومها أنها لا تقبل من غير أهل الكتاب، وقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من المجوس، فدل على إلحاقهم بهم واقتصر عليه، واحتج غيره بعموم قوله في حديث بريدة وغيره:"فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية"، واحتجوا أيضًا بأن أخذها من المجوس يدل على ترك مفهوم الآية، فلما انتفى تخصيص أهل الكتاب بذلك دلَّ على أن لا مفهوم لقوله:"أهل الكتاب"، وأجيب بأن المجوس كان لهم كتاب ثم رفع، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

تحت قول البخاري: "والمجوس والعجم": وهذا قول أبي حنيفة: تؤخذ الجزية من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، وعند الشافعي وأحمد: لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب، فلا تؤخذ من عبدة الأوثان والشمس والقمر ومن في معناهم، ولا من المرتد؛ لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلى أن يسلموا بقوله:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية السابقة، وعن مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد، انتهى مختصرًا.

وذكر الحافظ الكلام على أن المجوس هم أهل كتاب أم لا؟ وبسط الكلام عليه أيضًا في "الأوجز"

(2)

فارجع إليه لو اشتقت.

وقال أيضًا: قال ابن المنيِّر: ليس في أحاديث الباب ما يوافق الموادعة - الجزء الثاني من الترجمة - إلا الحديث الأخير في تأخير

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 82 - 83).

(2)

"أوجز المسالك"(6/ 202).

ص: 351

النعمان بن مقرن القتال وانتظاره زوال الشمس، ثم تعقب عليه الحافظ كما في "الفتح"

(1)

.

قوله: (ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: فكان ثمانية وأربعين درهمًا كما هو عند الحنفية، وكان وضع الدينار على كل فقير وغني من أهل اليمن من دون تفرقة بينهما لأجل المصالحة على ذلك، انتهى.

قلت: وهي المسألة الثالثة من ست مسائل المشار إليها سابقًا. وفي هامش "اللامع": أخرج مالك في "موطئه": أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، قال الزرقاني: وإليه ذهب مالك، فلا يزاد عليه ولا ينقص إلا من يضعف عن ذلك، فيخفف عنه بقدر ما يراه الإمام، وقال الشافعي: أقلّها دينار ولا حد لأكثرها، وقال أبو حنيفة وأحمد: أقلّها على الفقراء اثنا عشر درهمًا، وعلى الأوساط أربعة وعشرون درهمًا أو ديناران، وعلى الأغنياء ثمانية وأربعون درهمًا أو أربعة دنانير، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"

(3)

من الأقول والدلائل في ذلك.

وفيه أيضًا: والأصل في ذلك أن الجزية على نوعين: جزية صلح، وجزية جبر، أما الأولى فعلى ما يتصالحون، وأما الثانية فعلى التفصيل المذكور، قيل: وإليه أشار الشيخ قُدَّس سرُّه بقوله: وكان وضع الدينار على كل فقير وغني من دون تفرقة بينهما. . . إلخ.

(2 -‌

‌ باب إذا وادع الإمام ملك القرية. . .) إلخ

أي: صالح على ترك الحرب والأذى، وقوله:"لبقيتهم" أي: لبقية أهل القرية، وقد أجمع على أن الإمام إذا صالح ملك القرية يدخل في ذلك

(1)

"فتح الباري"(6/ 259).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 315 - 317).

(3)

"أوجز المسالك"(6/ 204).

ص: 352

الصلح لبقيتهم، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وفيه أيضًا بعد ذكر الحديث: وعند ابن إسحاق: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتى يُحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له صلى الله عليه وسلم كتابًا، فهو عندهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومن محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُحنة بن رؤبة

(2)

وأهل أيلة، فبهذه الطريق تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة، كما قاله في "الفتح".

(3 -‌

‌ باب الوصاة بأهل ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

-)

الوصاة بفتح الواو والمهملة مخففًا بمعنى الوصية، قوله:"والإِلّ: القرابة" هو تفسير الضحاك في قوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10]، وقال أبو عبيدة في "المجاز"

(3)

: الإل: العهد والميثاق واليمين، وعن مجاهد: الإلّ الله، وأنكره عليه غير واحد، قاله الحافظ

(4)

.

وقال أيضًا بعد ذكر حديث الباب: في رواية عمرو بن ميمون: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم"، ويستفاد من هذه الزيادة أن لا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر ما يطيق المأخوذ منه، انتهى.

(4 -‌

‌ باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: اشتملت هذه الترجمة على ثلاثة أحكام، وأحاديث الباب ثلاثة موزعة عليها على الترتيب، فأما إقطاعه صلى الله عليه وسلم من البحرين فالحديث الأول دالٌّ على أنه صلى الله عليه وسلم همّ بذلك، وأشار على الأنصار به مرارًا،

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 89، 90).

(2)

وفي "فتح الباري"(6/ 267): بحنة بن رؤبة، بالباء الموحدة في الموضعين.

(3)

"مجاز القرآن"(1/ 253).

(4)

"فتح الباري"(6/ 267).

(5)

"فتح الباري"(6/ 268، 269).

ص: 353

فلما لم يقبلوا تركه، فنزّل المصنف ما بالقول منزلة ما بالفعل، وهو في حقه صلى الله عليه وسلم واضح؛ لأنه لا يأمر إلا بما يجوز فعله، وتقدم في "كتاب الشرب" في الكلام على هذا الحديث أن المراد بإقطاعها للأنصار تخصيصهم بما يتحصل من جزيتها وخراجها لا تمليك رقبتها؛ لأن أرض الصلح لا تقسم ولا تقطع بها، وأما ما وعد من مال البحرين والجزية - وهو الجزء الثاني من الترجمة - فحديث جابر دالٌّ عليه، وأما مصرف الفيء والجزية - وهو الجزء الثالث من الترجمة - فعطف الجزية على الفيء من عطف الخاص على العام؛ لأنها من جملة الفيء، وقد مرَّ تعريف الفيء، وحديث أنس المعلق يشعر بأنه راجع إلى نظر الإمام يفضل من شاء بما شاء، وتقدم في الخمس أن مصرف الجزية مصرف الفيء، وتقدم بيان الاختلاف في مصرف الفيء، وأن المصنف يختار أنه إلى نظر الإمام، والله أعلم، انتهى.

قلت: قال الحافظ

(1)

في "باب فرض الخمس": اختلف العلماء في مصرف الفيء؟ فقال مالك: الفيء والخمس سواء يجعلان في بيت المال ويعطي الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده، وفرق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء، فقالوا: الخمس موضوع فيما عيَّنه الله فيه من الأصناف في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدى به إلى غيرهم، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة، وانفرد الشافعي كما قال ابن المنذر وغيره بأن الفيء يخمس، وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم وله خمس الخمس كما في الغنيمة وأربعة أخماس الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة، وقال الجمهور: مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقول عمر: فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وتأول الشافعي قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(2)

: ومصرف الجزية والخراج ومال التغلبي

(1)

"فتح الباري"(6/ 208).

(2)

"رد المحتار"(6/ 348 - 351).

ص: 354

وهديتهم للإمام، وما أخذ منهم بلا حرب، ومنه تركة ذمي وما أخذه عاشر منهم، مصالحنا كسد ثغور وبناء قنطرة وجسر وكفاية العلماء والمتعلمين والقضاة والعمال ورزق المقاتلة وذراريهم، وهذا مصرف جزية وخراج، انتهى.

(5 -‌

‌ باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم)

قوله: (معاهدًا) ضبطه القسطلاني

(1)

بفتح الهاء، أي: ذميًّا، وقال الحافظ

(2)

: كذا قيَّده في الترجمة، وليس التقييد في الخبر؛ لكنه مستفاد من قواعد الشرع، ووقع منصوصًا في رواية أبي معاوية الآتي ذكرها بلفظ "بغير حق"، وفيما أخرجه النسائي وأبو داود من حديث أبي بكرة بلفظ "من قتل نفسًا معاهدة بغير حلها حرَّم الله عليه الجنة"، انتهى من "الفتح".

(6 -‌

‌ باب إخراج اليهود من جزيرة العرب)

وفي حديث ابن عباس ثاني حديثي الباب بلفظ: "أخرجوا المشركين"، وكأن المصنف اقتصر على ذكر اليهود؛ لأنهم يوحدون الله تعالى إلا القليل منهم، ومع ذلك أمر بإخراجهم، فيكون إخراج غيرهم من الكفار بطريق الأولى، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قوله: (بينما نحن في المسجد. . .) إلخ، هذا مشكل جدًا فإن إخراج بني قينقاع كان في السنة الثانية من الهجرة، وإخراج بني النضير كان في السنة الرابعة، وقتل بني قريظة في السنة الخامسة، فكيف يصحّ قول أبي هريرة:"بينما نحن في المسجد" الحديث، فإن إسلامه كان عام خيبر، وأوّله الحافظ بوجوه.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 93).

(2)

"فتح الباري"(6/ 270).

(3)

"فتح الباري"(6/ 271).

ص: 355

(7 -‌

‌ باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم

؟)

قال الحافظ

(1)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة اليهود في سم الشاة بعد فتح خيبر، ولم يجزم البخاري بالحكم إشارة إلى ما وقع من الاختلاف في معاقبة المرأة التي أهدت السم، انتهى.

(8 -‌

‌ باب دعاء الإمام على من نكث عهدًا)

ذكر فيه حديث أنس في القنوت، وقد تقدم في "كتاب الوتر".

(9 -‌

‌ باب أمان النساء وجوارهن)

الجُوار بكسر الجيم وضمها: المجاورة، والمراد هنا الإجارة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئًا ذكره ابن الماجشون، لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل.

قال الحافظ: وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام إن أجازه جاز وإن رده رُدّ، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(10 -‌

‌ باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث علي، وهو ظاهر فيما يتعلق بصدر الترجمة، وأما قوله:"يسعى بذمتهم أدناهم" فأشار به إلى ما ورد في بعض طرقه، ويأتي بهذا اللفظ بعد خمسة أبواب، ودخل في قوله:"أدناهم" أي: أقلَّهم كل وضيع بالنص، وكل شريف بالفحوى، فدخل فيه المرأة والعبد

(1)

"فتح الباري"(6/ 272).

(2)

"فتح الباري"(6/ 273).

(3)

"فتح الباري"(6/ 273، 274).

ص: 356

والصبي والمجنون، فأما المرأة فتقدم في الباب الذي قبله، وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه - قاتل أو لم يقاتل -، وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا، وقال سحنون: إذا أذن له سيده في القتال صحّ أمانه وإلا فلا، وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز.

قلت: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة، وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر، لكن قال الأوزاعي: إن غزا الذمي مع المسلمين فأَمَّنَ أحدًا فإن شاء الإمام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه، انتهى.

(11 -‌

‌ باب إذا قالوا: صَبَأْنَا، ولم يحسنوا أسلمنا. . .) إلخ

(قالوا) أي: المشركون حين يقاتلون.

قوله: (صبأنا) وأرادوا الإخبار بأنهم أسلموا.

قوله: (ولم يحسنوا أسلمنا) أي: جريًا منهم على لغتهم، هل يكون ذلك كافيًا في رفع القتال عنهم أم لا؟

قال ابن المنيِّر: مقصود الترجمة أن المقاصد تعتبر بأدلتها كيفما كانت الأدلة لفظية أو غير لفظية بأي لغة كانت.

قوله: (وقال ابن عمر. . .) إلخ، هذا طرف من حديث طويل سيأتي في "المغازي"، وحاصله: أن خالد بن الوليد غزا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم قومًا فقالوا: صبأنا، وأرادوا أسلمنا، فلم يقبل خالد ذلك منهم، وقتلهم بناء على ظاهر اللفظ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنكره، فدل على أنه يكتفي من كل قوم بما يعرف من لغتهم، وقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في اجتهاده، ولذلك لم يقد منه، وهذا من المواضع التي يتمسك بها في أن البخاري يترجم ببعض ما ورد في الحديث، وإن لم يورده في تلك الترجمة، فإنه ترجم بقوله:"صبأنا" ولم يوردها، واكتفى بطرف الحديث الذي وقعت هذه اللفظة فيه.

قوله: (وقال: تكلم لا بأس) فاعل قال هو عمر، وروى ابن أبي شيبة

ص: 357

ويعقوب بن سفيان في "تاريخه" من طرق بإسناد صحيح عن أنس قال: حاصرنا تستر، فنزل الهرمزان على حكم عمر، فلما قدم به عليه استعجم، فاقال له عمر: تكلم لا بأس عليك، وكان ذلك تأمينًا من عمر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وذكرت القصة بطولها في "فتوح البلدان"

(2)

.

قوله: (إن الله يعلم الألسنة كلها) المراد اللغات، ويقال: إنها اثنتان وسبعون لغة: ستة عشر في ولد سام، ومثلها في ولد حام، والبقية في ولد يافث، انتهى من "الفتح".

وقد تقدمت الإشارة فيما سبق من "باب من تكلم بالفارسية والرطانة" إلى هذا الباب، وتقدم هناك عن الحافظ: قالوا: فقه هذا الباب يظهر في تأمين المسلمين لأهل الحرب بألسنتهم كما سيأتي في "باب إذا قالوا: صبأنا".

(12 -‌

‌ باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره)

أي: كالأسرى.

قوله: ({وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ. . .} [الأنفال: 61] إلخ) أي: أن هذه الآية دالَّة على مشروعية المصالحة مع المشركين، ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيَّد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرًا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا، ذكر المصنف فيه حديث سهل في قصة عبد الله بن سهل وقتله بخيبر، والغرض منه قوله:"انطلق إلى خيبر وهي يومئذ صلح"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 274 - 275).

(2)

"فتوح البلدان"(2/ 461).

(3)

"فتح الباري"(6/ 275 - 276).

ص: 358

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" على قوله: "وهي يومئذ صلح": فيه الترجمة حيث لم يكن مصالحة أهل خيبر يوم ذلك على مال ولا غيره، انتهى.

وأما أصل المسألة فاختلف فيه؟ فذكر الحافظ فيه بعض المذاهب، وتقدم تفصيل الأقوال فيه مع البسط في "باب الصلح مع المشركين" من "كتاب الصلح"، فارجع إليه لو شئت.

قوله: (وإثم من لم يف. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: ليس في حديث الباب ما يشعر به، وسيأتي البحث فيه في "كتاب القسامة"، انتهى.

قلت: ويمكن عندي أن يقال: إن المصنف أراد ذكر شيء يناسب الباب، فلم يتفق له كما هو المعروف عند الشرَّاح في مثل هذه المواضع.

والأوجه عندي في مثل هذه المواضع أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى لا يذكر الحديث عمدًا تشحيذًا للأذهان [و] تنبيهًا على ما ذكره في موضع آخر، كما تقدم في أصل الرابع والعشرين، وقد تكلمت على ذلك في مبدأ "كتاب العلم" في "باب فضل العلم"، وذلك فإن إثم من لم يف بالعهد ورد في عدة روايات، فلو اقتصر على رواية يتوهم اقتصار الإثم على هذا النوع خاصة، والمقصود التنبيه على إثمه بجهات كثيرة، فقد ذكر في "باب إثم من قاتل معاهدًا" ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:"لم يرح رائحة الجنة" الحديث، وأخرج أيضًا في "باب دعاء الإمام على من نكث عهدًا" حديث القنوت، وأخرج في "باب ذمة المسلمين":"من أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، وفي "باب إثم من عاهد ثم غدر":"أربع خلال من كن فيه كان منافقًا خالصًا"، وفيه:"إذا عاهد غدر"، وفي "باب إثم الغادر" عدة روايات بمعنى:"لكل غادر لواء ينصب بغدرته"، فأشار بالترجمة إلى هذه الروايات كلها، وهذا كله إذا كان قوله:"إثم من لم يف. . ." إلخ، جزء

(1)

"فتح الباري"(6/ 276).

ص: 359

للترجمة، ولا يبعد أن يقال: إن الإمام البخاري رحمه الله تعالى أشار بذلك إلى التأكيد والتنبيه بالوفاء بالعهد للروايات المذكورة.

(13 -‌

‌ باب فضل الوفاء بالعهد)

ذكر فيه طرفًا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، قال ابن بطال: أشار البخاري بهذا إلى أن الغدر عند كل أمة قبيح مذموم، وليس هو من صفات الرسل، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(14 -‌

‌ باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر

؟)

قال الحافظ

(2)

: قوله: "وقال ابن وهب" وصله ابن وهب في "جامعه" هكذا.

قوله: (وكان من أهل الكتاب) قال الكرماني

(3)

: ترجم بلفظ "الذمي"، وسئل الزهري بلفظ "أهل العهد" وأجاب بلفظ:"أهل الكتاب"، فالأولان متقاربان، وأما "أهل الكتاب" فمراده من له منهم عهد، وكان الأمر في نفس الأمر كذلك.

قال ابن بطال

(4)

: لا حجة لابن شهاب في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأن السحر لم يضره في شيء من أمور الوحي ولا في بدنه، وإنما كان اعتراه شيء من التخيل، وإنما ناله من ضرر السحر ما ينال المريض من ضرر الحمى.

قال الحافظ: ولهذا الاحتمال لم يجزم المصنف بالحكم، ثم ذكر المصنف طرفًا من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأشار بالترجمة إلى ما وقع في بقية القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عوفي أمر بالبئر فردمت، وقال:"كرهت أن أثير على الناس شرًا"، ذكره المصنف تامًا في "كتاب الطب"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 276).

(2)

"فتح الباري"(6/ 276).

(3)

"شرح الكرماني"(13/ 139 - 140).

(4)

"شرح ابن بطال"(5/ 358).

ص: 360

وأما مسألة الباب فنقل الحافظ عن ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل العهد، لكن يعاقب إلا إن قتل بسحره فيقتل، أو أحدث حدثًا فيؤخذ به، وهو قول الجمهور، وقال مالك: إن أدخل بسحره ضررًا على مسلم نقض عهده بذلك، وقال أيضًا: يقتل الساحر ولا يستتاب، وبه قال أحمد وجماعة، وهو عندهم كالزنديق، انتهى.

(15 -‌

‌ باب ما يحذر من الغدر)

(يحذر) بضم أوله مخففًا ومثقلًا، (وقول الله عز وجل) بالجر عطفًا على لفظ:"الغدر"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: "وقوله تعالى" بالجر عطفًا على "ما يحذر"؛ لأنه مجرور بالإضافة، تقديره: وفي بيان قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا. . .} إلخ، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: وفي هذه الآية إشارة إلى أن احتمال طلب العدو للصلح خديعه، لا يمنع من الإجابة إذا ظهر للمسلمين، بل يعزم ويتوكل على الله سبحانه وتعالى، انتهى. وقال فيما يستفاد من الحديث: فيه أن الغدر من أشراط الساعة، انتهى.

(16 -‌

‌ باب كيف ينبذ إلى أهل العهد. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: قوله: " {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} " أي: اطرح إليهم عهدهم، وذلك بأن يرسل إليهم من يعلمهم بأن العهد انتقض، قال ابن عباس: أي: على مثل، وقيل: على عدل، وقيل: أعلمهم أنك قد حاربتهم حتى يصيروا مثلك في العلم بذلك.

(1)

"فتح الباري"(6/ 277).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 528).

(3)

"فتح الباري"(6/ 277، 278).

(4)

"فتح الباري"(6/ 279).

ص: 361

وقال الأزهري: المعنى إذا عاهدت قومًا فخشيت منهم النقض فلا توقع بهم بمجرد ذلك حتى تعلمهم، ثم ذكر فيه حديث أبي هريرة، قال المهلب: خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدر المشركين؛ فلذلك بعث من ينادي بذلك، انتهى.

(17 -‌

‌‌

‌ باب

إثم من عاهد ثم غدر)

الغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي، قاله الحافظ

(1)

.

وقال في آخر حديث الباب: فيه علم من أعلام النبوَّة، والتوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد، فلم يجتب المسلمون منهم شيئًا فتضيق أحوالهم، انتهى.

(18 - باب)

بغير ترجمة، كذا هو عند الجميع، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وذكر فيه حديثين: أحدهما: في قصة الحديبية، والثاني: حديث أسماء في وفود أمها، ووجه تعلق الأول من جهة ما آل إليه أمر قريش في نقضها العهد من الغلبة عليهم وقهرهم بفتح مكة، فإنه يوضح أن مآل الغدر مذموم، ومقابل ذلك ممدوح، ومن هنا يتبين تعلق الحديث الثاني، ووجهه أن عدم الغدر اقتضى جواز صلة القريب، ولو كان على غير دين الواصل، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: ويمكن أن يترجم لهذا الباب بلفظ مضار الغدر ومنافع عدمه، أي: الوفاء، وتكلم الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

على شرح قوله: "اتهموا رأيكم" الواقع في حديث الباب فأجاد، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(6/ 280).

(2)

"فتح الباري"(6/ 281).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 326).

ص: 362

(19 -‌

‌ باب المصالحة على ثلاثة أيام. . .) إلخ

أي: يستفاد من وقوع المصالحة على ثلاثة أيام جوازها في وقت معلوم ولو لم تكن ثلاثة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(20 -‌

‌ باب الموادعة من غير وقت وقول النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

هو طرف من حديث معاملة أهل خيبر، وقد تقدم شرحه في "المزارعة"، وبيان الاختلاف في أصل المسألة، وأما ما يتعلق بالجهاد فالموادعة فيه لا حد لها معلوم لا يجوز غيره، بل ذلك راجع إلى رأي الإمام بحسب ما يراه الأحظ والأحوط للمسلمين، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(21 -‌

‌ باب طرح جيف المشركين في البئر. . .) إلخ

ذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل بن هشام وغيره من قريش، وفيه:"فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر"، وقد تقدم بهذا الإسناد في "باب الطهارة".

قوله: (ولا يؤخذ لهم ثمن) أشار به إلى حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وكان اقتحم الخندق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده"، فقال ابن هشام: بلغنا عن الزهري: أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله، فهذا شاهد لحديث ابن عباس وإن كان إسناده غير قوي، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 282).

(2)

"فتح الباري"(6/ 282).

(3)

"فتح الباري"(6/ 283).

ص: 363

وحديث ابن عباس هذا ذكره ابن إسحاق في مغازيه كما في "القسطلاني"

(1)

.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "ولا يؤخذ لهما ثمن" فإن البيع وإن كان فيه توهين للمبيع، ولكنه لا يخلو عن إعزاز له أيضًا لما فيه من جعله ذا خطر، إذ البيع لا يجري فيما لا رغبة فيه، ولا هو ذو خطر، فنهينا عن بيع أجساد المشركين لئلا يلزم فيه إعزازها، انتهى.

(22 -‌

‌ باب إثم الغادر للبر والفاجر)

قال الحافظ

(3)

: أي: سواء كان من بر لفاجر أو بر، أو من فاجر لبر أو فاجر، وبين هذه الترجمة والترجمة السابقة بثلاثة أبواب عموم وخصوص، انتهى.

قلت: وأشار الحافظ بذلك إلى "باب إثم من عاهد ثم غدر"، ولا يبعد عندي في الفرق بين الترجمتين الإشارة إلى اختلاف نوعية الإثم، ولأجل ذلك ذكره لهذا المعنى عدة أبواب، وكتب الشيخ رحمه الله في "اللامع" على هذا الباب: لما كان من الأمور المنكرة ما لا كراهة فيه إذا ارتكبها مؤمن كامل في إيمانه، ولا يمكن من ارتكابه الفاسق الغير الآمن على إيمانه توهم أن الغدر لعله من هذا القبيل، فدفعه بإطلاق الرواية ولفظ:"كل" الدال على العموم، انتهى.

وفي هامشه: أجاد الشيخ قدِّس سرُّه بطبعه اللطيف في توجيه ذكر البر والفاجر، ولما أفاده نظائر كثيرة، منها قوله: أنبت الربيع البقل، ومنها صوم يوم الشك، ومنها ما في "الأشباه"

(4)

: قال قاضي خان: الفقاعي إذا قال عند فتح الفقاع للمشتري: صَلِّ على محمد، قالوا: يكون آثمًا، وكذا الحارس إذا قال في الحراسة: لا إله إلا الله، يعني: لأجل الإعلام بأنه

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 117).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 327، 328).

(3)

"فتح الباري"(6/ 284).

(4)

"الأشباه والنظائر"(1/ 182).

ص: 364

مستيقظ، بخلاف العالم إذا قال في المجلس: صلوا على النبي، فإنه يثاب على ذلك، وكذا الغازي إذا قال: كبروا؛ لأن الحارس والفقاعي يأخذان بذلك أجرًا، انتهى.

ثم المصنف رحمه الله ذكر في الباب أربعة أحاديث، ومناسبة الثلاثة الأول منها بالترجمة غير خفية، وأما الحديث الرابع فقد قال الحافظ

(1)

: في تعلق الحديث بالترجمة غموض، ثم ذكر عدة توجيهات للمطابقة، وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: مطابقة الحديث بالترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"، فكان التعرض بشيء منها غدرًا وهتكًا لحرمة الله تبارك وتعالى، انتهى.

قلت: وبما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في وجه المطابقة جزم ابن بطال كما حكى عنه الحافظ في "الفتح"، وقال أيضًا

(3)

: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع من سبب الفتح الذي ذكر في الحديث، وهو غدر قريش بخزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عاقبة نقض قريش العهد أن غزاهم المسلمون حتى فتحوا مكة، واضطروا إلى طلب الأمان، وصاروا بعد العز والقوة في غاية الوهن، ولعله أشار بقوله في الترجمة:"بالبر" إلى المسلمين، و"بالفاجر" إلى خزاعة؛ لأن أكثرهم إذ ذاك لم يكن أسلم بعد، انتهى مختصرًا.

وقال العلَّامة العيني

(4)

: وجه مطابقته للترجمة يمكن أخذه من قوله: "فانفروا" إذ معناه لا تغدروهم ولا تخالفوهم، إذ إيجاب الوفاء بالخروج مستلزم لتحريم الغدر، ووجه آخر هو أن النبي لم يغدر في استحلال القتال بمكة؛ لأنه كان بإحلال الله تعالى له ساعة، ولولا ذلك لما جاز له، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 284).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 329، 330).

(3)

"فتح الباري"(6/ 285).

(4)

"عمدة القاري"(10/ 539).

ص: 365

وبما أفاده العيني أولًا ذكره العلَّامة السندي

(1)

وقال: ثم رأيت الكرماني

(2)

مال إلى ذلك، انتهى. وسكت القسطلاني عن بيان المناسبة.

ثم البراعة في اختتام "كتاب الجزية" عند الحافظ

(3)

قُدِّس سرُّه في قوله: "فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"، وقد تقدم أن كتاب الجهاد عند هذا العبد الضعيف ينتهي إلى بدء الخلق، فالبراعة في قوله:"وإذا استنفرتم فانفروا" وبلفظ: "يوم القيامة"، وكذا بلفظ:"الإذخر"، فقد ورد في بعض الطرق:"فإنه لقبورهم"، أو يقال: الجهاد كله مذكر للموت

(4)

.

* * *

(1)

انظر: "صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 206).

(2)

انظر: "شرح الكرماني"(13/ 148 - 149).

(3)

"فتح الباري"(13/ 543).

(4)

انظر: "لامع الدراري"(1/ 117).

ص: 366

59 -

‌ كتاب بدء الخلق

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، وسقطت البسملة لأبي ذر، وللنسفي:"ذكر" بدل "كتاب"، وللصغاني:"أبواب" بدل "كتاب"، و"بدء الخلق" بفتح أوله وبالهمز، أي: ابتداؤه، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله ما تقدم في مقدمة "اللامع"

(2)

من كلام الحافظ

(3)

حيث قال: ويظهر لي أنه إنما ذكر بدء الخلق عقب "كتاب الجهاد" لما أن الجهاد يشتمل به على إزهاق النفس، فأراد أن يذكر أن هذه المخلوقات محدثات، وأن مآلها إلى الفناء، وأنه لا خلود لأحد، انتهى.

وكتبت هناك في هامشه: ولا يبعد عندي أن يقال: إن ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم كانت من تكملة الجهاد، فإنها أسوة لكثير من مسائل الجهاد، فالمقصود أصالة ذكرها، أي: المغازي، ولذا بسطها أشد البسط، وكان الجدير بذكرها أن يذكر أولًا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذكره الشريف أيضًا من المقاصد، فبسط في ذكره وذكر أتباعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنهم المجاهدون في هذه المغازي، وقدم على ذكره الشريف ذكر الأنبياء توطئة، وأولهم آدم عليه السلام، فذكره وذكر معه خلق آدم، وقدم قبله بدء الخلق تمهيدًا لما سيأتي بعده، فتأمل.

وفي هامش "اللامع"

(4)

: لما كان "صحيح البخاري" جامعًا من أنواع كتب الحديث، والجامع ما يكون فيه الأبواب الثمانية من أبواب الحديث كما تقدم مفصلًا في المقدمة، ومنها التاريخ، شرع من ههنا أبواب التاريخ وتنتهي إلى كتاب التفسير، وليس كتاب المغازي بكتاب مستأنف عند هذا

(1)

"فتح الباري"(6/ 286).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 276).

(3)

"مقدمة فتح الباري"(ص 471).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 331).

ص: 367

العبد الضعيف، بل هو جزء لسيرته صلى الله عليه وسلم المبدوءة من قبل ذلك، ولكنها لما كانت أبوابها مبسوطة أفردها باسم الكتاب، ولذلك ذكر بعده "باب حجة الوداع وأبواب مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم"، فإنها أيضًا من تكملة أحواله صلى الله عليه وسلم، وتقدم شيء من ذلك في المقدمة في الفائدة الثالثة عشرة في مناسبة الترتيب بين الكتب والأبواب، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

: وقد مرَّ نظائرُ هذا الكتاب من قوله: "بَدْء الوحي" و"بَدْء الحَيْضِ"، فهذا "بَدْء الخَلْقِ". ويَذْكُرُ في ضِمْنِهِ الأحوالَ إلى الحشر. وهذا الكتابُ في كُتُبِ الأحاديث أقربُ إلى سِفْر التكوين من التوراة، انتهى.

(1 -‌

‌ باب ما جاء في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:

27])

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: المقصود من هذا الباب إثبات أنه ليس شيء سواه تبارك وتعالى قديمًا، بل الكل محدث ومخلوق، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "كل عليه هين" أي: البدء والإعادة، أي: وأنهما حَمَلَا أهون على غير التفضيل، وأن المراد بها الصفة؛ كقوله: الله أكبر، وأثر الحسن روأه الطبري من طريق قتادة، وأظنه عن الحسن، ولكن لفظه:"وإعادته أهون عليه من بدئه، وكل على الله هين"، وظاهر هذا اللفظ إبقاء صيغة أفعل على بابها، وكذا قال مجاهد، وقد ذكر عبد الرزاق في "تفسيره": أن ابن مسعود كان يقرؤها "وهو عليه هين"، وحُكي عن ابن عباس: أن الضمير للمخلوق؛ لأنه ابتدئ نطفة ثم علقة ثم مضغة، والإعادة أن يقول له:"كن فيكون"، فهو أهون على المخلوق، ولا يثبت هذا عن ابن عباس، بل هو من تفسير الكلبي، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(4/ 299).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 334).

(3)

"فتح الباري"(6/ 287).

ص: 368

قال القسطلاني

(1)

: ثم أشار المؤلف إلى قوله تعالى: " {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} "[ق: 15]، أي:"أفأعيا علينا، حين أنشأكم وأنشأ خلقكم" أي: ما أعجزنا الخلق الأول حين أنشأناكم وأنشأنا خلقكم حتى نعجز عن الإعادة، والهمزة فيه للإنكار، وعدل عن التكلم في قوله:"أنشأناكم" إلى الغيبة التفاتًا، قال الكرماني: والظاهر أن لفظ "حين أنشأكم" إشارة إلى آية أخرى مستقلة، و"أنشأ خلقكم" إلى تفسيره، وهو قوله تعالى:{إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 32]، فنقله البخاري بالمعنى حيث قال:"حين أنشأكم" بدل {إِذْ أَنْشَأَكُمْ} ، أو هو محذوف في اللفظ، واستغنى بالمفسر عن المفسر، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: قوله: "أفأعيا. . ." إلخ، أشار بذلك إلى أن كلمة "عيينا" صارت متعدية بالباء في الخلق الأول، وكأن المعنى: أفأعيا علينا خلقكم حين أنشأناكم؟ لكنه حذف الفاعل استغناء بدلالة الظرف عليه، وأقام النائب مقام المتكلم رعاية لما ورد في الآية الأخرى، ثم لما ذكر الإنشاء ذكر معناه، فقال:"أنشأ، أي: خلق"، لكنه لما كان المذكور في الآية {أَنْشَأَكُمْ} أورد في التفسير أيضًا خلقكم، ولم يكتف بقوله: خلق فقط، انتهى.

قوله: (لغوب: النَّصَب) أي: تفسير قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] أي: من نصب، والنصَّب: التعب وزنًا ومعنًى، وهذا تفسير مجاهد فيما أخرجه ابن أبي حاتم، وغفل الداودي الشارح فظن أن النصب في كلام المصنف بسكون الصاد، وأنه أراد ضبط اللغوب، فقال متعقبًا عليه: لم أر أحدًا نصب اللام في الفعل، قال: وإنما هو بالنصب: الأحمق.

قوله: (أطوارًا. . .) إلخ، يريد تفسير قوله تعالى:{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، والأطوار: الأحوال المختلفة، واحدها طور بالفتح، وأخرج

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 121 - 122).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 331 - 332).

ص: 369

ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الأطوار كونه مرة نطفة ومرة علقة. . . إلخ، وأخرج الطبري عن ابن عباس وجماعة نحوه، وقال: المراد اختلاف أحوال الإنسان من صحة وسقم، وقيل: معناه أصنافًا في الألوان واللغات، انتهى.

وزاد العيني: قال ابن الأثير: الأطوار: التارات والحدود، واحدها طور، أي: مرة ملك ومرة هلك ومرة بؤس ومرة نعم، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

، وسيأتي هذا القول في البخاري في سورة نوح من "كتاب التفسير".

ولم يتعرض الحافظ لقوله: "عدا طوره، أي: قدره" وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": يعني بذلك: أنه في الأصل للقدر، ثم صار معناه قدرًا من الزمان أو غيره، انتهى.

وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: قوله: "عدا طوره": أي: "بر هـ كَيا انداز ابنى سى"، انتهى.

قوله: (كان الله ولم يكن شيء) قال العلَّامة السندي

(2)

: قوله: "كان الله" أي: مع صفاته العليا، وترك ذكرها؛ لأنها كالتوابع، فلا يلزم من الحديث نفي الصفات القديمة، وقد يقال: ولم يكن شيء غيره مبني على أن الصفات ليست غير الذات، كما قرره أهل الكلام، لكن الحق أن ذلك اصطلاح منهم، فبناء الحديث عليه لا يخلو عن خفاء، نعم يمكن أنهم بنوا اصطلاحهم على ظاهر هذا الحديث بعد إثبات قدم الصفات، كما أن المعتزلة بنوا نفيها عليه وعلى ما خيلوا من الأدلة العقلية الباطلة، والله تعالى أعلم.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 332 - 333)، وانظر:"فتح الباري"(6/ 288)، و"عمدة القاري"(10/ 541).

(2)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 207).

ص: 370

قوله: (وكان عرشه على الماء. . .) إلخ، أي: بعد أن خلق بقرينة أول الحديث، ولا حاجة إلى حمل الواو على معنى ثم، إذ الواو لا تنفي الترتيب في الوجود الخارجي، انتهى.

(فأخبرنا عن بدء الخلق حتى. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أي: إجمالًا، انتهى.

وبسط الكلام عليه في هامشه، وكتب العلَّامة السندي

(2)

: قوله: "حتى دخل. . ." إلخ، أي: حتى أخبر عن دخولهم، أو هو غاية لبدء الخلق على معنى بدء الخلق وما بعده، والله تعالى أعلم، انتهى.

(2 -‌

‌ باب ما جاء في سبع أرضين)

قال الحافظان ابن حجر والعيني

(3)

: أي: في بيان وضعها، ولفظ القسطلاني في "شرحه"

(4)

: أي: في وصفها، ولا يبعد عند هذا العبد الضعيف أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ترجم بسبع أرضين إشارة إلى الاختلاف الوارد في العدد، وبتّ الحكم لقوة الدليل عنده، فقد قال الحافظ

(5)

: قوله: "وقول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية [الطلاق: 12] " قال الداودي: فيه دلالة على أن الأرضين بعضها فوق بعض مثل السماوات، ونقل عن بعض المتكلمين أن المثلية في العدد خاصة، وأن السبع متجاورة، وحكى ابن التِّين عن بعضهم أن الأرض واحدة، قال: وهو مردود بالقرآن والسُّنَّة.

قلت: لعله القول بالتجاور، وإلا فيصير صريحًا في المخالفة، ويدل للقول الظاهر ما رواه ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية: {وَمِنَ الْأَرْضِ

(1)

"لامع الدراري"(7/ 333).

(2)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 207).

(3)

"فتح الباري"(6/ 288)، "عمدة القاري"(10/ 541).

(4)

"إرشاد الساري"(7/ 129).

(5)

"فتح الباري"(6/ 293).

ص: 371

مِثْلَهُنَّ} قال: في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصرًا، وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم والبيهقي مطولًا، وأوله، أي: سبع أرضين، في كل أرض آدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيسى ونبي كنبيكم، قال البيهقي: إسناده صحيح إلا أنه شاذ بمرة، وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: لو حدثتكم بتفسير هذه الآية لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه، انتهى مختصرًا.

قلت: ولشيخ مشايخنا مولانا محمد قاسم النانوتوي مؤسس دار العلوم بديوبند رسالة مستقلة باللغة الأردية اسمها: "تحذير الناس من إنكار أثر ابن عباس"، وذكر في آخره أنه بسط الكلام على ذلك في رسالتين له أخريين: أحدهما: "الآيات البينات على وجود الأنبياء في الطبقات"، والثانية:"دافع الوسواس لأثر ابن عباس"، انتهى.

قلت: وبعين ما ترجم به الإمام البخاري ترجم الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية"

(1)

وقال: "باب ما جاء في سبع أرضين" ثم ذكر فيه عدة أحاديث، ثم قال: فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين، والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الأخرى، والتي تحتها شي وسطها عند أهل الهيئة، حتى ينتهي الأمر إلى السابعة وهي صماء لا جوف لها، إلى آخر ما قال.

قلت

(2)

: وما أيد الحافظ القول الظاهر بأثر ابن عباس المذكور لا حاجة إلى ذلك، فإن روايات هذا الباب كلها صريحة في الدلالة على الظاهر؛ لأن الغاصب شبرًا من الأرض إذا يطوق إلى سبع أرضين أو يخسف إلى سبع أرضين، فلا بد أن تكون بعضهن فوق بعض.

(1)

"البداية والنهاية"(1/ 16).

(2)

انظر: "لامع الدراري"(7/ 337 - 338).

ص: 372

وكتب مولانا محمد حسن المكي في تقريره تحت الباب: بأنها مخلوقة لله تعالى ليست بقديمة، والغرض من هذه الأبواب عد مخلوقات الله تعالى من الصغير والكبير والشريف والرذيل مما نقل فيه الأحاديث الصحيحة عنده.

ولا يبعد عندي أيضًا: أن في تبويب الإمام البخاري رحمه الله تعالى بالأرضين وتخصيصها بالذكر مع تقديم ذكر السماوات على الأرض في الآية الكريمة إشارة لطيفة إلى مسألة أخرى خلافية أيضًا، وهي اختلافهم في التفضيل بين السماء والأرض، ففي "الفتاوى الحديثية" لابن حجر المكي

(1)

: وسئل - نفع الله به -: أيما أفضل السماء أو الأرض؟ فأجاب بقوله: الأصح عند أئمتنا ونقلوه عن الأكثرين: السماء؛ لأنه لم يعص الله فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها، أو وقعت نادرًا فلم يلتفت إليها. وقيل: الأرض، ونقل عن الأكثرين أيضًا؛ لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم.

وفي "الشرح الكبير" للمالكية

(2)

: الأكثر على أن السماء أفضل من الأرض، والله أعلم بحقيقة الحال، انتهى.

وقال القاري في "شرح المناسك"

(3)

في بحث التفضيل بين مكة والمدينة: والخلاف فيما عدا موضع القبر المقدس، فما ضم أعضاؤه الشريفة فهو أفضل بقاع الأرض بالإجماع، حتى من الكعبة ومن العرش على ما صرح به بعضهم، وقد صرح التاج الفاكهي بتفضيل الأرض على السماوات لحلوله صلى الله عليه وسلم بها، وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، وقال النووي: الجمهور على تفضيل السماء، انتهى مختصرًا.

قلت: ومال شيخ مشايخنا مولانا محمد قاسم النانوتوي قُدِّس سرُّه في قصيدته المدحية في شأنه صلى الله عليه وسلم المطبوع باسم "قصيدة بهائية" إلى فضيلة الأرض على السماء.

(1)

"الفتاوى الحديثية"(ص 248).

(2)

"الشرح الكبير"(2/ 173).

(3)

(ص 531 - 532).

ص: 373

قوله: (يوم خلق الله السماوات والأرض. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: إن كانت الرواية "والأرضين" بلفظ الجمع فدلالته على الترجمة ظاهرة، وإن كانت بلفظ المفرد فيحمل اللام على الجنس، أو للإشارة إلى ما ورد في غير هذه الرواية من لفظ الجمع، انتهى.

وذكر في هامشه: أن الرواية وردت بكلا اللفظين بلفظ الجمع والمفرد، وفيه أيضًا: قال الحافظ ابن كثير: ومراد البخاري بذكر هذا الحديث ههنا تقرير معنى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] أي: في العدد، انتهى.

(3 -‌

‌ باب في النجوم)

والظاهر من سياق الترجمة ومما ذكر فيها أن الغرض بيان المقاصد المعتبرة الثابتة من خلق النجوم، وردّ ما أحدثها المخترعون فيها.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "قال قتادة. . ." إلخ، وصله عبد بن حميد، وزاد في آخره: أن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من غرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير والأحمر والأبيض والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر شيء من هذا الغيب، انتهى. وبهذه الزيادة تظهر مناسبة إيراد المصنف ما أورده من تفسير الأشياء التي ذكرها من القرآن، وإن كان ذكر بعضها وقع استطرادًا، والله أعلم.

وقال العلَّامة السندي

(3)

: قوله: "وقال ابن عباس: هشيمًا. . ." إلخ، كأنه ذكر تفسير هذه الألفاظ لتعلقها بالخلق وإن لم يكن لها تعلق بالنجوم.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 336).

(2)

"فتح الباري"(6/ 295).

(3)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 208).

ص: 374

وقال العيني والقسطلاني

(1)

: ذكرها استطرادًا على عادته لأدنى ملابسة تكثيرًا للفائدة، انتهى.

وتقدم ما قال الحافظ في وجه مناسبة ذكرها، ويمكن عند هذا العبد الضعيف: أن يقال: إنه قد تقرر في محله أن للشمس والقمر وبعض النجوم تأثيرًا في نضج الثمار وإحداث النضارة واللذة فيها، فتأمل فإنه لطيف.

(4 -‌

‌ باب صفة الشمس والقمر بحسبان)

أي: تفسير ذلك، وقوله:"قال مجاهد: بحسبان كحسبان الرحى. . ." إلخ، قال الكرماني

(2)

: أراد أنهما يجريان على حسب الحركة الرحوية والدورية وعلى وضعها، "ولا يعدوانها": لا يتجاوزانها، انتهى.

زاد الحافظ

(3)

بعد قوله: "على حسب الحركة الرحوية": "وقال غيره: بحساب ومنازل لا يعدوانها"، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: يعني بذلك: أنهما لا يتخلفان عما هو مقرر لهما كالرحى لا يمكن دورانها على غير ما هو معين في دورانها من القرب والبعد من القطب، انتهى.

وفي تقرير مولانا محمد حسن المكي: التشبيه في الجري على وضع واحد وموضع واحد لا يمكن أن يتغير عنه، وإلا فحركة الشمس والقمر دولابي، فمآل هذا التفسير والتفسير الثاني واحد، انتهى.

وهكذا في "اللامع" إذ قال: قوله: "وقال غيره" ليس المراد أن بينهما اختلافًا، بل المراد نقل قول كل منهما وإن كان المؤدى واحدًا، انتهى.

وسيأتي الكلام أيضًا على هذا القول في محله في تفسير سورة الرحمن من "كتاب التفسير".

(1)

"عمدة القاري"(10/ 551)، "إرشاد الساري"(7/ 138).

(2)

"شرح الكرماني"(13/ 158).

(3)

"فتح الباري"(6/ 298).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 338).

ص: 375

قوله: (أرجائها: ما لم تنشق منها) قال الحافظ

(1)

: يريد تفسير قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]، وروى عبد بن حميد من طريق قتادة: أي: على حافات السماء، وعن سعيد بن جبير: على حافات الدنيا، وصوَّب الأول، وعن ابن عباس: والملك على حافات السماء حين تنشق، والأرجاء بالمد جمع رجا بالقصر، والمراد النواحي، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "ما لم ينشق منها" يعني: أن قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] المراد به ما إذا لم تنشق السماء، فإذا انشقت لم تبق لها الأرجاء، ثم أخذ في بيان معناه، فقال: على حافتيه كما تقول: على أرجاء البئر، فإن معناه على أطرافه، قوله:"وليجة كل شيء. . ." إلخ، فكان فعيلة بمعنى مفعولة، انتهى.

(5 -‌

‌ باب ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا. . .} [الفرقان: 48]) إلخ

قال الحافظ

(3)

: "نُشرًا" بضم النون والمعجمة، وسيأتي تفسيره في الباب. قوله:"قاصفًا. . ." إلخ، يريد تفسير قوله تعالى:{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء: 69]، قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء، أي: تحطم، انتهى.

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: قوله: "لواقح ملاقح. . ." إلخ، يعني: أن الرياح ليست لاقحة بل هي ملقحة، فكان اللازم بمعنى المتعدي، انتهى.

ففي هامشه عن تقرير المكي: يريد أن المراد باللواقح الملاقح دون معناه الحقيقي؛ لأن اللاقح لازم يقال: لقحت الناقة، أي: حملت،

(1)

"فتح الباري"(6/ 298).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 339).

(3)

"فتح الباري"(6/ 300).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 340).

ص: 376

والملقحة متعدية يقال: ألقح الفحل الناقة، وما قيل: إن اللواقح جمع ملقحة على خلاف القياس فغلط، فإنها جمع لاقحة، "أستاذ".

وقال الكرماني

(1)

: قوله: "لواقح" أي: ملاقح جمع الملقحة وهو من النوادر، يقال: ألقح الفحل الناقة والريح السحاب، ورياح لواقح. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" من "الفتح"

(2)

وغيره.

(6 -‌

‌ باب ذكر الملائكة)

قدَّم المصنف ذكر الملائكة على الأنبياء، لا لكونهم أفضل عنده، بل لتقدمهم في الخلق، ولسبق ذكرهم في القرآن في عدة آيات، ووقع في حديث جابر الطويل عند مسلم في صفة الحج:"ابدؤا بما بدأ الله به" ولأنهم وسائط بين الله وبين الرسل في تبليغ الوحي والشرائع، فناسب أن يقدم الكلام فيهم على الأنبياء، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل من الأنبياء، وقد ذكرت مسألة تفضيل الملائكة في "كتاب التوحيد" عند شرح حديث:"ذكرته في ملأ خير منهم"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

تحت الباب: وجملة الروايات الموردة فيه تدل على وجود الملك وثبوته وهو المراد، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام على الملائكة لفظًا ومعنًى، والاختلاف في حقيقتهم، وكذا في وجودهم، فارجع إليه.

قال الحافظ

(5)

: ومن أدلة كثرتهم ما يأتي في حديث الإسراء: "أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون"، ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث تزيد على ثلاثين حديثًا، وهو من نوادر ما وقع

(1)

"شرح الكرماني"(13/ 161 - 162).

(2)

"فتح الباري"(6/ 301).

(3)

"فتح الباري"(6/ 306).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 341).

(5)

"فتح الباري"(6/ 306 - 307).

ص: 377

في هذا الكتاب أعني كثرة ما فيه من الأحاديث، فإن عادة المصنف غالبًا يفصل الأحاديث بالتراجم ولم يصنع ذلك ههنا، انتهى.

قلت: وسيأتي الكلام في تلك الأحاديث على حديث ابن مسعود: "يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا" في أول "كتاب القدر" إن شاء الله تعالى.

(7 -‌

‌ باب إذا قال أحدكم: آمين. . .) إلخ

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: زيادة الباب هنا من تصرف النساخ، فإن الأحاديث الموردة بعد ذلك من الباب الأول من غير تفاوت، انتهى.

وفي هامشه: أشكل زيادة لفظ الباب ههنا قديمًا وحديثًا، واخترع شيخ مشايخنا الشاه ولي الله الدهلوي نوَّر الله مرقده لهذا الباب أصلًا برأسه إذ قال في الأصول

(2)

: إن لفظ الباب قد يكتب مكان قول المحدثين بهذا الإسناد كما يكتبون ح، كما تقدم البسط في ذلك في الأصل السابع من أصول التراجم، وتقدم فيه ما اختاره هذا العبد الضعيف، وهو أن هذا الباب ليس بمثبت - بفتح الباء -، بل هو مثبت - بكسر الباء - للترجمة السابقة، ثم رأيت العلَّامة السندي مال إلى ذلك إذ قال

(3)

: لعلّ مراده أن من جملة الأدلة على وجود الملائكة هذا الباب، أي: ما ذكر فيه، وما يتعلق به من الأحاديث، فلم يأت بالباب ليذكر أحاديثه، نعم ذكر بعض أحاديثه ليستدل به على وجود الملائكة فيما بعد أيضًا في جملة سائر الأحاديث لهذا المطلوب، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(7/ 347).

(2)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 20).

(3)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 213).

ص: 378

وقال صاحب "الفيض"

(1)

: وهذا البابُ غريبٌ في سلسلة ذكر الملائكة، إلَّا أنه أدخله في أضعاف ذكرهم لفائدةٍ، وهي: أنهم موكَّلُون على قول: آمين أيضًا، انتهى.

قلت: وأول حديث هذا الباب حديث عائشة: "حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة"، الحديث، يخالفه ما تقدم في "باب كسر الدنان" من قول عائشة:"فاتخذت منه نمرقتين"، وتقدم الكلام عليه في الباب المذكور من "أبواب المظالم والقصاص"، فكن منه على ذكر.

(8 -‌

‌ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. . .) إلخ

أي: موجودة الآن، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم من المعتزلة أنها لا توجد إلا يوم القيامة، وقد ذكر المصنف في الباب أحاديث كثيرة دالة على ما ترجم به، فمنها ما يتعلق بكونها موجودة الآن، ومنها ما يتعلق بصفتها، وأصرح مما ذكره في ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد قوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها" الحديث

(2)

، وهكذا قال العيني

(3)

: فيه رد على المعتزلة حيث قالوا: إنها لا توجد إلا يوم القيامة، وكذلك قالوا في النار: إنها تخلق يوم القيامة، انتهى.

قلت: ولذا قال في "باب صفة النار": إنها مخلوقة، كما سيأتي.

قوله: (لكل امرئ منهم زوجتان) كتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: يصح إرجاع الضمير إلى الفريقين جميعًا، وإلى الثانية منهما، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه محتمل، وعلى الاحتمال الثاني يكون للفريق الأول أكثر من ثنتين.

(1)

"فيض الباري"(4/ 315).

(2)

انظر: "فتح الباري"(6/ 320).

(3)

"عمدة القاري"(10/ 593).

(4)

"لامع الدراري"(7/ 353 - 354).

ص: 379

وقال الحافظ

(1)

: قوله: "زوجتان" أي: من نساء الدنيا، فقد روى أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا في صفة أدنى أهل الجنة منزلة:"وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا"، وفي سنده شهر بن حوشب وفيه مقال، وذكر الحافظ الروايات العديدة المختلفة في تعداد النساء من الحور العين. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".

وقال العلَّامة السندي

(2)

: لعل الزوجتين تكونان على هذه الصفة - أي: المذكورة في الحديث -، والباقيات على غير هذه الصفة، وإلا فقد ورد: للمؤمن ثلاث وسبعون زوجة، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم، انتهى.

قوله في آخر حديث من أحاديث الباب: (رجال آمنوا بالله. . .) إلخ، وفى هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(3)

: فإن قلت: فلا يبقى في غير الغرف أحد؛ لأن أهل الجنة كلهم مؤمنون مصدقون بالرسل؟ قلت: المصدقون بجميع الرسل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتبقى أمة غيره من سائر الأنبياء في غير الغرف، انتهى.

(9 -‌

‌ باب صفة أبواب الجنة. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: هكذا ترجم بالصفة، ولعله أراد بالصفة العدد أو التسمية؛ فإنه أورد فيه حديث سهل بن سعد مرفوعًا:"في الجنة ثمانية أبواب" الحديث، وقال فيه: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من باب الجنة"، وأشار بهذا إلى حديث أسنده في الصيام، وفي الجهاد من حديث أبي هريرة، وفيه:"فمن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد"، وورد في صفة أبواب الجنة:"أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة"، ومن حديث أبي سعيد ومعاوية بن حيدة ولقيط بن عامر، وأحاديث

(1)

"فتح الباري"(6/ 325).

(2)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 217).

(3)

"تحفة الباري"(4/ 26).

(4)

"فتح الباري"(6/ 328، 329).

ص: 380

الثلاثة عند أحمد، وهي مرفوعة، ولها شاهد عند مسلم من حديث عتبة بن غزوان، لكنه موقوف، انتهى من "الفتح".

وتعقب العلَّامة العيني

(1)

على قول الحافظ: لعله أراد بالصفة العدد أو التسمية فقال: هذا تخمين؛ لأنه لا وجه لما ذكره، أما ذكر الصفة وإرادة العدد ففيه ما فيه، والذي يظهر لي أن ذكر الصفة إشارة إلى قوله: الريان؛ لأنه صفة للباب، انتهى مختصرًا.

وبسط الكلام على هامش "اللامع"

(2)

على الروايات الواردة في عدد أبواب الجنة وأسمائها، وفيه: قال ابن رسلان في "شرح أبي داود": قال ابن القيم: أبواب الجنة لا تنحصر في الثمانية، بل هي أكثر كما دلَّت عليه الأحاديث، انتهى.

وفيه أيضًا: وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"

(3)

بما لا مزيد عليه، وفيه برواية ابن جرير وغيره عن ابن عمر مرفوعًا:"إن في الجنة قصرًا يقال له: عدن، له خمسة آلاف باب"، وفي رواية: قرأ عمر على المنبر: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} ، فقال: أيها الناس هل تدرون ما جنات عدن؟ قصر في الجنة له عشرة آلاف باب، وعن ابن عباس:"أخص أهل الجنة منزلًا يوم القيامة، له قصر من درة جوفاء، فيها سبعة آلاف غرفة لكل غرفة سبعون ألف باب"، وغير ذلك من الروايات، فلا بد للجمع بينهما من حمل هذه الأبواب الكثيرة على أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية، كما تقدم في كلام الحافظ، وبه جزم مشايخي عند الدرس.

وقال ابن العربي في "العارضة"

(4)

: الذين يدعون من أبواب الجنة الثمانية أربعة: الأول: "من أنفق زوجين في سبيل الله"، وهو متفق عليه، الثاني: من قال هذا الذكر، وهو في "صحيح مسلم": "من توضأ فأحسن

(1)

"عمدة القاري"(10/ 611).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 356 - 358).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 453 - 463).

(4)

"عارضة الأحوذي"(1/ 74).

ص: 381

الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله" الحديث، الثالث: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"، أخرجه البخاري، الرابع: "من مات يؤمن بالله واليوم الآخر، قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة الثمانية شئت"، أخرجه أحمد بسنده إلى عقبة بن عامر عن عمر مرفوعًا، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع".

(10 -‌

‌ باب صفة النار وأنها مخلوقة)

القول فيه كالقول في "باب صفة الجنة" سواء.

قوله: (غسَّاقًا. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: وهذا مأخوذ من كلام أبي عبيدة

(2)

، فإنه قال في قوله تعالى:{إلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] الحميم: الماء الحار، والغسَّاق: ما هَمَى وسَالَ، والمراد في الآية ما سال من أهل النار من الصديد، وقيل: من دموعهم، وقيل: الغساق البارد الذي يحرق ببرده، قال أبو عبيد الهروي: من قرأه بالتشديد أراد السائل، ومن قرأه بالتخفيف أراد البارد. . .، إلى آخر ما في "الفتح".

وقول البخاري: (كأن الغساق) كتب عليه مولانا محمد حسن المكي في تقريره: من دأب البخاري إذا لم يتحقق عنده من كتب اللغة معنى لفظ أو غيره كالترادف ونحوه؛ بل يقول ذلك من رأيه يصدِّره بـ "كأنَّ"، انتهى.

قوله: (الحمّى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) قال العلَّامة السندي

(3)

: يحتمل أن يكون كناية عن تغطية المحموم، والسعي في خروج العرق منه بما أمكن على أن المراد بالماء العرق المعلوم بأنه يبرد الحمى، ويحتمل أن يكون كناية عن الاشتغال بما يستحق به المحموم الرحمة من التصدق وغيره من أعمال البر، على أن المراد بالماء ماء الرحمة المعارض لنار جهنم،

(1)

"فتح الباري"(6/ 331).

(2)

"مجاز القرآن"(2/ 282).

(3)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 219).

ص: 382

وقد حمله بعضهم على التصدق بالماء، والله تعالى أعلم، وللشرَّاح معان وتأويلات مشهورة، انتهى.

وبسط الكلام على معناه أيضًا في "الأوجز"

(1)

.

قوله: (لو أتيت فلانًا فكلمته. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: وحاصل كلامه: أنكم تظنون أني أكلمه في ذلك جهرة، لا والله لا أفعل ذلك، فأفتح به بابًا من الفتنة، وهذا إذا كان المراد بالكلام هو الكلام فيما يستقبل، ويمكن أن يكون المراد أنكم تزعمون أني لم أكلمه فيما مضى؛ لأنكم لم تروني كلمته، مع أن الأمر ليس كذلك، بل إني أكلمه في ذلك الباب سرًّا، ولا يمنعني كون أحد أميرًا على أن أقول: إنه خير فلا أنصحه ولا آمره بالمعروف.

قوله: (ولا أقول لرجل إن كان علي أميرًا) يعني بذلك: أن عثمان رضي الله عنه لا شك أنه من المبشرين بالجنة إلا أنه ليس معصومًا حتى آمن عليه الخطأ، فلعل أن تأخذه العصبية والحمية إذ أمرته بشيء مما يخالف طبعه أو يثقل عليه، وقد سمعت منه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن كثيرًا من الأمراء يأمر ولا يأتمر وينهى ولا ينتهي، وعثمان رضي الله عنه وإن لم يكن من جملتهم لكنه يخاف عليه أن تأخذه العصبية؛ لأنه بشر وليس معصومًا، فافهم فإنه دقيق، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام في شح هذا الحديث من كلام الشرَّاح، ثم لا يخفى عليك أن ظاهر كلام الشرَّاح قاطبة وكذا كلام الشيخ قُدِّس سرُّه والمشايخ أن المراد بالرجل في قوله:"ولا أقول لرجل. . ." إلخ، هو عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك أوّلوا وعيد الحديث في شأن عثمان، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن مصداق الأمير هو الوليد، والمعنى أن كون الوليد أميرًا لا يمنعني أن أكلم فيه بعد أن سمعت هذا الوعيد الشديد،

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 543 - 549).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 366 - 367).

ص: 383

وعلى هذا فيكون مورد الحديث هو الوليد، فحينئذ لا يشكل الحديث بمناقب عثمان رضي الله عنه، فتأمل فإنه لطيف.

قوله: (فيجتمع أهل النار عليه. . .) إلخ، ظاهره رؤية أهل النار المعذب وإن كان مسلمًا مع أن المسلمين لا يعذبون بمحضر من الكفار، قال الرازي

(1)

في تفسير قوله تعالى: {لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} الآية [التحريم: 8]: يجوز أن يعذبهم بحيث لا يراه الكفرة، لكن صريح روايات "مسند أبي حنيفة" وما في حاشيته من الروايات الكثيرة يؤيد الأول، فتأمل.

(11 -‌

‌ باب صفة إبليس وجنوده. . .) إلخ

إبليس اسم أعجمي عند الأكثر، وقيل: مشتق من أَبْلَسَ إذا أَيئِسَ، قال ابن الأنباري: لو كان عربيًا لصرف، وقال الطبري: إنما لم يصرف وإن كان عربيًّا لقلة نظيره في كلام العرب، فشبَّهوه بالعجمي، وتُعقِّب بأنّ ذلك ليس من موانع الصرف، إلى أن قال الحافظ: رُوي عن ابن عباس قال: كان اسم إبليس حيث كان مع الملائكة عزازيل، ثم إبليس بعد.

وقول البخاري: "وجنوده" كأنه يشير بذلك إلى حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: قال: "إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده، فيقول: من أضلّ مسلمًا ألبستُه التاجَ" الحديث، أخرجه ابن حبان والحاكم. ولمسلم من حديث جابر مرفوعًا:"عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه، فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة"، واختلف هل كان من الملائكة ثم مسخ لما طرد أو لم يكن منهم أصلًا؟ على قولين مشهورين، انتهى

(2)

.

قلت: ولجنود إبليس ذكر في الآيات والروايات كثيرًا، كما في روايات الباب وغيرها. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(3)

، وفيه

(1)

"التفسير الكبير"(30/ 43).

(2)

"فتح الباري"(6/ 339).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 368، 369).

ص: 384

أيضًا: بسط المفسرون منهم صاحب "الجمل"

(1)

الكلام على ذرية إبليس في تفسير سورة الكهف في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 50].

وقال العلَّامة العيني

(2)

: والكلام في صفة إبليس وحقيقة أمره على أنواع: الأول: في اسمه، هل هو مشتق أم لا؟ النوع الثاني: في بيان أصل خلقه، أي: هل كان من الجن أو من الملائكة أو ليس منهما؟ النوع الثالث: في حده وصفته، النوع الرابع: في أولاده وجنوده، ثم بسط الكلام على هذه الأنواع الأربعة، فارجع إليه، وسيأتي الكلام على وجود الجن وإثباته في الباب الآتي، ثم لا يذهب عليك أن ما في بين سطور الكتاب تحت قوله:"قرين" أي: في قوله تعالى: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وهي آية من سورة الزخرف هو ليس بوجيه عندي، فإن القرين ههنا ليس بمعنى الشيطان بل هو بمعنى المصاحب، كما لا يخفى، بل الأوجه عند هذا العبد الضعيف أنه إشارة إلى ما في سورة ق:{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} الآية [ق: 27]، وقد ذكر الإمام البخاري هذا التفسير في سورة قاف، ولم يذكره في سورة الزخرف، فتنبه.

(12 -‌

‌ باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم. . . . . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: لما كان الباب المعقود قبل ذلك يوهم أن الجن ليس منهم إلا الشر؛ لأن الشيطان هو الجن دفعه بأنهم مكلفون مثل الإنس، فمطيعهم مثاب وعاصيهم معذب، والشيطان وإن كان منهم فإنه رجم لشيطنته وعصيانه لا لكونه من الجن، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(4)

: أشار بهذه الترجمة إلى إثبات وجود الجن، وإلى كونهم مكلفين، وأما إثبات وجودهم فقد نقل إمام الحرمين عن

(1)

"تفسير الجمل"(3/ 29).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 621).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 379 - 381).

(4)

"فتح الباري"(6/ 343 - 344).

ص: 385

كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسًا، قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، قال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس، وقال عبد الجبار المعتزلي: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل، إلى آخر ما بسط الحافظ في وجودهم، وفي أي شيء خلقوا؟ وفي أنهم هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا؟ وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز".

ثم قال الحافظ

(1)

: وأما كونهم مكلفين فقد قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكي عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلفين، إلى آخر ما بسط من الاختلاف في أنه هل كان فيهم نبي أم لا؟ مع اتفاقهم على أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس، وهذا مما فضل به على الأنبياء.

وأما قول المصنف: "وثوابهم وعقابهم" فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي، واختلف هل يثابون؟ فروى الطبري وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفًا قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال الله لمؤمن الجن وسائر الأمم - أي: من غير الإنس -: كونوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا"، وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا، وروي عن أبي حنيفة نحو هذا القول، وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد.

(1)

"فتح الباري"(6/ 344 - 346).

ص: 386

ثم اختلفوا هل يدخلون مدخل الإنس على أربعة أقوال: أحدها: نعم، وهو قول الأكثر، وثانيها: يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك وطائفة، وثالثها: أنهم أصحاب الأعراف، ورابعها: التوقف عن الجواب، ثم ذكر دلائل الجمهور.

وبسط العيني

(1)

أيضًا أبحاثًا عديدةً في مسائل الجن، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(2)

، وفيه أيضًا: وعلم من ذلك أن ما قرره الشيخ مبني على مسلك الجمهور بخلاف المعروف عن الإمام أبي حنيفة، ولعل مأخذ قول الإمام في سورة الأحقاف:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، فإنه مرتب فيه على الإيمان وإجابة داعي الله الإجارة من النار فقط، انتهى.

ونقل عن الإمام التوقف أيضًا كما سيأتي في الباب الآتي.

قوله: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: فيه إثبات الجن وأن منهم مسلمين، فإن الشهادة للغير فرع كونه ناجيًا زكيًا غير مأخوذ، انتهى.

قلت: وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في المطابقة أجود مما قاله الشرَّاح. قال الحافظ وتبعه القسطلاني

(4)

: والغرض منه ههنا أنه يدل على أن الجن يحشرون يوم القيامة، انتهى.

وقال العيني

(5)

: مطابقته للترجمة في قوله: "الجن" وهو أيضًا يدل على وجود الجن خلافًا لمن أنكر ذلك، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(10/ 642 - 646).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 379 - 381).

(3)

"لامع الدراري"(7/ 383).

(4)

"فتح الباري"(6/ 346)، "إرشاد الساري"(7/ 238).

(5)

"عمدة القاري"(10/ 648).

ص: 387

(13 -‌

‌ باب قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:

29])

قال العلَّامة القسطلاني

(1)

: سقط لفظ "باب" لغير أبي ذر، قوله:"مصرفًا: معدلًا" قاله أبو عبيدة، ومراده قوله تعالى:{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53]. قوله: "صرفنا" في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا. . .} إلخ [الأحقاف: 29]، قال المؤلف: أي: "وجهنا"، وكان ذلك حين انصرف صلى الله عليه وسلم راجعًا من الطائف إلى مكة حين يئس من ثقيف، [و] عن ابن عباس: أن الجن كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله رسلًا إلى قومهم، وعن مجاهد فيما ذكره ابن أبي حاتم: كانوا ثلاثة من حران، وأربعة من نصيبين، ذكر القسطلاني أسماءهم، ثم قال: وقيل: إنهم كانوا اثني عشر ألفًا، انتهى.

قلت: لم يتعرض الشرَّاح لغرض الترجمة، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري رحمه الله أشار به إلى مستدل الإمام أبي حنيفة رحمه الله في المسألة المذكورة في الباب السابق، فإن مستدل الإمام في مسلكه فيه هو هذه الآية، إذ ليس فيها إلا الإجارة من العذاب، ففي "التفسير الأحمدي": وقال إمامنا الأعظم: إنهم لم يثابوا كالإنس، وغاية نفع إيمانهم أنهم ينجون من العذاب؛ لقوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، هكذا ذكر في "المدارك" و"الكشاف" و"البيضاوي"، انتهى.

قلت: ونُقل فيه عن الإمام التوقف أيضًا، ففي "روح المعاني"

(2)

: قال النسفي في "التيسير" - في الآية المذكورة قبل -: توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم؛ لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى، ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من النار، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل، انتهى.

ثم قال الحافظ

(3)

: لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثًا، واللائق

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 238).

(2)

"روح المعاني"(13/ 189).

(3)

"فتح الباري"(6/ 347).

ص: 388

به حديث ابن عباس الذي تقدم في صفة الصلاة في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ واستماع الجن لقراءته، وقد أشار إليه المصنف بالآية التي صدر بها هذا الباب، انتهى.

(14 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]. . . إلخ)

قال الحافظ

(1)

: كأنه أشار إلى سبق خلق الملائكة والجن [على] الحيوان، أو سبق جميع ذلك على خلق آدم، والدابة لغة: ما دبَّ من الحيوان، واستثنى بعضهم الطير لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية [الأنعام: 38]، والأول أشهر لقوله تعالى:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، وعرفًا: ذوات الأربع، وقيل: يختص بالفرس، وقيل: بالحمار، والمراد هنا المعنى اللغوي، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم:"أن خلق الدواب كان يوم الأربعاء"، وهو دال على أن ذلك قبل خلق آدم، انتهى.

قلت: وأجاد الإمام البخاري بالإشارة إلى الآيات في الترجمة حيث أشار بها إلى استيعاب جميع أنواع الحيوانات، فإنها ثلاثة أنواع:[الأول:] ما يسكن في الأرض من الحشرات، وأشار إليه بذكر الحيات، والثاني: ما يدبّ على الأرض، وأشار إليه بقوله:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، والثالث: ما يطير في الجو، وأشار إليه بقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} الآية [الملك: 19].

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: لما كانت العادة جارية بأن العظيم لا ينسب إليه الحقير، وقد كانت الفلاسفة زعمت أنه تبارك وتعالى لم يخلق إلا العقل الأول، وجملة ما يتكوّن في عالم الكون والفساد فإنه

(1)

"فتح الباري"(6/ 347).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 383 - 388).

ص: 389

إلى العقل العاشر، دفعه بأن كل ذرة من ذرات العالم وكل دابة مما على الأرض صغيرة كانت أو كبيرة، حقيرة أو ذات خطر فإنما خلقه الله تبارك وتعالى، ومنه الخلق والأمر {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، ثم إن جميع ما أورده في الباب من الروايات فمقصوده منها أن للدواب ذكرًا فيها، غير أن بعض الروايات لما كانت تتضمن فائدة أزيد من هذا القدر نبَّه عليها بزيادة لفظ الباب هناك، وأورد الرواية المتضمنة لتلك الفائدة، ثم أخذ في سرد الروايات كما كان يسردها، وهذا كقوله:"باب خير مال المسلم"، وقوله:"باب خمس من الدواب"، فإنهما لما تضمنا فائدة كثيرة الاعتناء نبَّه عليهما بلفظ الباب، فافهم، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام في توضيح ما قاله الشيخ قُدِّس سرُّه وتأييده.

(15 -‌

‌ باب خير مال المسلم غنم يتبع بها. . .) إلخ

هكذا ثبتت هذه الترجمة في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وكذا في النسخة المصرية التي عليها حاشية السندي، وليست هذه في نسخة "الفتح".

قال الحافظ

(1)

: سقطت هذه الترجمة من رواية النسفي، ولم يذكرها الإسماعيلي أيضًا، وهو اللائق بالحال؛ لأن الأحاديث التي تلي حديث أبي سعيد ليس فيها ما يتعلق بالغنم إلا حديث أبي هريرة المذكور بعده، انتهى.

وهكذا قال العلَّامة العيني

(2)

، وقد تقدم ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه مما يتعلق بهذا الباب والباب الآتي، وعلى ما أفاده لا يحتاج إلى ما اضطر إليه الشرَّاح من القول بأولوية سقوط هذا الباب، فللَّه در الشيخ قُدِّس سرُّه،

(1)

"فتح الباري"(6/ 352).

(2)

"عمدة القاري"(10/ 655).

ص: 390

وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه هو أصل مطرد من أصول التراجم، وهو الأصل السادس منها.

(16 -‌

‌ باب خمس من الدواب فواسق. . .) إلخ

كذا في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "العيني" والنسخة المصرية التي عليها حاشية العلَّامة السندي، وفي نسخة الحافظ هكذا:"باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. . . إلخ، وخمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم"، وهكذا في نسخة القسطلاني.

قال الحافظ

(1)

: ولا معنى لذكر هذا الباب ههنا، وتبعه القسطلاني في ذلك، وتقدم توجيهه اللطيف في كلام الشيخ قُدِّس سرُّه في الباب السابق.

(17 -‌

‌ باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هذا الباب في رواية أبي ذر، وحذف عند الباقين، وهو أولى؛ فإن الأحاديث التي بعده لا تعلق لها بذلك، كما تقدم نظيره، انتهى بتغير ما. وتقدم الجواب عنه في كلام الشيخ رحمه الله فيما سبق.

ثم لم يذكر الحافظ ههنا براعة الاختتام؛ لأنه جعل كتاب بدء الخلق والأنبياء كتابًا واحدًا، فذكر البراعة في آخر "كتاب الأنبياء"، ولو جعل هذا الكتاب مستقلًا فيمكن أن يقال: إن البراعة في قوله: "نقص من عمله كل يوم قيراط"، وجزاء الأعمال يكون في الآخرة بعد الموت

(3)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(6/ 356).

(2)

"فتح الباري"(6/ 360).

(3)

انظر: "لامع الدراري"(1/ 117).

ص: 391

60 -

‌ كتاب الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام

في رواية كريمة: "كتاب أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، في بعض النسخ:"باب خلق آدم صلى الله عليه وسلم" من غير ذكر شيء غيره، قاله العيني

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: الأنبياء جمع نبي، وقد قرئ بالهمزة فقيل: هو الأصل وتركه تسهيل، وقيل: الذي بالهمز من النبأ والذي بغير همز من النبوَّة وهي الرفعة، والنبوَّة نعمة يمنُّ بها الله على من يشاء، ولا يبلغها أحد بعلمه ولا كشفه ولا يستحقها باستعداد ولايته، ومعناها الحقيقي شرعًا: من حصلت له النبوَّة، وليست راجعة إلى جسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى عرض من أعراضه، بل ولا إلى علمه بكونه نبيًا، بل المرجع إلى إعلام الله له بأني نبأتك أو جعلتك نبيًا، وعلى هذا فلا تبطل بالموت كما لا تبطل بالنوم والغفلة.

قال الحافظ أيضًا

(3)

: وقع في ذكر عدد الأنبياء حديث أبي ذر مرفوعًا: "إنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل منهم ثلاثمائة وثلاث عشرة" صححه ابن حبان، وهكذا في "العيني"

(4)

، وزاد: وعن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس" رواه أبو يعلى الموصلي، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل" رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 3).

(2)

"فتح الباري"(6/ 361).

(3)

"فتح الباري"(6/ 361).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 3).

ص: 392

قلت: وحديث أبي ذر المتقدم في كلام الحافظ والعيني ذكره ابن الجوزي في "التلقيح"

(1)

مفصلًا، كما ذكر في هامش "اللامع"

(2)

، وقال القاري

(3)

في شرح حديث أبي ذر: العدد في هذا الحديث وإن كان مجزومًا به، لكنه ليس بمقطوع، فيجب الإيمان بالأنبياء والرسل مجملًا من غير حصر في عدد لئلا يخرج أحد منهم، ولا يدخل أحد من غيرهم فيهم، انتهى.

ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري رضي الله عنه كما أنه مجتهد في المسائل الفقهية لا يبالي خلاف أحد، كذلك له رأي مستقل في التاريخ لا يبالي خلاف المؤرخين، كما سترى في ذكر ترتيب الأنبياء، فقد ترى أنه ذكر إدريس بعد نوح، وجمهور المؤرخين على أن إدريس من أجداد نوح عليهما السلام إلا أن البخاري خالفهم، فذكره بعد نوح، ولعل مستنده في ذلك حديث المعراج، وقد ذكره المصنف في "باب ذكر إدريس"، فإنه وقع فيه قول إدريس للنبي صلى الله عليه وسلم:"مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح"، فلو كان إدريس من أجداد نوح لما قال: بالأخ الصالح، بل قال: بالابن الصالح، وهو استدلال جيد، وإليه ذهب الشيخ أبو بكر بن العربي، وأجاب عنه الجمهور بأنه قال ذلك على سبيل التواضع والتلطف، فليس ذلك نصًا فيه، وهكذا ترى في مواضع أخر.

وترتيبهم على ما ذكره ابن الجوزي في "التلقيح"

(4)

إذ قال: ذكر ترتيب كبار الأنبياء: كان من بعد آدم شيث عليه السلام، وهو وصي آدم، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة، قال محمد بن جرير: وإلى شيث تنتهي أنساب بني آدم كلهم اليوم، وذلك أن نسل ولد آدم، غير نسل شيث، انقرضوا فلم يبق أحد منهم، ثم كان إدريس عليه السلام، قال أبو بكر بن أبي خيثمة: وكان من بعد - بياض في الأصل -[إدريس] نوح، ثم هود ثم صالح ثم إبراهيم ثم كان

(1)

"تلقيح فهوم أهل الأثر"(ص 3).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 1، 2).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(9/ 731).

(4)

"تلقيح فهوم أهل الأثر"(ص 4 - 5).

ص: 393

لقمان الحكيم، وكان - بياضر في الأصل - موسى بن ميشا ثم من بعده موسى بن عمران، ثم يوشع بن كالب بن يوقنا، ثم حزقيل، ثم إلياس ثم طالوت الملك، ثم داود ثم سليمان ثم أيوب ثم يونس بن متى ثم شعيا ثم أمصيا ثم زكريا ويحيى وعيسى وأرميا، وكان ذو القرنين بين عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم أجمعين [في الفترة].

قال المصنف: كذا ذكروا، والصواب أن ذا القرنين كان في زمن الخليل عليه الصلاة والسلام، إلا أن يعني به اليوناني، انتهى.

(1 -‌

‌ باب خلق آدم وذريته)

ذكر المصنف آثارًا، ثم أحاديث تتعلق بذلك، ومما لم يذكره ما رواه الترمذي والنسائي والبزار، وصححه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا:"إن الله خلق آدم من تراب، فجعله طينًا، ثم تركه، حتى إذا كان حمأً مسنونًا خلقه وصوره ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، وكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه، فعطس فقال: الحمد لله، فقال الله: يرحمك ربك" الحديث، وفي الباب عدة أحاديث، منها حديث أبي موسى مرفوعًا:"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض" الحديث، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان.

وآدم اسم سرياني، وهو عند أهل الكتاب آدام بإشباع فتحة الدال بوزن خاتام، وزنه فاعال، وامتنع صرفه للعجمة والعلمية، وقال الثعلبي: التراب بالعبرانية آدام فسمي آدم به، وحذفت الألف الثانية، وقيل: هو عربي، جزم به الجوهري والجواليقي، وقيل: هو بوزن أفعل من الأدمة، وقيل: من الأديم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، وهذا عن ابن عباس، ووجهوه بأنه يكون كأعين، ومنع الصرف للوزن والعلمية، وقيل: هو

ص: 394

من أدمت بين الشيئين إذا خلطت بينهما؛ لأنه كان ماء وطينًا فخلطا جميعًا، انتهى

(1)

.

قوله: (صلصال: طين. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: وذلك لأن الصوت مأخوذ في معناه، ولا يتصوت الطين ما لم يخالط معه شيء كالرمل ونحوه، وقيل: معناه: المنتن، وأيًّا ما كان فهو مضاعف، وأصله الصلّ، فألحق بالرباعي مبالغة في المعنى، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: "طين خلط. . ." إلخ، هذا هو تفسير الفراء، هكذا ذكره، وقال أبو عبيدة

(4)

: الصلصال اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة، فإذا طبخ بالنار فهو فخار، وكل شيء له صوت فهو صلصال، وروى الطبري عن قتادة بإسناد صحيح نحوه، انتهى.

قال المجد

(5)

: صَلَّ يَصِلّ صَليلًا: صَوَّتَ، كَصَلْصَلَ صَلْصَلَةً ومُصَلْصَلًا، انتهى.

(وطوله ستون ذراعًا) قال السندي

(6)

: الظاهر بالذراع المتعارف يومئذٍ عند المخاطبين، وقيل: بذراع نفسه، وهو مردود بأن الحديث مسوق للتعريف، فهذا رد إلى الجهالة؛ لأن حاصله أن ذراعه جزء من ستين جزءًا للطول، وهذا يتصور في طويل غاية الطول وقصير غاية القصر، وبأن ذراع كل واحد مثل ربعه، فلو كان ستين ذراعًا بذراع نفسه لكانت يده قصيرة في جنب طول جسده جدًا، ويلزم منه قبح الصورة وعدم اعتدالها، وأن يكون عديم المنافع المعدّة لها اليدان، وقد وقع ههنا في عبارة الحافظ ابن حجر سهو، وتبعه القسطلاني في ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 364).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 3).

(3)

"فتح الباري"(6/ 364).

(4)

"مجاز القرآن"(1/ 350) و (2/ 243).

(5)

"القاموس"(ص 941).

(6)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 228).

ص: 395

قلت: وعبارة الحافظ في "الفتح"

(1)

: يحتمل أن يريد بقدر ذراع نفسه، ويحتمل أن يريد بقدر الذراع المتعارف يومئذ عند المخاطبين، والأول أظهر؛ لأن ذراع كل أحد بقدر ربعه، فلو كان بالذراع المعهود لكانت يده قصيرة في جنب طول جسده، انتهى.

قوله: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) أي: أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة، واستقر الأمر على ذلك، وقال ابن التِّين: قوله: "فلم يزل الخلق ينقص" أي: كما يزيد الشخص شيئًا فشيئًا، ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين، حتى إذا كثرت الأيام تبين، فكذلك هذا الحكم في النقص، ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود، فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم، وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال، انتهى.

ويمكن الجواب عنه عندي بأن يقال: إنهم شبهوا العالم كله بمنزلة شخص، فالزمن الذي من آدم إلى نوح كأنه زمن الطفولية، ومن نوح إلى إبراهيم زمن الشباب، ثم الزمن بعد زمن الكهولة، كما تقدمت الإشارة إليه في الجزء الأول في بدء الوحي تحت قوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية [النساء: 163]، وأنت خبير بأن القامة في زمن الطفولية تطول يومًا فيومًا إلى الشباب، ولما كان ها هنا السير من الطول إلى القصر فيكون السير في الأول، أي: من زمن آدم إلى نوح في القصر سريعًا غاية التسرع على عكس ما يوجد من النمو السريع في زمن الطفولية إلى الشباب، فافهم فإنه دقيق.

(1)

"فتح الباري"(6/ 366 - 367).

ص: 396

قوله: (وأما أول طعام. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: لا ينافيه ما ورد أن أول طعامهم الأرض تخبز لهم؛ لأن الأولية في إحديهما إضافية أو يقال: إنهما تؤكلان معًا، انتهى. وذكر في هامشه الكلام عليه.

(2 -‌

‌ باب الأرواح جنود مجندة. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: كذا ثبتت هذه الترجمة في معظم الروايات، وهي متعلقة بترجمة خلق آدم وذريته، للإشارة إلى إنهم ركبوا من الأجسام والأرواح، انتهى.

وعندي: بل لأن الأصل في الإنسان الأرواح، وأما معنى الحديث فقال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخيِّر من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشاءم، فلما حلَّت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم، وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.

قال الحافظ

(3)

: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي، فإنه يتعلق بأثر الخلقة

(4)

بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبًا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة؛ كإيمان

(1)

"لامع الدراري"(8/ 9).

(2)

"فتح الباري"(6/ 369).

(3)

"فتح الباري"(6/ 369 - 370).

(4)

كذا في الأصل، وفي "الفتح":"بأصل الخلقة".

ص: 397

الكافر وإحسان المسيء. وقوله: "جنود مجندة" أي: أجناس مجنسة أو جموع مجمعة، قال ابن الجوزي

(1)

: ويستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح، فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه، انتهى.

قلت: وبسط الكلام على معنى الحديث في "اليواقيت والجواهر"

(2)

، وكذا بسط القاري في "المرقاة"

(3)

.

(3 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} [هود: 25]. . .) إلخ

وهو ابن خمسين سنة، وقال مقاتل: ابن مائة سنة، وعند ابن جرير: ثلاث مائة وخمسين سنة، وقال ابن عباس: سمي نوحًا لكثرة نوحه على نفسه، واختلف في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وهو نوح بن لَمْك بن متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس، وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس، وقال القرطبي: أول نبي بعثه الله بعد آدم بتحريم البنات والعمات والخالات، وكان مولده فيما ذكره ابن جرير بعد وفاة آدم بمائة وستة وعشرين عامًا، ومات وعمره ألف سنة وأربعمائة سنة، ودفن بالمسجد الحرام، وقيل غير ذلك، وعن أبي أمامة:"أن رجلًا قال: يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: نعم، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون"، رواه ابن حبان وصححه، قال ابن كثير: وهو على شرط مسلم ولم يخرجوه، انتهى من "القسطلاني"

(4)

.

قلت: ويشكل تقديم الإمام البخاري نوحًا على إدريس عليهما الصلاة والسلام، وقد حكي الإجماع على أن إدريس من أجداده، لكن في هذا

(1)

"كشف المشكل"(3/ 564).

(2)

"اليواقيت والجواهر"(2/ 139).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 733 - 734).

(4)

"إرشاد الساري"(7/ 277، 278).

ص: 398

الإجماع نظر كما سيأتي، وتقدم منا الجواب عن أصل الإشكال في مبدأ "كتاب الأنبياء"، فكن منه على ذكر.

(4 -‌

‌ باب {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. . .} [الصافات: 123]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: إلياس بهمزة قطع، وهو اسم عبراني، وأما قوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكور، وزيادة ياء ونون في آخره، وقرأ أهل المدينة (آل ياسين) بفصل آل من ياسين، وكان بعضهم يتأول أن المراد: سلام على آل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بعيد، وإنما زيدت فيه الياء والنون كما قالوا في إدريس: إدراسين، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى عليه السلام بعث بعده، وقال عبد الله بن مسعود فيما وصله ابن أبي حاتم: هو إدريس، وفي مصحفه:"وإن إدريس لمن المرسلين"، فيكون له اسمان، وسبق أن إلياس من ولد هارون أخي موسى عليهما السلام، وعلى هذا فليس إدريس جدًا لنوح؛ لأنه من بني إسرائيل، والصحيح أن إلياس غير إدريس؛ لأن الله تعالى ذكره في سورة الأنعام حيث قال:{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى أن قال: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام: 84، 85]، فدلّ على أن إلياس من ذرية نوح، وإدريس جد أبي نوح، كما يأتي قريبًا إن شاء الله، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: وكأن المصنف رجح عنده كون إدريس ليس من أجداد نوح، ولهذا ذكره بعده، وسأذكر ما في ذلك في الباب الذي يليه، انتهى.

قلت: ما قال الحافظ من رجحان المصنف هو المختار عندي كما تقدم في مبدأ هذا الكتاب، ويشكل عليه ما سيأتي في الباب الآتي من قول المصنف في حق إدريس:"وهو جد نوح". والجواب عنه عندي: أما أولًا:

(1)

"فتح الباري"(6/ 373).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 286).

(3)

"فتح الباري"(6/ 373).

ص: 399

فبأن هذه الزيادة لم تثبت في أكثر النسخ كما قال الحافظ وغيره، وكذا هو ليس بموجود في النسخ الهندية التي بأيدينا، وثانيًا بأن يقال: إن الإمام البخاري أشار بهذا القول إلى ما هو المعروف على الألسنة حتى حكى بعضهم الإجماع عليه، وليس هذا مصير منه إلى اختيار هذا القول، فتأمل.

(5 -‌

‌ باب ذكر إدريس وقول الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:

57])

قال الحافظ

(1)

: سقط لفظ "باب" من رواية أبي ذر، وزاد في رواية الحفصي:"وهو جد أبي نوح، وقيل: جد نوح"، واختلف في لفظ إدريس، فقيل: هو عربي، واشتقاقه من الدراسة، وقيل له ذلك لكثرة درسه الصحف، وقيل: بل هو سرياني، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: وكان أول نبي أعطي النبوَّة بعد آدم وشيث، وأول من خط بالقلم، وأدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثمان سنين، وقال ابن كثير: وقد قالت طائفة: إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخط بالرمل فقال: "إنه كان نبي يخط بالرمل" الحديث، وزعم كثير من المفسرين أنه أول من تكلم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه في أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء، انتهى.

قوله: " {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} " ثم ساق حديث الإسراء، وكأنه أشار بالترجمة إلى ما وقع فيه أنه وجده في السماء الرابعة، وهو مكان علي بغير شك، واستشكل بعضهم ذلك بأن غيره من الأنبياء أرفع مكانًا منه، ثم أجاب بأن المراد أنه لم يرفع إلى السماء من هو حي غيره، وفيه نظر؛ لأن

(1)

"فتح الباري"(6/ 373 - 374).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 386 - 387).

ص: 400

عيسى أيضًا قد رفع وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية، وذكر ابن قتيبة: أن إدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان:"أن إدريس كان نبيًا رسولًا"، وذكر ابن إسحاق له أوليات كثيرة، منها [أنه] أول من خاط الثياب، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

(6 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]. . .) إلخ

هو: هود بن عبد الله بن رباح بن جاور بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسماه أخًا لهم لكونه من قبيلتهم، لا من جهة أخوة الدين، هذا هو الراجح في نسبه، وأما ابن هشام فقال: اسمه عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح، قاله الحافظ

(2)

، هكذا ذكر النسب العيني، لكن فيه "رباح بن خلود" بدل "ابن جاور"، وهكذا في تفسير الخطيب كما في هامش "الفتح".

وقال العيني

(3)

: وكان هود أشبه ولد آدم بآدم خلا يوسف، وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون الرمل بالدو والدهناء وعالج ووبار [ويبرين] وعمان إلى حضرموت إلى اليمن، وكانت ديارهم أخصب البلاد، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز، وكان هود من قبيلة يقال لها: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهم عاد الأولى، وكانوا عربًا يسكنون في المواضع المذكورة، وأرسل الله تعالى هودًا إليهم وهو قوله تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. . .} ، إلى آخر ما ذكر من أحواله.

وقال أيضًا

(4)

: ثم إن هودًا عليه السلام بقي بعد هلاك قومه ما شاء الله، ثم مات، وعمره مائة وخمسون سنة، وحكى الخطيب عن ابن عباس: أنه عاش أربعمائة وستين سنة، وكان بينه وبين نوح ثمانمائة وستين سنة، واختلفوا في أيّ مكان توفي، فقيل: بأرض الشحر من بلاد حضرموت،

(1)

"فتح الباري"(6/ 375).

(2)

"فتح الباري"(6/ 376).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 32).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 33 - 34).

ص: 401

وقبره ظاهر هناك، ذكره ابن سعد في "الطبقات"، وعن عبد الرحمن بن ساباط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيًا، وأن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل - على نبينا وعليهم الصلاة والسلام - في تلك البقعة، وقيل: بجامع دمشق في حائط القبلة يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام، قال ابن الكلبي: لم يكن بين نوح وإبراهيم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام [إلا هود وصالح]، انتهى.

قوله: (لأقتلنهم قتل عاد) وسيأتي في المغازي: بدله: "قتل ثمود".

قال الحافظ

(1)

: والغرض من الحديث ههنا قوله: "لأقتلنهم قتل عاد" أي: قتلًا لا يبقي منهم أحدًا، إشارة إلى قوله تعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، ولم يرد أنه يقتلهم بالآلة التي قتلت بها عاد بعينها، ويحتمل أن يكون من الإضافة إلى الفاعل ويراد به القتل الشديد القوي؛ إشارة إلى أنهم موصوفون بالشدة والقوة، ويؤيده أنه وقع في طريق أخرى:"قتل ثمود"، انتهى من "الفتح".

(7 -‌

‌ باب قصة يأجوج ومأجوج. . .) إلخ

ليس هذا الباب في نسخة "الفتح"، وهو موجود ههنا في نسخة العيني والقسطلاني، وكذا في النسخة الهندية التي بأيدينا، وفي النسخة المصرية التي عليها حاشية السندي، واكتفى المصنف بالآية، ولم يذكر في هذا الباب حديثًا، ولعدم ذكر المصنف حديثًا تحت الباب وجوه شهيرة تقدمت مرارًا في أمثال هذا الباب، فلا حاجة إلى إعادتها، وهو الأصل السابع والعشرون من أصول التراجم، وهذا كله على النسخ الهندية والمصريه، فإن فيها بعد قول الله تعالى:{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية [الكهف: 94]:: "باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ. . .} إلخ"

(1)

"فتح الباري"(6/ 377).

ص: 402

[لكهف: 83]، فتبقى على هذا هذه الترجمة من غير حديث، ولا يشكل عدم ذكر الحديث بحسب نسخة العيني والقسطلاني، فإنه ليس في نسختهما لفظ "باب" على الآية الثانية، أي: قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} ، وأما قصة يأجوج ومأجوج فبسط الكلام عليها العلَّامة العيني.

وقال القسطلاني

(1)

: قال في "الأنوار": هما قبيلتان من ولد يافث بن نوح، وقيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل، وعن قتادة فيما ذكره محيي السُّنَّة: أن يأجوج ومأجوج اثنتان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت واحدة، فهم الترك، سموا بالترك؛ لأنهم تركوا خارج السدِّ، وعن حذيفة مرفوعًا: إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح، قال: وهم ثلاثة أصناف: صنف منهم مثل الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، وفي "كتاب الأمم" لابن عبد البر: أن مقدار الربع العامر من الدنيا مائة وعشرون سنة، وأن تسعين منها ليأجوج ومأجوج، إلى آخر ما ذكر القسطلاني من أحوالهم. وفي "القول الفصيح": ثم الظاهر من صنيع المؤلف أنه يرى ذا القرنين نبيًا، وإلا فلا وجه لذكره في عداد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، أما ذكر يأجوج ومأجوج فلتعلق قصتهم بقصة ذي القرنين، وعلى هذا فالمناسب إما إدراجهما تحت ترجمة ذي القرنين أو وضعهما في ترجمة مستقلة بعد هذه الترجمة، وأما ما وقع في النسخ الموجودة عندنا من البداية بقصتهما والاستتباع بقصة ذي

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 297).

ص: 403

القرنين، فهذا لا يرجع إلى معنى صحيح، وليس له وجه وجيه عندنا إلا أن يكون سوى بها تمهيدًا لذكر ذي القرنين، وهذا كما ترى، ولعل أمثال تلك السقطات وقعت من النساخ، انتهى.

‌(باب قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:

83])

قال العلَّامة العيني

(1)

: وذو القرنين المذكور في القرآن المذكور في ألسنة الناس بالإسكندر ليس الإسكندر اليوناني، فإنه مشرك، ووزيره أرسطاطاليس، والإسكندر المؤمن الذي ذكره الله في القرآن اسمه عبد الله بن الضحاك، قاله ابن عباس، وقيل: مصعب بن عبد الله إلى آخر ما ذكر في نسبه، وقد جاء في حديث أنه من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له: ابن الفيلسوف لعقله، قال مقاتل: هو من حمير، ووفد أبوه إلى الروم، فتزوج امرأة من غسَّان، فولدت له ذا القرنين عبدًا صالحًا، وقال وهب بن منبِّه: اسمه الإسكندر.

قلت: ومن هنا يشارك الإسكندر اليوناني في الاسم، وكثير من الناس يخطئون في هذا، ويزعمون أن الإسكندر المذكور في القرآن هو هذا، وهذا زعم فاسد؛ لأن الإسكندر اليوناني الذي بنى الإسكندرية كافر مشرك، وذو القرنين عبد صالح ملك الأرض شرقًا وغربًا، حتى ذهب جماعة إلى نبوته، منهم الضحاك وعبد الله بن عمر، وقيل: كان رسولًا، ووزيره الخضر عليه السلام.

واختلفوا في زمانه، فقيل: في القرن الأول، من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام، وأنه ولد بأرض الروم، وقيل: كان بعد نمرود لعنه الله، وقيل: كان في الفترة بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقيل: في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والأصح أنه

(1)

"عمدة القاري"(11/ 42 - 43).

ص: 404

كان في أيام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولما فاته عين الحياة وحظي بها الخضر عليه السلام اغتم غمًّا شديدًا، فأيقن بالموت، فمات بدومة الجندل، وكان منزله، وقيل: بشهر زور، وقيل: بأرض بابل، وكان قد ترك الدنيا وتزهد، وقال مجاهد: عاش ألف سنة مثل آدم عليه السلام، وقال ابن عساكر: بلغني أنه عالش ستًّا وثلاثين سنة، وسمي ذا القرنين؛ لأنه ملك المشرق والمغرب، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، ولأنه كان له قرنان، أي: ضفيرتان، أو لقب بذلك لشجاعته، انتهى مختصرًا من "العيني" بزيادة من "القسطلاني"

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: وفي إيراد المصنف رحمه الله ترجمة ذي القرنين قبل إبراهيم إشارة إلى توهين قول من زعم أنه الإسكندر اليوناني؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى عليه السلام، وبين زمن إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة، والحق أن الذي قصَّ الله نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من أوجه، ثم ذكر عدة أوجه تقدم بعض منها في كلام العيني، منها أن ذا القرنين كان من العرب، وأما الإسكندر فهو من اليونان، والعرب كلها من ولد سام بن نوح بالاتفاق، وإن وقع الاختلاف هل هم كلهم من بني إسماعيل أو لا؟ واليونان من ولد يافث بن نوح على الراجح فافترقا، ثم بسط الكلام على نبوته، وملخصه أن فيه ثلاثة أقاويل، قيل: كان نبيًا، وقيل: كان من الملائكة، وقيل: كان من الملوك، وعليه الأكثر.

وقال في مقدمة "الفتح"

(3)

: مال البخاري إلى أنه نبي، ولذا ذكره في الأنبياء، وإلى أنه مقدم على إبراهيم عليه السلام، ولذا قدَّم ترجمته على ترجمته.

ثم اعلم أنه وقع في نسخة "الفتح" قبل هذا الباب المذكور "باب قول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا. . .} " إلخ، مع ذكر ما فيه

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 298).

(2)

"فتح الباري"(6/ 382 - 383).

(3)

مقدمة "فتح الباري"(ص 472).

ص: 405

من الأحاديث، وسيجيئ هذا الباب والأحاديث الذي ذكر فيه في النسخة الهندية، وكذا في "المصرية" و"العيني" و"القسطلاني" بعد عدة أبواب.

قال الحافظ

(1)

: وقع هذا الباب "باب قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ. . .} " إلخ، في أكثر نسخ البخاري متأخرًا عن هذا الموضع بعدة أبواب، والصواب إثباته ههنا، وهذا مما يؤيد ما حكاه أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي: أن نسخة الأصل من البخاري كانت ورقًا غير محبوك، فربما وجدت الورقة في غير موضعها، فنسخت على ما وجدت، فوقع في بعض التراجم إشكال بحسب ذلك، وإلا فقد وقع في القرآن ما يدل على أن ثمود كانوا بعد عاد كما كان عاد بعد قوم نوح، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:

125])

قال الحافظ

(2)

: كأنه أشار بهذه الآيات إلى ثناء الله تعالى على إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم بالسريانية معناه: أب راحم، وإبراهيم هو ابن آزر، واسمه تارح - بمثناة وراء مفتوحة وآخره حاء مهملة - ابن ناحور - بنون ومهملة مضمومة - ابن شاروخ - بمعجمة وراء مضمومة وآخره خاء معجمة - ابن راغوء - بغين معجمة - ابن فالخ - بفاء ولام مفتوحة بعدها معجمة - أبن عبير، ويقال: عابر - بمهملة وموحدة - ابن شالخ - بمعجمتين - ابن أرفخشذ بن سام بن نوح، لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك إلا في النطق ببعض هذه الأسماء، نعم ساق ابن حبان في أول تاريخه خلاف ذلك، وهو شاذ، انتهى.

وبسط الحافظ أيضًا في معنى الخليل ومأخذ اشتقاقه.

(1)

"فتح الباري"(6/ 381).

(2)

"فتح الباري"(6/ 389).

ص: 406

(9 -‌

‌ باب {يَزِفُّونَ} : النسلان في المشي)

هكذا وقع هذا الباب في النسخ الهندية، وكذا في نسخة العيني والقسطلاني والنسخة المصرية التي عليها حاشية السندي، وليس هو في نسخة "الفتح".

قال الحافظ

(1)

: وقع في رواية الحموي والكشميهني قبل حديث أبي هريرة - أي: الحديث الأول من هذا الباب - هذا ما صورته: " {يَزِفُّونَ}: النسلان في المشي"، وفي رواية المستملي والباقين "باب" بغير ترجمة، وسقط ذلك من رواية النسفي، ووهم من وقع عنده "باب {يَزِفُّونَ}: النسلان" فإنه كلام لا معنى له، والذي يظهر ترجيح ما وقع عند المستملي، وقوله: "باب" بغير ترجمة يقع عندهم كالفصل من الباب، وتعلقه بما قبله واضح، فإن الكل من ترجمة إبراهيم، وأما تفسير هذه الكلمة من القرآن فإنها من جملة قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه حين كسر أصنامهم، قال الله تعالى:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94]، قال مجاهد: الوزيف: النسلان، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم، انتهى.

وفي هامش الهندية

(2)

: وقع هذا الباب بغير ترجمة، أما قوله:" {يَزِفُّونَ}. . ." إلخ، ليس هو ترجمة الباب بل أراد به تفسير قوله تعالى:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94]، وفيه عن الكرماني: زف القوم في مشيهم أي: أسرعوا، والنسلان الإسراع، انتهى.

قلت: وسيأتي في "البخاري" في تفسير سورة الصافات قوله: " {يَزِفُّونَ}: النسلان في المشي".

(1)

"فتح الباري"(6/ 399).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(6/ 751).

ص: 407

(11 -‌

‌ باب قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51]. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا اقتصر في هذا الباب على تفسير هذه الكلمة، وبذلك جزم الإسماعيلي وقال: ساق الآيتين بلا حديث، انتهى.

قال الحافظ: والتفسير المذكور مروي عن عكرمة عند ابن أبي حاتم، ولعله كان عقب هذا في الأصل بياض فحذف. وقصة أضياف إبراهيم أوردها ابن أبي حاتم من طريق السدي مبينة، وفيها: أنه لما قرب إليهم العجل قالوا: إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن، قال إبراهيم: إن له ثمنًا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، قال: فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلًا، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق عثمان بن محصن قال: كانوا أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفاييل، وفي رواية: أن جبريل مسح بجناحيه العجل فقام يدرج حتى لحق بأمه في الدار، انتهى.

قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: مدح لهؤلاء الثلاثة بأنه لو كان سؤال إبراهيم لأجل الشك لكنا أحق به، ولكنا لم نشك فهو أولى بعدم الشك، ولكنه إنما سأل ذلك طلبًا للمشاهدة ليطمئن عند الخصومات، فإن الخبر دون المعاينة. "ويرحم الله لوطًا" تمنى أن تكون له قوة من نفسه أو قومه فيقاوم بها أعداء الله ولا يتركهم يتعرضوا لأضيافه، فقوله:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أراد بها القوة الحاصلة له من دون إعانة أحد. وقوله: {رُكْنٍ شَدِيدٍ} قصد به القوة الحاصلة له بإعانة من قومه، وأما الاستعانة بالرب تبارك وتعالى فإنه لم يذكرها؛ لأنه كان يعلم أن الله جعل الدنيا عالم أسباب، فليس فيها شيء إلا وهو مستند إلى سبب له، فلما كانت الاستعانات والإعانات في الدار الدنيا منحصرتين

(1)

"فتح الباري"(6/ 411).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 21 - 26).

ص: 408

في نوعين من نفسه ومن غيره ذكرهما، والله هو المنظور إليه المعتمد عليه في الكل، انتهى. وبسط في هامشه الكلام عليه فارجع إليه.

وفيه أيضًا ذكر شيخ مشايخنا الدهلوي في "الإنجاح"

(1)

: ذكر شيخنا المجدد: أن العارف الكامل متى توجه إلى هداية الخلق عرضت له مناسبة بالعوام؛ لأنه لو لم يكن لانسدّ باب النفع، فمن كان رجوعه إلى الخلق أكمل كان إرشاده أوفر، قال المرتعش: ما وجدت باطني بباطن الخواص إلا وجدت ظاهري بظاهر العوام، فربما يحتاج إلى الاستدلال، فلما كان إرشاد نبينا صلى الله عليه وسلم أعمّ كان ظاهره معنا أتمّ، ولذا قال:"لا رهبانية في الإسلام"، فعلى هذا كان أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام، انتهى.

قلت: وهذا الذي أشار إليه الشيخ قُدِّس سرُّه يسمى في الاصطلاح بالرجوع إلى البداية، ثم ذكر فيه أقوال عديدة في سبب سؤال إبراهيم هذا.

(12 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ. . .} [مريم: 54]) إلخ

قدَّمه على الباب الآتي؛ لأنه أسن من إسحاق كما سيأتي في الباب الآتي.

قال العيني

(2)

: أي: بيان ما جاء في حق إسماعيل من قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} الآية، وتمام الآية:{وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} ، قال المفسرون: قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]: كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة، واختلفوا في تلك المدة، فقيل: حولًا حتى أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال: إن الفاجر الذي وعدته بالقعود إبليس عليه اللعنة، وقوله:{رَسُولًا} أي: إلى جرهم، انتهى.

(1)

"سنن ابن ماجه مع إنجاح الحاجة"(ص 291). (ط): الهند.

(2)

"عمدة القاري"(11/ 89).

ص: 409

وقال القسطلاني

(1)

: قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها، وقال ابن كثير: يعني: ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام به ووفاها حقها، ثم ذكر نحو ما تقدم عن العيني، وقال أيضًا: وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] فوفى به، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: ذكر المصنف فيه حديث سلمة بن الأكوع: "ارموا بني إسماعيل"، وقد تقدم شرحه في "باب التحريض على الرمي" من "كتاب الجهاد"، واحتج به المصنف على أن اليمن من بني إسماعيل كما سيأتي في أوائل المناقب، انتهى.

ثم اعلم أن الذبيح إسماعيل أو إسحاق؟ مسألة خلافية شهيرة، بسط الكلام عليها أيضًا الحافظ ابن القيم في "زاد المعاد"

(3)

، وحقق أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، وبه جزم ابن عابدين رحمه الله.

(13 -‌

‌ باب قصة إسحاق بن إبراهيم)

قال العلَّامة العيني

(4)

: أي: بيان ذكر قصة إسحاق، وعن ابن إسحاق: بشَّر الله إبراهيم بإسحاق من سارة، فحملت وكانت بنت تسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وقد كانت هاجر حملت بإسماعيل فوضعتا معًا، وشبَّ الغلامان، ونقل ابن كثير عن أهل الكتاب أن هاجر ولدت إسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثلاثون سنة قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة، وقال ابن الجوزي في "أعمار الأعيان": إن إسحاق عاش مائة وثمانين سنة، وفي قول وهب بن منبه: عاش مائة وخمسة وثمانين سنة، ودفن عند قبر أبيه إبراهيم في مزرعة جروم

(5)

، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 347، 348).

(2)

"فتح الباري"(6/ 413).

(3)

"زاد المعاد"(1/ 71).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 89).

(5)

كذا في الأصل، وفي "العمدة":"مزرعة حبرون".

ص: 410

قلت: ولعل الإمام البخاري أشار بالقصة إلى ما ذكره العلَّامه العيني.

وقال القسطلاني

(1)

: قوله: "فيه" أي: في الباب "ابن عمر وأبو هريرة. . ." إلخ، وكأنه يشير بالحديث الأول إلى الآتي إن شاء الله تعالى في قصة يوسف، وبالثاني إلى الحديث المذكور في الباب اللاحق، كذا قرره في "الفتح"

(2)

، ثم قال: وأغرب ابن التِّين فقال: لم يقف البخاري على سنده فأرسله، وهو كلام من لم يفهم مقاصد البخاري، ونحوه قول الكرماني: قوله: "فيه" أي: في الباب حديث من رواية ابن عمر في قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام فأشار البخاري إليه إجمالًا، ولم يذكره بعينه؛ لأنه لم يكن على شرطه، انتهى. قال: وليس الأمر كذلك لما بيَّنته.

وتعقبه العيني فقال: هذه مناقشة باردة؛ لأن كل من له أدنى فهم يفهم أن ما قاله ابن التِّين والكرماني هو الكلام الواقع في محله، وكلاهما أوجه من كلامه، فلينظر المتأمل الحاذق في حديث ابن عمر الذي في قصة يوسف هل يجد لما ذكره من الإشارة إليه وجهًا قريبًا أو بعيدًا؟ وأجاب الحافظ في "انتقاض الاعتراض": بأنه لما أورد في آخر قصة يوسف حديث ابن عمر: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم" الحديث، وكان معناه أن من جملة قصته أنه من أنبياء الله تعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سوّى بينه وبين من ذكر من آبائه في صفة الكريم، فأشار إلى ذلك في قصة والده للتسوية المذكورة، وأما حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه، فإنه يشتمل على ما تضمنه حديث ابن عمر مع بيان سبب الحديث، وغير ذلك من الزيادة فيه. . .، إلى آخر ما قال.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 349).

(2)

"فتح الباري"(6/ 412).

ص: 411

(14 -‌

‌ باب قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ. . .} [البقرة: 133]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أورد فيه حديث أبي هريرة: "أكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله" الحديث، ومناسبته بهذه الترجمة من جهة موافقة الحديث الآية في سياق نسب يوسف عليه السلام، فإن الآية تضمنت أن يعقوب خاطب أولاده عند موته محرضًا لهم على الثبات على الإسلام، وقال له أولاده: إنهم يعبدون إلهه وإله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ومن جملة أولاد يعقوب يوسف عليه السلام، فنص الحديث على نسب يوسف، وأنه ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وزاد أن الأربعة أنبياء في نسق، انتهى.

وهكذا ذكر العلَّامة العيني

(2)

في المطابقة بالباب: يستفاد من كلامهما أن الغرض من الترجمة بيان نسب يوسف عليه السلام، ويشكل ههنا أن هذه الترجمة تأتي قريبًا فيلزم التكرار، وسيأتي جواب الشرَّاح عن التكرار هناك.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف في الفرق بين الترجمتين أن المقصود ههنا بيان ذكر يعقوب عليه السلام لا ذكر يوسف ونسبه كما قالوا، وفي الباب الآتي الغرض بيان ذكر نسب يوسف فلا تكرار حينئذ، أو يقال: إن المقصود ههنا بيان ملَّة إبراهيم وإسحاق، وبه ينحل ما يشكل على الترجمة الآتية في ذكر لوط عليه السلام بأنه مقدم على يعقوب، فلم أخره المصنف عنه؟ والله أعلم بالصواب.

(15 -‌

‌ باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ. . .} [الأعراف: 80]) إلخ

يقال: إنه لوط بن هاران بن تارخ، وهو ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وقد قص الله تعالى قصته مع قومه في الأعراف وهود والشعراء والنمل

(1)

"فتح الباري"(6/ 414).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 90).

ص: 412

والصافات وغيرها، وحاصلها أنهم ابتدعوا وطء الذكور، فدعاهم لوط عليه السلام إلى التوحيد وإلى الإقلاع عن الفاحشة، فأصروا على الامتناع، ولم يتفق أن يساعده منهم أحد، وكانت مدائنهم تسمى سدوم، وهي بغور زغر من البلاد الشامية، فلما أراد الله إهلاكهم بعث جبريل وميكائيل وإسرافيل إلى إبراهيم، فاستضافوه، فكان ما قص الله في سورة هود، ثم توجهوا إلى لوط فاستضافوه فخاف عليهم من قومه، وأراد أن يخفي عليهم خبرهم، فنمّت عليهم امرأته، فجاؤوا إليه وعاتبوه على كتمانه أمرهم، وظنوا أنهم ظفروا بهم، فأهلكهم الله على يد جبريل، فقلّب مدائنهم بعد أن خرج عنهم لوط بأهل بيته إلا امرأته فإنها تأخرت مع قومها، أو خرجت مع لوط فأدركها العذاب، فقلب جبريل المدائن بطرف جناحه، فصار عاليها سافلها، وصار مكانها بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها ولا بشيء مما حولها، انتهى

(1)

.

(16 -‌

‌ باب قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر: 61، 62]. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: قوله: "بركنه بمن معه. . ." إلخ، هو تفسير الفراء، وقال أبو عبيدة

(3)

: فتولى بركنه وبجانبه سواء، إنما يعني: ناحيته، وقال في قوله:{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: عشيرة عزيزة منيعة، كذا أورد المصنف هذه الجملة في قصة لوط، وهو وهم، فإنها من قصة موسى في قوله تعالى:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات: 38، 39] والسبب في ذلك أن ذلك وقع تلو قصة لوط حيث قال تعالى في آخر قصة لوط: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 37]، ثم قال عقب ذلك:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات: 38، 39]، أو ذكره

(1)

انظر: "فتح الباري"(6/ 415).

(2)

"فتح الباري"(6/ 416).

(3)

"مجاز القرآن"(2/ 227).

ص: 413

استطرادًا لقوله في قصة لوط: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، انتهى من "الفتح" بزيادة من "القسطلاني"

(1)

. واقتصر القسطلاني على توجيه أنه ذكره استطرادًا.

(17 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:

73])

هكذا هذه الترجمة ههنا في النسخ الهندية، وكذا في نسخة العيني والقسطلاني، وقد وقع هذا الباب في نسخة "الفتح" قبل عدة أبواب بعد ذكر هود كما نبَّهنا عليه هناك.

قال الحافظ

(2)

اعتذارًا عما في النسخ الهندية إذ قال: أورد المصنف ههنا قصة ثمود وصالح، وقد قدمتها في مكانها عقب قصة عاد وهود، وكأن السبب في إيرادها ههنا أنه لما أورد التفاسير من سورة الحجر كان آخرها قوله:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 76 - 80] إلخ، فجاءت قصة ثمود وهم أصحاب الحجر في هذه السورة تالية بقصة قوم لوط، فتخلل بينهما قصة أصحاب الأيكة مختصرة، وأوردها من أوردها على ذلك، انتهى.

أما ثمود فهم قبيلة من العرب، سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام، وقيل: سموا لقلة مائهم من الثمد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وأما صالح فهو ابن عبيد بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود، هكذا في "القسطلاني"

(3)

.

وأما في "الفتح"

(4)

: فقال: هو صالح بن عبيد بن أسيف بن ماشخ

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 352).

(2)

"فتح الباري"(6/ 416).

(3)

"إرشاد الساري"(7/ 354).

(4)

"فتح الباري"(6/ 379).

ص: 414

ابن عبيد بن حاجر بن ثمود، وذكر العيني

(1)

الاختلاف في نسبه، وذكر في جملة أحواله عليه السلام: ولما شبّ صالح بعثه الله إلى قومه قبل البلوغ، ولكنه قد راهق، قاله وهب، وقال ابن عباس: لما تم له أربعون سنة أرسله إليهم، وذكره الله تعالى في القرآن في خمسة مواضع، وبيَّن قصته مع قومه، فلما أهلك الله قومه نزل صالح بفلسطين، وأقام بالرملة، وقيل: إلى مكة، وأقام هو ومن معه من المؤمنين يتعبدون حتى ماتوا، فقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة والحجر، قيل: مات وهو ابن مائة وثمان وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاثمائة وست وثلاثين سنة، وحكاه الخطيب عن ابن عباس، وهو الأظهر، وكان بين صالح وبين هود مائة سنة، وبين صالح وبين إبراهيم ستمائة سنة وثلاثون سنة، انتهى ملخصًا.

قوله: (من البئر التي كانت تردها الناقة) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: فيه دلالة على أنه كانت لهم آبار شتى، وأن الانتياب والتهايؤ إنما كان في بئر واحد لا الآبار كلها، غير أن المرأة التي بعثت قدار على عقر الناقة كانت من أهل هذه البئر التي ترد عليها الناقة، انتهى.

وذكرت في هامشه قصة عقر الناقة بطولها.

(18 -‌

‌ باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ. . .} [البقرة: 133]) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا ثبتت هذه الترجمة ههنا، وهي مكررة كما سبق قريبًا، والصواب أن حديثها تلو حديث الباب الذي يليها وهي من قصة يوسف عليه السلام، انتهى.

قلت: وعلى تقدير ثبوت هذه الترجمة الفرق بين الترجمتين هو ما تقدم.

(1)

انظر: "عمدة القاري"(11/ 94 - 95).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 29).

(3)

"فتح الباري"(6/ 417).

ص: 415

(19 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف:

7])

أي: في قصتهم {آيَاتٌ} علامات على قدرته تعالى أو على نبوتك أو عبرة للمعتبرين، فإنها تشتمل على رؤيا يوسف وما حقق الله منها، وعلى صبر يوسف عن قضاء الشهوة، وعلى الرق والسجن وما آل إليه أمره من الملك، وعلى حزن يعقوب وصبره، وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد، ووصفها الله تعالى بأنها أحسن القصص إذ ليس في القصص غيرها ما فيها من العبر والحكم مع اشتمالها على ذكر الأنبياء والصالحين وسير الملوك والمماليك والتجار والنساء وحيلهن ومكرهن والتوحيد وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: اسم إخوة يوسف: روبيل - بضم الراء - وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وداني، ونفتالي - بفاء ومثناة -، وكاد، وأشير، وأيساجر، ورايلون، وبنيامين، وهم الأسباط، وقد اختلف فيهم فقيل: كانوا أنبياء، ويقال: لم يكن فيهم نبي، وإنما المراد بالأسباط قبائل من بني إسرائيل، وقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(3)

: ويوسف فيه ستة أوجه: ضم السين وكسرها وفتحها مع الهمزة وتركه، واختلفوا فيه هل هو أعجمي أو عربي؟ فالأكثرون على أنه أعجمي ولهذا لم ينصرف، وقيل: عربي مأخوذ من الأسف وهو الحزن، أو الأسيف وهو العبد، وقد اجتمعا في يوسف عليه السلام فسمي به، وقال مقاتل: ذكر الله يوسف في القرآن في سبعة وعشرين موضعًا، انتهى.

قوله: (سألت أم رومان وهي أم عائشة عما قيل فيها. . .) إلخ، كتب

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 358 - 359).

(2)

"فتح الباري"(6/ 419).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 101).

ص: 416

الشيخ في "اللامع"

(1)

: في الرواية حذف واختصار كثير حتى أخل بالمرام وأوهم خلاف المقصود، وقد مرت الرواية بتمامها، فعليها ينبغي أن تحمل ما ههنا، فقوله:"وهي تقول" ليس حالًا عن قوله: "ولجت علينا امرأة من الأنصار"؛ لأن ذلك يصير غلطًا، بل المعنى ولجت امرأة من الأنصار، فذهبت بها عائشة قبل المناصع، فبينا ذاهبة معها إذ عثرت فقامت وهي تقول: فعل الله بفلان وفعل، فقالت: إنه نمى الحديث، وغير ذلك من الاختصارات التي لا تكاد تذهب على بصير، وقوله:"كمثل يعقوب" رواية بحسب المعنى، وإلا فقد صرحت عائشة فيما تقدم أنها لم تذكر اسم يعقوب، فعبرت عنه بأبي يوسف، وبه يصح إيراد الحديث ههنا في قصة يوسف عليه السلام، انتهى.

ومطابقة حديث عائشة في شرح قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. . .} [يوسف: 110] إلخ، ما قال الحافظ

(2)

: هو وقوع الآية في سورة يوسف ودخوله هو في عموم قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109]، وكان مقامه في السجن تلك المدة الطويلة إلى أن جاءه النصر من عند الله تعالى بعد اليأس، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: " {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. . .} إلخ"[يوسف: 110] والحاصل: أن عائشة قرأتها بالتشديد من التفعيل، وقراءة العامة بتخفيفه، فسأل عروة عن وجه القراءة ما هو؟ بالتخفيف أو التشديد؟ فقالت: كذبه قومهم، فكانوا مكذبين، فأورد عليه عروة أنه لو كان المراد ذلك لما كان لقوله:{وَظَنُّوا} معنى؛ لأنهم تيقنوا بتكذيبهم؛ لأن القوم كانوا يكذبونهم جهرة وعيانًا، فقالت عائشة: نعم استيقنوا بتكذيبهم، لكنهم غير مقصود بهذا، فإن المتيقن تكذيب المخالفين، والمظنون تكذيب الموافقين،

(1)

"لامع الدراري"(8/ 29 - 30).

(2)

"فتح الباري"(6/ 420).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 33 - 36).

ص: 417

فظنت الرسل بتأخر النصر أن الذين آمنوا بهم وصدقوهم من قبل سيكذبونهم، غير أن عائشة لم يكن ختمت كلامها ولا زادت على قولها: لقد استيقنوا بذلك إذ بدر عروة فقال: لما كان تكذيبهم مستيقنًا به لم يكن لقراءة التشديد معنى فيكون كذبوا بالتخفيف، فقالت عائشة بعد ذلك ما تم به كلامها، ومعنى قوله:{كذبُوا} بالتخفيف أنهم وعدوا كذبًا، ولذلك تبرأت عائشة من هذا المعنى، والذين يقرأونها مخففًا يرجعون الضمير إلى الأتباع لا إلى الرسل، والمعنى: وظن الأتباع أن الرسل وعدوهم كذبًا، ثم إن المراد بالظن هو الهاجس والوسوسة الغير المؤاخذ عليها، فكان يخطر ببالهم ذلك، ويدفعونه حسب طاقتهم، فلا يضر ذلك إيمانهم، وبهذا المعنى لا يبعد إرجاع الضمير إلى الرسل أيضًا، أي: توسوس الرسل أن وعدهم الذي وعدوا من الإنجاء والنصر كان كاذبًا، فإن ذلك وإن لم يستقر في قلوبهم حاشاهم عن ذلك إلا أنه كان يخطر بالبال خطورًا ما، وكانوا بشرًا، والبشرية لا تتخلف عن مقتضاها، والله تعالى أعلم، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام من الشرَّاح والمفسرين.

(20 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:

83])

وذكر الحافظ نسبه والاختلاف فيه، ثم قال

(1)

: وزعم بعض المتأخرين أنه من ذرية روم بن عيص، ولا يثبت ذلك، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام، وأن أباه كان ممن آمن بإبراهيم، وعلى هذا فكان قبل موسى، وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أمص، والله أعلم. وقال الطبري: كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان.

(1)

"فتح الباري"(6/ 420).

ص: 418

ثم قال الحافظ بعد ذكر الحديث

(1)

: لم يثبت عند البخاري في قصة أيوب شيء، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شرطه، وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جريج، وصححه ابن حبان والحاكم بسنده عن أنس: أن أيوب عليه السلام ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، إلى آخر ما ذكر الحافظ من القصة بطولها، فارجع إليه لو شئت.

وقال أيضًا: واختلف في مدة بلائه، فقيل: ثلاث عشرة سنة كما تقدم، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: سبع سنين، وقيل: إن امرأته قالت له: ألا تدعو الله ليعافيك؟ فقال: قد عشت صحيحًا سبعين سنة أفلا أصبر سبع سنين! والصحيح ما تقدم أنه لبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، وروى الطبري: أن مدة عمره كانت ثلاثًا وتسعين سنة، فعلى هذا فيكون عاش بعد أن عوفي عشر سنين، والله تعالى أعلم، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: وكان روميًا من ولد عيص بن إسحاق، استنبأه الله، وكثر أهله وماله، فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله والمرض في بدنه، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل إلى أن قال: وهو في كل ذلك صابر يحمد الله ويحسن الثناء عليه، ولذا كان عبرة للصابرين وذكرى للعابدين، انتهى.

(21 -‌

‌ باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى. . .} [مريم: 51]) إلخ

في رواية أبي ذر: "قول الله: {وَاذْكُرْ}. . ." إلخ، وليس فيه لفظ:"باب"، وموسى هو ابن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي بن يعقوب، لا اختلاف في نسبه، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 421 - 422).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 366 - 367).

(3)

"فتح الباري"(6/ 422).

ص: 419

وقال القسطلاني

(1)

في شرح قوله: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} : قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي أمامة: قال الحواريون: يا روح الله! أخبرنا عن المخلص لله، قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس.

قوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وعند ابن جرير عن ابن عباس: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أُدْني حتى سمع صريف القلم، انتهى.

وصريف القلم صوت جريانه بما يكتب من أقضية الله ووحيه وما ينسخه من اللوح المحفوظ، وقال ابن كثير: صريف القلم بكتابة التوراة، وقال السدي:{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أدخل في السماء وكلَّمه، انتهى.

(22 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. . .} [طه: 9]) إلخ

سقط لفظ "باب" عند أبي ذر وكريمة.

قوله: (قال ابن عباس: {الْمُقَدَّسِ}: المبارك {طُوًى}: اسم الوادي) هكذا وقع هذا التفسير وما بعده في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة، ولم يذكره جميع رواة البخاري هنا، وإنما ذكروا بعضه في تفسير سورة طه، وقال أيضًا في آخر الباب: لمح المصنف بهذه التفاسير لما جرى لموسى في خروجه إلى مدين، ثم في رجوعه إلى مصر، ثم في أخباره مع فرعون، ثم في غرق فرعون، ثم في ذهابه إلى الطور، ثم في عبادة بني إسرائيل العجل، وكأنه لم يثبت عنده في ذلك من المرفوعات ما هو على شرطه، وأصح ما ورد في جميع ذلك ما أخرجه النسائي وأبو يعلى بإسناد حسن عن ابن عباس في حديث القنوت الطويل في قدر ثلاث ورقات، وهو في تفسير طه عنده، وعند ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه وغيرهم ممن خرج التفسير المسند، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 368).

(2)

"فتح الباري"(6/ 424 - 427).

ص: 420

(23 -‌

‌ باب {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .} [غافر: 28]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا وقعت هذه الترجمة بغير حديث، ولعله أخلى بياضًا في الأصل، فوصل كنظائره، ووقع هذا في رواية النسفي مضمومًا إلى ما في الباب الذي بعده، وهو متجه، واختلف في اسم هذا الرجل، فذكر أقاويل مختلفة منها شمعان بالشين المعجمة، قال: وصححه السهيلي، انتهى.

قلت: واقتصر على ذكر هذا الاسم العلَّامة القسطلاني

(2)

، وقال العيني

(3)

: في اسمه ستة أقوال، ثم ذكرها.

(24 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه: 9]. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: ذكر في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة في صفة موسى وعيسى وغير ذلك، ثانيها: حديث ابن عباس وفيه ذكر يونس، ثالثها: حديثه في صوم عاشوراء، انتهى.

ثم هذه الترجمة بظاهرها مكررة قد تقدم مثله قبل باب، وليس بتكرار في الحقيقة، وذلك لأن هذه الأبواب كلها في حديث موسى، أي: في ذكره وأحواله، فالمقصود في هذين البابين هو الجزء المذكور بعده، ففي الباب الأول المقصود هو قوله:{إِذْ رَأَى نَارًا} الآية [طه: 10]، أي: بيان بدء نبوته، والمقصود في هذا الباب هو حال ما بعد النبوَّة، أي: تكليم الله تعالى إياه، فلا تكرار، وللتوجيه مساغ.

(1)

"فتح الباري"(6/ 428).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 369).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 120).

(4)

"فتح الباري"(6/ 429).

ص: 421

(25 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً. . .} [الأعراف: 142]) إلخ

أي: ذا القعدة، {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجة، روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فمه فتوسك فقالت الملائكة: كنا نشمّ من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليه عشرًا، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فيه إشارة إلى أن المواعدة وقعت مرتين، وقوله:{صَعِقًا} أي: مغشيًّا عليه، انتهى. ليس في نسخة.

قوله: (فدكتا فدككن) إلى قوله: (ولم يقل: كنَّ رتقًا: ملتصقتين) قال الحافظ: ذكر هذا استطرادًا إذ لا تعلق له بقصة موسى، وكذا قوله:"رتقًا: ملتصقتين"، انتهى.

وتعقَّب عليه العيني

(3)

إذ قال: قلت: ليس كذلك، بل ذكره تنظيرًا لما قبله؛ ولهذا قال بكاف التشبيه، أراد أن نظير "دكتا" التي هي التثنية والقياس "دككن":{كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] فإن القياس أن يقال فيه: "كن رتقا"، انتهى مختصرًا.

والإيراد عندي: ليس بصحيح كما ذكر في هامش "اللامع"

(4)

، وكتب الشيخ في "اللامع": قوله: "رتقًا: ملتصقتين" مفسر وتفسير، ولا علاقة لهما بما تقدم، وتم الكلام على قوله: كن، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 378 - 379).

(2)

"فتح الباري"(6/ 430).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 126).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 44).

ص: 422

(26 -‌

‌ باب طوفان من السيل، ويقال للموت. . .) إلخ

ليس في نسخة القسطلاني لفظ "باب"، بل فيها:"طوفان من السيل. . ." إلخ.

قال العلَّامة العيني

(1)

: أي: هذا باب يذكر فيه طوفان من السيل، وليس قوله:"طوفان من السيل" بترجمة له، وإنما هو مجرد عن الترجمة، وهو كالفصل للباب المتقدم، وسقط جميعه من رواية النسفي.

قوله: (طوفان) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ} الآية [الأعراف: 133]، أما الطوفان فقد اختلفوا فيه، فقال البخاري: هو من السيل يكون من المطر الغالب، وعن ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، وبه قال الضحاك، وعنه: كثرة الموت، وبه قال عطاء، وقال مجاهد: الطوفان الماء والطاعون، وروى ابن جرير بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطوفان الموت"، انتهى.

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: قوله: "طوفان من السيل" لما كان الطوفان يستعمل في معان شتى بيَّن أن المراد في الآيات التسع بالطوفان هو السيل، انتهى.

(27 -‌

‌ باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام

-)

في نسخة القسطلاني

(3)

: "حديث الخضر مع موسى" بغير لفظ: "باب"، وقال: ولأبي ذر: "باب حديث الخضر"، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: ذكر فيه حديث ابن عباس عن أُبيّ بن كعب من وجهين، وسيأتي أولهما بأتم من سياقه في تفسير سورة الكهف، وذكر المصنف في هذا الباب حديث أبي هريرة: "إنما سمي الخضر لأنه

(1)

"عمدة القاري"(11/ 127 - 128).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 45 - 46).

(3)

"إرشاد الساري"(7/ 382).

(4)

"فتح الباري"(6/ 433).

ص: 423

جلس. . ." إلخ، وتعلقه بالباب ظاهر من جهة ذكر الخضر فيه، وحكي عن مجاهد أنه قيل له: الخضر؛ لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(1)

: والكلام في الخضر على أنواع، الأول: في اسمه، النوع الثاني: في نسبه، والثالث: في نبوته، والنوع الرابع: في حياته، ثم بسط تلك المباحث أشد البسط.

أما النوع الأول: فذكر في اسمه عدة أقوال، وصدَّر الكلام بقول مجاهد: اسمه اليسع بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وذكر أيضًا: قال مقاتل: بليا - بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبالياء آخر الحروف - ابن ملكان بن يقطن بن فالغ إلى آخره، واقتصر القسطلاني

(2)

على هذا الثاني.

أما النوع الثاني: فذكر فيه عن الطبري: أن الخضر هو الرابع من ولد إبراهيم بصلبه، وقال مجاهد: هو من ولد يافث.

أما النوع الثالث: فذكر فيه الجمهور على أنه نبي، وهو الصحيح؛ لأن أشياء في قصته تدلّ على نبوته، وروى مجاهد عن ابن عباس: أنه كان نبيًا، وقيل: كان وليًا، وعن علي رضي الله عنه: أنه كان عبدًا صالحًا، وقيل: كان ملكًا - بفتح اللام -، وهذا غريب جدًا.

وذكر في النوع الرابع الجمهور - خصوصًا مشايخ الطريقة والحقيقة وأرباب المجاهدات والمكاشفات -: أنه حي يرزق ويشاهد في الفلوات، ورآه عمر بن عبد العزيز وإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي ومعروف الكرخي وسري السقطي وجنيد وإبراهيم الخواص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وفيه دلائل وحجج تدل على حياته، ذكرناها في "تاريخنا الكبير"، وقال البخاري وابن الجوزي: إنه مات، واحتجوا بقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]. . .، إلى آخر ما بسط.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 132).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 389).

ص: 424

(28 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، كذا لأبي ذر وغيره بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وتعلقه به ظاهر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه رجوع إلى قصة موسى وقومه بعد قصته مع الخضر، فهذا رجوع إلى الأصل، وهو أصل من أصول التراجم، وهو الأصل السابع والخمسون.

(29 -‌

‌ باب قوله: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ. . .} [الأعراف: 138]) إلخ

قال القسطلاني

(2)

: أي: يقيمون على عبادتها، قيل: كانت تماثيل بقر، وذلك أول شأن العجل، وكانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: أي: تفسير ذلك، والمراد تفسير قوله تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، ولم يفسر المؤلف من الآية إلا قوله تعالى فيها:{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} الآية [الأعراف: 139]، فقال: إن تفسير "متبر" خسران، وهذا أخرجه الطبري عن ابن عباس، والخسران تفسير التتبير الذي اشتق منه المتبر، وأما قوله:" {وَلِيُتَبِّرُوا}: ليدمروا" فذكره استطرادًا، وهو تفسير قتادة أخرجه الطبري في قوله:{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] قال: ليدمروا ما غلبوا عليه تدميرًا.

وأما حديث جابر في رعي الغنم فمناسبته للترجمة غير ظاهرة، وقال شيخنا ابن الملقن في "شرحه": قال بعض شيوخنا: لا مناسبة، قال شيخنا:

(1)

"فتح الباري"(6/ 436).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 393).

(3)

"فتح الباري"(6/ 439).

ص: 425

بل هي ظاهرة لدخول موسى فيمن رعى الغنم، قال الحافظ: وهذا مناسب لذكر المتن في أخبار موسى، وأما مناسبة الترجمة للحديث فلا، والذي يهجس في خاطري أنه كان بين التفسير المذكور وبين الحديث بياض أُخلي لحديث يدخل في الترجمة ولترجمة تصلح لحديث جابر، ثم وصل ذلك، كما في نظائره. ومناسبة حديث جابر لقصص موسى من جهة عموم قوله:"وهل من نبي إلا وقد رعاها"، فدخل فيه موسى، كما أشار إليه شيخنا، بل وقع في [بعض] طرق هذا الحديث:"ولقد بعث موسى وهو يرعى الغنم"، وذلك فيما أخرجه النسائي في "التفسير"، ويؤيد هذا الذي قلت أنه وقع في رواية النسفي "باب" بغير ترجمة، وساق فيه حديث جابر، ولم يذكر ما قبله، وكأنه حذف الباب الذي فيه التفاسير الموقوفة، كما هو الأغلب من عادته، واقتصر على الباب الذي فيه الحديث المرفوع. . .، إلى آخر ما قال.

(30 -‌

‌ باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ. . .} [البقرة: 67]) إلخ

لم يذكر فيه سوى شيء من التفسير عن أبي العالية، وقصة البقرة أوردها آدم بن أبي إياس في تفسيره، ثم ذكرها الحافظ

(1)

بطولها، فارجع إليه لو شئت.

(31 -‌

‌ باب وفاة موسى عليه السلام وذكره بعد)

قال العلَّامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان وفاة موسى عليه الصلاة والسلام، وليس في رواية أبي ذر ذكر لفظ:"باب".

قوله: (وذكره بعد) بضم الدال؛ لأنه مبني عليه لكونه قطع عن الإضافة، والتقدير: وفي بيان ذكره بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 440).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 140).

ص: 426

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: قوله: "وذكره بعد" أي: وما ذكر به موسى بعد وفاته، ويمكن أن يكون كلمة "بعد" بمعنى الأُخر، ويكون كثيرًا في مثل هذا المقام، أي: وفي بيان بعض أحواله الأُخر غير ذكر وفاته، انتهى.

قلت: واكتفى الشرَّاح على الاحتمال الأول، كما تقدم في كلام العيني، وقال العيني بعد ذكر الحديث الأول: وعن وهب أن الملائكة تولّوا دفنه والصلاة عليه، وأنه عاش مائة وعشرين سنة، وقال وهب: وصلى عليه جبريل عليه السلام، وكان موته بعد موت هارون بأحد عشر شهرًا، وكان بين وفاة إبراهيم ومولد موسى مائتان وخمسون سنة، وقد مضت بقية الكلام في "كتاب الجنائز"، انتهى.

قلت: وقد تقدم الكلام على حديث الباب، أعني: حديث صكّ موسى ملك الموت مع الإشكال والجواب عنه في "باب من أحبّ الدفن في الأرض المقدسة" من "كتاب الجنائز".

(32 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا. . .} [التحريم: 11]) إلخ

الغرض من هذه الترجمة ذكر آسية، وهي بنت مزاحم امرأة فرعون، قيل: إنها من بني إسرائيل، وإنها عمة موسى، وقيل: إنها من العماليق، وقيل: ابنة عم فرعون، وأما مريم فسيأتي ذكرها مفردًا بعد، قاله الحافظ

(2)

.

قوله: (ولم يكمل من النساء إلا آسية) الحديث، استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان؛ لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء، ثم الأولياء والصديقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء وليّة ولا صدِّيقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة، فكأنه قال:

(1)

"لامع الدراري"(8/ 54).

(2)

"فتح الباري"(6/ 446).

ص: 427

ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة، ولو قال: لم تثبت صفة الصديقية أو الولاية أو الشهادة إلا لفلانة وفلانة لم يصح لوجود ذلك في غيرهن، إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء، فلا يتم الدليل على ذلك لأجل ذلك، وعلى هذا فالمراد من تقدم زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لأحد من نساء زمانه إلا لعائشة، وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها؛ لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجلّ أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة، فقد يكون مفضولًا بالنسبة لغيره من جهات أخرى، وقد ورد في هذا الحديث من الزيادة بعد قوله:"ومريم ابنة عمران": "وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" صلى الله عليه وسلم، أخرجه الطبراني، ثم ذكر الحافظ الكلام على التفضيل بينهن.

ثم قال: قال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها.

وقال الكرماني: لا يلزم من لفظ الكمال ثبوت نبوتها؛ لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغها النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، قال: وقد نُقل الإجماع على عدم نبوة النساء.

قال الحافظ: كذا قال، وقد نُقل عن الأشعري: أن من النساء من نُبِّئَ، وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك، إلى أن قال الحافظ: ومن فضائل آسية [امرأة فرعون] أنها اختارت القتل على الملك، والعذاب في الدنيا على النعيم الذي كانت فيه، وكانت فراستها في موسى عليه السلام صادقة حين قالت:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي} ، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 447).

ص: 428

وذكر القسطلاني

(1)

قصة إسلامها وتعذيبها وقتلها، لا نطيل الكلام بذكرها، وسيأتي الكلام في الأفضلية بين فاطمة وعائشة وغيرهما في "كتاب المناقب" إن شاء الله، وسيأتي أيضًا نقل الخلاف في نبوة مريم في "باب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} الآية".

(33 -‌

‌ باب قوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى. . .} [القصص: 76]) إلخ

هو قارون بن يصفد بن يصهر ابن عم موسى، وقيل: كان عم موسى، والأول أصحّ، وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنه كان ابن عم موسى.

واختلف في تفسير بغي قارون، فقيل: الحسد؛ لأنه قال: ذهب موسى وهارون بالأمر فلم يبق لي شيء، وقيل: إنه واطأ امرأة من البغايا أن تقذف موسى بنفسها، فألهمها الله أن اعترفت بأنه هو الذي حملها على ذلك، وقيل: الكبر؛ لأنه طغى بكثرة ماله، وقيل: هو أول من أطال ثيابه حتى زادت على قامته شبرًا.

ثم قال الحافظ

(2)

: لم يذكر المصنف في قصة قارون إلا هذه الآثار، وهي ثابتة في رواية المستملي والكشميهني فقط، وقد أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس، فذكر قصة خسفه وقصة أخرى في كثرة ماله، فارجع إليه لو شئت.

وإلى ههنا انتهت سلسلة التراجم المعقودة في ذكر موسى عليه السلام، ولعمري لقد أكثر المصنف في عقد التراجم في ذكره حتى تجاوز عن اثني عشر بابًا، فكأنه اقتفى في ذلك أثر القرآن الكريم في تكرار ذكره مرة بعد أخرى، فنعم الاقتفاء.

(1)

"إرشاد الساري"(7/ 401).

(2)

"فتح الباري"(6/ 448).

ص: 429

(34 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا. . .} [الأعراف: 85]) إلخ

مدين قيل: عجمي منع من الصرف للعجمة والعلمية، وهو مدين بن إبراهيم عليه السلام، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت، وقيل: يشجر بن عنقا بن مدين بن إبراهيم، وقيل: هو شعيب بن صفور بن عنقا بن ثابت بن مدين، وكأنّ مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق، وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل:"أربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام"، فعلى هذا هو من العرب العاربة، وقيل: إنه من بني عنزة بن أسد.

ولم يذكر المصنف في قصة شعيب سوى هذه الآثار، وهي للكشميهني والمستملي فقط، وقد ذكر الله تعالى قصته في الأعراف وهود والشعراء والعنكبوت وغيرها، وجاء عن قتادة: أنه أرسل إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، والجمهور على أن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

قال العيني

(2)

: قال علماء السير: أقام شعيب مدةً بعد هلاك قومه، ووصل إليه موسى وزوّجه بنته، وقال ابن الجوزي: ثم خرج إلى مكة ومات بها، وعمره مائة وأربعون سنة، ودفن في المسجد الحرام حيال الحجر الأسود، وقال سبطه: وعند طبرية بالساحل قرية يقال لها: حطين فيها قبر يقال: إنه قبر شعيب عليه الصلاة والسلام، وقال أبو المفاخر في "تاريخه": إن شعيبًا كان عمره ستمائة وخمسين سنة، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: واعلم أن اسم شعيب في التوراة: يثروب، كما أن اسم عيسى عليه الصلاة والسلام: يشوع، وأيشوع. ولما نزل القرآن بلغة

(1)

"فتح الباري"(6/ 449، 450).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 148).

(3)

"فيض الباري"(4/ 388).

ص: 430

العرب اختار ما كان المعروف عندهم، أعني: شعيبًا وعيسى عليهما الصلاة والسلام.

قوله: (لأن مدين بلد) واعلم أن مداين اسم لابن إبراهيم عليه السلام من بطن قنطوراء، وهي امرأة نكحها بعد هاجر، ثم سمي البلد على اسمه: مدين، انتهى.

ولا يخفى عليك أن مقتضى ما ذكر الحافظ في نسبه من الأقوال أن يذكر شعيب قبل ذكر موسى، وهو مقتضى ترتيب الأنبياء في سورة الأعراف وسورة هود.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية"

(1)

قصة مدين قوم شعيب عليه السلام بعد ذكر لوط وقبل أيوب ويونس، وذكر قصة موسى بعد يونس، وقال في آخر قصة قوم شعيب: وذكرنا ما وقع في زمان إبراهيم من قصة قوم لوط، وأتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه السلام؛ لأنها قرينتها في كتاب الله عز وجل في مواضع متعددة، يذكر تعالى بعد قصة قوم لوط قصة مدين، وهم أصحاب الأيكة على الصحيح، فذكرناها تبعًا لها إقتداء بالقرآن العظيم، فلتقديم الإمام البخاري ذكر موسى على ذكر شعيب ليس له وجه وجيه، اللَّهم إلا أن يقال: إنه قدَّمه عليه لجلالة شأنه لكونه من أولي العزم من الرسل مع اتحاد زمانهما.

(35 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 139]) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هو يونس بن متى، ووقع في "تفسير عبد الرزاق" أنه اسم أمه، وهو مردود بما في حديث ابن عباس في هذا الباب، ونسبه إلى أبيه فهذا أصح، ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، انتهى.

(1)

"البداية والنهاية"(1/ 441).

(2)

"فتح الباري"(6/ 451 - 452).

ص: 431

وقال أيضًا: وأما قوله في الرواية: "ونسبه إلى أبيه" ففيه إشارة إلى الرد على من زعم أن متى اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، والذي في "الصحيح" أصح، وقيل: سبب قوله: "ونسبه إلى أبيه" أنه كان في الأصل يونس بن فلان، فنسي الراوي اسم الأب وكنى عنه بفلان، وقيل: إن ذلك هو السبب في نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي اسم أبيه: يونس بن متى وهو أمه، انتهى مختصرًا.

قال العلَّامة العيني

(1)

: وكان - أي: متى - رجلًا صالحًا من أهل بيت النبوَّة، ولم يكن له ولد ذكر، فقام إلى العين التي اغتسل فيها أيوب عليه الصلاة والسلام، فاغتسل هو وزوجته منها، وصلَّيا ودعوا الله تعالى أن يرزقهما ولدًا مباركًا، فيبعثه الله في بني إسرائيل، فاستجاب الله دعاءهما، ورزقهما يونس، وتوفي متى ويونس في بطن أمه وله أربعة أشهر، وقد قيل: إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وكان من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها: نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام فبعثه الله إليهم، انتهى.

قوله: (من يقطين من غير ذات أصل. . .) إلخ، وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد، وزاد:"ليس لهما ساق"، وكذا قال أبو عبيدة: كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطين، نحو الدباء والحنظل والبطيخ، والمشهور أنه القرع، وقيل: التين، وقيل: الموز، وجاء في حديث مرفوع في القرع:"هي شجرة أخي يونس".

ثم قال الحافظ

(2)

: روى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك أنه لبث في بطن الحوت أربعين يومًا، ومن طريق جعفر الصادق قال: سبعة أيام، ومن طريق قتادة قال: ثلاثًا، ومن طريق الشعبي قال: التقمه ضحى ولَفَظَهُ عشيةً، انتهى من "الفتح".

(1)

"عمدة القاري"(11/ 151).

(2)

"فتح الباري"(6/ 451 - 452).

ص: 432

(36 -‌

‌ باب قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ. . .} [الأعراف: 163]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: الجمهور أن القرية المذكورة أيلة، وهي التي على طريق الحاج الذاهب إلى مكة من مصر، وحكى ابن التِّين عن الزهري: أنها طبرية.

ثم قال الحافظ: لم يذكر المصنف في هذه القصة حديثًا مسندًا، ثم ذكر الحافظ قصتهم، وقال: رواها عبد الرزاق من حديث ابن عباس بسند فيه مبهم، وحكاه مالك عن يزيد بن رومان معضلًا، انتهى.

قلت: قال الحافظ في مقدمة "الفتح"

(2)

: ذكره بعد قصة يونس؛ لأن يونس عليه السلام التقمه الحوت، فابتلي به فصبر ونجا، وهؤلاء ابتلوا بحيتان، فمنهم من صبر ونجا، ومنهم من لم يصبر فعذب، انتهى مختصرًا.

قلت: وكانت واقعة أهل القرية المذكورة في زمن داود على نبينا عليه الصلاة والسلام كما في كتب التفسير من حاشية الجمل وغيره، وبهذا ظهرت المناسبة بين هذه الترجمة والترجمة الآتية.

(37 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. . .} [الإسراء: 55]) إلخ

قال الحافظ

(3)

: هو داود بن إيشاء - بكسر الهمز وسكون التحتانية بعدها معجمة - ابن عوبد بوزن جعفر ابن باعر - بموحدة ومهملة مفتوحة - ابن سلمون بن يارب - بتحتانية وآخره موحدة - ابن رام بن حفرون - بمهملة ثم معجمة - ابن فارص - بفاء وآخره مهملة - ابن يهوذا بن يعقوب، انتهى.

وقال العيني

(4)

: وداود اسم أعجمي، وعن ابن عباس: هو بالعبرانية

(1)

"فتح الباري"(6/ 453).

(2)

مقدمة "فتح الباري"(ص: 473).

(3)

"فتح الباري"(6/ 454).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 156).

ص: 433

القصير العمر، ويقال: سمي به؛ لأنه داوى جراحات القلوب، وقال مقاتل: ذكره الله في القرآن في اثني عشر موضعًا. ثم ذكر نسبه مثل ما تقدم من "الفتح"، وزاد بعده: ومنهم من زاد بعد سلمون يحشون بن عمينا بن داب بن رام، وقيل: إرم.

قال ابن كثير في "البداية والنهاية"

(1)

: لما قتل داود جالوت فأحبته بنو إسرائيل، ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان، وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوَّة بين خيري الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوَّة في آخر، فاجتمع في داود هذا وهذا، كما قال تعالى:{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} الآية [البقرة: 251].

وأما وفاته عليه السلام فقال الإمام أحمد في "مسنده"

(2)

بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لتفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب. فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت مرحبًا بأمر الله. ثم مكث حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس. فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلَّته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا"، قال أبو هريرة: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي رجاله ثقات.

(1)

"البداية والنهاية"(2/ 300).

(2)

"مسند أحمد"(2/ 419).

ص: 434

قوله: (زبورا) هو اسم الكتاب الذي أنزل الله عليه، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله الزبور على داود عليه السلام مائة وخمسين سورة بالعبرانية، في خمسين منها ما يلقونه من بخت نصر، وفي خمسين ما يلقونه من الروم، وفي خمسين مواعظ وحكم، ولم يكن فيه حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام، وروي أنه نزل عليه في شهر رمضان، انتهى.

قوله: (بسطة: زيادة وفضلًا) أي: في قوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. وهذه الكلمة في قصة طالوت، وكأنه ذكرها لما كان آخرها متعلقًا بداود، فلمح بشيء من قصة طالوت، وقد قصَّها الله في القرآن، قاله الحافظ

(1)

.

(38 -‌

‌ باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود. . .) إلخ

يشير إلى الحديث المذكور قبله

(2)

.

(39 -‌

‌ باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ. . .} [ص: 17]) إلخ

{الْأَيْدِ} : القوة، وكان داود موصوفًا بفرط الشجاعة.

قوله: (قال مجاهد: الفهم في القضاء) أي: المراد بفصل الخطاب، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي بشر عن مجاهد قال:{الْحِكْمَةَ} : الصواب، ومن طريق ليث عن مجاهد:{فَصْلَ الْخِطَابِ} : إصابة القضاء وفهمه، ومن طريق بن جريج عن مجاهد قال:{فَصْلَ الْخِطَابِ} : العدل في الحكم وما قال من شيء أنفذه، وقال الشعبي:{فَصْلَ الْخِطَابِ} : قوله: أما بعد، وفي ذلك حديث مسند من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال:"أول من قال: أما بعد: داود النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فصل الخطاب"، أخرجه ابن أبي حاتم، وروى ابن أبي حاتم من طريق شريح قال:{فَصْلَ الْخِطَابِ} : الشهود والأيمان، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 454).

(2)

انظر: "فتح الباري"(6/ 455).

(3)

"فتح الباري"(6/ 456).

ص: 435

(40 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ. . .} [ص: 30]) إلخ

سقط لفظ "باب" في نسخة "الفتح".

قوله: (الراجع: المنيب) هو تفسير الأواب، وقد أخرج ابن جريج من طريق مجاهد قال: الأواب الرجَّاع عن الذنوب، ومن طريق قتادة: المطيع، ومن طريق السدي قال: هو المسبح، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال ابن كثير في "البداية"

(2)

: قال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان! قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحًا من قوارير، ليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو مُتَوَكِّئٌ على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت، قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ثم ذكر ما قصَّه الله تعالى في القرآن. وعن محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره: أن سليمان عليه السلام عاش ثنتين وخمسين سنة، وكان ملكه أربعين سنة، وعن عكرمة عن ابن عباس: أن ملكه كان عشرين سنة، والله أعلم. وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليه السلام نيِّفًا وخمسين سنة. وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر، انتهى.

(41 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ. . .} [لقمان: 12]) إلخ

قال الحافظ في مقدمة "الفتح"

(3)

: ذكره بعد سليمان؛ لأنه نبي عنده أو لأنه من أتباع داود.

وقال القسطلاني

(4)

: هو أعجمي، منع الصرف للتعريف والعجمة،

(1)

"فتح الباري"(6/ 458).

(2)

"البداية والنهاية"(2/ 355).

(3)

مقدمة "فتح الباري"(ص 473).

(4)

"إرشاد الساري"(7/ 428).

ص: 436

أو عربي مشتق من اللقم، وهو حينئذ مرتجل؛ لأنه لم يسبق له وضع في النكرات ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون، قال ابن إسحاق: لقمان هو ابن باعوراء بن ناحور بن تارح وهو آزر، واختلف في نبوته، واتفق على أنه كان حكيمًا.

وقال الحافظ

(1)

: اختلف في لقمان، فقيل: كان حبشيًا، وقيل: كان نوبيًا، واختلف هل كان نبيًا؟ قال السهيلي: كان نوبيًا من أهل أيلة، واسم أبيه عنقا بن شيرون، وقال غيره: هو ابن باعور بن ناحر بن آزر، فهو ابن أخي إبراهيم، وذكر وهب في "المبتدأ": أنه كان ابن أخت أيوب، وقيل: ابن خالته، وروى الثوري في "تفسيره" عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن خالد بن ثابت الربعي أحد التابعين مثله، وعن سعيد بن المسيب: كان من سودان مصر، ذو مشافر، أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوَّة. وفي "المستدرك" بإسناد صحيح عن أنس قال: كان لقمان عند داود وهو يسرد الدرع، فجعل لقمان يتعجب ويريد أن يسأله عن فائدته، فتمنع حكمته أن يسأل، وهذا صريح في أنه عاصر داود عليه السلام، وقد ذكره ابن الجوزي في "التلقيح" بعد إبراهيم قبل إسماعيل وإسحاق، والصحيح أنه كان في زمن داود، وقد أخرج الطبري وغيره عن مجاهد: أنه كان قاضيًا على بني إسرائيل زمن داود عليه السلام، وقيل: إنه عاش ألف سنة، نقل عن ابن إسحاق وهو غلط، وكأنه اختلط عليه بلقمان بن عاد، وروى ابن أبي حاتم عن قتادة: أن لقمان خُيِّر بين الحكمة والنبوَّة، فاختار الحكمة، فسئل عن ذلك فقال: خفت أن أضعف عن حمل أعباء النبوَّة، وقيل: كان خياطًا، وقيل: نجارًا، انتهى من "الفتح".

وذكر العلَّامة العيني الاختلاف في نسبه، وقال

(2)

أيضًا: ولد على

(1)

"فتح الباري"(6/ 466).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 173).

ص: 437

عشر سنين خلت من أيام داود عليه السلام. وقال الواقدي والسدي: إنه مات بأيلة، وقال قتادة: بالرملة. [واتفق العلماء أنه كان حكيمًا] ولم يكن نبيًا، إلا عكرمة فإنه كان يقول: إنه كان نبيًا، انتهى.

وبسط ابن كثير في "البداية"

(1)

في أوصافه وسيرته، وقال: والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيمًا وليًا، ولم يكن نبيًا، انتهى.

(42 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ. . .} [يس: 13]) إلخ

المراد بالقرية هي الأنطاكية، وقوله:{إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أي: رسل عيسى، وقوله:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} قال وهب: يوحنا وبولس، والثالث هو شمعون، وقال كعب: الرسولان: صادق وصدوق، والثالث شلوم، ولم يذكر المصنف حديثًا مرفوعًا ههنا، وعلى الباب وتاليه علامة السقوط فقط في الفرع وأصله من غير عزو، قاله القسطلاني

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: روى الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعًا: "السبق ثلاثة: يوشع إلى موسى، وصاحب يس إلى عيسى، وعلي إلى محمد" صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده حسين بن حسين الأشقر وهو ضعيف، فإن ثبت دل على أن القصة كانت في زمن عيسى أو بعده، وصنيع المصنف يقتضي أنها قبل عيسى، انتهى.

قلت: وعامة الشرَّاح والمفسرين صرحوا بأن الرسل الثلاثة المذكورون في هذه الآية رسل المسيح عليه السلام، وأنهم بعثوا على أهل أنطاكية، وردّ الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية"

(4)

على كلا الأمرين، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"البداية والنهاية"(3/ 10).

(2)

"إرشاد الساري"(7/ 430).

(3)

"فتح الباري"(6/ 467).

(4)

انظر: "البداية والنهاية"(2/ 12).

ص: 438

ويستفاد من كلامه أن هذه الرسل المذكورون في الآية مقدمون على المسيح، ولذا قدَّم ذكرهم على قصة موسى فيما اختاره من الترتيب في كتابه "البداية والنهاية"، فهذا يؤيد ما اختاره الإمام البخاري من تقديم ذكرهم على ذكر عيسى عليه السلام، والله تعالى أعلم.

(43 -‌

‌ باب قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2]. . .) إلخ

في زكريا أربع لغات: المد والقصر وحذف الألف مع إبقاء الياء مشددة وتخفيف الياء، فإن مددت أو قصرت لم تصرف، وإن حذفت الألف مع إبقاء الياء مشددة صرفته، وزكريا بن آدن بن مسلم بن صدوق بن نخشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن ناخور بن شلوم بن بهفاشاط بن أسا بن أخيا بن رحيم بن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، كذا ذكره الثعلبي، وقال ابن عساكر في "تاريخه": زكريا بن برخيا، ويقال: زكريا بن دان، ويقال: ابن آدن إلى آخره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان زكريا نجارًا" انفرد بإخراجه مسلم، وقال ابن إسحاق: كان زكريا وابنه يحيى صلى الله تعالى عليهم وسلم آخر من بعث في بني إسرائيل من أنبيائهم قبل عيسى عليه السلام، انتهى من "العيني"

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: وزكريا هو ابن أدن، ويقال: ابن شبوي، ويقال: ابن بارخيا، ويقال: ابن أبي بن بارخيا، ومريم بنت عمران بن ناشي، وهما من ذرية سليمان بن داود عليه السلام.

(44 -‌

‌ باب قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا. . .} [مريم: 16]) إلخ

هذه الترجمة معقودة لأخبار مريم عليه السلام، ومريم بالسريانية الخادم،

(1)

"عمدة القاري"(11/ 176).

(2)

"فتح الباري"(6/ 468).

ص: 439

وسميت به والدة عيسى، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ومريم هي بنت عمران بن ماثان، وقيل: ابن ناشي بدل ابن ماثان، واسم أم مريم حنة بمهملة ونون بنت فاقود، واسم أختها والدة يحيى إيشاع، قال ابن إسحاق في "المبتدأ": كانت حنة عند عمران، وأختها عند زكريا، وكانت حنة أمسك عنها الولد ثم حملت بمريم، فمات عمران وهي حامل، انتهى من "الفتح"

(1)

بزيادة من "العيني"

(2)

.

قلت: وستأتي هذه الترجمة بعينها بعد ثلاثة أبواب، فالأوجه عندي في الفرق بين الترجمتين أن المقصود ههنا بيان مريم عليها السلام كما تقدم عن الحافظ، وبالترجمة الآتية بيان ابنها عيسى عليه السلام، فذكر مريم ههنا عندي تمهيد لذكر عيسى الآتي، فإن حملها إياه كانت عجيبة نادرة غريبة خارقة للعادة، فلا حاجة إلى ادعاء نبوتها كما قال الحافظ في مقدمة "الفتح"

(3)

، ذكرها البخاري؛ لأنها نبية عنده، انتهى.

(45 -‌

‌ باب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ .. . .} [آل عمران: 42]) إلخ

قال الحافظ

(4)

: واستدل به على أنها كانت نبيَّة، وليس بصريح في ذلك، وأيد بذكرها مع الأنبياء في سورة مريم، ولا يمنع وصفها بأنها صديقة، قد وصف يوسف بذلك، وقد نقل عن الأشعري أن في النساء عدة نبيات، وحصرهن ابن حزم في ست: حواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسية ومريم، وأسقط القرطبي سارة وهاجر، ونقله في "التمهيد" عن أكثر الفقهاء، وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبيَّة، وقال عياض: الجمهور على خلافه، ونقل النووي في "الأذكار": أن الإمام نقل الإجماع على أن مريم ليست نبيَّة، وعن الحسن: ليس في النساء نبيَّة ولا في الجن، وقال السبكي

(1)

"فتح الباري"(6/ 468 - 470).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 179).

(3)

مقدمة "فتح الباري"(ص 473).

(4)

"فتح الباري"(6/ 470، 471).

ص: 440

الكبير: لم يصح عندي في هذه المسألة شيء، ونقله السهيلي في آخر "الروض" عن أكثر الفقهاء، انتهى.

وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في "باب قول الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا. . .} الآية".

(46 -‌

‌ باب قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} [آل عمران: 45]) إلخ

من ههنا عند هذا العبد الضعيف شروع في ذكر عيسى عليه السلام، فهذه بشارة لولادته.

(47 -‌

‌ باب قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. . .} [النساء: 171]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قال عياض: وقع في رواية الأصيلي: " {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} "، ولغيره بحذف "قل" وهو الصواب.

قال الحافظ: هذا هو الصواب في هذه الآية التي هي من سورة النساء، لكن قد ثبت "قل" في الآية الأخرى في سورة المائدة:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} الآية [المائدة: 77]، ولكن مراد المصنف آية سورة النساء بدليل إيراده لتفسير بعض ما وقع فيها فالاعتراض متجه، انتهى.

قلت: ومقصود الترجمة عندي بيان ولادته عليه السلام بدون الأب بكلمة "كن" وردّ ما غلت النصارى في حقه.

(48 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ. . .} [مريم: 16]) إلخ

هذا الباب معقود لأخبار عيسى عليه السلام، والأبواب التي قبله في أخبار أمه مريم، قاله الحافظ

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 474).

(2)

"فتح الباري"(6/ 479).

ص: 441

قلت: وهذه الترجمة كما تقدم مكررة، وذكرت وجه الفرق هناك.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم هنا بعدة تراجم متقاربة، ولم يتعرض الشرَّاح للفرق بينهما إلا ما قالوا في دفع التكرار في "باب قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} " [مريم: 16]: إن الأولى متعلقة بمريم، والثانية متعلقة بعيسى عليه السلام، وهو كذلك عندي، لكن ما قال الحافظ في التراجم المتوسطة بين هاتين الترجمتين أنها متعلقة بمريم ليس بوجيه عندي، بل الأوجه عندي: أن الترجمة الأولى معقودة لحال مريم كما قال الحافظ، ويدل عليه الحديث الوارد فيه من قوله: "غير مريم وابنها"، والباب الثاني، أي: قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ. . .} إلخ [آل عمران: 42] أيضًا متعلقة بمريم، والباب الثالث من قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ. . .} إلخ [آل عمران: 45] متعلق ببشارة ولادة عيسى، وهو مشترك بينه وبين أمه، ولذا أورد في الترجمة الأقوال المتعلقة بعيسى عليه السلام، والروايات الواردة فيه متعلقة بأمه، وأما "باب قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. . .} إلخ [النساء: 171] " متعلقة بولادة عيسى من كونه مولودًا بكلمته بدون أب، ومن ههنا بدئ ذكر عيسى عندي، انتهى.

(49 -‌

‌ باب نزول عيسى ابن مريم)

كذا في النسخ الهندية والعيني والقسطلاني، وسقط لفظ "باب" في نسخة "الفتح"، قال الحافظ

(2)

: يعني: في أواخر الزمان، كذا لأبي ذر بغير "باب"، وأثبته غيره، انتهى من "الفتح".

وكتب أخونا ومولانا محمد إدريس الكاندهلوي في "التعليق الصبيح"

(3)

: اعلم أن نزول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام في آخر

(1)

"لامع الدراري"(8/ 71).

(2)

"فتح الباري"(6/ 491).

(3)

"التعليق الصبيح"(6/ 259).

ص: 442

الزمان من السماء إلى الأرض حق ثابت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، من أنكره فقد كفر، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] والمعنى: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] قرئ بفتح اللام والعين، والضمير في "إنه" راجع إلى عيسى عليه السلام لقوله تعالى:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] والمعنى: أن نزوله علامة القيامة.

وأما الأحاديث فهي كثيرة بلغت مبلغ التواتر كما صرح به الحافظ ابن كثير في "تفسيره"

(1)

والحافظ العسقلاني في "الفتح"

(2)

، وقد ألف شيخنا الأكبر أستاذنا ومولانا الشاه محمد أنور - نوَّر الله وجهه يوم القيامة ونضَّر - رسالة وجيزة

(3)

في أحاديث النزول أورد فيها أكثر من سبعين حديثًا فشفى وكفى وجمع فأوعى، جزاه الله الجزاء الأوفى.

وأما الإجماع فقال أبو حيان في "البحر المحيط"

(4)

: قال ابن عطية: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، وقال الشيخ محيي الدين في "الفتوحات": لا خلاف في أنه ينزل في آخر الزمان، وقال السفاريني: قد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة مما لا يعتد بخلافه. . . إلى آخر ما قال، كذا في "شرح العقيدة السفارينية"

(5)

، انتهى.

ثم ذكر النقول في كفر من أنكر نزوله، وأيضًا بسط الكلام في لطائف

(1)

"تفسير ابن كثير"(2/ 455).

(2)

"فتح الباري"(6/ 493، 494).

(3)

اسمه: "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله وعلق عليه.

(4)

"تفسير البحر المحيط"(3/ 252).

(5)

"شرح العقيدة السفارينية"(2/ 90).

ص: 443

الأسرار والحكم في نزوله عليه السلام، فارجع إليه لو شئت، وسيأتي شيء من الكلام عليه عن "فتح الملهم".

قال الحافظ

(1)

: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبيَّن الله تعالى كذبهم، وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها، وقيل: إنه دعا الله لما رأى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه، وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجددًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه، وروى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس:"أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة"، وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة:"يقيم بها أربعين سنة"، وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعًا.

وقد اختلف في موت عيسى عليه السلام قبل رفعه، والأصل فيه قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران: 55]، فقيل: على ظاهره، وعلى هذا فإذا نزل في الأرض ومضت المدة المقدرة له يموت ثانيًا، وقيل: معنى قوله: {مُتَوَفِّيكَ} من الأرض، فعلى هذا لا يموت إلا في آخر الزمان. واختلف في عمره حين رفع، فقيل: ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: مائة وعشرين، انتهى كله من "الفتح".

وأجاد صاحب "فتح الملهم"

(2)

في بيان الحكمة في نزول عيسى عليه السلام حيث كتب: قال العبد الضعيف: اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يظهر صفة إنعامه وانتقامه خلق الخلق، وجعله أصنافًا، فخلق منابع الإيمان والهداية، من غير نوع الإنسان، وهم الملائكة، ومن النوع الإنساني وهم الأنبياء

(1)

"فتح الباري"(6/ 493).

(2)

"فتح الملهم"(2/ 132).

ص: 444

والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وخلق معادن الكفر والضلالة من غير نوع الإنسان وهم الشياطين، ومن النوع الإنساني وهم الدجالون الكذابون عليهم لعنة الله، فالأولون هم سادة السعداء النازلين في دار كرامته وفضله ومظاهر رحمته ورضاه سبحانه وتعالى، والآخرون هم رؤوس الأشقياء الساقطين في محل عقوبته وسخطه ومظاهر نقمته وغضبه، والمحاربة قائمة بين الفريقين، والمخالفة واقعة بين الطرفين على ما يَقتضيه نظام التجاذب الواقع بين صفات الله الجمالية والقهرية، فملائكة الله في طرف، والشياطين في طرف آخر، وأولياء الرحمن في جانب، والدجاجلة أعداء الله في جانب آخر، وما زالوا يتحاربون ويتقاتلون في كل عصر، ولا يزالون مختلفين حتى يأتي أمر الله، ولذلك خلقهم، وكُلًّا يمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا، ومن المعلوم المتيقن أنه كلما ظهر في هذه الأمة دجال كذاب قام من ورثة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم شخص أو قوم لدفع مكائده وإبطال حيله، والله سبحانه وتعالى نصر الصادق وخذل الكاذب، ولا تزال هذه المحاربة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان حتى يخرج رأس الكفر من المشرق وهو الدجال الأعظم وعدو الله الأكبر الذي أنذر به كل نبي قومه، وختمت به سلسلة الدجل والكذب إلى أن كتب: وهذه فتنة لا توجد فتنة أعظم منها، وهناك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، فكأن الظاهر أن لا يقدم بمقاومة خاتم الدجاجلة الكاذبين إلا خاتم الأنبياء والمرسلين، ودعا له الخليل والذبيح، وبشّر بمقدمه المسيح، وانتهت إليه مراتب النبوَّة والرسالة الذي أرسل بالحق كافة للناس بشيرًا ونذيرًا، فلا يبقى على ظهر الأرض بيت وبر ولا مدر إلا أدخله الله دينه القويم، فكان الأوفق فيما يبدو للناس أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه النفيسة حجيج عدو الله الأكبر إلا أن الله سبحانه وتعالى رفع منزلته، وجعل أمر الدجال اللعين أهون من أن يقدم في مقابلته صلى الله عليه وسلم. . .، إلى آخر ما بسط.

ص: 445

(50 -‌

‌ باب ما ذكر عن بني إسرائيل)

تقدم في مقدمة "اللامع"

(1)

في بيان مناسبة الترتيب بين الأبواب من كلام الحافظ قُدِّس سرُّه: ثم ذكر المصنف بعد الأنبياء أشياء من العجائب الواقعة في زمن بني إسرائيل، انتهى.

وبنو إسرائيل ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسرائيل لقب يعقوب، أي: من الأعاجيب التي كانت في زمانهم، ذكر فيه أربعة وثلاثين حديثًا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وذكر العيني

(3)

قصة في سبب تسمية يعقوب بإسرائيل، ويستفاد من كلام الحافظ والقسطلاني أن هذه الأبواب التي في ذكر بني إسرائيل ملحقة بأحاديث الأنبياء، كما سيأتي في مبدأ باب المناقب.

(51 -‌

‌ باب حديث أبرص وأقرع وأعمى. . .) إلخ

كذا في الهامش الهندية معلمًا عليه علامة النسخة، وليس لفظ:"باب" في النسخة الهندية ولا في نسخة الشروح الثلاثة "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني".

قال الحافظ

(4)

: هكذا ترجم لهذا الحديث في أثناء ذكر بني إسرائيل، وهو الحديث الثاني عشر.

وقال العيني والقسطلاني

(5)

: وفي بعض النسخ: "باب حديث أبرص. . ." إلخ.

(52 -‌

‌ باب قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ. . .} [الكهف: 9]) إلخ

هكذا في النسخ الهندية و"العيني" و"القسطلاني"، وليس في نسخة "الفتح" لفظ "باب".

(1)

"لامع الدراري"(1/ 277).

(2)

"فتح الباري"(6/ 496).

(3)

انظر: "عمدة القاري"(11/ 204).

(4)

"فتح الباري"(6/ 501).

(5)

"عمدة القاري"(11/ 213)، "إرشاد الساري"(7/ 470).

ص: 446

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني وحدهما إلى آخر الترجمة، ولغيره في أوله:"باب"، ولم يورد في ذلك إلا تفاسير مما وقع في قصة أصحاب الكهف، وسقط كله من رواية النسفي. وقال أيضًا: لم يذكر المصنف في هذه الترجمة حديثًا مسندًا، وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس قصة أصحاب الكهف مطوّلة غير مرفوعة، ذكرها الحافظ، ملخصًا من "الفتح".

قوله: (الكهف: الفتح في الجبل) هو قول الضحاك، أخرجه عنه ابن أبي حاتم، واختلف في مكان الكهف، فالذي تضافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم، وعن ابن عباس: أنه بالقرب من أيلة، وقيل: بالقرب من طرسوس، وفي "تفسير ابن مردويه" عن ابن عباس: أصحاب الكهف أعوان المهدي، وسنده ضعيف، فإن ثبت حمل على أنهم لم يموتوا بل هم في المنام إلى أن يبعثوا لإعانة المهدي، وقد ورد في حديث آخر بسند واه أنهم يحجون مع عيسى عليه السلام.

قوله: (والرقيم: الكتاب. . .) إلخ، قال أبو عبيدة: الرقيم الوادي الذي فيه الكهف، وعن كعب الأحبار قال: هو اسم القرية، وعن سعيد بن جبير: أن الرقيم اسم الكلب، وقيل: الرقيم هو الغار، كما سأبيِّنه في حديث الغار، وقيل: الرقيم الصخرة التي أطبقت على الوادي، وسيأتي في التفسير قول ابن عباس: إن الرقيم لوح من رصاص كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف، وقيل: الرقيم الدواة، وقال قوم: أخبر الله عن قصة أصحاب الكهف ولم يخبر عن قصة أصحاب الرقيم، قلت: وليس كذلك، بل السياق يقتضي أن أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم، والله أعلم، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 503).

(2)

"فتح الباري"(6/ 503، 504).

ص: 447

(53 -‌

‌‌

‌ باب

حديث الغار)

في نسخ الشروح سقط لفظ "باب".

قال الحافظ

(1)

: عقب المصنف قصة أصحاب الكهف بحديث الغار إشارة إلى ما ورد أنه قد قيل: إن الرقيم المذكور في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} الآية [الكهف: 9] هو الغار الذي أصاب فيه الثلاثة ما أصابهم، وذلك فيما أخرجه البزار والطبراني بإسناد حسن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال: "انطلق ثلاثة، فكانوا في كهف، فوقع الجبل على باب الكهف، فأوصد عليهم" فذكر الحديث، انتهى من "الفتح".

وهكذا في "العيني"

(2)

، ثم قال: قلت: يحتمل أنه ذكر هذا عقيب ذاك؛ لأن هؤلاء الثلاثة كانوا في زمن بني إسرائيل، يدل عليه ما رواه الطبراني عن عقبة بن عامر:"أن ثلاثة نفر من بني إسرائيل"، الحديث.

(54 - باب)

بغير ترجمة، وهكذا في "العيني" و"القسطلاني"

(3)

وقالا: هو كالفصل لما قبله، وليس في أكثر النسخ لفظ:"باب"، انتهى.

ولم يتعرض له الحافظ، وليس هو بموجود في نسخة شرحه.

ثم البراعة عندي وكذا عند الحافظ في قوله: "قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها".

* * *

(1)

"فتح الباري"(6/ 507).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 218).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 221)، "إرشاد الساري"(7/ 479).

ص: 448

61 -

‌ كتاب المناقب

هكذا في نسخة "العيني"، وكذا على هامش النسخة الهندية بعلامة النسخة، وفي النسخ الهندية وكذا في نسخة "الفتح" و"القسطلاني":"باب المناقب".

قال الحافظ

(1)

: كذا في الأصول التي وقفت عليها من كتاب البخاري، وذكر صاحب "الأطراف" وكذا في بعض الشروح أنه قال:"كتاب المناقب"، فعلى الأول هو من جملة كتاب أحاديث الأنبياء، وعلى الثاني هو كتاب مستقل، والأول أولى؛ فإنه يظهر من تصرفه أنه قصد به سياق الترجمة النبوية بأن يجمع فيه أمور النبي صلى الله عليه وسلم من المبدأ إلى المنتهى، فبدأ بمقدماتها من ذكر ما يتعلق بالنسب الشريف، فذكر أشياء تتعلق بالأنساب، ومن ثم ذكر أمورًا تتعلق بالقبائل، ثم النهي عن دعوى الجاهلية؛ لأن معظم فخرهم كان بالأنساب، ثم ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، وشمائله ومعجزاته، واستطرد منها بفضائل أصحابه، ثم أتبع بأحواله قبل الهجرة وما جرى له بمكة، فذكر المبعث، ثم إسلام الصحابة وهجرة الحبشة والمعراج ووفود الأنصار والهجرة إلى المدينة، ثم ساق المغازي على ترتيبها عنده، ثم الوفاة، فهذا آخر هذا الباب، وهو من جملة تراجم الأنبياء، وختمها بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، انتهى من "الفتح".

قلت: وهو كذلك، وقد تقدم في هامش مقدمة "اللامع"

(2)

أيضًا: أن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن ذكر الفضائل والمناقب المتعلقة بهذه

(1)

"فتح الباري"(6/ 526).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 277).

ص: 449

الأمة تمهيد وتكميل لذكر نبينا سيد الأنبياء عليه أفضل الصلوات والتسليمات، ولما كان ذكره الشريف أصلًا ومقصودًا بسط في ذكر التمهيد والتكميل، فذكر قريشًا؛ لأنها قبيلته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

ثم المناقب جمع منقبة، وهي ضد المثلبة، قاله العيني

(1)

، وقال السندي

(2)

: المناقب: المكارم والمفاخر، واحدها منقبة ضد المثلبة كأنها تنقب قلب الحسود، انتهى.

(1 -‌

‌ وقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} الآية [الحجرات: 13]. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: يشير إلى ما تضمنته هذه الآية من أن المناقب عند الله إنما هي بالتقوى بأن يعمل بطاعته ويكف عن معصيته، وقد ورد في الحديث ما يوضح ذلك، ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث ابن عمر في خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفيه:"يا أيها الناس! الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله"، ثم تلا هذه الآية، وروى أحمد وغيره في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى:"يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم"، انتهى.

قوله: ({وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} الآية)[النساء: 1] قال الحافظ

(4)

: المراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى الاحتياج إلى معرفة النسب أيضًا؛ لأنه يعرف به ذو الأرحام المأمور بصلتهم، وذكر ابن حزم في مقدمة كتاب

(1)

"عمدة القاري"(11/ 239).

(2)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 264).

(3)

"فتح الباري"(6/ 527).

(4)

"فتح الباري"(6/ 527).

ص: 450

"النسب" له فصلًا في الرد على من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر؛ بأن في علم النسب ما هو فرض على كل أحد، وما هو فرض على الكفاية، وما هو مستحب، قال: فمن ذلك أن يعلم أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن عبد الله الهاشمي، فمن زعم أنه لم يكن هاشميًا فهو كافر، إلى آخر ما ذكر الحافظ، ونقل ابن عبد البر أنه قال في أول كتابه "النسب": ولعمري لم ينصف من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر، انتهى.

‌باب

بغير ترجمة، ليس لفظ الباب في نسخة "الفتح"، وهو موجود في النسخ الهندية والعيني والقسطلاني.

قال العيني

(1)

: هو كالفصل لما قبله، وقال تحت الحديث الأول من هذا الباب: ووجه ذكره عقيب الحديث السابق أن المذكور فيه: أن الناس تبع لقريش، وفيه تفضيلهم على غيرهم، والمذكور في هذا أنه لم يكن بطن من قريش إلا وللنبي فيه قرابة، فيقتضي هذا تفضيله على الكل، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: دخول هذا الحديث في هذه الترجمة - أي: في ترجمة الباب السابق، فإن هذا الباب ليس في نسخة "الفتح" - واضح من جهة تفسير المودة المطلوبة في الآية بصلة الرحم التي بينه وبين قريش، وهم الذين خوطبوا بذلك، وذلك يستدعي معرفة النسب التي تحقق بها صلة الرحم، قال عكرمة: كانت قريش تصل الأرحام في الجاهلية، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى خالفوه وقاطعوه، فأمرهم بصلة الرحم التي بينه وبينهم، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 245).

(2)

"فتح الباري"(6/ 531).

ص: 451

(2 -‌

‌ باب مناقب قريش)

قال العلَّامة العيني

(1)

: الكلام في قريش على أنواع:

الأول: من هو الذي تسمى بقريش من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الزبير: قالوا: قريش اسم فهر بن مالك، وما لم يلد فهر فليس من قريش، قال الزبير: قال عمي: فهر هو قريش اسمه وفهر لقبه، قال ابن دريد: الفهر: الحجر الأملس يملأ الكف، وهو مؤنث، وقيل: يذكر ويؤنث، وكنية فهر أبو غالب، وقال ابن هشام: النضر هو قريش، فمن كان من ولده فهو قريشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقريشي، وهذا قول الجمهور، وقيل: قصي هو قريش، والقولان الأولان حكاهما غير واحد من أئمة علم النسب، والصحيح الذي عليه الجمهور هو النضر، وقيل: الصحيح هو فهر.

النوع الثاني: في وجه التسمية بقريش، وفيه خمسة عشر قولًا، الأول: أنه من التقرش وهو التكسب والتجارة، وكانت قريش يتقرشون في البياعات، وهذا قاله ابن هشام، ثم ذكر العيني بقية الأقوال فيه.

والنوع الثالث: فيما جاء فيهم، فروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من يريد هوان قريش أهانه الله"، وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم، وكانت لقريش في الجاهلية مكارم، منها: السقاية والعمارة والرفادة والحجابة والحكومة وغير ذلك، ذكره العيني.

وكانوا يسمون آل الله وجيران الله، والنسبة إلى قريش قريشي، وعن الخليل: قرشي أيضًا، فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه، انتهى مختصرًا.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 248، 249).

ص: 452

قوله: (فغضب معاوية) كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: كان وجه الغضب أنه حمل قول عبد الله بن عمرو على أنه يكون خليفة حق، وليس المراد في الحديث ذلك، بل المراد أنه يتغلب، والحاصل أن أحد الصحابيين أخطأ فيه، فإما أن يكون مراد عبد الله أنه سيكون عن قريب أو أنه يكون خليفة حق، وهما غير صحيحين؛ لأنه يكون متغلبًا، ويكون في آخر الزمان، أو يكون الراوي أصاب في فهم ما روى، إلا أن معاوية رضي الله عنه فهم منه خلاف ما قصد، فغضب لذلك، والله أعلم، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(2)

: في إنكار معاوية ذلك نظر؛ لأن الحديث الذي استدل به مقيد بإقامة الدين، فيحتمل أن يكون خروج القحطاني إذا لم تقم قريش أمر الدين، وقد وجد ذلك، انتهى.

وقال العلَّامة السندي

(3)

: وإنما فعل ما فعل معاوية؛ لأنه ما بلغه ذلك الحديث، واستدلاله بحديث "إن هذا الأمر. . ." إلخ، دليل عليه لا له؛ لأن تقييد "ما أقاموا الدين" يشعر أن هذا الأمر لا يبقي فيهم حين تركهم مراعاة الدين، والله تعالى أعلم، انتهى ملخصًا.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف في سبب إنكار معاوية أنه حمل الحديث على أنهم يريدون بمعاونة هذا الحديث إخراج الخلافة من قريش، ويؤيده قول معاوية: إياكم والأماني، وبسط في هامش "اللامع" أيضًا أنهم اختلفوا في القحطاني هل يكون من الخلفاء الصالحين أم لا؟ فارجع إليه لو شئت.

(3 -‌

‌ باب نزل القرآن بلسان قريش)

قال الحافظ

(4)

: أورد فيه طرفًا من حديث أنس في أمر عثمان رضي الله عنه،

(1)

"لامع الدراري"(8/ 101، 102).

(2)

"فتح الباري"(6/ 535).

(3)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 265).

(4)

"فتح الباري"(6/ 537).

ص: 453

وسيأتي مبسوطًا ومشروحًا في "فضائل القرآن"، ووجه دخوله في مناقب قريش ظاهر، والله أعلم، انتهى.

وسنذكر الكلام في جمع القرآن هناك إن شاء الله.

(4 -‌

‌ باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام

-)

أي: ابن إبراهيم الخليل، ونسبة مضر وربيعة إلى إسماعيل متفق عليها، وأما اليمن فجماع نسبهم ينتهي إلى قحطان، واختلف في نسبه، فالأكثر على أنه ابن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، وقيل: هو من ولد هود عليه السلام، وقيل: هو هود نفسه، وقيل: ابن أخيه، ويقال: إن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو والد العرب المتعربة، وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة، وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وغيرهما، وزعم الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل، وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل عليه السلام، وهو ظاهر قول أبي هريرة المتقدم في ذكر قصة هاجر حيث قال وهو يخاطب الأنصار:"فتلك أمكم يا بني ماء السماء"، هذا هو الذي يترجح في نقدي، انتهى من "الفتح"

(1)

وبسط أشد البسط.

قوله: (منهم أسلم بن أفصى) بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها مهملة مقصورًا، ووقع في رواية الجرجاني:"أفعى" بعين مهملة بدل الصاد، وهو تصحيف، وأراد المصنف أن نسب حارثة بن عمرو متصل باليمن، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل كما في حديث سلمة بن الأكوع الذي في هذا الباب، فدلَّ على أن اليمن من بني إسماعيل، وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنه لا يلزم من كون بني أسلم من بني إسماعيل أن يكون جميع من ينسب إلى قحطان من بني إسماعيل لاحتمال

(1)

"فتح الباري"(6/ 537).

ص: 454

أن يكون وقع في أسلم ما وقع في إخوتهم خزاعة من الخلاف، هل هم من بني قحطان أو من بني إسماعيل؟ إلى آخر ما بسطه

(1)

.

قوله: (وأنت مع بني فلان. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: ومن المعلوم أن النصر لا تكون إلا لمن هو معهم، فلذا أمسكوا عن الرمي؛ لأن الرمي إنما كان ليروا إليهم ينصر بإصابة المرمى، فإذا قال: وأنا معكم كلكم أخذوا في المراماة، ولم يكن الفريقان مقابلًا بحيث يرمي كل منهم الآخر، انتهى وذكر في "هامشه" كلام الشرَّاح مما يتعلق به فارجع إليه.

5 -

(باب)

بغير ترجمة، كذا هو بلا ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ووجه تعلقه به من الحديثين الأولين ظاهر، وهو الزجر عن الادعاء إلى غير الأب الحقيقي؛ لأن اليمن إذا ثبت نسبهم إلى إسماعيل فلا ينبغي لهم أن ينسبوا إلى غيره، وأما الحديث الثالث فله تعلق بأصل الباب، وهو أن عبد القيس ليسوا من مضر، وأما الرابع فإشارة إلى ما وقع في بعض طرقه من الزيادة بذكر ربيعة ومضر، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(6 -‌

‌ باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع)

هذه خمس قبائل، كانت في الجاهلية في القوة والمكانة دون بني عامر بن صعصعة وبني تميم بن مرة وغيرهما من القبائل، فلما جاء الإسلام كانوا أسرع دخولًا فيه من أولئك، فانقلب الشرف إليهم بسبب ذلك، فأما أسلم فقد تقدم ذكر نسبهم في الباب الماضي، ثم ذكر الحافظ نسب الباقي من القبائل الأربعة

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 539).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 104 - 105).

(3)

"فتح الباري"(6/ 540).

(4)

"فتح الباري"(6/ 543).

ص: 455

(7 -‌

‌ باب ذكر قحطان)

هكذا في النسخ الهندية و"الفتح"، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني" ها هنا بدله "باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم"، ولا شك أن نسخ البخاري في سياق هذه التراجم مختلفة جدًا تقديمًا وتأخيرًا كما يظهر من الشروح، ونسخة "الفتح" في أكثرها موافقة للنسخة الهندية التي بأيدينا، تقدم القول في قحطان، وهل هو من ذرية إسماعيل أم لا؟ وإلى قحطان تنتهي أنساب أهل اليمن من حمير وكندة وهمدان وغيرهم.

قوله: (حتى يخرج رجل من قحطان) لم أقف على اسمه، ولكن جوَّز القرطبي أن يكون جهجاه الذي وقع ذكره في مسلم من طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ:"لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: جهجاه"، أخرجه عقب حديث القحطاني، ثم قال الحافظ: وهذا الحديث يدخل في علامات النبوَّة من جملة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه ولم يقع بعد، وقد روى نعيم بن حماد في "الفتن" من طريق أرطاة بن المنذر أحد التابعين من أهل الشام: أن القحطاني يخرج بعد المهدي، ويسير على سيرة المهدي. . .، إلى آخر ما قال في "الفتح"

(1)

.

تنبيه: قد تقدم في مقدمة "اللامع"

(2)

في بيان مناسبة الترتيب بين الكتب والأبواب على الهامش، وأجاد شيخ مشايخنا في تراجمه ههنا كلامًا لطيفًا فقال في "باب ذكر قحطان": تحير الناس في هذه المطالب التي ترجم لها البخاري ولم يهتدوا إلى مقصده فيها، والذي وفق هذا العبد الضعيف بفهمه أن البخاري عمد ها هنا إلى قصص أطال الكلام محمد بن إسحاق فيها في "سيرته"، فأقام لكل منها شاهدًا من الأحاديث الصحيحة على شرطه، فذكر ابن إسحاق قصة

(3)

اليمن من حر، فأتى البخاري لها شاهدًا

(1)

"فتح الباري"(6/ 545، 546).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 277، 278).

(3)

كذا في الأصل مع بياض قبله، (ز).

ص: 456

وهو ذكر قحطان في الحديث الصحيح، وذكر حلف الفضولي وغيرهما من معاداتهم في ما بينهم، فأشار إليه البخاري بقوله:"باب ما ينهى من دعوى الجاهلية"، وذكر تسلط خزاعة على مكة بعد ما أخرجوا، فأتى لها بشاهد، وهو ذكر عمرو بن لحي وتسييبه السوائب، وذكر قصة حفر عبد المطلب زمزم فأتى لها بشاهد، وهو حديث إسلام أبي ذر وشربه من زمزم، فإنه يدل على أن زمزم كان موجودًا في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الدارمي قبل ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم جهل العرب، وأخرج قصة رجل ذكر عنده صلى الله عليه وسلم أنه قتل ابنيه في الجاهلية، فأتى البخاري لها بشاهد، وهو قوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} [الأنعام: 140] وذكر ابن إسحاق نسبه صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا إسماعيل، وروي عن مالك أنه كره رفع النسب إلى ما فوق الإسلام، فانتصر البخاري لابن إسحاق، وذكر ابن إسحاق في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم قصة الفيل واستيلاء الجيش على اليمن، فلم يجد البخاري لها شاهدًا فأتى بقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، وذكر الحبشة في الحديث، وخطابه لبني أرفدة، هذا ما لاح لي، والله تعالى أعلم، انتهى بلفظه الشريف، نوَّر الله مرقده، انتهى من هامش مقدمة "اللامع".

(8 -‌

‌ باب ما ينهى عنه من دعوة الجاهلية)

قال الحافظ

(1)

: ودعوى الجاهلية: الاستغاثة عند إرادة الحرب، كانوا يقولون: يا آل فلان، فيجتمعون فينصرون القائل ولو كان ظالمًا، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك، وكأن المصنف أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث جابر المذكور، وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه والمحاملي في "الفوائد الأصبهانية" من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اقتتل غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فذكر الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"فتح الباري"(6/ 546، 547).

ص: 457

"أدعوى الجاهلية؟ قالوا: لا، قال: لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، فإن كان ظالمًا فلينهه، فإنه له نصر"، وعرف من هذا أن الاستغاثة ليست حرامًا، وإنما الحرام ما يترتب عليها من دعوى الجاهلية، انتهى.

(9 -‌

‌ باب قصة خزاعة)

اختلف في نسبهم مع الاتفاق على أنهم من ولد عمرو بن لحي باللام والمهملة مصغرًا، وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء، وقد تقدم نسبه في أسلم، وأسلم هو عم عمرو بن لحي، ويقال: إن اسم لحي ربيعة، وقد صحف بعض الرواة فقال: عمرو بن يحيى، ووقع مثل ذلك في "الجمع" للحميدي

(1)

، والصواب باللام وتشديد الياء آخره مصغر، ويقال لخزاعة: بنو كعب، نسبوا إلى جدهم كعب بن عمرو بن لحي، قال ابن الكلبي: لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له: غسَّان، فمن أقام به منهم فهو غسَّاني، وانخزعت منهم بنو عمرو بن لحي عن قومهم، فنزلوا مكة وما حولها فسموا خزاعة، وتفرقت سائر الأزد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(10 -‌

‌ باب قصة إسلام أبي ذر)

" باب قصة زمزم" هكذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "القسطلاني" ها هنا:"باب قصة زمزم"، قال القسطلاني

(3)

: ولأبي ذر: "قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه" وعند "العيني": "باب قصة زمزم، وفيه: إسلام أبي ذر"، وفي نسخة "الفتح":"قصة زمزم"، وذكر فيه الحديث المذكور في النسخ الهندية، لكن ذكر فيه قبله:"باب قصة إسلام أبي ذر"، وذكر فيه الحديث بطوله في

(1)

"الجمع بين الصحيحين"(3/ 18)، (ح 2184)، وفيه:"عمرو بن لحي" على الصواب.

(2)

"فتح الباري"(6/ 547، 548).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 27).

ص: 458

قصة إسلامه، وهذا الباب مع ما ذكر فيه من الحديث يأتي في النسخ الهندية بعد عدة أبواب، يعني: بعد "إسلام أبي بكر وسعد"، ولهذا قال الحافظ

(1)

ها هنا: وسقط هذا الباب (أي: إسلام أبي ذر) لغير أبي ذر، وكأنه أولى؛ لأن هذه الترجمة ستأتي بعد إسلام أبي بكر وسعد وغيرهما، انتهى.

وقال العيني

(2)

بعد ذكر حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة، أما قصة زمزم فلأن فيه ذكر زمزم، واكتفى أبو ذر رضي الله عنه به في المدة التي أقام فيها بمكة، وأما قصة إسلامه فظاهرة من هذا الباب، انتهى.

قلت: وقد تقدم في مقدمة "اللامع"

(3)

في الفائدة الثالثة عشر في مناسبة الترتيب بين الكتب والأبواب ما قال الحافظ: ولما ذكر أسلم وغفارًا ذكر قريبًا منه إسلام أبي ذر؛ لأنه أول من أسلم من غفار، انتهى.

وتقدم هناك في هامشه: قلت: بل ذكره ها هنا لبيان زمزم كما ترجم به، وذكر إسلامه استطرادي من حيث إنه أول من أسلم من غفار، كما أفاده الحافظ، وذكر إسلامه يناسب الترجمة الثانية الآتية بعد النبوَّة، وإلا فلا وجه لذكر إسلامه قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم.

(12 -‌

‌ باب جهل العرب)

وفي نسخة "الفتح": "باب قصة زمزم وجهل العرب"، وذكر فيه الحديث المذكور في النسخ الهندية، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني" ها هنا:"باب ذكر قحطان"، وهذا الباب قد تقدم في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "الفتح" بعد ذكر أسلم وغفار.

قال الحافظ

(4)

: كذا لأبي ذر ولغيره "باب جهل العرب"، وهو أولى إذ لم يجر في حديث الباب لزمزم ذكر، وأما الإسماعيلي فجمع هذه الأحاديث في ترجمة واحدة وهو متجه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 550).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 271).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 277، 278).

(4)

"فتح الباري"(6/ 551).

ص: 459

(13 -‌

‌ باب من انتسب إلى آبائه)

قال العيني

(1)

: أي: بيان جواز انتساب من انتسب إلى آبائه الذين مضوا في الإسلام أو في الجاهلية، وكره بعضهم ذلك مطلقًا، ومحل الكراهة إنما كان إذا ذكره على طريق المفاخرة والمشاجرة، وقد روى الإمام أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" بإسناد حسن من حديث أبي ريحانة رفعه:"من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزًا أو كرامة، فهو عاشرهم في النار"، انتهى. وكذا في "الفتح"

(2)

.

(14 -‌

‌ باب ابن أخت القوم ومولى القوم منهم)

وهكذا هذه الترجمة ها هنا في نسخة "الفتح"، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني" تقدم هذا الباب كما سبق في "باب ذكر قحطان" وفي نسختيهما ها هنا:"باب قصة الحبش" الآتي بعد هذا الباب.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "منهم" أي: فيما يرجع إلى المناظرة والتعاون ونحو ذلك، وأما بالنسبة إلى الميراث ففيه نزاع، كما سيأتي بسطه في "كتاب الفرائض"، ولم يذكر المصنف حديث "مولى القوم منهم" مع ذكره في الترجمة، فزعم بعضهم أنه لم يقع له حديث على شرطه فأشار إليه، وفيه نظر؛ لأنه قد أورده في الفرائض من حديث أنس، ولفظه:"مولى القوم من أنفسهم" والمراد بالمولى ها هنا المعتق بفتح المثناة، أو الحليف، وأما المولى من أعلى فلا يراد ها هنا، ووقع في حديث أبي هريرة عند البزار مضمون الترجمة وزيادة عليها بلفظ:"مولى القوم منهم، وحليف القوم منهم، وابن أخت القوم منهم"، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: وإثبات الجزء الثاني بالرواية مقايسة، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 275).

(2)

"فتح الباري"(6/ 551).

(3)

"فتح الباري"(6/ 552، 553).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 108).

ص: 460

وتقدم عن الحافظ أنه أشار به إلى ما سيأتي، وبه جزم العيني.

(15 -‌

‌ باب قصة الحبش)

قال الحافظ

(1)

: والحبش هم الحبشة، يقال: إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام بن نوح، وهم مجاورون لأهل اليمن يقطع بينهم البحر، وقد غلبوا على اليمن قبل الإسلام وملكوها، وغزا أبرهة من ملوكهم الكعبة ومعه الفيل، وقد ذكر ابن إسحاق قصته مطوَّلة، وأخرجها الحاكم ثم البيهقي من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس ملخصة، وإلى هذا القدر أشار المصنف بذكرهم في مقدمة السيرة النبوية، انتهى من "الفتح".

وقال العيني

(2)

: لم يذكر في الباب من قصة الحبشة إلا شيئًا نزرًا، وذكر ابن إسحاق قصتهم مطوَّلة، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه، انتهى.

قوله: (يا بني أرفدة) هو بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء، اسم لجد لهم وقيل: معنى الأرفدة الأمة، وقد تقدم شيء من ذلك في أبواب العيدين.

ثم قال الحافظ: وقد استدل قوم من الصوفية بحديث الباب على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين، فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب، فلا يحتج به للرقص في اللهو، والله أعلم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(16 -‌

‌ باب من أحب أن لا يسب نسبه)

يسب بضم أوله، والمراد بالنسب الأصل، وبالسب الشتم، والمراد أن لا يشتم أهل نسبه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(6/ 553).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 278).

(3)

"فتح الباري"(6/ 553).

(4)

"فتح الباري"(6/ 553، 554).

ص: 461

ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: "فقال: كيف بنسبي"؟ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يهجى نسبه مع هجو الكفار، انتهى من "العيني"

(1)

.

(17 -‌

‌ باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

قوله: ({مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ. . .}) إلخ، ليست هذه الآية في نسخة "الفتح". قال القسطلاني

(2)

: ثبتت هذه الآية ههنا في رواية أبي الوقت، انتهى.

قوله عز وجل: ({مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. . .}) إلخ، قال الحافظ

(3)

: كأنه يشير إلى أن هذين الاسمين أشهر أسمائه، وأشهرهما محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكرر في القرآن، وأما أحمد فذكر فيه حكاية عن قول عيسى عليه السلام، فأما محمد فمن باب التفعيل للمبالغة، وأما أحمد فمن باب التفضيل، وقيل: سمي أحمد؛ لأنه عَلَمٌ منقولٌ من صفة، وهي أفعل التفضيل، ومعناه: أحمد الحامدين، وسبب ذلك ما ثبت في الصحيح أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وقيل: الأنبياء حمادون وهو أحمدهم، أي: أكثرهم حمدًا أو أعظمهم في صفة الحمد، وأما محمد فمنقول من صفة الحمد أيضًا، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، وقد أخرج المصنف في "التاريخ الصغير" من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:

وَشَقَّ لَهُ مِن اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدٌ

والمحمد الذي حمد مرة بعد مرة كالممدح، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة. قال عياض

(4)

: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد قبل أن يكون محمدًا، كما وقع في الوجود؛ لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدًا وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده

(1)

"عمدة القاري"(11/ 279).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 41).

(3)

"فتح الباري"(6/ 555).

(4)

"الشفا"(1/ 328).

ص: 462

الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس، وقد خص بسورة الحمد وبلواء الحمد وبالمقام المحمود، وشرع له الحمد بعد الأكل، وبعد الشرب، وبعد الدعاء، وبعد القدوم من السفر، وسميت أمته الحمَّادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، انتهى.

قوله: (لي خمسة أسماء) قال القسطلاني

(1)

: فإن قيل: إن المقرر في علم المعاني أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، وقد وردت الرواية بأكثر من ذلك، حتى قال ابن العربي: إن له صلى الله عليه وسلم ألف اسم، أجيب بأنه لم يرد الحصر فيها، فالظاهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها، أو خمسة أسماء مشهورة عند الأمم السابقة، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقال عياض

(3)

: حمى الله هذه الأسماء أن يسمى بها أحد قبله، وإنما تسمى بعض العرب محمدًا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيًّا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمّدًا، فرجوا أن يكونوا هم، فسموا أبناءهم بذلك، قال: وهم ستة لا سابع لهم، كذا قال، وقال السهيلي في "الروض": لا يعرف في العرب من تسمى محمدًا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن أحيحة [بن الجلاح]، ومحمد بن حمران بن ربيعة، قال الحافظ: وهو حصر مردود، وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد، فبلغوا نحو العشرين لكن مع تكرر في بعضهم، ووهم في بعض، فيتخلص منهم خمسة عشر نفسًا.

وقال الحافظ

(4)

أيضًا بعد ذكر حديث الباب: قال ابن دحية في تصنيف له مفرد في الأسماء النبوية: قال بعضهم: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم عدد

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 41).

(2)

"فتح الباري"(6/ 556).

(3)

"الشفا"(1/ 330).

(4)

"فتح الباري"(6/ 558).

ص: 463

أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسمًا، قال: ولو بحث عنها باحث لبلغت ثلاثمائة اسم، وذكر في تصنيفه المذكور أماكنها من القرآن والأخبار، وضبط ألفاظها وشرح معانيها، وغالب الأسماء التي ذكرها وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية، مثل عدّه اللبنة - بفتح اللام وكسر الموحدة ثم النون - في أسمائه للحديث المذكور في الباب بعده في القصر الذي من ذهب وفضة إلا موضع لبنهَ قال:"فكنت أنا اللبنة"، ونقل ابن العربي في "شرح الترمذي" عن بعض الصوفية: أن لله ألف اسم ولرسوله ألف اسم.

(18 -‌

‌ باب خاتم النبيين)

يعني: المراد بالخاتم في أسمائه أنه خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وأما مطابقة الحديث الأول بالترجمة فما قال العيني

(2)

: تؤخذ المطابقة من معناه؛ لأن في طريق من طرق الحديث عند الإسماعيلي: "فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

تحت الباب: أشار إلى ما أخرجه في "التاريخ" من حديث العرباض بن سارية رفعه: "إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته" الحديث، وأخرجه أيضًا أحمد وصححه ابن حبان والحاكم، انتهى.

(19 -‌

‌ باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

-)

كذا في النسخ الهندية، وكذا في نسخة الشروح، ويشكل إيراده ها هنا فإنه سيأتي في محله.

(1)

"فتح الباري"(6/ 559).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 284).

(3)

"فتح الباري"(6/ 559).

ص: 464

قال الحافظ

(1)

: كذا وقعت هذه الترجمة عند أبي ذر، وسقطت من رواية النسفي، ولم يذكرها الإسماعيلي، وفي ثبوتها هنا نظر؛ فإن محلها في آخر المغازي كما سيأتي، والذي يظهر أن المصنف قصد بإيراد حديث عائشة هنا بيان مقدار عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لا خصوص زمن وفاته، وأورده في الأسماء إشارة إلى أن من جملة صفاته عند أهل الكتاب أن مدة عمره القدر الذي عاشه، وسيأتي نقل الخلاف في مقداره في آخر المغازي إن شاء الله، انتهى.

(20 -‌

‌ باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا)

قال الحافظ

(2)

: الكنية بضم الكاف وسكون النون مأخوذة من الكناية، تقول: كنيت عن الأمر بكذا إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحًا، وقد اشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت على الأسماء؛ كأبي طالب وأبي لهب، وقد يكون للواحد كنية واحدة فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعًا، فالاسم والكنية واللقب يجمعها العلم بفتحتين، وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح أو ذم، والكنية ما صدرت بأب أو أم، وما عدا ذلك فهو اسم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى أبا القاسم بولده القاسم، وكان أكبر أولاده، واختلف هل مات قبل البعثة أو بعدها؟ وقد ولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم في المدينة من مارية رضي الله عنها، وفي حديث أنس: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "السلام عليك يا أبا إبراهيم". وقد اختلف في جواز التكني بكنيته صلى الله عليه وسلم؛ فالمشهور عن الشافعي المنع على ظاهر هذه الأحاديث، وقيل: يختص ذلك بزمانه، وقيل: بمن تسمى باسمه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 559).

(2)

"فتح الباري"(6/ 560).

ص: 465

وسيأتي بسط ذلك وتوجيه هذه المذاهب في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(21 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر بغير ترجمة، وضمه بعضهم إلى الباب الذي قبله، ولا تظهر مناسبته له، ولا يصلح أن يكون فصلًا من الذي قبله، بل هو طرف من الحديث الذي بعده، ولعل هذا من تصرف الرواة، نعم وجهه بعض شيوخنا بأنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذا اسم وكنية لكن لا ينبغي أن ينادى بشيء منهما بل يقال له: يا رسول الله كما خاطبته خالة السائب لما أتت به إليه، ولا يخفى تكلفه، انتهى.

(22 -‌

‌ باب خاتم النبوَّة)

أي: صفته، وهو الذي كان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من علاماته التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها، وادعى عياض

(2)

: أن الخاتم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه، وتعقبه النووي وقال: هذا باطل؛ لأن الشق إنما كان في صدره وبطنه، وكذا قال القرطبي

(3)

: وأثره إنما كان خطًا واضحًا من صدره إلى مراق بطنه، كما في الصحيحين، قال: ولم يثبت قط أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره، فهذه غفلة من هذا الإمام، ولعل ذلك وقع من بعض نساخ كتابه، فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، كذا قال.

قال الحافظ: وقد وقفت على مستند القاضي ثم ذكره، فارجع إليه

(4)

. وقد بسط الحافظ في صفة الخاتم بما ورد فيه من الروايات وآراء العلماء.

قوله: (الحجلة من حجل الفرس. . .) إلخ، أورد عليه الشرَّاح بأن التحجيل إنما يكون في القوائم، وأما الذي في الوجه هو الغرة، ووجهه

(1)

"فتح الباري"(6/ 561).

(2)

"الإكمال"(7/ 314).

(3)

"المفهم"(6/ 137).

(4)

"فتح الباري"(6/ 561).

ص: 466

الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

إذ قال: المقصود منه بيان مادة الاشتقاق لا أن معناه في الرواية ذلك، فلا حاجة إلى التغليط، انتهى.

وبسط في هامش "اللامع" من كلام الشرَّاح، وكذا ما في تقرير مولانا محمد حسن المكي، فارجع إليه لو اشتقت.

(23 -‌

‌ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم

-)

أي: خلقه وخلقه، وأورد فيه أربعة وعشرين حديثًا، منها حديث أبي هريرة وفيه قوله:"بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا. . ." إلخ، كتب مولانا محمد حسن المكي في تقريره: هذا بيان لشرافة نسبه صلى الله عليه وسلم، يعني: أن القرون التي هي خير من قرون بني آدم أنا منها، والقرن: طبقة الناس، وقوله:"قرنًا فقرنًا" يعني: أنا خير طبقتي، وأبي خير طبقته، وجدي خير طبقته، وأب جدي خير طبقته، وهكذا حتى تنتهي إلى آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن هذا بيان لأفضلية طبقته صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم بعث في خير القرون باعتبار الابتداء، وكذا باعتبار الانتهاء، أما باعتبار الابتداء فلأجل هذا الحديث، فإن المعنى أن القرون الماضية تترقى إلى الخيرية قرنًا فقرنًا، فقد قالوا: إن زمن آدم كان زمن الصبا، وزمن نوح كان زمن الشباب، وزمن إبراهيم زمن الكهولة، وزمن نبينا صلوات الله وسلامه عليهم زمن المشيخة، وأما باعتبار الانتهاء فبمقتضى الحديث المعروف الآتي في باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث، فالغرض من حديث الباب (حديث أبي هريرة) بيان أفضلية طبقته باعتبار الابتداء، انتهى من هامش "اللامع"

(2)

.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 109).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 112).

ص: 467

(24 -‌

‌ باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه. . .) إلخ

وفي رواية الكشميهني: "عيناه" بدل "عينه".

قوله: (وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) قال الحافظ

(1)

: قد تقدم مثل هذا من قول عبيد بن عمير في أوائل الطهارة، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لكنه بالنسبة للأمة، وزعم القضاعي أنه مما اختص به عن الأنبياء أيضًا، وهذان الحديثان يردان عليه، انتهى.

ويظهر من كلام العيني

(2)

أنه جعل هذا الباب بغير ترجمة، فإنه قال بعد لفظ:"باب" أي: هذا باب، وهو كالفصل لما قبله، ثم ذكر قوله:"كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام. . ." إلخ، منفردًا عما قبله.

(25 -‌

‌ باب علامات النبوَّة في الإسلام)

أي: الواقعة "في" زمن "الإسلام" من حين البعث دون ما وقع منها قبل، وعبَّر بالعلامات لتشمل المعجزات التي هي خوارق عادات مع التحدي والكرامات، قاله القسطلاني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: جمع علامة، وعبَّر بها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعمُّ من المعجزة والكرامة، والفرق بينهما أن المعجزة أخصّ؛ لأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم من يكذبه بأن يقول: إن فعلت كذلك أتصدق بأني صادق، أو يقول من يتحداه: لا أصدقك حتى تفعل كذا، ويشترط أن يكون المتحدي به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة، وقد وقع النوعان للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن، والهاء فيها للمبالغة، أو هي صفة محذوف، وأشهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تحدى به العرب - وهم

(1)

"فتح الباري"(6/ 579).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 308).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 71).

(4)

"فتح الباري"(6/ 581 - 583).

ص: 468

أفصح الناس لسانًا وأشدهم اقتدارًا على الكلام - بأن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا مع شدة عداوتهم له وصدِّهم عنه، إلى آخر ما بسط في بيان إعجاز القرآن إلى أن قال: وأما ما عدا القرآن - من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وانشقاق القمر ونطق الجماد -، فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًا على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بوجود جود حاتم وشجاعة علي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكثير والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار.

وذكر النووي في "مقدمة شرح مسلم": أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين، وقال البيهقي في "المدخل": بلغت ألفًا، وقال الزاهدي من الحنفية: ظهر على يديه ألف معجزة، وقيل: ثلاثة آلاف، وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمة؛ كأبي نعيم والبيهقي وغيرهما، انتهى من "الفتح" مختصرًا.

قلت: وكذا بسطها السيوطي في "الخصائص"

(1)

، والقسطلاني في "المواهب"

(2)

. وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: "باب علامات النبوَّة" يعني بها: معجزاته صلى الله عليه وسلم، ويندرج فيه كرامات صحابته؛ لأن كرامة الولي تكون معجزة لنبيِّه، ويندرج فيه إخباره صلى الله عليه وسلم عما سيقع، وعن علامات الساعة وعما يجري في عالم الغيب، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(4)

: قوله: "في الإسلام" أي: من حين المبعث وهلم جرّا دون ما وقع قبل ذلك، وقد جمع ما وقع من ذلك قبل المبعث بل قبل المولد الحاكم في "الإكليل"، وأبو سعيد النيسابوري في

(1)

"الخصائص الكبرى"(2/ 186 - 187).

(2)

المواهب اللدنية (2/ 495 - 577).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 116، 117).

(4)

"فتح الباري"(6/ 583).

ص: 469

"شرف المصطفى"، وأبو نعيم والبيهقي في "دلائل النبوَّة"، ثم بسط الحافظ في ذكر علامات النبوَّة الواردة عند مولده صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده، ومال العلَّامة الكشميري رحمه الله كما في "الفيض"

(1)

إلى أن المصنف بصدد بيان العلامات سواء كانت من جنس الإرهاصات، وهي ما تقع قبل النبوَّة، أو من جنس المعجزات، أي: ما يصدر بعد النبوَّة، وقال الحافظ: أورد المصنف في هذا الباب نحو خمسين حديثًا، انتهى.

قوله: (كنا نعد الآيات بركة. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: بيان لفساد الزمان وانقلاب الأمر من الخير إلى الشر، يعني: أن الآيات في زمنه صلى الله عليه وسلم كانت بركة وبشارات للمسلمين، وأما اليوم فلم يبق منها غير التهويل والتخويف؛ كالزلزلة وقحوط المطر وغيرهما، فذكر العدد وأراد ملزومه وهو الوجود، انتهى.

قلت: وما أفاده الشيخ هو أجود بل أصح عندي مما قاله الشرَّاح، كما بسط في هامش "اللامع"، فارجع إليه لو شئت.

أما مطابقة حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أضيافه بالباب فقال العيني

(3)

: قيل: لا مطابقة بينهما؛ لأن الترجمة في علامات النبوَّة والحديث في كرامة الصديق، وأجيب بأنه يجوز أن تظهر المعجزة على يد الغير، أو استفيد الإعجاز من آخره حيث قال: أكلوا منها أجمعون، انتهى.

قلت: ومن المعروف أن كرامة الولي معجزة لنبيِّه كما تقدم قريبًا.

(26 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [البقرة:

146])

قال الحافظ

(4)

: وجه دخول هذه الترجمة في أبواب علامات النبوَّة

(1)

"فيض الباري"(4/ 453).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 118).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 319).

(4)

"فتح الباري"(6/ 631).

ص: 470

من جهة أنه أشار في الحديث إلى حكم التوراة، وهو أمي لم يقرأ التوراة قبل ذلك، فكان الأمر كما أشار إليه، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: دلالة الرواية على الترجمة من حيث إنهم كانوا قد تعاهدوا فيما بينهم أن يأتوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمرهم بالرجم أنكروه، وإن أمرهم بالجلد جلدوه، فإن سألهم الرب تبارك وتعالى يوم القيامة عن اكتفائهم بالجلد احتجوا بأنهم فعلوا ذلك بأمر رسوله ونبيِّه، وفيه دلالة على أنهم قد عرفوا ذلك، أي: كونه نبيًا، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح، كما هو نص رواية أبي داود، وبه يظهر المطابقة بين الحديث والترجمة، وذكر القسطلاني أيضًا رواية أبي داود.

(27 -‌

‌ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية. . .) إلخ

ذكر فيه حديث ابن مسعود وأنس وابن عباس في ذلك، وقد ورد انشقاق القمر أيضًا من حديث علي وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك، وممن صرح برؤية ذلك ابن مسعود، وقد أورد المصنف حديثه هنا مختصرًا، وليس فيه التصريح بحضور ذلك، وأورده في التفسير بتمامه، ووقع في رواية لأبي نعيم في "الدلائل" عن ابن مسعود:"فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة"، انتهى

(2)

.

قال القسطلاني

(3)

: قوله - أي: في الحديث -: "اشهدوا" وإنما قال

(1)

"لامع الدراري"(8/ 137).

(2)

"فتح الباري"(6/ 632).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 146، 147).

ص: 471

ذلك؛ لأنها معجزة عظيمة لا يكاد يعد لها شيء من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومعجزة انشقاق القمر من أمهات المعجزات، وأجمع عليه المفسرون وأهل السُّنَّة، وروي عن جماعة كثيرة من الصحابة، انتهى.

قلت: وترجم المصنف فيما سيأتي بعد "‌

‌باب

إسلام عمر رضي الله عنه" "باب انشقاق القمر"، ولا يتوهم التكرار بينهما، فإن المقصود ها هنا بيان كونه علامة وآية، فإن هذه الأبواب في علامات النبوَّة في الإسلام، وذكره فيما سيأتي لكونه من الوقائع المهمة.

(28 - باب)

بغير ترجمة، كذا في الأصول بغير ترجمة، وكان من حقه أن يكون قبل البابين اللذين قبله؛ لأنه ملحق بعلامات النبوَّة، وهو كالفصل منها، لكن لما كان كل من البابين راجعًا إلى الذي قبله، وهو علامات النبوَّة سهل الأمر في ذلك، انتهى

(1)

.

وتعقب عليه العيني

(2)

إذ قال: قلت: لا يحتاج إلى هذا الكلام ولا الاعتذار عنه؛ لأن البابين اللذين قبله من علامات النبوَّة أيضًا، وهذا الباب المجرد في نفس الأمر ملحق بما ألحق به البابان اللذان قبله، وقال أيضًا: وهذا الباب كالفصل لما قبله، وقال بعد ذكر الحديث: كرامة أحد من الصحابة وممن كان بعدهم من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ويلحق بها، والحديث بعينه سندًا ومتنًا مر في باب مجرد بين أبواب المساجد، ومثل هذا هو المكرر حقيقة، وهو قليل، والرجلان في الحديث: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، انتهى.

* * *

(1)

"فتح الباري"(6/ 633).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 372، 373).

ص: 472

62 -

‌ كتاب فضائل الصحابة

(1 -‌

‌ باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أي بطريق الإجمال ثم التفصيل. أما الإجمال فيشمل جميعهم، لكنه اقتصر فيه على شيء مما يوافق شرطه، وأما التفصيل فلمن ورد فيه شيء بخصوصه على شرطه، وسقط لفظ:"باب" من رواية أبي ذر وحده، انتهى.

قلت: وللصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فضيلة يشمل جميعهم ويعم كلهم، وهي أنهم رضي الله عنهم من خير القرون ابتداء وانتهاء، أما الأول فلحديث أبي هريرة:"بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا" كما تقدم في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم" وأما باعتبار الانتهاء فلحديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث، وتوضيح الكلام قد مرَّ منا في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم".

ثم إن العلماء قد ذكروا ترتيب الصحابة من حيث التفضيل مجملًا، فكتب مولانا محمد أحمد علي المحدث السهارنفوري في هامش البخاري

(2)

: وفي "شرح السُّنَّة"

(3)

: قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيب الخلافة، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أُحد، ثم بيعة الرضوان، ومن له مزية من أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون، وهم من صلى [إلى] القبلتين، وقيل: أهل بيعة الرضوان، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(6/ 637).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(7/ 370).

(3)

انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (8/ 165).

ص: 473

قوله: (ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه. . .) إلخ، يعني: أن اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقلّ ما يطلق عليه اسم صحبة لغة، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة، ويطلق أيضًا على من رآه رؤية ولو على بعد، وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح، إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر، وعمل من صنَّف في الصحابة يدل على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما ولد قبل وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في الصحيح: أن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقًا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء؛ لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين، ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة.

ومنهم من بالغ فكان لا يعد في الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة، أخرجه أحمد، وكذا روي عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدًا، أو غزا معه غزوة فصاعدًا، والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب، ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغًا، وهو مردود أيضًا؛ لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة، والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين.

ص: 474

وقول البخاري: "من المسلمين" قيد يخرج به من صحبه أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم فإن كان قوله:"من المسلمين" حالًا خرج من هذه صفته وهو المعتمد، ويرد على التعريف من صحبه أو رآه مؤمنًا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنه ليس صحابيًا اتفاقًا، فينبغي أن يزاد فيه "ومات على ذلك"، مثل ربيعة ابن أمية بن خلف الجمحي، وقد وقع حديثه في "مسند أحمد"، وإخراج حديث مثل هذا مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده، فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيًا بعد عوده فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عدِّ الأشعث بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك.

وهل يختص جميع ذلك ببني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجن فالراجح دخولهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة.

وأما الملائكة فيتوقف عدُّهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافًا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم، وهذا كله فيمن رآه، وهو في قيد الحياة الدنيوية، وأما من رآه بعد موته وقبل دفنه فالراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة، وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقًّا فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية، فلا يعد صحابيًا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، والله تعالى أعلم باختصار يسير

(1)

.

(1)

انظر: "فتح الباري"(7/ 4، 5).

ص: 475

وهذه المسألة من مسائل الأصول، بسط الكلام عليه الحافظ في مبدء كتابه "الإصابة"

(1)

، وابن عبد البر في "الاستيعاب"

(2)

، والسيوطي في "التدريب"

(3)

.

ثم اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى كما قال الحافظ

(4)

: لم يراع الترتيب في أسماء من ذكر من الصحابة في أبواب المناقب، لا من حيث الأفضلية ولا من حيث السابقية ولا الأسنية، وهذه هي جهات التقديم في الترتيب، وهذا يدل على أنه كتب كل ترجمة على حدة فضم بعض النقلة بعضها إلى بعض.

(2 -‌

‌ باب مناقب المهاجرين وفضلهم) ومنهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة رضي الله عنهم

-

سقط لفظ "باب" من رواية أبي ذر، والمهاجرون هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة إلى الله تعالى، وقيل: المراد بالمهاجرين من عدا الأنصار ومن أسلم يوم الفتح وهلمَّ جرّا، فالصحابة من هذه الحيثية ثلاثة أصناف، والأنصار هم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم، انتهى من "العيني"

(5)

. واقتصر الحافظ في "الفتح"

(6)

على القول الأخير، أي: المراد بهم من عدا الأنصار. . . إلخ.

قوله: (منهم أبو بكر. . .) إلخ، هكذا جزم بأن اسم أبي بكر رضي الله عنه عبد الله، وهو المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وكان يسمى أيضًا عتيقًا، واختلف هل هو اسم له أصلي أو قيل له ذلك؟ لأنه ليس في نسبه ما يعاب به، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك لحسنه، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد،

(1)

"الإصابة"(1/ 7، 8).

(2)

"الاستيعاب"(1/ 24).

(3)

"تدريب الراوي"(2/ 667 - 672).

(4)

"فتح الباري"(7/ 93).

(5)

"عمدة القاري"(11/ 384).

(6)

"فتح الباري"(7/ 9).

ص: 476

فلما ولد استقبلت به البيت فقالت: اللَّهم هذا عتيقك من الموت، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّره بأن الله أعتقه من النار، وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصححه ابن حبان وزاد فيه:"وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان"، وعثمان اسم أبي قحافة لم يختلف في ذلك، كما لم يختلف في كنيته الصديق، ولُقِّب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، وروى الطبراني من حديث علي "أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق" رجاله ثقات.

وأما نسبه فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مرة سواء، وأم أبي بكر سلمى، وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه؛ لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده.

قوله: (وقول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية) ساقها الأصيلي وكريمة إلى قوله: {هُمُ الصَّادِقُونَ} ، وأشار المصنف بهذه الآية إلى ثبوت فضل المهاجرين لما اشتملت عليه من أوصافهم الجميلة وشهادة الله تعالى لهم بالصدق.

قوله: (وقال الله تعالى: {إلا تَنْصُرُوهُ} الآية) أشار المصنف بها إلى ثبوت فضل الأنصار؛ فإنهم امتثلوا الأمر في نصره، وفي الآية أيضًا فضل أبي بكر الصديق؛ لأنه انفرد بهذه المنقبة حيث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة ووقاه بنفسه، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(7/ 9).

ص: 477

(3 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر. . .") إلخ

قال الحافظ

(1)

: قوله: "قاله ابن عباس. . ." إلخ، وصله المصنف في الصلاة بلفظ:"سدوا عني كل خوخة" فكأنه ذكره بالمعنى، وقوله في الحديث:"إلا باب أبي بكر" قال الحافظ

(2)

: هو استثناء مفرغ، والمعنى: لا تبقوا بابًا غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد، قال الخطابي

(3)

وابن بطال

(4)

وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر، وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها، وإلى هذا جنح ابن حبان فقال - بعد أن أخرج هذا الحديث -: في هذا دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما قال، زاد الطبراني في آخر هذا الحديث بمعناه:"فإني رأيت عليه نورًا"، ثم ذكر الحافظ ههنا الكلام على الأحاديث التي يخالف ظاهرها حديث الباب الواردة في استثناء باب علي، فارجع إليه لو شئت.

(4 -‌

‌ باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم

-)

أي: في رتبة الفضل، وليس المراد البعدية الزمانية؛ فإن فضل أبي بكر كان ثابتًا في حياته صلى الله عليه وسلم، كما دلَّ عليه حديث الباب، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وقال القسطلاني

(6)

: وأما البعدية في الرتبة فيقال فيها: الأفضل بعد الأنبياء أبو بكر، وقد أطبق السلف على أنه أفضل الأمة، حكى الشافعي وغيره إجماع الصحابة والتابعين على ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(7/ 12).

(2)

"فتح الباري"(7/ 14).

(3)

"الأعلام"(1/ 404، 405).

(4)

"شرح ابن بطال"(2/ 115).

(5)

"فتح الباري"(7/ 16).

(6)

"إرشاد الساري"(8/ 168).

ص: 478

(5 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا. . .") إلخ

قال الحافظ

(1)

: قوله: "قاله أبو سعيد. . ." إلخ، يشير إلى حديثه السابق قبل بباب، انتهى.

قوله: (ولكن أخوة الإسلام أفضل. . .) إلخ، قال العلَّامة السندي

(2)

: أي: الاكتفاء بأخوة الإسلام أفضل من ارتكاب اتخاذ غير الله خليلًا، فتركت الاتخاذ واكتفيت بالإخوة، انتهى.

(باب)

بغير ترجمة، قال القسطلاني

(3)

تبعًا للعيني

(4)

: هذا بغير ترجمة، فهو كالفصل من سابقه، وليس هذا الباب في نسخة "الفتح"، ولم يتعرض له أيضًا.

قوله: (والله يغفر له ضعفه) كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: أي: لا مؤاخذة عليه في ضعفه ذلك؛ لأنه ليس لصنعه، فهو مغفور له في ذلك، وليس المعنى أنه ذنب حتى يغفر، انتهى.

وأفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"

(6)

: أما وجه الضعف فليس يرجع إلى نقص في فضل الصديق، بل السبب في ذلك ما كان في زمنه من تزلزل في الملك وارتداد في الإسلام، حتى إن أمثال عمر رضي الله عنه - وكان علمًا في بأسه ونجدته - قد كان تخوَّف كما يظهر بالمراجعة إلى كتب السير، وبسط في هامش "الكوكب" في معنى قوله:"والله يغفر له".

(1)

"فتح الباري"(7/ 23).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 289).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 171).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 394).

(5)

"لامع الدراري"(8/ 146).

(6)

"الكوكب الدري"(3/ 206، 207).

ص: 479

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن هذا إشارة إلى نسبة اتحادية بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم البسط في النسب الأربعة في بدء الوحي - أي: في هامش "اللامع" - فإنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بقرب أجله بقوله عزَّ اسمه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقرب أجل صديقه بقوله:"والله يغفر له"، فكأنه إشارة إلى قرب وفاته بعد خلافته، ولهذا المعنى ذكره الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث ههنا، فأي منقبة تكون أعظم من الاتحاد معه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، ولذلك عندي نظائر كثيرة من رأيه في قبول الفدية عن أسارى بدر وجوابه لعمر في الحديبية بعين ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم.

فائدة: ذكرها الحافظ في "الفتح"

(1)

: مات أبو بكر رضي الله عنه بمرض السل على ما قاله الزبير بن بكار، وعن الواقدي: أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يومًا، وقيل: بل سمَّته اليهود في حريرة أو غيرها، وذلك على الصحيح لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا، وقيل غير ذلك، ولم يختلفوا أنه استكمل سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فمات وهو ابن ثلاث وستين، والله أعلم، انتهى.

(6 -‌

‌ باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه

-)

هكذا في نسخ الشروح بإثبات لفظ: "باب"، قال القسطلاني

(2)

: وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر، انتهى.

قلت: وكذا سقطت الأبواب الآتية في النسخ الهندية التي بأيدينا، قال الحافظ

(3)

: سقطت الأبواب كلها من رواية أبي ذر، وأبقى التراجم بغير لفظ باب، وثبت ذلك في رواية الباقين، انتهى.

أي: ابن نفيل - بنون وفاء مصغر - ابن عبد العزى بن رياح - بكسر

(1)

"فتح الباري"(7/ 40).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 194).

(3)

"فتح الباري"(7/ 75).

ص: 480

الراء بعدها تحتانية وآخره مهملة - ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء بعدها زاي وآخره مهملة - ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة، ووقع عند ابن منده أنها بنت هشام أخت أبي جهل، وهو تصحيف، نبَّه عليه ابن عبد البر.

قوله: (أبي حفص. . .) إلخ، أما كنيته فجاء في "السيرة" لابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم كنَّاه بها، وكانت حفصة أكبر أولاده، وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق، فقيل: أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه" عن طريق ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد من حديث عائشة، وقيل: أهل الكتاب، أخرجه ابن سعد عن الزهري، وقيل: جبرئيل، رواه البغوي، انتهى

(1)

.

قوله: (فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب. . .) إلخ، قال العلَّامة السندي

(2)

: لا يخفى أن المبادرة إلى الحجاب لازمة عند دخول الأجنبي، سواء كان عمر أو لا، فما وجه التعجب؟ فلعل هذه الواقعة كانت قبل آية الحجاب، لكن حينئذ يكفي القيام، ولا حاجة إلى الحجاب، فلعل فيهن من يجوز لهن الكشف عند عمر كحفصة مثلًا، فالتعجب بالنظر إلى قيامهن، أو يقال: لعل التعجب من إسراعهن قبل أن يعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم يأذن له أم لا؟ وهذا أقرب، والله أعلم، انتهى.

قلت: إن كانت الواقعة قبل الحجاب فإسراعهن إلى الحجاب لسترهن عن عمر خوفًا منه.

(1)

"فتح الباري"(7/ 44).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 294).

ص: 481

(7 -‌

‌ باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه

-)

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء، وأما كنيته فهو الذي استقر عليه الأمر، وقد نقل عن الزهري: أنه كان يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله الذي رزقه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات عبد الله المذكور صغيرًا وله ست سنين، وحكى ابن سعد أن موته كان سنة أربع من الهجرة، وماتت أمه رقية قبل ذلك سنة اثنتين، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وكان بعض من ينتقصه يكنيه أبا ليلى يشير إلى لين جانبه، حكاه ابن قتيبة، وقد اشتهر أن لقبه ذو النورين، وروى خيثمة في "الفضائل" والدارقطني في "الأفراد" من حديث علي أنه ذكر عثمان فقال:"ذاك امرؤ يدعى في السماء ذا النورين"

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

أيضًا في شرح حديث ابن عمر: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"، قال الخطابي

(3)

: إنما لم يذكر ابن عمر عليًّا؛ لأنه أراد الشيوخ وذوي الأسنان الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم، وكان علي في زمانه صلى الله عليه وسلم حديث السن، قال: ولم يرد ابن عمر الازدراء به ولا تأخيره عن الفضيلة بعد عثمان، انتهى.

وما اعتذر به من جهة السن بعيد لا أثر له في التفضيل المذكور، وقد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السُّنَّة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان، ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم،

(1)

"فتح الباري"(7/ 54).

(2)

"فتح الباري"(7/ 58).

(3)

"معالم السنن"(4/ 279).

ص: 482

ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك، فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهورًا بينًا فيجزمون به، ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص، إلى آخر ما بسطه الحافظ.

وقال القسطلاني عن الكرماني

(1)

: وإلى القول بتفضيل عثمان ذهب الشافعي وأحمد، كما رواه البيهقي عنهما، وحكاه الشافعي عن إجماع الصحابة والتابعين، وهو المشهور عن مالك وكافة أئمة الحديث والفقه وكثير من المتكلمين، وإليه ذهب أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني، لكنهما اختلفا في التفضيل أهو قطعي أم ظني؟ فالذي مال إليه الأشعري الأول، وإلى الثاني مال الباقلاني، واختاره إمام الحرمين في "الإرشاد"، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان. . .) إلخ

قال القسطلاني

(2)

: ولفظ: "باب" ثابت لأبي ذر وساقط لغيره، فالقصة والاتفاق رفع، وسقط الباب والترجمة للكشميهني والمستملي، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(3)

بعد ذكر حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأن الحديث يشتمل على جميع ما في الترجمة، انتهى.

قوله: (وتناول عمر يد عبد الرحمن. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: الظاهر أنه أتم تلك الصلاة ولم يستأنفها، ويرد عليه تكلم عمر قبل التقديم والاستخلاف، والجواب أنه من تصرف الرواة، أو كان

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 215)، "شرح الكرماني"(14/ 232، 233).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 217، 218).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 435).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 170 - 172).

ص: 483

استخلافه إياه قبل أن يقول مقالته، ولا يمكن الجواب أنه استأنف بهم الصلاة، ولم يبن عليها إذ يلزم عليه فساد صلاة المأمومين حيث لم يستأنفوا صلاتهم، وبقوا على التحريمة الأولى، انتهى.

قلت: لله در الشيخ قُدِّس سرُّه ما أدق نظره فقهًا وحفظًا للفروع، ولم يتعرض لهذه المسألة في هذا الحديث أحد من الشرَّاح، والمسألة خلافية عندنا الحنفية أيضًا، كما بسطت في هامش "اللامع"، فارجع إليه.

قوله: (ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: إنما جعل الخلافة شورى بينهم مع علمه بترتيب الخلافة، وأن الخليفة بعده عثمان رضي الله عنه لا غير اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصريحه بالخليفة بعده، دافعًا للتهمة عن نفسه، وتوقيًا عن مؤاخذة الرب تبارك وتعالى، واعتراض الخليقة لو أتى الخليفة بعده بأمور هي منكرة شرعًا، انتهى.

قوله: (ارفع يدك يا عثمان فبايعه) كتب الشيخ

(2)

: وكان من الأسباب المرجحة لعثمان أن عبد الرحمن حين سأل عثمان رضي الله عنه: بم يعمل بعد الكتاب والسُّنَّة؟ قال: بسيرة الشيخين، وإذا سأل عليًّا: بم يعمل بعد الكتاب والسُّنَّة؟ أجاب: إني أجتهد برأيي، وإنما كان ابن عوف تكلم بكل منهما ما تكلم في خلوة عن صاحبه لئلا يعلم كل منهما ماذا قال لصاحبه وما أجابه هو، وأيضًا فإن عثمان رضي الله عنه كان أشدهما كراهية للخلافة إذ ذاك، وكان علي كرم الله وجهه يرغب فيها رغبة ما، فإذا وصلت النوبة إلى علي كان علي أشد الناس كراهية لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"تجدون من أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه"، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام في تأييد كلام الشيخ قُدِّس سرُّه.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 174، 175).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 176 - 179).

ص: 484

(9 -‌

‌ باب مناقب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه)

قال الحافظ

(1)

: هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه، واسمه عبد مناف على الصحيح، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح، وكان قد ربَّاه النبي صلى الله عليه وسلم من صغره لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صغره، فلم يفارقه إلى أن مات، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابنة عمة أبيه، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمت وصحبت وماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي، وكأن السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه، وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سببًا لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة ردًّا على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جدًا، ثم كان من أمر علي ما كان فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتد الخطب فتنقصوه واتخذوا لعنه على المنابر سُنَّة، ووافقهم الخوارج على بغضه، وزادوا حتى كفَّروه مضمومًا ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق علي ثلاثة: أهل السُّنَّة، والمبتدعة من الخوارج، والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السُّنَّة إلى بثِّ فضائله، فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر أن لكل من الأربعة من الفضائل إذا حرر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السُّنَّة والجماعة أصلًا، وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين، وقال ابن إسحاق: عشر سنين، وهذا أرجحها، وقيل غير ذلك، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

أيضًا: وقد أخرج المصنف من مناقب علي أشياء في

(1)

"فتح الباري"(7/ 71).

(2)

"فتح الباري"(7/ 74).

ص: 485

غير هذا الموضع، منها حديث عمر:"علي أقضانا"، وسيأتي في تفسير البقرة، ومنها حديث "قتاله البغاة"، ومنها حديث "قتاله الخوارج"، وقد تقدم من حديث أبي سعيد في علامات النبوَّة، وغير ذلك مما يعرف بالتتبع، وأوعب من جمع مناقبه من الأحاديث الجياد النسائي في "كتاب الخصائص"، وأما حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جدًا، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان، وقد روينا عن الإمام أحمد قال: ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: ومن لطائف قدرته تبارك وتعالى أن الخلافة ترتبت على بعد النسب من النبي صلى الله عليه وسلم، فأقربهم نسبًا أبعدهم في الترتيب، وبالعكس، وكذلك فيما بينهما، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر لا سيما في عليّ كرم الله تعالى وجهه، فإنه أقربهم نسبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه، ثم بعد ذلك أقربهم عثمان رضي الله عنه، إلا أن عمر رضي الله عنه أبعد نسبًا من الصديق الأكبر، كما يظهر من أنسابهم، ثم ذكرت في هامش "اللامع" صورة أنسابهم بطريق الجدول مع التوضيح البالغ، فارجع إليه لو اشتقت.

(10 -‌

‌ باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: سقطت الأبواب كلها من رواية أبي ذر، وأبقى التراجم بغير لفظ:"باب"، وثبت ذلك في رواية الباقين، وجعفر هو أخو علي شقيقه، وكان أسن منه بعشر سنين، واستشهد بمؤتة كما سيأتي في المغازي، وقد جاوز الأربعين.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 180).

(2)

"فتح الباري"(7/ 75).

ص: 486

قوله: (وقال له النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، هو من حديث البراء الذي ذكره في أول مناقب علي، وسيأتي بتمامه في عمرة الحديبية، انتهى.

وكنية جعفر أبو عبد الله، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، ويقال له: عبد الله الطيار ذو الجناحين وذو الهجرتين الشجاع الجواد، هاجر الحبشة، وكان هو سبب إسلام النجاشي، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم -على جيش غزوة مؤتة، ولما قطعت يده في غزوة مؤتة جعل الله تعالى جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، انتهى ملخصًا من "العيني" و"القسطلاني"

(1)

.

(11 -‌

‌ باب ذكر عباس بن عبد المطلب)

ذكر فيه حديث أنس: "إن عمر كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس"، وهذه الترجمة وحديثها سقطا من رواية أبي ذر والنسفي، وقد تقدم الحديث المذكور في الاستسقاء، وكان العباس رضي الله عنه أسنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو بثلاث، وكان إسلامه على المشهور قبل فتح مكة، وقيل: قبل ذلك، وليس ببعيد، وكان ممن أُسر يوم بدر، وفدى نفسه وعقيلًا ابن أخيه أبي طالب كما سيأتي، ولأجل أنه لم يهاجر قبل الفتح لم يدخله عمر في أهل الشورى مع معرفته بفضله واستسقائه به، وسيأتي حديث عائشة في إجلال النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس في آخر المغازي في الوفاة النبوية، وكنية العباس أبو الفضل، ومات العباس في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، وله بضع وثمانون سنة، انتهى

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: وكان العباس جميلًا وسيمًا أبيض، له ضفيرتان معتدلًا، وقيل: طوالًا، وكان فيما رواه ابن أبي حاتم مرفوعًا:"أجود قريش كفًا وأوصلها رحمًا"، وزاد أبو عمرو:"كان ذا رأي حسن ودعوة مرجوة"،

(1)

"عمدة القاري"(11/ 448)، "إرشاد الساري"(8/ 223).

(2)

"فتح الباري"(7/ 77).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 236).

ص: 487

وقد قيل: إنه أسلم قديمًا، وكان يكتم إسلامه وأظهره يوم الفتح، وتوفي في خلافة عثمان قبل مقتله بسنتين بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب أو من رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله تعالى عنه ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

(12 -‌

‌ باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

-)

قال الحافظ

(1)

: زاد غير أبي ذر في هذا الموضع: "ومنقبة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فاطمة سيدة نساء أهل الجنة"، وهذا الحديث سيأتي موصولًا في باب مفرد ترجمته "منقبة فاطمة"، وهو يقتضي أن يكون ما اعتمده أبو ذر أولى، انتهى.

قلت: وهذه الزيادة موجودة في نسخة "العيني" و"القسطلاني".

قوله: (قرابة النبي صلى الله عليه وسلم) يريد بذلك من ينسب إلى جده الأقرب، وهو عبد المطلب ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، أو من رآه من ذكر أو أنثى، وهم علي وأولاده: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم من فاطمة رضي الله عنها، وجعفر وأولاده: عبد الله وعون ومحمد، ويقال: إنه كان لجعفر بن أبي طالب ابن اسمه أحمد، وعقيل بن أبي طالب وولده مسلم بن عقيل، وحمزة بن عبد المطلب وأولاده: يعلى وعمارة وأمامة، والعباس بن عبد المطلب وأولاده الذكور عشرة وهم: الفضل وعبد الله وقثم وعبيد الله والحارث ومعبد وعبد الرحمن وكثير وعون وتمام، وفيه يقول العباس:

تموا بتمام فصاروا عشره

يا رب فاجعلهم كرامًا بررة

ويقال: إن لكل منهم رواية، وكان له من الإناث أم حبيب وآمنة

(1)

"فتح الباري"(7/ 78).

ص: 488

وصفية، وأكثرهم من لبابة أم الفضل، ومعتب بن أبي لهب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب، وكان زوج آمنة بنت العباس، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وأخته ضباعة، وكانت زوج المقداد بن الأسود، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وابناه المغيرة والحارث، ولعبد الله بن الحارث هذا رواية، وكان يلقب بـ "ببّه" بموحدتين الثانية ثقيلة، وأميمة وأروى وعاتكة وصفية بنات عبد المطلب، أسلمت صفية وصحبت، وفي الباقيات خلاف، والله تعالى أعلم، ثم ذكر المصنف حديث عائشة، والمراد منه هنا قول أبي بكر:"لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي"، انتهى كله من "الفتح".

(13 -‌

‌ باب مناقب الزبير بن العوام. . .) إلخ

أي: ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وعدد ما بينهما من الآباء سواء، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكنى أبا عبد الله، وروى الحاكم بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(14 -‌

‌ ذكر طلحة بن عبيد الله. . .) إلخ

وهكذا في نسخة "الفتح"، وفي نسخة "القسطلاني":"باب ذكر طلحة"، وفي نسخة "العيني":"باب مناقب طلحة"، وقال في "شرحه"

(2)

: وفي بعض النسخ: "باب ذكر طلحة. . ." إلخ وفي رواية أبي ذر: "مناقب طلحة" بدون لفظ باب، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد

(1)

"فتح الباري"(7/ 80).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 458).

(3)

"فتح الباري"(7/ 82).

ص: 489

ابن تيم بن مرة بن كعب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة، وعدد ما بينهم من الآباء سواء، يكنى أبا محمد، وأمه الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء، أسلمت وهاجرت وعاشت بعد أبيها قليلًا، وقتل طلحة يوم الجمل سنة ست وثلاثين، رمي بسهم، جاء من طرق كثيرة: أن مروان بن الحكم رماه فأصاب ركبته، فلم يزل ينزف الدم منها حتى مات، وكان يومئذ أول قتيل، واختلف في سنه على أقوال أكثرها أنه خمس وسبعون، وأقلها ثمان وخمسون، وانتهى.

(15 -‌

‌ باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري)

أي: أحد العشرة، يكنى أبا إسحاق، قوله: وهو سعد بن مالك أي: اسم أبي وقاص مالك بن وهيب - ويقال: أهيب - بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب، وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، لم تسلم، مات بالعقيق سنة خمس وخمسين، وقيل بعد ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحوًا من ثمانين سنة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قال العيني

(2)

: وكان يقال له: فارس الإسلام، وهو أول من رمى بسهم في الإسلام، وكان مجاب الدعوة، وكان سابع سبعة في الإسلام، وهو الذي كوَّف الكوفة، ونفى الأعاجم، وفتح الله على يديه أكثر فارس، ومات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على رقاب الناس إلى المدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم، وهو آخر العشرة وفاة في سنة خمس وخمسين، وهو المشهور، وعمره يوم مات ثلاث وثمانون، وقيل: ثلاث وسبعون، انتهى، ويأتي باب مستقل في إسلامه.

(1)

"فتح الباري"(7/ 83، 84).

(2)

"عمدة القاري"(11/ 459، 460).

ص: 490

(16 -‌

‌ باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

أي: الذين تزوجوا إليه - وليس المراد من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إليه كما سيأتي -، والصهر يطلق على جميع أقارب المرأة والرجل، ومنهم من يخصّه بأقارب المرأة.

قوله: (منهم أبو العاص بن الربيع) أي: ابن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ويقال بإسقاط ربيعة، وهو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على أقوال أثبتها عند الزبير مقسم، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، فكان ابن أختها، وأصل المصاهرة المقاربة، وقال الراغب: الصهر: الختن، وأهل بيت المرأة يقال لهم: الأصهار.

قال الحافظ

(1)

: وكأنه لمح بالترجمة إلى ما جاء عن عبد الله بن أبي أوفى رفعه: "سألت ربي أن لا أتزوج أحدًا من أمتي ولا أتزوج إليه إلا كان معي في الجنة، فأعطاني" أخرجه الحاكم في مناقب علي.

قال النووي: الصهر يطلق على أقارب الزوجين، وعلى هذا عمل البخاري، فإن أبا العاص بن الربيع ليس من أقارب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جهة كونه ابن أخت خديجة، وليس المراد هنا نسبته إليها بل إلى تزوجه بابنتها، وتزوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهي أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسر أبو العاص ببدر مع المشركين، وفدته زينب، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسلها إليه، فوفى له بذلك، فهذا معنى قوله في آخر الحديث:"ووعدني فوفى لي"، ثم أُسر أبو العاص مرة أخرى فأجارته زينب، فأسلم، فردَّها النبي صلى الله عليه وسلم إلى نكاحه، وولدت أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي، كما تقدم في الصلاة، وولدت له أيضًا ابنًا اسمه علي، كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مراهقًا، فيقال: إنه مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما أبو العاص فمات سنة اثنتي عشرة، وأشار المصنف بقوله:

(1)

"فتح الباري"(7/ 85، 86).

ص: 491

"منهم" إلى من لم يذكره ممن تزوج إلى النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان وعلي، وقد تقدمت ترجمة كل منهما، ولم يتزوج أحد من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء الثلاثة؛ إلا ابن أبي لهب فإنه كان تزوج رقية قبل عثمان ولم يدخل بها، فأمره أبوه بمفارقتها ففارقها، فتزوجها عثمان، وأما من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فلم يقصده البخاري بالذكر هنا، والله أعلم، انتهى من "الفتح".

(17 -‌

‌ باب مناقب زيد بن حارثة. . .) إلخ

وهو من بني كلب، أُسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، ذكر قصته محمد بن إسحاق في "السيرة"، وأن أباه وعمه أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه إليهما أو يثبت عنده، فاختار أن يبقى عنده، وقد أخرج ابن منده في "معرفة الصحابة" بإسناد مستغرب: أن حارثة أسلم يومئذ، واستشهد زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ومات أسامة بن زيد بالمدينة أو بوادي القرى سنة أربع وخمسين، وقيل: قبل ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(18 -‌

‌ باب ذكر أسامة بن زيد)

ذكر فيه حديث المخزومية التي سرقت، والغرض منه قوله:"ومن يجترئ أن يكلمه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكانوا يسمون أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر المهملة أي: محبوبه - لما يعرفون من منزلته عنده؛ لأنه كان يحب أباه قبله حتى تبناه، فكان يقال له: زيد بن محمد، وأمه أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(19 -‌

‌ باب مناقب عبد الله بن عمر)

وهو أحد العبادلة وفقهاء الصحابة والمكثرين منهم، وأمه زينب - ويقال: رائطة - بنت مظعون أخت عثمان وقدامة ابني مظعون، للجميع

(1)

"فتح الباري"(7/ 87).

(2)

"فتح الباري"(7/ 88).

ص: 492

صحبة، وكان مولده في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث؛ لأنه ثبت أنه كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة، وكانت بدر بعد البعثة بخمس عشرة سنة، وكانت وفاته بسبب من دسَّه عليه الحجاج، فمسَّ رجله بحربة مسمومة، فمرض بها إلى أن مات رضي الله عنه وأرضاه أوائل سنة أربع وسبعين، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال الحافظ في ترجمته في "الإصابة"

(2)

: وعند ابن سعد عن نافع قال: كانت لابن عمر جارية معجبة فاشتد عجبه بها، فأعتقها وزوَّجها مولى له، فأتت منه بولد، فكان ابن عمر يأخذ الصبي فيقبله، ثم يقول: واهًا لريح فلانة. قال البخاري في "التاريخ": حدثني الأويسي حدثني مالك: أن ابن عمر بلغ سبعًا وثمانين سنة، وقال غير مالك: عاش أربعًا وثمانين، والأول أثبت، وقال ضمرة بن ربيعة في "تاريخه": مات سنة اثنتين أو ثلاثًا وسبعين، وجزم مرّة بثلاث، وكذا أبو نعيم ويحيى بن بكير والجمهور، وزاد بعضهم: في ذي الحجة، وقال الفلاس مرة: سنة أربع، وبه جزم خليفة وسعيد بن جبير وابن زبير، انتهى.

(20 -‌

‌ باب مناقب عمّار وحذيفة)

أما عمَّار فهو ابن ياسر، يكنى أبا اليقظان العنسي بالنون، وأمه سمية بالمهملة مصغرًا، أسلم هو وأبوه قديمًا، وعذبوا لأجل الإسلام، وقتل أبو جهل أمه، فكانت أول شهيد في الإسلام، ومات أبوه قديمًا، وعاش هو إلى أن قتل بصفين مع علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين، وكان قد ولي شيئًا من أمور الكوفة لعمر، فلهذا نسبه أبو الدرداء إليها.

وأما حذيفة فهو ابن اليمان بن جابر بن عمرو العبسي بالموحدة حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، وأسلم هو وأبوه اليمان كما سيأتي، وولي

(1)

"فتح الباري"(7/ 90).

(2)

"الإصابة"(2/ 349).

ص: 493

حذيفة بعض أمور الكوفة لعمر، وولي إمرة المدائن، ومات بعد قتل عثمان بيسير بها، وكان عمار من السابقين الأولين، وحذيفة من القدماء في الإسلام أيضًا؛ إلا أنه متأخر فيه عن عمار.

وإنما جمع المصنف بينهما في الترجمة لوقوع الثناء عليهما من أبي الدرداء في حديث واحد، وقد أفرد ذكر ابن مسعود، وإن كان ذكر معهما لوجوده ما يوافق شرطه غير ذلك من مناقبه، وقد أفرد ذكر حذيفة في أواخر المناقب، وهو مما يؤيد ما سنذكره أنه لم يهذب ترتيب من ذكره من أصحاب هذه المناقب، ويحتمل أن يكون إفراده بالذكر؛ لأنه أراد ذكر ترجمة والده اليمان، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(21 -‌

‌ باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح)

قال الحافظ

(2)

: كذا أخَّر ذكره عن إخوانه من العشرة، ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على ترجمة لمناقب عبد الرحمن بن عوف ولا لسعيد بن زيد، وهما من العشرة، وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد بن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية، وأظن ذلك من تصرف الناقلين لكتاب البخاري، كما تقدم مرارًا أنه ترك الكتاب مسودة، فإن أسماء من ذكرهم هنا لم يقع فيهم مراعاة الأفضلية ولا السابقية ولا الأسنية، وهذه جهات التقديم في الترتيب، فلما لم يراع واحدًا منها دلَّ على أنه كتب كل ترجمة على حدة، فضمَّ بعض النقلة بعضها إلى بعض حسبما اتفق.

وأبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في فهر بن مالك، وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت جدًا بخمسة آباء، ومنهم من أدخل في نسبه بين الجراح وهلال: ربيعة، وبذلك جزم أبو الحسن بن سميع، ولم يذكره

(1)

"فتح الباري"(7/ 91).

(2)

"فتح الباري"(7/ 93).

ص: 494

غيره، وأم أبي عبيدة هي من بنات عم أبيه، وذكر أبو أحمد بن الحاكم: أنها أسلمت، وقتل أبوه كافرًا يوم بدر، ويقال: إنه هو الذي قتله، ومات أبو عبيدة وهو أمير على الشام من قبل عمر بالطاعون سنة ثمان عشرة باتفاق.

ثم قال الحافظ

(1)

بعد ذكر حديث الباب حديث أنس: أورد الترمذي وابن حبان هذا الحديث مطوَّلًا بهذا الإسناد، وأوله:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أُبيّ، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أمينًا" الحديث، وإسناده صحيح؛ إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري، والله أعلم، انتهى.

(22 -‌

‌ باب مناقب الحسن والحسين)

كذا في النسخ الهندية، وذكر في نسخ الشروح الثلاثة قبله:"باب ذكر مصعب بن عمير" من غير ذكر حديث.

قال الحافظ

(2)

: قوله: ذكر مصعب بن عمير أي: ابن هاشم بن عبد الدار بن عبد مناف، وقع كذلك في غير رواية أبي ذر، وكأنه بيَّض له، وقد تقدم من فضائله في "كتاب الجنائز": أنه لما استشهد لم يوجد له ما يكفن فيه، انتهى.

وقوله: (باب مناقب الحسن. . .) إلخ، كأنه جمعهما لما وقع لهما من الاشتراك في كثير من المناقب، وكان مولد الحسن في رمضان سنة ثلاث من الهجرة عند الأكثر، وقيل: بعد ذلك، ومات بالمدينة مسمومًا سنة خمسين، ويقال: قبلها، ويقال: بعدها، وكان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر، وقتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض

(1)

"فتح الباري"(7/ 93).

(2)

"فتح الباري"(7/ 94).

ص: 495

العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين رضي الله عنه إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، وقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدَّمه قبله ليبايع له الناس، ثم جهز إليه عسكرًا، فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته، والقصة مشهورة فلا نطيل بشرحها، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: وكان الحسين رضي الله عنه لما مات معاوية وبويع يزيد ابنه أبى أن يبايعه، وكتب إلى الحسين رجال من شيعة أبيه من الكوفة: هلُّم إلينا نبايعك، فأنت أحق من يزيد، فخرج الحسين من مكة إلى العراق، فأخرج إليه عبيد الله بن زياد من الكوفة جيشه، فالتقيا بكربلاء على الفرات، وقتل الحسين من عسكر ابن زياد قتلى كثيرة حتى قتل، فقيل: قتله شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وقيل: سنان بن أبي سنان، واحتز رأسه وأتى بها ابن زياد، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: ومن غرائب قدرته تعالى: أنه أتي برأس عبيد الله بن زياد أيضًا بعيد ذلك في هذا المحل بعينه، انتهى.

(23 -‌

‌ باب مناقب بلال بن رباح. . .) إلخ

رباح بفتح الراء والموحدة وبعد الألف حاء مهملة، وأمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، شحيحًا على دينه، وعُذِّب في الله عذابًا شديدًا فصبر، وهان على قومه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد، وكان أمية بن خلف ممن يوالي على بلال العذاب، فكان قتله على يد بلال، فقال أبو بكر رضي الله عنه أبياتًا، منها:

هنيئًا زادك الرحمن خيرًا

فقد أدركت ثأرك يا بلال

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 265).

(2)

"فيض الباري"(4/ 491).

ص: 496

وكان شديد الأدمة نحيفًا طوالًا، خفيف العارضين، من مولدي مكة، مولى لبعض بني جمح، وأصله من الحبشة، توفي بدمشق سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان مولى أبي بكر الصديق، وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح:"أن أبا بكر اشتراه بخمس أواق، وهو مدفون بالحجارة"، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وفي "الفتح"

(2)

: أن أبا بكر قال لبلال: أنشدك الله وحقي، فأقام معه بلال حتى توفي، فلما مات أذن له عمر فتوجَّه إلى الشام مجاهدًا، فمات بها في طاعون عمواس، وكانت وفاته بدمشق، وزعم ابن السمعاني: أن بلالًا مات بالمدينة وغلطوه، انتهى.

وقال الحافظ في "التهذيب"

(3)

: بلال بن رباح التيمي مولاهم، المؤذن، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، وقيل غير ذلك في كنيته، وهو ابن حَمَامة وهي أمه، أسلم قديمًا، وعذب في الله، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وسكن دمشق، ومات بها في طاعون عمواس سنة سبعة عشر أو ثمانية عشر، وقال ابن زبر: مات بداريَّا، وحمل على رقاب الرجال، فدفن بباب كيسان، وقيل: دفن بباب الصغير، وقال ابن منده في "المعرفة": دفن بحلب رضي الله عنه، انتهى.

قلت: وتكلم الحافظ في "اللسان"

(4)

في ترجمة إبراهيم بن محمد على قصة رحيل بلال إلى الشام ومجيئه إلى المدينة وأذانه بها.

(24 -‌

‌ باب مناقب ابن عباس)

وفي نسخ الشروح الثلاثة: "ذكر ابن عباس" بدل "مناقب"، ولفظ الباب موجود في بعض دون بعض.

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 269).

(2)

"فتح الباري"(7/ 99).

(3)

"تهذيب التهذيب"(1/ 254).

(4)

"لسان الميزان"(1/ 157).

ص: 497

قال العلَّامة العيني

(1)

: وإنما لم يقل: "مناقب ابن عباس" مثل غيره؛ لأنه قد عقد له بابًا في "كتاب العلم" حيث قال: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللَّهم علمه الكتاب"، ثم ذكر عنه أنه قال:"ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللَّهم علمه الكتاب"، وهذه منقبة عظيمة، فاكتفى به عن ذكر لفظ مناقب ههنا، انتهى.

قال الحافظ

(2)

تحت الترجمة: أي: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا العباس، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات بالطائف سنة ثمان وستين، وكان من علماء الصحابة حتى كان عمر يقدمه مع الأشياخ وهو شاب، أورد فيه حديثه قال:"ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: اللَّهم علِّمه الحكمة"، وفي لفظ:"علِّمه الكتاب"، وهو يؤيد من فسر الحكمة ههنا بالقرآن، وقد استوعبت ما قيل في تفسيرها في أوائل "كتاب العلم"، إلى آخر ما قال.

قال القسطلاني

(3)

: ولد بالشعب قبل خروج بني هاشم منه، وحنَّكه صلى الله عليه وسلم بريقه، وسمَّاه ترجمان القرآن، وكان طويلًا أبيض جسيمًا وسيمًا صبيح الوجه، قال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدث قلت: أعلم الناس، وتوفي بالطائف بعد أن عمي سنة ثمان وستين، وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، انتهى.

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: قوله: (الحكمة: الإصابة في غير النبوَّة) يعني بذلك: أن الحكمة قد تستعمل في الأنبياء، ومعناها الإصابة والنبوَّة، وقد تستعمل في غير الأنبياء، كما ذكرت ههنا، ومعناها الإصابة دون الإصابة التي في النبوَّة، والظاهر أن غرض المؤلف أن الحكمة إذا استعملت في غير محل النبوَّة فمعناها بالإصابة، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 482).

(2)

"فتح الباري"(7/ 100).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 270).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 189).

ص: 498

وذكر في "هامشه" بعض الأقوال في تفسير الحكمة، وفيه أيضًا: قال الحافظ

(1)

: واختلف في المراد بالحكمة ههنا، فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك، انتهى.

وسيأتي الكلام في تفسير الحكمة في تفسير سورة الأحزاب أيضًا.

(25 -‌

‌ باب مناقب خالد بن الوليد)

أي: ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة - بفتح التحتانية والقاف والمشالة - ابن مرة بن كعب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر جميعًا في مرة بن كعب، يكنى أبا سليمان، وكان من فرسان الصحابة، أسلم بين الحديبية والفتح، ويقال: قبل غزوة مؤتة بشهرين، وكانت في جمادى سنة ثمان، ومن ثم جزم مغلطاي بأنها كانت في صفر، وكان الفتح بعد ذلك في رمضان، وحكى ابن أبي خيثمة: أنه أسلم سنة خمس وهو غلط، فإنه كان بالحديبية طليعة للمشركين، وهي في ذي القعدة سنة ست، وقال الحاكم: أسلم سنة سبع، زاد غيره، وقيل: عمرة القضاء، والراجح الأول وما وافقه، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة مشاهد، ظهرت فيها نجابته، ثم كان قتل أهل الردة على يديه، ثم فتوح البلاد الكبار، ومات على فراشه سنة إحدى وعشرين، وذلك في خلافة عمر بحمص، وقيل: إنه مات بالمدينة وغلطوه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(26 -‌

‌ باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة)

أي: ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان مولاه أبو حذيفة من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وشهد بدرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أبوه يومئذ كافرًا فساءه ذلك، فقال: كنت أرجو أن يسلم لما كنت

(1)

"فتح الباري"(7/ 100).

(2)

"فتح الباري"(7/ 101).

ص: 499

أرى من عقله، واستشهد أبو حذيفة باليمامة، وأما سالم فكان من السابقين الأولين، وقد أشير في هذا الحديث إلى أنه كان عارفًا بالقرآن، وسبق في "كتاب الصلاة": أنه كان يؤمّ المهاجرين بقباء لما قدموا من مكة، وشهد سالم بدرًا وما بعدها، ويقال: إن اسم أبيه معقل، وكان مولى لامرأة من الأنصار، فتبناه أبو حذيفة لما تزوجها، فنسب إليه، واستشهد سالم باليمامة أيضًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: كان من أهل فارش من فضلاء الصحابة الموالي وكبارهم، معدود في المهاجرين؛ لأنه هاجر إلى المدينة، وفي الأنصار؛ لأنه مولى امرأة أبي حذيفة، انتهى.

(27 -‌

‌ باب مناقب عبد الله بن مسعود)

هو: ابن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، مات أبوه في الجاهلية، وأسلمت أمه وصحبت، فلذلك نسب إليها أحيانًا، وكان هو من السابقين، وكان سادس ستة في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وسيأتي في غزوة بدر شهوده إياها، وولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم في أواخر عمره المدينة، ومات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، وقد جاوز الستين، وكان من علماء الصحابة، وممن انتشر علمه بكثرة أصحابه والآخذين عنه، وكانت أمه تكنى أم عبد، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وفي القسطلاني

(4)

: وهو من القراء المشهورين، وممن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد بدرًا والحديبية، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان قصيرًا نحيفًا يكاد طوال الرجال يوازونه جلوسًا وهو قائم، ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان، وكان

(1)

"فتح الباري"(7/ 101، 102).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 273).

(3)

"فتح الباري"(7/ 103).

(4)

"إرشاد الساري"(8/ 274).

ص: 500

له من الولد عبد الرحمن، وبه كان يكنى، وعتبة وأبو عبيدة واسمه عامر، انتهى.

(28 -‌

‌ باب ذكر معاوية)

أي: ابن أبي سفيان - واسمه صخر، ويكنى أيضًا أبا حنظلة - بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أسلم قبل الفتح، وأسلم أبواه بعده، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له، وولي إمرة دمشق عن عمر بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان سنة تسع عشرة، واستمر عليها بعد ذلك إلى خلافة عثمان، ثم زمان محاربته لعلي وللحسن، ثم اجتمع عليه الناس في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة ستين، فكانت ولايته بين إمارة ومحاربة ومملكة أكثر من أربعين سنة متوالية، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي القسطلاني

(2)

: وكان معاوية يقول: إنه أسلم يوم الحديبية وكتم إسلامه من أبيه وأمه، وهو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ومن الطبقة الأولى في قسم غنائم حنين، ثم حسن إسلامهما، وكان أبيض جميلًا، وهو من الموصوفين بالحلم، وتوفي بدمشق، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: "ذكر معاوية" ولعله غير العنوان، ولم يعبِّر بالمناقب؛ لأنه لم يزد على الصحبة والفقاهة المشتركة بين أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، انتهى.

قلت: وبنحو ذلك قالت الشرَّاح عامة، قال القسطلاني: ومناسبة هذه الأحاديث لما ترجم له ما فيها من ذكر الصحبة المقتضية للشرف العالي على أنه قد ورد في فضل السيد معاوية رضي الله عنه أحاديث، لكنها ليست على شرط المؤلف، فمن ثم لم يقل "باب مناقب معاوية أو فضائله"، إذ أنه لا تصريح بذلك فيما ساقه في الباب على ما لا يخفى، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(7/ 104).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 277).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 190، 191).

ص: 501

قال الحافظ: ونقل ابن الجوزي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء، فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادًا على قول شيخه إلى أن قال: وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي، انتهى.

قلت: ويشكل على هذا كله أن الإمام البخاري لم يترجم بلفظ ذكر بدل المناقب في هذا الباب خاصة، بل ترجم بلفظ الذكر في عدة أبواب كما تقدم، وأيضًا سيأتي: ذكر جرير وذكر حذيفة وغير ذلك، اللَّهم إلا أن يقال: إنه ليس في هذه الأبواب كلها التي غيَّر فيها العنوان ذكر منقبة خاصة، كما يظهر من مطالعة هذه الأحاديث الواردة في هذه الأبواب، ولما كان أمر الأمير معاوية رضي الله عنه مشهورًا بين الناس، وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة غير صحيحة عندهم نبَّهوا على ذلك خاصة.

(29 -‌

‌ باب مناقب فاطمة)

الزهراء البتول، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأمها خديجة، ولدت فاطمة في الإسلام، وقيل: قبل البعثة، وتزوجها علي رضي الله عنه بعد بدر في السنة الثانية، وولدت له حسنًا وحسينًا ومحسنًا وزينب وأم كلثوم ورقية فماتت رقية ولم تبلغ، ومات محسن صغيرًا، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكانت وفاتها ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة، وقيل: بل عاشت بعده ثمانية، وقيل: ثلاثة، وقيل: شهرين، وقيل: شهرًا واحدًا، ولها أربع وعشرون سنة، وقيل غير ذلك، وقيل: خمس، وقيل: تسع، وقيل: عاشت ثلاثين سنة، وصلى عليها علي، وقيل: العباس، وقيل: أبو بكر رضي الله عنه، وأقوى ما يستدل به على تقديم فاطمة على غيرها من نساء عصرها

ص: 502

ومن بعدهن ما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها سيدة نساء العالمين إلا مريم"، انتهى من "الفتح"

(1)

و"القسطلاني"

(2)

.

(30 -‌

‌ باب فضل عائشة)

هي الصدِّيقة بنت الصدِّيق وأمها أم رومان رضي الله عنهم، وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولها نحو ثمانية عشر عامًا، وقد حفظت عنه شيئًا كثيرًا، وعاشت بعده قريبًا من خمسين سنة، فأكثر الناس الأخذ عنها، ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئًا كثيرًا حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها رضي الله عنها، قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، وكان موتها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين، وذلك ليلة الثلاثاء سبع عشرة خلت من رمضان، وصلى عليها أبو هريرة، وقيل في التي بعدها، ولم تلد للنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا على الصواب، وقول: إنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا لم يثبت، وسألته أن تكتني فقال: اكتني بابن أختك، فاكتنت أم عبد الله، وأخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث عائشة:"أنه كناها بذلك لما أحضر إليه ابن الزبير ليحنكه فقال: هو عبد الله، وأنت أم عبد الله"، قالت: فلم أزل أكنى بها، انتهى من "الفتح"

(3)

و"القسطلاني"

(4)

ملخصًا.

ولا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم بفضل عائشة بعد مناقب فاطمة، ولا يبعد عندي أنه أشار بهذا الترتيب إلى ترتيب الفضيلة بينهما، والمسألة خلافية شهيرة.

قال الحافظ

(5)

: قال السبكي الكبير: الذي ندين الله به أن فاطمة

(1)

"فتح الباري"(7/ 105).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 279).

(3)

"فتح الباري"(7/ 107).

(4)

"إرشاد الساري"(8/ 280).

(5)

"فتح الباري"(7/ 109).

ص: 503

أفضل ثم خديجة ثم عائشة، والخلاف شهير، ولكن الحق أحق أن يتبع، وقال ابن تيمية: جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة، وكأنه رأى التوقف، وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذاك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة فقد ثبت النصر لفاطمة وحدها.

قال الحافظ: وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة، انتهى.

وبسط الحافظ رحمه الله الكلام على ذلك في "باب فضل خديجة"، وهكذا بسط الكلام عليه أشد البسط صاحب "تيسير القاري" إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"

(1)

، وفي "القول الفصيح": افتتح المؤلف مناقب المهاجرين بالصديق رضي الله عنه وختمها بعائشة بنت الصديق، فنعم المدخل ونعم المخرج، انتهى.

التنبيه: قال العيني

(2)

: قال الكرماني: والمعتنون بهذا الكتاب من الشيوخ رضي الله تعالى عنهم ضبطوه فقالوا: ههنا منتصف الكتاب، أي: كتاب البخاري، و"باب مناقب الأنصار" هو ابتداء النصف الآخر منه، انتهى.

وهكذا ذكر القسطلاني

(3)

، وسكت عنه الحافظ، ولم يتعرض لذلك، وأما بحسب النسخ الهندية فمنتصف كتاب البخاري على آخر باب من أبواب المناقب أعني "باب إسلام سلمان الفارسي"، وابتداء النصف الثاني منه من كتاب المغازي.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 494)، "شرح الكرماني"(15/ 32).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 268).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 192، 193).

ص: 504

[63 -‌

‌ كتاب مناقب الأنصار]

(1 -‌

‌ باب مناقب الأنصار)

لفظ الباب سقط لأبي ذر والوقت، والأنصار جمع ناصر، كالأصحاب جمع صاحب، ويقال: جمع نصير كشريف وأشراف، والنسبة أنصاري، وليس نسبة لأب ولا أم، بل سموا بذلك لم فازوا به دون غيرهم من نصرته صلى الله عليه وسلم وإيوائه وإيواء من معه، ومؤاساتهم بأنفسهم وأموالهم، وكان القياس أن يقال: ناصري، فقالوا: أنصاري كأنهم جعلوا الأنصار اسم المعنى، فإن قلت: الأنصار جمع قلة فلا يكون لما فوق العشرة وهو ألوف؟ أجيب بأن جمعي القلة والكثرة إنما يعتبران في نكرات الجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما، والأنصار هم ولد الأوس والخزرج وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة، وهو اسم إسلامي، واسم أمهم قيلة بالقاف المفتوحة والتحتية الساكنة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وفي "الفتح"

(2)

: والأوس ينسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج ينسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قيلة، وهو اسم أمهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه انساب الأزد.

(2 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت من الأنصار

")

هو طرف من حديث سيأتي في غزوة حنين، قال الخطابي

(3)

: أراد صلى الله عليه وسلم

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 287).

(2)

"فتح الباري"(7/ 110).

(3)

"الأعلام"(3/ 1759).

ص: 505

بذلك استطابة قلوب الأنصار حيث رضي أن يكون واحدًا منهم لولا ما منعه من سمة الهجرة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(3 -‌

‌ باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار)

سقط لفظ "باب" لأبي ذر، فما بعده رفع، و"الإخاء" بكسر الهمزة، وعند ابن سعد: أنه آخى بين مائة: خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، وكان قبل بدر بخمسة أشهر في دار أنس، يأتي ذكر من سمي منهم في "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" قبيل المغازي، انتهى من "القسطلاني"

(2)

. وسيأتي تفصيل الكلام هناك إن شاء الله تعالى.

(4 -‌

‌ باب حب الأنصار)

أي: فضله، ذكر فيه حديث البراء:"لا يحبهم إلا مؤمن"، وحديث أنس:"آية الإيمان حب الأنصار"، قال ابن التِّين: المراد حب جميعهم وبغض جميعهم؛ لأن ذلك إنما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له فليس داخلا في ذلك، وهو تقرير حسن، وقد سبق الكلام على شرح الحديث في "كتاب الإيمان"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(5 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أنتم أحب الناس إليَّ

")

قالوا: هو على طريق الإجمال، أي: مجموعكم أحب إلي من مجموع غيركم، فلا يعارض ما تقدم:"من أحب الناس إليكم؟ قال: أبو بكر" الحديث

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(7/ 112).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 292).

(3)

"فتح الباري"(7/ 113).

(4)

انظر: "فتح الباري"(7/ 114).

ص: 506

(6 -‌

‌ باب أتباع الأنصار)

بفتح الهمزة جمع تبع، وفي هامش المصرية: جمع تابع، وأراد بهم الحلفاء والموالي؛ لأنهم أتباع الأنصار، وليسوا بأنصار، انتهى من "العيني"

(1)

بزيادة.

وقال القسطلاني

(2)

: وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر، وقال أيضًا بعد ذكر حديث الباب: وفيه التنبيه على شرف صحبة الأخيار، وصح "المرء مع من أحب"، وتأمل تأثير الصحة في كل شيء حتى في البواشق بالصحبة رفعت على أيدي الملوك، وحتى في الحطب بصحبة النجار يعتق من النار، فعليك بصحبة الأخيار، انتهى.

(7 -‌

‌ باب فضل دور الأنصار)

أي: منازلهم، قاله الحافظ

(3)

. وزاد القسطلاني

(4)

: وكانت كل قبيلة منهم تسكن محلة، فسميت تلك المحلة دارًا، انتهى.

قلت: والمراد بالمنازل هي القبائل، ولذا قال شيخ الإسلام في شرحه

(5)

: يعني: فضل قبائلهم، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض

")

قال الحافظ

(6)

: قوله: (قاله عبد الله بن زيد) أي: ابن عاصم المازني، وحديثه هذا وصله المؤلف بأتم من هذا في غزوة حنين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(11/ 502).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 300، 301).

(3)

"فتح الباري"(7/ 115).

(4)

"إرشاد الساري"(8/ 301).

(5)

"تحفة الباري"(4/ 234).

(6)

"فتح الباري"(7/ 117).

ص: 507

(9 -‌

‌ باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أصلح الأنصار والمهاجرة

")

بكسر الجيم: جماعة المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وسقط لفظ "باب" لأبي ذر، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

على قوله في الحديث: "فاغفر للمهاجرين والأنصار": وكان يورده أحيانًا كذلك استبعادًا من هيئة الشعر لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، انتهى.

وفي هامشه: هكذا ذكره ابن كثير في "تفسيره" إذ قال: ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتًا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه، وقال أبو زرعة بسنده عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما في هامشه.

(10 -‌

‌ باب قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:

9])

قال الحافظ

(3)

: هو مصير منه إلى أن الآية نزلت في الأنصار، وهو ظاهر سياقها، وحديث الباب ظاهر في أنها نزلت في قصة الأنصاري فيطابق الترجمة، وقد قيل: إنها نزلت في قصة أخرى ويمكن الجمع، انتهى كلام الحافظ.

(11 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا من محسنهم. . .") إلخ

يعني: الأنصار.

قوله: (ويتجاوز عن مسيئهم) أي: في غير الحدود وحقوق الناس، ومطابقة الحديث للترجمة في آخر الحديث؛ لأنه عين الترجمة، انتهى من "الفتح" و"العيني"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 306).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 196).

(3)

"فتح الباري"(7/ 119).

(4)

"فتح الباري"(7/ 121، 122)، "عمدة القاري"(11/ 511).

ص: 508

(12 -‌

‌ باب مناقب سعد بن معاذ)

ذكر المصنف أولًا مناقب جماعة الأنصار على العموم، والآن يذكر مناقب بعض الأشخاص منهم على الخصوص منهم سعد بن معاذ.

وقال الحافظ

(1)

: سعد بن معاذ، أي: ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل، وهو كبير الأوس، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج، وإياهما أراد الشاعر بقوله:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد

بمكة لا يخشى خلاف المخالف

انتهى من "الفتح".

قوله: (إنه كان بين هذين الحيين ضغائن. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني بذلك: أن البراء أوسي كالسعد، فلو قال أحد من الخزرج لكان له وجه، وأما ظهور ذلك المقال عنه فبعيد، فافهم، وقد ذكره المحشي أيضًا، انتهى.

وذكر في "هامشه" كلام المحشي والشرَّاح.

(13 -‌

‌ باب منقبة أسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر)

هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي، يكنى أبا يحيى، وقيل غير ذلك، ومات في سنة عشرين في خلافة عمر على الأصح، وعبَّاد بن بشر هو ابن وقش كما سأبينه، وفي "تاريخ البخاري"، و"مسند أبي يعلى" وصححه الحاكم بسنده عن عائشة قالت:"ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلًا كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر".

قوله: (أن رجلين. . .) إلخ، ظهر من رواية معمر أن أسيد بن حضير

(1)

"فتح الباري"(7/ 123).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 197، 198).

ص: 509

أحدهما، ومن رواية حماد أن الثاني عباد بن بشر، ولذلك جزم به المؤلف في الترجمة وأشار إلى حديثهما، فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في "مصنفه"

(1)

، فذكر الحافظ تلك الرواية، وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها أحمد والحاكم في "المستدرك"

(2)

، ثم ذكرها الحافظ.

قوله: (عباد بن بشر) كذا للأكثر بكسر الموحدة وسكون المعجمة، وفي رواية أبي الحسن القابسي "بشير" بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وهو غلط، وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي وعباد بن بشر بن نهيك وعباد بن بشر بن وقش، وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(14 -‌

‌ باب مناقب معاذ بن جبل)

أي: ابن عمرو بن أوس، من بني أسد بن شاردة بن تزيد - بفتح المثناة الفوقانية - ابن جشم بن الخزرج الخزرجي، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدرًا والعقبة، وكان أميرًا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ورجع بعده إلى المدينة، ثم خرج إلى الشام مجاهدًا، فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وعاش ثلاثًا وثلاثين سنة على الصحيح، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(15 -‌

‌ باب منقبة سعد بن عبادة)

بضم العين وتخفيف الموحدة ابن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة - بفتح الحاء المهملة وكسر الزاء بعدها تحتية ثم ميم - ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري الساعدي نقيب من بني ساعدة، يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة،

(1)

"مصنف عبد الرزاق"(11/ 280)، (ح 20541).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 272)، "المستدرك"(3/ 288).

(3)

"فتح الباري"(7/ 125).

(4)

"فتح الباري"(7/ 125، 126).

ص: 510

وكان سعد كبير الخزرج وأحد المشهورين بالجود، شهد بدرًا كما في "صحيح مسلم"، لكن المعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج فنهش فأقام، نعم ذكره في البدريين الواقدي والمدائني وابن الكلبي، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة أو خمس عشرة في خلافة عمر، قال ابن الأثير في "أسد الغابة"

(1)

: ولم يختلفوا أنه وجد ميتًا في مغتسله وقد اخضر جسده ولم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلًا يقول من بئر ولا يرون أحدًا:

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

فرميناه بسهم فلم يخط فؤاده

قال ابن سيرين: بينا سعد يبول قائمًا إذ اتكأ فمات، قتلته الجن، وقبره بالمنيحة قرية من غوطة دمشق مشهور يزار إلى اليوم، انتهى من "الفتح"

(2)

و"القسطلاني"

(3)

.

وذكر شيء من الكلام عليه في هامش "اللامع"

(4)

في مناقب أبي بكر تحت قول عمر: "قتله الله"، وذكر فيه أيضًا الخلاف في سبب موته، فارجع إليه.

(16 -‌

‌ باب مناقب أُبيّ بن كعب)

أي: ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري، يكنى أبا المنذر وأبا الطفيل، كان من السابقين من الأنصار، شهد العقبة وبدرًا وما بعدهما، مات سنة ثلاثين، وقيل غير ذلك، وكان عمر يقول: أُبيّ سيد المسلمين، قال ابن سعد عن الواقدي: أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة أُبيّ بن كعب، وهو أول من كتب في آخر الكتاب، وكتبه فلان ابن فلان، انتهى من "الفتح"

(5)

و"القسطلاني"

(6)

.

(1)

"أسد الغابة"(2/ 206).

(2)

"فتح الباري"(7/ 126).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 318، 319).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 151، 152).

(5)

"فتح الباري"(7/ 127).

(6)

"إرشاد الساري"(8/ 320).

ص: 511

(17 -‌

‌ باب مناقب زيد بن ثابت)

أي: ابن الضحاك بن زيد بن لوذان، من بني مالك بن النجار، كاتب الوحي وأحد فقهاء الصحابة، وكان عمره لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إحدى عشرة سنة، وكان أعلم الصحابة بالفرائض ومن أعلم الصحابة والراسخين في العلم، ومن أفكه الناس إذا خلا مع أهله، مات سنة خمس وأربعين، وصلى عليه مروان بن الحكم، انتهى من "القسطلاني"

(1)

و"الفتح"

(2)

.

(18 -‌

‌ باب مناقب أبي طلحة)

سقط لفظ "باب" لأبي ذر، وأبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري، عقبي بدري نقيب، وأمه عبادة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، يجتمعان في زيد مناة، وهو مشهور بكنيته، وكان زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، وفي "أسد الغابة": أنه لما خطب أم سليم قالت له: يا أبا طلحة، ما مثلك يردّ لكنك امرءٌ كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، توفي سنة اثنتين وثلاثين أو أربع وثلاثين، وقال المدائني: سنة إحدى وخمسين، وقيل: إنه كان لا يكاد يصوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما توفي صلى الله عليه وسلم صام أربعين سنة لم يفطر إلا أيام العيد، وهو يؤيد قول من قال: إنه توفي سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه، انتهى من "الفتح"

(3)

و"القسطلاني"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 321).

(2)

"فتح الباري"(7/ 127).

(3)

"فتح الباري"(7/ 128).

(4)

"إرشاد الساري"(8/ 322).

ص: 512

(19 -‌

‌ باب مناقب عبد الله بن سلام)

سقط لفظ "باب" لأبي ذر، بتخفيف اللام ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري، كان حليفًا لهم من بني قينقاع، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم عبد الله، وكان إسلامه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، وفي الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه عاشر عشرة في الجنة"، توفي سنة ثلاث وأربعين رضي الله عنه، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: زعم الداودي أنه كان من أهل بدر، ولا يثبت، وغلط من قال: إنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، انتهى من "الفتح".

قوله: (ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد. . .) إلخ، قال العلَّامة السندي

(3)

: يحتمل أن الحصر بالنظر إلى خصوص اللفظ، وهو لفظ "إنه في الجنة"، أو بالنظر إلى خصوص الحالة وهي حالة المشي أو بالنظر إليهما، ويحتمل أن الحصر بالنظر إلى السماع، وهو الذي اختاره النووي، انتهى.

ووجه الحافظ بوجوه أخر، فارجع إليه لو شئت

(4)

.

قوله: (لا ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم) تكلم عليه الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

، ووجهه بحيث لا يرد ما أورده المحشي، وذكر في "هامشه" كلام الشرَّاح فارجع إليه لو شئت.

(20 -‌

‌ باب تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها)

هكذا وقع ههنا في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح" هذا الباب مؤخر من ذكر جرير وذكر

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 325).

(2)

"فتح الباري"(7/ 129).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 314).

(4)

انظر: "فتح الباري"(7/ 130).

(5)

"لامع الدراري"(8/ 200).

ص: 513

حذيفة، ورجحه الحافظ

(1)

إذ قال: وقع ذكر جرير وحذيفة مؤخرًا عن ذكر خديجة، وفي بعضها مقدمًا وهو أليق، فإن الذي يظهر أنه أخر ذكر خديجة عمدًا لكون غالب أحوالها متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، فوقع له في ذلك حسن التخلص من المناقب التي استطرد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما فرغ منها رجع إلى بقية سيرته ومغازيه، والله أعلم، انتهى.

قلت: الظاهر عند هذا العبد الضعيف: أن المصنف لما فرغ عن المناقب شرع من ههنا ذكر الواقعات المهمة من بدء المبعث، ومنها تزويجه صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها.

أما خديجة فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية، أول خلق الله إسلامًا اتفاقًا، وكانت له صلى الله عليه وسلم وزير صدق عند ما بعث، فكان لا يسمع من المشركين شيئًا يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له إلا فرَّج الله بها عنه تثبته وتصدقه، وتخفف عنه وتُهَوِّن عليه ما يلقى من قومه، واختارها الله تعالى له صلى الله عليه وسلم لما أراد بها من كرامته، وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، تزوجها صلى الله عليه وسلم وسنه خمس وعشرون سنة في قول الجمهور، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زياد التميمي حليف بني عبد الدار، وتوفيت على الصحيح بعد النبوَّة بعشر سنين في شهر رمضان، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة، واستشكل قوله - في الترجمة -:"تزويج" بصيغة التفعيل إذ مقتضاه أن يكون التزويج لغيره، وأجيب بأن التفعيل قد يجيء بمعنى التفعل، أو المراد تزويجه صلى الله عليه وسلم خديجة من نفسه، انتهى من "القسطلاني"

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة، إلا أن ذلك يؤخذ بطريق اللزوم من قول عائشة:"ما غرت على امرأة"، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:"وكان لي منها ولد"، وغير ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(1/ 133).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 329).

(3)

"فتح الباري"(7/ 135).

ص: 514

(21 -‌

‌ باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي)

ابن جابر - وهو الشليل بشين معجمة مفتوحة فلامين بينهما تحتية ساكنة - ابن مالك من بني أنمار بن أراش، نسبوا إلى أمهم بجيلة، يكنى أبا عمرو على المشهور، واختلف في وقت إسلامه، والصحيح أنه في سنة الوفود سنة تسع، ووهم من قال: إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا؛ لما ثبت في "الصحيح": إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "استنصت الناس" في حجة الوداع، وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يومًا، وكان موت جرير سنة خمسين، وقيل: بعدها، انتهى من "الفتح"

(1)

["والقسطلاني"]

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

أيضًا: قوله: "وكان يقال له: الكعبة اليمانية. . ." إلخ، استشكل الجمع بين هذين الوصفين، وسيأتي جوابه في أواخر المغازي، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: ليس المعنى: أن هذين الاسمين كانا له، بل المعنى أن الكعبة البيت الحرام لأجل الكعبة اليمانية احتاج إلى تمييزها بالصفة الزائدة للاشتراك في الاسم، فقوله: كان يقال له معناه: كان يقال لأجله إذ لو لم تكن لم يحتج إلى زيادة الصفة للتمييز لحصول التميز بمطلق الاسم، انتهى.

وبسط الكلام في "هامشه" في شرح هذا القول.

وفيه أيضًا: وما اختاره الشيخ قُدِّس سرُّه هو ما اختاره السهيلي، كما تقدم في كلام الحافظ. وهو مختار العلَّامة السندي

(5)

، والأوجه عند هذا العبد الضعيف ما أتذكره من زمان الدرس أن الضمير المجرور في قوله:"له" راجع إلى بيت الجاهلية، والمعنى يقال: ذو الخلصة، ويقال له:

(1)

"فتح الباري"(7/ 132).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 335).

(3)

"فتح الباري"(7/ 132).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 201 - 203).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(2/ 316).

ص: 515

الكعبة اليمانية، وأما قوله: الكعبة الشامية جملة مستأنفة مبتدأ وخبر، والمعنى: والكعبة المكرمة المعظمة البيت الحرام يقال له: الشامية، ثم الغرض من هذه الترجمة على ما اخترته هو بيان هدم ذي الخلصة، وهي من جملة الوقائع المهمة، وهو المقصود عندي من سياق هذه التراجم كما تقدم.

(22 -‌

‌ باب ذكر حذيفة بن اليمان العبسي)

بالموحدة، واسم اليمان حصل - بمهملتين وكسر أوله وسكون ثانيه ثم لام - ابن جابر، له ولأبيه صحبة، رضي الله تعالى عنهما، قاله الحافظ

(1)

.

زاد القسطلاني

(2)

: وإنما قيل له اليمان؛ لأنه أصاب دمًا في قومه فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبد الأشهل من الأنصار، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف الأنصار، وهو من اليمن، وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر رضي الله عنه أميرًا على المدائن، ومات بعد قتل عثمان بأربعين يومًا سنة ست وثلاثين، وسقط لفظ "باب" لأبي ذر، انتهى.

قلت: وقد تقدم ذكر حذيفة مع عمار قبل عدة أبواب، وتقدم هنا الكلام على التكرار وغير ذلك، وتقدم قريبًا عن الحافظ أن الأليق ذكر هذا الباب قبل "باب تزويج خديجة"، ويمكن توجيهه عندي: أن المقصود ههنا بيان معاداة إبليس واجتهاده في أذى المسلمين في مبدأ الإسلام، فتأمل، ويشكل عليه أنه كان حقه إذًا أن يذكر بعد المبعث، ويمكن التفصي عنه بأن يقال: إن الجن كانوا مبهوتين من وقت ولادته صلى الله عليه وسلم.

(23 -‌

‌ باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة)

وعندي: أن المقصود بيان عداوة المشركين في مبدأ الإسلام حتى النساء يحببن ذلة المسلمين، لكن فيه أن العداوة حدثت بعد المبعث، فكان ينبغي ذكرها بعدها.

(1)

"فتح الباري"(7/ 132).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 337).

ص: 516

وقال الحافظ

(1)

: هي بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهي والدة معاوية، قتل أبوها ببدر كما سيأتي في المغازي، وشهدت مع زوجها أبي سفيان أحدًا، وحرَّضت على قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم لكونه قتل عمها شيبة، وشرك في قتل أبيها عتبة، فقتله وحشي بن حرب كما سيأتي بيان ذلك في حديث وحشي، ثم أسلمت هند يوم الفتح، وكانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، ثم طلقها في قصة جرت، فتزوجها أبو سفيان، فأنتجت عنده، وهي القائلة للنبي صلى الله عليه وسلم لما شرط على النساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين:"وهل تزني الحرة"، وماتت هند في خلافة عمر، انتهى من "الفتح".

وقال القسطلاني

(2)

: أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحها، وكانت امرأة ذات أنفة ورأي وعقل، وشهدت أُحدًا كافرة، فلما قتل حمزة مثّلت به وشقت كبده فلاكتها، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم حبيبة رضي الله عنها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بنت زوجها أبي سفيان، انتهى.

(24 -‌

‌ باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل)

ابن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي، والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرة، وابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجتمع هو وعمر في نفيل، وسقط لفظ "باب" لأبي ذر، انتهى من "القسطلاني"

(4)

.

قال الحافظ

(5)

: وكان ممن طلب التوحيد، وخلع الأوثان، وجانب الشرك، لكنه مات قبل المبعث، فروى محمد بن سعد والفاكهي من حديث

(1)

"فتح الباري"(7/ 141).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 338).

(3)

"فتح الباري"(7/ 142).

(4)

"إرشاد الساري"(8/ 339).

(5)

"فتح الباري"(7/ 143).

ص: 517

عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب قال: قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان [إلى] هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيًا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام، قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، قال: فردَّ عليه السلام وترحّم عليه، قال:"ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا"، وروى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد قال:"خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين، حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة، وامتنع زيد، فأتى الموصل فلقي راهبًا، فعرض عليه النصرانية فامتنع" وذكر الحديث نحو حديث ابن عمر الآتي في ترجمته، وفيه:"قال سعيد بن زيد: فسألت أنا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد، فقال: غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم"، وروى الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة قال: بلغنا أن زيدًا كان بالشام، فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل يريده، فقتل بمضيعة من أرض البلقاء، وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل المبعث بخمس سنين عند بناء قريش الكعبة، انتهى من "الفتح".

وعلى هذا فالترجمة على محلها، ويمكن الإشارة إلى حال الجاهلية بأن بعضهم كانوا طالبين الدين أيضًا، وهذا بيان لشدة استعدادهم الخير.

وقال العيني

(1)

: ولما مات دفن بأصل حراء، ثم قال: فإن قلت: ما حكمه من جهة الدين؟ قلت: ذكره الذهبي في "تجريد الصحابة" وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يبعث أمة وحده"، وعن جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى ابن مريم عليهما السلام" رواه ابن أبي شيبة، وذكر

(1)

"عمدة القاري"(11/ 538، 539).

ص: 518

الروايات التي تقدم في كلام الحافظ، وقال أيضًا: فإن قلت: لم ذكر البخاري هذا الباب في كتابه؟ قلت: أشار به إلى أن النبي لقيه قبل أن يبعث، وذكر في شأنه ما ذكره حتى إن الذهبي وغيره ذكروه في الصحابة، وقال صاحب "التوضيح": ميل البخاري إليه، قلت: فلذلك ذكره بين ذكر الصحابة، انتهى.

(25 -‌

‌ باب بنيان الكعبة)

أي: على يد قريش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وقد تقدم ما يتعلق ببناء إبراهيم عليه السلام قبل بناء قريش، وما يتعلق ببناء عبد الله بن الزبير في الإسلام، وذكر بن إسحاق وغيره: إن قريشًا لما بنت الكعبة كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة، وروى إسحاق بن راهويه من طريق خالد بن عرعرة عن علي رضي الله عنه في قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت قال: فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم[يومئذ] شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل، وذكر أبو داود الطيالسي في الحديث، وفيه: فأمر بثوب، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، ثم أخذه فوضعه بيده، انتهى من "العيني"

(1)

وبسطه.

(26 -‌

‌ باب أيام الجاهلية)

قال الحافظ

(2)

: أي: مما كان بين المولد النبوي والمبعث، هذا هو المراد به هنا، ويطلق غالبًا على ما قبل البعثة، ومنه {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ

(1)

"عمدة القاري"(11/ 542).

(2)

"فتح الباري"(7/ 149).

ص: 519

ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، وقوله:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، ومنه أكثر أحاديث الباب، وأما جزم النووي في عدة مواضع من "شرح مسلم" أن هذا هو المراد حيث أتى ففيه نظر؛ فإن هذا اللفظ وهو الجاهلية يطلق على ما مضى، والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره غالبًا فتح مكة، ومنه قول مسلم في "مقدمة صحيحه": إن أبا عثمان وأبا رافع أدركا الجاهلية، وقول ابن عباس: سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسًا دهاقًا، وابن عباس إنما ولد بعد البعثة، وأما قول عمر: نذرت في الجاهلية فمحتمل، وقد نبَّه على ذلك شيخنا العراقي في الكلام على المخضرمين من علوم الحديث، انتهى.

قال القسطلاني

(1)

: أيام الجاهلية أيام الفترة، وسميت بها لكثرة جهالاتهم، وسقط لأبي ذر لفظ:"باب"، انتهى.

وقوله: (إن هذا الحديث له شأن) أي: قصة طويلة، وذكر موسى بن عقبة أن السيل كان يأتي من فوق الردم الذي بأعلى مكة، فيجريه، فتخوفوا أن يدخل الماء الكعبة، فأرادوا تشييد بنيانها، وكان أول من طلعها وهدم منها شيئًا الوليد بن المغيرة، وذكر القصة في بنيان الكعبة قبل المبعث النبوي، وأخرج الشافعي في "الأم" بسند له عن عبد الله بن الزبير: أن كعبًا قال له وهو يعمل بناء مكة: اشدده وأوثقه، فإنا نجد في الكتب أن السيول ستعظم في آخر الزمان، انتهى.

فكان الشأن المشار إليه أنهم استشعروا من ذلك السيل الذي لم يعهدوا مثله أنه مبدأ السيول المشار إليها، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قوله: (كنت في أهلك ما أنت) اختلفوا في معنى هذا الكلام على أقوال ذكرت في هامش "اللامع"، وأفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

فأجاد

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 345).

(2)

"فتح الباري"(7/ 150).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 206).

ص: 520

حيث كتب: والظاهر في معناها أنها كلمة تحسر، والمقصود أنك كنت ما كنت واليوم صرت لا تقدرين على شيء، انتهى.

(27 -‌

‌ القسامة في الجاهلية)

هذه الترجمة موجودة في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وليست في نسخة "الفتح".

قال الحافظ

(1)

: ثبت عند أكثر الرواة عن الفربري هنا ترجمة "القسامة في الجاهلية"، ولم يقع عند النسفي وهو أوجه؛ لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا الحديث، انتهى.

قلت: ذكر البخاري فيه حديث القسامة بطوله، ويأتي "باب القسامة" في محله من "كتاب الديات"، وسيأتي الكلام عليه من حيث الفقه واختلاف الأئمة وغير ذلك من المباحث هناك إن شاء الله، وهي من الأمور الجاهلية التي أثبتها الشرع، فلذلك ذكرها المصنف رحمه الله ههنا.

قوله: (قد انقطعت عروة جوالقه) أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

في توضيح معناه، ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح فكتب: أراد به العروة التي يشد بها بين الجوالقين ليحمل بهما على الدابة، ولما كان يرد على مسألته تلك إني أعطيتك عقالي نفرًا، بلى الذي أعطيتك عقاله دفعه، فقال: لا تنفر الإبل فإن العادة أن بعيرًا أو بعيرين إن بقيا غير معقولين فإنهما لا ينفران، فإن سائر جمالك إذا كانت معقولة لم يضرك لو تترك واحدًا منها غير معقول.

وقوله: (عقلت الإبل إلا بعيرًا) فإنه لم يعقل، ولا يردّ عليه أنه لم يصدق قول الهاشمي الذي بيَّن له، ووجه عدم الورود أنه كان قد نفى النفور فقط، ولم يوجد، نعم تنبه مالكه أنه لم يعقل، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(7/ 156).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 208).

ص: 521

قوله: (ليس السعي ببطن الوادي سُنَّة) كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: إن كان المراد أنهم كانوا يشتدون بين الجبلين كملا، ولا يكتفون في الاشتداد بين الميلين كما هو السُّنَّة الآن صح نسبته إليهم، وإن كان المراد هو الذي معمول بيننا كما يدل عليه قوله: ليس السعي ببطن الوادي، حيث صرح بلفظ البطن، فالمراد أنه ليس سُنَّة مبتدأة من النبي صلى الله عليه وسلم، بل سُنَّة إبراهيمية قديمة حتى استعى العرب أيضًا، انتهى.

وذكر في "هامشه" توجيهات أخر، فارجع إليه لو شئت.

قوله: (قد زنت فرجموها) قالت الكرماني

(2)

: قال ابن عبد البر: إضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم عند جماعة أهل العلم منكر، ولو صح لكانوا من الجن؛ لأن العبادات في الجن والإنس دون غيرهما إلى آخر ما بسط من الكلام عليه في هامش "اللامع".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: قوله: "قد زنت" والله أعلم كيف فهم الرجل أنها زنت، إذ ليس فيهم زواج، وأنها ليست بزوجته، وأنهم يريدون قتلها حدًّا، ولا يدرى وجهه، انتهى.

(28 -‌

‌ باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

-)

المبعث مصدر ميمي من البعث وهو الإرسال، وساق المصنف ههنا النسب الشريف.

قوله: (محمد. . .) إلخ، قال العلَّامة العيني

(4)

: بالجر عطف بيان للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: واقتصر البخاري من النسب الشريف على عدنان، وقد أخرج في "التاريخ" عن عبيد بن يعيش عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق

(1)

"لامع الدراري"(8/ 209).

(2)

"شرح الكرماني"(15/ 75).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 212).

(4)

"عمدة القاري"(11/ 559).

(5)

"فتح الباري"(7/ 164).

ص: 522

مثل هذا النسب، وزاد بعد عدنان: ابن أدد بن المقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وقد قدمت في أول الترجمة النبوية الاختلاف فيمن بين عدنان وإبراهيم، وفيمن بين إبراهيم وآدم، وأخرج ابن سعد من حديث ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان"، انتهى.

قال القسطلاني

(1)

: وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان إلى ما وراء قحطان، وقال ابن جريج عن القاسم بن أبي مرة عن عكرمة: أضلت نزار نسبها من عدنان، انتهى.

قوله: (أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين) هذا هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب، وهو متفق عليه، وقد مضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنس:"أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين"، وتقدم في بدء الوحي: أنه أنزل عليه في شهر رمضان، فعلى الصحيح المشهور أن مولده في شهر ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأنه ولد في رمضان فإنه قال: مات وله اثنتان وستون سنة ونصف سنة، وقد أجمعوا على أنه مات في ربيع الأول فيستلزم ذلك أن يكون ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار، وهو شاذ، وفي مولده أقوال أخر أشدّ شذوذًا من هذا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال أيضًا

(3)

في تفسير سورة اقرأ تحت قوله: "وهو في غار حراء فجاءه الملك".

تنبيه: إذا علم أنه كان يجاور في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور، اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان، ويعكر على قول ابن إسحاق: أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله: إنه في شهر رمضان ولد، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 363).

(2)

"فتح الباري"(7/ 164).

(3)

"فتح الباري"(8/ 716 - 718).

ص: 523

أولًا في شهر رمضان، وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار، وأنزلت عليه {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} ، فيحمل قول ابن إسحاق على رأس الأربعين، أي: عند المجيء بالرسالة، والله أعلم، انتهى.

وقال أيضًا

(1)

تحت قوله: "الليالي ذوات العدد": في رواية ابن إسحاق: أنه كان يعتكف شهر رمضان، وقال أيضًا تحت قوله:"فيتزود لمثلها": ويؤخذ منه إعداد الزاد للمتخلي، إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلًا، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوَّة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك، انتهى.

قلت: وهذا تصريح من الحافظ قُدِّس سرُّه بحصول النبوَّة له صلى الله عليه وسلم في زمان الرؤيا الصالحة، كما هو ظاهر قوله:"أول ما بدئ من الوحي الرؤيا الصالحة".

قوله: (بمكة ثلاث عشرة سنة): هذا أصح مما رواه مسلم من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة"، وسيأتي البحث في ذلك في أبواب الهجرة إن شاء الله تعالى، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وبسط الكلام في "الأوجز"

(3)

في زمان مبعثه صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة، والراجح أنه مبعثه صلى الله عليه وسلم كان وهو ابن أربعين سنة، وأقام بمكة المكرمة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة المنورة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا هو الراجح المعتمد، وما روي في ذلك من الروايات المختلفة بسط الكلام عليها في "الأوجز"، وسيأتي شيء من ذلك في "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" من آخر "المغازي".

(1)

"فتح الباري"(8/ 717).

(2)

"فتح الباري"(7/ 164).

(3)

"أوجز المسالك"(16/ 224 - 227).

ص: 524

(29 -‌

‌ باب ذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة)

أي: من وجوه الأذى، وذكر فيه أحاديث في المعنى، وقد تقدم في "ذكر الملائكة" من بدء الخلق حديث عائشة: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم" فذكر قصته بالطائف، وروى أحمد والترمذي وابن حبان عن أنس مرفوعًا:"لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد" الحديث، وقد استشكل بما جاء من صفات ما أوذي به الصحابة كما سيأتي لو ثبت، ثم ذكر بعض تلك الروايات الواردة في أذى الصحابة، ثم قال: وأجيب بأن جميع ما أوذي به أصحابه كان يتأذى هو به لكونه بسببه، واستشكل أيضًا بما أوذي به الأنبياء من القتل كما في قصة زكريا وولده يحيى، ويجاب بأن المراد هنا غير إزهاق الروح، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال أيضًا

(2)

: تنبيه: كان حق هذا الحديث - أي: الحديث الثاني حديث ابن مسعود - أن يذكر في "باب الهجرة إلى الحبشة" المذكور بعد قليل، فسيأتي فيها أن سجود المشركين المذكور فيه كان سبب رجوع من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، لظنهم أن المشركين كلهم أسلموا، فلما ظهر لهم خلاف ذلك هاجروا الهجرة الثانية، انتهى.

قلت: ويمكن عندي أن يوجه أن ذلك لما كان سببًا لزيادة المشقة والتعب في حق الصحابة ذكره في هذا الباب.

(30 -‌

‌ باب إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه

-)

كان حق هذا الباب أن يكون متقدمًا جدًا، إما في "باب المبعث" أو عقبه، لكن وجهه ههنا ما وقع في حديث عمرو بن العاص الذي قبله أنه

(1)

"فتح الباري"(7/ 166).

(2)

"فتح الباري"(7/ 167).

ص: 525

قام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية المذكورة، فدل ذلك على أن إسلامه متقدم على غيره، بحيث أن عمارًا مع تقدم إسلامه لم ير مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وبلال، وعنى بذلك الرجال، وبلال إنما اشتراه أبو بكر لينقذه من تعذيب المشركين لكونه أسلم، وقال أيضًا: ذكر المصنف فيه حديث عمار، واكتفى به؛ لأنه لم يجد شيئًا على شرطه غيره، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(31 -‌

‌ باب إسلام سعد)

ولأبي ذر زيادة "ابن أبي وقاص"، وسقط في نسخته لفظ "باب".

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديثه، وقد تقدم في مناقبه، ومناسبته لما قبله، واجتماعهما في أن كلًا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام خاصة، لكنه محمول على ما اطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وسعد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم.

قوله: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه) قاله بحسب ما علمه وإلا فقد أسلم قبله خديجة وعلي وأبو بكر وزيد ونحوهم، وقال الكرماني: لعلهم أسلموا أول النهار وهو آخره، انتهى

(3)

.

(32 -‌

‌ باب ذكر الجن)

تقدم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق. (وقول الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية)[الجن: 1]، يريد تفسير هذه الآية، وقد أنكر ابن عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة أنه قال:"ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم" الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب، وإن كان ظاهرًا في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن؛ لأن في حديث أبي هريرة: "أنه كان

(1)

"فتح الباري"(7/ 170).

(2)

"فتح الباري"(7/ 170).

(3)

"إرشاد الساري"(8/ 327).

ص: 526

مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ"، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما بسط الحافظ

(1)

.

قلت: وفي "مجمع البحار"

(2)

"تاريخ الخميس"

(3)

: أن قدومهم كان سنة عشر، وعلى هذا فذكر الجن ههنا ليس على محله، والجواب أن مجيئهم وإن كان على المشهور سنة عشر كما تقدم، لكن التحقيق أن وفادة الجن وقعت بمرات، فمنها بمكة ثلاث مرات، كما ذكر في هامش "الكوكب الدري"

(4)

أيضًا، ورميهم بالشهب كان بعد عشرين يومًا من المبعث كما في "تاريخ الخميس"، وقد وقع الاضطراب فيهم قبيل المبعث أو بعده قريبًا كما سيأتي في "باب إسلام عمر" من حديث عمر، وفيه:"ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها" الحديث.

ثم رأيت الحافظ: قال

(5)

بعد ذكر قول ابن إسحاق: أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفًا إلى نصره، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، وقول من قال: إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحًا في أولية قدوم بعضهم، والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دالٌّ على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيِّد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(7/ 171).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 272).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 303).

(4)

"الكوكب الدري"(1/ 121).

(5)

"فتح الباري"(7/ 172).

ص: 527

فثبت بهذا كله أن هذا الباب ليس في غير محله.

(33 -‌

‌ باب إسلام أبي ذر)

تقدم هذا الباب قبل "باب جهل العرب" من "كتاب بدء الخلق"، وذكر هناك اختلاف النسخ، وهذه الترجمة بحسب بعض النسخ مكررة، فذكرها ههنا ثانيًا لكون إسلامه في بدء المبعث، فقد قيل: إن إسلامه كان بعد أربعة، كما في "الإصابة"

(1)

.

وأبو ذر اسمه جندب، وقيل: بريد بن جنادة - بضم الجيم والنون الخفيفة - ابن سفيان، وقيل: سفير بن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن غفار، وغفار من بني كنانة، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا، وأمه رملة بنت الوقيعة من بني غفار، قال خليفة بن خياط: مات سنة اثنتين وثلاثين بالربذة قرية من قرى المدينة في خلافة عثمان بن عفان، وصلى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعنهم أجمعين، انتهى من "الفتح"

(2)

و"العيني"

(3)

.

وقال الحافظ في "الإصابة"

(4)

: أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: اسمه برير، وقيل بالتصغير، والاختلاف في أبيه كذلك، ووقع في رواية لابن ماجه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: يا جنيدب"، وكان من السابقين إلى الإسلام، وقصة إسلامه في الصحيحين على صفتين بينهما اختلاف ظاهر إلى آخر ما بسط، وكانت وفاته بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وقيل: في التي بعدها، وعليه الأكثر، ويقال: إنه صلى عليه عبد الله بن مسعود في قصة رويت بسند لا بأس به، انتهى.

(1)

"الإصابة"(4/ 63).

(2)

"فتح الباري"(7/ 173).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 573، 574).

(4)

"الإصابة"(4/ 62 - 64).

ص: 528

(34 -‌

‌ باب إسلام سعيد بن زيد)

أي: ابن عمرو بن نفيل، وأبوه تقدم ذكره، وأنه ابن ابن عم عمر بن الخطاب، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: أحد العشر المبشرة بالجنة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته أم جميل فاطمة بنت الخطاب، انتهى.

وقوله: (ابن عم عمر) كذا في الأصل، والصواب ابن ابن عم عمر كما تقدم في كلام الحافظ.

قال الحافظ في "الإصابة"

(3)

: أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر، وشهد أُحدًا والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمان بدر، فلذلك لم يشهدها، ذكر عروة وابن إسحاق وغيرهما في المغازي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه يوم بدر؛ لأنه كان غائبًا بالشام، وكان إسلامه قديمًا قبل عمر، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة.

قال الواقدي: توفي بالعقيق، فحمل إلى المدينة، وذلك سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين، وعاش بضعًا وسبعين سنة، وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة، وصلى عليه المغيرة بن شعبة، قال: وعاش ثلاثًا وسبعين سنة، انتهى.

قوله: (وإن عمر لموثقي على الإسلام. . .) إلخ، قال الحافظ

(4)

: أي: ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزامًا بالرجوع عن الإسلام، وقال الكرماني

(5)

في معناه: كان يثبتني على الإسلام ويسددني، كذا قال، وكأنه ذهل عن قوله ها هنا:"قبل أن يسلم"، فإن وقوع التثبيت منه وهو كافر لضمره على

(1)

"فتح الباري"(7/ 176).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 377).

(3)

"الإصابة"(2/ 46).

(4)

"فتح الباري"(7/ 176).

(5)

"شرح الكرماني"(15/ 85).

ص: 529

الإسلام بعيد جدًا، مع أنه خلاف الواقع، إلى آخر ما قال.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك: أن الناس قد تفاوت ما بينهم في الزمان المتقدم والموجود، فإن عمر مع شدته على الكفر لم يزد على الوثاق، وأنتم قتلتم عثمان مع ادعائكم الإسلام والإيمان، ويحتمل أن يكون المعنى أنكم فعلتم بعثمان مع أنكم مسلمون، وقد كانت الكفار مع كفرهم يحثون على الإسلام ويحضون عليه، ولكنه موقوف على أن يثبت فعل عمر مع سعيد، كما ذكر أنه كان يجعله واثقًا على الإسلام، والثابت خلافه، انتهى.

قلت: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في توضيح هذا المعنى - أي: المعنى الأول من المعنيين -، وعلى هذا يكون تعلق قوله:"إن عمر لموثقي. . ." إلخ، مع ما صنعوا بعثمان واضح، وعلى ما ذكره الحافظ من معناه لا يرتبط إحدى الكلمتين بالأخرى كما وضح الارتباط بينهما في المعنى الذي ذكره الشيخ قُدِّس سرُّه، فللَّه دره، والبسط في هامش "اللامع".

(35 -‌

‌ باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

-)

سقط لفظ: "باب" لأبي ذر، قاله القسطلاني

(2)

.

تقدم نسبه رضي الله عنه في المناقب، وفي "الخميس"

(3)

: وفي السنة السادسة من النبوَّة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، وقد قيل: أسلما في سنة خمس، كذا في "المنتقى"، وكان إسلام حمزة قبل إسلام عمر بثلاثة أيام بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كذا في "الصفوة".

قال الحافظ

(4)

في الحديث الثاني حديث ابن عمر: قوله: "وأنا غلام" في رواية أخرى: "أنه كان ابن خمس سنين"، وإذا كان كذلك خرج منه أن

(1)

"لامع الدراري"(8/ 215 - 217).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 378).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 293).

(4)

"فتح الباري"(7/ 178).

ص: 530

إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو بسبع؛ لأن ابن عمر كما سيأتي في المغازي كان يوم أُحد ابن أربع عشرة سنة، وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين، انتهى.

وقال أيضًا

(1)

: تنبيه: جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر، فاقتضى صنيع المصنف أنه وقع في تلك الأيام، وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة الحبشة الأولى.

وقال أيضًا

(2)

بعد ذكر الحديث الرابع حديث ابن عمر: لمَح المصنف بإيراد هذه القصة في "باب إسلام عمر" بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر رضي الله عنهم من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه، فروى أبو نعيم في "الدلائل": أن أبا جهل جعل لمن يقتل محمدًا مائة ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم، قال: فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح، قال عمر: فقلت في نفسي: إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال: فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد، فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها، وتأمل ما في إيراده - أي: المصنف - حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا - وهو الحديث الخامس - من المناسبة لهذه القصة، انتهى.

(36 -‌

‌ باب انشقاق القمر)

أي: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. انتهى

(3)

.

قلت: وقد تقدم هناك الإشارة إلى وجه الفرق لئلا يتكرر، وانشقاق

(1)

"فتح الباري"(7/ 182).

(2)

"فتح الباري"(7/ 181).

(3)

"فتح الباري"(7/ 182).

ص: 531

القمر كما في "تاريخ الخميس"

(1)

: كان في السنة التاسعة من المبعث، وفي "المواهب"

(2)

: كان قبل الهجرة بنحو خمس سنين.

قوله: (إن أهل مكة. . .) إلخ قال الحافظ

(3)

: هذا من مراسيل الصحابة؛ لأن أنسًا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس، وهو أيضًا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من وجه ضعيف عن ابن عباس قال:"اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ونظراؤهم؛ فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشقّ لنا القمر فرقتينّ فسأل ربه فانشق".

قوله: (شقتين) وفي رواية لمسلم: "فأراهم انشقاق القمر مرتين"، وفي رواية:"فرقتين"، أو "فلقتين" بالراء أو اللام، وفي رواية:"فانشق باثنتين"، وفي أخرى "فصار قمرين". ووقع في "نظم السيرة" لشيخنا الحافظ أبي الفضل:"وانشق مرتين" بالإجماع.

قال الحافظ: ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شرح الصحيحين، وتكلم ابن القيم على هذه الرواية، وقال: وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا غلط، فإنه لم يقع إلا مرة واحدة، وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها "مرتين" نظر، ولعل قائلها أراد

(1)

"تاريخ الخميس"(1/ 298).

(2)

"المواهب اللدنية"(2/ 523)

(3)

"فتح الباري"(7/ 182).

ص: 532

فرقتين. قال الحافظ: وهذا الذي لا يتجه غيره؛ جمعًا بين الروايات. انتهى ملخصًا من "الفتح"

(1)

.

وقال أيضًا

(2)

: وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء، إلى غير ذلك من إنكارهم. . .، إلى آخر ما بسط في الجواب عنه.

قال الخطابي

(3)

: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى من "الفتح".

(37 -‌

‌ باب هجرة الحبشة)

أي: هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة، وكان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلًا، وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاةً إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار.

وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم: "إن بالحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجًا"؛ فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: "أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط".

(1)

"فتح الباري"(7/ 183).

(2)

"فتح الباري"(7/ 185).

(3)

"الأعلام"(3/ 1618).

ص: 533

قلت: وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان.

وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم. ذكرها الحافظ إلى أن قال: ذكر ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السير أن المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس، منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحًا، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية.

وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية، وهم زيادة على ثمانين رجلًا.

وقال ابن جرير الطبري: كانوا اثنين وثمانين رجلًا سوى نسائهم وأبنائهم، وشك في عمار بن ياسر هل كان فيهم، وبه تكمل العدة ثلاثة وثمانين، وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم معه صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة النجم فلقوا من المشركين أشدّ مما عهدوا فهاجروا ثانية. انتهى.

قلت: وما ذكره الحافظ من أن الهجرة الأولى كانت سنة خمس من المبعث وافقه في ذلك القسطلاني، وهكذا في "المواهب اللدنية"

(3)

، وذكر صاحب "الخميس"

(4)

: أن الأولى كانت في السنة الرابعة أو الخامسة.

(38 -‌

‌ باب موت النجاشي)

قال الحافظ

(5)

: تقدم ذكر اسمه واسم أبيه في "الجنائز"، وأن النجاشي لقب من ملك الحبشة، ولقبه الآن الحطي بفتح الحاء وكسر الطاء

(1)

"فتح الباري"(7/ 188، 189).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 388).

(3)

"المواهب اللدنية"(1/ 240).

(4)

"تاريخ الخميس"(1/ 288).

(5)

"فتح الباري"(7/ 191).

ص: 534

الخفيفة المهملتين آخره تحتية خفيفة، وأفاد ابن التين: أن النجاشي بسكون الياء؛ يعني: أنها أصلية لا ياء النسب، وحكى غيره تشديدها أيضًا، وحكى ابن دحية كسر نونه. وذكر موته ههنا استطرادًا لكون المسلمين هاجروا إليه، وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في "دلائل النبوة".

وقد استشكل كونه لم يترجم بإسلامه - وهذا موضعه - وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل! والجواب: أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه، وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه، وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم. انتهى.

أقول: فكأن هذه الترجمة تتمة للسابقة؛ لأن هجرة المسلمين إلى الحبشة إنما كانت لأجل النجاشي رضي الله تعالى عنه لكونه مأمنًا لهم.

وقال القسطلاني

(1)

بعد ذكر الحديث: هذا النجاشي هو الذي هاجر إليه المسلمون، وكتب له صلى الله عليه وسلم كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية سنة ست من الهجرة، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وأما النجاشي الذي ولي بعده الحبشة فكان كافرًا لم يعرف له إسلام ولا اسم. انتهى.

(39 -‌

‌ باب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم

-)

قال القسطلاني

(2)

: سقط لفظ "باب" لأبي ذر، "وتقاسم المشركين"؛ أي: تحالفهم.

ثم قال في شرح الحديث: قوله: "حيث تقاسموا على الكفر" زاد في الحج: وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي "السيرة": وكتبوا بذلك كتابًا بخط بغيض بن عامر بن هاشم

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 395).

(2)

"إرشاد الساري"(8/ 396).

ص: 535

وعلقوه في جوف الكعبة، وتمادوا على العمل بما فيه من ذلك ثلاث سنين، فاشتد البلاء على بني هاشم في شعبهم، وعلى كل من معهم، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم قوم من قصي ممن ولدتهم بنو هاشم ومن سواهم، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فأكلت ولحست ما فيها من ميثاق وعهد، وبقي ما كان فيها من ذكر الله عز وجل، وأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، فأخبر عمه أبا طالب بذلك. فقال: أربُّك أخبرك بذلك؟ قال: نعم؛ فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتني. ثم خرج أبو طالب فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني أن الله عز وجل قد سلط على صحيفتكم الأرضة، فإن كان كما يقول: فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلًا دفعنا إليكم صاحبنا قتلتم أو استحييتم؛ فقالوا: قد رضينا بالذي تقول؛ ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك. وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا. انتهى.

قال الحافظ

(1)

: كان ذلك التقاسم أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة، وكان النجاشي قد جهز جعفرًا ومن معه، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وذلك في صفر منها، فلعله مات بعد أن جهزهم، وفي "الدلائل" للبيهقي: أنه مات قبل الفتح، وهو أشبه. ثم بسط الحافظ في تفصيل القصة والاختلاف في زمان ابتداء حصرهم، وكذا في مدته وغير ذلك، ثم قال: ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة؛ لأن فيه دلالة على أصل القصة لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر". انتهى.

قلت: وذكر صاحب "مجمع البحار"

(2)

هذه القصة من وقائع السنة الثامنة.

(1)

"فتح الباري"(7/ 192، 193).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 271).

ص: 536

(40 -‌

‌ باب قصة أبي طالب)

واسمه عند الجميع عبد مناف، وشذّ من قال: عمران، بل هو قول باطل، نقله ابن تيمية في "كتاب الرد على الرافضي": أن بعض الروافض زعم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33]: إن "آل عمران" هم آل أبي طالب، وأن اسم أبي طالب عمران، واشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته إليه فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات أبو طالب، وقد ذكرنا أنه مات بعد خروجهم من الشعب، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث، وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد عنه كل من يؤذيه، وهو مقيم مع ذلك على دين قومه. انتهى من "الفتح"

(1)

.

(41 -‌

‌ حديث الإسراء. . .) إلخ

قال ابن دحية: جنح البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج؛ لأنه أفرد لكل منهما ترجمة.

قلت: ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم:"باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء"، والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل على اتحادهما عنده، وإنما أفرد كلًّا منهما بترجمة؛ لأن كلَّا منهما يشتمل على قصة مفردة، وإن كان وقعا معًا.

وقد روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويًا من غير

(1)

"فتح الباري"(7/ 193، 194).

ص: 537

تعويج! وفيه نظر؛ لورود أن في كل سماء بيتًا معمورًا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج؛ وقد ذكر غيره مناسبات أخرى ضعيفة، ذكرها الحافظ، ثم قال: وقد اختلف السلف، فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، إلى آخر ما بسط في "الفتح"

(1)

من المباحث مما يتعلق بالإسراء، وأزيد منه العلامة القسطلاني في "المواهب اللدنية"

(2)

، فإنه أجاد الكلام مختصرًا على حديث الإسراء، وتكلم على كل جزء من أجزائه، وبسط شارحه العلامة الزرقاني

(3)

، وسيأتي الاختلاف في زمان وقوعه في الباب الآتي.

(42 -‌

‌ باب المعراج)

كذا للأكثر، وللنسفي "قصة المعراج"، وهو بكسر الميم، وحكي ضمها، من عرج بفتح الراء، يعرج بضمها: إذا صعد.

وقد اختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذٍ في المنام كما تقدم. وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا فقيل: قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود؛ فإن في ذلك اختلافًا كثيرًا يزيد على عشرة أقوال، منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقيل: بأحد عشر شهرًا، جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه

(1)

"فتح الباري"(7/ 196 - 198).

(2)

"المواهب اللدنية"(1/ 273 - 275) و (3/ 7 - 117).

(3)

"شرح المواهب اللدنية"(8/ 4).

ص: 538

ابن المنير في "شرح السيرة" لابن عبد البر، وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس، وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قال السدي، وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، وعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة، وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا، وعند ابن سعد عن ابن أبي سبرة: أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وقيل: كان في رجب، حكاه ابن عبد البر وجزم به النووي في "الروضة"، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، خطاه ابن الأثير، وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري: أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورجحه عياض ومن تبعه، واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو نحوها وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.

قلت: في جميع ما نفاه من الخلاف نظر:

أما أولًا: فإن العسكري حكى أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين، وقيل: بأربع، وعن ابن الأعرابي: أنها ماتت عام الهجرة.

وأما ثانيًا: فإن فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس.

وأما ثالثًا: فقد تقدم في ترجمة خديجة في الكلام على حديث عائشة في بدء الخلق: أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة.

وأما رابعًا: ففي سنة موت خديجة اختلاف آخر، فحكى العسكري عن الزهري: أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فرعه العسكري على قول من قال: إن المدة بين البعثة والهجرة

ص: 539

كانت عشرًا. انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

وبسط الحافظ الكلام في شرح حديث الباب أشد البسط. وذكر قصة المعراج صاحب "مجمع البحار"

(2)

في السنة الثانية عشر من المبعث، وكذا صاحب "الخميس"

(3)

.

ومن المباحث التي ذكرها العلماء في حديث المعراج ما قال الحافظ

(4)

وبسطه شارح "المواهب"

(5)

أيضًا: وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل من الأنبياء بالسماء التي التقاه بها، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه في أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيَّفه السهيلي فأصاب. وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، ثم بسطه الحافظ.

(43 -‌

‌ باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة)

قال العلامة العيني

(6)

: أي هذا باب في بيان وفود الأنصار؛ أي: قدومهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قوله:"وبيعة العقبة"؛ أي: التي ينسب إليها جمرة العقبة، وهي بمنى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، وأنه أتى كندة وبني حنيفة وبني كلب وبني عامر بن صعصعة وغيرهم، فلم يجب أحد منهم إلى ما سأل، وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كان يقول لهم: لا أكره أحدًا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي. فلا يقبله أحد، بل يقولون: قوم الرجل أعلم به. فبينا هو عند العقبة إذ لقي رهطًا من الخزرج، فدعاهم إلى الله

(1)

"فتح الباري"(7/ 203).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 273).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 306).

(4)

"فتح الباري"(7/ 210).

(5)

"شرح المواهب اللدنية"(8/ 142).

(6)

"عمدة القاري"(11/ 610).

ص: 540

تعالى، فأجابوه، فجاء في العام المقبل اثنا عشر رجلًا إلى الموسم من الأنصار، أحدهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، وبايعوه وهي بيعة العقبة الأولى، فجاء في العام الآخر سبعون إلى الحج، فواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا أخرجوا من كل فرقة نقيبًا فبايعوه ثمة ليلًا، وهي البيعة الثانية. انتهى من "العيني".

وذكر صاحب "مجمع بحار الأنوار" في السنة الحادية عشر النبوية أنه صلى الله عليه وسلم على دأبه كان يعرض نفسه على القبائل موسم الحج، ويقول: من ينصرني ويأخذني معه حتى أؤدي كلام ربي، فلقي رهطًا من الخزرج ودعاهم، فآمنوا وكانوا ستة من أسعد بن زرارة، وفي الثانية عشر كانت بيعة العقبة الأولى حيث قدم من الأنصار اثنا عشر أحدهم عبادة بن الصامت، وفي الثالثة عشر كانت بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين. انتهى. كما تقدم في الجزء الثاني من كتاب الإيمان، وبسط الكلام في "الفتح".

(44 -‌

‌ باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها

-)

وفي "تاريخ الخميس"

(1)

: وفي شوال هذه السنة - أي: العاشرة من النبوة - تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة وعائشة.

وفي "أسد الغابة" لابن الأثير: تزوج صلى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة، قال الزهري: تزوجها قبل عائشة وهو بمكة، وبنى بها بمكة أيضًا، وقال غيره: تزوج عائشة قبل سودة، وإنما ابتنى بسودة قبل عائشة لصغر عائشة، وتزوج عائشة بمكة وبنى بها بالمدينة سنة اثنين.

وفي "المواهب اللدنية": تزوج سودة بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة. هذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره،

(1)

"تاريخ الخميس"(1/ 305).

ص: 541

ويقال: تزوجها بعد عائشة، ويجمع بين القولين بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل واحد من العقد والدخول.

وفي "سيرة اليعمري" تزوج عائشة بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وهي بنت ست أو سبع، إلى آخر ما بسط.

ثم قال

(1)

في وقائع السنة الأولى من الهجرة: وفي هذه السنة بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكان البناء بها على رأس تسعة أشهر، وقيل: ثمانية عشر شهرًا في شوال، كذا في "المواهب اللدنية" و"تاريخ اليافعي"، وكذا في "الوفاء" من غير لفظ شوال.

وفي "المشكاة": عن عائشة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني.

وقيل: البناء بها في الثامن والعشرين من ذي الحجة، وقيل: زفافها وقع في السنة الثانية. والأول أصح، وكان البناء بها يوم الأربعاء ضحى في منزل أبي بكر بالسنح. انتهى.

قوله: (فلبث سنتين أو قريبًا من ذلك. . .) إلخ، قال الكرماني

(2)

: فإن قلت: كيف يصح ذلك وخديجة ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين؟ فإذا نكحها بعد ذلك بثلاث كان نكاحها حال الهجرة أو بعدها وهو خلاف ما اتفقوا عليه؟ قلت: قد نقل أيضًا أنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقد قال: أو قريبًا من ذلك، ولا يخفى عليك أن الحديث مرسل. انتهى.

وكتب الشيخ قدس سره في "اللامع"

(3)

: قوله: "أو قريبًا من ذلك"؛ يعني بالقرب في جانب الزيادة لا النقصان كما يشهد به الروايات. انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف أنه لا إشكال في حديث البخاري

(1)

"تاريخ الخميس"(1/ 357، 358).

(2)

"شرح الكرماني"(15/ 109).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 224).

ص: 542

هذا أصلًا، بل فيه بيان لموت خديجة ونكاح عائشة رضي الله عنهما، وقوله:"فلبث سنتين" توضيح لما سبق من قوله: "بثلاث سنين"، والمعنى أنها رضي الله عنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلبث النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها بمكة سنتين أو أكثر من ذلك، وأما نكاح عائشة والبناء بها فأمر مستقبل، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست في شوال من السنة العاشرة النبوية التي توفيت فيها خديجة، وبنى بها في شوال من السنة الأولى الهجرية، وهي بنت تسع، وعلى هذا فلا يرِد على الحديث إشكال ولا يرِد عليه مخالفة؛ لما رجحه المحققون في نكاح عائشة والبناء بها. انتهى.

(45 -‌

‌ باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

-)

قال القسطلاني

(1)

: بإذن الله عز وجل له في ذلك بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] بعد بيعة العقبة بشهرين وبضعة عشر يومًا.

قوله: (وأصحابه) أبي بكر وعامر بن فهيرة وصاحبين له من مكه (إلى المدينة) وكان قد هاجر بين العقبتين جماعة ابن أم مكتوم وغيره. انتهى.

زاد الحافظ

(2)

: ذكر الحاكم أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبًا منها، وجزم ابن إسحاق بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يومًا، وكذا جزم به الآمدي في المغازي عن ابن إسحاق، فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال، قال: وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، قلت: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وأما أصحابه فتوجَّه معه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، وتوجَّه قبل ذلك بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال: إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأشهل المخزومي زوج أم سلمة، وقدم المدينة

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 419).

(2)

"فتح الباري"(7/ 227، 228).

ص: 543

بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة عشية، ثم توجَّه مصعب بن عمير ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم كان أول من هاجر بعد بيعة العقبة عامر بن ربيعة على ما ذكر ابن إسحاق، وسيأتي ما يخالفه في الباب الذي يليه وهو قول البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير. . . إلخ، ثم توجه باقي الصحابة شيئًا فشيئًا كما سيأتي في الباب الذي يليه، ثم لما توجَّه النبي صلى الله عليه وسلم واستقر بها خرج من بقي من المسلمين، وكان المشركون يمنعون من قدروا على منعه منهم، فكان أكثرهم يخرج سرًّا إلى أن لم يبق منهم بمكة إلا من غلب على أمره من المستضعفين. انتهى من "الفتح".

وفي "تاريخ الخميس"

(1)

: قال أصحاب السير: لما استقر رأي قريش بعد المشاورة على قتله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرئيل وأخبره بذلك، وقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وأذن الله عند ذلك بالخروج إلى المدينة، كذا في "معالم التنزيل"، وفي رواية: قال له جبريل: إن الله يأمرك بالهجرة.

وفي "شواهد النبوة" لما أمر صلى الله عليه وسلم بالهجرة سأل جبرئيل عمن يهاجر معه، قال: أبو بكر الصديق؛ فمن ذلك اليوم سماه الله صديقًا؛ وعن ابن عباس قال: إن الله آذن نبيه في الهجرة بهذه الآية {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ} الآية [الإسراء: 80]، أخرجه الترمذي وصححه والحاكم، كذا في "الوفاء" و"المواهب اللدنية". انتهى مختصرًا.

ثم ذكر المصنف في الباب نحوًا من ستة وعشرين حديثًا.

وقال الحافظ

(2)

في شرح أثر عائشة: "لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه. . ." إلخ: أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه: أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت. ومن

(1)

"تاريخ الخميس"(1/ 322، 323).

(2)

"فتح الباري"(7/ 229).

ص: 544

ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.

وقال الخطابي: كانت الهجرة؛ أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب، إلى آخر ما في "الفتح".

قوله في حديث أنس: (أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر رضي الله عنه. . .) إلخ، قال العلامة السندي

(1)

: كأنه وقع كذلك أحيانًا. أو المعنى: أن راحلته متأخرة عن راحلة النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فهما كانا على راحلتين على مقتضى الأحاديث الأخر. انتهى.

وبسط الكلام عليه في هامش "اللامع"

(2)

في كتاب المغازي. قوله: (إذا قيل له: هاجر قبل أبيه يغضب. . .) إلخ، يشكل عليه ما سيأتي في بيعة الحديبية أنه رد على من قال: إنه أسلم قبل أبيه، وسيأتي الجمع هناك إن شاء الله تعالى.

(46 -‌

‌ باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة)

قال العلامة العيني

(3)

: أي هذا باب في بيان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وقدوم أصحابه المدينة. وكان وصول النبي إلى قباء يوم الاثنين أول شهر ربيع

(1)

"صحيح البخاري مع حاشية السندي"(2/ 334).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 381).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 646).

ص: 545

الأول، ومر الكلام فيه عن قريب، وكان وصول أكثر أصحابه قبله، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم [بن الهدم]، قاله ابن شهاب، وقيل: نزل على سعد بن خيثمة وجمع بينهما بأن نزوله كان على كلثوم وكان يجلس مع أصحابه عند سعد بن خيثمة؛ لأنه كان أعزب، وكان يقال لبيته: بيت العزاب، قال ابن شهاب: وبلغ علي بن أبي طالب نزوله أمنًا بقباء، فركب راحلته فلحق به وهو بقباء. انتهى.

وشرح العلامة القسطلاني

(1)

الترجمة بقوله: "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم" إلى قباء يوم الاثنين أول ربيع الأول، وقيل: في ثامنه، "ومقدم" أكثر "أصحابه المدينة" قبله. انتهى.

وقال الحافظ

(2)

تحت الباب: تقدم بيان الاختلاف فيه في آخر شرح حديث عائشة الطويل في شأن الهجرة، وقال هناك: دخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول، ثم قال: أقل ما قيل: إنه دخل في اليوم الأول منه، وأكثر ما قيل: إنه دخل في الثاني عشر منه.

وقال أيضًا في شرح قوله: "حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف": ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة، وكان نزوله على كلثوم بن الهرم

(3)

، وقيل: كان يومئذٍ مشركًا، وجزم به محمد بن الحسن بن زبالة في "أخبار المدينة".

قوله: (وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول) وهذا هو المعتمد. وشذّ من قال: يوم الجمعة.

في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "قدمها لهلال ربيع الأول"؛

(1)

"إرشاد الساري"(8/).

(2)

"فتح الباري"(7/ 260) و (7/ 247) و (7/ 243، 244).

(3)

كذا في "الفتح"، والصواب:"الهدم" كما في "العيني"(11/ 646)، و"الطبقات"(1/ 233)، و"أسد الغابة"(1/ 428).

ص: 546

أي: أول يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: "قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول". ونحوه عند أبي معشر لكن قال: "ليلة الاثنين". ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر "صحيح مسلم". وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق:"قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول". وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم: "قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول". فهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.

وعنده من حديث عمر: "ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول"، كذا فيه، ولعله كان فيه "خلتا" ليوافق رواية جرير بن حازم.

وعن ابن شهاب "في نصف ربيع الأول"، وقيل: كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي:"إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول" فإن كان محفوظًا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم إلى قول أنس:"إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة" خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه، فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان فإنه قال:"أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس"؛ يعني: وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، ولا الدخول. وعن قوم من بني عمرو بن عوف: أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يومًا، حكاه الزبير بن بكار. والأكثر أنه قدم نهارًا، ووقع في رواية مسلم ليلًا، ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخل نهارًا. انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(2)

: وفي سيرة أبي محمد عبد الملك بن هشام

(1)

"فتح الباري"(7/ 244).

(2)

"تاريخ الخميس"(1/ 337).

ص: 547

عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين حين اشتد ضحى وكادت الشمس تعتدل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وهو التاريخ فيما قاله ابن هشام إلى آخر ما بسط.

وقال أيضًا قبل: كان أول ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

وأكثر أهل السير أن ذلك اليوم كان يوم الاثنين، وشذّ من قال: يوم الجمعة من ربيع الأول في الضحوة الكبرى قريبًا من نصف النهار، وبسط الكلام أيضًا على مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بقباء.

(47 -‌

‌ باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه)

أي: من حج أو عمرة.

قال الحافظ

(1)

: قوله: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" بفتح المهملتين؛ أي: بعد الرجوع من منى.

وفقه هذا الحديث: أن الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، ولهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر.

وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين. قال النووي: معنى هذا الحديث: أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة. وحكى عياض

(2)

أنه قول الجمهور. قال: وأجازه لهم جماعة - يعني بعد الفتح - فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة

(1)

"فتح الباري"(7/ 267).

(2)

"الإكمال"(4/ 467).

ص: 548

المذكورة واجبة فيه، قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة [عليهم]، وأن سكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق. انتهى كلام القاضي. ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة.

وقال القرطبي

(1)

: المراد بهذا الحديث: من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعني به من هاجر من غيرها؛ لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى. انتهى.

(48 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، هكذا في النسخ الهندية بغير ترجمة، وهكذا في نسخة الكرماني والقسطلاني.

وفي نسخة "الفتح" والعيني: "باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ؟ ".

قال الحافظ

(2)

: قال الجوهري: التاريخ: تعريف الوقت، والتوريخ مثله؛ تقول: أرخت وورخت، وقيل: اشتقاقه من الأرخ وهو الأنثى من بقر الوحش؛ كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل: هو معرب، ويقال: أول ما أحدث التاريخ من الطوفان.

[قوله]: (من أين أرخوا التاريخ؟) كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، وقد روى الحاكم في "الإكليل" بسنده عن الزهري:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول"، وهذا معضل، والمشهور خلافه كما سيأتي، وأن ذلك كان في خلافة عمر. وأفاد السهيلي: أن الصحابة

(1)

"المفهم"(3/ 467).

(2)

"فتح الباري"(7/ 268).

ص: 549

أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]؛ لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقًا، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبَدَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أنه أول أيام التاريخ الإسلامي، كذا قال، والمتبادر أن معنى قوله:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ؛ أي: دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، والله أعلم.

قوله: (إلا من مقدمه المدينة)؛ أي: زمن قدومه، ولم يرد شهر قدومه؛ لأن التاريخ إنما وقع من أول السنة، وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدِّمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم.

وذكروا في سبب عمل عمر التاريخ أشياء، منها: ما أخرجه أبو نعيم في "تاريخه"، ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي: أن أبا موسى كتب إلى عمر: أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم: أرخ بالهجرة؛ فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها. وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا قال بعضهم: ابدءوا برمضان؛ فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم؛ فاتفقوا عليه. وقيل: أول من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن، أخرجه أحمد بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع، وذكر روايات أخر، ثم قال:

ص: 550

فاستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، انتهى من "الفتح".

ومناسبة حديث عائشة ثاني حديثي الباب بالترجمة مما يحتاج إلى بيان، ولم يتعرض له الحافظ ولا القسطلاني، وقال العلامة العيني

(1)

: لما كان البابان السابقان داخلين في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت المناسبة لذكر هذا الحديث ههنا، انتهى.

(49 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم

")

قال الحافظ

(2)

: قوله: (ومرثيته. . .) إلخ، بتخفيف التحتانية وهو عطف على قول، والمرثية تعديد محاسن الميت، والمراد هنا التوجع له لكونه مات في البلد التي هاجر منها، وقد تقدم بيان الحكمة في ذلك قبل بباب، انتهى.

(50 -‌

‌ باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه. . .) إلخ

تقدم في "مناقب الأنصار": "باب آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار"، ولا يتوهم التكرار بينهما لاختلاف المقاصد، فإن الغرض من الأول بيان فضيلة الأنصار، والمقصود ههنا ما وقع بعد الهجرة، وفرق آخر وهو أن المقصود هناك ذكر المؤاخاة نفسها، وههنا بيان كيفيتها.

قال الحافظ

(3)

: قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار فهي المقصودة هنا. وذكر ابن سعد بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعين نفسًا بعضهم من

(1)

"عمدة القاري"(11/ 665).

(2)

"فتح الباري"(7/ 269).

(3)

"فتح الباري"(7/ 270).

ص: 551

المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل: كانوا مائة، فلما نزل {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة.

قال الحافظ: قال السهيلي: آخى [صلى الله عليه وسلم] بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشدُّ بعضهم أزر بعض، فلما عزَّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث، وجعل المؤمنين كلهم إخوة، وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ يعني: في التوادد وشمول الدعوة.

واختلفوا في ابتدائها، فقيل: بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل: بتسعة، وقيل: وهو يبني المسجد، وقيل غير ذلك. وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى": كان الإخاء بينهم في المسجد، وأنكر ابن تيمية في "كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي" المؤاخاة بين المهاجرين، وخصوصًا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضًا، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجريّ وهذا ردٌّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ إلى آخر ما قال في "الفتح"

(1)

.

(51 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي بعده، ولعله كان بعده، قاله الحافظ

(2)

. وقال العلامة العيني

(3)

: هو كالفصل للباب الذي قبله، وقال بعد ذكر الحديث: مطابقته للترجمة لباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وذلك أنا قد ذكرنا أن الأبواب المذكورة بعد "باب هجرة النبي" كلها تابعة لباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(1)

"فتح الباري"(7/ 270).

(2)

"فتح الباري"(7/ 273).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 658).

ص: 552

(52 -‌

‌ باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة)

قال العيني

(1)

: قوله: "هادوا صاروا يهود. . ." إلخ، مشى البخاري ههنا على عادته في ذكر ألفاظ من القرآن مما يماثل لفظ الحديث، فإن قوله:{هَادُوا} مذكورين في قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] ومعناه هنا: صاروا يهود، وأما قوله:{هُدْنَا فمذكور في قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] ومعناه: تُبنا إليك، وكذا فسَّر أبو عبيدة اللفظين المذكورين. انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وذكر ابن عائذ من طريق عروة: أن أول من أتاه منهم أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب، فسمع منه، فلما رجع قال لقومه: أطيعوني فإن هذا النبي الذي كنا ننتظر، فعصاه أخوه وكان مطاعًا فيهم، فاستحوذ عليه الشيطان، فأطاعوه على ما قال.

وروى أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق سعيد بن جبير: جاء ميمون بن يامين - وكان رأس اليهود - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم فاجعلي حكمًا، فإنهم يرجعون إلي، فأدخله داخلًا، ثم أرسل إليهم فأتوه فخاطبوه، فقال: اختاروا رجلًا يكون حكمًا بيني وبينكم، قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: اخرج إليهم، فقال: أشهد أنه رسول الله؛ فأبوا أن يصدقوه.

وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع اليهود لما قدم المدينة وامتنعوا من اتباعه، فكتب بينهم كتابًا، وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع والنضير وقريظة. فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة، فمنّ على بني قينقاع وأجلى بني النضير واستأصل بني قريظة، وسيأتي بيان ذلك كله مفصلًا إن شاء الله تعالى.

وذكر ابن إسحاق أيضًا عن الزهري: سمعت رجلًا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس

(1)

"عمدة القاري"(11/ 660).

(2)

"فتح الباري"(7/ 275).

ص: 553

حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقالوا: غدًا انطلقوا إلى هذا الرجل فاسألوه عن حد الزاني، فذكر الحديث. انتهى.

قوله: (لو آمن بي عشرة من اليهود. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني من علمائهم لكان ذلك سببًا لإيمان بقيتهم، وإلا فقد آمن منهم أكثر من ذلك العدد. انتهى. وذكر في هامشه كلام الشراح، وفيه أيضًا: قال النووي: قال صاحب "التحرير": المراد عشرة من أحبارهم. انتهى. وهو الذي اختاره الشيخ قدس سره في توجيه الحديث، وقد عزاه صاحب "الفيض"

(2)

إلى الرواية، فقال: وقد روي فيه قيد وهو "عشرة من أحبار اليهود"، فانحلّ الإشكال، انتهى.

(53 -‌

‌ باب إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه

-)

قال العلامة العيني

(3)

: أي هذا باب في ذكر شيء فيه دلالة على إسلام سلمان الفارسي، وقد مضى في "كتاب البيوع" في "باب الشراء من المشركين" كيفية إسلام سلمان ومكاتبته، وقصته مشهورة، وولَّاه عمر رضي الله عنه العراق، وكان يعمل في الخوص بيده فيأكل منه، عاش مائتين وخمسين سنة بلا خلاف، وقيل: ثلاثمائة وخمسين، وقيل: إنه أدرك وحي عيسى ابن مريم عليهما السلام، ومات بالمداين سنة ست وثلاثين. انتهى.

قلت: وبسط ترجمته في هامش "اللامع"

(4)

، وفيه: قال الحافظ في "الإصابة"

(5)

: سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير. وقال ابن حبان: من زعم أن سلمان الخير آخر فقد وهم. كان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد، وقال ابن عبد البر: يقال: إنه شهد بدرًا، رويت قصته من طرق كثيرة، وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يتعسر الجمع فيه. انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 237).

(2)

"فيض الباري"(4/ 550).

(3)

"عمدة القاري"(11/ 662).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 238 - 240).

(5)

"الإصابة"(2/ 62).

ص: 554

قال القسطلاني

(1)

في شرح قوله: "أنه تداوله بضعة عشر من ربّ إلى رب"؛ أي: أخذه سيد من سيد، وكان حرًّا فظلموه وباعوه، وذلك أنه هرب من أبيه لطلب الحق، وكان مجوسيًا فلحق براهب ثم براهب ثم بآخر، وكان يصحبهم إلى وفاتهم حتى دلّه الأخير على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم فقصده مع بعض الأعراب فغدروا به فباعوه في وادي القرى ليهودي، ثم اشتراه منه يهودي آخر من بني قريظة، فقدم به المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى علامات النبوة أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كاتب عن نفسك"، فكاتب على أن يغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ذهب، فغرس له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده المباركة الكل، وقال:"أعينوا أخاكم"، فأعانوه حتى أدى ذلك كله. ثم ذكر مدة عمره كما تقدم في كلام العيني.

وكتب شيخنا مولانا خليل المحدث السهارنفوري في "بذل المجهود

(2)

شرح سنن أبي داود" في ترجمة سلمان الفارسي: قال الحافظ في "تهذيب التهذيب"

(3)

: قرأت بخط أبي عبد الله الذهبي: رجعت عن القول بأنه قارب ثلاثمائة أو زاد عليها، وتبين لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك. انتهى.

قوله: (فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ستمائة سنة) كتب الشيخ قدس سره في "اللامع"

(4)

: فيه إتمام الكسر عددًا فإن الأكثر من خمس مائة بعد ست مائة في العرف، وكثيرًا ما يسقط الكسر أيضًا وكلاهما جار، والله تعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم. تم المجلد الأول من تقريرات على البخاري. انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(5)

: المراد بالفترة المدة التي لا يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها من يدعو إلى شريعة الرسول الأخير.

(1)

"إرشاد الساري"(8/ 474).

(2)

"بذل المجهود"(1/ 184).

(3)

"تهذيب التهذيب"(4/ 139).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 240، 241).

(5)

"فتح الباري"(7/ 277).

ص: 555

ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا، وتعقب بأن الخلاف في ذلك منقول، فعن قتادة:"خمسمائة وستين سنة" أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، وعن الكلبي "خمسمائة وأربعين" وقيل:"أربعمائة سنة".

ووجه تعلق هذه الأحاديث بإسلام سلمان الإشارة إلى أن الأحاديث التي وردت في سياق قصته ما هي على شرط البخاري في الصحيح، وإن كان إسناد بعضها صالحًا.

وأما أحاديث الباب فمحصلها أنه أسلم بعد أن تداوله جماعة بالرق، وبعد أن هاجر من وطنه، وغاب عنه هذه المدة الطويلة حتى منَّ الله عليه بالإسلام طوعًا. انتهى.

ثم لا يذهب عليك أن الحافظ رحمه الله تعالى قال في "مقدمة الفتح"

(1)

في ذكر مناسبة الترتيب بين الأبواب: إن الإمام البخاري ساق المغازي على ترتيب ما صحّ عنده، وبدأ بإسلام ابن سلام تفاؤلًا بالسلامة في المغازي. انتهى. كذا أفاد.

والأوجه عندي أن يقال: بدأ بإسلام سلمان الفارسي فإن هذا الباب هو المتصل بكتاب المغازي، ولم يترجم البخاري بباب إسلام عبد الله بن سلام، بل ذكر حديث إسلامه قبل "باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة".

وما كتب الشيخ قدس سره: تم المجلد الأول. . . إلخ مبني على ما في أيدينا من النسخ المطبوعة الهندية كما ترى، وأما بحسب نسخ الشروح فمنتصف كتاب البخاري على "باب مناقب عائشة" كما تقدم هناك.

ثم البراعة عندي كما أفاده الحافظ في لفظ الفترة وهو ظاهر.

* * *

(1)

"مقدمة فتح الباري"(ص 472).

ص: 556

64 -

‌ كتاب المغازي

كذا في النسخ الهندية، وكذا في نسخ الشروح بعد البسملة.

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، ولغيره تأخير البسملة عن قوله:"كتاب المغازي"، ولابن عساكر "باب في المغازي، غزوة العشيرة أو العسيرة"، والمغازي جمع مغزى، يقال: غزا يغزو غزوًا ومغزى، والأصل غزو، والواحدة غزوة وغزاة والميم زائدة، وعن ثعلب: الغزوة المرة والغزاة عمل سنة كاملة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالمغازي ههنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلّوها حتى دخل مثل أُحد والخندق، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

تبعًا للعيني: المغازي جمع مغزى، والمغزى يصلح أن يكون مصدرًا تقول: غزا يغزو غزوًا ومغزىً، ويصلح أن يكون موضع الغزو، ولكن كونه مصدرًا متعين ههنا، انتهى من "الفتح" بزيادة.

قلت: والغزوة في اصطلاح المحدثين وأهل السير: ما خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة ويقابلها السرية، وهو ما لم يحضره بنفسه الشريفة، وهذا هو المعروف صرّح به الزرقاني على "المواهب"

(3)

وغيره كما ذكر في هامش "اللامع"

(4)

، إلا أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يفرق بينهما، ولذا ذكر في كتاب المغازي السرايا والبعوث أيضًا، ويؤيده ما تقدم من كلام الحافظ.

(1)

"فتح الباري"(7/ 279).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 3)، و"عمدة القاري"(12/ 3).

(3)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 220).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 243).

ص: 557

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": ثم إن الغزوة هي الخروج على قصد الجهاد سواء وقع حرب بينهم أو لا، واختصت بما فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه النفيسة، والسرية تقابلها، انتهى.

وسيأتي الكلام على تعريف السرية وغيرها من الأسماء في "باب السرية قبل نجد".

(1 -‌

‌ باب غزوة العشيرة أو العسيرة)

هكذا في النسخ الهندية و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح":"باب غزوة العشيرة" بدون زياده قوله: "أو العسيرة".

قال القسطلاني

(1)

: "العشيرة" بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة، "أو العسيرة" بالشك، هل هي بالمعجمة أو بالمهملة، وسقط لأبي ذر لفظ "باب"، وكذا قوله:"أو العسيرة"، ولفظه بعد البسمله:"كتاب المغازي، غزوة العشيرة" حسب، ولابن عساكر "باب في المغازي، غزوة العشيرة أو العسيرة"، انتهى.

وبسط العلَّامة العيني في ضبطهما، وقال أيضًا

(2)

: قال النووي: جاء في "كتاب المغازي" من "صحيح البخاري": العسيرة، أي: بضم المهملة الأولى وفتح الثانية، والعسير بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية بحذف الهاء، والمعروف فيها العشيرة بإعجام الشين وبالهاء، انتهى.

وفي هامش الهندية عن "التوشيح"

(3)

: "العشيرة" بالمعجمة، وهو الصواب، وعليه اتفق أهل السير، انتهى.

وفي "تاريخ الخميس"

(4)

: وفي البخاري: "العشير أو العسيرة" بالتصغير، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية بالمهملة وبالهاء، وأما غزوة العسرة بالمهملة بغير تصغير فهي غزوة تبوك، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 3).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 3)

(3)

"التوشيح"(6/ 2482).

(4)

"تاريخ الخميس"(1/ 363).

ص: 558

قال الحافظ

(1)

: ومكانها - أي: العشيرة - عند منزل الحج بينبع، ليس بينهما وبين البلد إلا الطريق، وخرج في خمسين ومائة، وقيل: مائتين، واستخلف فيها أبا سلمة بن عبد الأسد، انتهى.

قوله: (وقال ابن إسحاق: أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: اختلف في الأولى منها، ورأي البخاري أنها العشيرة كما أيّده بقول قتادة، غير أن مقالة ابن إسحاق كانت بمنزلة عنده، فأورده أيضًا، ومن دأبه أن لا يبالي بما لم يعتد به من المقالات عند الاختلاف، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه هو الظاهر من تبويب البخاري فإنه بدأ كتاب المغازي بـ "باب غزوة العشيرة"، لكن المعروف عند أهل السير هو ما قاله ابن إسحاق، كما سيأتي.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف المبتلى بالسيئات المعترف بالتقصيرات أن غرض الإمام البخاري من ذكر هذه الغزوة في مبدإ الكتاب ليس هو كونها أول المغازي، بل المقصود ذكره هذه الغزوة خاصة لا الإشارة إلى كونها أول المغازي، ولما كان يتوهم من قول زيد بن أرقم كونها أول المغازي دفعها بقول ابن إسحاق، فرأي الإمام البخاري في هذا هو ما قال ابن إسحاق، كما هو المعروف عند أهل السير، ففي "المجمع"

(3)

: خرج صلى الله عليه وسلم غازيًا في ثاني عشر صفر غزوة الأبواء، ثم قال: وغزا غزوة بواط في ربيع الأول، ثم غزا في جمادى الأولى غزوة العشيرة، انتهى مختصرًا.

وهكذا ذكر هذه الثلاثة بهذا الترتيب في "سيرة ابن هشام"

(4)

، وقال

(1)

"فتح الباري"(7/ 279).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 244 - 246).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 277، 278).

(4)

"سيرة ابن هشام"(2/ 203، 210).

ص: 559

صاحب "المواهب"

(1)

، أول المغازي ودان وهي الأبواء، وهي أول مغازيه صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن إسحاق وغيره، انتهى.

وفي "الخير الجاري" كما في هامش "الهندية"

(2)

: اختلفوا في أول الغزوات، قال محمد بن إسحاق وجماعة: أولها غزوة أبواء، ثم بواط، ثم عشيرة، والأول أرجح عند الشيخ ابن حجر، انتهى.

فعند هذا العبد الضعيف رأي الإمام البخاري في هذه المسألة موافق لرأي الجمهور، وهو قول ابن إسحاق، لكن يرد عليه ذكر المصنف غزوة العشيرة في مبدإ المغازي ووجهه عندي وخاطري أبو عذره أن أصل غرض المصنف بيان قصة بدر الكبرى، ولما كان غزوة العشيرة مقدمة لها ذكرها قبله كالتقدمة لها، وذلك أن هذه العير التي خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة كانت ذاهبة إلى الشام، ولما رجعت هذه من الشام تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عند الرجوع، ووقعت غزوة بدر الكبرى لهذه العير.

قال القسطلاني في "المواهب"

(3)

في ذكر غزوة العشيرة: خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة رجل، وقيل: في مائتين، يريد عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة، وكان قريش جمع أموالها في تلك العير، ويقال: إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، فخرج إليهما ليغنمها فوجدها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهي العيرة التي خرج إليها حين رجعت من الشام، فكان بسببها وقعة بدر الكبرى كما في "العيون" وغيرها، انتهى بزياده من الزرقاني، فتدبر وتشكر.

وأما ما وقع في رواية زيد بن أرقم عند البخاري من أن أولها العشيرة فهذا مخالف لما هو المعروف بين أهل السير، ولذا أوّلوا قوله بوجوه: منها

(1)

"المواهب اللدنية"(1/ 338).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(8/ 7).

(3)

"شرح القسطلاني على المواهب"(1/ 340).

ص: 560

ما حكاه الحافظ

(1)

عن ابن التِّين: أن يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو - أي: زيد بن أرقم -، والتقدير فقلت: ما أول غزوة غزاها - أي: وأنت معه -؟ قال: العشيرة، وغير ذلك من الوجوهات كما ذكر في هامش "اللامع"

(2)

.

قوله: (أبواء) قال العلَّامة العيني

(3)

: قال الواقدي: هي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويقال لها: غزوة ودان بفتح الواو وتشديد الدال، وقال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيًا في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمه المدينة، وقال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وقال ابن جرير: يريد قريشًا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناف من كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلق كيدًا، والأبواء بفتح الهمزة وبالباء الموحدة الساكنة ممدودًا: موضع معروف بين مكة والمدينة، وهي إلى المدينة أقرب، كأنه سمي بجمع: بو، وهو جلد ولد الإبل المحشي بالتين، وودّان بفتح الواو وتشديد الدال المهملة على وزن فعلان، قال البكري: قرية من أمهات القرى، وقال ياقوت: بينها وبين أبواء ثمانية أميال، انتهى.

وفي "التلقيح"

(4)

لابن الجوزي بعد ذكر سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار: ثم غزوة الأبواء، يعترض لعير قريش، وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ثم غزوة بواط يعترض لعير قريش، انتهى.

قال العلَّامة العيني

(5)

: بواط بضم الباء الموحدة وتخفيف الواو، قال الصغاني: بواط جبل من جبال جهينة، بين بواط والمدينة ثلاثة برد أو أكثر، وقال ابن إسحاق: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، يعني: من السنة

(1)

"فتح الباري"(7/ 281).

(2)

انظر: "لامع الدراري"(8/ 245، 246).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 4).

(4)

"تلقيح فهوم أهل الأثر"(ص 49).

(5)

"عمدة القاري"(12/ 4).

ص: 561

الثانية من الهجرة يريد قريشًا، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد بن أبي وقاص، وكان قصده أن يتعرض لعير قريش، وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وخمسمائة بعير، قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط ثم رجع إلى المدينة ولم يلق فيها كيدًا، انتهى.

قوله: (كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة) قال الحافظ

(1)

: كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر: أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في مسلم، فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ:"قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة"، انتهى.

والعشيرة كما تقدم هي الثالثة، إلى آخر ما بسط الحافظ.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: وقد اختلف في عدد الغزوات، ومنشأ الاختلاف اعتبارات الرواة، فكم من راو جعل السفرة الواحدة من المدينة غزوةً واحدةً وإن تضمنت غزوات، فعدّ على رأيه هذا غزوة الفتح وطائفًا وحنينًا وأوطاس واحدةً، ولا ضير فيه، وآخر نظر إلى وقوع محاربة ولو قليلًا، إلى غير ذلك من الاعتبارات، مع أن مفهوم العدد لا معتبر به عند الثقات، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام على عدد الغزوات، وفيه: وحصل من مجموع ذلك أنهم اختلفوا في ذلك على سبعة أقوال: من تسعة عشر إلى سبع وعشرين، ما عدا العشرين وثلاث وعشرين، ثم قال الزرقاني: وقاتل في

(1)

"فتح الباري"(7/ 280).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 246 - 248).

ص: 562

تسع منها بنفسه، قال ابن تيمية: لا يعلم أنه قاتل في غزاة إلا في أُحد، ولم يقتل أحدًا إلا أُبيّ بن خلف فيها، فلا يفهم من قولهم: قاتل في كذا أنه قاتل بنفسه كما فهمه بعض الطلبة ممن لا اطلاع له على أحواله عليه الصلاة والسلام، وأجيب بأن المراد قتال أصحابه بحضوره فنسب إليه، ولم يقع في باقي الغزوات قتال منه ولا منهم، وأما السرايا فكانت سراياه والبعوث التي بعث فيها سبعًا وأربعين سرية كما رواه ابن سعد عمن ذكر في عدد المغازي، وبه جزم في أول "الاستيعاب"، والذي في "النور": قال ابن عبد البر في ديباجة "الاستيعاب": كانت بعوثه وسراياه خمسًا وثلاثين، وقال ابن إسحاق: رواية البكائي ثمانيًا وثلاثين، وفي "الفتح": عن ابن إسحاق: ستًّا وثلاثين، والواقدي: ثمانيًا وأربعين، وابن الجوزي: ستًا وخمسين، والمسعودي: ستين، ومحمد بن نصر المروزي: سبعين، والحاكم في "الإكليل": أنها فوق المائة، قال العراقي: ولم أجده لغيره، وقال الحافظ: لعله أراد بضم المغازي إليها، وقرأت بخط مغلطائي: أن مجموع الغزوات والسرايا مائة، وهو كما قال، انتهى.

وسيأتي تفصيل الكلام عليه في آخر المغازي في "باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم؟ "

(2 -‌

‌ باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر)

أي: قبل وقعة بدر بزمان، فكان كما قال، ووقع عند مسلم من حديث أنس عن عمر قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود" الحديث، وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها، بخلاف حديث الباب فإنه قبل ذلك بزمان، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(7/ 282).

ص: 563

وفي "القسطلاني"

(1)

: وسقط لفظ "باب" لأبي ذر، وفي نسخة:"باب ذكر من قتل ببدر"، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قصة غزوة بدر)

هكذا في "العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح": سقط لفظ "باب".

قال القسطلاني

(2)

: وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر "قصة بدر"، وسقط لفظ "باب" لأبي ذر، وقال في "الفتح": ثبت لفظ: "باب" في رواية كريمة، وبدر بالفتح والسكون: قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، أو بدر اسم بئر بها، سميت بذلك لاستدارتها أو لصفاء مائها، وكان البدر يُرى فيها، وكذا في "الفتح"

(3)

، وزاد: وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، وإنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد.

قوله: ({وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ})[آل عمران: 123]، أي: قليلون بالنسبة إلى من لقيهم من المشركين، ومن جهة أنهم كانوا مشاة إلا القليل منهم، ومن جهة أنهم كانوا عارين من السلاح، وكان المشركون على العكس من ذلك، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى تلقي أبي سفيان لأخذ ما معه من أموال قريش، وكان من معه قليلًا، فلم يظن أكثر الأنصار أنه يقع قتال فلم يجز معه منهم إلا القليل، ولم يأخذوا أهبة الاستعداد كما ينبغي، بخلاف المشركين فإنهم خرجوا مستعدين ذابين عن أموالهم.

وأما قوله: ({إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ})[آل عمران: 124] فاختلف فيها أهل التأويل، فمنهم من قال: هي متعلقة بقوله: {نَصَرَكُمُ} فعلى هذا هي في

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 5).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 9).

(3)

"فتح الباري"(7/ 285).

ص: 564

قصة بدر، وعليه عمل المصنف، وهو قول الأكثر، وبه جزم الداودي، وأنكره ابن التِّين فذهل، وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية [آل عمران: 121]، فعلى هذا هي متعلقة لغزوة أُحد، وهو قول عكرمة وطائفة، ثم ذكر الحافظ تأييد الأول ثم قال: وقد لمح المصنف بالاختلاف في النزول فذكر قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} في غزوة أُحد، وكذلك قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] وذكر ما عدا ذلك في غزوة بدر، وهو المعتمد، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(2)

: وفي هذه السنة - أي: الثانية من الهجرة - وقعت غزوة بدر الكبرى، في "معالم التنزيل" و"سيرة ابن هشام": قال ابن إسحاق: كانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة السابع عشر من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، وقيل: التاسع عشر من رمضان، والأول أصح، وكذا في "المنتقى"، وفي "المواهب اللدنية": بعد الهجرة بتسعة عشر شهرًا، وكان خروج المسلمين من المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، وقال ابن هشام: لثمان ليال خلون من رمضان، وفي "الاستيعاب": وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وليس في غزواته ما يعدل بها في الفضل، ويقرب منها غزوة الحديبية حيث كان فيها بيعة الرضوان.

وقال ابن هشام

(3)

: خرج يوم الاثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان، واستعمل على المدينة عمرو ابن أم مكتوم - ويقال: اسمه عبد الله بن أم مكتوم - على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة، وكان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا على عدد أصحاب طالوت يوم جالوت الذين جاوزوا معه النهر، وقد ذكرهما الإمام

(1)

"فتح الباري"(7/ 285).

(2)

"تاريخ الخميس"(1/ 368 - 371).

(3)

"سيرة ابن هشام"(2/ 224).

ص: 565

البخاري في "صحيحه"، وفي "المواهب": كان عدد المشركين ألفًا، ويقال: تسعمائة وخمسين رجلًا، انتهى.

وفي "المجمع"

(1)

: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يوم السبت لاثنتي عشرة من رمضان، انتهى.

(4 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية [الأنفال:

9])

قال الحافظ

(2)

: أورد البخاري فيه حديثين، فقصة المقداد فيها بيان ما وقع قبل الوقعة، وحديث ابن عباس فيه بيان الاستغاثة، وقوله:{أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} [الأنفال: 9] وهذا آية الأنفال، تقدم ما يخالفه في العدد من آية آل عمران.

قال الحافظ

(3)

: روى ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين، فأنزل الله تعالى:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ} الآية [آل عمران: 124]، قال: فلم يمد كرز المشركين ولم يمد المسلمين بالخمسة، ومن طريق سعيد عن قتادة قال:"أمد الله المسلمين بخمسة آلاف من الملائكة"، وعن الربيع بن أنس قال:"أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف"، قال الحافظ: وكأنه جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال، انتهى.

قوله: ({إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً})[الأنفال: 11] قال العلَّامة القسطلاني

(4)

: قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة من الشيطان لعنه الله تعالى، وقال قتادة: النعاس في الرأس والنوم

(1)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 279).

(2)

"فتح الباري"(7/ 287).

(3)

"فتح الباري"(7/ 285).

(4)

"إرشاد الساري"(9/ 12).

ص: 566

في القلب، وقال ابن كثير: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأما يوم بدر فتدل له هذه الآية أيضًا، انتهى.

(5 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(1)

: كذا للجميع بغير ترجمة، ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن:"باب فضل من شهد بدرًا" وتبع في ذلك بعض النسخ، وهو خطأ من جهة أن هذه الترجمة بعينها ستأتي فيما بعد، فلا معنى لتكرارها، انتهى.

(6 -‌

‌ باب عدة أصحاب بدر)

أي: الذين شهدوا الوقعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ألحق بهم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: وبسط الحافظ في عدد من شهد بدرًا، وذكر اختلاف الروايات فيه، والجمع بينها، وقال أيضًا: ولأحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس: كان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، قال: وهذا هو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي، انتهى.

قوله: (وكان المهاجرون يوم بدر نيفًا على ستين) قال الحافظ: كذا في هذه الرواية، وسيأتي في آخر الكلام على هذه الغزوة أنهم كانوا ثمانين أو زيادة، انتهى.

(7 -‌

‌ باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش. . .) إلخ

المراد دعاؤه صلى الله عليه وسلم السابق وهو بمكة، وقد مضى بيانه في كتاب الطهارة، حيث أورده المصنف من حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب بأتم منه سياقًا، وأورده في الطهارة لقصة سلى الجزور ووضعه على

(1)

"فتح الباري"(7/ 290).

(2)

"فتح الباري"(7/ 291).

ص: 567

ظهر المصلي فلم تفسد صلاته، وفي الصلاة مستدلًا به على أن ملاصقة المرأة في الصلاة لا تفسدها، وفي الجهاد في "باب الدعاء على المشركين"، وفي الجزية مستدلًا به على أن جيف المشركين لا يفادى بها، وفي المبعث في "باب ما لقي المسلمون من المشركين بمكة"، ثم قال:

(تنبيه): ثبتت هذه الترجمة للأكثر، وسقطت لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وثبوتها أوجه، إذ لا تعلق لحديثها بباب عدة أهل بدر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وهؤلاء الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين كانوا صرعى ببدر، كما في حديث الباب، وبهذه المناسبة ذكر المصنف هذا الباب في قصة بدر كما في "الخير الجاري".

(8 -‌

‌ باب قتل أبي جهل)

قال العلَّامة العيني

(2)

: أي: بيان كيفية قتله، وهذه الترجمة ثبتت لغير أبي ذر، قيل - والقائل الحافظ رحمه الله: سقوطها أوجه؛ لأن فيه هلاك غير أبي جهل أيضًا.

قلت: وفي بعض النسخ أيضًا "باب قتل أبي جهل وغيره" فعلى هذا ثبوتها أوجه، انتهى.

قلت: ويشكل ههنا أنه ليس في بعض أحاديث الباب ذكر قتل أبي جهل، فيمكن أن يقال في الجواب عنه: أن هذه الترجمة من الأصل السادس من أصول التراجم، وهو الذي يقال له: باب في باب، فعلى هذا يكفي مناسبة تلك الروايات بالباب السابق فتأمل، وجواب آخر وهو أن في بعض النسخ ههنا "باب قتل أبي جهل وغيره" كما تقدم في كلام العيني،

(1)

"فتح الباري"(7/ 293، 294).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 18).

ص: 568

ولعله لهذا قال العلَّامة العيني في أحاديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة، مع أنه ليس في بعضها ذكر أبي جهل.

ثم إنهم اختلفوا في قاتل أبي جهل بسطه الحافظ وغيره، وفي هامش "الهندية"

(1)

: قوله: "ضربه ابنا عفراء" هما معاذ ومعوذ، وفي مسلم أن اللذين قتلاه معاذ بن عمرو بن الجموع ومعاذ بن عفراء هو ابن الحارث، وعفراء أمه، وروي أن ابن مسعود هو الذي أجهز فيه، وأخذ رأسه، قال الشيخ يحمل هذا على أن الثلاثة اشتركوا في قتله، وكان الإثخان من معاذ بن عمرو بن الجموع، وجاء ابن مسعود بعد ذلك، وفيه رمق فجزّ رأسه، كذا في الطيبي.

قال الكرماني: قال النووي: قتله معاذ بن عمرو وابن عفراء، قلت: لعل القتل كان بفعل الكل فأسند كل راو إلى ما رواه من القرب أو زيادة الأثر على حسب اعتقاده، وقول ابن عبد البر: الأصح أنه قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، أي: مات، كذا في الكرماني، انتهى من هامش الهندية.

(تنبيه): قال الإمام أبو داود في "سننه" في "باب الأسير يوثق" قال أبو داود: وهما - أي: عوف ومعوذ - قتلا أبا جهل بن هشام، وكانا انتدبا له ولم يعرفاه، قال الشيخ في "البذل"

(2)

: قلت: اللذان قتلا أبا جهل هما معاذ ومعوذ ابنا عفراء، وفي بعض الروايات ذكر معاذ بن عمرو بن الجموح، ولم أر أحدًا ذكر عوفًا فيمن قتل أبا جهل إلا أبا داود وابن سعد، فإنه قال في "طبقاته"

(3)

: وقتل عوف بن الحارث يوم بدر شهيدًا، قتله أبو جهل بن هشام بعد أن ضربه عوف وأخوه معوذ ابنا الحارث، فأثبتاه إلى أن قال: ولكن قاتل أبي جهل الذين ذكروا في البخاري ومسلم هم ثلاثة، معاذ ومعوذ ابنا عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ولم أر لعوف ذكرًا وشركة في قتل أبي جهل، انتهى.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(8/ 22).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 310).

(3)

"الطبقات الكبرى"(3/ 375).

ص: 569

وفي "عون المعبود"

(1)

: المشهور في الروايات أن ابني عفراء اللذين قتلا أبا جهل هما معاذ ومعوذ، انتهى.

قوله: (ضرب ثنتين يوم بدر. . .) إلخ، تعارضت ههنا بين رواية معمر عن هشام وبين رواية عبد الله بن المبارك، ففي رواية معمر:"ضرب ثنتين يوم بدر فواحدة يوم اليرموك"، وفي رواية ابن المبارك بلفظ "ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضرب بها يوم بدر"، واختلفوا في الجمع بينهما كما ذكر في هامش "اللامع"، وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: ليس المقصود أنه لم يضرب يوم اليرموك إلا واحدة، لما سيجيء أنه ضرب يوم اليرموك ضربتين، بل المراد أنه ضرب يوم اليرموك ضربة بين ضربتي يوم بدر، وكانت ضربة من ضربتي يوم اليرموك على طرف الضربات، فالحاصل أن الضربات صارت أربعًا لكل يوم ضربتان، غير أن ضربتي يوم اليرموك وقعتا بحيث صارت ضربة من ضربتي يوم بدر بينهما، وكانت الضربة الثانية من ضربتي يوم بدر على طرف الضربات، ثم أوضحه الشيخ بالشكل، فارجع إليه لو شئت.

قوله: (يقول حين تَبَوَّءُوا. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: إشارة إلى تفسير قوله: "الآن" فالضمير عائد إليه صلى الله عليه وسلم، والمراد بتبوء المقاعد من النار ابتلاؤهم في عذاب القبر ومصائب البرزخ، وهو تفسير من بعض الرواة، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أوجه وأوضح مما قالته الشرَّاح ههنا، وذكر فيه كلام الشرَّاح.

(9 -‌

‌ باب فضل من شهد بدرًا)

سقط لفظ الباب لأبي ذر والأصيلي وابن عساكر، قاله القسطلاني

(4)

.

(1)

"عون المعبود"(7/ 245).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 254، 255).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 258).

(4)

"إرشاد الساري"(9/ 35).

ص: 570

قال الحافظ

(1)

: فضل من شهد بدرًا، أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين مقاتلاً للمشركين، وكأن المراد بيان أفضليتهم لا مطلق فضلهم، انتهى.

(10 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، هذا رجوع إلى أصل القصة، قال الحافظ

(2)

: كذا في الأصول بغير ترجمة، وهو فيما يتعلق ببدر أيضًا، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(3)

: وكل ما ذكر فيه لا يخلو عن أمر من أمور بدر، وقال

(4)

فيما سيأتي في هذا الباب من قول كعب بن مالك: ذكروا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية قد شهدا بدرًا: لما كانت هذه الأبواب المذكورة فيما يتعلق بغزوة بدر، والترجمة الأولى في "باب عدة أصحاب بدر" ذكر أن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية من أهل بدر، وأنهما داخلان في العدة ردًا على من أنكر من الناس أنهما لم يشهدا بدرًا، إلى آخر ما قال.

وسيأتي الاختلاف في كونهما بدريًا أيضًا في "باب حديث كعب بن مالك".

(11 -‌

‌ باب شهود الملائكة بدرًا)

تقدم القول في ذلك في "باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} "[الأنفال: 9].

قال الحافظ

(5)

: أخرج يونس بن بكير في "زيادات المغازي" والبيهقي من طريق الربيع بن أنس قال: "كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل وسم النار" وفي

(1)

"فتح الباري"(7/ 305).

(2)

"فتح الباري"(7/ 306).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 33).

(4)

"عمدة القاري"(12/ 40).

(5)

"فتح الباري"(7/ 312، 313).

ص: 571

"مسند إسحاق" عن جبير بن مطعم قال: "رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل النجا والأسود أقبل من السماء كالنمل فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم"، وعند مسلم من حديث ابن عباس:"بينما رجل مسلم يشتد في أثر رجل مشرك إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه وصوت الفارس" الحديث، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلك مدد من السماء الثالثة".

ووقع عند البيهقي من طريق ابن محمد بن جبير بن مطعم، أنه سمع عليًا يقول:"هبّت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة - وأظنه ذكر ثالثة - فكانت الأولى جبريل، والثانية ميكائيل، والثالثة إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره وأنا فيها"، ومن طريق أبي صالح عن علي قال: قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال"، وأخرجه أحمد وصححه الحاكم، والجمع بينه وبين الذي قبله ممكن، قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأس‌

‌باب

وسُنَّتها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع، والله أعلم.

(12 - باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، وهو فيما يتعلق ببيان من شهد بدرًا، قاله الحافظ

(1)

.

قوله: (يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: وكان وروده المدينة في فداء أسارى بدر، وبذلك يصح

(1)

"فتح الباري"(7/ 314).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 269، 270).

ص: 572

إيراده ههنا، وقوله:(لو كان مطعم بن عدي. . .) إلخ، تأليف لابنه جبير وهو سبب آخر لإيمانه، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(1)

: وجه إيراده ههنا ما تقدم في الجهاد أنه كان قدم في أسارى بدر، أي: في طلب فدائهم، انتهى.

وقال الكرماني

(2)

: فإن قلت: تقدم في الجهاد في "باب فداء المشركين" أن جبيرًا حين سمع قراءته في المغرب بالطور كان كافرًا وجاء في المدينة في أسارى بدر، وإنما أسلم بعد ذلك يوم الفتح، قلت: التصريح بالكلمة والتزام أحكام الإسلام كان عند الفتح، وأما حصول وقار الإيمان في صدره فكان في ذلك اليوم، انتهى. وتبعه العيني

(3)

.

قوله: (وقعت الفتنة الأولى) ولم يعد مقتل عمر فتنة؛ لأنه كان قتل رجل فحسب، والفتنة ما يلتبس الأمر فيه على المسلمين، ثم إن المراد بقوله:"فلم تبق من أصحاب بدر أحدًا" ليس هو استيعاب الفتنة هؤلاء الصحابة، بل المراد شروعها في إفنائهم وإهلاكهم حتى انقضوا عن قريب، وذلك في الاثنتين الباقيتين، انتهى من "اللامع"

(4)

.

وذكر في هامشه ما يتعلق بكلام الشرَّاح.

(13 -‌

‌ باب تسمية من سمي من أهل بدر)

كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: أشار بذلك إلى تفصيل من ورد عليه في كتابه هذا تصريح كونه بدريًا كقوله: شهد بدرًا، أو هو بدري إلى غير ذلك، انتهى.

وفي هامشه: يعني: المذكور في هذا الباب أسماء من ذكر فيه

(1)

"فتح الباري"(7/ 324).

(2)

"شرح الكرماني"(15/ 195).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 62).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 270، 271).

(5)

"لامع الدراري"(8/ 274).

ص: 573

البخاري أنه بدري في الرواية المتقدمة لا أسماء جميع البدريين، وهكذا في تقرير المكي إذ قال: ليس المراد كل من ذكر في هذا الكتاب، ولا كل من روي عنه الحديث في هذا الكتاب، بل المراد به من قيل في حقه في هذه الأبواب هو بدري أو شهد بدرًا ونحوهما، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: قوله: "باب تسمية من سمي من أهل بدر في الجامع" أي: دون من لم يسم فيه، ودون من لم يذكر فيه أصلًا، والمراد بالجامع هذا الكتاب، والمراد بمن سمي من جاء ذكره فيه برواية عنه أو عن غيره بأن شهدها، لا بمجرد ذكره دون التنصيص على أنه شهدها، وبهذا يجاب عن ترك إيراده مثل أبي عبيدة بن الجراح فإنه شهدها باتفاق، وذكر في الكتاب في عدة مواضع، إلا أنه لم يقع في التنصيص على أنه شهد بدرًا، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: قال في "الكواكب": والمقصود منه تسمية من علم في هذا الكتاب أنه من أهل بدر على الخصوص، فكأنه فذلكة وإجمال لما تقدم مفصلًا، لا تسمية المذكورين منهم فيه مطلقًا، إذ كثير ممن لم يختلف في شهوده بدرًا كأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لم يذكره ههنا، ولا تسمية من روى حديثًا منهم، فإن كثيرًا من المذكورين ههنا لم يرو حديثًا فيه نحو حارثة وغيره، انتهى.

(فائدة): قال الزرقاني: قال العلَّامة الدواني: سمعنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم في البخاري مستجاب، وقد جرّب، انتهى.

وهكذا حكاه عن العلَّامة الدواني صاحب "تاريخ الخميس"

(3)

وقال: قاله الدواني في "شرح العقائد العضدية".

(1)

"فتح الباري"(7/ 327).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 77).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 371).

ص: 574

ثم لا يذهب عليك أن المذكور في النسخ الهندية التي بأيدينا بعد اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم: إياس بن البكير، فذكر أسماءهم على ترتيب الحروف المعجم، وهكذا في متن شرح الكرماني، وقال القسطلاني

(1)

: ذكرهم على حروف المعجم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة فقدمهم لشرفهم، وفي بعضها تقديمه صلى الله عليه وسلم فقط.

"النبي صلى الله عليه وسلم، أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم إياس بن البكير. . ." إلخ، مختصرًا بدون ذكر "ثم" بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهكذا الترتيب في شرح العيني موافقًا للقسطلاني، وهكذا الترتيب في "الفتح" بدون ذكر "ثم" في الأسماء كلها، وهكذا في "شرح الكرماني"، وهكذا رواه صاحب "المشكاة" عن البخاري، ولعله مبني على اختلاف نسخ البخاري، انتهى من هامش "اللامع"

(2)

.

قوله: (النبي محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم) قال الشرَّاح: ذكره تبركًا وإلا فكونه حضر بدرًا من المقطوع به.

وقال الحافظ

(3)

بعد سرد الأسماء: فجملة من ذكر من أهل بدر ههنا أربعة وأربعون رجلًا، وزاد العيني والقسطلاني في غير النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نسخة "القسطلاني" أربعة وثلاثون بدل أربعة وأربعين، فلعله من زلة الناسخ.

قال الحافظ: وقد سبق البخاري إلى ترتيب أهل بدر على حروف المعجم، وهو أضبط لاستيعاب أسمائهم، ولكنه اقتصر على ما وقع عنده منهم، واستوعبهم الحافظ ضياء الدين المقدسي في "كتاب الأحكام"، وبيَّن اختلاف أهل السير في بعضهم، وهو اختلاف غير فاحش، وأورد ابن سيد الناس أسماءهم في "عيون الأثر"، لكن على القبائل، كما صنع ابن إسحاق

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 77).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 274، 275).

(3)

"فتح الباري"(7/ 329).

ص: 575

وغيره، واستوعب ما وقع له من ذلك، فزادوا على ثلاثمائة وثلاثة عشر خمسين رجلًا، قال: وسبب الزيادة الاختلاف في بعض الأسماء.

قلت: ولولا خشية التطويل لسردت أسماءهم مفصلًا مبينًا للراجح، لكن في هذه الإشارة كفاية، والله المستعان، انتهى.

قلت: وهذا على حسب نسخ الشروح، وبحسب النسخ الهندية المذكور ههنا ثلاثة وأربعون غير النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه ليس في النسخ الهندية عتبة بن مسعود الهذلي، وهو موجود في نسخة الشرَّاح، لكنهم تكلموا عليه، وقالوا: لم يتقدم له ذكر في البخاري ولا ذكره أحد ممن صنف في المغازي في البدريين، قال القسطلاني

(1)

: وقد رقم عليه في الفرع علامة السقوط، قال في "الفتح"

(2)

: وهو ساقط عند النسفي، ولم يذكره الإسماعيلي وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، وهو المعتمد، وكذا قالوا في قوله

(3)

: "رفاعة بن عبد المنذر، أبو لبابة الأنصاري" أنه تقدم في الباب المتقدم آنفًا: قال: حدثه أبو لبابة البدري، قال الدمياطي: إنما هو أخو أبي لبابة، وليس بأبي لبابة، واسم أبي لبابة بشير بن عبد المنذر، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: قال في "الكواكب": وفائدة ذكرهم معرفة فضيلة السبق، وترجيحهم على غيرهم، والدعاء لهم بالرضوان على التعيين، رضي الله عنهم أجمعين، انتهى.

(14 -‌

‌ باب حديث بني النضير)

قال الحافظ

(5)

: هم قبيلة كبيرة من اليهود، وقد مضت الإشارة إلى التعريف بهم في أوائل الكلام على أحاديث الهجرة، وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على أن لا يحاربوه

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 80).

(2)

"فتح الباري"(7/ 328).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 67).

(4)

"إرشاد الساري"(9/ 82).

(5)

"فتح الباري"(7/ 330).

ص: 576

ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وقينقاع، وقسم: حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش، وقسم: تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرًا ومع عدوه باطنًا، وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا خلفاء فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات، ثم نقض العهد بنو النضير كما سيأتي، وكان رئيسهم حيي بن أخطب، ثم نقضت قريظة كما سيأتي شرح حالهم بعد غزوة الخندق إن شاء الله تعالى، انتهى.

ثم اعلم أن الإمام البخاري رحمه الله ذكر غزوة بني النضير ههنا بعد غزوة بدر، وعامة أهل السير ذكروها بعد أُحد، فجمهور أهل السير على أن قصتهم كانت بعد بئر معونة كما حكاه البخاري عن ابن إسحاق، وبعضهم كعروة على أن قصتهم إنما وقعت بعد بدر بستة أشهر، كما حكاه البخاري عنه أولًا، وذلك لأنهم أختلفوا في سبب هذه الغزوة ما هو؟ فالجمهور ومنهم ابن إسحاق ذكروا في سبب هذه الغزوة أنه خرج رسول الله إلى بني النضير ليستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلا بعد وقعة بئر معونة، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم عليه الصلاة والسلام ليستعينهم في ديتهما قالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس فنتشاور فيما جئتنا به، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال منفردًا ليس معه من أصحابه إلا نحو العشرة، فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام عليه الصلاة والسلام ورجع مسرعًا إلى المدينة.

والسبب الآخر لهذه الغزوة ما روى ابن مردويه بسند صحيح عن

ص: 577

الزهري أنه قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، إلى أن قال: فلما كانت وقعة بدر كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون يتهددونهم، فاجتمع بنوا النضير على الغدر، فأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، إلى آخر القصة، قال الحافظ: هذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق أن سبب غزوة بني النضير دية الرجلين، لكن وافقه جل أهل المغازي، انتهى مختصرًا

(1)

.

فمن قال بالسبب الأول ذكرها بعد غزوة أُحد كما هو قول الجمهور؛ لأن قصة بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق، ومن قال بالسبب الثاني ذكرها بعد بدر، ومنهم عروة وإليه ميل البخاري، لكن يشكل عليه أن الإمام البخاري ذكر بعد قوله: حديث بني النضير قوله: ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين، وهذا الخروج الذي كان في قصة الدية كان بعد بئر معونة باتفاق المحدثين والمؤرخين، فكيف ذكره ههنا بعد بدر اللَّهم إلا أن يقال: إنه ذكره لكونه معروفًا فيما بين المؤرخين في سبب تلك الغزوة لا لأنه اختار هذا القول، ومن دأب الإمام البخاري أنه قد يذكر قولًا لكونه معروفًا بين العلماء مع أنه ليس مختارًا عنده، ويظهر هذا لمن أمعن النظر في كتابه، والله تعالى أعلم، والبسط في هامش "اللامع"

(2)

.

قوله: (وأجلى يهود المدينة: بني قينقاع) وكان أول من أخرج من المدينة، ذكر الواقدي: أن إجلاءهم كان في شوال سنة اثنتين، يعني: بعد بدر بشهر، ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع، فقال: يا يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشًا يوم بدر،

(1)

"فتح الباري"(7/ 331، 332).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 276 - 279).

ص: 578

فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتلتنا لعرفت أنَّا الرجال، فأنزل الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12 - 13]. وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بين قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق كما تقدم بسطه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(2)

: وفي نصف شوال هذه السنة، أي: الثانية من الهجرة يوم السبت وقعت غزوة بني قينقاع، انتهى.

(15 -‌

‌ باب قتل كعب بن الأشرف)

أي: اليهودي، وقال ابن إسحاق وغيره: كان عربيًا من بني نبهان، وهم بطن من طيئ، وكان أبوه أصاب دمًا في الجاهلية، فأتى المدينة فحالف بني النضير، فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبًا، وكان طويلًا جسيمًا ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن وداعة السهمي والد المطلب، فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فطردته، فرجع كعب إلى المدينة، وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، وروى أبو داود والترمذي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرًا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر، فلما أبى كعب أن ينزع عن أذاه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا ليقتلوه، وذكر ابن سعد أن قتله كان في ربيع

(1)

"فتح الباري"(7/ 332).

(2)

"تاريخ الخميس"(1/ 408).

ص: 579

الأول من السنة الثالثة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفيه أيضًا

(2)

: قال السهيلي في قصة كعب بن الأشرف: قتل المعاهد إذا سبّ الشارع، خلافًا لأبي حنيفة، قال الحافظ: وفيه نظر، وصنيع المصنف في الجهاد يعطي أن كعبًا كان محاربًا حيث ترجم لهذا الحديث "الفتك بأهل الحرب" وترجم له أيضًا "الكذب في الحرب"، انتهى.

قوله: (جاء معه برجلين. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: ليس فيه نفي للزيادة، انتهى.

وفي هامشه: والمعروف في كتب السير أنهم كانوا خمسة، قال الحافظ

(4)

: وقع في رواية الحميدي قال: فأتاه ومعه أبو نائلة وعباد بن بشر وأبو عبس بن جبر والحارث بن معاذ إن شاء الله، كذا أدرجه، ووقعت تسميتهم كذلك في رواية ابن سعد، فكانوا خمسة، وهو أولى مما وقع في رواية محمد بن محمود: كان مع محمد بن مسلمة أبو عبس بن جبر وأبو عتيك، ولم يذكر غيرهما، وكذا في مرسل عكرمة: ومعه رجلان من الأنصار، ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرةً ثلاثة وفي الأخرى خمسة، انتهى.

قال القسطلاني

(5)

في "المواهب": وهؤلاء الخمسة من الأوس، قال الزرقاني

(6)

: فتفردت الأوس بقتل كعب كما تفردت الخزرج بقتل سلّام بن أبي الحقيق، قاله عبد الغني الحافظ، قال القسطلاني

(7)

: كان ذلك، أي: قتل كعب بن الأشرف لأربع عشرة ليلة [مضت] من ربيع الأول، وهكذا في "المجمع"

(8)

، وكذا نقل الحافظ

(9)

عن ابن سعد: أن

(1)

"فتح الباري"(7/ 337).

(2)

"فتح الباري"(7/ 340).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 286).

(4)

"فتح الباري"(7/ 339).

(5)

"المواهب"(1/ 387).

(6)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 374، 375).

(7)

"المواهب"(1/ 386).

(8)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 280).

(9)

"فتح الباري"(7/ 337).

ص: 580

قتله كان في ربيع الأول، وقال العيني

(1)

: كان قتله في رمضان من سنة ثلاث، وقيل: في ربيع الأول، والأول أشهر، انتهى.

قلت: وعامة المحدثين والمؤرخين على أن قتله كان في ربيع الأول.

(16 -‌

‌ باب قتل أبي رافع. . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: وكان قبل إجلاء بني النضير في حوالي المدينة، فلما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم نزل ابن أبي الحقيق هذا خيبر، فلا منافاة بينهما، وهما صحيحان إن أريد بالكون مطلقه، وإن كان غرض المؤلف بيان كونه عند القتل، والاختلاف فيه فلا يمكن جمعهما، ولا وجه حينئذ لصحة القول الثاني، انتهى.

وفي هامشه: في "مجمع البحار"

(3)

: في السنة السادسة قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، انتهى.

وفي "المواهب"

(4)

وشرحه للزرقاني: سرية عبد الله بن عتيك - بفتح العين المهملة وبالكاف - الخزرجي من بني سلمة لقتل أبي رافع عبد الله - ويقال: سلام بشد اللام - ابن أبي الحقيق اليهودي - بضم المهملة وقافين مصغر -، حكى البخاري القولين في اسمه ممرضًا الثاني، وجزم ابن إسحاق بأن اسمه سلام، وتبعه اليعمري، وهو الذي حزَّب الأحزاب على محاربته صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكانت هذه السرية في رمضان سنة ست كما ذكره ابن سعد ههنا، وذكر في ترجمة ابن عتيك أمير السرية أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي رافع سنة خمس بعد وقعة بني قريظة، ومشى عليه ابن إسحاق فذكرها بعد قريظة، وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثلاث، وقيل: في رجب

(1)

"عمدة القاري"(12/ 79).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 288 - 290).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 285).

(4)

"المواهب اللدنية"(1/ 482)، و"شرح الزرقاني على المواهب"(3/ 141).

ص: 581

سنة ثلاث، وقيل: في ذي الحجة سنة أربع، وفي البخاري: قال الزهري: بعد قتل كعب بن الأشرف، وهذا يقرب القول أنه في جمادى الآخرة سنة ثلاث.

قال الحافظ

(1)

: وبيَّن ابن إسحاق أن الزهري أخذ ذلك عن ابن كعب، فقال: لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف استأذنت الخزرج في قتل سلام بن أبي الحقيق، وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئًا فيه عنه صلى الله عليه وسلم غناءً إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا أبدًا، فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، فاستأذنوه صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة، انتهى من هامش "اللامع".

قلت: قد تقدم الأقوال في زمان قتله، وأكثر أهل السير على أن قتله كان في سنة ست، فلذا ذكروا صاحب "مجمع البحار" وصاحب "تاريخ الخميس" في وقائع السنة السادسة، وكذا ذكره ابن سعد في موضع سنة ست، وفي موضع آخر سنة خمس كما تقدم، ويشكل على هذا ذكره قبل غزوة أُحد، فإنها في شوال سنة ثلاث كما سيأتي، ويمكن الجواب عنه بأن المصنف رحمه الله مال فيه إلى ما حكاه هو عن الزهري وهو أن قتله كان بعد كعب بن الأشرف، وقد تقدم عن الحافظ أن هذا يقرب القول أنه في جمادى الآخرة سنة ثلاث، وهو أقل ما قيل في زمان قتله، وأيضًا لذكره بعد قتل كعب مناسبة وهو أن قتل كعب كان سببًا لقتله كما تقدم في بيان تصاول الأوس والخزرج معه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"فتح الباري"(7/ 342).

ص: 582

(17 -‌

‌ باب غزوة أُحد. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: سقط لفظ "باب" من رواية أبي ذر، و"أُحد" بضم الهمزة والمهملة: جبل معروف بينه وبين المدينة أقلّ من فرسخ، وهو الذي قاله فيه صلى الله عليه وسلم:"جبل يحبنا ونحبه" كما سيأتي في آخر الباب، ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأُحد، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجًا فمات هناك، قلت: وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدًا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة، ومنقطع أيضًا وليس بمرفوع، وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذّ من قال: سنة أربع، قال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان، وقيل: لتسع، وقيل: في نصفه، وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوز؛ لأن بدرًا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل، ولهذا قال مرة أخرى: كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرًا، وكان السبب فيها ما ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما، ثم ذكر الحافظ تلخيصه.

(18 -‌

‌ باب قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. . .} [آل عمران: 122]) إلخ

قال القسطلاني

(2)

: أي: حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وكان عليه الصلاة والسلام خرج إلى أحد في ألف والمشركون في ثلاثة آلاف، ووعدهم بالفتح إن صبروا، فانخزل ابن أبي بثلث الناس، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله تعالى فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أضمروا أن يرجعوا فعزم الله تعالى لهم على الرشد فثبتوا، والظاهر أنها ما كانت إلا همة

(1)

"فتح الباري"(7/ 345، 346).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 116، 117).

ص: 583

وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر، ويوطنها على احتمال المكروه، ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، والله تعالى يقول:{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ، انتهى.

قوله: (ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك: أن الناعسين كانوا هم المؤمنون، وكان أبو طلحة منهم، انتهى.

وفي "هامشه": قال الحافظ

(2)

: قوله: "ولقد وقع السيف" زاد مسلم

(3)

عن الدارمي عن أبي معمر شيخ البخاري فيه بهذا الإسناد "من النعاس"، فأفاد سبب وقوع السيف من يده، وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن أنس عن أبي طلحة:"كنت فيمن يغشاه النعاس يوم أُحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا"، انتهى.

قلت: وهم الذين وردت فيهم آية أخرى في سورة الأنفال [11]{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية، انتهى من هامش "اللامع".

وقد تقدم شرح قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} في "باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 9] ".

(19 -‌

‌ باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران:

155])

هكذا في النسخ الهندية، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وكذا في نسخة متن "الفتح"، وأما في نسخة الشرح " {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} الآية" حسب، وليس فيه لفظ "باب قوله تعالى"، قال القسطلاني

(4)

: سقط لفظ "باب قول الله تعالى" لأبي ذر، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 299، 300).

(2)

"فتح الباري"(7/ 362).

(3)

"صحيح مسلم"(ح 1811).

(4)

"إرشاد الساري"(9/ 125).

ص: 584

قال الحافظ

(1)

: اتفق أهل العلم بالنقل على أن المراد به ههنا يوم أُحد، وغفل من قال: يوم بدر؛ لأنه لم يقول فيها أحد من المسلمين، نعم المراد بقوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وهي في سورة الأنفال يوم بدر، ولا يلزم منه أن يكون حيث جاء {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المراد به يوم بدر، انتهى.

(20 -‌

‌ باب {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} الآية [آل عمران:

153])

قال الحافظ

(2)

: قوله: ({تُصْعِدُونَ}: تذهبون. . .) إلخ، سقط هذا التفسير للمستملي، كأنه يريد الإشارة إلى التفرقة بين الثلاثي والرباعي، فالثلاثي بمعنى ارتفع والرباعي بمعنى ذهب، وقال بعض أهل اللغة: أصعد إذا ابتدأ السير، وقوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [آل عمران: 153] روى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال: "كان الغم الأول حين سمعوا الصوت أن محمدًا قد قتل، والثاني لما انحازوا [إلى النبي صلى الله عليه وسلم] وصعدوا في الجبل، فتذكروا قتل من قتل منهم فاغتموا"، ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد:"وقوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153]، أي: من الغنيمة {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران: 153]، أي: من الجراح وقتل إخوانكم"، وروى الطبري من طريق السدي نحوه، لكن قال:"الغم الأول ما فاتهم من الغنيمة، والثاني ما أصابهم من الجراح"، وزاد:"قال: لما صعدوا أقبل أبو سفيان بالخيل حتى أشرف عليهم، فنسوا ما كانوا فيه من الحزن على من قتل منهم، واشتغلوا بدفع المشركين"، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قوله: (أصعد وصعد. . .) إلخ، يعني به: أن اللفظ مشترك بين الذهاب في الأرض والرقي على الشيء المرتفع،

(1)

"فتح الباري"(7/ 363).

(2)

"فتح الباري"(7/ 364).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 301، 302).

ص: 585

ولا فرق في معناه بين مجرده ومزيده حتى إنه ليقال: أصعدت وصعدت بكليهما إذا ذهبت، وكذلك إذا رقيت، والله أعلم، وذكر في "هامشه" تأييده من كلام الشرَّاح وبعض المفسرين.

(21 -‌

‌ باب قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} الآية [آل عمران:

154])

ذكر فيه حديث أبي طلحة: "كنت فيمن تغشاه النعاس" الحديث، وقد تقدم شرحه قريبًا - قبل بابين - قال ابن إسحاق: أنزل الله النعاس، أمنة لأهل اليقين فهم نيام لا يخافون، والذين أهمتهم أنفسهم أهل النفاق في غاية الخوف، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: وإنما لم يغش الطائفة الأخرى؛ لأنهم مستغرقون في هم أنفسهم، فلا تنزل عليهم السكينة؛ لأنها وارد روحاني لا يتلوث بهم، انتهى.

(22 -‌

‌ باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية [آل عمران:

128])

قال الحافظ

(3)

: أي: بيان سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر في الباب سببين، ويحتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعًا فإنهما كانا في قصة واحدة، وسأذكر في آخر الباب سببًا آخر، وقال في آخر الباب: ووقع في رواية يونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث ابن عمر، لكن فيه:"اللهم العن لحيان ورعلًا وذكوان وعصية" قال: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "، قلت: وهذا إن كان محفوظًا احتمل أن يكون نزول الآية تراخيًا عن قصة أُحد؛ لأن قصة

(1)

"فتح الباري"(7/ 365).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 129).

(3)

"فتح الباري"(7/ 365، 366).

ص: 586

رعل وذكوان كانت بعدها، وفيه بعد، والصواب أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أُحد، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: بعد ذكر الباب: ولما كان في نزوله اختلاف أورد بعض الأقوال الأخر أيضًا في تفسيره، وإن لم يكن من المباحث المتعلقة بأُحد تبعًا واستطرادًا، انتهى.

قلت: وغرض الشيخ قُدِّس سرُّه أن الحديث الأول من الباب متعلق بأُحد دون الأخيرين، فنبَّه الشيخ بذلك أن ذكرهما للتنبيه على اختلاف في سبب النزول، نقل العيني فيه عدة أقوال، ذكرت في هامش "اللامع".

(23 -‌

‌ باب ذكر أم سليط)

بفتح المهملة وكسر اللام، هي والدة أبي سعيد الخدري، كانت زوجًا لأبي سليط فمات عنها قبل الهجرة، فتزوجها مالك بن سنان الخدري فولدت له أبا سعيد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قال القسطلاني

(3)

: لا يعرف اسمها، وعند ابن سعد أنها أم قيس بنت عبيد بن زياد، من بني مازن، وكان يقال لها: أم سليط؛ لأن اسم ابنها سليط، انتهى.

قال العيني

(4)

: وهي امرأة من المبايعات، حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، ثم قال: وحديث الباب مضى في "كتاب الجهاد" وفي "باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو"، انتهى.

(24 -‌

‌ باب قتل حمزة)

ليس في نسخة "الفتح" لفظ: "باب"، قال الحافظ

(5)

: كذا لأبي ذر،

(1)

"لامع الدراري"(8/ 303).

(2)

"فتح الباري"(7/ 367).

(3)

"إرشاد الساري"(9/ 133).

(4)

"عمدة القاري"(12/ 111).

(5)

"فتح الباري"(7/ 368 - 371).

ص: 587

ولغيره "باب قتل حمزة" فقط، وللنسفي:"قتل حمزة سيد الشهداء"، وهذا اللفظ قد ثبت في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من طريق الأصبغ بن نباته عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب" ثم ذكر الحافظ في آخر الباب: ذكر ابن سعد

(1)

قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي قد مثل به، فقال: لولا أن تحزن صفية - يعني: بنت عبد المطلب - وتكون سُنَّة بعدي لتركته حتى يحشر من بطون السباع - وهو أصل الطير -"، زاد ابن هشام قال:"وقال: لن أصاب بمثلك أبدًا، ونزل جبرئيل فقال: إن حمزة مكتوب في السماء أسد الله وأسد رسوله"، وروى البزار والطبراني بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة قد مثل به قال: رحمة الله عليك، لقد كنت وصولًا للرحم، فعولًا للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، ثم حلف وهو بمكانه لأمثلن بسبعين منهم، فنزل القرآن {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية [النحل: 126] "، انتهى.

قوله: (فهل تستطيع أن تغيب وجهك) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: وإنما فعل ذلك مع قبول إسلامه، والإسلام يهدم ما كان قبله خوفًا من أن يدركه حمية وحماية، فيدعوا عليه ويضرّ ذلك بدينه، ولا كذلك إذا تغيب عنه فإنه لا يتذكر، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر؛ لأن تذكره صلى الله عليه وسلم برؤية الوحشي لا مرية في ذلك، ولا حاجة حينئذ إلى الدعاء عليه، بل تحزن قلبه وتكدره عنه رضي الله تعالى عنه يكفي لمضرته، وهذا مجرب، فإنه التكدر في قلوب المشايخ يوصل المرء إلى المهالك، انتهى.

(1)

كذا في الأصل، وفي "الفتح":"ابن إسحاق"، لعله هو الصواب.

(2)

"لامع الدراري"(8/ 307).

ص: 588

(25 -‌

‌‌

‌ باب

ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أُحد)

قال الحافظ

(1)

: وقد تقدم شيء من ذلك في "باب قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، ومجموع ما ذكر في الأخبار أنه شج وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنته، وشفته السفلى من باطنها، ووهى منكبه من ضربة ابن قمئة، وجحشت ركبته، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "ضرب وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، بالسيف سبعين ضربة، وقاه الله شرها كلها"، وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة في الكثرة، وقال أيضًا في آخر الباب: وفي الحديث جواز التداوي، وأن الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره والعاقبة للمتقين، انتهى.

(26 - باب)

بغير ترجمة، وهكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وقالا

(2)

: هو كالفصل من سابقه وسقط لأبي ذر، انتهى.

قلت: وليس هو في نسخة "الفتح" ولم يتعرض له الحافظ.

(27 -‌

‌ باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران:

172])

أي: سبب نزولها، وأنها تتعلق بأُحد، إلى آخر ما في "الفتح"

(3)

.

قلت: وهذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد، صرح به أهل السير والمفسرون، لكن كما قال الحافظ: له تعلق بقصة أُحد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليها الغد من يوم أُحد، وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في

(1)

"فتح الباري"(7/ 372، 373).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 116)، و"إرشاد الساري"(9/ 139).

(3)

"فتح الباري"(7/ 373).

ص: 589

الناس بطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس إلى آخر القصة، ذكرها صاحب "الخميس"

(1)

ولذا ذكره الإمام البخاري في أبواب غزوة أُحد.

قال الحافظ

(2)

: وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أُحد قالوا: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب ردفتم، بئسما صنعتم، فرجعوا فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، فبلغ المشركين فقالوا: نرجع من قابل، فأنزل الله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، أخرجه النسائي وابن مردويه، ورجاله رجال الصحيح إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس، انتهى.

(28 -‌

‌ باب من قتل من المسلمين يوم أُحد)

قال الحافظ

(3)

: أما حمزة فتقدم ذكره في باب مفرد، وأما اليمان وهو والد حذيفة فتقدم في آخر "باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} الآية" [آل عمران: 122]، وأما النضر بن أنس فكذا وقع لأبي ذر عن شيوخه، وكذا وقع عند النسفي، وهو خطأ، والصواب ما وقع عند الباقين "أنس بن النضر"، وقد تقدم ذكره في أوائل الغزوة على الصواب، فأما النضر بن أنس فهو ولده، وكان إذ ذاك صغيرًا، وعاش بعد ذلك زمانًا، وقد تقدم في هذه الأبواب ممن استشهد بها عبد الله بن عمرو والد جابر، ومن المشهورين عبد الله بن جبير أمير الرواة، وسعد بن الربيع، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأوس بن ثابت أخو حسان، وحنظلة بن أبي عامر المعروف بغسيل الملائكة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير صهر أبي بكر الصديق، وعمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين، ولكل من هؤلاء قصة مشهورة عند أهل المغازي.

(1)

"تاريخ الخميس"(1/ 447).

(2)

"فتح الباري"(8/ 228).

(3)

"فتح الباري"(7/ 375).

ص: 590

ثم قال الحافظ: قوله: (قتل منهم يوم أُحد سبعون) هذا هو المقصود بالذكر من هذا الحديث ههنا، وظاهره أن الجميع من الأنصار، وهو كذلك إلا القليل، وقد سرد ابن إسحاق أسماء من استشهد من المسلمين بأُحد فبلغوا خمسة وستين، منهم أربعة من المهاجرين: حمزة وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان ومصعب بن عمير، وأغفل ذكر سعد مولى حاطب، وقد ذكره موسى بن عقبة، وروى الحاكم في "الإكليل" وابن منده من حديث أُبي بن كعب قال:"قتل من الأنصار يوم أُحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة"، وصححه ابن حبان من هذا الوجه، ولعل السادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس، فقد عدّه والواقدي منهم، وعدّ ابن سعد ممن استشهد بأُحد من غير الأنصار الحارث بن عقبة بن قابوس المزني وعمه وهب بن قابوس وعبد الله وعبد الرحمن ابني الهبيب - بموحدتين مصغر - من بني سعد بن ليث، ومالكًا والنعمان ابني خلف بن عوف الأسلميين، قال: إنهما كانا طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلا.

قال الحافظ: ولعل هؤلاء كانوا من حلفاء الأنصار فعدوا فيهم، فإن كانوا من غير المعدودين فحينئذ تكمل العدة سبعين من الأنصار، ويكون جملة من قتل من المسلمين أكثر من سبعين، فمن قال: قتل منهم سبعون ألغى الكسر، والله أعلم، انتهى من "الفتح".

وفي هامش "اللامع"

(1)

: قال الزرقاني على "المواهب"

(2)

روى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى: قتل يوم أُحد سبعون: أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار، ثم ذكر ما تقدم من رواية ابن حبان والحاكم، ثم قال: وذكر المحب الطبري عن الشافعي أنهم اثنان وسبعون، وعن مالك خمسة وسبعون، من الأنصار خاصة أحد وسبعون، وسرد

(1)

"لامع الدراري"(8/ 308).

(2)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 419).

ص: 591

أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين، من المهاجرين أحد عشر، وسائرهم من الأنصار، قال اليعمري: ومن الناس من يجعل السبعين من الأنصار خاصة وبه جزم ابن سعد، انتهى مختصرًا.

(29 -‌

‌ باب أُحد يحبنا)

قال السهيلي: سمي أُحدًا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد، قوله:"قاله عباس بن سهل. . ." إلخ، هو طرف من حديث وصله البزار في الزكاة مطولًا، وقد تقدم شرح ما فيه هناك، إلا ما يتعلق بأُحد، ونسبه مغلطاي إلى تخريجه موصولًا في كتاب الحج، وإنما خرج هناك أصله دون خصوص هذه الزيادة.

ثم قال الحافظ: ظهر من الرواية التي بعدها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج، ووقع في رواية أبي حميد أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة، قال:"هذه طابة" فلما رأى أُحدًا قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" فكأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه ذلك القول، وللعلماء في معنى ذلك أقوال: أحدها: أنه على حذف مضاف والتقدير أهل أُحد، والمراد بهم الأنصار؛ لأنهم جيرانه، ثانيها: أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر لقربه من أهله ولقيامهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب، ثالثها: أن الحب من الجانبين على حقيقته، وظاهره لكون أُحد من جبال الجنة كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعًا:"جبل أُحد يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة" أخرجه أحمد، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(30 -‌

‌ باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: سقط لفظ: "باب" لأبي ذر، والرجيح بفتح الراء وكسر الجيم، هو في الأصل اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته، والمراد

(1)

"فتح الباري"(7/ 337 - 378).

(2)

"فتح الباري"(7/ 379، 380).

ص: 592

ههنا اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بقرب منه فسميت به.

قوله: (رعل وذكوان) أي: غزوة رعل وذكوان، فأما رعل بكسر الراء وسكون المهملة بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة بن سليم، وأما ذكوان فبطن من بني سليم أيضًا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم فنسبت الغزوة إليهما، قوله:"وبئر معونة" موضع في بلاد هذيل بين مكة وعسفان، وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين، وسيذكر ذلك في حديث أنس المذكور في الباب.

قوله: (وحديث العضل والقارة) أما عضل فبطن من بني الهول بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش بن محكم، وأما القارة فبالقاف وتخفيف الراء بطن من الهول أيضًا ينسبون إلى الديش المذكور، وقصة العضل والقارة كانت في غزوة الرجيع لا في سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر غزوة الرجيع في أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة في أوائل سنة أربع، ولم يقع ذكر عضل وقارة عند المصنف صريحًا، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق، فإنه بعد أن استوفى قصة أُحد قال: ذكر يوم الرجيع، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله! إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه، فذكر القصة، وعرف بها بيان قول المصنف: قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر: أنها بعد أُحد، وأن الضمير يعود على غزوة الرجيع لا على غزوة بئر معونة، انتهى.

قلت: وبهذا حصل شرح الترجمة، وكان فيه من الإغلاق ما لا يخفى، هاليه أشار الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

حيث كتب: قوله: "باب غزوة

(1)

"لامع الدراري"(8/ 309).

ص: 593

الرجيع ورعل. . ." إلخ، وفيه خفايا وخبايا ورزايا كامنة في الزوايا، فليفحص حقيقة الأمر، انتهى.

وفي هامشه: وهو كذلك فإن الإمام البخاري دمج في هذا الباب بين السريتين المختلفتين.

قال الحافظ: سياق هذه الترجمة يوهم أن غزوة الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك كما أوضحته، فغزوة الرجيع كانت سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس، وهي مع عضل والقارة، وبئر معونة كانت سرية القراء السبعين، وهي مع رعل وذكوان، وكأن المصنف أدرجها معها لقربها منها، وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة، قال الحافظ: وقد فصل بينهما ابن إسحاق فذكر غزوة الرجيع في أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة في أوائل سنة أربع، انتهى مختصرًا.

قلت: وهذا الباب من المنتقدات كما تقدم في مقدمة "اللامع"

(1)

في الانتقاد الحادي والعشرين، وبسطت هناك شيئًا من الكلام على ذلك، وأجملت الكلام على السريتين أيضًا، وسأذكر ههنا أيضًا مختصرًا ففي "المجمع"

(2)

: في السنة الرابعة سرية بئر معونة في صفر، وذلك أن عامر بن مالك قال: لو بعثت معي رجالًا لرجوت أن يجيب قومي، فبعث سبعين من الأنصار شببة يسمون القراء، وكتب إلى عامر بن الطفيل، فلما بلغوا بئر معونة استصرخ عليهم من سليم عصبة ورعلًا وذكوان فقتلوهم، فقالوا: بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فدعا عليهم أربعين صباحًا بالقنوت، انتهى.

قال الزرقاني

(3)

: وهم سبعون، كما في الصحيحين، قال السهيلي:

(1)

"لامع الدراري"(1/ 245).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 282).

(3)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 498).

ص: 594

هو الصحيح، وقيل: أربعون كما في رواية ابن إسحاق وموسى بن عقبة، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن الأربعون كانوا رؤساء وبقية العدة أتباعًا، وقيل: ثلاثون، قال الحافظ: وهو وهم، انتهى مختصرًا.

وفي "المجمع" بعد ذكر سرية بئر معونة: وفيها - أي: في السنة الرابعة - سرية الرجيع، وذلك أن قومًا من المشركين قالوا: إن فينا إسلامًا فابعث نفرًا يفقهوننا، فبعث مرثدًا وعاصم بن ثابت وخبيبًا وغيرهم، فلما بلغوا الرجيع غدروا واستصرخوا عليهم هزيلًا، فقتلوا بعضهم وأسروا آخرين، وباعوهم من مشركي مكة ليقتلوهم بمقتوليهم في بدر، انتهى.

وذكر صاحب "المواهب"

(1)

بعث الرجيع قبل بئر معونة وقال: سرية عاصم بن ثابت، في صغر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، فتكون في السنة الرابعة إلى الرجيع، وقصة عضل والقارة كانت في بعث الرجيع لا في سرية بئر معونة كما يوهمه ترجمة البخاري، وفصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع في أواخر سنة ثلاث، وهذا قول ابن إسحاق، وما مر أنها في صفر قول ابن سعد، وبئر معونة في أوائل سنة أربع، وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة، والجائي بالخبر الوحي، وسياق ترجمة البخاري يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك، انتهى مختصرًا بزيادة من الزرقاني، كذا في هامش "اللامع"

(2)

.

قوله: (ما إن أبالي حين أقتل مسلمًا. . .) إلخ، ذكرت هذه القصيدة التي أنشدها خبيب رضي الله تعالى عنه في "اللامع"، وذكر في هامشه ترجمتها وشرحها باللغة الأردية فارجع إليه لو شئت

(3)

، ولم تذكر هذه القصيدة في الشروح، بل أحالوها، قال الحافظ: ساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا، انتهى.

(1)

"المواهب اللدنية"(1/ 416).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 310).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 311 - 315).

ص: 595

وكذا ذكر الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" في هذا الباب من عدة مواضع منه مما يحتاج إلى شرح أو توجيه لما حمله الشرَّاح على الوهم والسهو كما هو دأبه في التقرير، فارجع إليه لو شئت.

(31 -‌

‌ باب غزوة الخندق وهي الأحزاب. . .) إلخ

يعني: أن لها اسمين، وهو كما قال، والأحزاب جمع حزب، أي: طائفة، فأما تسميتها الخندق فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكره أصحاب المغازي منهم أبو معشر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم، وأما تسميتها الأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدر سورة الأحزاب، وذكر ابن إسحاق بأسانيده أن عدتهم عشرة آلاف، قال: وكان المسلمون ثلاثة آلاف، وقيل: كان المشركون أربعة آلاف والمسلمون نحو الألف، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(2)

من "تهذيب ابن هشام": وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف رجل يوم الاثنين لثمان ليال مضين من ذي القعدة، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، فضرب هناك عسكره والخندق بينهم وبين المشركين، إلى آخر ما بسط.

وقال الحافظ

(3)

: وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يومًا، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته كما سيأتي، وذكر أهل المغازي سبب رحيلهم، وأن نعيم بن مسعود الأشجعي ألقى بينهم الفتنة فاختلفوا، وذلك

(1)

"فتح الباري"(7/ 392، 393).

(2)

"تاريخ الخميس"(1/ 483).

(3)

"فتح الباري"(7/ 393).

ص: 596

بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، ثم أرسل الله عليهم الريح فتفرقوا، وكفى الله المؤمنين القتال.

قوله: (قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع) وتابع موسى على ذلك مالك، وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه، وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي، ومال المصنف إلى قول موسى بن عقبة، وقوَّاه بما أخرجه أول أحاديث الباب من قول ابن عمر: أنه عرض يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة، ويوم الخندق وهو ابن خمس عشرة، فيكون بينهما سنة واحدة، وأُحد كانت سنة ثلاث فيكون الخندق سنة أربع، ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس لاحتمال أن يكون ابن عمر في أُحد كان في أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي، ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أُحد: موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر، فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ، وقال لقومه: إنما يصلح الغزو في سنة الخصب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي.

وقد بيَّن البيهقي

(1)

سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أُحد كانت في الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية وأُحد في الثالثة والخندق في

(1)

انظر: "دلائل النبوة"(3/ 478).

ص: 597

الخامسة، وهو المعتمد، ثم ذكر المصنف في الباب سبعة عشر حديثًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(32 -‌

‌ باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب)

أي: من الموضع الذي كان يقاتل فيه الأحزاب إلى منزله بالمدينة، قاله الحافظ

(2)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(3)

: وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعة وعشرين يومًا، وقيل: عشرين، وقيل: سبعة وعشرين، وقيل: قريبًا من شهر، قال صلى الله عليه وسلم:"لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا"، وكان كذلك فهو معجزة، وانصرف عليه الصلاة والسلام من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة، كذا في "المواهب اللدنية"، انتهى.

قوله: (ومخرجه إلى بني قريظة. . .) إلخ، قد تقدم السبب في ذلك، وهو ما وقع من بني قريظة من نقض عهده وممالأتهم لقريش وغطفان عليه، وتقدم نسب بني قريظة في غزوة بني النضير، وذكر عبد الملك بن يوسف في "كتاب الأنواء": أنهم كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو بمحتمل وإن شعيبًا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدًّا، وتقدم أن توجه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كان لسبع بقين من ذي القعدة، وأنه خرج إليهم في ثلاثة آلاف، وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسًا، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(33 -‌

‌ باب غزوة ذات الرقاع)

قال الحافظ

(5)

: هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت؟ واختلف في سبب تسميتها بذلك كما سيأتي، وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد

(1)

"فتح الباري"(7/ 392).

(2)

"فتح الباري"(7/ 408).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 493).

(4)

"فتح الباري"(7/ 408).

(5)

"فتح الباري"(7/ 417).

ص: 598

خيبر، واستدل لذلك في هذا الباب بأمور سيأتي الكلام عليها مفصلًا، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر فلا أدري هل تعمد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها - كما سيأتي - أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادى يعني: من سنته، وغزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلًا وهي غزوة ذات الرقاع.

وعند ابن سعد وابن حبان، أنها كانت في المحرم سنة خمس، وأما أبو معشر فجزم بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع المصنف، وقد تقدم أن غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة، وأول التي تليها، وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أُحد أو بعدها، وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فدل على تأخرها بعد الخندق، وسأذكر بيان ذلك واضحًا.

وفي هامش "اللامع"

(1)

عن العيني

(2)

: والحاصل أن غزوة ذات الرقاع عند ابن إسحاق كان بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس، ومال البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر كما سيأتي، ومع هذا ذكرها قبل خيبر، والظاهر أن ذلك من الرواة، انتهى مختصرًا.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 333).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 158).

ص: 599

قوله: (وهي غزوة محارب خصفة) كذا فيه، وهو متابع في ذلك لرواية مذكورة في أواخر الباب، وخصفة هو ابن قيس بن غيلان بن إلياس بن مضر، ومحارب هو ابن خصفة، والمحاربيون من قيس ينسبون إلى محارب بن خصفة هذا، وفي مضر محاربيون أيضًا لكونهم ينسبون إلى محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهم بطن من قريش، ولم يحرر الكرماني

(1)

هذا الموضع فإنه قال: قوله: "محارب" هي قبيلة من فهر، و"خصفة" هو ابن قيس بن غيلان.

قال الحافظ: وفي شرح قول البخاري: "محارب خصفة" بهذا الكلام من الفساد ما لا يخفى، ويوضحه أن بني فهر لا ينسبون إلى قيس بوجه، نعم وفي العرنيين محارب بن صباح، وفي عبد القيس محارب بن عمرو، ذكر ذلك الدمياطي وغيره، فلهذه النكتة أضيفت محارب إلى خصفة لقصد التمييز عن غيرهم من المحاربين، كأنه قال: محارب الذين ينسبون إلى خصفة لا الذين ينسبون إلى فهر ولا غيرهم.

قوله: (من بني ثعلبة بن غطفان) قال الحافظ

(2)

: كذا وقع فيه، وهو يقتضي أن ثعلبة جد لمحارب، وليس كذلك، ووقع في رواية القابسي:"خصفة بن ثعلبة" وهو أشدّ في الوهم، والصواب ما وقع عند ابن إسحاق غيره و"بني ثعلبة" بواو العطف، فإن غطفان هو ابن سعد بن قيس بن غيلان، فمحارب وغطفان ابنا عم، فكيف يكون الأعلى منسوبًا إلى الأدنى؟ وسيأتي في باب من حديث جابر بلفظ:"محارب وثعلبة" بواو العطف على الصواب، وفي قوله:"ثعلبة بن غطفان" بباء موحدة ونون نظر أيضًا، والأولى ما وقع عند ابن إسحاق:"وبني ثعلبة من غطفان" بميم ونون، فإنه ثعلبة بن سعد بن دينار بن معيص بن ريث بن غطفان، على أن لقوله:"ابن غطفان" وجهًا بأن يكون نسبه إلى جده الأعلى، انتهى من "الفتح".

(1)

"شرح الكرماني"(16/ 41).

(2)

"فتح الباري"(7/ 418).

ص: 600

قلت: وهذا على نسخة "الفتح"، وفي النسخ الهندية على الصواب "من غطفان" بدل "بن غطفان"، وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: ومقصود المصنف من إيراد الآثار المختلفة في الترجمة بيان ما في صلاة الخوف من الاختلاف: أين صلاها أولًا؟ والجمع بينهما أن تحمل على الصلاة المطلقة عن قيد الأولية، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في جملة تلك الغزوات، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: (تنبيه): جمهور أهل المغازي على أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب، كما جزم به ابن إسحاق، وعند الواقدي أنهما ثنتان، وتبعه القطب الحلبي في شرح "السيرة"، انتهى.

قلت: وإلى مسلك الجمهور مال المصنف كما صرّح هو بنفسه في الترجمة.

وأما سبب تسميتها بذات الرقاع فقال ابن هشام وغيره: سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر بذلك الموضع يقال له: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان

(3)

، وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف "جبل" بـ "خيل" وقد رجح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى - وهو ما سيأتي في البخاري -، وكذلك النووي، ثم قال: يحتمل أن تكون سميت بالمجموع، وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، وذكر الحافظ الكلام على تعدد غزوة سميت بذات الرقاع كما قيل، فارجع إليه لو شئت

(4)

.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 334).

(2)

"فتح الباري"(7/ 418).

(3)

"الثقات"(1/ 258) غزوة ذات الرقاع.

(4)

"فتح الباري"(7/ 419).

ص: 601

(34 -‌

‌ باب غزوة بني المصطلق من خزاعة. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: هكذا وقع ههنا، وذكر ما يتعلق بها، ثم أورد حديث أبي سعيد في العزل، ثم قال بعد ذلك:"حدثني محمود" يعني: ابن غيلان "حدثنا عبد الرزاق" فذكر حديث جابر في غزوة نجد، وفيه قصة الأعرابي، وهذا محله في غزوة ذات الرقاع، وقد وقع في رواية أبي ذر عن المستملي:"في غزوة ذات الرقاع" وهو أنسب، ثم ذكر بعد هذه ترجمة وهي غزوة أنمار، وذكر فيها حديث جابر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته، وهذا الحديث قد تقدم في "باب قصر الصلاة"، وكان محل هذا قبل غزوة بني المصطلق؛ لأنه عقّبه بترجمة حديث الإفك، والإفك كان في غزوة بني المصطلق، فلا معنى لإدخال غزوة أنمار بينهما، بل غزوة أنمار إنما يشبه أن تكون هي غزوة محارب وبني ثعلبة، لما تقدم من قول أبي عبيد: إن الماء لبني أشجع وأنمار وغيرهما من قيس، والذي يظهر أن التقديم والتأخير في ذلك من النساخ، انتهى.

قوله: (غزوة بني المصطلق) أما المصطلق فهو لقب، واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة، بطن من بني خزاعة، وقد تقدم بيان نسب خزاعة في أوائل السيرة النبوية، وأما المريسيع فهو ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفرع مسيرة يوم، وقد روى الطبراني من حديث سفيان بن وبرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق.

قوله: (قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست) كذا هو في مغازي ابن إسحاق

(2)

رواية يونس بن بكير وغيره عنه، وقال في شعبان، وبه جزم خليفة والطبري، وروى البيهقي من طريق قتادة وعروة وغيرهما أنها كانت في شعبان سنة خمس، وكذا ذكرها أبو معشر قبل الخندق.

(1)

"فتح الباري"(7/ 429).

(2)

"تهذيب ابن هشام"(3/ 297).

ص: 602

قوله: (وقال موسى بن عقبة: سنة أربع) كذا ذكره البخاري، وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة

(1)

من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في "الدلائل" وغيرهم سنة خمس، ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب: ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد عن ابن عمر: أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان سنة أربع، ولم يؤذن له في القتال؛ لأنه إنما أذن له فيه في الخندق، كما تقدم، وهي بعد شعبان سواء قلنا: إنها كانت سنة خمس أو سنة أربع، وقال الحاكم في "الإكليل": قول عروة وغيره: إنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق، ثم رجح الحافظ كونها سنة خمس إذ قال: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كان المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطًا؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل سنة أربع فهي أشدّ، فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان لتكون قد وقعت قبل الخندق؛ لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا، فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجودًا في المريسيع، ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق، ومات من جراحته في قريظة، ويؤيده أيضًا أن حديث الإفك كان سنة خمس، إذ الحديث فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب، والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المريسيع بعد ذلك، فيترجح أنها سنة خمس، أما قول الواقدي: إن الحجاب كان في ذي القعدة سنة خمس فمردود قد جزم خليفة وأبو عبيد وغير واحد بأنه كان سنة ثلاث، فحصلنا في الحجاب ثلاثة أقوال: أشهرها

(1)

"تغليق التعليق"(4/ 123).

ص: 603

سنة أربع، والله أعلم

(1)

.

وبسط الكلام على ذلك في هامش "اللامع"

(2)

في "باب خروج النساء إلى البراز" من كتاب الوضوء" تحت قوله: "فأنزل الله الحجاب" وذكر فيه الكلام في تعيين آية الحجاب، فارجع إليه لو شئت.

قوله: (كان حديث الإفك في غزوة المريسيع) وبهذا قال ابن إسحاق وغير واحد من أهل المغازي أن قصة الإفك كانت في رجوعهم من غزوة المريسيع، انتهى كله من "الفتح"

(3)

.

(33 -‌

‌ باب غزوة أنمار)

[*]

تقدم بعض ما يتعلق به في أول الباب السابق، وتقدم أيضًا من كلام الحافظ أن محل هذا الباب قبل غزوة بني المصطلق وغير ذلك.

قال الحافظ

(4)

: ولم يذكر أهل المغازي غزوة أنمار، وذكر مغلطاي أنها غزوة "أَمِر" بفتح الهمزة وكسر الميم، فقد ذكر ابن إسحاق أنها كانت في صفر، وعند ابن سعد "قدم قادم بحلب فأخبر أن أنمار وثعلبة قد جمعوا لهم، فخرج لعشر خلون من المحرم فأتى محلهم بذات الرقاع"، وقيل: إن غزوة أنمار وقعت في أثناء غزوة بني المصطلق لما روى أبو الزبير عن جابر: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني مصطلق فأتيته وهو يصلي على بعير، الحديث، ويؤيده رواية الليث عن القاسم بن محمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في غزوة بني أنمار صلاة الخوف، ويحتمل أن رواية جابر لصلاته صلى الله عليه وسلم تعددت، انتهى.

قلت: وما حكى الحافظ مما قيل: إن غزوة أنمار وقعت في أثناء غزوة بني المصطلق لعله لهذا ذكرها البخاري بين هذين البابين.

(1)

"فتح الباري"(7/ 430).

(2)

"لامع الدراري"(2/ 103).

(3)

"فتح الباري"(7/ 430).

(4)

"فتح الباري"(7/ 429).

[*] تعليق الشاملة: كذا في المطبوع، تكرر رقم هذا الباب والذي بعده.

ص: 604

وقال القسطلاني

(1)

: غزوة أنمار وقد يقال: غزوة بني أنمار وهي قبيلة، ولم يزد القسطلاني في شرح الترجمة على هذا، وقال بعد ذكر حديث الباب: هذا الحديث قد مرَّ في "باب صلاة التطوع على الدواب" وفي "باب ينزل للمكتوبة"، وليس فيه ذكر قصة أنمار فلا معنى لذكره ها هنا على ما لا يخفى، انتهى.

قلت: قد أخرج مالك في "موطئه" حديث جابر هذا: أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار، قال جابر: فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم إلى الظل الحديث، وبسطت في شرحه الكلام على مصداق هذه الغزوة في "الأوجز"

(2)

، وفيه: وفيما ألفته في "الوقائع والدهور" في السنة الثالثة من الهجرة: قال الطبري: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، ثم غزا نجدًا يريد غطفان وهي غزوة ذي أَمِر، فأقام بنجد الصفر كله، ثم رجع ولم يلق كيدًا، وفي "الخميس"

(3)

: سماها الحاكم غزوة أنمار، وهكذا في "المجمع"

(4)

، وقال صاحب "المحلى": غزوة بني أنمار، يعني: أنمار بن يعيض، وهم قبائل في العرب، وتلك الغزوة اشتهرت بذات الرقاع، وكانت قبل الخندق بعد النضير إلى آخر ما قال.

وقال الزرقاني

(5)

: غزوة بني أنمار بناحية نجد في سنة ثلاث من الهجرة، وهي غزوة غطفان، وتعرف بذي أَمِر، وسببها أن جمعًا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم، فلما سمعوا بذلك هربوا في رؤوس الجبال فرقًا ممن نصر بالرعب، فرجع ولم يلق حربًا، وفي "البداية والنهاية"

(6)

: في السنة الثالثة في أولها

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 203).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 150).

(3)

"تاريخ الخميس"(1/ 414).

(4)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 280).

(5)

"شرح الزرقاني"(4/ 267).

(6)

"البداية والنهاية"(4/ 5).

ص: 605

كانت غزوة نجد، ويقال لها: غزوة ذي أَمِر، فذكر القصة، وفي "طبقات ابن سعد": غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم غطفان إلى نجد، وهي غزوة ذي أَمِر في شهر ربيع الأول على رأس خمس وعشرين شهرًا من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة، انتهى.

(34 -‌

‌ باب حديث الإفك)

قد تقدم وجه مناسبة إيراده ها هنا من أن قصة الإفك كانت في غزوة المريسيع، قوله:(والإفك) بكسر الهمزة وفتحها مع سكون الفاء فيهما (بمنزلة النجس) بكسر النون وسكون الجيم (والنجس) بفتحها، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: أشار بهما إلى أنهما لغتان: الأولى: الإفك بكسر الهمزة وسكون الفاء كالنجس بكسر النون وسكون الجيم، والثانية: الأَفَك بفتح الهمزة والفاء معًا كالنجس بفتحتين، والأولى هي اللغة المشهورة، وقوله:"بمنزلة النجس" أي: في الضبط وكونهما لغتين، انتهى وهذا هو الصواب، وما قال القسطلاني في ضبط الإفك بسكون الفاء فيهما فيه نظر كما لا يخفى.

قوله: (يقال: إفكهم وأفكهم) قال الحافظ

(3)

: أي: في قوله تعالى: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28] فقرئ في المشهور بكسر الهمزة وسكون الفاء وبضم الكاف، وأما بالفتحات فقرئ بالشاذ، وهو عن عكرمة وغيره بثلاث فتحات فعلًا ماضيًا، أي: صرفهم، ثم ذكر المصنف حديث الإفك بطوله من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب، وقد تقدم بطوله في الشهادات من طريق فليح عن ابن شهاب، وسيأتي في التفسير أيضًا، وذكر المصنف بعد سياقه قصة الإفك أحاديث تتعلق بها، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 203).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 170).

(3)

"فتح الباري"(7/ 435).

ص: 606

وفي "الفيض"

(1)

: (فائدة): والحكمة الإلهية في إجراء تلك القصة في بيت النبوَّة بيان صبر النبي صلى الله عليه وسلم، وثباته على أحكام الشرع وعدم مجاوزته عن الحدود، فإن سعدًا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يرى على امرأته رجلًا، ولم يجد عليه بيِّنة: كيف يفعل؟ قال له: إنه يأتي ببينة أو يُحدُّ حدّ القذف، فقال له سعد: ولكن والله أضربه بالسيف غير مصفح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى غيرة سعد، وأنا أغير منه، والله أغير مني، ثم نزل اللعان، فكشف الله سبحانه أنه لم يقله لسعد فقط، بل لما ابتلي به ترقب الوحي بنفسه أيضًا، ولم يعجل في أمره ولا احتال لدرئه، ثم إني أجد أنه ما من نبي إلا وقد ابتلي من جهة النساء أيضًا، إلى آخر ما ذكر.

قوله: (ما كشفت من كنف أنثى قط) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: يعني: في حرام، انتهى.

قلت: وهكذا أفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري

(3)

إذ قال: أي: في الحرام لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وبسط في "هامشه" الكلام عليه.

قال الكرماني

(4)

: وهو كناية عن عدم الجماع، ويروى أنه كان حصورًا، وأن معه مثل الهدبة، انتهى.

ويشكل على ذلك ما في أبي داود وفي قصة امرأة صفوان بن معطل هذا من حديث أبي سعيد الخدري: أنها شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجها يفطرها إذا صامت، وأجاب عنه صفوان بأني رجل شاب لا أصبر، قال البزار: هذا الحديث منكر، ولعل الأعمش أخذه من غير ثقة فدلسه، فصار ظاهر سنده الصحة، وليس للحديث عندي، أصل، وردّه الحافظ، وذكر للحديث متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلًا، ثم قال: والجمع

(1)

"فيض الباري"(5/ 74).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 235).

(3)

"الكوكب الدري"(4/ 225).

(4)

"شرح الكرماني"(16/ 61).

ص: 607

بينهما على ما ذكره القرطبي: أن مراده بقوله: "ما كشفت" أي: بزنا.

قال الحافظ

(1)

: وفيه نظر، لأن في رواية سعيد بن هلال عن هشام في قصة الإفك قال: والله ما أصبت امرأة قط حلالًا ولا حرامًا، فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، انتهى.

قوله: (حدثني مسروق قال: حدثتني أم رومان. . .) إلخ، قال القسطلاني

(2)

: اعترض الخطيب، وتبعه جماعة على هذا الحديث بأن مسروقًا لم يسمع من أم رومان؛ لأنها توفيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وسن مسروق إذ ذاك كان ست سنين، فالظاهر أنه مرسل، وأجاب الحافظ في "المقدمة": بأن الواقعة في البخاري هو الصواب؛ لأن راوي وفاة أم رومان في سنة ست علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف كما نبّه عليه البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير"، وحديث مسروق أصح إسنادًا، وقد جزم إبراهيم الحربي الحافظ بأن مسروقًا إنما سمع من أم رومان في خلافة عمر، وقال أبو نعيم الأصبهاني: عاشت أم رومان بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرًا، وقال أيضًا في موضع آخر

(3)

: قيل: إن أم رومان توفيت في زمنه صلى الله عليه وسلم أربع أو خمس أو ست، ومسروق لم يدركها، لأنه لم يقدم من اليمن إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر، وهذا ما ذكره الواقدي، وما في الصحيح أصح، وقد جزم إبراهيم الحربي بأن مسروقًا سمع من أم رومان وله خمس عشرة سنة، فيكون سماعه في خلافة عمر؛ لأن مولد مسروق كان في سنة الهجرة، انتهى.

(35 -‌

‌ باب غزوة الحديبية. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: في رواية أبي ذر عن الكشميهني: "عمرة" بدل غزوة،

(1)

"فتح الباري"(8/ 462).

(2)

"إرشاد الساري"(10/ 523).

(3)

"إرشاد الساري"(9/ 216، 217).

(4)

"فتح الباري"(7/ 439).

ص: 608

والحديبية بالتثقيل والتخفيف لغتان، وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف، وقال أبو عبيد البكري

(1)

: أهل العراق يثقلون وأهل الحجاز يخففون، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: في "القاموس": الحديبية: بئر قرب مكة حرسها الله تعالى، انتهى.

قوله: (وقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ. . .} [الفتح: 18]) إلخ، يشير إلى أنها نزلت في قصة الحديبية، وكان توجهه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست، فخرج قاصدًا إلى العمرة، فصدّه المشركون عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل، وجاء عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه خرج في رمضان واعتمر في شوال، وشذّ بذلك، ومضى في الحج قول عائشة:"ما اعتمر إلا في ذي القعدة"، قال الحافظ: ذكر المصنف فيه ثلاثين حديثًا، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قوله: (ألفًا وثلاث مائة. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: ثم تلاحق بهم آخرون، فصاروا أربعمائة، ثم آخرون فصاروا خمسة مائة، انتهى.

وفي هامشه: ذكر الحافظ في "الفتح" الروايات المختلفة في عددهم، ففي رواية أربع عشرة مائة، وفي رواية ألفًا وأربعمائة أو أكثر، وفي رواية خمس عشر مائة، وفي أخرى ألفًا وثلاث مائة، ثم قال

(5)

: والجمع بين هذا اختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألفًا وخمس مائة جبر الكسر، ومن قال: ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده ما في رواية

(1)

"معجم ما استعجم"(2/ 384).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 220).

(3)

"فتح الباري"(7/ 440).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 341، 342).

(5)

"فتح الباري"(7/ 440).

ص: 609

البراء: ألفًا وأربعمائة أو أكثر، واعتمد على هذا الجمع النووي، وأما البيهقي فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية من قال: ألف وأربعمائة أصح، ووقع عند ابن سعد عن معقل بن يسار زهاء ألف وأربعمائة، وهو ظاهر في عدم التحديد، وأما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألفًا وثلثمائة فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم ذكر التوجيه الذي ذكره الشيخ في "اللامع" إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع".

(فإن يأتونا كان الله قد قطع عينًا من المشركين) كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: أي: جماعة من المشركين، فإن الكفار لما رجعوا إلى أهليهم لم يبق مع أهل مكة منهم أحد، فتقل جماعتهم، ويمكن أن يكون المعنى أنهم إذا رجعوا إليهم لم تحتج إلى بعث جاسوس إلى مكة ليعلم لنا علم من اجتمع فيها من الكفار، إذ لا يبقى هناك غير قريش فلا يحتاج إلى بعث جاسوس، لحصول العلم بأنه ليس فيها أحد ممن سواهم، غير أن أبا بكر لم يوافق هذا الرأي لما فيه من رفض العمرة، وقد خرجوا لها، واشتهر فيما بينهم أنه خرج لها، فلو اشتغل بالقتال لكان فيه نوع تعزير، انتهى.

وفي هامشه: قوله: "أي: جماعة" اختلف الشرَّاح في شرح هذا اللفظ على معان عديدة تأتي قريبًا بعضها أبعد من بعض، وهذا الذي اختاره الشيخ في معناه: أي جماعة هو الأوجه، بل هو المتيقن عند هذا العبد الضعيف إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" أشد البسط.

قوله: (عند رجل من الأنصار) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: وكان في ناحية من العسكر هناك وطلب منه عمر فرسه لقتال، إذ كانوا يظنون أن القتال كائن لا محالة، ولا ينافيه ما في الحديث الآتي:"أن عمر أرسل ابنه لينظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم"، وذلك لأنه يمكن أن يكون

(1)

"لامع الدراري"(8/ 346، 347).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 347).

ص: 610

أمر بهما، فقال له: اذهب وائتني بخبر القوم وبفرسه، فذكر كل من الرواة أمرًا ولم يذكرهما، انتهى.

وفي هامشه: وإلى هذا التوجيه مال الحافظ

(1)

إذ قال: في الحديث الآتي قوله: "قد أحدقوا. . ." إلخ، وهذا السبب الذي ها هنا في أن ابن عمر بايع قبل أبيه غير السبب الذي قبله، ويمكن الجمع بينهما بأنه بعثه يحضر له الفرس، ورأى الناس مجتمعين فقال له: انظر ما شأنه؟ فبدأ بكشف حاله فوجدهم يبايعون، فبايع وتوجّه إلى الفرس، فأحضرها وأعاد حينئذ الجواب على أبيه، انتهى مختصرًا، وتبعه القسطلاني

(2)

في ذلك ولم يزد شيئًا.

وقال العيني

(3)

: فإن قلت: السبب الذي ها هنا غير السبب الذي قبله؟ قلت: هذا السؤال فيه تعسف فلا يرد أصلًا، وذلك أن ابن عمر تكررت منه المبايعة، وتوحدت في الحديث السابق، وقد تكلف الشارحون بما ليس بطائل.

وقال الكرماني

(4)

: فإن قلت: المستفاد مما تقدم في آخر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه القصة كانت عند قدوم عمر وعبد الله المدينة، ومن ها هنا أنه في الحديبية؟ قلت: هذه غيرها، وهذه البيعة المكررة وقعت فيهما، وذلك التحديث كان في الهجرة، وهذا في الإسلام، وبهذا قال ثمه إذا قيل: إنه هاجر قبل أبيه يغضب، وها هنا قال: يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع" وفيه: وقد عرفت مما سبق أن الروايات في ذلك ثلاثة: الأولى ما تقدم في الهجرة، والاثنتان في هذا الباب من إرساله ليأتي الفرس ومن إرساله ليرى الناس محدقين.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: قوله: (فهي التي يتحدث الناس. . .)

(1)

"فتح الباري"(7/ 456).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 243).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 203).

(4)

"شرح الكرماني"(16/ 81).

(5)

"لامع الدراري"(8/ 349).

ص: 611

إلخ، ووجه ذلك أن المتبادر من البيعة كانت هي البيعة للإسلام، فمن سمع - ممن لم يعلم بإسلام عمر أنه أسلم بمكة - لفظ

(1)

البيعة أن ابن عمر بايع قبل أبيه حملها على الإسلام، وأما من كان يعرف القضية وإسلام عمر وابنه فقد عرف ما كان واقعًا، انتهى.

(36 -‌

‌ باب قصة عكل وعرينة)

قال العيني

(2)

: هما قبيلتان، وقد مرَّ تفسيرهما في "كتاب الطهارة" في "باب أبوال الإبل" قال الحافظ

(3)

: ذكر ابن إسحاق انها كانت بعد غزوة ذي قرد، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: "كتاب الطهارة": روي أبو عوانة والطبري عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، ولا يخالف هذا ما عند المصنف في الجهاد، وفي الديات: أن رهطًا من عكل ثمانية لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وزعم ابن التِّين تبعًا للداودي أن عرينة هم عكل، وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان عكل من عدنان وعرينة من قحطان، وعكل قبيلة من تيم الرباب وعرينة حي من قزاعة، وهي من بجيلة، والمراد ها هنا الثاني، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست، وذكرها المصنف بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما.

وقوله: (فبعث في آثارهم) وفي حديث سلمة بن الأكوع: "خيلًا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري" وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون، وهو بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، ولمسلم عن أنس:"إنهم شباب من الأنصار، قريب من عشرين رجلًا" وفي "مغازي الواقدي":

(1)

مفعول لقوله: "من سمع".

(2)

"عمدة القاري"(12/ 205).

(3)

"فتح الباري"(7/ 458).

(4)

"فتح الباري"(1/ 337 - 340).

ص: 612

أن السرية كانت عشرين رجلًا، ولم يقل من الأنصار، بل سمى منهم جماعة من المهاجرين إلى آخر ما ذكره.

قوله: (وقال شعبة وأبان وحماد. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: وقع من قوله: "وقال شعبة" إلى آخر الباب عند أبي ذر بين غزوة ذي قرد وبين غزوة خيبر، وعليه جرى الإسماعيلي، ووقع عند الباقين تاليًا لحديث العرنيين الذي قبله وهو الراجح، ولعل الفصل وقع من تغيير بعض الرواة، ويحتمل أن يكون البخاري تعمد ذلك إشارة منه إلى أن قصة العرنيين متحدة مع غزوة ذي قرد، كما يشير إليه كلام بعض أهل المغازي، وإن كان الراجح خلافه، والله أعلم.

(37 -‌

‌ باب غزوة ذات القرد)

بفتح القاف والراء، وحكي الضم فيهما، وحكي ضم أوله وفتح ثانيه، قال الحازمي: الأول ضبط أصحاب الحديث، والضم عن أهل اللغة، وقال البلاذري: الصواب الأول، وهؤلاء على نحو بريد مما يلي بلاد غطفان، وقيل: على مسافة يوم.

قوله: (قبل خيبر بثلاث) كذا جزم به، ومستنده في ذلك حديث إياس ابن سلمة بن الأكوع عن أبيه فإنه قال في آخر الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم من طريقه:"قال: فرجعنا، أي: من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر"، وأما ابن سعد فقال: كانت غزوة ذي قرد في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية، وقيل: في جمادى الأولى، وعن ابن إسحاق: في شعبان منها، فإنه قال: كانت بنو لحيان في شعبان سنة ست، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يقم بها إلا ليالي حتى أغار عيينة بن حصن على لقاحه، قال القرطبي شارح مسلم في الكلام

(1)

"فتح الباري"(7/ 469، 470).

ص: 613

على حديث سلمة بن الأكوع: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، فيكون ما وقع في حديث سلمة من وهم بعض الرواة، ثم حكى الحافظ عن القرطبي الجمع بين هذين القولين المختلفين، لكن لم يرض به وقال: فعلى هذا ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصحّ مما ذكره أهل السير، ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح وقعت مرتين: الأولى: التي ذكرها ابن إسحاق، وهي قبل الحديبية، والثانية: بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما في سياق سلمة عند مسلم، ويؤيده أن الحاكم ذكر في "الإكليل": أن الخروج إلى ذي قرد تكرر، ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أُحد، وفي الثانية خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها، انتهى.

فإذا ثبت هذا قوي هذا الجمع الذي ذكرت، والله تعالى أعلم، انتهى

(1)

.

(38 -‌

‌ باب غزوة خيبر)

قال الحافظ

(2)

: بمعجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، ذكر أبو عبيد البكري: أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها، قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر، قال ابن إسحاق: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، بقوله:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20]، يعني: خيبر، فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم، وحكى ابن التِّين عن ابن الحصار: أنها كانت في

(1)

انظر: "فتح الباري"(7/ 460، 461).

(2)

"فتح الباري"(7/ 464، 465).

ص: 614

آخر سنة ست، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم، وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر، وذكر ابن سعد أنها كانت في جمادى الأولى، وقيل: في ربيع الأول، وأغرب من ذلك ما أخرجه ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثين حديثًا، انتهى مختصرًا من "الفتح".

(فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

وكان هذا التردد ممن لم يحضر النكاح والوليمة، وأما من حضرهما أو أحدهما فقد عرف الأمر، ويمكن أن يكون هذا التردد قبل الوليمة والنكاح، ففي العبارة تقديم وتأخير، انتهى.

قوله: (ومنهم حكيم إذا لقي الخيل - أو قال: العدو - وقال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

في كلامه هذا منقبة ظاهرة لحكيم حيث يقبل على العدو قبل أصحابه، ويبادرهم إليه ثم يحثهم على المقاتلة، انتهى.

ذكر في هامشه كلام الشرَّاح في شرحه، وفيه أيضًا: قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن المراد بالخيل أيضًا خيل العدو، والمعنى أنه يهدد خيل المشركين ولا يخاف منهم مع كونه منفردًا، وهذا من كمال شجاعته، انتهى.

قوله: (بلى والذي نفسي بيده) كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: كلمة بلى ها هنا بمعنى لا، ولعله استعمل ها هنا استعمال أصحاب الهند كلمة "ها" بمد الصوت وتغير اللهجة، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(8/ 353، 354).

(2)

"لامع الدراري"(8/ 356).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 356، 357).

ص: 615

قلت: قد أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في توجيهه، وحمل الشرَّاح على التصحيف، وفي نسخة "الفتح" و"العيني" بدله "بل"، قال الحافظ

(1)

: وفي رواية الكشميهني: "بلى" وهو تصحيف، انتهى.

ولا يبعد عندي أن يقال: إن لفظ: "بلى" على معناه الأصلي، وهو تقرير منه صلى الله عليه وسلم على شهادته، فإن المعصية لا تنافي الشهادة فإنه صلى الله عليه وسلم قرر أولًا شهادته، ثم بيَّن عقوبة معصية أيضًا، قال ابن عابدين

(2)

: من غرق في قطع الطريق فهو شهيد، وعليه إثم معصيته، وكل من مات بسبب معصية فليس بشهيد، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته، وعليه إثم معصيته، وكذلك أو قاتل على فرس مغصوب، أو كان قوم في معصية، فوقع عليهم البيت، فلهم الشهادة وعليهم إثم المعصية، انتهى.

(39 -‌

‌ باب استعمال النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر)

قال الحافظ

(3)

وغيره: أي: بعد فتحها لتنمية الثمار، وحديث الباب مر في البيوع في "باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه" انتهى.

(40 -‌

‌ باب معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر)

ذكر فيه حديث ابن عمر مختصرًا، وقد تقدم في المزارعة.

(41 -‌

‌ باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

أي: جعل فيها السم، والسم مثلث السين، قوله:"رواه عروة عن عائشة" لعله يشير إلى الحديث الذي ذكره في الوفاة النبوية، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(7/ 489).

(2)

"رد المحتار"(3/ 166).

(3)

"فتح الباري"(7/ 496)، و"عمدة القاري"(12/ 242).

(4)

"فتح الباري"(7/ 497).

ص: 616

(42 -‌

‌ باب غزوة زيد بن حارثة)

مولى النبي صلى الله عليه وسلم ووالد أسامة بن زيد، والغرض من قوله:(ذكر فيه حديث ابن عمر في بعث أسامة. . .) إلخ، قوله: فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

في شرح الحديث: قوله: (أمَّر أسامة على قوم) من كبار المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وغيرهم رضي الله عنهم (فطعنوا في إمارته) أي: بعضهم، وكان أشدهم في ذلك عياش بن أبي ربيعة فقال: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين، فكثرت المقالة في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك فردَّه على من تكلم، وأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب غضبًا شديدًا فخطب، وقال:"إن تطعنوا" إلى آخر الحديث، وقد بعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في عدة سرايا، قال سلمة بن الأكوع فيما رواه أبو مسلم الكجي: غزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا، الحديث، ثم ذكرها القسطلاني، وكذا الحافظ في "الفتح"

(3)

قال: والسابعة: إلى ناس من بين فزارة، وكان خرج قبلها في تجارة فخرج عليه ناس من بني فزارة، فأخذوا ما معه وضربوه، فجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأوقع بهم، وقتل أم قِرْفة بكسر القاف وسكون الراء بعدها فاء، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر زوج مالك بن حذيفة بن بدر عم عيينة بن حصن وكانت معظمة فيهم، فيقال: ربطها في ذنب فرسين وأجراهما فتقطعت، وأسر بنتها وكانت جميلة، ولعل هذه السرية الأخيرة مراد المصنف، وقد ذكر مسلم طرفًا منها من حديث سلمة بن الأكوع، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: قوله: (باب غزوة

(1)

"فتح الباري"(7/ 498).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 290، 291).

(3)

"فتح الباري"(7/ 498، 499).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 357).

ص: 617

زيد بن حارثة. . .) إلخ، وهذه الغزوة غير الغزوة التي اشتهرت لغزوة مؤتة لتصريحه بها فيما بعد باسم على حدة، انتهى وستأتي غزوة مؤتة قريبًا.

(43 -‌

‌ باب عمرة القضاء)

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، وللمستملي وحده:"غزوة القضاء"، والأول أولى، ووجهوا كونها غزوة بأن موسى بن عقبة ذكر في المغازي عن ابن شهاب: أنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدًا بالسلاح والمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر فبلغهم ذلك ففزعوا، فلقيه مكرز فأخبره أنه باق على شرطه وأن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطًا فوثق بذلك، وأخَّر النبي صلى الله عليه وسلم السلاح مع طائفة من أصحابه خارج الحرم حتى رجع، ولا يلزم من إطلاق الغزوة وقوع المقاتلة، وقال ابن الأثير: أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي لكونها كانت مسببة عن غزوة الحديبية.

واختلف في سبب تسميتها عمرة القضاء؟ قال السهيلي: لأنه قاضى فيها قريشًا، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صدّ عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، كما تقدم في "كتاب الحج"، وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدت عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها لا؛ لأنها كملت إلى آخر ما في "الفتح"، وفيه: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح. وقال ابن إسحاق خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمرًا عمرة القضاء، وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب، انتهى من "الفتح".

قلت: وبسط الكلام على قصة عمرة القضاء، وما يتعلق بها من المباحث الحديثية والفقهية، وكذا على بقية عمره صلى الله تعالى عليه

(1)

"فتح الباري"(7/ 500).

ص: 618

وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا في جزء مفرد سميته "جزء عمرات النبي صلى الله عليه وسلم" وهو ملحق في آخر "جزء حجة الوداع"

(1)

، وهو أيضًا مما منّ الله تعالى علي بتأليفه، فارجع إليه لو شئت التفصيل.

(44 -‌

‌ باب غزوة مؤتة من أرض الشام)

بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، ومنهم من همزها، وبه جزم ثعلب والجوهري وابن فارس، وحكى صاحب "الواعي" الوجهين، وأما الموتة التي وردت الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز.

قوله: (من أرض الشام) قال ابن إسحاق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره: هي على مرحلتين من بيت المقدس، ويقال: إن السبب فيها أن شرحبيل بن عمرو الغسَّاني - وهو من أمراء قيصر على الشام - قتل رسولًا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بصرى، واسم الرسول الحارث بن عمير، فجهز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عسكرًا في ثلاثة آلاف، وفي "مغازي أبي الأسود": عن عروة: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان"، وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل المغازي، لا يختلفون في ذلك، إلا ما ذكر خليفة في "تاريخه" أنها كانت سنة سبع، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(45 -‌

‌ باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات)

بضم الحاء والراء المهملتين وفتح القاف وبعد الألف فوقية، نسبة إلى الحرقة، واسمه جهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة، وسمي

(1)

طبع هذا الكتاب بتحقيقي وتعليقي باسم: "جزء حجة الوداع وعمرات النبي صلى الله عليه وسلم" في دبي.

(2)

"فتح الباري"(7/ 510، 511).

ص: 619

الحرقة؛ لأنه حرّق قومًا بالقتل فبالغ في ذلك، والجمع فيه باعتبار بطون تلك القبيلة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

قال العيني

(2)

: قوله: "الحرقات" بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف، وهي قبيلة من جهينة، والظاهر أنه جمع حرقة، انتهى.

وكذا في "الفتح"

(3)

: "الحرقات" بضم المهملة وفتح الراء.

قوله: (بعثنا رسول صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة) قال الحافظ

(4)

: ليس في هذا ما يدل على أنه كان أمير الجيش كما هو ظاهر الترجمة، وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة بتحتانية ساكنة وفاء مفتوحة، وهي وراء بطن نخل، وذلك في رمضان سنة سبع، وقالوا: إن أسامة قتل الرجل في هذه السرية، فإن ثبت أن أسامة كان أمير الجيش فالذي صنعه البخاري هو الصواب؛ لأنه ما أمّر إلا بعد قتل أبيه في غزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجح ما قال أهل المغازي، انتهى.

قوله: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) كتب الشيخ رحمه الله في "اللامع"

(5)

: وكثيرًا ما ينظر إلى أمور هي مقاصد بالذات، ولا ينظر إلى ما لا يلزم فيها من المفاسد، فكأن أسامة تمنى إذ ذاك براءته من هذه الجناية مع عظم أمرها وهول ما يعقبها كيف حصلت، ولم ينظر إلى ما لزم فيه من التلبث بالكفر مدة كذا، انتهى.

وذكر في هامشه كلام الشرَّاح، وفيه أيضًا: ونظير ذلك التمني الدعاء بالشهادة فإنه يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم كما تقدم تقريره مفصلًا في "كتاب الجهاد"، فإنهم قالوا: إن القصد الأصلي فيه حصول

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 305).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 257).

(3)

"فتح الباري"(7/ 518).

(4)

"فتح الباري"(7/ 518).

(5)

"لامع الدراري"(8/ 360).

ص: 620

الدرجة العليا لحصول الشهادة، وليس طلب نصر الكافر هناك مقصودًا، انتهى.

(46 -‌

‌ باب غزوة الفتح)

وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، قال الحافظ

(1)

: أي: فتح مكة شرفها الله تعالى، وسقط لفظ:"باب" من نسخة الصغاني، وكان سبب ذلك أن قريشًا نقضوا العهد الذي وقع في الحديبية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة: أنه كان في الشرط: من أحبّ أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل، فدخلت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر في بني الديل حتى بيت خزاعة على ماء لهم يقال له: الوتير، فأصاب منهم رجلًا يقال له: منبه، واستيقظت لهم خزاعة، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال، وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلًا في خفية، فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فأنشد أشعارًا فيه بيان نقض قريش العهد، ذكرها الحافظ، قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" فكان ما هاج فتح مكة، انتهى.

قوله: (وما بعث حاطب. . .) إلخ، قال العيني

(2)

: هذا عطف على قوله: "غزوة الفتح" والتقدير: وفي بيان ما بعث به حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. . . إلخ، والمبعوث منه الكتاب، وصورته: أما بعد يا معشر قريش،

(1)

"فتح الباري"(7/ 519).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 260).

ص: 621

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده نصره الله عليكم، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بذلك، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وعند ابن أبي شيبة: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "جهزيني ولا تُعلمي بذلك أحدًا"، فدخل عليها أبو بكر فأنكر بعض شأنها فقال: ما هذا؟ فقالت له: فقال: والله ما انقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنهم أول من غدر، ثم أمر بالطرق فحبست، فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر، انتهى.

قلت: ومقصود المصنف بهذه الترجمة بيان التهيؤ له، فلا يتوهم التكرار بالترجمة الآتية.

(47 -‌

‌ باب غزوة الفتح في رمضان)

أي: بيان أن غزوة يوم فتح مكة كانت في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، وروى ابن إسحاق عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة أبا رهم الغفاري، انتهى من "العيني"

(2)

.

وفي حديث الباب: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ومعه عشرة آلاف" وعند ابن إسحاق في اثني عشر ألفًا من المهاجرين والأنصار وأسلم وغفار ومزينة وجهينة وسليم، وجمع بين الروايتين بأن عشرة آلاف من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان، قاله القسطلاني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري

(1)

"فتح الباري"(7/ 520).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 262).

(3)

"إرشاد الساري"(9/ 312).

(4)

"فتح الباري"(8/ 4).

ص: 622

بهذا الإسناد وقال: "صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان"، وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال:"خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان"، ويعطي هذا أنه أقام في الطريق اثني عشر يومًا، وأما ما قال الواقدي: إنه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخرى: منها عند مسلم "لست عشرة"، ولأحمد:"لثماني عشرة"، وفي أخرى:"لثنتي عشرة"، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، والذي في المغازي: دخل لتسع عشرة مضت، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة أو سبع عشرة، وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير، انتهى.

وفي "تاريخ الخميس"

(1)

: وفي عشرين من رمضان هذه السنة يوم الجمعة، وقيل: في سادس عشر منه وقعت غزوة فتح مكة، انتهى.

(48 -‌

‌ باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية. . .) إلخ

أي: بيان المكان الذي ركزت في راية النبي صلى الله عليه وسلم بأمره، قاله الحافظ

(2)

.

وقال العيني

(3)

: بعد ذكر الحديث: ومطابقته بالترجمة في قوله: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون" وهو بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة، انتهى.

(1)

"تاريخ الخميس"(2/ 77).

(2)

"فتح الباري"(8/ 6).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 266 - 268).

ص: 623

(49 -‌

‌‌

‌ باب

دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة)

قال الحافظ

(1)

: أي: حين فتحها، وقد روى الحاكم في "الإكليل" من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعًا"، انتهى.

(50 -‌

‌ باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح)

أي: المكان الذي نزل فيه، وقد تقدم قريبًا في الكلام على الحديث الثالث أنه نزل بالمحصب، وهنا أنه في بيت أم هاني، وكذا في "الإكليل": وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلًا عليها يوم الفتح، ولا مغايرة بينهما؛ لأنه لم يقم في بيت أم هاني، وإنما نزل به حتى اغتسل وصلى، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب، وهو المكان الذي حصرت فيه قريش المسلمين، وروى الواقدي من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر وجاه شعب أبي طالب حيث حصرونا"، انتهى

(2)

.

(51 - باب)

(بغير ترجمة)، ذكر فيه الأحاديث المتفرقة التي فيها ذكر فتح مكة، قال الحافظ

(3)

: كذا في الأصول بغير ترجمة، وكأنه بيض له فلم يتفق له وقوع ما يناسبه، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(4)

: هو كالفصل لما قبله، انتهى.

وقد ذكر فيه أربعة أحاديث: الأول: حديث عائشة أورده مختصرًا، ووجه دخوله ها هنا ما سيأتي في التفسير بلفظ "ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول فيها" فذكر

(1)

"فتح الباري"(8/ 18).

(2)

"فتح الباري"(8/ 19).

(3)

"فتح الباري"(8/ 20).

(4)

"عمدة القاري"(12/ 275).

ص: 624

الحديث، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(52 -‌

‌ باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح)

بفتح ميم مقام الأولى في الفرع، وفي غيره بضمها، أي: الإقامة، والمراد وصفه بأنه أقام، انتهى

(2)

.

قلت: والأولى بضم الميم، وهو الذي ذكره العيني، واقتصر عليه، فإن المقصود ها هنا بيان الإقامة، أي: مدتها، وأما المقام بفتح الميم فهو ظرف يرادف المنزل، وقد تقدم "باب منزله صلى الله عليه وسلم" وإلا لزم التكرار.

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث أنس: "أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرًا"، وحديث ابن عباس وفيه:"أقام بمكة تسعة عشر يومًا"، وفي الرواية الثانية عنه:"أقمنا في سفر"، ولم يذكر المكان، فظاهر هذين الحديثين التعارض، والذي أعتقده أن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع، فإنها هي السفرة التي أقام فيها بمكة عشرًا، وأما حديث ابن عباس فهو في الفتح، وقد قدمت ذلك بأدلته في "باب قصر الصلاة"، وأوردت هناك التصريح بأن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع، ولعل البخاري أدخل في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذًا للأذهان، ومدة إقامتهم في سفر الفتح حتى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يومًا، انتهى.

وفي هامش الهندية

(4)

: لعل البخاري أدخله في هذا الباب إشارة إلى أنه لا تعارض بين حديث أنس وحديث ابن عباس؛ لأن الإقامتين مختلفتان في سفرين، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(8/ 20).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 329).

(3)

"فتح الباري"(8/ 21).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(8/ 422).

ص: 625

(باب)

(بغير ترجمة)، كذا في الأصول بغير ترجمة، وسقط من رواية النسفي فصارت أحاديثه من جملة الباب الذي قبله، ومناسبتها له غير ظاهرة، ولعله كان قد بيض له ليكتب له ترجمة فلم يتفق، والمناسب لترجمته من شهد الفتح، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(54 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] إلخ

قال الحافظ

(2)

: وقع في رواية النسفي: "باب غزوة حنين، وقول الله عز وجل. . ." إلخ، وحنين - مهملة ونون مصغر - وادٍ إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات، قال أبو عبيد البكري

(3)

: سمي باسم حنين بن قابثة، قال أهل المغازي: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره، وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم.

قال عمر بن شبة في "كتاب مكة" بسنده عن عروة: أنه كتب إلى الوليد: أما بعد فإنك كتبت إليّ تسألني عن قصة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكة نصف شهر، ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفًا قد نزلوا حنينًا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك، ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل بن الحنظلية:

(1)

"فتح الباري"(8/ 22).

(2)

"فتح الباري"(8/ 27).

(3)

"معجم ما استعجم"(2/ 471).

ص: 626

أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله تعالى"، وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدلّ على أن هذا الرجل هو عبد الله بن حدرد الأسلمي، انتهى من "الفتح".

وقال القسطلاني

(1)

: وكان المسلمون اثني عشر ألفًا، وهوازن وثقيف أربعة آلاف، وقد روى يونس بن بكير في "زيادات المغازي" قال: قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة، وقال في فتوح الغيب هذا من حيث الظاهر ليس كلمة إعجاب لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية، انتهى.

(55 -‌

‌ باب غزوة أوطاس)

قال عياض

(2)

: هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين، انتهى.

وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين ويوضح ذلك ما ذكره ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرًا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس - كما يدلّ عليه حديث الباب -، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف، وقال أبو عبيد البكري

(3)

:

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 340).

(2)

"مشارق الأنوار"(1/ 81).

(3)

"معجم ما استعجم"(1/ 212).

ص: 627

أوطاس وادٍ في ديار هوازن، وهناك عسكروهم

(1)

وثقيف ثم التقوا بحنين، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(3)

: وفي شوال هذه السنة كانت سرية أبي عامر الأشعري إلى أوطاس، وهو عمّ أبي موسى الأشعري، وقال ابن إسحاق: ابن عمه، والأول أشهر، وأوطاس: وادٍ معروفٌ في ديار هوازن بين حنين والطائف، انتهى.

(56 -‌

‌ باب غزوة الطائف. . .) إلخ

هو بلد كبير مشهور، كثير الأعناب والنخيل، على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق، قيل: أصلها أن جبرئيل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائف فسمي الموضع بها، وكانت أولًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض "وج" بتشديد الجيم، سميت برجل وهو ابن عبد الجن من العمالقة، وهو أول من نزل بها، وسار النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد منصرفه من حنين، وحبس الغنائم بالجعرانة، وكان مالك بن عوف النضري قائد هوازن لما انهزم دخل الطائف، وكان له حصن يلية، وهي بكسر اللام وتخفيف التحتانية على أميال من الطائف، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى الطائف فأمر بهدمه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(5)

: قيل: إنه لما دعا إبراهيم عليه السلام لأهل مكة أن يرزقوا من الثمرات نقل الله تعالى بقعة الطائف من الشام، فوضعها هناك رزقًا للحرم، قال أصحاب السير: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا لعشر

(1)

في الأصل: "عسكروهم" فليفتش، قلت: في النسخة المحققة بين يدي: "عسكرواهم".

(2)

"فتح الباري"(8/ 42).

(3)

"تاريخ الخميس"(2/ 107).

(4)

"فتح الباري"(8/ 43، 44).

(5)

"تاريخ الخميس"(2/ 109، 110).

ص: 628

أو لأحد عشر من شوال وهو من أشهر السنة الثامنة من الهجرة خرج إلى الطائف يريد جمعًا من هوازن وثقيف قد هربوا من معركة حنين، وتحصنوا بحصن الطائف، وقدم خالد بن الوليد في ألف رجل على مقدمته طليعة، ومر في طريقه بقبر أبي رغال وهو أبو ثقيف فيما يقال، فاستخرج منه غصنًا من ذهب، وقد كان فل ثقيف لما قدموا الطائف دخلوا حصنهم، وهو حصن الطائف، درموه، وأدخلوا فيه من الزاد وغيره من جميع ما يصلحهم لسنة، ثم رتبوا عليه من المجانيق وأدخلوا فيه الرماة، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم وتهيئوا للقتال، انتهى.

قوله: (في شوال سنة ثمان. . .) إلخ، كذا ذكره في مغازيه، وهو قول جمهور أهل المغازي، وقيل: بل وصل إليها في أول ذي القعدة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (فلم ينل منهم شيئًا) قال الحافظ

(2)

: في مرسل ابن الزبير عند ابن أبي شيبة قال: "لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف قال أصحابه: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد ثقيفًا"، وقال الحافظ أيضًا: ذكر أنس في حديثه عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يومًا، وعند أهل السير اختلاف، قيل: عشرين يومًا، وقيل: بضع عشرة، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر، انتهى.

قوله: (أو كأنهم وجدوا. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: والفرق أن الأول بزيادة الفاء على أول كلام دون الثاني، وهذا الفرق غير يسير في مذهب أهل الحديث، فكان مما يجب التنبيه عليه وتعيين الفرق بحسب المعنى، كما وقع من الشرَّاح تعسف، فإن الفرق المعنوي لا يكون موجبًا للترديد وإعادة الكلام، كما هو مشاهد في كثير من التأويلات المختلفة في معنى الحديث، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(8/ 44).

(2)

"فتح الباري"(8/ 45).

(3)

"لامع الدراري"(8/ 369، 370).

ص: 629

وذكر في "هامشه" كلام الشرَّاح، فارجع إليه لو شئت.

(57 -‌

‌ باب السرية التي قبل نجد)

قال الحافظ

(1)

: "قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: في جهة نجد، هكذا ذكرها بعد غزوة الطائف، والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه لفتح مكة، فقال ابن سعد: كانت في شعبان سنة ثمان، وذكر غيره أنها كانت قبل مؤتة [ومؤتة]، كانت في جمادى كما تقدم من السنة، وقيل: كانت في رمضان، قالوا: وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا خمسة وعشرين، وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة، انتهى.

(فائدة) إلى ها هنا انتهت سلسلة تراجم الغزوات، فقد كانت التراجم السابقة من أول كتاب المغازي أكثرها في الغزوات إلا قلائل منها مثل:"باب غزوة زيد بن حارثة" و"باب بعثه صلى الله عليه وسلم أسامة إلى الحرقات"، و"باب غزوة مؤتة" فإنها سرايا لا الغزوات على اصطلاح الجمهور، وقد تقدم أن المصنف لم يفرق بين الغزوة والسرية من حيث الإطلاق، فأطلق إحداهما على الأخرى على خلاف اصطلاح الجماهير، ومن ها هنا جل التراجم الآتية من قبيل السرايا سوى غزوة تبوك آخر الغزوات، ولذا ذكرها المصنف أخيرًا في ختام المغازي.

أما تعريف السرية فهو ما قال الحافظ: "السرية" بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية: هي التي تخرج بالليل، و"السارية" التي تخرج بالنهار، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تخفي ذهابها، وهذا يقتضي أنها أخذت من السر، ولا يصح لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمس مائة، فما زاد على خمسمائة يقال له:"منسر" بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمان مائة سميت "جيشًا"، وما بينهما

(1)

"فتح الباري"(8/ 56).

ص: 630

يسمى "هبطة"، فإن زاد على أربعة آلاف يسمى "جحفلًا"، فإن زاد "فجيش جرار"، و"الخميس" الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى "بعثًا"، فالعشرة فما بعدها تسمى "حفيرة"، والأربعون "عصبة" وإلى ثلاثمائة "مقنب" بقاف ونون ثم موحدة، فإن زاد سمي "جمرة" بالجيم، و"الكتيبة" ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى.

قلت: وقد تقدم ما قال الزرقاني

(1)

: قد جرت عادة المحدثين وأهل السير واصطلاحاتهم غالبًا أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة "غزوة"، وما لم يحضره بل أرسل بعضًا من أصحابه إلى العدو "سرية" و"بعثًا"، انتهى.

(58 -‌

‌ باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة)

بفتح الجيم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة، أي: ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، ووهم الكرماني

(2)

فظنّ أنه من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف قبيلة من عبد قيس، وهذا البعث كان عقب فتح مكة في شوال قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي، وكانوا بأسفل مكة من ناحية يلملم، قال ابن سعد: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار داعيا إلى الإسلام لا مقاتلًا، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(59 -‌

‌ باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: كذا ترجم، وأشار بأصل الترجمة إلى ما رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمر بن الحكم

(1)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 220).

(2)

"شرح الكرماني"(16/ 165، 166).

(3)

"فتح الباري"(8/ 57).

(4)

"فتح الباري"(8/ 58، 59).

ص: 631

عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا - أو كنا ببعض الطريق - أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر، وكانت فيه دعابة" الحديث، وذكر ابن سعد هذه القصة بنحو هذا السياق، وذكر أن سببها أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم: أن ناسًا من الحبشة تراآهم أهل جده، فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ربيع الآخر في سنة تسع في ثلاثمائة، وانتهى إلى جزيرة في البحر فلما خاض البحر إليهم هربوا، فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهلهم فأمر عبد الله بن حذافة على من تعجل، زاد القسطلاني

(1)

: قال البرماوي: ولعل هذا عذر للبخاري حيث جمع بينهما مع أنه في الحديث لم يسم واحدًا منهما، وترجمة البخاري لعلها تفسير للمبهم الذي في الحديث، انتهى.

وذكر ابن إسحاق أن سبب هذه القصة أن وقاص بن مجزز كان قتل يوم ذي قرد، فأراد علقمة بن مجزز أن يأخذ بثأره فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية.

قلت: وهذا يخالف ما ذكره ابن سعد، إلا أن يجمع بأن يكون أمر بالأمرين، وأرخها ابن سعد في ربيع الآخر سنة تسع، فالله أعلم.

وأما قوله: (ويقال: إنها سرية الأنصاري) فأشار بذلك إلى احتمال تعدد القصة، وهو الذي يظهر لي لاختلاف سياقهما واسم أميرهما، والسبب في أمره بدخولهم النار، ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القرشي المهاجري بكونه أنصاريًا، وقد تقدم بيان نسب عبد الله بن حذافة في "كتاب العلم"، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم، أي: أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزي فقال: قوله: "من الأنصار" وهم من بعض الرواة وإنما هو سهمي.

(1)

"إرشاد الساري"(9/ 373).

ص: 632

قلت: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 59]، نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وسيأتي في تفسير سورة النساء، وقد رواه شعبة عن زبيد اليامي عن سعد بن عبيدة فقال:"رجلًا" ولم يقل "من الأنصار"، ولم يسمه، أخرجه المصنف في "كتاب خبر الواحد".

وأما علقمة بن مجزز فهو بضم أوله وجيم مفتوحة ومعجمتين الأولى مكسورة ثقيلة وحكي فتحها، والأول أصوب، وقال عياض

(1)

: وقع لأكثر الرواة بسكون المهملة وكسر الراء المهملة، وعن القابسي بجيم ومعجمتين وهو الصواب، وهو ولد القائف الذي يأتي ذكره في النكاح في حديث عائشة في قوله في زيد بن حارثة وابنه أسامة "أن بعض هذه الأقدام لمن بعض"، فعلقمة صحابي ابن صحابي، انتهى.

قلت: وسيأتي في التفسير عن ابن عباس أن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} نزلت في عبد الله بن حذافة إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وسيأتي هناك قصة هذه السرية على ما نقله ابن سعد، وسياقه يغاير سياق حديث علي حديث الباب، قال العلَّامة القسطلاني

(2)

: واختلاف السياقين يدل على التعدد إلى آخر ما قال.

(60 -‌

‌ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن)

كأنه أشار بالتقييد بقوله: (قبل حجة الوداع) إلى ما وقع في بعض أحاديث الباب أنه رجع من اليمن، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع، لكن القبلية نسبية، وقد قدمت في الزكاة في الكلام على حديث معاذ متى كان بعثه إلى اليمن؟ وروى أحمد عن معاذ: "لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج

(1)

"مشارق الأنوار"(1/ 496).

(2)

"إرشاد الساري"(10/ 169).

ص: 633

يوصيه ومعاذ راكب" الحديث، وفي رواية عنه: "لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك"، وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة، انتهى

(1)

.

وقال في "كتاب الزكاة"

(2)

: وكان بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف في أواخر المغازي، وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول، انتهى.

وقال الحافظ أيضًا

(3)

: (تنبيه): كان بعث أبي موسى إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك؛ لأنه شهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، انتهى من "الفتح".

(61 -‌

‌ باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن)

قال الحافظ

(4)

: قد ذكر في آخر الباب حديث جابر "أن عليًّا قدم من اليمن فلاقى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع"، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الحج، (قلت: وأحال في كتاب الحج على كتاب المغازي)، وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن علي قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله! أتبعثني إلى قوم أسنّ مني وأنا حديث السن لا أبصر

(1)

"فتح الباري"(8/ 61).

(2)

"فتح الباري"(3/ 358).

(3)

"فتح الباري"(8/ 62).

(4)

"فتح الباري"(8/ 65).

ص: 634

القضاء؟ قال: فوضع يده على صدره، وقال: اللَّهم ثبت لسانه واهد قلبه، وقال: يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر" فذكر الحديث.

ثم قال الحافظ

(1)

: وحديث البراء أول أحاديث الباب أورده البخاري مختصرًا، وقد أورده الإسماعيلي فزاد فيه: قال البراء: فكنت ممن عقب معه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي وصفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعًا، فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فلما قرئ الكتاب خر ساجدًا، ثم رفع رأسه وقال:"السلام على همدان"، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: قوله: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن) أي: بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة، "ثم بعث عليًا بعد ذلك"، انتهى.

وفي "تاريخ الخميس"

(3)

: في هذه السنة أرسل خالد بن الوليد قبل حجة الوداع في ربيع الأول سنة عشر، وفي "الإكليل": في ربيع الآخر، وفي "المنتقى": في ربيع الآخر أو جمادى الأولى إلى عبد المدان قبيلة بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا، كذا في "المواهب اللدنية" إلى آخر ما بسط في القصة، ثم ذكر: وفي رمضان هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى اليمن، وعقد له لواءً، وعممه بيده، وفي رواية: وأرخى طرفها من قدّامه نحو ذراع، ومن خلفه قيد شبر، فخرج علي في ثلاثمائة فارس، ففرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل حتى حمل عليهم علي وأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلًا فتفرقوا

(1)

"فتح الباري"(8/ 66).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 380).

(3)

"تاريخ الخميس"(2/ 144، 145).

ص: 635

وانهزموا، فكفّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم، ثم قفل فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر، قال كعب بن الأحبار: لما قدم علي اليمن لقيته - وكان كعب إذ ذاك باليمن - فقلت له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يخبرني عنها، وجعلت أتبسم فقال لي: ممن تبسم؟ قلت: مما يوافق ما عندنا في صفته إلى أن قال: وصدّقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، إلى آخر ما فيه.

(62 -‌

‌ باب غزوة ذي الخلصة)

بفتح الخاء المعجمة واللام بعدها مهملة، وحكى ابن دريد فتح أوله وإسكان ثانيه، وحكى ابن هشام ضمها، وقيل: بفتح أوله وضم ثانيه والأول أشهر، والخلصة نبات له حب أحمر كخرز العقيق، وذو الخلصة اسم للبيت الذي كان فيه الصنم، وقيل: اسم البيت الخلصة واسم الصنم ذو الخلصة، وحكى المبرد أن موضع ذي الخلصة صار مسجدًا جامعًا لبلدة يقال لها: العبلات من أرض خثعم، ووهم من قال: إنه كان في بلاد فارس

(1)

، انتهى.

وروى الحاكم في "الإكليل" من حديث البراء بن عازب قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل من بجيلة وبني قشير مع جرير بن عبد الله، فسأله عن بني خثعم فأخبرهم أنهم أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام، فاستعمله على عامة من كان معه، وندب معه ثلاثة مائة من الأنصار، وأمره أن يسير إلى خثعم فيدعوهم ثلاثة أيام، فإن أجابوا إلى الإسلام قبل منهم وهدم صنمهم ذا الخلصة، وإلا وضع فيهم السيف"

(2)

، انتهى.

قلت: ذكرها صاحب "مجمع البحار"

(3)

في وقائع السنة العاشرة، ولم يذكرها صاحب "الخميس" ها هنا، واختار هو في ذكر وقائع هذه السنة

(1)

"فتح الباري"(8/ 71).

(2)

"فتح الباري"(8/ 72).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 292).

ص: 636

ترتيب الإمام البخاري، فذكر أولًا بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، ثم بعث خالد بن الوليد، ثم بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن، ثم بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع، وسيأتي ذكر بعث جرير إلى ذي الكلاع في البخاري مع الكلام عليه.

(63 -‌

‌ باب غزوة ذات السلاسل. . .) إلخ

بمهملتين، والمشهور أنها بفتح الأولى على لفظ جمع السلسلة، وضبطه كذلك أبو عبيد البكري

(1)

، قيل: سمي المكان بذلك لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وضبطها ابن الأثير بالضم، وقال: هو بمعنى السلسال، أي: السهل

(2)

قيل: سميت ذات السلاسل؛ لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل، وذكر ابن سعد أنها وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام، قال: وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب "صحيح التاريخ"، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنهما كانت بعد غزوة مؤتة إلا ابن إسحاق، فقال: قبلها، قلت: وهو قضية ما ذكر عن ابن سعد وابن أبي خالد

(3)

.

قوله: (وهي غزوة لخم وجذام) وعند ابن إسحاق أنه ماء لبني جذام ولخم، أما لخم فبفتح اللام وسكون المعجمة: قبيلة كبيرة شهيرة ينسبون إلى لخم، واسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، وأما جذام فبضم الجيم بعدها معجمة خفيفة: قبيلة كبيرة شهيرة أيضًا ينسبون إلى عمرو بن عدي وهم إخوة لخم على المشهور، وقيل: هم من ولد أسد بن خزيمة.

وقوله: (بلاد بلِيّ) بفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب: قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وأما

(1)

"معجم ما استعجم"(3/ 744).

(2)

"فتح الباري"(7/ 26).

(3)

"فتح الباري"(8/ 74).

ص: 637

عذرة فبضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة: قبيلة كبيرة ينسبون إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم بضم اللام ابن الحاف ابن قضاعة، وأما بنوا القين فقبيلة كبيرة أيضًا ينسبون إلى القين بن حسر، ويقال: كان له عبد يسمى القين حضنه فنسب إليه.

ذكر ابن سعد أن جمعًا من قضاعة تجمّعوا وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواءً أبيض، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين، وأمره أن يلحق بعمرو وأن لا يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يؤم بهم فمنعه عمرو، وقال: إنما قدمت عليّ مددًا وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة فصلى بهم عمرو، وتقدم في التيمم: أنه احتلم في ليلة باردة فلم يغتسل وتيمم وصلى بهم، الحديث، وسار عمرو حتى وطئ بلاد بلي وعذرة، وكذا ذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة.

وذكر ابن إسحاق أن أم عمرو بن العاص كانت من بلي، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرًا يستنفر الناس إلى الإسلام ويستألفهم بذلك، وروى إسحاق بن راهويه والحاكم من حديث بريدة أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارًا، فأنكر ذلك عمر، فقال له أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه، فهذا السبب أصح إسنادًا من الذي ذكره ابن إسحاق، لكن لا يمتنع الجمع إلى آخر ما ذكر الحافظ في "الفتح"

(1)

.

وقال أيضًا

(2)

: وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية، ومنقبة لعمرو بن العاص لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن كان ذلك لا يقتضي أفضليته عليهم، لكن يقتضي أن له فضلًا في الجملة، وقد روينا في "فوائد

(1)

"فتح الباري"(8/ 74، 75).

(2)

"فتح الباري"(8/ 75).

ص: 638

أبي بكر بن أبي الهيثم" من حديث رافع الطائي، قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا واستعمل عليهم عمرو بن العاص وفيهم أبو بكر"، قال: وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام، إلى أن قال الحافظ بعد ذكر رواية: وفيه إشعار بأن بعثه كان عقب إسلامه، وكان إسلامه في أثناء سنة سبع من الهجرة، انتهى.

(64 -‌

‌ باب ذهاب جرير إلى اليمن)

ذكر الطبراني من طريق إبراهيم بن جرير عن أبيه قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أقاتلهم وأدعوهم أن يقولوا لا إله إلا الله"، فالذي يظهر أن هذا البعث غير بعثه إلى هدم ذي الخلصة، ويحتمل أن يكون بعثه إلى الجهتين على الترتيب، ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث جرير:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا جرير إنه لم يبق من طواغيت الجاهلية إلا بيت ذي الخلصة"، فإنه يشعر بتأخير هذه القصة جدًا، وسيأتي في حجة الوداع: أن جريرًا شهدها فكأن إرساله كان بعدها، فهدمها ثم توجه إلى اليمن، ولهذا لما رجع بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (كنت ياليمن) في رواية أبي إسحاق عن جرير عند ابن عساكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي عمرو وذي الكلاع يدعوهما إلى الإسلام فأسلما، قال: وقال لي ذو الكلاع، أدخل على أم شرحبيل يعني: زوجته، وعند الواقدي في الردة بأسانيد متعددة نحو هذا.

وذو الكلاع بفتح الكاف وتخفيف اللام، واسمه اسميفع بسكون المهملة وفتح الميم وسكون التحتانية وفتح الفاء وبعدها مهملة، ويقال: أيفع بن باكوراء، ويقال: ابن حوشب بن عمرو، وأما ذو عمرو فكان أحد ملوك اليمن وهو من حمير أيضًا، ولم أقف له على اسم غيره، ولا رأيت من أخباره أكثر مما ذكر في حديث الباب، وكانا عزما على التوجه إلى المدينة فلما بلغهما وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعا إلى اليمن، ثم هاجرا في زمن

ص: 639

عمر، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(65 -‌

‌ باب غزوة سيف البحر. . .) إلخ

هو بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره فاء، أي: ساحل البحر.

قوله: (وهم يتلقون عيرًا لقريش. . .) إلخ، هو صريح ما في الرواية الثانية في الباب حيث قال فيها:"نرصد عير قريش"، وقد ذكر ابن سعد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدًا، وأن ذلك كان في رجب سنة ثمان، وهذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش ويقصدون حيًّا من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم عن جابر قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى أرض جهينة" فذكر هذه القصة، لكن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان؛ لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية، نعم يحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدًا، بل فيه أنهم قاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد، فالله أعلم.

قوله: (وأَمَّر عليهم أبا عبيدة) في رواية أبي حمزة الخولاني في الأطعمة: فأمّر علينا قيس بن سعد بن عبادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة، وكأن أحد رواته ظن من صنيع قيس بن سعد في تلك الغزوة ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها أنه كان أمير السرية، وليس كذلك، انتهى

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(8/ 76).

(2)

انظر: "فتح الباري"(8/ 78).

ص: 640

قلت: وذكر الإمام مالك رحمه الله هذه القصة في "موطئه" في الأطعمة من حديث جابر المذكور في هذا الباب، وبسط الكلام في "الأوجز"

(1)

في تعيين تلك الغزوة وتاريخها، وفيه: ذكر هذه الغزوة صاحب "الخميس"

(2)

في سنة ثمان، فقال: وفي رجب هذه السنة كانت سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، وهي سرية الخبط، وكان فيها ثلثمائة من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطاب وقيس بن سعد بن عبادة، انتهى.

وذكرها ابن الجوزي في "التلقيح"

(3)

بعد عمرة القضاء قبل فتح مكة، وذكرها صاحب "المجمع"

(4)

في سنة ثمان، وإليه يظهر ميل البخاري، لكن مال الحافظ في موضع من "الفتح"

(5)

إلى أنها في السنة الثانية إذ قال: زعم الواقدي أن هذه القصة كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ إلى آخر ما تقدم، ثم إلى أن قال: ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك، أي: كونها في السنة الثانية بقول جابر في رواية مسلم: "إنهم خرجوا في غزوة بواط" فذكر فيها قصة الحوت نحو حديث الباب، وغزوة بواط كانت في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرًا لقريش، فبلغ بواطًا، وهي جبال الجهينة مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة برد، فلم يلق أحدًا فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة فيمن معه يرصدون العير المذكور، ويؤيد تقدم أمرها ما ذكر فيها من القلة والجهد، والواقع أنهم في سنة ثمان اتسع حالهم بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة يناسب ابتداء الأمر، فيترجح ما ذكرته، انتهى من "الفتح".

قلت: والأوجه عندي أن يقال: إنهم خرجوا ابتداء لعير قريش، ثم أفرد صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة ومن معه بعثًا إلى جهينة، فتجتمع الروايتان، وما أيَّد به الحافظ كلامه من زمان العسرة، يشكل عليه أن غزوة تبوك كانت بعد فتح

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 383 - 400).

(2)

"تاريخ الخميس"(2/ 75).

(3)

"تلقيح فهوم أهل الأثر"(ص 70).

(4)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 288).

(5)

"فتح الباري"(8/ 78).

ص: 641

مكة بلا خلاف، وتسمى جيش العسرة، وللتوجيه مساغ، وما الزيلعي تبعًا لعبد الحق أنهما قصتان، وتعقب كلامه الحافظ في "الفتح" ومال إلى توحيدهما، انتهى من "الأوجز"

(1)

، وتقدم ذكر غزوة بواط في أول المغازي.

(66 -‌

‌ باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع)

كذا في النسخ الهندية، وليس في نسخ الشروح الثلاثة لفظة "باب".

قال الحافظ

(2)

: كذا جزم به، ونقل المحب الطبري عن "صحيح ابن حبان" أن فيه عن أبي هريرة:"لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين اعتمر من الجعرانة وأَمَّر أبا بكر في تلك الحجة"، قال المحب: إنما حج أبو بكر سنة تسع والجعرانة كانت سنة ثمان، قال: وإنما حجّ فيها عتاب بن أسيد، كذا قال، وكأنه تبع الماوردي فإنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر عتابًا أن يحج بالناس عام الفتح، والذي جزم به الأزرقي في "أخبار مكة" خلافه فقال: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدًا، وإنما ولى عتابًا إمرة مكة فحج المسلمون والمشركون جميعًا، وكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير.

قلت: والحق أنه لم يختلف في ذلك، وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر رضي الله عنه، فذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أن حجة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في "الإكليل"، ومن عدا هذين إما مصرح بأن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة - كالداودي وبه جزم من المفسرين الرماني والثعلبي والماوردي وتبعهم جماعة - وإما ساكت، والمعتمد ما قاله

(3)

مجاهد وبه جزم الأزرقي، ويؤيده أن ابن إسحاق صرّح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوالًا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرًا على الحج، فهو

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 384).

(2)

"فتح الباري"(8/ 82).

(3)

كذا في نسخة "الفتح" التي بأيدينا وعلى هذا لا يتم التقريب، [ز].

ص: 642

ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجه في ذي الحجة على هذا، والله أعلم.

وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاثمائة من الصحابة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بدنة، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(1)

: ولم يختلف في أن حجه كان في سنة تسع، ولكنهم اختلفوا في أي شهر حج أبو بكر، فذكر أقوالًا ثلاثة كما تقدم في كلام الحافظ من أنها في ذي القعدة أو في ذي الحجة، والقول الثالث السكوت، وتقدم شيء من الكلام عليه في هامش "اللامع"

(2)

في أول بدء الخلق تحت قوله: "إن الزمان استدار كهيئته".

قال الحافظ

(3)

: (تنبيه): وقع هنا ذكر حجة أبي بكر قبل الوفود، والواقع أن ابتداء الوفود كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في أواخر سنة ثمان وما بعدها، بل ذكر ابن إسحاق أن الوفود كانوا بعد غزوة تبوك، نعم اتفقوا على أن ذلك كله كان في سنة تسع، قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة قال: كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود، وقد تقدم في غزوة الفتح في حديث عمرو بن سلمة:"كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح" الحديث، فلما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، ولعل ذلك من تصرف الرواة كما قدمته غير مرة، وسيأتي نظير هذا في تقديم حجة الوداع على غزوة تبوك، وقد سرد محمد بن سعد في "الطبقات" الوفود، وتبعه الدمياطي في "السيرة" التي جمعها، وتبعه ابن سيد الناس، ومغلطاي، وشيخنا في نظم السيرة، ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين، انتهى من "الفتح".

(67 -‌

‌ باب وفد بني تميم)

وليس في نسخ الشروح لفظ "باب"، قال العلَّامة العيني: شرح البخاري من ها هنا في بيان الوفود ذكر ابن إسحاق أن أشراف بني تميم

(1)

"عمدة القاري"(12/ 331).

(2)

"لامع الدراري"(7/ 335، 336).

(3)

"فتح الباري"(8/ 83).

ص: 643

قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عطارد بن حاجب الدارمي والأقرع بن حابس الدارمي وقيس بن عاصم المنقري وغيرهم، وقال ابن إسحاق: عيينة بن حصن، وقد كان الأقرع وعيينة شهدا الفتح، ثم كانا مع بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته، فنزل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] فأسلموا، وجوَّزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل اثني عشرة أوقية ونشًا، وأعطى لعمر بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه، وكان هذا قبل الفتح، انتهى.

وهكذا في "الفتح"، وقد مرَّ آنفًا الكلام على تعيين زمن الوفود وغير ذلك.

(68 -‌

‌ باب، قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن. . .) إلخ

قال العلَّامة العيني

(1)

: بعد ذكر لفظ: "باب"، أي: هذا باب، ولا يعرّب إلا بهذا التقدير؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، وهذا كالفصل لما قبله، انتهى.

فكأنه جعله بابًا بغير ترجمة، ولم يتعرض له الحافظ والقسطلاني لذلك.

قال الحافظ

(2)

: ذكر الواقدي أن سبب بعث عيينة أن بني تميم أغاروا على ناس من خزاعة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عيينة بن حصن في خمسين، ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلًا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيًا، فقدم رؤساؤهم بسبب ذلك، قال ابن سعد: كان ذلك في المحرم سنة تسع، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(12/ 333).

(2)

"فتح الباري"(8/ 84).

ص: 644

(69 -‌

‌ باب وفد عبد القيس)

هي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى - بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى - ابن دعمي - بضم ثم سكون المهملة وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة - ابن جديلة - بالجيم وزن كبيرة - ابن أسد بن ربيعة بن نزار، والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان:

إحداهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:"بيننا وبينك كفار مضر"، وكان ذلك قديمًا إما في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أو قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة كما ثبت في آخر حديث في الباب، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلًا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشجع، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" كما أخرج ذلك مسلم من حديث أبي سعيد.

وثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلًا كما في حديث أبي حيوة الصناحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته، وأنه كان نصرانيًا فأسلم وحسن إسلامه، ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:"ما لي أرى ألوانكم تغيرت" ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

قلت: وبسط الكلام على الوفادتين في هامش "اللامع" في أوائل كتاب الجمعة أشدّ البسط مع ترجيح الراجح فارجع إليه لو شئت.

قوله في أول أحاديث الباب: (قدم وفد عبد القيس. . .) إلخ، قال القسطلاني

(2)

: أي: القدمة الثانية، وهكذا في بين سطور نسخ الهندية.

والصواب عندي القدمة الأولى، كما تقدم عن "الفتح".

(1)

"فتح الباري"(8/ 85، 86).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 400).

ص: 645

(70 -‌

‌ باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال)

أما حنيفة فهو ابن لجيم - بجيم - ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة شهيرة ينزلون اليمامة بين مكة واليمن، وكان وفد بني حنيفة كما ذكره ابن إسحاق وغيره في سنة تسع، وذكر الواقدي أنهم كانوا سبعة عشر رجلًا فيهم مسيلمة، وأما ثمامة بن أثال فأبوه بضم الهمزة وبمثلثة خفيفة ابن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو من فضلاء الصحابة، وكانت قصته قبل وفد بني حنيفة بزمان، فإن قصته صريحة في أنها كانت قبل فتح مكة كما سنبينه، وكأن البخاري ذكرها ها هنا استطرادًا.

قوله: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد) أي: بعث فرسان خيل إلى جهة نجد، وزعم سيف في "كتاب الزهد" له أن الذي أخذ ثمامة وأسره هو عباس بن عبد المطلب، وفيه نظر؛ لأن العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة، ثم رجع إلى بلاده، ثم منعهم أن يميروا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم بعث يشفع فيهم عند ثمامة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وذكر صاحب "الخميس"

(2)

في وقائع السنة السادسة، فقال: وفي محرم هذه السنة لعشر خلون منه كانت سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء بطن من أبي بكر بن كلاب، روي أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في ثلاثين راكبًا على جماعة من بني بكر بن كلاب بموضع يقال له: الضرية بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتشديد التحتانية قرية على سبع مراحل بطريق خارج البصرة إلى مكة، وأمره أن يغير عليهم بغتة، وكان محمد يسير بالليل ويختفي بالنهار حتى أغار عليهم فجاءة، وهم عارون غافلون، وهرب سائرهم، وعند الدمياطي قتل نفرًا منهم، وهرب سائرهم،

(1)

"فتح الباري"(8/ 87).

(2)

"تاريخ الخميس"(2/ 2، 3).

ص: 646

وأصاب منهم خمسين بعيرًا وثلاثة آلاف شاة وساقها، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه بعد إخراج الخمس، وكانت غيبته في تلك السرية تسع عشرة ليلة، وكان معه ثمامة بن أثال الحنفي سيد اليمامة أسيرًا فربط بسارية من سواري المسجد، انتهى.

قلت: ولذا ذكر البخاري هذا الحديث في "باب ربط الأسير في المسجد" مختصرًا.

قال العلَّامة العيني

(1)

: مطابقته للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، وقال بعد ذكر الحديث الثاني: مطابقته للجزء الأول من الترجمة؛ لأن مسيلمة قدم في وفد بني حنيفة، قال ابن إسحاق: ادعى مسيلمة النبوَّة سنة عشر، وقدم مع قومه، إلى آخر ما ذكر.

قوله: (وقدمها في بشر كثير. . .) إلخ، قال الواقدي: كان معه من قومه سبعة عشر نفسًا، وقال الحافظ

(2)

بحثًا على قصة قدومه: يحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين إلى آخر ما ذكر فارجع إليه.

(71 -‌

‌ باب قصة الأسود العنسي)

بسكون النون، وحكى ابن التِّين جواز فتحها، ولم أر له في ذلك سلفًا، ثم قال بعد ذكر حديث الباب: أما مسيلمة فقد ذكرت خبره، وأما العنسي وفيروز فكان من قصة أن العنسي وهو الأسود واسمه عبهلة بن كعب، وكان يقال له أيضًا: ذو الخمار بالخاء المعجمة؛ لأن كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وكان الأسود وقد خرج بصنعاء وادعى النبوَّة وغلب على عامل صنعاء المهاجر بن أبي أمية، ويقال له: إنه مر به فلما حازاه عشر الحمار فادعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئًا فقام، وروى البيهقي في "الدلائل": خرج الأسود الكذاب وهو من بني عنس

(1)

"عمدة القاري"(12/ 338 - 340).

(2)

"فتح الباري"(8/ 89).

ص: 647

- يعني: بسكون النون - وكان معه شيطانان، يقال لأحدهما: سحيق بمهملتين وقاف مصغر، والآخر شقيق بمعجمة وقافين مصغر، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، وكان باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء فمات، فجاء شيطان الأسود فأخبره فخرج في قومه حتى ملك صنعاء وتزوج المرزبانة زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها دادويه وفيروز وغيرهما حتى دخلوا على الأسود ليلًا، وقد سقته المرزبانة الخمر صرفًا حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس فنقب فيروز ومن معه الجدار حتى دخلوا فقتله فيروز واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة فوافى بذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو الأسود: عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى

(1)

.

(72 -‌

‌ باب قصة أهل نجران)

بفتح النون وسكون الجيم بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن يشتمل على ثلاثة وسبعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلًا لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين، وقال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضًا من حديث كرز بن علقمة، أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلًا وسرد أسماءهم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(8/ 92، 93).

(2)

"فتح الباري"(8/ 94).

ص: 648

(73 -‌

‌ باب قصة عمان والبحرين)

أما البحرين فبلد عبد القيس بين البصرة وعُمان، وأما عُمان فبضم المهملة وتخفيف الميم، قال عياض

(1)

هي فرضة بلاد اليمن، لم يزد في تعريفها على ذلك، وقال الرشاطي: عُمان في اليمن سميت بعُمان بن سبأ، ينسب إليه الجلندي رئيس أهل عُمان، ذكر وثيمة أن عمرو بن العاص قدم عليه من عند النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه، وذكر غيره أن الذي آمن على يد عمرو بن العاص ولدا الجلندي عياذ وجيفر، وكان ذلك بعد خيبر، ذكره أبو عمرو، انتهى.

وروى الطبراني من حديث المسور بن المخرمة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك" فذكر الحديث، وفيه:"وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي ملك عُمان"، فرجعوا جميعًا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمرًا فإنه توفي وعمرو بالبحرين.

وفي هذا إشعار بقرب عُمان من البحرين، وبقرب البعث إلى الملوك من وفاته صلى الله عليه وسلم، فلعلها كانت بعد حنين فتصحفت، ولعل المصنف أشار بالترجمة إلى هذا الحديث لقوله في حديث الباب:"فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(تنبيهان): بعمل الشام بلدة يقال لها: عمَّان لكنها بفتح العين وتشديد الميم، وليست مرادة ها هنا قطعًا، وإنما وقع اختلاف الرواة فيما وقع في صفة الحوض النبوي كما سيأتي في مكانه حيث جاء في بعض طرقه ذكر عمان، وجيفر مثل جعفر: إلا أن بدل العين تحتانية، وعياذ بفتح المهملة وتشديد التحتانية وآخره ذال معجمة، والجلندي بضم الجيم وفتح اللام وسكون النون والقصر، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"مشارق الأنوار"(2/ 135).

(2)

"فتح الباري"(8/ 95، 96).

ص: 649

(74 -‌

‌ باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن)

هو من عطف العام على الخاص؛ لأن الأشعريين من أهل اليمن، ومع ذلك ظهر لي أن في المراد بأهل اليمن خصوصًا آخر، وهو ما سأذكره من قصة نافع بن زيد الحميري أنه قدم وافدًا في نفر من حمير، وبالله التوفيق.

ثم قال: كان قدوم أبي موسى عند فتح خيبر لما قدم جعفر بن أبي طالب، وقيل: إنه قدم عليه بمكة قبل الهجرة ثم كان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم قدم الثانية صحبة جعفر، والصحيح أنه خرج طالبًا المدينة في سفينة فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا هناك بجعفر ثم قدموا صحبته، وعلى هذا فإنما ذكره البخاري ها هنا ليجمع ما وقع على شرطه من البعوث والسرايا والوفود، ولو تباينت تواريخهم، ومن ثم ذكر غزوة سيف البحر مع أبي عبيدة بن الجراح، وكانت قبل فتح مكة بمدة، وكنت أظن قوله:"وأهل اليمن" بعد الأشعريين من عطف العام على الخاص، ثم ظهر لي أن لهذا العام خصوصًا أيضًا، وأن المراد بهم بعض أهل اليمن وهم وفد حمير، فوجدت في "كتاب الصحابة" لابن شاهين من طريق إياس بن عمير الحميري: أنه قدم وافدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين، الحديث، وقد ذكرت فوائده في أول بدء الخلق.

وحاصله: أن الترجمة مشتملة على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى في سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم وفد حمير في سنة تسع وهي سنة الوفود، ولأجل هذا اجتمعوا مع بني تميم، وقد عقد محمد بن سعد في الترجمة النبوية من الطبقات للوفود بابًا، وذكر فيه القبائل من مضر ثم من ربيعة ثم من اليمن، وكاد يستوعب ذلك بتلخيص حسن، وكلامه أجمع ما يوجد في ذلك مع أنه ذكر وفد حمير، ولم يقع له قصة نافع بن زيد التي ذكرتها،

ص: 650

انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(75 -‌

‌ باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي)

بفتح الدال المهملة وسكون الواو، ابن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، وقوله:"الطفيل بن عمرو" أي: قصة الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، وله حكاية عجيبة غريبة طويت ذكرها مخافة التطويل، انتهى من "العيني"

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: كان يقال له (أي: للطفيل): ذو النور - آخره راء - لأنه لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعثه إلى قومه فقال: اجعل لي آية، فقال:"اللَّهم نور له"، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا: إنه مثلة، فتحول إلى طرف سوطه، وكان يضيء في الليلة المظلمة، ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة، وفيها أنه دعا قومه إلى الإسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده.

قلت: وهذا يدل على تقدم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها قدمته الثانية، انتهى.

(76 -‌

‌ باب قصة وفد طيئ)

وحديث عدي بن حاتم، أي: ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج - بوزن جعفر - ابن امرئ القيس بن عدي الطائي، منسوب إلى طيئ - بفتح المهملة وتشديد التحتانية المكسورة بعدها همزة - ابن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ يقال: كان اسمه جلهمة فسمي طيئًا؛ لأنه أول من طوى بئرًا، ويقال: أول من طوى المناهل، وأخرج مسلم

(1)

"فتح الباري"(8/ 97).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 353).

(3)

"فتح الباري"(8/ 101، 102).

ص: 651

من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر فقال: إن أول صدقة بيّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيئ جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم"

وقال الحافظ بعد ذكر الحديث: روى الترمذي من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: هذا عدي بن حاتم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي"، انتهى

(1)

.

(77 -‌

‌ باب حجة الوداع)

بكسر الحاء المهملة وبفتحها، وبكسر الواو وبفتحها، ذكر جابر في حديثه الطويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين - أي: منذ قدم المدينة - لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث، وعند الترمذي من حديث جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم حجّ قبل أن يهاجر ثلاث حجج"، وعن ابن عباس مثله أخرجه ابن ماجه والحاكم.

قلت: وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، فإنهم قدموا أولًا فتواعدوا، ثم قدموا ثانيًا فبايعوا البيعة الأولى، ثم قدموا ثالثًا فبايعوا البيعة الثانية كما تقدم بيانه أول الهجرة، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك، وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري:"أن النبي صلى الله عليه وسلم حجّ قبل أن يهاجر حِججا".

وفي حديث ابن عباس أن خروجه من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة أخرجه المصنف في الحج، وأخرجه هو ومسلم من حديث عائشة مثله، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر؛ لأن أول

(1)

"فتح الباري"(8/ 102، 103).

ص: 652

ذي الحجة كان يوم الخميس قطعًا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في الصحيحين عن أنس:"صلينا الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين" فدلّ على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويحمل قول من قال:"لخمس بقين" أي: إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين، فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبهذا تتفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات.

وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى.

ثم ذكر المصنف في الباب سبعة عشر حديثًا تقدم غالبها في كتاب الحج، انتهى

(1)

.

قلت: واختار ابن القيم أيضًا في "زاد المعاد"

(2)

خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت وهو الراجح عندي كما حققته في "جزء حجة الوداع" لهذا العبد الضعيف، وتقدم تعريفه في كتاب الحج، وذكرت فيه أن هذه الحجة كما تسمى بحجة الوداع تسمى بحجة الإسلام، وبحجة البلاغ، وبحجة التمام أيضًا، وفيه أيضًا حكى صاحب "الخميس"

(3)

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كره أن تسمى بحجة الوداع، قلت: لكن تسميته بحجة الوداع هو الأشهر من بين أساميه كما قال العلَّامة العيني، ووقع هذه التسمية في عدة أحاديث صحيحة، فكان ما ذهب إليه ابن عباس مذهبًا تفرد به.

(1)

"فتح الباري"(8/ 103، 104).

(2)

"زاد المعاد"(2/ 102).

(3)

"تاريخ الخميس"(2/ 148).

ص: 653

ثم لا يذهب عليك أن الشرَّاح استشكلوا ذكر حجة الوداع ها هنا قبل غزوة تبوك، وجعلوا ذلك من تصرف النساخ، كما سيأتي هناك، وفي "الفيض"

(1)

: ولم يظهر لي وجه تقديمها على غزوة تبوك مع كونها في السنة التاسعة وتلك في العاشرة، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن المصنف رحمه الله قصد بذكر ها هنا بعد الفراغ من بيان الوفود الإشارة إلى أن سلسلة الوفود انجرت إلى حجة الوداع، ولذا لم يذكر بعدها وفدًا كما ترى، وأما كونها بعد غزوة تبوك فكان معروفًا بين العام والخاص فلم يلتفت إلى ذلك، والله تعالى أعلم.

ثم إن المصنف ذكر تحت هذا الباب حديث ابن عمر سادس أحاديث الباب، قال القسطلاني

(2)

تبعًا للحافظ: قد استشكل دخول هذا الحديث في باب حجة الوداع؛ لأن فيه التصريح بأن القصة كانت عام الفتح، وعام الفتح كان سنة ثمان وحجة الوداع، كانت سنة عشر، انتهى.

والعجب من العلَّامة العيني إذ قال

(3)

: مطابقته للترجمة في قوله: "عام الفتح"؛ لأن حجة الإسلام كانت فيه، وهو حجة الوداع، انتهى ولم أتحصل ما قال.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

بعد ذكر الإشكال: والجواب: أنه إثبات لما اختلفوا فيه من دخوله في البيت يوم حجة الوداع فمن مثبت لذلك وناف له، فأورد هذا الحديث تنبيهًا على أنه إذا دخل البيت يوم الفتح، ولم يكن سفره هذا لقصد زيارة البيت، بل للجهاد والغزو، فأولى أن يكون دخله في الحج لوقوع سفره هذا للبيت خاصة، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(5/ 149).

(2)

"إرشاد الساري"(9/ 431)، و"فتح الباري"(8/ 106).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 358).

(4)

"لامع الدراري"(8/ 391، 392).

ص: 654

قلت: وهذا يقال له: الإثبات بالأولوية، وهو أصل مطرد من أصول التراجم.

(78 -‌

‌ باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)

هكذا أورد المصنف هذه الترجمة بعد حجة الوداع، وهو خطأ، وما أظن ذلك إلا من النساخ، فإن غزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفًا لقول من قال: في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة.

وتبوك مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال: بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة، وذكرها في "المحكم" في الثلاثي الصحيح، وكلام ابن قتيبة يقتضي أنها من المعتل فإنه قال: جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبوكون مكان مائها بقدح فقال: ما زلتم تبوكونها، فسميت حينئذ تبوك.

قوله: (وهي غزوة العسرة) بمهملتين الأولى مضمومة، بعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وهي غزوة تبوك، وفي حديث ابن عباس:"قيل لعمر: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فأصابنا عطش" الحديث، أخرجه ابن خزيمة، وفي "تفسير عبد الرزاق": عن معمر عن ابن عقيل قال: "خرجوا في قلة من الظَّهر، وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء وفي الظَّهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة". وتبوك المشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع، ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر الحافظ عدة روايات من حديث مسلم وأحمد وغيرهما.

ص: 655

وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جوعًا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من منتصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم، وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال:"كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوَّة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم يقال له: قباذ، وجهز معه أربعين ألفًا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيرًا إلى الشام، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال: فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعدها"، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه.

وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى" والبيهقي في "الدلائل": أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية [الإسراء: 76]، انتهى. وإسناده حسن مع كونه مرسلًا، انتهى

(1)

.

وفي "تاريخ الخميس"

(2)

: وفي رجب هذه السنة لستة أشهر وخمسة أيام خلت منها وقعت غزوة تبوك، وهي غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، وكانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، ولم يقع في هذه الغزوة قتال، ولكن فتحوا في هذا السفر دومة الجندل، وكانت الروم والشام من أعظم أعداء المسلمين وأهيبهم عندهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا غزوة ورّى بغيرها إلا غزوة تبوك، فإنه أخبر

(1)

"فتح الباري"(8/ 111، 112).

(2)

"تاريخ الخميس"(2/ 122 - 125).

ص: 656

الناس بها وأظهر ليتأهبوا لها الأهبة، ويستعدوا لبعد السفر وشدة الزمان، وفي "المنتقى": استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل: محمد بن مسلمة، انتهى.

وقال الدمياطي: استخلاف محمد بن مسلمة هو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره، وفي "المواهب اللدنية": أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية، وكان معه ثلاثون ألفًا، وعند أبي زرعة سبعون ألفًا، وفي رواية عنه أيضًا أربعون ألفًا، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وفي كل منزل نزله اتخذ مسجدًا، وجميعها معروفة إلى مسجد تبوك، انتهى مختصرًا.

وقال الحافظ

(1)

: في شرح قوله: "ولا يجمعهم كتاب حافظ" المذكور في حديث الباب: وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفًا"، وبهذه العدة جزم ابن إسحاق، وأورده الواقدي بسند آخر موصول وزاد:"أنه كان معهم عشرة آلاف فرس"، وقد نقل عن أبي زرعة أنهم كانوا أربعين ألفًا، ولا تخالف رواية "الإكليل" "أكثر من ثلاثين ألفًا" لاحتمال أن يكون من قال: أربعين ألفًا جبر الكسر، انتهى.

(79 -‌

‌ باب حديث كعب بن مالك)

قال العيني

(2)

: هو كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي ينتهي نسبه إلى الخزرج، يكنى أبا عبد الله، شهد العقبة الثانية، واختلف في شهوده بدرًا، وشهد أُحدًا والمشاهد كلها حاشا تبوك، فإنه تخلَّف عنها، وكان أحد الشعراء في الجاهلية، وتوفي في خلافة معاوية سنة خمسين، وقيل: ثلاث وخمسين، وهو ابن سبع وسبعين، وكان قد عمي

(1)

"فتح الباري"(8/ 117، 118).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 370).

ص: 657

في آخر عمره، ويعد في المدنيِّين، روى عنه جماعة من التابعين.

قال الحافظ

(1)

: في فوائد الحديث: قال ابن التِّين: فيه أن كعب بن مالك من المهاجرين الأولين الذين صلَّوا إلى القبلتين، كذا قال، وليس كعب من المهاجرين، إنما هو من السابقين من الأنصار.

وقال العيني

(2)

: قوله: ({وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية [التوبة: 118]) وهم كعب بن مالك المذكور، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أما هلال هو ابن أمية الأنصاري الواقفي من بني واقف ابن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، وأما مرارة فبضم الميم وتخفيف الرائين، ابن الربيع، يقال: ابن ربيعة العمري نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وقال الكرماني: وفي بعض الروايات العامري، وأنكره العلماء وقالوا: صوابه العمري، انتهى من كلام العيني وقال أيضًا: إنهما شهدا بدرًا.

وقال القسطلاني

(3)

: في شرح قوله: (فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا. . .) إلخ، قد استشكل بأن أهل السير لم يذكروا واحدًا منهما فيمن شهد بدرًا، ولا يعرف ذلك في غير هذا الحديث، وممن جزم بأنهما شهدا بدرًا الأثرم وهو ظاهر صنيع البخاري، وتعقب الأثرم ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط، لكن قال الحافظ ابن حجر: إنه لم يصب قال: واستدل بعض المتأخرين بكونهما لم يشهدا بدرًا بما وقع في قصة حاطب: وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجره ولا عاقبه مع كونه جس عليه، بل قال لعمر لما همّ بقتله:"وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر" الحديث، قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجس؟ قال في "الفتح": وليس ما استدل به بواضح؟ لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كبرت لا يعاقب عليها، وليس

(1)

"فتح الباري"(8/ 125).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 370 - 376).

(3)

"إرشاد الساري"(9/ 454).

ص: 658

كذلك، فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصة حاطب قد جلد قدامة بن مظعون الحدّ لما شرب الخمر وهو بدري، وإنما لم يعاقب صلى الله عليه وسلم حاطبًا ولا هجره؛ لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشًا خشية على أهله وولده بخلاف تخلف كعب وصاحبيه فإنهم لم يكن لهم عذر أصلًا، انتهى.

وبسط الحافظ

(1)

الكلام فيما يستفاد من الحديث، فذكر فوائد كثيرة وقال العيني

(2)

: فوائد الحديث المذكور أكثر من خمسين فائدة، وقال أيضًا: وقد أخرج المؤلف حديث غزوة تبوك وتوبة الله على كعب بن مالك في عشرة مواضع مطولًا ومختصرًا، إلى آخر ما قال.

(80 -‌

‌‌

‌ باب

نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر)

بكسر المهملة وسكون الجيم، وهي منازل ثمود بين المدينة والشام عند وادي القرى، زعم بعضهم أنه مرَّ به ولم ينزل، ويرده التصريح في حديث ابن عمر بأنه "لما نزل الحجر أمرهم أن لا يشربوا"، انتهى من "الفتح"

(3)

بزيادة من "العيني".

وقال العيني

(4)

بعد ذكر الحديث: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "حتى أجاز الوادي"؛ لأن فيه معنى النزول إلى الوادي والصعود منه، ولو قال في الترجمة: باب مرور النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر لكان أصوب وأقرب، انتهى.

(81 - باب)

بغير ترجمة، قال العيني

(5)

: كذا بلا ترجمة، وهو كالفصل لما تقدم؛ لأن أحاديثه تتعلق ببقية قصة تبوك، والباب الذي قبله أيضًا يتعلق بتبوك

(1)

انظر: "فتح الباري"(12/ 123، 124).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 379، 380).

(3)

"فتح الباري"(8/ 125)، وعمدة القاري" (12/ 380).

(4)

"عمدة القاري"(12/ 380).

(5)

"عمدة القاري"(12/ 381).

ص: 659

فافهم، انتهى، وهكذا في "الفتح"

(1)

مختصرًا.

(82 -‌

‌ باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر)

مناسبة هذا الباب بما قبله من حيث إنه صلى الله عليه وسلم كتب إليهما إذ كان هو صلى الله عليه وسلم في تبوك كما سيأتي بيانه، وكسرى هو ابن برويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو كسرى الكبير، وقيل: إن الذي بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو أنوشروان، وفيه نظر لما سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زربان ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى ابن برويز بن هرمز، وكسرى بفتح الكاف وكسرها لقب كل من تملك الفرس، ومعناه بالعربية المظفري، وأما قيصر فهو هرقل، وقد تقدم شأنه في أول الكتاب، انتهى

(2)

.

وتقدم في هامش "اللامع"

(3)

: أن هرقل بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف على المشهور، ويقال أيضًا: بكسر الهاء والقاف وسكون الراء، قال الكرماني

(4)

: اسم علم له فهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وهو صاحب حروب الشام، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له: قيصر، كما أن ملك فارس يسمى: كسرى.

قال العيني

(5)

: وكان هرقل أول من ضرب الدينار، وأحدث البيعة، قال الحافظ

(6)

واستمر هرقل على نصرانية، وآثر ملكه على الإيمان، ومما يقويه أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة، وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضًا من تبوك يدعوه، وأنه قارب الإجابة، ولم يجب، فدلّ ظاهره على استمراره على الكفر، ويحتمل أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفًا من أن يقتله قومه،

(1)

"فتح الباري"(8/ 126).

(2)

"فتح الباري"(8/ 127).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 514).

(4)

"شرح الكرماني"(1/ 53).

(5)

"عمدة القاري"(1/ 211).

(6)

"فتح الباري"(1/ 37).

ص: 660

إلا أن في "مسند أحمد": أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كذب، بل هو على نصرانيته"، انتهى من هامش "اللامع" مختصرًا.

وقال الحافظ

(1)

: جزم ابن سعد بأن بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى كان في سنة سبع في زمن الهدنة، وهو عند الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله بلفظ:"منصرفه من الحديبية"، وصنيع البخاري يقتضي أنه كان في سنة تسع، فإنه ذكره بعد غزوة تبوك، وذكر في آخر الباب حديث السائب أنه تلقى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك إشارة إلى ما ذكرت، وقد ذكر أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بتبوك كتب إلى قيصر وغيره، وهي غير المرة التي كتب إليه مع دحية، فإنها كانت في زمن الهدنة كما صرّح به في الخبر، وذلك سنة سبع، ثم ذكر الحافظ من رواية الطبراني أسماء الملوك الذين كتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء من بعث إليهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

(83 -‌

‌ باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: وذكر في الباب أيضًا ما يدلّ على جنس مرضه كما سيأتي، وأما ابتداءه فكان في بيت ميمونة كما سيأتي، ووقع في "السيرة" لأبي معشر: في بيت زينب بنت جحش، وفي "السيرة" لسليمان التيمي: في بيت ريحانة، والأول هو المعتمد، وذكر الخطابي

(3)

: أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء. واختلف في مدة مرضه فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يومًا، وقيل: بزيادة يوم، وقيل: بنقصه، والقولان في "الروضة"، وصدّر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح،

(1)

"فتح الباري"(8/ 127).

(2)

"فتح الباري"(8/ 129).

(3)

"الأعلام"(3/ 1795).

ص: 661

وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعًا، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزمي وابن زبر: مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه، ورجحه السهيلي، وعلى القولين يتنزل ما نقله الرافعي أنه عاش بعد حجته ثمانين يومًا، وقيل: أحدًا وثمانين، وأما على ما جزم به في "الروضة" فيكون عاش بعد حجته تسعين يومًا أو أحدًا وتسعين.

وقد استشكل ذلك السهيلي ومن تبعه - أعني: كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول -، وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توام أو نواقص أو بعضها لم يصح، وهو ظاهر لمن تأمله، وأجاب البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة فرآه أهل مكة ليلة الخميس ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرّخوا برؤية أهلها فكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين، وهذا الجواب بعيد من حيث إنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل. . .، إلى آخر ما بسط الحافظ أشد البسط.

قوله: (فقال: ائتوني اكتب لكم كتابًا) قال الحافظ

(1)

: هو تعيين الخليفة بعده، وسيأتي شيء من ذلك في "كتاب الأحكام" في "باب الاستخلاف" منه، انتهى.

وقد تقدم شيء من الكلام عليه في "كتاب العلم"، وبسط الكلام عليه أيضًا في "اللامع"

(2)

في "كتاب العلم" إذ كتب الشيخ قُدِّس سرُّه على قول

(1)

"فتح الباري"(8/ 133).

(2)

"لامع الدراري"(2/ 63، 64).

ص: 662

عمر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع. . .) إلخ: إنما حسن ذلك من عمر لما علم أنه يكتب الخلافة لأبي بكر ونحن متفقون عليه، فلا حاجة إلى تصديعه. . .، إلى آخر ما تقدم، وتقدم هناك في هامشه: هذا هو الظاهر فيما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته.

قال الحافظ

(1)

: اختلف في المراد بالكتاب، قيل: كان أراد أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة:"ادعي لي أباك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" أخرجه مسلم، وللبخاري معناه، قال الحافظ: والأول أظهر لقول عمر: حسبنا كتاب الله، أي: كافينا مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده، انتهى.

قلت: الأظهر هو الثاني لموافقة قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أكتب كتابًا"، انتهى من هامش "اللامع".

قوله: (استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: وفي رواية عن عائشة عند أحمد: "أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن، فإذا شئتن أذنتن لي"، وسيأتي بعد قليل عن عائشة أنه "كان يقول: أين أنا غدًا؟ يريد يوم عائشة"، وكان أول ما بدأ مرضه في بيت ميمونة، انتهى.

قلت: وأتذكر من إفادات مولانا الشيخ فضل رحمان كَنج مراد آبادي قُدِّس سرُّه: أن التمريض في بيت عائشة لعله لأجل أن الوحي لا يأتي في لحاف أحد غيرها.

(1)

"فتح الباري"(1/ 209).

(2)

"فتح الباري"(8/ 141).

ص: 663

قوله: (في يومي. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: أي: لو كان ثمة نوبة بحسب عادته لكان اليوم يوم نوبتي، انتهى.

وفي هامشه: كما هو نص الرواية المتقدمة قريبًا قالت عائشة: "فمات في اليوم الذي كان يدور عليّ فيه في بيتي"، وفي هامش النسخة الهندية: قوله: "في يومي" أي: يوم نوبتي بحساب الدور المتقدم المعهود، قال في "جامع الأصول"

(2)

: كان ابتداء مرض النبي صلى الله عليه وسلم من صداع عرض له، وهو في بيت عائشة، ثم اشتد به وهو في بيت ميمونة، ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له، وكان مدة مرضه اثني عشر يومًا، ومات يوم الاثنين ضحى من ربيع الأول، فقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لاثنتي عشرة خلت منه، وهو الأكثر، هكذا في "المرقاة"

(3)

، انتهى.

وهكذا حكى القاري كلام "جامع الأصول" في "جمع الوسائل"

(4)

، ولم يتعرض فيها عن إشكال، وهو أن مدة مرضه صلى الله عليه وسلم لما كانت اثني عشر يومًا، وكان بدء المرض في بيت عائشة فكيف رجعت النوبة إليها بعد اثني عشر يومًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، منها يومان لعائشة، ولم يتعرض لهذا الإشكال أحد من الشرَّاح، ويمكن التقصي عنه باختيار قول آخر، فإن الروايات في مدة مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم مختلفة. . .، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"، وفيه: روى البيهقي في "دلائل النبوَّة" بإسناد صحيح إلى سليمان التيمي: "أن رسول الله مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وكان أول يوم مرض فيه يوم السبت، وكانت وفاته اليوم العاشر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول"، انتهى.

وإذا كان مدة مرضه صلى الله عليه وسلم عشرة أيام فترجع النوبة إلى عائشة بلا مرية، انتهى من هامش "اللامع".

(1)

"لامع الدراري"(8/ 412، 413).

(2)

"جامع الأصول"(12/ 110).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(10/ 301).

(4)

"جمع الوسائل"(2/ 202).

ص: 664

(84 -‌

‌ باب آخر ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم

-)

قال العيني

(1)

: أي: عند طلوع روحه الكريم، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث عائشة، وقد شرح في الحديث السابع من الباب الذي قبله، انتهى.

وقال

(3)

في الباب الذي قبله: قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} " [النساء: 69]: في رواية المطلب عن عائشة عند أحمد: فقال: "مع الرفيق الأعلى، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} إلي قوله:{رَفِيقًا} [النساء: 69]، وفي رواية عند النسائي وصححه ابن حبان فقال:"أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل"، وظاهره أن الرفيق: المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وهذه الأحاديث ترد على من زعم أن "الرفيق" تغيير من الراوي وأن الصواب "الرقيع" بالفاف والعين المهملة، وهو من أسماء السماء، وقال الجوهري: الرفيق الأعلى: الجنة، وقيل: بل الرفيق ها هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه، والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية، ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبّه عليه السهيلي، وزعم بعض المغاربة أنه يحتمل أن يراد بالرفيق الأعلى الله عز وجل؛ لأنه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رفعه:"إن الله رفيق يحب الرفق" كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى.

قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر، انتهى ملخصًا.

(1)

"عمدة القاري"(12/ 404).

(2)

"فتح الباري"(8/ 150).

(3)

"فتح الباري"(8/ 137).

ص: 665

ثم قال الحافظ

(1)

ها هنا في هذا الباب: وكأن عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي بالخلافة وأن يوفي ديونه، وقد أخرج العقيلي وغيره في "الضعفاء" عن سلمان أنه قال: قلت: "يا رسول الله! إن الله لم يبعث نبيًا إلا بيّن له من يلي بعده فهل بيَّن لك؟ قال: نعم، علي بن أبي طالب"، ومن طريق آخر عنه: قلت: "يا رسول الله، من وصيك؟ قال: وصيي وموضع سري وخليفتي على أهلي وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي طالب"(كرم الله وجهه)، ومن طريق آخر:"لكل نبي وصي وأن عليًا وصيي وولدي"، وفي رواية عن أبي ذر رفعه:"أنا خاتم النبيين وعلي خاتم الأوصياء"، أوردها وغيرها ابن الجوزي في "الموضوعات"، انتهى ويأتي في "كتاب الدعوات" "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم الرفيق الأعلى".

(85 -‌

‌ باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

-)

قال الحافظ

(2)

: أي: في أي السنين وقعت؟ وكذا قال العيني

(3)

وزاد: وفي بعض النسخ: "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومتى توفي؟ وابن كم؟ "، انتهى من "العيني".

قلت: وبهذا اندفع توهم تكرار الترجمة بما تقدم من باب مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته كما لا يخفى.

قال الحافظ

(4)

: قوله: (لبث بمكة عشر سنين. . .) إلخ، هذا يخالف المروي عن عائشة عقبه أنه عاش ثلاثًا وستين، إلا أن يحمل على إلغاء الكسر، وأكثر ما قيل في عمره أنه خمس وستون سنة، أخرجه مسلم وأحمد عن ابن عباس، وهو مغاير لحديث الباب؛ لأن مقتضاه أن يكون عاش ستين إلا أن يحمل على إلغاء الكسر، أو على قول من قال: إنه بعث

(1)

"فتح الباري"(8/ 150).

(2)

"فتح الباري"(8/ 150).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 405).

(4)

"فتح الباري"(8/ 150، 151).

ص: 666

ابن ثلاث وأربعين، وهو مقتضى ما روي عن ابن عباس أنه مكث بمكة ثلاث عشرة، ومات ابن ثلاث وستين، وفي رواية عنه: لبث بمكة ثلاث عشرة، وبعث لأربعين، ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهذا موافق لقول الجمهور.

والحاصل: أن كل من روي عنه من الصحابة ما يخالف المشهور - وهو ثلاث وستون - جاء عنه المشهور، وهم ابن عباس وعائشة وأنس، ولم يختلف على معاوية أنه عاش ثلاثًا وستين، وبه جزم سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد، وقال أحمد: هو الثبت عندنا، وقد جمع السهيلي بين القولين بوجه آخر، وهو أن من قال: مكث ثلاث عشرة عدّ من أول ما جاءه الملك بالنبوَّة، ومن قال: مكث عشرًا أخذ ما بعد فترة الوحي ومجيء الملك بـ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .

ومن الشذوذ ما رواه عمر بن شبة أنه عاش إحدى أو اثنتين وستين، ولم يبلغ ثلاثًا وستين، وكذا رواه ابن عساكر أنه عاش اثنتين وستين ونصفًا، وهذا يصح على قول من قال: ولد في رمضان، وهو شاذ، انتهى مختصرًا، وتقدم شيء من ذلك في "باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم".

(باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، وقال بعد حديث الباب: ووجه إيراده ها هنا الإشارة إلى أن ذلك من آخر أحواله، وهو يناسب حديث عمرو بن الحارث في الباب الأول أنه لم يترك دينارًا ولا درهمًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

زاد العيني

(2)

: هو كالفصل لما قبله، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(8/ 151).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 405).

ص: 667

(87 -‌

‌ باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. . .) إلخ

إنما أخَّر المصنف هذه الترجمة لما جاء أنه كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة فقال:"سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، وأغر صباحًا على أُبْنَى، وحرق عليهم، وأسرع المسير تسبق الخير، فإن ظفرك الله بهم فأقل اللبث فيهم"، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث، فعقد لأسامة لواء بيده، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد، فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فردّ عليه عمر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بما ذكر في هذا الحديث، ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال:"أنفذوا بعث أسامة" فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف، فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها، وقتل قاتل أبيه، ورجع بالجيش سالمًا وقد غنموا.

وقد قصّ أصحاب المغازي قصةً مطولة فلخصتها، وكانت آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوّل شيء جهزه أبو بكر رضي الله عنه، وقد أنكر ابن تيمية في "كتاب الرد على ابن المطهر" أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة، ومستند ما ذكره ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد في أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة. . .، إلى آخر ما ذكر الحافظ، وعند الواقدي أيضًا: أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة من قريش، وفيه عن أبي هريرة: كانت عدة الجيش سبعمائة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(8/ 152).

ص: 668

(88 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، قال العلَّامة العيني

(1)

: بعد ذكر الحديث: مطابقته للترجمة التي هي قوله: "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" في قوله: "دفنا النبي صلى الله عليه وسلم"، والبابان اللذان بعده متعلقان به، وليس لهما حكم الاستبداد، فافهم، كذا أفاد رحمه الله، ولم يتعرض له الحافظ ولا القسطلاني.

(89 -‌

‌ باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم

-)

ختم البخاري كتاب المغازي بنحو ما ابتدأه به، وقد تقدم الكلام في أول المغازي على حديث زيد بن أرقم، وزاد ها هنا عن أبي إسحاق حديث البراء، وكأن أبا إسحاق كان حريصًا على معرفة عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسأل زيد بن أرقم والبراء وغيرهما، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العيني

(3)

: واختلف في عدد غزواته صلى الله عليه وسلم فعن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثمان عشرة غزوة، وقاتل في ثمان

(4)

غزوات: أولهن بدر، ثم أُحد، ثم الأحزاب، ثم قريظة، ثم بئر معونة، ثم غزوة بني المصطلق، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف، قال ابن كثير: قوله: إن بئر معونة بعد بني قريظة فيه نظر، والصحيح أنها بعد أُحد، انتهى من "العيني".

وفي "الفتح"

(5)

: قال موسى بن عقبة: "قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدرٍ ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف" قال الحافظ: وأهمل غزوة قريظة؛ لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها

(1)

"عمدة القاري"(12/ 408).

(2)

"فتح الباري"(8/ 154).

(3)

"عمدة القاري"(12/ 409).

(4)

كذا في الأصل، والمذكور بعده في التفصيل:"تسع"، فليحرر (ز).

(5)

"فتح الباري"(7/ 281).

ص: 669

كانت في إثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: قال القسطلاني في "المواهب"

(2)

: كان عدد مغازيه عليه الصلاة والسلام التي خرج فيها بنفسه سبعًا وعشرين، كما قاله أئمة المغازي موسى بن عقبة وابن إسحاق وأبو معشر والواقدي وابن سعد، وجزم ابن الجوزي والدمياطي والعراقي وغيرهم، وقال ابن إسحاق في رواية البكائي عنه ستًا وعشرين، وجزم به في ديباجة "الاستيعاب" قائلًا: وهذا أكثر ما قيل، وقيل: خمسًا وعشرين، ولعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن المسيب أربعًا وعشرين، وعند أبي يعلى بإسناد صحيح عن جابر أنها إحدى وعشرون، وروى الشيخان عن زيد بن أرقم أنها تسع عشرة، وفي "خلاصة السير" للمحب الطبري: جملة المشهور منها اثنتان وعشرون، انتهى مختصرًا بزيادة من الزرقاني

(3)

.

وقال النووي

(4)

: قد اختلف أهل المغازي في عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددهن مفصلات على ترتيبهن، فبلغت سبعًا وعشرين غزاة، وستًّا وخمسين سرية، قالوا: قاتل في تسع من غزواته وهي بدر، وأُحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، هكذا عدّوا الفتح فيها، وهذا على قول من يقول: فتحت مكة عنوة، ولعل بريدة أراد بقوله: قاتل في ثمان إسقاط غزاة الفتح، ويكون مذهبه أنها فتحت صلحًا، كما قاله الشافعي وموافقوه، انتهى.

قال الحافظ

(5)

بعد ذكر حديث الباب: وأخرج مسلم أيضًا من وجه

(1)

"لامع الدراري"(8/ 246).

(2)

"المواهب اللدنية"(1/ 335).

(3)

"شرح الزرقاني على المواهب"(2/ 220).

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 436).

(5)

"فتح الباري"(8/ 153، 154).

ص: 670

آخر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وقد تقدم في أول المغازي توجيه ذلك وعدد الغزوات، انتهى.

قلت: لم أجد في أول المغازي ما أحاله الحافظ من التوجيه بين حديثي بريدة، نعم تكلم الحافظ هناك على حديث زيد بن أرقم، ومع ذلك ليس في روايتي بريدة تعارض بين عدد ست عشرة وتسع عشرة، وذلك لأن لفظ رواية مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:"غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة" الحديث، لا كما نقل الحافظ بلفظ:"أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشر غزوة"، ولفظ الرواية الثانية عند مسلم عنه:"أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة" كما في حديث الباب، وعلى هذا لا تعارض بين روايتيه كما لا يخفى.

(فائدة) قال الحافظ في آخر حديث الباب: حديث بريدة بن الحصيب: وهو أحد الأحاديث الأربعة التي أخرجها مسلم عن شيوخ أخرج البخاري تلك الأحاديث بعينها عن أولئك الشيوخ بواسطة، ووقع من هذا النمط للبخاري أكثر من مائتي حديث، وقد جردتها في جزء مفرد، انتهى.

ثم البراعة عند الحافظ كما تقدم في "المقدمة" هو ما قاله، وفي آخر المغازي الوفاة النبوية وما يتعلق بها، وعند هذا العبد الضعيف في قوله:"قلت: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث فإن الغزوة والحرب من مظان الموت، والإمام البخاري عندي يذكّر الرجل وقارئ كتابه في آخر كل كتاب موته كما تقدم في بدء الكتاب.

وهذا آخر الجزء الرابع من "الأبواب والتراجم لصحيح البخاري"، وقد بدئ تبييض هذا الجزء في الرابع عشر من أول الربيعين سنة خمس وتسعين بعد ألف وثلاثمائة بالمدينة المنورة - زادها الله تعظيمًا وتكريمًا - بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبره الأطهر روضة من رياض الجنة بيدي الأعزين المكرمين ختني المولوي الحافظ الحاج محمد عاقل صدر المدرسين بمدرسة مظاهر علوم وختني الآخر المولوي الحافظ الحاج محمد سلمان من أكابر

ص: 671

المدرسين بالمدرسة المذكورة، وكانا يراجعان إلى وقت التبييض في المواضع المشكلة والتراجم الصعبة، فجزاهما الله تعالى عني وعن سائر الناظرين لهذا الجزء أحسن الجزاء، بارك الله في علومها، وأذاقهما من شراب حبه، وكان مجيئهما من الهند إلى البقعة الطاهرة لأجل هذا العمل، وذلك أن اشتغالهما في الهند بالتدريس وغيره كان حاجبًا عن تكميل هذا التبييض مسرعًا، ولذا تراخى تبييض الجزئين الأولين، فإنه كمل في عدة سنوات، ووقع فراغهما عن تبييض هذا الجزء بأقصر مدة، أعني: زهاء ثلاثة أشهر في السابع والعشرين من أولى الجمادين من السنة المذكورة، وما ذلك إلا بفضل الله سبحانه وتعالى وببركة تلك البقعة الطاهرة الطيبة.

فالحمد لله أولًا وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا وسيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين.

وأنا العبد الضعيف المفتقر إلى رحمة ربه العليا المدعو بمحمد زكريا سابع والعشرين من أولى الجمادين سنة خمس وتسعين بعد ألف وثلاثمائة.

تم الجزء الرابع

ويتلوه الجزء الخامس أوله "كتاب التفسير".

ص: 672