المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم   70 - ‌ ‌ كتاب - الأبواب والتراجم لصحيح البخاري - جـ ٦

[محمد زكريا الكاندهلوي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمده ونصلي على رسوله الكريم

70 -

‌ كتاب الأطعمة

اعلم أن مناسبة هذا الكتاب بما قبله هي ما تقدم في "مقدمة اللامع"

(1)

في الفائدة الثالثة عشر - في مناسبة الترتيب بين الكتب والأبواب المذكورة في "صحيح البخاري" - من قوله: ولما انقضت النفقات وهي من المأكولات غالبًا أردف "كتاب الأطعمة" وأحكامها وآدابها، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: الأطعمة جمع طعام كرحى وأرحية، قال في "القاموس": الطعام: البرّ وما يؤكل، وجمع الجمع أطعمات، وقال ابن فارس في "المجمل": يقع على كل ما يطعم حتى الماء قال تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم:"إنها طعام طعم وشفاء سقم"، والطَّعْم بالفتح: ما يؤديه الذوق يقال: طعمه مرّ أو حلو، والطُعام

(3)

أيضًا بالضم: الطعام، وطَعِمَ بالكسر، أي: أكل وذاق، يَطْعَمُ بالفتح طعمًا فهو طاعم.

وقول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] من مستلذاته أو من حلالاته، والحلال المأذون فيه ضد الحرام الممنوع منه، والطيب في اللغة بمعنى الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب، والطيب في الأصل ما يستلذ ويستطاب، ووصف به الطاهر والحلال على جهة

(1)

"مقدمة لامع الدراري"(1/ 280).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 167).

(3)

كذا في الأصل، والصواب:"الطعم"(ز).

ص: 5

التشبيه؛ لأن النجس تكرهه النفس ولا يستلذ، والحرام غير مستلذ؛ لأن الشرع زجر عنه، انتهى.

وقال العلامة العيني

(1)

: "كتاب الأطعمة" أي: هذا كتاب في بيان أنواع الأطعمة وأحكامها، وهو جمع طعام، قال الجوهري: الطعام ما يؤكل، وربما خص بالطعام البُرّ، والطَّعم بالفتح: ما يؤديه ذوق الشيء من حلاوة ومرارة وغيرهما، والطُّعْم بالضم: الأكل، انتهى.

وأما مطابقة الأحاديث بالترجمة فقال الحافظ

(2)

: (تنبيه): ذكر لي محدث الديار الحلبية برهان الدين: أن شيخنا سراج الدين البلقيني قال: ليس في هذه الأحاديث الثلاثة ما يدل على الأطعمة المترجم عليها المتلو فيها الآيات المذكورة، قلت: وهو ظاهر إذا كان المراد مجرد ذكر أنواع الأطعمة، أما إذا كان المراد بها ذلك وما يتعلق به من أحوالها وصفاتها فالمناسبة ظاهرة؛ لأن من جملة أحوالها الناشئة عنها الشبع والجوع، ومن جملة صفاتها الحل والحرمة والمستلذ والمستخبث، وكل ذلك ظاهر من الأحاديث الثلاثة، وأما الآيات فإنها تضمنت الإذن في تناول الطيبات، فكأنه أشار بالأحاديث إلى أن ذلك لا يختص بنوع من الحلال ولا المستلذ ولا بحالة الشبع ولا بسدِّ الرمق، بل يتناول ذلك بحسب الوجدان وبحسب الحاجة، والله أعلم، انتهى.

(1 -‌

‌ باب التسمية على الطعام والأكل باليمين)

أي: قول "بسم الله" في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي

(3)

عن عائشة مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله

(1)

"عمدة القاري"(14/ 384).

(2)

"فتح الباري"(9/ 520).

(3)

"سنن أبي داود"(رقم 3767)، "سنن الترمذي"(رقم 1858).

ص: 6

وآخره"، وقال النووي

(1)

: أجمع العلماء على استحباب التسمية على الطعام في أوله، وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظر، إلا إن أريد بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك.

قوله: (وكل بيمينك) قال شيخنا في "شرح الترمذي": حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالي ثم النووي، لكن نصّ الشافعي في "الرسالة" وفي موضع آخر من "الأم" على الوجوب، انتهى

(2)

.

(2 -‌

‌ باب الأكل مما يليه)

قال العلامة العيني

(3)

: ليس في بعض النسخ لفظ "باب"، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: وقد نص أئمتنا على كراهة الأكل مما يلي غيره ومن الوسط والأعلى، لا نحو الفاكهة مما ينتقل به، وأما ما سبق من نص الشافعي على التحريم فمحمول على المشتمل على الإيذاء، انتهى.

(3 -‌

‌ باب من تتبع حوالي القصعة)

حوالي بفتح اللام وسكون التحتانية أي: الجوانب، يقال: رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه، واللام مفتوحة في الجميع، ولا يجوز كسرها، انتهى من "الفتح"

(5)

.

وعندي هذا الباب كالاستثناء مما قبله.

وبسط الشرَّاح لا سيما الحافظ الكلام على الغرض من هذه الترجمة والجمع بين الروايات المختلفة في ذلك كما سيأتي.

قوله: (إذا لم يعرف منه كراهية)، قال الحافظ

(6)

: ذكر فيه حديث

(1)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (7/ 210).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 521، 522).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 389).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 172).

(5)

"فتح الباري"(9/ 524).

(6)

"فتح الباري"(9/ 524).

ص: 7

أنس في تتبع النبي صلى الله عليه وسلم الدباء من الصحفة، وهذا ظاهره يعارض الذي قبله في الأمر بالأكل مما يليه، فجمع البخاري بينهما بحمل الجواز على ما إذا علم رضاء من يأكل معه، ورمز بذلك إلى تضعيف حديث عكراش الذي أخرجه الترمذي حيث جاء فيه التفصيل بين ما إذا كان لونًا واحدًا فلا يتعدى ما يليه أو أكثر من لون فيجوز، وقد حمل بعض الشرَّاح فعله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على ذلك فقال: كان الطعام مشتملًا على مرق ودباء وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وحمله الكرماني على أن الطعام كان للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، قال: فلو كان له ولغيره لكان المستحب أن يأكل مما يليه. . .، إلى آخر ما بسط الحافظ.

(4 -‌

‌ باب التيمن في الأكل وغيره)

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له، وظن بعضهم أن في هذه الترجمة تكرارًا؛ لأنه تقدم في قوله:"باب التسمية، والأكل باليمين"، وقد أجاب عنه ابن بطال بأن هذه الترجمة أعمّ من الأولى؛ لأن الأولى لفعل الأكل فقط، وهذا لجميع الأفعال، فيدخل فيه الأكل والشرب بطريق التعميم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(5 -‌

‌ باب من أكل حتى شبع)

لعله أشار إلى إباحته لما ورد من ذمِّه في الروايات الكثيرة، قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه ثلاثة أحاديث، قال ابن بطال: في هذه الأحاديث جواز الشبع وإن كان تركه أحيانًا أفضل، وقد ورد عن سلمان وأبي جحيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة" أخرجه ابن ماجه

(3)

بسند لَيّن، وأخرج عن ابن عمر نحوه، وفي سنده مقال أيضًا.

(1)

"فتح الباري"(9/ 526).

(2)

"فتح الباري"(9/ 527، 528).

(3)

"سنن ابن ماجه"(رقم 3351).

ص: 8

قال القرطبي: وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الذي يثقل المعدة، ويُثَبِّطُ صاحبَه عن القيام للعبادة، ويُفْضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة، وذكر الكرماني تبعًا لابن المنيِّر: أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام والثلث للشراب والثلث للنفس، ويحتاج في دعوى أن تلك عادتهم إلى نقل خاص، وإنما ورد في ذلك حديث حسن أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه

(1)

. . . إلى آخر ما ذكر الحافظ.

(6 -‌

‌ باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:

61]

الظاهر عندي: أن غرض الإمام البخاري بهذه الترجمة الإشارة إلى اختلاف أقوال العلماء في سبب نزول الآية كما بسطه المفسرون، والإشارة إلى ترجيح قول عطاء بن يزيد الليثي كما يدل عليه ما قاله الشرَّاح في مناسبة الحديث بالآية.

قال الحافظ

(2)

: وحكى ابن بطال عن المهلب قال: مناسبة الآية لحديث سويد ما ذكره أهل التفسير أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حدة لتقصيرهم عن أكل الأصحاء، فكانوا يتحرجون أن يتفضلوا عليهم، وهذا عن ابن الكلبي، وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده في غير موضعها، والأعرج كذلك لاتساعه في موضع الأكل، والمريض لرائحته، فنزلت هذه الآية فأباح لهم الأكل مع غيرهم، وفي حديث سويد معنى الآية؛ لأنهم جعلوا أيديهم فيما حضر من الزاد سواء، مع أنه لا يمكن أن يكون أكلهم بالسواء لاختلاف أحوال الناس في ذلك، وقد سوغ لهم الشارع

(1)

"سنن النسائي"(رقم 6768)، "سنن الترمذي"(رقم 2380)، "سنن ابن ماجه"(رقم 3349).

(2)

"فتح الباري"(9/ 529).

ص: 9

ذلك مع ما فيه من الزيادة والنقصان فكان مباحًا، والله أعلم، انتهى كلامه.

وقال ابن المنيِّر: موضع المطابقة من الترجمة وسط الآية وهي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] وهي أصل في جواز أكل المُخارجة؛ ولهذا ذكر في الترجمة: "النِّهد"، والله أعلم، انتهى.

قوله: (والنهد والاجتماع على الطعام)، قال الحافظ

(1)

: ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي وحده، والنِّهد بكسر النون وسكون الهاء، تقدم تفسيره في أول الشركة حيث قال:"باب الشركة في الطعام والنهد"، وتقدم هناك بيان حكمه، انتهى.

وفي "تقرير الشيخ المكي"

(2)

: قوله: "والنهد" وجوازه من الآية المذكورة

قوله: (فما أتي. . .) إلخ، يعني: فجاء القوم كل واحد منهم بما عنده من السويق، فجمعنا السويق وأكلناه مع أن بعضنا كان أقلّ السويق من البعض، وبعضهم لم يكن عنده شيء فثبت النهد، انتهى.

قلت: وعلى ما أفاده الشيخ لا يرد ما أورده الحافظ إذ قال: ليس حديث سويد ظاهرًا في المراد من النهد. . .، إلى آخر ما ذكر، والبسط في هامش "اللامع".

(7 -‌

‌ باب الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة)

قال القسطلاني

(3)

: "المرقق" بتشديد القاف الأولى: الملين المحسَّن كالحوارى أو الموسع، و"الخوان" بكسر الخاء المعجمة وقال في "القاموس": الخوان كغراب وكتاب: ما يؤكل عليه الطعام كالإخوان، وقال

(1)

"فتح الباري"(9/ 529).

(2)

"لامع الدراري "(9/ 392، 393).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 179).

ص: 10

في "الكواكب": والأكل عليه من دأب المترفين وصنع الجبابرة؛ لئلا يفتقروا إلى التطأطؤ عند الأكل، انتهى.

قال العيني

(1)

في تفسير الخوان بعد ذكر ما تقدم عن القسطلاني: وليس فيما ذكر كله بيان هيئة الخوان، وهو طبق كبير من نحاس تحته كرسي من نحاس ملزوق به، طوله قدر ذراع يرص فيه الزباد، ويوضع بين يدي كبير من المترفين، ولا يحمله إلا اثنان فما فوقهما، ثم قال في شرح الحديث: قال ابن بطال: أكل المرقق جائز مباح، ولم يتركه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زهدًا في الدنيا وتركًا للتنعم وإيثارًا لما عند الله وغير ذلك، وكذلك الأكل على الخوان، وليس نفي أنس رضي الله عنه يردّ قول من روى أنه صلى الله عليه وسلم أكل على خوان، وأنه أكل شواء، وإنما أخبر كلٌّ بما علم، ومن علم حجة على من لم يعلم، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"

(2)

: قوله: "على خوان" هو ما له قوائم غير صغار، ثم إن عدم الأكل عليه إما أن يكون قصدًا أو اتفاقًا، فإن كان الأول لزم كراهته، وإن كان الثاني فلا ضير في الأكل على الخوان، إلا أنه لما كان من ديدن الجبابرة ههنا كان منهيًّا إذا كان على دأبهم، والحاصل: أن الأكل عليه بحسب نفس ذاته لا يربو على ترك الأولوية، فأما إذا لزم فيه التشبه باليهود أو النصارى كما هو في ديارنا كان مكروهًا تحريميًا، إلى أن قال: والخبز المرقق على هذا القياس، فإن مع كونه من دأب المترفين المرفهين يكون سبب الإكثار في الأكل للآكل، انتهى مختصرًا.

(8 -‌

‌ باب السويق)

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث سويد بن النعمان، وقد تقدم شرحه في "كتاب الطهارة"، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 396).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 3 - 5).

(3)

"فتح الباري"(9/ 534).

ص: 11

(9 -‌

‌ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمَّى له)

لأنه ربما يكون ذلك مما يعافه صلى الله عليه وسلم أو لا يجوز أكله؛ لأن الشرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها، وكانوا - أي: العرب - لا يحرمون شيئًا منها، وربما أتوا به مشويًّا أو مطبوخًا، فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه، انتهى ملتقطًا من "القسطلاني" و"الفتح"، كذا في هامش الهندية

(1)

.

(10 -‌

‌ باب طعام الواحد يكفي الاثنين)

أورد فيه حديث أبي هريرة: "طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة"، واستشكل الجمع بين الترجمة والحديث، فإن قضية الترجمة مرجعها النصف وقضية الحديث مرجعها الثلث ثم الربع، وأجيب بأنه أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ورد ليس على شرطه، وبأن الجامع بين الحديثين أن مطلق طعام القليل يكفي الكثير، لكن أقصاه الضعف، وقال المهلب: المراد بهذه الأحاديث الحضُّ على المكارم والتقنع بالكفاية، يعني: وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة. . .، إلى آخر ما بسط الحافظ

(2)

.

وقال العيني

(3)

تحت ترجمة الباب: وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه ابن ماجه بإسناده من حديث عمر مرفوعًا، وروى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا جميعًا ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين"، انتهى مختصرًا.

وقال القسطلاني

(4)

: أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ليس على شرطه رواه مسلم، ثم ذكر ما تقدم عن الحافظين ابن حجر والعيني.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 62)، انظر:"إرشاد الساري"(12/ 184)، و"فتح الباري"(9/ 534).

(2)

"فتح الباري"(9/ 535).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 402، 403).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 187).

ص: 12

(11 -‌

‌ باب المؤمن يأكل في معِى واحد)

المعى بكسر العين مقصورًا، والجمع أمعاء ممدود، وهي المصارين، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: وحكى القاضي عياض عن أهل الطب والتشريح: أنهم زعموا أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها، وهي كلها رقاق، ثم ثلاثة غلاظ، وذكر العيني أسماءها.

(12 -‌

‌ باب المؤمن يأكل في معى واحد. . .) إلخ

هذه الترجمة مكررة في جميع النسخ الهندية والمصرية من المتون والشروح، غير الكرماني ففيها لم تتكرر هذه الترجمة.

قال القسطلاني

(3)

: كذا ثبت لأبي ذر وسقط ذلك للباقين، وهو أولى إذ لا فائدة في إعادته، انتهى. وبه جزم الحافظان ابن حجر والعيني.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه لما ثبتت الترجمة مكررة في أكثر النسخ كما تقدم، فحينئذ هو من الأصل الثاني والعشرين من أصول التراجم، والغرض من الترجمة الأولى التحريض على تقليل الطعام للمؤمن، والغرض من الترجمة الثانية التنبيه على أن المؤمن ليس من شأنه إلا أن يأكل لسدِّ الجوع، فإنه اختلف في معنى الحديث على عشرة أقوال بسطت في "الأوجز"

(4)

، السابع منها ما قال القرطبي: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع والنفس والعين والفم والأذن والأنف وشهوة الجوع، وهي الضرورية يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع، انتهى.

ولا يبعد أيضًا أن يكون الترجمة من الأصل الرابع والخمسين كما

(1)

"فتح الباري"(9/ 537).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 403).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 188).

(4)

"أوجز المسالك"(16/ 304 - 307).

ص: 13

نبهت عليه في "مقدمة اللامع" في هذا الفصل، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

وذكر المعاني العديدة للحديث بالبسط في هامش النسخة الهندية

(2)

فارجع إليه لو شئت.

وأفاد صاحب "الفيض"

(3)

: أن المراد من معىً تدويرة، وفي الطب أنه ستة تدويرات، سَمَّوا كلًّا منها باسم، فأين تلك السابعة؟! وقد أجاب عنه الطحاوي في "مشكله": أن السابعة هي المعدة، أطلق عليها معىً تغليبًا. وحاصل الحديث أن الكافر يأكل الكثير والمؤمن القليل، انتهى.

(13 -‌

‌ باب الأكل متكئًا)

أي: ما حكمه؟ وإنما لم يجزم به لأنه لم يأت فيه نهي صريح، واختلف في صفة الاتكاء فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أيّ صفة كان، وقيل: أن يميل على أحد شقيه، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وقال صاحب "التوشيح" بعد ذكر الأقوال الثلاثة: والأول هو المعتمد وهو شامل للقولين، والحكمة في تركه أنه من فعل ملوك العجم، وأنه أدعى إلى كثرة الأكل، انتهى من هامش "الهندية"

(5)

.

قال الحافظ

(6)

: قال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك، بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، قال: ومعنى الحديث: إني لا أقعد متكئًا على الوطاء عند الأكل فعل

(1)

"لامع الدراري"(9/ 394).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 67).

(3)

"فيض الباري"(5/ 628).

(4)

"فتح الباري"(9/ 541).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 70).

(6)

"فتح الباري"(9/ 541).

ص: 14

من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفرًا، وفي حديث أنس:"أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرًا وهو مقع"، وفي رواية:"وهو محتفز"، والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن، قلت: وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابي لذلك. . .، إلى آخر ما ذكر الحافظ من حكم الاتكاء وعلة النهي.

وفي "الفيض"

(1)

: ونبَّه الخطابي على أن المراد من الاتكاء الجلوس مطمئنًا بأي نحو كان.

(14 -‌

‌ باب الشواء)

بكسر المعجمة وبالمد معروف، قاله الحافظ

(2)

.

وفي "فيض الباري"

(3)

: أي: اللحم المشوي، ولعل الكباب أيضًا داخل فيه، انتهى.

ثم قال تحت حديث الباب: أشار ابن بطال إلى أن أخذ الحكم للترجمة ظاهر من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهوى ليأكل، ثم لم يمتنع إلا لكونه ضبًّا، فلو كان غير ضبّ لأكل، انتهى.

(15 -‌

‌ باب الخزيرة)

بخاء معجمة مفتوحة ثم زاي مكسورة وبعد التحتانية الساكنة راء، هي ما يتخذ من الدقيق على هيئة العصيدة، لكنه أرقّ منها، قاله الطبري، وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم. . .، إلى آخر ما ذكر الأقوال في تفسيره

(4)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: قوله: "الخزيرة من النخالة" يعني بها الدقيق من غير أن ينخل وينقى لا أنها النخالة خالصة. وقوله:

(1)

"فيض الباري"(5/ 629).

(2)

"فتح الباري"(9/ 542).

(3)

"فيض الباري"(5/ 630).

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 543).

(5)

"لامع الدراري"(9/ 394).

ص: 15

"الحريرة من اللبن" يقال: إنه يلقى فيه اللبن حقيقة، وقيل: المراد باللبن الدقيق نفسه؛ لأن رقيقه يشبه صورته صورة اللبن، انتهى.

(16 -‌

‌ باب الأقط)

بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن بعدها طاء مهملة، وهو جبن اللبن المستخرج زبده، وقد تقدم تفسيره في "باب زكاة الفطر" وغيره، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي هامش النسخة "الهندية"

(2)

: قال في "القاموس": الأَقْطُ، مثلثة ويحرك، ككتف ورجل وإبل: شيء يتخذ من المخيض الغنمي، انتهى.

(17 -‌

‌ باب السلق والشعير)

بكسر السين المهملة: نوع من البقل معروف، فيه تحليل لسُدَدِ الكبد، ومنه صنف أسود يعقل البطن، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(18 -‌

‌ باب النهش وانتشال اللحم)

قال العلامة القسطلاني

(4)

: النهش بفتح النون وسكون الهاء بعدها سين مهملة في الفرع وأصله، وبالمعجمة في غيرهما، والانتشال: استخراج اللحم من المرق قبل نضجه، واسم ذلك اللحم: النشيل. والنهس: القبض عليه بالفم وإزالته من العظم أو غيره بعد الانتشال، وقيل: النهس بالمهملة: الأخذ بمقدم الفم، وبالمعجمة بالأضراس، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الغرض من هذا الباب ندب النهس إشارة إلى رواية الترمذي

(5)

: "انهشوا اللحم نهشًا فإنه أهنأ وأمرأ".

(1)

"فتح الباري"(9/ 544).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 78).

(3)

"فتح الباري"(9/ 545).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 198).

(5)

"سنن الترمذي"(رقم 1835).

ص: 16

وقال الحافظ

(1)

: لعل البخاري أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف الحديث الذي سأذكره في الباب الذي يلي الباب الذي بعد هذا في النهي عن قطع اللحم بالسكين، انتهى.

قلت: وهذا ليس بواضح؛ بل هذا الغرض الذي ذكره الحافظ ههنا هو الغرض من الباب الآتي أعني "‌

‌باب قطع اللحم بالسكين

"، فأشار الإمام البخاري بهذا الباب إلى تضعيف ما أخرجه أبو داود

(2)

من حديث عائشة مرفوعًا: "لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم" الحديث، وهذا الحديث ضعيف جدًّا، وقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: قال أحمد: ليس بصحيح، وأبو معشر: ليس بشيء، كما في هامش أبي داود.

قال العيني

(3)

: قال النسائي: أبو معشر له أحاديث مناكير، منها هذا، وقال ابن عدي: لا يتابع عليه وهو ضعيف، انتهى.

(19 -‌

‌ باب تعرق العضد)

وهو العظم الذي بين الكتف والمرفق.

قال العيني

(4)

في شرح قوله: "تعرق" على وزن تفعل بالتشديد أي: أكل ما كان من اللحم على الكتف، انتهى من كلام العيني.

(20 - باب قطع اللحم بالسكين)

تقدم الكلام عليه في "باب النهش".

(21 -‌

‌ باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا قط)

أي: مباحًا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة

(1)

"فتح الباري"(9/ 545).

(2)

"سنن أبي داود"(رقم 3774).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 416).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 413).

ص: 17

لم يكره، قال: لأن صنعة الله لا تعاب وصنعة الآدميين تعاب.

قلت: والذي يظهر التعميم فإن فيه كسر قلب الصانع.

قال النووي: من آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج، ونحو ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(22 -‌

‌ باب النفخ في الشعير)

أي: بعد طحنه لتطير منه قشوره، وكأنه نبَّه بهذه الترجمة على أن النهي عن النفخ في الطعام خاص بالطعام المطبوخ، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وتعقبه العلامة العيني

(3)

بقوله: قلت: لا نسلم ذلك، بل المراد أن الشعير إذا طحن ينفخ فيه حتى يذهب عنه القشور، ثم يستعمل خبزًا أو طعامًا أو سويقًا أو غير ذلك، ولا ينخل بالمنخل، ونفس معنى الحديث يدل على ذلك، انتهى.

قلت: لا منافاة بين ما أفاده الحافظ في الغرض من الترجمة وبين الغرض الذي ذكره العلامة العيني، فالترجمة يحتمل الغرضين، وما أفاده العيني من الغرض أيضًا وجيه، فسيأتي في الباب الآتي:"هل كان لكم في عهد رسول الله مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلًا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله" الحديث.

(23 -‌

‌ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون)

أي: في زمانه، قاله الحافظان

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(9/ 547، 548).

(2)

"فتح الباري"(9/ 548).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 416).

(4)

"فتح الباري"(9/ 549)، و"عمدة القاري"(14/ 417).

ص: 18

(24 -‌

‌ باب التلبينة)

قال الكرماني: تفعيلة من اللبن بالموحدة، انتهى.

وقال الحافظ: ويقال بلا هاء، انتهى. وقال أيضًا: هي بفتح المثناة وسكون اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم نون: طعام يتخذ من دقيق أو نخالة، وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقًا نضيجًا لا غليظًا نيئًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفيه: وفي موضع آخر: قال الأصمعي: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل، قال غيره: أو لبن، سميت تلبينة تشبيهًا لها باللبن في بياضها ورقتها، وقال ابن قتيبة: وعلى قول من قال: يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة اللبن لها. . .، إلى آخر ما ذكر، وسيأتي في "كتاب الطب""باب التلبينة للمريض".

(25 -‌

‌ باب الثريد)

بفتح المثلثة وكسر الراء معروف، وهو أن يثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم، ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين، وربما كان أنفع وأقوى من نفس اللحم النضيج إذا ثرد بمرقته، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(26 -‌

‌ باب شاة مسموطة والكتف والجنب)

المسموطة التي ينتف شعر جلدها ثم تشوى، وهو مأكل المترفين، وإنما كانت عادتهم أن يأخذوا جلد الشاة ينتفعوا به، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

قال العلامة العيني

(4)

: والأولان منها مذكوران في حديثي الباب، وأما الجنب فلا ذكر له، وقال بعضهم (أي: الحافظ): وأما الجنب فأشار

(1)

"فتح الباري"(9/ 550، 10/ 146).

(2)

"فتح الباري"(9/ 551).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 209).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 424).

ص: 19

به إلى حديث أم سلمة "أنها قربت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبًا مشويًّا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة" أخرجه الترمذي

(1)

وصححه، انتهى.

ثم تعقبه العيني، والتعقب عندي ليس بصحيح، ثم قال: والأوجه أن يقال: ذكر الجنب استطرادًا وإلحاقًا للجنب بالكتف والشاة المسموطة.

وقال أيضًا في شرح الحديث: قال شارح "التراجم": مقصوده جواز أكل المسموط، ولا يلزم من كونه لم ير شاة مسموطة أنه لم ير عضوًا مسموطًا؛ فإن الأكارع لا تؤكل إلا كذلك، وقد أكلها، انتهى.

(27 -‌

‌ باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام. . .) إلخ

قال العيني

(2)

: أراد البخاري بهذا الردَّ على الصوفية ومن يذهب إلى مذهبهم في قولهم: إنه لا يجوز ادخار طعام لغد، وأن المؤمن الكامل الإيمان لا يستحق اسم الولاية حتى يتصدق بما يفضل عن شبعه، ولا يترك طعامًا لغد، ولا يصبح عنده شيء من عين ولا عرض ويمسي كذلك، ومن خالف ذلك فقد أساء الظن بربّه، وفي هذه الأحاديث كفاية في الردّ على من زعم ذلك، انتهى مختصرًا.

قلت: وحكى الحافظ في "الفتح"

(3)

الغرضَ المذكورَ عن ابن بطال، وتقدم أيضًا شيء من الكلام على هذا الباب في "باب حبس الرجل قوت سنة على أهله. . ." إلخ.

(28 -‌

‌ باب الحيس)

بالحاء المفتوحة والسين المهملتين بينهما تحتية ساكنة، وهي تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدًا، ثم يندر نواه، وربما جعل فيه سويق،

(1)

"سنن الترمذي"(رقم 1929).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 424، 425).

(3)

انظر "فتح الباري"(9/ 553).

ص: 20

وقد حاسه يحيسه، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(29 -‌

‌ باب الأكل في إناء مفضض)

أي: جعل فيه الفضة بالتضبيب أو بالخلط أو بالطلاء، قاله القسطلاني

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: والأكل في جميع الآنية مباح إلا إناء الذهب والفضة، واختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك إما بالتضبيب وإما بالخلط، وحديث حذيفة الذي ساقه في الباب فيه النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، ويؤخذ منع الأكل بطريق الإلحاق، قال مغلطاي: لا يطابق الحديث الترجمة إلا إن كان الإناء الذي سقي فيه حذيفة كان مضبّبًا؛ فإن الضبة موضع الشفة عند الشراب، وأجاب الكرماني بأن لفظ "مفضض" وإن كان ظاهرًا فيما فيه فضة لكنه يشمل ما إذا كان متخذًا كله من فضة، انتهى.

(30 -‌

‌ باب ذكر الطعام)

قال ابن بطال: معنى هذه الترجمة إباحة أكل الطعام الطيب، وأن الزهد ليس في خلاف ذلك؛ فإن في تشبيه المؤمن بما طعمه طيب، وتشبيه الكافر بما طعمه مرّ ترغيبًا في أكل الطعام الطيب والحلو، قال: وإنما كره السلف الإدمان على أكل الطيبات خشية أن يصير ذلك عادة، فلا تصبر النفس على فقدها، انتهى من "الفتح"

(4)

.

والأوجه عندي في غرض الترجمة: أنه أراد بذلك أن ذكر الأطعمة المختلفة ليس بداخل في الحرص والشره كما هو ظاهر مؤدى لفظ الترجمة، والله أعلم، ويؤيده قول الحافظ: ذكر فيه ثلاثة أحاديث: أحدها حديث أبي موسى، والغرض منه تكرار ذكر الطعم فيه، والطعام يطلق بمعنى الطعم، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 212).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 214).

(3)

"فتح الباري"(9/ 554، 555).

(4)

"فتح الباري"(9/ 555).

ص: 21

وقريب منه ما قال العلامة السندي

(1)

: قوله: "باب ذكر الطعام" أي: لا يكره ذكر الطعام في المجلس وعند ذكر العلوم، ولا يستدل به على حقارة طبع صاحبه أو على حاجته إليه، والله أعلم، انتهى.

(31 -‌

‌ باب الأدم)

بضم الهمزة والدال المهملة ويجوز إسكانها جمع إدام، وقيل: هو بالإسكان المفرد، وبالضم الجمع.

ثم قال الحافظ

(2)

: وقد اختلف الناس في الأدم، فالجمهور أنه ما يؤكل به الخبز مما يطيبه سواء كان مرقًا أم لا، واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف الاصطناع، وسيأتي بسط ذلك في "كتاب الأيمان والنذور"، انتهى من "الفتح".

(32 -‌

‌ باب الحلواء والعسل)

كذا في النسخ الهندية ممدودًا، وفي بعض النسخ:"الحلوى"، وهما لغتان على قول، وعند الأصمعي بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف، وهو كل حلو يؤكل. وقال الخطابي: اسم الحلواء لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وفي "المخصص" لابن سيده: هي ما عولج من الطعام بحلاوة، وقد تطلق على الفاكهة، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(33 -‌

‌ باب الدباء)

بضم الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة ممدودًا، ويجوز القصر، وهو القرع، وقيل: خاص بالمستدير منه، كذا في الحاشية "الهندية" عن "الفتح"

(4)

.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(3/ 298).

(2)

"فتح الباري"(9/ 556).

(3)

"فتح الباري"(9/ 557).

(4)

"فتح الباري"(9/ 525)، "صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 116).

ص: 22

(34 -‌

‌ باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه)

قال الكرماني: وجه التكلف من حديث الباب أنه حصر العدد بقوله: خامس خمسة، ولولا تكلفه لما حصر، وسبق إلى نحو ذلك ابن التِّين، وزاد أن التحديد ينافي البركة، ولذلك لما لم يحدد أبو طلحة حصلت في طعامه البركة حتى وسع العدد الكثير، انتهى من "الفتح"

(1)

. هكذا قال العيني وتبعه القسطلاني.

واستدل المصنف لهذه المسألة، أعني: التكلف للضيف في "كتاب الأدب" بحديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء، وهو ظاهر في الدلالة على المسألة.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

تحت ترجمة الباب: ودلالة الرواية عليه من حيث إنه جعل في طعامهم اللحم وهو غاية في التكلف، انتهى.

وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أوجه مما قاله الشرَّاح، ولا يبعد أن يقال: إن تكلفه يظهر من صنيعه إذ قال: اصنع لي طعامًا أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يشير إلى أنه أراد أطيب اللحم.

وفي "التيسير" بعد ذكر كلام الكرماني والعيني: مي توا كَفت كه إين مرد در إذن ششم كس تكلف كرده أكَرجه كَفته أند "طعام الواحد يكفي الاثنين" ليكن خالي أز تكلف نيست، انتهى. فتأمل فإنه بعيد في بادئ الرأي؛ لأنه يدل أنه أذن السادس بالتكلف وهو ليس بتكلف في الطعام.

(1)

"فتح الباري"(9/ 559)، و"عمدة القاري"(14/ 434)، و"إرشاد الساري"(12/ 224).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 398، 399).

ص: 23

ثم اعلم أنه لا بأس في التكلف للضيوف والإخوان لرواية الشيخين: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" الحديث.

وفي "الأوجز" في حديث أبي الهيثم إذ ذبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة: لا يدخل ذلك في التكلف المكروه، بل هو داخل في إكرام الضيف المأمور به.

قال النووي: قد كره جماعة من السلف التكلفَ للضيف، وهو محمول على ما يشقّ على صاحب البيت مشقة ظاهرة؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وإكمال السرور بالضيف، وأما فعل الأنصاري فليس مما يشق عليه، بل لو ذبح أغنامًا بل جمالًا في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كان مسرورًا بذلك مغبوطًا فيه. انتهى من هامش "اللامع"، وسيأتي في "كتاب الأدب""باب صنع الطعام والتكلف للضيف"، وسيأتي هناك الجواب عما في الترجمتين من التكرار.

(35 -‌

‌ باب من أضاف رجلًا إلى طعام وأقبل هو على عمله)

قال الحافظ

(1)

: أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يتحتم على الداعي أن يأكل مع المدعو، وقال ابن بطال: لا أعلم في اشتراط أكل الداعي مع الضيف إلا أنه أبسط لوجهه وأذهب لاحتشامه، فمن فعل فهو أبلغ في قِرَى الضيف، ومن ترك فجائز، فقد تقدم في أضياف أبي بكر أنهم امتنعوا أن يأكلوا حتى يأكل معهم وأنه أنكر ذلك، انتهى.

وزاد القسطلاني

(2)

: والذي يظهر لي أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص على ما لا يخفى، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(9/ 562).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 224).

ص: 24

(36 -‌

‌ باب المرق)

قال العلامة العيني

(1)

: وترجم به إشارة إلى أن له فضلًا على الطعام الثخين، ولهذا كان السلف يأكلون الطعام الممرق، وفي مسلم

(2)

من حديث أبي ذر رفعه: "إذا طبخت قدرًا فأكثر مرقها" وفيه: "فليطعم جيرانه"، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكثار المرق بقصد التوسعة على الجيران، والأمر فيه محمول على الندب، انتهى.

(37 -‌

‌ باب القديد)

قال العلامة العيني

(3)

: وترجم به إشارة إلى أن القديد من طعام النبي صلى الله عليه وسلم وطعام السلف، انتهى.

وفي هامش "الهندية"

(4)

عن "النهاية": القديد: اللحم المملوح المجفَّف في الشمس، فعيل بمعنى مفعول، انتهى. وهكذا في "المجمع"

(5)

.

وفي "الفيض"

(6)

: كانوا يقدّون اللحم ثم يلقونه في الشمس حتى ييبس، ثم يدخرونه ويأكلونه متى احتاجوا إليه، انتهى.

(38 -‌

‌ باب من نَاوَل أو قدّم إلى صاحبه على المائدة شيئًا)

قال صاحب "الفيض"

(7)

في شرح ترجمة الباب: يعني: أن الناس إذا قعدوا على طعام حلقًا حلقًا فيجوز لأصحاب حلقة واحدة أن يناول أحدهما

(1)

"عمدة القاري"(14/ 436).

(2)

"صحيح مسلم"(رقم 2526) واللفظ لغيره.

(3)

"عمدة القاري"(14/ 437).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 121).

(5)

"مجمع بحار الأنوار"(5/ 638).

(6)

"فيض الباري"(5/ 638).

(7)

"فيض الباري"(5/ 639).

ص: 25

الآخر مما عندهم من الطعام، ولا يجوز لصاحب حلقة أن يناوله لصاحب حلقة أخرى إلا أن يستأذن المضيف، انتهى.

ذكر فيه حديث أنس في قصة الخياط وفيه: وقال ثمامة عن أنس: "فجعلت أجمع الدباء بين يديه"، وصله قبل بابين من طريق ثمامة، وقد تقدم في "باب من تتبع حوالي القصعة" أن في رواية حميد عن أنس:"فجعلت أجمعه فأدنيه منه" وهو المطابق للترجمة. . .، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

من الكلام على المطابقة بين الحديث والترجمة.

(39 -‌

‌ باب الرطب بالقثاء)

قال في "القاموس": القثاء بالكسر والضم معروف، أو هو الخيار، والمراد أكلهما معًا، قاله القسطلاني

(2)

.

ثم قال في شرح الحديث: وإنما جمع صلى الله عليه وسلم بينهما ليعتدلا، فإن كل واحد منهما مصلح للآخر مزيل لأكثر ضرره، فالقثاء مسكن للعطش منعش للقوى بشمِّه لما فيه من العطرية مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة غير سريع الفساد، والرطب حار في الأولى، رطب في الثانية يقوي المعدة الباردة، لكنه معطش سريع التعفن، فقابل الشيء البارد بالمضاد له، إلى آخر ما ذكر فيه.

(40 -‌

‌ باب الحشف)

كذا في النسخة الهندية، وفي نسخ الشروح الثلاثة "باب" بغير ترجمة.

قال القسطلاني: "باب" من غير ترجمة ولم يزد عليه.

وقال العيني

(3)

: كذا وقع عند جميع الرواة مجردًا، وكانت عادته أن يذكر مثل هذا كالفصل لما قبله، ويكون المذكور بعده ملحقًا به لمناسبة بينهما، ولا مناسبة أصلًا بين الحديث المذكور بعده وبين الحديث قبله،

(1)

"فتح الباري"(9/ 564).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 227).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 439).

ص: 26

ولهذا اعترض الإسماعيلي بأنه ليس فيه للرطب والقثاء ذكر، ولم يذكر لفظ الباب، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: قوله: "باب" كذا هو في رواية الجميع بغير ترجمة، وسقط عند الإسماعيلي، فاعترض بأنه ليس فيه للرطب والقثاء ذكر، والذي أظنه أنه أراد أن يترجم به للتمر وحده أو لنوع منه، انتهى.

وفي هامش النسخة الهندية

(2)

عن "الخير الجاري": هو كالفصل لما قبله حيث ذكر فيما قبله

(3)

وههنا ذكر التمرة، والمناسبة بينهما ظاهر، انتهى.

قلت: ولم يذكر الحافظان ولا القسطلاني ما في النسخة الهندية من قوله: "باب الحشف"، وكذا لم يتعرضوا لترجمة الباب.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: "باب الحشف"، أراد بذلك دفع ما يتوهم من باب التكلف أنه لعله لا بد له منه فأراد ردَّه بإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالحاضر عنده ولو حشفًا، فعلم أن التكلف ليس أمرًا لا بد له منه، انتهى.

قلت: والحشف هو الفاسد اليابس من التمر، وقيل: الضعيف الذي لا نوى له، كما قاله العيني وغيره.

(41 -‌

‌ باب الرطب والتمر)

قال العلامة العيني

(5)

: أشار به إلى أن التمر له فضل على غيره من الأقوات؛ فلذلك ذكر قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} الآية [مريم: 25] على

(1)

"فتح الباري"(9/ 564، 565).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 124).

(3)

كذا في الهامش، والظاهر أن فيه سقوطًا وهو لفظ:"التمر"، (ز).

(4)

"لامع الدراري"(9/ 400).

(5)

"عمدة القاري"(14/ 441).

ص: 27

ما نذكره إن شاء الله تعالى، وقد روى الترمذي

(1)

من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعًا: "بيت لا تمر فيه جياع أهله"، وقد وقع في كتاب ابن بطال:"باب الرطب بالتمر" بالباء الموحدة، وليس في حديث الباب مثل لذلك، انتهى.

(42 -‌

‌ باب أكل الجمار)

بضم الجيم وتشديد الميم، ذكر فيه حديث ابن عمر في النخلة، وقد تقدم شرحه في "كتاب العلم" مستوفى، وتقدم الكلام على خصوص الترجمة بأكل الجمار في "كتاب البيوع"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(43 -‌

‌ باب العجوة)

بفتح العين المهملة وسكون الجيم: نوع من التمر معروف، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قال العيني

(4)

: أي: باب فضل العجوة على غيرها من التمر، وفي الترغيب على أكلها، وهي أجود تمر المدينة، ويسمونه لينة، وقيل: هي أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد، وذكر ابن التِّين أن العجوة غرس النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وفي هامش الهندية

(5)

: ودفع السحر والسم من خاصية ذلك النوع، أو من دعائه صلى الله عليه وسلم، أي: بالبركة، أي: من أكله في الصباح قبل أن يطعم شيئًا، قاله الطيبي. قال الكرماني: هو ببركة دعوته لا من خاصيته، وتخصيص عجوة المدينة وعدد السبع توقيفية من باب عدد الركعات، انتهى من "المجمع".

(1)

"سنن الترمذي"(ح: 1815).

(2)

"فتح الباري"(9/ 569).

(3)

"فتح الباري"(9/ 569).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 445).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 134).

ص: 28

ولا نعلم نحن عن حكمها فيجب الإيمان بها، انتهى من كلام النووي.

(44 -‌

‌ باب القران في التمر)

بكسر القاف وتخفيف الراء، أي: ضم تمرة إلى أخرى إذا أكل مع غيره، ولأبي ذر:"الإقران" من أقرن، والمشهور استعماله ثلاثيًا، وسقط له:"في التمر"، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وبسط الحافظ الكلام على تحقيق لفظ الإقران لغة ورواية، وقال

(2)

: وقد أوضحت في "كتاب الحج" أن اللغة الفصحى بغير ألف، قال ابن الأثير في "النهاية": إنما وقع النهي عن القران؛ لأن فيه شرهًا وذلك يزري بصاحبه، أو لأن فيه غبنًا برفيقه، وقيل: إنما نهى عنه لما كانوا فيه من شدة العيش وقلة الشيء، وكانوا مع ذلك يواسون من القليل، وإذا اجتمعوا ربما آثر بعضهم بعضًا، انتهى مختصرًا.

وقد بسط الحافظ الكلام على حكم القران وذكر الاختلاف فيه.

(45 -‌

‌ باب بركة النخلة)

هكذا وقع في النسخة الهندية بتقديم هذا الباب على الباب الآتي، أي: "‌

‌باب القثاء

"، وفي نسخ الشروح الثلاثة بعكس الترتيب.

(46 - باب القثاء)

قال العلامة العيني

(3)

: وهذه الترجمة زائدة لا فائدة تحتها؛ لأنه ذكر عن قريب "باب الرطب بالقثاء"، وذكر الحديث الذي ذكره في هذا الباب، انتهى. وسكت الحافظ عن ذلك وكذا العلامة القسطلاني.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 235).

(2)

"فتح الباري"(9/ 570 - 572).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 448).

ص: 29

(عجيبة) ذكرها الإمام أبو داود في "باب صدقة الزرع" من "كتاب الزكاة": قال أبو داود

(1)

: شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرًا، ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على مثل عدلين، انتهى.

(47 -‌

‌ باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة)

أي: في حالة واحدة، ولعل البخاري لمح إلى تضعيف حديث أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء - أو بقعب - فيه لبن وعسل فقال: أدمان في إناء لا آكله ولا أحرمه" أخرجه الطبراني وفيه راو مجهول، قاله الحافظ

(2)

.

وقال في شرح الحديث: ووقع في رواية الطبراني كيفية أكله لهما، فأخرج في "الأوسط" من حديث عبد الله بن جعفر قال:"رأيت في يمين النبي صلى الله عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبًا وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة، وفي سنده ضعف، وأخرج فيه وهو في "الطب" لأبي نعيم من حديث أنس: "كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره فيأكل الرطب بالبطيخ"، وأخرج النسائي عن أنس: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخربز" وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي: نوع من البطيخ الأصفر، وقد تكبر القثاء فتصفر من شدة الحر فتصير كالخربز، كما شاهدته كذلك في الحجاز، وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر، واعتل بأن في الأصفر حرارة كما في الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ حرارة الآخر، والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة، والله أعلم، انتهى من "الفتح".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"

(3)

: البطيخ هو المشهور

(1)

انظر: "بذل المجهود"(6/ 412).

(2)

"فتح الباري"(9/ 573).

(3)

"الكوكب الدري"(3/ 23، 24).

ص: 30

فينا بـ "خربزه"، وأما ما قال بعضهم في معناه أنه "التربز" فهو ليس بسديد، ومنشأ توهمه ما ورد في بعض الروايات أنه كان يميت بحر الرطب برده، والجواب عنه أن المراد بالحر والبرد ثمة حرارة الحس واللمس وبرودته لا حرارة المزاج وبرودته، فإن الحالي من الأشياء يحسّ كأنه حار، ولا كذلك البطيخ فإنه يتبرد بتركه مقطوعًا، وأما ما أجاب بعضهم بأنه كان نيًّا غير نضيج فيأبى عنه أنه لا يؤكل عادة، انتهى.

وفي "هامشه": مال القاري في "شرح الشمائل" إلى أن المراد به الأخضر المشهور عندنا بـ "تربوز"، وقال: هو الأظهر لأنه رطب بارد، انتهى. وإليه مال غير واحد من الشرَّاح، ومال الحافظ في "الفتح" إلى الأول وتعقب الثاني وهو مختار الشيخ، وهو الأوجه لموافقة أهل اللغة فإنهم فسروه بالخربز، انتهى.

وأما حكم مسألة الباب فقال الحافظ

(1)

: قال النووي: في حديث الباب جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معًا، وجواز أكل طعامين معًا، ويؤخذ منه جواز التوسع في المطاعم، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك، وما نقل عن السلف من خلاف هذا محمول على الكراهة منعًا لاعتياد التوسع والترفه لغير مصلحة دينية، انتهى.

(48 -‌

‌ باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة. . .) إلخ

أي: إذا احتيج إلى ذلك لضيق الطعام أو مكان الجلوس عليه، قاله الحافظ

(2)

.

وقال أيضًا في شرح الحديث: قال ابن بطال: الاجتماع على الطعام من أسباب البركة، قال: وإنما أدخلهم عشرة عشرة؛ لأنها كانت قصعة واحدة، ولا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة

(1)

"فتح الباري"(9/ 573).

(2)

"فتح الباري"(9/ 574).

ص: 31

الطعام، فجعلهم عشرة عشرة، وليس في الحديث المنع عن اجتماع أكثر من عشرة على الطعام، انتهى.

(49 -‌

‌ باب ما يكره من الثوم والبقول)

أي: التي لها رائحة كريهة، وهل النهي عن دخول المسجد لآكلها على التعميم أو على من أكل التي منها دون المطبوخ؟ وقد تقدم بيان ذلك في "كتاب الصلاة"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: وظاهر هذه الأحاديث شامل للنِّيِّ والمطبوخ، لكن عند أبي داود

(3)

من حديث علي: "نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخًا" لأنه حينئذ تزول رائحته الكريهة لا سيما البصل، انتهى.

(50 -‌

‌ باب الكباث)

بفتح الكاف وتخفيف الموحدة وبعد الألف مثلثة.

قوله: (وهو ورق الأراك) كذا وقع في رواية أبي ذر عن مشايخه، وقال: كذا في الرواية والصواب: "تمر الأراك"، انتهى. ووقع للنسفي "ثمر الأراك" وللباقين على الوجهين. وقال الكرماني: وقع في نسخة البخاري: "وهو ورق الأراك"، قيل: وهو خلاف اللغة، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(4)

.

(51 -‌

‌ باب المضمضة بعد الطعام)

سقط الباب لغير أبي ذر، انتهى من "القسطلاني"

(5)

.

قال العلامة العيني

(6)

تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة،

(1)

"فتح الباري"(9/ 575).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 240).

(3)

"سنن أبي داود"(ح: 3828).

(4)

"فتح الباري"(9/ 576).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 241).

(6)

"عمدة القاري"(14/ 452).

ص: 32

وهذا الحديث بعين هذا الإسناد والمتن مع بعض اختلاف فيه بزيادة ونقصان قد مر في "كتاب الأطعمة" في "باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] "، انتهى.

(52 -‌

‌ باب لعق الأصابع ومصّها. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

: أي: استحبابه، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: قوله: (قبل أن تمسح. . .) إلخ، كذا قيده بالمنديل، وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرق الحديث كما أخرجه مسلم عن جابر بلفظ:"فلا يمسح يده بالمنديل. . ." إلخ، لكن حديث جابر المذكور في الباب الذي يليه صريح في أنهم لم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدل على أنهم لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها، فيحمل حديث النهي على من وجد، وأما قوله في الترجمة:"ومصّها" فيشير إلى ما وقع في بعض طرقه عن جابر أيضًا، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سفيان عنه بلفظ:"إذا طعم أحدكم فلا يمسح يده حتى يمصّها"، وذكر القفال في "محاسن الشريعة": أن المراد بالمنديل هنا المنديل المعدّ لإزالة الزهومة لا المنديل المعدّ للمسح بعد الغسل، انتهى.

وقال أيضًا في فوائد الحديث: وفي الحديث ردٌّ على من كره لعق الأصابع استقذارًا، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل؛ لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه، قال الخطابي: عاب قوم أفسد عقلَهم الترفُّهُ فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح؛ كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، إلى أن قال: ووقع في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني في "الأوسط" صفة لعق الأصابع ولفظه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل" الحديث، وفيه: "ثم رأيته يلعق أصابعه

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 242).

(2)

"فتح الباري"(9/ 577 - 579).

ص: 33

الثلاث: الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام"، قال شيخنا في "شرح الترمذي": كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثًا لأنها أطول، انتهى مختصرًا.

(53 -‌

‌ باب المنديل)

ترجم له ابن ماجه: "مسح اليد بالمنديل"، كذا في "الفتح"

(1)

. وفيه تحت الحديث المذكور في الباب السابق: وفي الحديث استحباب مسح اليد بعد الطعام، قال عياض: محله فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غمر ولُزوجة مما لا يذهبه إلا الغسل؛ لما جاء في الحديث من الترغيب في غسله والحذر من تركه، وهو ما أخرجه أبو داود

(2)

عن أبي هريرة رفعه: "من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنّ إلا نفسه"، انتهى.

(54 -‌

‌ باب ما يقول إذا فرغ من طعامه)

قال ابن بطال: اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام، ووردت في ذلك أنواع، يعني: لا يتعين شيء منها، كذا في "الفتح"

(3)

. وفيه تحت حديث الباب: ووقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين"، ولأبي داود والترمذي من حديث أبي أيوب:"الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجًا"، انتهى.

(55 -‌

‌ باب الأكل مع الخادم)

قال القسطلاني

(4)

: أي: للتواضع ونفي الكبر سواء كان الخادم حرًّا أو رقيقًا ذكرًا أو أنثى إذا جاز له النظر إليه، انتهى.

وهكذا في "الفتح"، قلت: والمقصود بيان الأولوية.

(1)

"فتح الباري"(9/ 579).

(2)

"سنن أبي داود"(رقم 3852).

(3)

"فتح الباري"(9/ 580).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 246)، و"فتح الباري"(9/ 581).

ص: 34

(56 -‌

‌ باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر)

(فيه: عن أبي هريرة. . .) إلخ، هذا الحديث من الأحاديث المعلقة التي لم تقع في هذا الكتاب موصولة، وقد أخرجه المصنف في "التاريخ" والحاكم في "المستدرك" ولفظه:"إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر"، قال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر.

وقال الكرماني: التشبيه ههنا في أصل الثواب لا في الكمية ولا الكيفية، والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. . .، إلى آخر ما بسط الحافظ

(1)

من الكلام والاختلاف في التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر.

(57 -‌

‌ باب الرجل يدعى إلى طعام فيقول: وهذا معي)

قال الحافظ

(2)

: واعترض الإسماعيلي فقال: إن القصة ليس فيها ما ذكر وأن الرجل تبعهم من تلقاء نفسه، قلت: أشار به البخاري إلى حديث أنس في قصة الخياط الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وهذه" يعني: عائشة، وإنما عدل البخاري عن إيراد حديث أنس هنا إلى حديث أبي مسعود إشارة منه إلى تغاير القصتين واختلاف الحالين، ثم قال الحافظ: ومطابقة الأثر للحديث من جهة كون اللحام لم يكن متهمًا، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه ولم يسأله، انتهى من "الفتح".

(58 -‌

‌ باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه)

قال العلامة العيني

(3)

: قال الكرماني: قوله: "إذا حضر العشاء" روي بفتح العين وكسرها، وهو بالكسر من صلاة المغرب إلى العتمة،

(1)

"فتح الباري"(9/ 582، 583).

(2)

"فتح الباري"(9/ 584).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 459).

ص: 35

وبالفتح الطعام خلاف الغداء، ولفظ "عن عَشائه" هو بالفتح لا غير، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: إذا حضر العَشاء بفتح العين مصححًا عليها في الفرع كأصله.

وقال الحافظ ابن حجر: إنها الرواية عنده وهو ضد الغداء، أي: حضر الأكل وصلاة المغرب، فلا يعجل أحدكم عن أكل عشائه بالفتح أيضًا، فإذا فرغ فليصل ليكون قلبه فارغًا لمناجاة ربه تعالى، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

رحمه الله: ولفظ هذه الترجمة وقع معناه في حديث أورده المصنف في الصلاة في أوائل صلاة الجماعة، ثم قال بعد ذكر الحديث الأول من الباب: قال الكرماني: دلالته على الترجمة من جهة أنه استنبط من اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالأكل وقت الصلاة.

قلت: ويظهر لي أن البخاري أراد بتقديم هذا الحديث بيان أن الأمر في حديث ابن عمر وعائشة بترك المبادرة إلى الصلاة قبل تناول الطعام ليس على الوجوب، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: أشار بتقديم هذه الرواية إلى تخصيص الترجمة وما دلّ عليها من الروايات بما إذا كانت له فاقة إلى الطعام، انتهى.

وفي هامشه عن "تقرير الشيخ المكي": قوله: "فألقاها. . ." إلخ، فعلم أنه لم يكن مضطرًا من الأكل، وما سيجيئ من قوله:"فابدؤا بالعشاء" في حق المضطر، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 249).

(2)

"فتح الباري"(9/ 585).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 401).

ص: 36

(59 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:

53])

ذكر فيه حديث أنس في قصة زينب بنت جحش والبناء عليها ونزول آية الحجاب، المراد بالانتشار ههنا التوجه عن مكان الطعام للتخفيف عن صاحب المنزل كما هو مقتضى الآية، وقد مر مستوفى في تفسير سورة الأحزاب، انتهى من "الفتح"

(1)

.

أما براعة الاختتام فكما تقدم في "مقدمة اللامع"

(2)

أنها في قوله: "وأنزل الحجاب" فإن الرجل محجوب في قبره.

* * *

(1)

"فتح الباري"(9/ 586).

(2)

"مقدمة لامع الدراري"(1/ 112).

ص: 37

71 -

‌ كتاب العقيقة

بفتح العين المهملة، وهي لغة: الشعر الذي على رأس الولد حين ولادته، وشرعًا: ما يذبح عند حلق شعره؛ لأن مذبحه يعقّ، أي: يشقّ ويقطع، ولأن الشعر يحلق إذ ذاك، وقال ابن أبي الدم: قال أصحابنا: يستحب تسميتها نسيكة أو ذبيحة، وتكره تسميتها عقيقة، كما تكره تسمية العشاء عتمة، والمعنى فيها إظهار البشر والنعمة ونشر النسب. . .، إلى آخر ما ذكر العلامة القسطلاني

(1)

في حكمها شرعًا.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: بسط الكلام على هذا الباب في "الأوجز"، وذكر فيه عشرة أبحاث: الأول: في لغتها، والثاني: في حكمها، والثالث: في وقتها، وفيه أنه إذا فات الوقت هل تقضى أم لا؟ الرابع: هل تختص بالذكر أو تسن للأنثى أيضًا، والخامس: هل يفرق بين الذكر والأنثى بالشاة والشاتين أو هي شاة شاة لكل منهما؟ والسادس: هل تختص بالشاة أو تكون من البقر والإبل أو الشركة فيهما أيضًا؟ والسابع: هل يشترط فيها ما يشترط في الضحايا؟ والثامن: المكلف بها الوالد خاصة أو غيره أيضًا، ويدخل فيه أنه إذا لم يعق عن الصغير هل يعق عن نفسه بعد البلوغ، التاسع: هل يكسر عظامها في الطبخ أم لا؟ العاشر: هل يلطخ رأس الصبي بدم العقيقة أم لا؟ فهذه عشرة أبحاث بسط الكلام عليها في "الأوجز" مفصلًا.

أما البحث الثاني فقد اختلف العلماء في حكمها على مذاهب: أولها: أنها واجبة، وهو مذهب الليث وداود وأبي الزناد، وهو رواية عن أحمد

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 253).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 402، 403)، و"أوجز المسالك"(10/ 164 - 184).

ص: 38

وروي عن الحسن وأهل الظاهر، وقال ابن حزم: هي فرض واجب يجبر الإنسان عليه إذا فضل من قوته مقدارها.

القول الثاني: أنها سُنَّة مؤكدة حكاها شارح "الإقناع" من فروع الشافعية، وهو مقتضى كلام صاحب "الروض المربع" من فروع الحنابلة، وبه جزم صاحب "نيل المآرب" منهم، وحكاه ابن عابدين أيضًا عن الشافعي وأحمد.

الثالث: الندب، جزم به الدردير، وهو نص الإمام مالك في "الموطأ".

واختلفت الروايات في ذلك عن الحنفية، والمعروف في فروعهم أنها مندوبة، وهو الصواب، والثانية أنها مباحة، والثالثة أنها بدعة، وأنكرها العيني وبسط الكلام على ردّ هذا القول، وأثبت الاستحباب في "الأوجز"، انتهى من هامش "اللامع". وفي "الفيض"

(1)

: وهي مستحبة كما في "العالمكَيرية"، وفي "البدائع": أنها منسوخة.

قلت: وإنما حملته عليه عبارة محمد في "موطئه" قال محمد: العقيقة بلغنا أنها كانت في الجاهلية، وقد جعلت في أول الإسلام ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله. . .، إلى آخر ما قال.

قال العلامة القسطلاني

(2)

: والأصل فيها الأحاديث كحديث "الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه" رواه الترمذي

(3)

وقال: حسن صحيح، وعند البزار عن ابن عباس مرفوعًا:"للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة" وقال: لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: ووقع في عدة أحاديث "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة"، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(5/ 647).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 253).

(3)

"سنن الترمذي"(رقم 1522).

(4)

"فتح الباري"(9/ 586).

ص: 39

(1 -‌

‌ باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه)

قال الحافظ

(1)

: وقضية أن من لم يرد أن يعق عنه لا يؤخر تسميته إلى السابع، كما وقع في قصة إبراهيم بن أبي موسى وعبد الله بن أبي طلحة، وكذلك إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الزبير، فإنه لم ينقل أنه عقّ عن أحد منهم، ومن أريد أن يعق عنه تؤخر تسميته إلى السابع، كما سيأتي في الأحاديث الأخرى، وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري.

قوله: (وتحنيكه) أي: غداة يولد، وكأنه قيد بالغداة اتباعًا للفظ الخبر، والغداة تطلق ويراد بها مطلق الوقت وهو المراد هنا، وإنما اتفق تأخير ذلك لضرورة الواقع، والتحنيك: مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به، ويصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه، انتهى.

قوله: (ساق الحديث. . .) إلخ، في الحاشية

(2)

: هذا يوهم أنه يريد الحديث الذي قبله، وليس كذلك؛ لأن لفظهما مختلف، وهما حديثان عند ابن عون: أحدهما عنده عن أنس بن سيرين وهو المذكور ههنا، والثاني عنده عن محمد بن سيرين عن أنس، وقد ساقه المصنف في اللباس بهذا الإسناد، انتهى.

وبسط الحافظ الاختلاف في سنده.

(2 -‌

‌ باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة)

قال العيني

(3)

: وفي "التوضيح": وإماطة الأذى عن الصبي: حلق الشعر الذي على رأسه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(9/ 587، 588).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 166).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 466).

ص: 40

وفي هامش "اللامع"

(1)

: واختلفوا في مصداق الأذى؟ قال الكرماني: قيل: هو إما الشعر وإما الدم وإما الختان، قال الخطابي: قال محمد بن سيرين: لما سمعنا هذا الحديث طلبنا من يعرف إماطة الأذى عنه فلم نجد، وقيل: المراد بالأذى هو شعره الذي علق به دم الرحم فيماط عنه بالحلق، وقيل: إنهم كانوا يلطخون رأس الصبي بدم العقيقة وهو أذى فنهى عن ذلك، أقول: يحتمل أن يراد به آثار دم الرحم فقط، انتهى.

وقال الحافظ: وقع عند أبي داود عن ابن سيرين: إن لم يكن الأذى حلق الرأس فلا أدري ما هو، وجزم الأصمعي بأنه حلق الرأس، انتهى مختصرًا.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف - عفا الله تعالى عنه - أن المراد بالأذى البلايا المتعلقة بالمولود، قال القاري في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"الغلام مرتهن بعقيقته" يعني: أنه محبوس سلامته عن الآفات بها، انتهى.

وفي "شرح شيخ الإسلام"

(2)

على هامش النسخة المصرية: قوله "باب إماطة الأذى. . ." إلخ، أي: إزالة الشعر أو قلفة الختان عنه في وقت العقيقة، انتهى.

(3 -‌

‌ باب الفرع)

بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة، قال في "القاموس": وهو أول ولد تنتجه الناقة والغنم كانوا يذبحونه لآلهتهم، أو كانوا إذا تمت إبل واحد مائة، قدم بكره فنحره لصنمه، وكان المسلمون يفعلونه في صدر الإسلام ثم نسخ، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: والفرع أيضًا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة، ويؤخذ من هذا مناسبة ذكر البخاري حديث الفرع مع العقيقة، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 406).

(2)

"تحفة الباري"(5/ 454).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 261).

(4)

"فتح الباري"(9/ 596).

ص: 41

(4 -‌

‌ باب العتيرة)

تفسيره مذكور في حديث الباب، قال العلامة القسطلاني

(1)

: والعتيرة النسيكة التي تعتر، أي: تذبح، وكانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجبية، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "كانوا يذبحونه لطواغيتهم. . ." إلخ، فيه إشارة إلى علة النهي، واستنبط الشافعي منه الجواز إذا كان الذبح لله تعالى جمعًا بينه وبين حديث:"الفرع حق"، وهو حديث أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، وقال الشافعي فيما نقله البيهقي في معنى قوله:"حق": أي: ليس بباطل، ولا مخالفة بينه وبين الحديث الآخر:"لا فرع ولا عتيرة"، فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة.

وقال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع والعتيرة مستحبان، وجزم أبو عبيد بأن العتيرة تستحب، وفي هذا تعقب على من قال: إن ابن سيرين تفرد بذلك، ونقل الطحاوي عن ابن عون أنه كان يفعله، ومال ابن المنذر إلى هذا، ثم نقل عن العلماء تركهما إلا ابن سيرين، وكذا ذكر عياض أن الجمهور على النسخ، وبه جزم الحازمي، وما تقدم نقله عن الشافعي يرد عليهم، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي العشراء عن أبيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسنها"، وروى النسائي وصححه الحاكم

(3)

من حديث الحارث بن عمرو: "أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال: من شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع"، وهذا صريح في عدم الوجوب، لكن لا ينفي الاستحباب، انتهى ملخصًا من "الفتح".

ثم البراعة سكت عنها الحافظ، وعندي في قوله:"يذبحونه"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 262).

(2)

"فتح الباري"(9/ 597، 598).

(3)

"سنن النسائي"(رقم 4226)، "المستدرك"(4/ 264).

(4)

راجع: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 42

72 -

‌ كتاب الذبائح والصيد

قال العلامة العيني

(1)

: أي: هذا كتاب في بيان أحكام الذبائح وأحكام الصيد وبيان التسمية عند إرسال الكلب على الصيد، والذبائح جمع ذبيحة بمعنى المذبوح، انتهى.

وفي نسخة "الفتح": "كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد".

قال الحافظ

(2)

: سقط "باب" لكريمة والأصيلي وأبي ذر وثبت للباقين، والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدًا، عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصاد، انتهى.

وفي نسخة "العيني": "كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، باب التسمية على الصيد" وقال

(3)

: أي: هذا باب في بيان وجوب التسمية على الصيد، ولفظ "باب" لم يثبت في رواية كريمة.

ثم قال بعد حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة على تقدير وجود قوله: "باب التسمية على الصيد"، وإلا فقوله:"كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد" أظهر لأن في الحديث ثلاثة أشياء: مشروعية الصيد، ووجوب ذكاته حقيقة أو حكمًا، ووجوب التسمية، وللترجمة ثلاثة أجزاء يطابق كل واحد من الثلاثة المذكورة لكل واحد من أجزاء الترجمة، انتهى.

وليست لفظة "باب" في متن النسخ الهندية من البخاري، ولكن ذكرها في الحاشية بطريق النسخة.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 472).

(2)

"فتح الباري"(9/ 599).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 472 - 475).

ص: 43

وقال الحافظ

(1)

في مطابقة الحديث بالترجمة: جرى المصنف على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورد البخاري بعده بقليل من طريق ابن أبي السفر عن الشعبي بلفظ:"إذا أرسلت كلبك وسميت فكل"، ومن رواية بيان عن الشعبي:"إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل"، انتهى مختصرًا.

وفي "الهداية"

(2)

: الصيد الاصطياد، ويطلق على ما يصاد، والفعل مباح لغير المحرم في غير الحرم لقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، ولقوله عز وجل:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل" الحديث، وعلى إباحته انعقد الإجماع. . .، إلى آخر ما ذكر.

ثم الاصطياد على نوعين: أحدهما الاصطياد بالجوارح كالكلاب المعلمة وغيرها من الحيوان، والثاني الاصطياد بالرمي فذكر الإمام البخاري النوع الثاني بالباب الآتي.

(1 -‌

‌ باب صيد المعراض)

بكسر الميم وسكون العين المهملة وفي آخره ضاد معجمة، قال الخليل وآخرون: هو سهم لا ريش له ولا نصل، وقال ابن دريد وابن سيده: سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض، وقال الخطابي: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة، وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، وهو المسمى بالحذافة، وقال ابن التِّين: المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها الصيد فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ، انتهى من "العيني"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(9/ 603).

(2)

"الهداية"(2/ 401).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 475).

ص: 44

وفي "القسطلاني"

(1)

: قال النووي: المعراض خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، هذا هو الصحيح في تفسيره، ثم ذكر نحو ما تقدم من الأقوال.

وفي هامش النسخة الهندية

(2)

: قيل: لا وجه لذكر أثر ابن عمر ولا الآثار التي بعده في هذا الباب، قلت: فيه وجه حسن، وهو أن المقتولة بالبندقة موقوذة، كما أن مقتولة المعراض بغير حده موقوذة، وهذا المقدار كاف في بيان المطابقة، انتهى من "العيني".

(2 -‌

‌ باب ما أصاب المعراض بعرضه)

قال العلامة القسطلاني

(3)

تبعًا للعلامة العيني: أي: حكم ما أصاب المعراض من الصيد بعرضه، وهكذا شرح الباب الأول إذ قال في الباب السابق: أي: حكم صيد المعراض، وعلى هذا يلزم التكرار بين الترجمتين، فالأوجه أن يقال في الفرق بين الترجمتين: إن الغرض من السابق بيان لمصداق صيد المعراض، وأنه يشمل صيد البندقة أيضًا، والغرض من هذا الباب بيان حكمه فافترقا.

(3 -‌

‌ باب صيد القوس)

أي: بيان حكم الصيد بالقوس، قاله العيني والقسطلاني

(4)

.

وفي "شرح شيخ الإسلام"

(5)

: أي: بيان حكم مصيد سهمه، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 266).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 179).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 269)، و"عمدة القاري"(14/ 478).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 478)، و"إرشاد الساري"(12/ 270).

(5)

"تحفة الباري"(5/ 458).

ص: 45

قوله: (وقال الحسن وابراهيم: إذا ضرب صيدًا فبان منه يد أو رجل. . .) إلخ، قال العيني

(1)

: قيل: لا وجه لإيراد الأثر المذكور في هذا الباب.

قلت: له وجه؛ لأنه يمكن ضرب صيد بسهم قوس فأبان منه يده أو رجله، انتهى.

والمسألة خلافية، قال الحافظ

(2)

: قال ابن المنذر: اختلفوا في هذه المسألة؟ فقال ابن عباس وعطاء: لا تأكل العضو منه، وذكِّ الصَّيْدَ وكُلْه، وقال عكرمة: إن عدا حيًّا بعد سقوط العضو منه فلا تأكل العضو، وذكِّ الصيد وكلْه، وإن مات حين ضرب فكلْه كُلَّه، وبه قال الشافعي، وقال: لا فرق أن ينقطع قطعتين أو أقل إذا مات من تلك الضربة، وعن الثوري وأبي حنيفة: إن قطعه نصفين أُكلا جميعًا، وإن قطع الثلث مما يلي الرأس فكذلك، ومما يلي العجز أُكل الثلثين مما يلي الرأس، ولا يأكل الثلث الذي يلي العجز، انتهى.

وهكذا ذكر المذاهب العلامة العيني

(3)

وزاد: وفي "التمهيد" عن مالك: إن قطع عضوه لا يؤكل العضو وأكل الباقي، انتهى.

وفي "الهداية"

(4)

: وإذا رمى صيدًا فقطع عضوًا منه أكل الصيد ولا يؤكل العضو، وقال الشافعي: أكلا إن مات الصيد منه؛ لنا قوله عليه السلام: "ما أبين من الحي فهو ميت". . .، إلى آخر ما ذكر في الدلائل.

قوله: (وإذا ضربت عنقه أو وسطه فكله) كتب الشيخ - قُدِّس سرُّه - في "اللامع"

(5)

: لأنه لا يمكن بقاؤه دون العنق، وكذلك إذا تقطع قطعتين فلم يبق مبانًا من الحي، بل هو مبان من المذكى، فلا يكون حرامًا، وهذا هو المذهب، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 479).

(2)

"فتح الباري"(9/ 605).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 479).

(4)

"الهداية"(2/ 409).

(5)

"لامع الدراري"(9/ 411).

ص: 46

(4 -‌

‌ باب الخذف والبندقة)

أي: حكمهما، والخذف بالخاء والذال المعجمتين والفاء: الرمي بحصى أو نوى بين سبابتيه وبين الإبهام والسبابة، كذا في "القسطلاني"

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: قال المهلب: أباح الله الصيد على صفة فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وقيذ، وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس من المجهزات، وقد اتفق العلماء إلا من شذ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر، انتهى. وإنما كان كذلك لأنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده، انتهى.

قلت: وسيأتي في "كتاب الأدب""باب الخذف" ولا يتوهم التكرار، فإن الغرض ههنا بيان حكم صيدهما، والغرض هناك النهي عن هذا الفعل.

(5 -‌

‌ باب من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية)

الاقتناء هو الاتخاذ والادخار للقنية، قاله العيني

(3)

.

وقال الحافظ:

(4)

وقد أورد المصنف حديث الباب من حديث أبي هريرة في "المزارعة" وفي "بدء الخلق"، انتهى.

(6 -‌

‌ باب إذا أكل الكلب. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(5)

: وجواب "إذا" محذوف تقديره: إذا أكل الكلب من الصيد لا يؤكل، ولم يذكره اعتمادًا على ما يفهم من متن الحديث، انتهى.

ومسألة الباب خلافية، قال الحافظ

(6)

: في الحديث تحريم أكل الصيد

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 272).

(2)

"فتح الباري"(9/ 607).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 483).

(4)

"فتح الباري"(9/ 609).

(5)

"عمدة القاري"(14/ 484).

(6)

"فتح الباري"(9/ 601).

ص: 47

الذي أكل الكلب منه ولو كان الكلب معلمًا، وقد علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه، وهذا قول الجمهور وهو الراجح من قولي الشافعي، وقال في القديم وهو قول مالك ونقل عن بعض الصحابة: يحل، واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيًا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول الله إن لي كلابًا مكلبة فأفتني في صيدها؟ قال: "كل مما أمسكن عليك" قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه" أخرجه أبو داود

(1)

ولا بأس بسنده، إلى آخر ما بسط الحافظ من الجمع بين الحديثين.

قلت: وهذا الاختلاف مبني على اختلافهم في صفة التعليم وشروطه، كما بسط الكلام على ذلك في "الأوجز"

(2)

، وذكر فيه الاختلاف في صفة تعليم السباع، وكذا اختلافهم في صفة تعليم الطير وشرائطه.

قوله: (وقال عطاء: إن شرب الدم. . .) إلخ، أي: قال عطاء بن أبي رباح: إن شرب الكلب دم الصيد "ولم يأكل" من لحمه "فكل" يعني: كل هذا الصيد، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وذكر عن عدي بن أبي حاتم: إن شرب من دمه فلا تأكل، فإنه لم يتعلم ما علمته، وزعم ابن حزم أن الجارح إذا شرب من دم الصيد لم يضر ذلك شيئًا، إلى آخر ما ذكر

(3)

.

قلت: وبه قال الحنفية، بل قال ابن عابدين

(4)

: هو أشدّ تعليمًا إذا شرب ما يحرم على الصائد، وترك ما يحل له، انتهى.

(7 -‌

‌ باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة)

أي: عن الصائد، قال العلامة العيني

(5)

تحت حديث الباب: وهذا الحديث مشتمل على أحكام إلى أن قال: الرابع: إذا رمى الصيد وغاب عنه

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 2857).

(2)

"أوجز المسالك"(10/ 76 - 84).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 486).

(4)

انظر: "رد المحتار"(10/ 54).

(5)

"عمدة القاري"(14/ 487).

ص: 48

ثم وجد بعد يوم أو بعد يومين، وليس به إلا أثر سهمه فإنه يؤكل، واختلف العلماء فيه؟ فقال الأوزاعي: إذا وجده من الغد ميتًا ووجد سهمه أو أثرًا من كلبه فليأكله، وهو قول أشهب وابن الماجشون، وروي عن مالك، والمعروف عنه خلافه، ففي "الموطأ" و"المدونة": لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرًا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات لم يؤكل، وعنه الفرق بين السهم فيؤكل، وبين الكلب فلا يؤكل، وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصيد والكلب في طلبه فوجده مقتولًا والكلب عنده كرهت أكله، وقال الشافعي: القياس أنه لا يؤكل إذا غاب عنه لاحتمال أن غيره قتله، وقال النووي: الحِلّ أصح، انتهى.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(1)

من كتب فروع الأئمة وفيه: قال الخرقي: إذا رماه فغاب عنه، فوجده ميتًا وسهمه فيه، ولا أثر به غيره، حلّ أكله، قال الموفق: هذا هو المشهور عن أحمد، وكذلك لو أرسل كلبه على صيد فغاب عنه، ثم وجده ميتًا ومعه كلبه حلّ، وعن أحمد: إن غاب نهارًا فلا بأس به، وإن غاب ليلًا لم يأكله، وعن مالك كالروايتين، وعن أحمد ما يدل: إن غاب مدةً طويلةً لم يبح، وإن كانت يسيرة أبيح؛ لأنه قيل له: إن غاب يومًا؟ قال: يوم كثير، وكره عطاء والثوري أكل ما غاب، وعن أحمد مثل ذلك، وقال أبو حنيفة: يباح إن لم يكن ترك طلبه، وإن تشاغل عنه ثم وجده لم يبح، انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم" - تحت حديث الباب -: هذا دليل لمن يقول: إذا أثر جرحه فغاب عنه فوجده ميتًا ليس فيه أثر غير سهمه حلّ، وهو أحد قولي الشافعي ومالك، والثاني يحرم، وهو الأصح عند أصحابنا، والثالث يحرم في الكلب دون السهم، والأول أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة، انتهى.

(1)

"أوجز المسالك"(10/ 71، 72).

ص: 49

قلت: والمدار عندنا على أمرين: أحدهما أن لا يقعد عن طلبه، والثاني أن لا يجد به جراحة سوى جراحة سهمه، فإن فقد أحد الشرطين لم يحل كما في "الهداية"

(1)

وغيره.

(8 -‌

‌ باب إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر)

ذكر فيه حديث عدي بن حاتم، وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول، قاله الحافظ

(2)

.

(9 -‌

‌ باب ما جاء في التصيد)

وفي "شرح شيخ الإسلام"

(3)

: أي: ما جاء في التكلف بالصيد والاشتغال به للتكسب، انتهى.

قال ابن المنيِّر: مقصوده بهذه الترجمة التنبيه على أن الاشتغال بالصيد لمن هو عيشه به مشروع، ولمن عرض له ذلك وعيشه بغيره مباح، وأما التصيد لمجرد اللهو فهو محل الخلاف.

قال الحافظ

(4)

: وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول، انتهى.

وقال في الباب الأول الذي أحال عليه ههنا: وفيه

(5)

- أي: حديث عدي - إباحة الاصطياد للانتفاع بالصيد للأكل والبيع، وكذا للَّهو بشرط قصد التزكية والانتفاع، وكرهه مالك وخالفه الجمهور، قال الليث: لا أعلم حقًّا أشبه بباطل منه، فلو لم يقصد الانتفاع به حرم؛ لأنه من الفساد في الأرض بإتلاف نفس عبثًا. . .، إلى آخر ما ذكر.

وفي "القسطلاني"

(6)

تحت ترجمة الباب: أي: التكلف بالصيد والاشتغال به للتكسب أكلًا وبيعًا مما يدل لمشروعيته أو إباحته، انتهى.

(1)

"الهداية"(2/ 407).

(2)

"فتح الباري"(9/ 612).

(3)

"تحفة الباري"(5/ 462).

(4)

"فتح الباري"(9/ 613).

(5)

"فتح الباري"(9/ 602).

(6)

"إرشاد الساري"(12/ 282).

ص: 50

قلت: وهو كذلك، وإنما أثبت مشروعيته دفعًا لما يتوهم من حديث السنن عن ابن عباس مرفوعًا:"من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل" أخرجه الإمام أبو داود في "سننه"

(1)

في "باب اتباع الصيد"، وكذا أخرجه الترمذي أيضًا، ومحمل هذا الحديث فيما إذا توغَّل في اتباع الصيد وانهمك به، فقد كتب شيخنا في "البذل"

(2)

: لأنه إذا استولى عليه رغبة اتباع الصيد وحبه يغفل عن الصلاة وغيرها من الواجبات، أو يحمل على ما إذا لم يقصد به الانتفاع بالصيد بل قصد اللهو فقط، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ

(3)

تحت حديث أنس: "أنفجنا أرنبًا ونحن بمر الظهران" الحديث كما سيأتي: وفي الحديث أيضًا جواز استثارة الصيد والغدو

(4)

في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث "من اتبع الصيد غفل" فهو محمول على من واظب على ذلك حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها.

(10 -‌

‌ باب التصيد على الجبال)

بالجيم جمع جبل بالتحريك، أورد فيه حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي لقوله فيه: كنت رقّاء على الجبال، وهو بتشديد القاف مهموز، أي: كثير الصعود عليها، قال ابن المنيِّر: نبَّه بهذه الترجمة على جواز ارتكاب المشاق لمن له غرض لنفسه أو لدابته إذا كان الغرض مباحًا، وأن التصيد في الجبال كهو في السهل، وأن إجراء الخيل في الوعر جائز للحاجة، وليس هو من تعذيب الحيوان، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 2859)، و"سنن الترمذي"(رقم 2256).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 639).

(3)

"فتح الباري"(9/ 662).

(4)

كذا في الأصل، وكذا في "الفتح"، والظاهر "العدو" بعين مهملة.

(5)

"فتح الباري"(9/ 614).

ص: 51

(11 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:

96])

قال العلامة العيني

(1)

: روى سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب عن ابن عباس في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني: ما يصطاد منه طريًّا {وَطَعَامُهُ} ما يتزود منه مليحًا يابسًا، انتهى.

قوله: (وقال عمر رضي الله عنه. . .) إلخ، وصله المصنف في "التاريخ" وعبد بن حميد عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر؟ فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر فذكر قصة قال: فقال عمر: قال الله عز وجل في كتابه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد وطعامه ما قذف به، انتهى

(2)

.

قلت: اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} ، ففي "تفسير الجلالين"

(3)

: {وَطَعَامُهُ} ما يقذفه إلى الساحل ميتًا، انتهى.

وفي هامشه: كذا فسر عمر وابنه وابن عباس وأبو هريرة كما حكاه البغوي، وبه قال الشافعي: إنه يحل أكل جميع صيود البحر وما ألقاه ميتًا، وقال الزمخشري: صيد البحر مصيداته مما يؤكل ولا يؤكل، وطعامه ما يطعم من صيده، والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده، انتهى.

وهذا على قول أبي حنيفة أنه لا يحل من البحر إلا السمك ولا يحل أكل الطافي، وقيل: صيده طريه، وطعامه مالحه، انتهى.

قوله: (وقال أبو بكر: الطافي حلال) وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 492).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 615).

(3)

"تفسير الجلالين"(ص 156).

ص: 52

والطافي بغير همز من طفا يطفو: إذا علا الماء ولم يرسب، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: قوله: الطافي حلال، وأنت تعلم أن الترجيح عند اجتماع المحرم والمبيح للمحرم لا غير، انتهى.

وفي هامشه: أشار الشيخ بذلك إلى اختلاف الروايات فيه كما بسط في "الأوجز"

(3)

، والمسألة خلافية شهيرة، وهي أن الطافي مباح عند الأئمة الثلاثة وغير مباح عندنا الحنفية، وبقولهم قال جماعة من الصحابة والتابعين بسطت أسماؤهم في "الأوجز"، وفيه: ولنا حديث جابر مرفوعًا: "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه" رواه أبو داود

(4)

، وما تكلموا عليه أجاب عنه الزيلعي ولخَّص كلامه الشيخ في "البذل"

(5)

، وأكثر ما أوردوا عليه أنه موقوف، قال القاري في "المرقاة": لا يضر وقفه، فإن الموقوف في هذا كالمرفوع كما هو المعروف. . .، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع".

قوله: (وأما الطير فأرى أن يذبحه. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(6)

: أي: مائي المعاش غير مائي المولد، وقوله:"أصيدُ بحرٍ؟ قال: نعم" وكان منشأ سؤاله اختصاص البحر بالمعظم منه المحيط بأقطار العالم وهو مالح، ولذلك استدل على دفع توهمه بقوله تعالى:{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} ليظهر أن الحكم فيهما سواء، وإذا ثبت الحكم في البحر العذب ثبت في الأنهار والفلات وغير ذلك قياسًا.

قوله: (قال أبو الدرداء في المري. . .) إلخ، يعني: أنه استفتي في المري ماذا حكمه؟ فقال: إنه حلال أحلّه الحيتان ذوات الملح إلا أنه عبّر عن الحل بالذكاة لما أنها سببه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(9/ 615).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 413).

(3)

"أوجز المسالك"(10/ 105).

(4)

"سنن أبي داود"(ح: 3815).

(5)

"بذل المجهود"(11/ 539).

(6)

"لامع الدراري"(9/ 413 - 415).

ص: 53

وبسط الكلام على هذه الأقوال في هامش "اللامع"، وفيه أيضًا: قال الحافظ: وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر، وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر، يريد أن السمك طاهر حلال، وأن طهارته وحلّه يتعدى إلى غيره كالملح، حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرًا حلالًا، وهذا على رأي من يجوز تخليل الخمر، وهو قول أبي الدرداء وجماعة، انتهى.

قال العلامة العيني: إن أبا الدرداء ممن يرى جواز تخليل الخمر، وهو مذهب الحنفية، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية شهيرة، ذكر ههنا في هامش "اللامع" فارجع إليه لو شئت.

قوله: (فألقى البحر حوتًا ميتًا. . .) إلخ، قال صاحب "الفيض"

(1)

: وليس كذلك، بل ألقاه البحر خارجه، فمات في البر لعدم الماء، فليس ذلك الطافي، انتهى.

(12 -‌

‌ باب أكل الجراد)

ذكر الحافظ شيئًا من أحوال الجراد والاختلاف في أصله وحقيقته، وهل هو برّيّ أو بحري؟ ثم قال

(2)

: قد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية، إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكية، واختلفوا في صفتها، فقيل: يقطع رأسه، وقيل: إن وقع في قدر أو نار حلّ، وقال ابن وهب: أخذه ذكاته، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر:"أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" أخرجه أحمد والدارقطني

(3)

مرفوعًا، وقال: إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضًا الموقوف إلا أنه قال: إن له حكم الرفع، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(5/ 656).

(2)

"فتح الباري"(9/ 621).

(3)

"مسند أحمد"(2/ 97)، "سنن الدارقطني"(4/ 271)(رقم 25).

ص: 54

قال القسطلاني

(1)

تبعًا للعيني في شرح ترجمة الباب: أي: باب جواز أكل الجراد، انتهى.

قلت: ولعل الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى ثبوت أكله صلى الله عليه وسلم الجراد، وإلى تضعيف ما ورد من حديث سلمان:"سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: لا آكله ولا أحرمه" أخرجه أبو داود

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: قوله: "وكنا نأكل معه الجراد" يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم في "الطب":"ويأكل معنا"، وقال أيضًا في حديث سلمان المذكور: الصواب أنه مرسل.

(13 -‌

‌ باب آنية المجوس)

أي: حكمها في الاستعمال أكلًا وشربًا، واستشكل مطابقة الحديث للترجمة إذ ليس فيه ذكر ما ترجم به وهو المجوس، وأجاب ابن التِّين باحتمال أنه كان يرى أن المجوس أهل كتاب، وابن المنيِّر بأنه بناء على أن المحذور منهما واحد وهو عدم توقي النجاسات، وابن حجر بأنه أشار إلى ما عند الترمذي من طريق أخرى عن ثعلبة:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس، فقال: أنقوها غسلًا واطبخوا فيها"، وهذه طريقة أكثر منها البخاري فيما كان سنده فيه مقال يترجم به، ثم يورد في الباب ما يؤخذ الحكم منه بطريق الإلحاق، انتهى من "القسطلاني"

(4)

.

(14 -‌

‌ باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا. . .) إلخ

وتقييده بالعمدية مشعر بالتفرقة بين العمد والنسيان، قاله القسطلاني

(5)

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 294).

(2)

"سنن أبي داود"(رقم 3812).

(3)

"فتح الباري"(9/ 621، 622).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 296).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 298، 299).

ص: 55

وقال أيضًا: والحاصل من اختلاف العلماء تحريم تركها عمدًا ونسيانًا، وهو قول ابن سيرين والشعبي ورواية عن أحمد لظاهر الآية، أو تخصيص التحريم بغير النسيان، وهو مذهب الحنفية ومشهور مذهب المالكية والحنابلة (وإليه ميل المصنف رحمه الله كما تقدم)، والإباحة مطلقًا عمدًا أو نسيانًا وهو مذهب الشافعية، وروي عن مالك وأحمد، إلى آخر ما ذكر من الدلائل.

(15 -‌

‌ باب ما ذبح على النصب والأصنام)

النصب بضم النون واحد الأنصاب، وقيل: النصب جمع والواحد نصاب، وقال الجوهري: النصب بسكون الصاد وضمها: ما نُصب وعُبد من دون الله، وقال الزمخشري: كانت لهم أحجار منصوبة حول البيت، يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها تعظيمًا لها بذلك، ويتقربون به إليها تسمى الأنصاب، قاله العيني

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

بعد ذكر القول الثاني من هذه الأقوال: فقوله: "والأصنام" عطف تفسيري، وهي جمع صنم، وهو ما اتخذ إلهًا من دون الله، انتهى.

(16 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليذبح على اسم الله

")

حديث الباب قد سبق في الضحايا قبل صلاة العيد، كذا في "القسطلاني"

(3)

.

ويشكل ههنا أن مؤدى هذه الترجمة وما تقدم من "باب التسمية على الذبيحة" واحد.

قال العلامة العيني

(4)

: قيل: فائدة هذه الترجمة بعد تقدم الترجمة على

(1)

"عمدة القاري"(14/ 504).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 304).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 306).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 505).

ص: 56

التسمية التنبيه على أن الناسي يذبح على اسم الله؛ لأنه لم يقل فيه: فليسم، وإنما جعل أصل ذبح المسلم على اسم الله من صفة فعله ولوازمه، كما ورد "ذكر الله على قلب كل مسلم سمى أو لم يسم"، انتهى.

قلت: وهذا وجيه وإن تعقب عليه العلامة العيني.

(17 -‌

‌ باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد)

أشار المصنف بذكرها إلى ما ورد في بعض طرق حديث رافع عند الطبراني: "أفنذبح بالقصب والمروة؟ "، وأما الحديد فمن قوله:"وليست معنا مدى"، فإن فيه إشارة إلى أن الذبح بالحديد كان مقررًا عندهم جوازه، كذا في الهامش

(1)

عن "الفتح".

وفي "الأوجز"

(2)

: قال ابن رُشد في "البداية": أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو غيرهما أن التذكية به جائز، واختلفوا في ثلاثة: في السن، والظفر، والعظم، ولا خلاف في المذهب أن الزكاة بالعظم جائز إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر على الأقاويل الثلاثة: أعني بالمنع مطلقًا، وبالفرق بين الانفصال والاتصال، وبالكراهة لا المنع، انتهى.

وقال الموفق: أما الآلة فلها شرطان: أحدهما: أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، الثاني: أن لا تكون سنًا ولا ظفرًا، فإن اجتمع هذان الشرطان حلّ الذبح به، سواء كان حديدًا أو حجرًا أو خشبًا، وبهذا قال الشافعي وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة إلا في السن والظفر فقال: إذا كانا منفصلين جاز، أما العظم غير السن فمقتضى إطلاق قول أحمد والشافعي إباحة الذبح به، وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وقال

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 222)، وانظر:"فتح الباري"(9/ 631).

(2)

"أوجز المسالك"(10/ 20 - 22).

ص: 57

ابن جريج: يذكى بعظم الحمار ولا يذكى بعظم القرد، وعن أحمد لا يذكى بعظم ولا ظفر، انتهى.

وفي "شرح الإقناع": وتجوز الذكاة بكل ما يجرح إلا بالسن والظفر وباقي العظام متصلًا كان أو منفصلًا من آدمي أو غيره؛ لحديث الصحيح "ليس السن والظفر. . ." إلخ، انتهى من "الأوجز" والبسط فيه.

(18 -‌

‌ باب ذبيحة الأمة والمرأة)

كأنه يشير إلى الردّ على من منع ذلك، ونقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته، وفي "المدونة" جوازه، وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية، وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية، وهو قول الجمهور، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفيه أيضًا في فوائد الحديث: وفيه جواز أكل ما ذبحته المرأة سواء كانت حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو كتابية، طاهرًا أو غير طاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأكل ما ذبحته ولم يستفصل، نصّ على ذلك الشافعي وهو قول الجمهور، وقد تقدم في صدر الباب، انتهى.

قال العيني

(2)

: واختلف في كراهة ذبح الخصي، وروى ابن حزم عن طاوس منع ذبيحة الزنجي، انتهى.

(19 -‌

‌ باب لا يذكى بالسن والعظم والظفر)

قال الكرماني: ترجم بالعظم ولم يذكره في الحديث، ولكن حكمه يعلم منه - لأن المذكور في الحديث، أعني: السن والظفر أيضًا من العظم -.

قال الحافظ

(3)

: والبخاري في هذا ماشٍ على عادته في الإشارة إلى

(1)

"فتح الباري"(9/ 632، 633).

(2)

"عمدة القاري"(12/ 508).

(3)

"فتح الباري"(9/ 634).

ص: 58

ما يتضمنه أصل الحديث، فإن فيه:"أما السن فعظم"، وإن كانت هذه الجملة لم تذكر هنا لكنها ثابتة مشهورة في نفس الحديث، انتهى.

وتقدم بيان الاختلاف في مسألة الباب في "باب ما أنهر الدم. . ." إلخ.

(20 -‌

‌ باب ذبيحة الأعراب ونحوهم)

وهم ساكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلون المدن إلا لحاجة.

قوله: (ونحوهم) بالواو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والنسفي:"ونحرهم" بالراء من نحر الإبل.

ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: "إن قومًا يأتوننا" لأن المراد منهم الأعراب الذين يأتون إليهم من البادية، انتهى من كلام العيني

(1)

.

قلت: وفي رواية النسائي كما قال القسطلاني

(2)

وغيره: "إن ناسًا من الأعراب" بدل قوله: "إن قومًا. . ." إلخ، ولم يتعرض الشرَّاح لما هو الغرض من الترجمة إلا ما أشار إليه صاحب "الفيض"

(3)

إذ قال: "باب ذبيحة الأعراب" أي: الجهلاء الذين يتوهم فيهم ترك التسمية تهاونًا أو لجهلهم بالمسائل، وأيضًا أفاد في توجيه الحديث: وليس معنى قوله: "سموا عليه أنتم وكلوه" أن التسمية ليست بواجبة، بل معناه أن احملوا أنتم حالهم على أعدل الأحوال وسموا أنتم قبل الأكل، فإن محل تسميتكم الآن، فلا تغفلوا عنها، وأما محل تسميتهم فكان عند الذبح، والظاهر من حالهم أنهم قد أتوا بما وجب عليهم، انتهى.

وهكذا أفاد العلامة السندي

(4)

في توجيه الحديث بالبسط والإيضاح.

ولا يبعد عندي في غرض الترجمة ما يخطر ببالي أن الإمام البخاري

(1)

"عمدة القاري"(14/ 509، 510).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 310).

(3)

"فيض الباري"(5/ 659).

(4)

انظر: "صحيح البخاري بحاشية السندي"(3/ 311).

ص: 59

ترجم بذلك إشارة إلى جوازه دفعًا لما يتوهم من ظاهر حديث أبي داود

(1)

عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب"، ومحل هذا الحديث هو ما نقله الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"

(2)

في شرح هذا الحديث عن "مجمع بحار الأنوار" إذ قال: وهو ما كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلًا وهذا إبلًا، حتى يعجز أحدهم الآخر رياءً وسمعةً وتفاخرًا لا لوجه الله، كذا في "المجمع"، وكذلك كل طعام صنع رياء ومفاخرة، وكذا ما ذبح لقدوم أمير متقربًا إليه لا يجوز أكله، انتهى من "البذل".

(21 -‌

‌ باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم)

أي: هذا باب في بيان حكم ذبائح أهل الكتاب، "وشحومها" أي: شحوم أهل الكتاب، قاله العيني

(3)

.

قلت: والأولى إرجاع الضمير إلى الذبائح، أي: شحوم ذبائح أهل الكتاب، وهكذا شرح القسطلاني

(4)

.

وقال العيني

(5)

: كلمة "من" يجوز أن تكون بيانية ويجوز أن تكون للتبعيض، أي: من أهل الحرب الذين لا يعطون الجزية، "وغيرهم" أي: وغير أهل الحرب من الذين يعطون الجزية، وأشار بهذه الترجمة إلى جواز ذبائح أهل الكتاب وجواز أكل شحومهم، وهو قول الجمهور، وعن مالك وأحمد تحريم ما حرم على أهل الكتاب كالشحوم، انتهى.

وفي "الأوجز"

(6)

: قال الموفق: أجمع أهل العلم على إباحة ذبائح

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 2820).

(2)

"بذل المجهود"(9/ 575)، و"مجمع بحار الأنوار"(3/ 693).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 511).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 311).

(5)

"عمدة القاري"(14/ 511).

(6)

"أوجز المسالك"(10/ 34، 35).

ص: 60

أهل الكتاب، وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضًا، قال ذلك عطاء والليث والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدًا حرم صيد أهل الكتاب إلا مالكًا أباح ذبائحهم وحرم صيدهم، ولا يصح؛ لأن صيدهم من طعامهم فيدخل في عموم الآية، ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب، ولا بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي منهم وتحريم ذبيحة من سواه، انتهى.

وذكر فيه عن ابن المنذر أنهم اختلفوا في نصارى بني تغلب ونصارى العرب، فارجع إليه لو شئت.

قوله: (لا بأس بذبيحة الأقلف) أثر إبراهيم هذا أخرجه أبو بكر الخلال، وقد ورد ما يخالفه، فأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: الأقلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته ولا شهادته، وقال ابن المنذر: قال جمهور أهل العلم: تجوز ذبيحته؛ لأن الله سبحانه أباح ذبائح أهل الكتاب، ومنهم من لا يختتن، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وبه يظهر مناسبة ذكر هذا الأثر في هذا الباب.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "لا بأس. . ." إلخ، رفع توهم - عسى أن يتوهم - أن في الذكاة شرط الملة، والأقلف يخالف ملته فينبغي أن لا تجوز ذبيحته، انتهى.

(22 -‌

‌ باب ما ندّ من البهائم. . .) إلخ

أي: الإنسية، (فهو بمنزلة الوحش) أي: في جواز عقره على أي صفة اتفقت، وهو مستفاد من قوله في الخبر:"فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا"، كذا في "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(9/ 637).

(2)

"فيض الباري"(5/ 660).

(3)

"فتح الباري"(9/ 638).

ص: 61

قوله: (ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة) ذلك إشارة إلى ما ذكر من أن حكم البهيمة التي تندّ مثل حكم حيوان الوحشي، وأثر عائشة ذكره ابن حزم فقال: هو أيضًا قول عائشة، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، قال: وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم وأصحابنا، وقال مالك: لا يجوز أن يذكَّى أصلًا إلا في الحلق واللبَّة، وهو قول الليث وربيعة، انتهى من "العيني"

(1)

.

وهكذا حكى المذاهب الحافظ

(2)

إذ قال: ونقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم مالك والليث، ونقل أيضًا عن سعيد بن المسيب وربيعة فقالوا: لا يحل أكل الإنسي إذا توحش إلا بتذكيته في حلقه أو لبته، وحجة الجمهور حديث رافع، انتهى.

(23 -‌

‌ باب النحر والذبح)

قال ابن التِّين: الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها وفي السُّنَّة ذكر نحرها، واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح، فأجازه الجمهور ومنع ابن القاسم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وهكذا في العيني وزاد: قال ابن المنذر: روي عن أبي حنيفة والثوري والليث ومالك والشافعي جواز ذلك إلا أنه يكره، وقال أحمد وإسحاق: لا يكره، وقال أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة لا يؤكل، انتهى.

قلت: وعندي أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى جواز الأمرين؛ لأن الوارد في أحد الحديثين المذكورين لفظ الذبح وفي الثاني لفظ النحر، لكن فيه أن المصنف ذكر المتابعة لأحد الطريقين بقوله:"تابعه وكيع وابن عيينة عن هشام في النحر"، وتكلم عليه الحافظ أيضًا فارجع إليه لو شئت.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 513).

(2)

"فتح الباري"(9/ 639).

(3)

"فتح الباري"(9/ 640)، و"عمدة القاري"(14/ 515).

ص: 62

(24 -‌

‌ باب ما يكره من المثلة)

بضم الميم وسكون المثلثة: هي قطع أطراف الحيوان أو بعضها، وهو حي، يقال: مثلت به أمثّل بالتشديد للمبالغة، (والمصبورة) بفتح الميم وسكون الصاد المهملة وضم الموحدة: الدابة التي تحبس حية لتقتل بالرمي ونحوه، (والمجثمة) بضم الميم وفتح الجيم والمثلثة المشددة: التي تربط وتجعل غرضًا للرمي أو خاصة بالطير، فإذا ماتت من ذلك حرم أكلها لأنها موقوذة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

بزيادة.

وفي "الفتح"

(2)

: والجثوم للطير ونحوها بمنزلة البروك للإبل، فلو جثمت بنفسها فهي جاثمة ومجثمة بكسر المثلثة، وتلك إذا صيدت على تلك الحالة فذبحت جاز أكلها، وإن رميت فماتت لم يجز لأنها تصير موقوذة، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(3)

: قوله: "باب ما يكره من المثلة. . ." إلخ، أي: قطع القوائم والكراع عند الذبح، انتهى.

قلت: أشار به إلى مناسبة الترجمة بـ "كتاب الذبائح".

(25 -‌

‌ باب لحم الدجاج)

هو اسم جنس، مثلث الدال، ذكره المنذري في الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النووي الضم، والواحدة دجاجة مثلث أيضًا، وقيل: إن الضم فيه ضعيف. . .، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(4)

في تحقيقه لغةً.

وقال بعد حديث الباب: وفيه جواز أكل الدجاج إنسيه ووحشيه وهو بالاتفاق، إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلّالة، وهي ما تأكل الأقذار، ثم ذكر الحافظ الروايات في النهي عن الجلّالة واختلاف العلماء فيه.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 317).

(2)

"فتح الباري"(9/ 643).

(3)

"فيض الباري"(5/ 662).

(4)

"فتح الباري"(9/ 645 - 648).

ص: 63

(26 -‌

‌ باب لحوم الخيل)

أي: بيان حل أكلها، كذا في هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: قال ابن المنيِّر: لم يذكر الحكم لتعارض الأدلة، كذا قال، ودليل الجواز ظاهر القوة كما سيأتي، انتهى.

وقال العلامة العيني

(3)

: واحتج بهذا الحديث عطاء وابن سيرين والحسن والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد على جواز أكل لحم الخيل، وقال أبو حنيفة والأوزاعي ومالك: يكره أكله، ثم قيل: الكراهة عند أبي حنيفة كراهة تحريم وقيل: كراهة تنزيه. . .، إلى آخر ما ذكر في الدلائل.

وفي "الفتح"

(4)

: قال الطحاوي: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر.

قال الحافظ: وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عيينة ومالك وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم، وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم، إلى آخر ما بسط من الكلام على المسألة.

(27 -‌

‌ باب لحوم الحمر الإنسية)

القول في عدم جزمه بالحكم في هذا كالقول في الذي قبله، لكن الراجح في الحمر المنع بخلاف الخيل، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"تحفة الباري"(5/ 472).

(2)

"فتح الباري"(9/ 649)

(3)

"عمدة القاري"(14/ 524).

(4)

"فتح الباري"(9/ 649، 650).

(5)

"فتح الباري"(9/ 654).

ص: 64

وقال العيني

(1)

: واحترز بالإنسية عن الوحشية فإنها تؤكل، والإنسية بكسر الهمزة وسكون النون: نسبة إلى الإنس، ويقال فيه: أنسية بفتحتين نسبة إلى الأنس بفتحتين وهو ضد الوحشة، وقال أيضًا: قال ابن عبد البر: لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمه، وإنما حكي عن ابن عباس وعائشة إباحته بظاهر قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145].

قلت: ذكر في التفريع للمالكية: ولا بأس بأكل لحم الحمر الأهلية ولا البغل، انتهى.

(28 -‌

‌ باب أكل كل ذي ناب من السباع)

قال الحافظ

(2)

: لم يبتّ القول بالحكم للاختلاف فيه أو للتفصيل كما سأبينه، ثم قال بعد ذكر الحديث: قال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وعن بعضهم لا يحرم، وحكى ابن وهب عن مالك كالجمهور، وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. . .، إلى آخر ما بسط، ثم قال: واختلف القائلون بالتحريم في المراد بما له ناب، فذكر الاختلاف في بعض أفراد السبع.

فههنا اختلافان: الأول: أن النهي للتحريم أو الكراهة، والثاني: الاختلاف في مصداق ذي الناب.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(3)

، وفيه: قال الزرقاني: قال ابن الأثير: الناب: السن الذي خلف الرباعية، وهل المراد كل ذي ناب مطلقًا أو المراد ناب يعدو به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبًا، بخلاف غير العادي كثعلب وضبع، وبه قال الشافعي وأصحاب مالك المدنيين، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 524).

(2)

"فتح الباري"(9/ 657).

(3)

"أوجز المسالك"(10/ 116 - 119).

ص: 65

وهكذا قال الحافظ في "الفتح"، وذكر مذهب الشافعي الجواز في الضبع والثعلب، وعدَّ الخرقي في جملة المحرمات كل ذي مخلب من الطير، وهي التي تعلق بمخالبها الشيء وتصيد بها، قال الموفق: هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحرم من الطير شيء، قال مالك: لم أر أحدًا من أهل العلم يكره سباع الطير. . .، إلى آخر ما بسط في "الأوجز".

(29 -‌

‌ باب جلود الميتة)

زاد في البيوع: "قبل أن تدبغ"، فقيّده هناك بالدباغ، وأطلق ههنا، فيحمل مطلقه على مقيده، قاله الحافظ

(1)

.

ومسألة طهارة الجلد بالدباغ خلافية شهيرة تقدم في "كتاب البيوع".

(30 -‌

‌ باب المسك)

بكسر المحم: الطيب المعروف، قال الكرماني: مناسبة ذكره في الذبائح أنه فضلة من الظبي وهو مما يصاد، قاله الحافظ

(2)

.

وذكر أيضًا مناسبة هذا الباب بالباب السابق، وهو ما حكاه عن القفال من أن السرة التي فيها الدم تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات.

تم بسط الكلام في حقيقة المسك في طريق أخذه، وقال أيضًا: قال النووي: أجمعوا على أن المسك طاهر، يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه، ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبًا باطلًا وهو مستثنى من القاعدة: ما أُبين من حي فهو ميت، انتهى.

وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك إلا ما حكي عن عمر

(1)

"فتح الباري"(9/ 658).

(2)

"فتح الباري"(9/ 660، 661).

ص: 66

من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء بناءً على أنه جزء منفصل، وقال ابن المنيِّر: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث على طهارة المسك وقوع تشبيه دم الشهيد به؛ لأنه في سياق التكريم والتعظيم، فلو كان نجسًا لكان من الخبائث، ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام، انتهى.

(31 -‌

‌ باب الأرنب)

ذكر الحافظ وغيره بعض أحواله وخصائصه وعجائب خلقته، ثم قال

(1)

: وفي الحديث جواز أكل الأرنب، وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء، واحتج بحديث خزيمة بن جزء:"قلت: يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه"، إلى أن قال الحافظ: وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرّمه، وغلَّطه النووي في النقل عن أبي حنيفة، انتهى.

(32 -‌

‌ باب الضبّ)

قال الحافظ

(2)

تحت ثاني حديثي الباب: وفيه من الفوائد جواز أكل الضبّ، وحكى عياض عن قوم تحريمه، وعن الحنفية كراهته، وأنكر ذلك النووي وقال: لا أظنه يصح عن أحد، فإن صحَّ فإنه محجوج بالنصوص وبإجماع من قبله.

قلت: قد نقله ابن المنذر عن علي، فأيُّ إجماع يكون مع مخالفته، ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم، وقال الطحاوي في "معاني الآثار": كره قوم أكل الضبّ، منهم أبو حنيفة وصاحباه. . .، إلى آخر ما ذكر في الدلائل.

(1)

"فتح الباري"(9/ 662).

(2)

"فتح الباري"(9/ 665).

ص: 67

(33 -‌

‌ باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب)

أي: هل يفترق الحكم أو لا؟ وكأنه ترك الجزم بذلك لقوة الاختلاف، وقد تقدم في الطهارة ما يدل على أنه يختار أنه لا ينجس إلا بالتغير، ولعل هذا هو السرّ في إيراد طريق يونس المشعرة بالتفصيل، قاله الحافظ

(1)

.

ثم قال تحت حديث الباب: واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد: أن المائع إذا حلّت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير، وهو اختيار البخاري وقول ابن نافع من المالكية وحكي عن مالك. وفرق الجمهور بين المائع والجامد، وقد تمسك ابن العربي بقوله:"وما حولها" على أنه كان جامدًا، قال: لأنه لو كان مائعًا لم يكن له حول، وأما ذكر السمن والفأرة فلا عمل بمفهومهما، وجمد ابن حزم على عادته فخصّ التفرقة بالفأرة فلو وقع غير جنس الفأرة من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير، انتهى من "الفتح".

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(2)

وفيه: قال الحافظ: أخذ الجمهور بحديث معمر الدال على التفرقة بين الجامد والذائب، ونقل ابن عبد البر الاتفاق على أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه إذا تحقق أن شيئًا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك، وأما المائع فاختلفوا فيه؟ فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله بملاقاة النجاسة، وخالف فريق منهم الزهري والأوزاعي، انتهى.

قال العلامة العيني: ويقاس على السمن الجامد نحو العسل والدِّبْس إذا كان جامدًا، وأما المائع فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله قليلًا كان

(1)

"فتح الباري"(9/ 668، 670).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 312 - 314).

ص: 68

أو كثيرًا، وشذّ قوم فجعلوا المائع كالماء، وسلك داود في ذلك مسلكهم إلا في السمن الجامد والذائب، فإنه تبع ظاهر هذا الحديث، وخالف معناه في العسل والخلّ وسائر المائعات، انتهى.

وقال الموفق: إن النجاسة إذا وقعت في مائع غير الماء نجسته وإن كثر، وهذا ظاهر المذهب، وعن أحمد رواية أخرى: أنه كالماء لا ينجس إذا كثر، أي: بلغ القلتين. . .، إلى آخر ما في "الأوجز". وتقدم شيء من الكلام على المسألة في "كتاب الطهارة" في "باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء".

والحاصل: أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يفرق بين مسألة الماء والمائع، وكذا لم يفرق بين المائع والجامد، خلافًا للجمهور فإنهم فرقوا بين مسألة الماء والمائع غير الماء، وكذا بين الجامد وغير الجامد، وقد تكلم صاحب "الفيض"

(1)

على تحقيق مسلك المصنف في مسألة الباب، فارجع إليه لو اشتقت.

(34 -‌

‌ باب العلم والوسم في الصورة)

العَلَم بفتحتين بمعنى العلامة، والوسم بالسين المهملة وقيل بالمعجمة، ومعناهما واحد، وهو: أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيرًا بليغًا، وأصل ذلك أن يجعل في البهيمة ليميزها عن غيرها، وقيل: الوسم بالمهملة في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد، فعلى هذا الصواب بالمهملة (أي: في الترجمة) لقوله: "في الصورة". وفي "التوضيح": الوسم في الصورة مكروه عند العلماء كما قاله ابن بطال، وعندنا حرام.

وقال النووي: الضرب في الوجه منهي عنه في كل حيوان محترم، لكنه في الآدمي أشدّ؛ لأنه مجمع المحاسن، وأما الوسم ففي الآدمي حرام وفي غيره مكروه.

(1)

راجع: "فيض الباري"(5/ 667، 668).

ص: 69

قال الكرماني: والوسم في نحو نَعَم الصدقة في غير الوجه مستحب، وقال أبو حنيفة: مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، انتهى من كلام العيني

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: قوله: "في آذانها" وكان ذلك لعذر هناك، انتهى.

وفي هامشه: أوله الشيخ قُدِّس سرُّه لكون ظاهر الحديث مخالفًا لمسلك الحنفية، قال الحافظ: وفي الحديث حجة للجمهور في جواز وسم البهائم في الكيّ، وخالف فيه الحنفية تمسكًا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، انتهى.

وأجاب عن الحديث صاحب "التيسير" بأنه يحتمل أن حديث الباب لم يثبت أو لم يصح عند الحنفية، انتهى.

قلت: بل الجواب أنه يجوز الكيّ عندنا الحنفية، صرَّح به ابن عابدين إذ قال: لا بأس بكيّ البهائم للعلامة وثقب أذن الطفل من البنات؛ لأنهم كانوا يفعلونه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إنكار، انتهى.

وفي "البذل"

(3)

في قوله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها" الحديث: كتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رضي الله عنه: الوسم لا ضير فيه، إذا اشتمل على فائدة بعد أن لا يكون في الوجه؛ لأنه في الوجه يقبح الوجه ويعود على بعض الحواسّ بالإبطال أو بالإفساد كالباصرة، انتهى.

قلت: وقد تقدم التبويب في "الزكاة" بقوله: "باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده"، وتقدم هناك أيضًا ذكر الخلاف في المسألة.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 539 - 541)

(2)

"لامع الدراري"(9/ 423).

(3)

"بذل المجهود"(9/ 139).

ص: 70

(35 -‌

‌ باب إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم غنمًا. . .) إلخ

قوله: (لحديث رافع) هذا مصير من البخاري إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة التي ذكرها رافع بن خديج كونها لم تقسم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

يعني: أنه كان بطريق التعدي لا بطريق الإصلاح، كما سيأتي في الباب الآتي.

(36 -‌

‌ باب إذا ندّ بعير لقوم. . .) إلخ

قال ابن المنيِّر: نبَّه بهذه الترجمة على أن ذبح غير المالك إذا كان بطريق التعدي كما في القصة الأولى فاسد، وأن ذبح غير المالك إذا كان بطريق الإصلاح للمالك خشية أن تفوت عليه المنفعة ليس بفاسد، انتهى

(2)

.

قلت: وقد ترجم المصنف في كتاب الوكالة بـ "باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئًا يفسد ذبح أو أصلح ما يخاف عليه الفساد"، ومؤدى الترجمتين واحد.

(37 -‌

‌ باب أكل المضطر)

أي: جواز أكل المضطر من الميتة، وفي بعض النسخ:"باب إذا أكل المضطر"، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: كأنه أشار إلى الخلاف في ذلك وهو في موضعين: أحدهما في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حدّ الهلاك

(1)

"فتح الباري"(9/ 672).

(2)

"فتح الباري"(9/ 673).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 345).

(4)

"فتح الباري"(9/ 673، 674).

ص: 71

أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سميةً شديدةً فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة، فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر، انتهى.

وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن.

وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى: {مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى، وقال غيره: الإثم أن يأكل فوق سدّ الرمق، وقيل: فوق العادة، وهو الراجح لإطلاق الآية، انتهى.

وفي "الأوجز"

(1)

: قال الموفق: أجمع العلماء على تحريم الميتة على حال الاختيار، وعلى إباحة الأكل منه في الاضطرار، وكذلك سائر المحرمات، والأصل فيه قوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} الآية [البقرة: 173]، ويباح له الأكل ما يسدّ الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع، ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع، وفي الشبع روايتان: أظهرهما لا يباح، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي، والثانية يباح له الشبع، اختارها أبو بكر، إلى آخر ما بسط.

وقال ابن رُشد: أما مقدار ما يؤكل فإن مالكًا قال: حدّ ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك به الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك، انتهى.

وبسط الكلام على مباحث تلك المسألة على ثمانية فصول في "الأوجز"

(2)

، فارجع إليه لو شئت.

وفي هامش "الجلالين" المعروف بـ "حاشية الجمل"

(3)

: واختلف

(1)

"أوجز المسالك"(10/ 151، 152).

(2)

راجع: "أوجز المسالك"(10/ 149 - 157).

(3)

"الفتوحات الإلهية"(1/ 139).

ص: 72

العلماء في قدر ما يحل للمضطر أكله من الميتة على قولين: أحدهما: أن يأكل مقدار ما يمسك رمقه، وهو قول أبي حنيفة والراجح عند الشافعي، والقول الآخر: يجوز أن يأكل حتى يشبع، وبه قال مالك، انتهى، "خطيب".

قال الحافظ

(1)

: قال الكرماني وغيره: عقد البخاري هذه الترجمة، ولم يذكر فيها حديثًا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيّض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبييض الكتاب.

قلت: والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقًا أخرى، انتهى.

ثم البراعة عندي في قول: "المضطر والدم المسفوح"

(2)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(9/ 674).

(2)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 73

73 -

‌ كتاب الأضاحي

بسط الكلام على ذلك في "الأوجز"

(1)

، وفيه: حكى الشيخ في "البذل" عن "فتح الودود": فيه أربع لغات: أضحية بضم الهمزة وبكسرها، وجمعها الأضاحي بتشديد الياء وتخفيفها، واللغة الثالثة ضحية وجمعها ضحايا كعطية وعطايا، والرابعة أضحاة بفتح الهمزة والجمع أضحى كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى، وحكي فيه عن ابن عابدين ثمان لغات.

قال الكرماني: وهي ما يذبح يوم العيد تقربًا إلى الله تعالى، وسميت بذلك لأنها تفعل في الضحى، انتهى.

وفي "التوشيح" من فروع الشافعية: وهي اسم لما يذبح من النعم يوم عيد النحر وأيام التشريق بلياليها تقربًا إلى الله تعالى، وعن ابن عباس أنه يكفي إراقة الدم ولو من دجاج أو إوزّ، وكان الشيخ محمد الفضالي يأمر الفقير بتقليده، ويقاس على الأضحية العقيقة، فيجوز لمن لم يقدر على ثمن الشاة أن يعقّ ولده بالديكة على مذهب ابن عباس، انتهى.

قال الموفق: الأصل في مشروعيتها الكتاب والسُّنَّة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، قال بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد، وأما السُّنَّة فما روي عن أنس:"أنه صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين أملحين" الحديث، متفق عليه. وأجمع المسلمون على مشروعيتها، وأكثر أهل العلم يرونها سُنَّةً مؤكدةً غير واجبة، وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وغيرهم: هي واجبة لرواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له

(1)

"أوجز المسالك"(10/ 203)، "بذل المجهود"(9/ 526).

ص: 74

سعة ولم يضحِّ فلا يقربنّ مصلانا"، إلى آخر ما بسط في "الأوجز"، وما حكى الموفق عن مالك وجوبها رواية عنه، وإلا فمعروف مذهبه سنيتها، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

وسيأتي تفصيل الخلاف في ذلك في الباب الآتي.

(1 -‌

‌ باب سُنَّة الأضحية)

كذا لأبي ذر والنسفي، ولغيرهما:"سُنَّة الأضاحي"، وهو جمع أضحية، وكأنه ترجم بالسُّنَّة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصحَّ أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سُنَّة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة: تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم، وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا الجمهور، وعن أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه: واجبة، وعن محمد بن الحسن: هي سُنَّة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذه، ليس في الآثار ما يدلُّ على وجوبها، انتهى، كذا في "الفتح"

(2)

.

وفي "الهداية"

(3)

: الأضحية واجبة على كل حُرٍّ مسلمٍ مقيمٍ موسرٍ في يوم الأضحى عن نفسه وعن ولده الصغار، أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى، وعنه (أي: أبي يوسف): أنها سُنَّة، ذكره في "الجوامع"، وهو قول الشافعي، وذكر الطحاوي أن على قول أبي حنيفة: واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: سُنَّة مؤكدة، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف، إلى آخر ما بسط في الدلائل، وسيأتي حكم الأضحية للمسافر في باب مستقل.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 424).

(2)

"فتح الباري"(10/ 3).

(3)

"الهداية"(2/ 355).

ص: 75

قوله: (وقال ابن عمر: هي سُنَّة ومعروف) وصله حماد بن سلمة في "مصنفه"، وللترمذي: أن رجلًا سأل ابن عمر عن الأضحية: أهي واجبة؟ فقال: "ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده" قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فهم من كون ابن عمر لم يقل في الجواب: نعم أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد لا يدلُّ على ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: قوله: "معروف" أي: معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: قوله: "سُنَّة ومعروف. . ." إلخ، أي: ثابت بالسُّنَّة وأمر معروف بين الناس، انتهى.

وفي هامشه: أوّله الشيخ قُدِّس سرُّه لكون ظاهر الأثر مخالفًا للحنفية، انتهى.

(2 -‌

‌ باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس)

أي: بنفسه أو بأمره. قوله: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، سيأتي بعد أربعة أبواب أن عقبة هو الذي باشر القسمة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وتقدم حديث الباب في "باب وكالة الشريك للشريك" من أبواب الوكالة.

وقال العلامة العيني

(5)

: وغرضه من هذه الترجمة بيان قسمته صلى الله عليه وسلم الضحايا بين أصحابه، فإن كان قسمها بين الأغنياء كانت من الفيء أو ما يجري مجراه مما يجوز أخذه للأغنياء، وإن كان قسمها بين الفقراء خاصة

(1)

"فتح الباري"(10/ 3، 4).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 348).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 424).

(4)

"فتح الباري"(10/ 4، 5).

(5)

"عمدة القاري"(14/ 549).

ص: 76

كانت من الصدقة، وإنما أراد البخاري بهذا - والله أعلم - أن إعطاء الشارع الضحايا لأصحابه دليل على تأكدها وندبهم إليها، انتهى.

(3 -‌

‌ باب الأضحية للمسافر والنساء)

قال الحافظ

(1)

: فيه إشارة إلى خلاف من قال: إن المسافر لا أضحية عليه، وإشارة إلى خلاف من قال: إن النساء لا أضحية عليهن، ويحتمل أن يشير إلى خلاف من منع من مباشرتهن التضحية، فقد جاء عن مالك كراهة مباشرة المرأة الحائض للتضحية، انتهى.

وتعقبه العيني

(2)

وقال: الكلام ههنا في فصلين: الأول: هل يجب على المسافر أضحية؟ اختلفوا فيه؟ فقال الشافعي: هي سُنَّة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى، وقال مالك: لا أضحية عليه ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى، وقال أبو حنيفة: لا تجب على المسافر أضحية. والفصل الثاني: أن من أوجب الأضحية أوجبها على النساء، ومن لم يوجبها لم يوجبها عليهن، واستحبَّها في حقهن، انتهى مختصرًا.

وأما مسلك الحنفية ففي "البدائع"

(3)

: ذكر في الأصل وقال: ولا تجب الأضحية على الحاج، وأراد بالحاج المسافر، فأما أهل مكة فتجب عليهم الأضحية وإن حجوا، إلى آخر ما ذكر.

ويشكل مناسبة الحديث بالباب لأنه قصة حجة الوداع والبقرة كانت هديًا، ويمكن الجواب عنه أن من دأب الإمام البخاري أيضًا الاستدلال بظاهر اللفظ، والوارد في الحديث لفظ ضحى.

قال الحافظ

(4)

: قوله: "ضحَّى النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية، ثم ردّ الحافظ على ابن التِّين الذي

(1)

"فتح الباري"(10/ 5).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 550).

(3)

"بدائع الصنائع"(4/ 195).

(4)

"فتح الباري"(10/ 5، 6).

ص: 77

أوّل الحديث وقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية، لا أنها كانت أضحية. قال الحافظ: كذا قال، ولا يخفى بعده، انتهى.

قلت: كذا قال الحافظ ههنا، لكنه رجح في "باب النحر في منحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" من "كتاب الحج" أنه كان هدي التمتع عمن اعتمر من نسائه، وهكذا أفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

تحت حديث الباب حيث قال: وكان ذلك دم متعة وقران لا دم التضحية، انتهى.

وذكر شيء من الكلام عليه في "هامشه".

(4 -‌

‌ باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر)

أي: اتباعًا للعادة بالالتذاذ بأكل اللحم يوم العيد، قال الله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: لعل المصنف عقد الترجمة بذلك إشارة إلى اختلافهم في معنى الحديث الذي ذكره تحت الباب، فإنهم اختلفوا فيه على مسالك كما ستقف عليه.

قوله: (إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم) في رواية داود بن أبي هند عن الشعبي عند مسلم: فقال: يا رسول الله، إن هذا يومٌ اللحمُ فيه مكروه، وفي لفظ له: مقروم، قال عياض: وصوَّب بعضهم هذه الرواية الثانية وقال: معناه يُشتهى فيه اللحم، يقال: قرمت إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته، قال عياض: وقال بعض شيوخنا: صواب الرواية "اللحَم فيه مكروه" بفتح الحاء وهو اشتهاء اللحم، والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 425).

(2)

"فتح الباري"(10/ 6).

ص: 78

وبالغ ابن العربي فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غلط. وإنما هو اللَّحَمُ بالتحريك، يقال: لَحِمَ الرجل بكسر الحاء يَلْحَمُ بفتحها إذا كان يشتهي اللحم، وأما القرطبي في "المفهم" فقال: تكلف بعضهم ما لا يصح رواية، أي: اللحم بالتحريك، إلى آخر ما في "الفتح"

(1)

.

(5 -‌

‌ باب من قال: الأضحى يوم النحر)

في معنى الترجمة وجوه ستأتي.

قال الحافظ

(2)

: واختصاص النحر باليوم العاشر قول حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري، وعن سعيد بن جبير مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام، قال ابن المنيِّر: أخذه من إضافة اليوم إلى النحر حيث قال: "أليس يوم النحر" واللام للجنس، فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، قال: والجواب على مذهب الجماعة أن المراد النحر الكامل، انتهى.

وقال القرطبي: التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف.

ثم قال الحافظ في معنى الترجمة: ويحتمل أن يكون أراد أن أيام النحر الأربعة أو الثلاثة لكل واحد منها اسم يخصه، فالأضحى هو اليوم العاشر، والذي يليه يوم القر، والذي يليه يوم النفر الأول، والرابع يوم النفر الثاني، وقال ابن التِّين: مراده أنه يوم تنحر فيه الأضاحي في جميع الأقطار، وقيل: مراده لا ذبح إلا فيه خاصة، يعني: كما تقدم، وزاد مالك: ويذبح أيضًا في يومين بعده، وزاد الشافعي اليوم الرابع، قال: وقيل: يذبح عشرة أيام، ولم يعزه لقائل، وقيل: إلى آخر الشهر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهما، وقال به ابن حزم متمسكًا لعدم ورود نصٍّ بالتقييد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 6).

(2)

"فتح الباري"(10/ 8).

ص: 79

قلت: وأيام النحر عند الأئمة الثلاثة ثلاثة أيام، وعند الإمام الشافعي أربعة أيام.

(6 -‌

‌ باب الأضحى والنحر

(1)

بالمصلى)

قال ابن بطال: هو سُنَّة للإمام خاصة عند مالك، قال مالك: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، زاد المهلب: وليذبحوا بعده على يقين وليتعلموا منه صفة الذبح، انتهى

(2)

.

وفي "الأوجز"

(3)

عن "المسوى": الذبح في المصلى أحسن إظهارًا لشعار الدين، انتهى.

(7 -‌

‌ باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين. . .) إلخ

لعل المصنف أشار إلى أفضلية الكبشر في الأضحية، أو إلى أفضلية الذكر، ويؤيد الأول قوله صلى الله عليه وسلم:"خير الأضحية الكبش الأقرن" الحديث، كما في "الترغيب" برواية أبي داود والترمذي وابن ماجه، وفي "التوشيح": وأفضل أنواع الأضحية بالنسبة لكثرة اللحم ومن حيث إظهار شعار الشريعة إبل ثم بقر ثم غنم، وأما من حيث أطيبية اللحم فالضأن أفضل من المعز، ثم الجواميس أفضل من العراب لطيب لحمها عن لحم العراب، إلى آخر ما ذكر.

وفي "الدر المختار"

(4)

: الشاة أفضل من سبع البقرة إذا استويا في القيمة واللحم، فإن كان سبع البقرة أكثر لحمًا فهو أفضل، والكبش أفضل من النعجة، وهي الأنثى من الضأن إذا استويا فيهما، والأنثى من المعز أفضل من التيس إذا استويا قيمةً، والأنثى من الإبل والبقر أفضل، ومشى

(1)

وقع في النسخة الهندية لفظ "المنحر".

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 9).

(3)

"أوجز المسالك"(10/ 225)، و"المسوى"(1/ 229).

(4)

انظر: "رد المحتار"(9/ 466).

ص: 80

ابن وهبان على أن الذكر في الضأن والمعز أفضل، لكنه مقيد بما إذا كان موجوءًا، قال العلامة عبد البر: ومفهومه أنه إذا لم يكن موجوءًا لا يكون أفضل، انتهى بزيادة من "حاشية ابن عابدين".

قال الحافظ

(1)

: والكبش فحل الضأن في أي سنّ كان، واختلف في ابتدائه فقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع، ثم قال في فوائد الحديث: وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى، وهو قول أحمد، وعنه رواية أن الأنثى أولى، وحكى الرافعي فيه قولين عن الشافعي، أحدهما عن نصه في البويطي الذكر لأن لحمه أطيب، وهذا هو الأصح، والثاني أن الأنثى أولى، وقال ابن العربي: الأصح أفضلية الذكور على الإناث في الضحايا، وقيل: هما سواء إلى آخر ما ذكر من الفوائد.

ولا يبعد عندي أن يقال: إن المصنف رحمه الله تعالى أراد بهذه الترجمة الترغيب في تسمين الأضحية، ولذا ذكر أثر أبي أمامة، والمعروف على الألسنة في هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"سمِّنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم"، لكن لما كان الحديث ضعيفًا أشار إلى مضمونه.

ثم اعلم أن هذا الحديث اختلف في لفظه، فذكره صاحب "البدائع"

(2)

بلفظ: "عظموا ضحاياكم. . ." إلخ، وذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة"

(3)

بلفظ: "استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط" وقال: أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه بهذا، ويحيى ضعيف جدًّا، ووقع في "النهاية" لإمام الحرمين، ثم في "الوسيط" ثم في "العزيز":"عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" وقال: الأول معناه أنها تكون مراكب للمضحين، وقيل: إنها تسهل الجواز على الصراط، لكن قد قال ابن الصلاح: إن هذا الحديث غير معروف

(1)

"فتح الباري"(10/ 10، 11).

(2)

"بدائع الصنائع"(4/ 223).

(3)

"المقاصد الحسنة"(ص 78)، (ح 108).

ص: 81

ولا ثابت فيما علمناه، وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": ليس في فضل الأضحية حديث صحيح، ومنها قوله:"إنها مطاياكم إلى الجنة"، انتهى.

وذكر الحافظ ابن كثير

(1)

في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]: شعائر الله، أي: أوامره، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها، ثم ذكر أثر أبي أمامة المذكور في ترجمة الباب، وعزاه إلى البخاري.

(8 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضحّ بالجذع من المعز. . .") إلخ

أشار بذلك إلى أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التي ساقها "اذبحها" للجذعة التي تقدمت في قول الصحابي: إن عندي داجنًا جذعة من المعز.

ثم قال الحافظ

(2)

: وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، وفي حديث عقبة بن عامر كما تقدم قريبًا:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، قال البيهقي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة، كما رخّص لأبي بردة، قلت: وفي هذا الجمع نظر؛ لأن في كل منهما صيغة عموم فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، إلى آخر ما بسط في الجمع بينهما.

وأما مسألة الباب فقد قال الحافظ

(3)

: وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزئ وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي: يجوز مطلقًا، وهو وجه لبعض الشافعية، حكاه الرافعي.

(1)

"تفسير ابن كثير"(10/ 53).

(2)

"فتح الباري"(10/ 13، 14).

(3)

"فتح الباري"(10/ 15، 16).

ص: 82

وقال النووي: هو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه - أي: على أنه يجوز - عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري: أن الجذع لا يجزئ مطلقًا سواء كان من الضأن أم من غيره، وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الردِّ على من أجازه.

ثم قال: واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن وهم الجمهور في سنِّه على آراء: أحدها: أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها: نصف سنة وهو قول الحنفية والحنابلة، ثالثها: سبعة أشهر، وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني، وغير ذلك من الأقوال الذي ذكرها الحافظ، وقد قال صاحب "الهداية": إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت، انتهى ملخصًا من "الفتح".

وبسط الكلام على مباحث حديث الباب، وكذا في مذاهب العلماء في هامش "اللامع"

(1)

، وفيه: قال الموفق: لا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال ابن عمر والزهري: لا يجزئ الجذع؛ لأنه لا يجزئ من غير الضأن فلا يجزئ منه، وعن عطاء والأوزاعي: يجزئ الجذع من جميع الأجناس، انتهى مختصرًا.

(9 -‌

‌ باب من ذبح الأضاحي بيده)

أي: وهل يشترط ذلك أو هو الأولى؟ وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يكره لكن يستحب أن يشهدها، انتهى

(2)

.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 429).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 18).

ص: 83

وفي "الهداية"

(1)

: والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، وإن كان لا يحسنه فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة رضي الله عنها:"قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأوّل قطرة من دمها كل ذنب"، انتهى.

وفي حاشيته: رواه الحاكم في "المستدرك"

(2)

عن عمران بن حصين، انتهى.

(10 -‌

‌ باب من ذبح ضحية غيره. . .) إلخ

أراد بهذه الترجمة بيان أن التي قبلها ليست للاشتراط، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وقد تقدم الخلاف فيه في الباب السابق.

(11 -‌

‌ باب الذبح بعد الصلاة)

سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه.

(12 -‌

‌ باب من ذبح قبل الصلاة أعاده)

ربما يتوهم في بادئ الرأي أن لا فرق بين هذه الترجمة والترجمة السابقة، فإن ألفاظهما وإن كانت مختلفة إلا أن المؤدى واحد، وبهذا لا يخرج عن التكرار كما تقدم مبسوطًا في الأصل الثاني والعشرين من أصول التراجم.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف في الفرق بين الترجمتين أن ههنا مسألتين: إحداهما وقت الذبح وهو بعد الصلاة، فلو ذبح أحد قبله لم يجزئه كما عليه الجمهور خلافًا للشافعية، والثانية هل يجوز الذبح بعد الصلاة

(1)

"الهداية"(2/ 361).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(4/ 222).

(3)

"فتح الباري"(10/ 9).

ص: 84

مطلقًا أم يتوقف على شيء آخر؟ وفي هذه المسألة خلاف مالك.

قال الحافظ: نقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي، فالترجمة الأولى ردّ على المالكية، إذ حاصلها أن الذبح بعد الصلاة يصحّ وإن لم يضحّ الإمام، وأما الترجمة الثانية فهي مسألة أخرى من أن الذبح لا يصح قبل الصلاة.

ويمكن أن يقال: إن الترجمة الأولى ردّ على المالكية كما تقدم، والترجمة الثانية ردّ على الشافعية إذ أباحوا الذبح بعد مضي قدر وقت الصلاة وإن لم يصلّ الإمام بعدُ، فالإمام البخاري قد وافق الحنفية والحنابلة إذ قالوا: لا يجوز قبل الصلاة ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام.

قال العلامة القسطلاني: اختلف في وقت الأضحية؟ فعند الشافعية بعد مضي قدر صلاة العيد وخطبتها من طلوع الشمس يوم النحر، سواء صلى أم لا، مقيمًا بالأمصار أم لا، وعند الحنفية وقتها في حق أهل الأمصار بعد صلاة الإمام وخطبته، وفي حق غيرهم بعد طلوع الفجر، وعند المالكية بعد فراغ الإمام من الصلاة والخطبة والذبح، وعند الحنابلة لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبحه، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

(13 -‌

‌ باب وضع القدم على صفح الذبيحة)

قال الحافظ

(2)

تحت حديث الباب: وفيه استحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن؛ ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 429 - 431)، "إرشاد الساري"(12/ 365).

(2)

"فتح الباري"(10/ 18).

ص: 85

(14 -‌

‌ باب التكبير عند الذبح)

قال الحافظ

(1)

في فوائد الحديث: وفيه استحباب التكبير مع التسمية، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله: بسم الله والله أكبر، منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، انتهى.

(15 -‌

‌ باب إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء)

ذكر فيه حديث عائشة، وقد تقدمت مباحثه في "كتاب الحج"، قاله الحافظ

(3)

.

(16 -‌

‌ باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي)

أي: من غير تقييد بثلث ولا نصف، (وما يتزود منها) أي: للسفر وفي الحضر، وبيان أن التقييد بثلاثة أيام إما منسوخ وإما خاص بسبب، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وحكى ابن عابدين

(5)

عن "البدائع": والأفضل أن يتصدق بالثلث، ويتخذ الثلث ضيافة لأقربائه وأصدقائه، ويدَّخِر الثلث ويستحب أن يأكل منها، ولو حبس الكل لنفسه جاز؛ لأن القربة في الإراقة والتصدق باللحم تطوع، انتهى.

قال في "الدر المختار": وندب ترك التصدق لذي عيال غير موسع الحال توسعةً عليهم، انتهى.

وفي "التوشيح" من فروع الشافعية: ويطعم حتمًا من الأضحية المتطوع

(1)

"فتح الباري"(10/ 19).

(2)

"الهداية"(2/ 348).

(3)

"فتح الباري"(10/ 23).

(4)

"فتح الباري"(10/ 25).

(5)

"رد المحتار"(9/ 474).

ص: 86

بها الفقراء والمساكين من المسلمين على سبيل التصدق جزءًا يسيرًا من لحمها نيئًا، والأفضل التصدق بجميعها إلا لقمة أو لقمتين يتبرك المضحي بأكلها فإنه يسنّ له ذلك، انتهى مختصرًا.

ثم البراعة عند الحافظ في قوله: "حين ينفر من منى"، وعندي في قوله:"من الأضاحي" أو في قوله: "لحوم الهدي" كما تقدم في مقدمة "اللامع"

(1)

.

* * *

(1)

"مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 87

74 -

‌ كتاب الأشربة

الأشربة جمع شراب كأطعمة وطعام: اسم لما يشرب، وليس مصدرًا لأن المصدر هو الشرب بتثليث الشين، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وفي "الدر المختار"

(2)

: الشراب لغة: كل مائع يشرب، واصطلاحًا: يسكر، انتهى.

قلت: والإمام البخاري ذكر في الكتاب الشراب الحلال والحرام كلّها باعتبار أصل اللغة.

قال الحافظ

(3)

: ذكر الإمام البخاري الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم الخمر، وذلك أن الأشربة منها ما يحل وما يحرم، وينظر في حكم كل منهما، ثم بالآداب المتعلقة بالشرب، فبدأ بتبيين المحرم منه لقلته بالنسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالًا، وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة، وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثم رأيت الدمياطي في "سيرته" جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية سنة ست، وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أُحد وذلك سنة أربع على الراجح، وفيه نظر.

ثم قال الحافظ: وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها، وقد مضى بيانه في تفسير المائدة أيضًا، إلى آخر ما ذكر.

وقال العيني

(4)

: ذكر الإمام البخاري هذه الآية تمهيدًا لما يذكره من الأحاديث التي وردت في الخمر، وقد ذكرناها في سورة المائدة، ثم

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 375).

(2)

"رد المحتار"(10/ 26).

(3)

"فتح الباري"(10/ 30، 31).

(4)

"عمدة القارى"(14/ 574).

ص: 88

ذكر سبب نزولها من حديث عمر مفصلًا، وفيه أن عمر قال لما نزل تحريم الخمر: اللَّهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] الحديث بطوله، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فقال عمر: اللَّهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90] التي ذكرت في صدر هذا الكتاب، وفيه {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي كما ذكره العيني.

قلت: وإنما ذكر الإمام البخاري هذه الآية من جملة آيات الخمر الثلاثة إشارة إلى أنها آخر ما نزلت في الخمر، وقد بسط صاحب "الفيض"

(1)

الكلام على الأشربة أشد البسط.

(1 -‌

‌ باب أن الخصر من العنب)

كذا في النسخة "الهندية" و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح":"باب الخمر من العنب وغيره".

وقال الحافظ

(2)

: كذا في شرح ابن بطال، ولم أر لفظ "غيره" في شيء من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه، قال ابن المنيِّر: غرض البخاري الردّ على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره، فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال: لكن في استدلاله بقول ابن عمر، يعني: الذي أورده في الباب: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرًا نظر؛ بل هو بأن يدل على أن الخمر من العنب خاصة أجدر لأنه قال: وما منها بالمدينة شيء، يعني: الخمر، وقد كانت الأنبذة من غير

(1)

انظر: "فيض الباري"(6/ 3، 4).

(2)

"فتح الباري"(10/ 35).

ص: 89

العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرًا، انتهى.

وقال العلامة السندي

(1)

: وقد يقال: لعله قصد الردّ على من زعم الخصوص بماء العنب على أن ضمير "منها" لخمر العنب خاصة لا لمطلق الخمر بقرينة الردّ على الزاعم، أي: كيف يختص بماء العنب مع أنه يوم نزول التحريم ما كان في المدينة من ماء العنب شيء، وإنما كان الموجود غيره، فلا بد من شمول الاسم بذلك الغير، وهذا أوقع لتتبع الأحاديث، والله أعلم، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب وعلى نبيذ البسر والتمر، ويطلق على ما يتخذ من العسل، فعقد لكل واحد منها بابًا، ولم يرد حصر التسمية في العنب بدليل ما أورده بعده، ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة وبما بعدها المجاز، والأول أظهر من تصرفه، وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الأخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب لكونه المتفق عليه، إلى آخر ما ذكر.

(2 -‌

‌ باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر)

قال العلامة القسطلاني

(3)

: قوله: "وهي" أي: والحال أن الخمر كان يصنع من البسر والتمر، وإطلاق الخمر على غير ما اتخذ من العنب مجاز، وقيل: هو حقيقة لظاهر الأحاديث، انتهى.

(3 -‌

‌ باب الخمر من العسل وهو البتع)

بكسر الموحدة وتفتح وسكون الفوقية وقد تحرك آخره عين مهملة، لغة يمانية، انتهى من "القسطلاني"

(4)

.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(3/ 321).

(2)

"فتح الباري"(10/ 35).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 381).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 384).

ص: 90

(4 -‌

‌ باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قوله: "الخمر ما خامر العقل" قال الكرماني: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة، كذا قال، وفيه نظر؛ لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي، إلى آخر ما بسط أشدّ البسط.

قلت: الأول قول الحنفية، والثاني مسلك الجمهور من الأئمة الثلاثة، وحاصل اختلاف الأئمة في حكم الأشربة ما ذكرته في "الأوجز"

(2)

مبسوطًا، وعنه في هامش "اللامع"

(3)

مختصرًا.

وفيه: اعلم أن الأشربة المسكرة كلها حرام عند الأئمة الثلاثة والإمام محمد رضي الله عنهم أجمعين، فإنهم جعلوا كلها خمرًا، وحرموا كل أنواعها بلا تفصيل وتفريق، والحنفية أهل الرأي الثاقب لما أمعنوا النظر في الروايات المختلفة في هذا الباب، ورأوا عمل جمهور الصحابة لا سيما أكابر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فرقوا في أنواع الأشربة، وجعلوها بأربعة أنواع، ففي "الهداية": إن الأشربة المحرمة أربعة:

أحدها: الخمر، وهي عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، الثاني: العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو الطلاء، الثالث: نقيع التمر وهو السكر، الرابع: نقيع الزبيب إذا اشتد وغلا، إلى آخر ما ذكر فيه.

وحاصل مذهبنا في الأشربة أنها ثلاثة أنواع: أحدها: الخمر، وهو التي من ماء العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد، وحكمها أن عينها حرام يحدّ بشرب قطرة منها وإن لم يسكر، ويكفر مستحلها، والثاني: الأشربة الثلاثة المذكورة أعني عصير العنب المطبوخ حتى يذهب أقل من ثلثيه،

(1)

"فتح الباري"(10/ 47).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 493 - 496).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 435 - 437).

ص: 91

ونقيع التمر، ونقيع الزبيب، وحكم هذه الثلاثة أنه يحرم قليلها وكثيرها، لكن لا يحدّ بها ما لم يسكر ولا يكفر مستحلها، النوع الثالث: ما سوى ذلك من الأشربة المسكرة كالمتخذة من الحنطة أو الشعير أو العسل، وحكمها أنه يجوز شربها عند أبي حنيفة وأبي يوسف للتقوي على العبادة لا للتلهي ما لم يبلغ حدّ السكر، فإن بلغ مقدار الشرب إلى حدّ السكر يحرم هذه الجرعة الأخيرة، ومع ذلك لا يحدّ شاربها على قول، قالوا: والأصح أنه يحدّ، انتهى ملخصًا من هامش "اللامع" بزيادة.

(5 -‌

‌ باب ما جاء فيمن يستحلّ الخمر ويسميه بغير اسمه)

ذكر الخمر باعتبار الشراب وإلا فالخمر مؤنث سماعي. قاله القسطلاني

(1)

، وعزاه الحافظ في "الفتح"

(2)

إلى الكرماني، وزاد: قلت: بل فيه لغة بالتذكير.

ثم قال القسطلاني: ومطابقة الجزء الأول من الترجمة للحديث ظاهرة، وأما الجزء الثاني ففي حديث مالك بن أبي مريم عند الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "تاريخه" عن أبي مالك الأشعري مرفوعًا:"ليشربنّ أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" كما هو عادة المؤلف رحمه الله في الإشارة بالترجمة إلى حديث لم يكن على شرطه، وقال في "الكواكب": أو لعل نظر المؤلف إلى لفظ: "من أمتي" إذ فيه دليل على أنهم استحلوها بالتأويل، إذ لو لم يكن بالتأويل لكان كفرًا وخروجًا عن أمته؛ لأن تحريم الخمر معلوم من الدين بالضرورة، انتهى.

واختار الحافظ التوجيه الأول، والحديث الذي ذكره القسطلاني، قال

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 388 - 390).

(2)

"فتح الباري"(10/ 51).

ص: 92

الحافظ فيه: أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، وله شواهد كثيرة، إلى آخر ما ذكر.

(6 -‌

‌ باب الانتباذ في الأوعية والتور)

هو من عطف الخاص على العام، لأن التور من جملة الأوعية، وهو بفتح المثناة: إناء من حجارة أو من نحاس أو من خشب، ويقال: لا يقال له تور إلا إذا كان صغيرًا، وقيل: هو قدح كبير كالقدر، وقيل: مثل الطست، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(7 -‌

‌ باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية. . .) إلخ

ذكر فيه خمسة أحاديث، الأول منها عام في الرخصة، وفي الثاني استثناء المزفت، وفي الثالث النهي عن الدباء والمزفت، وفي الرابع وهو حديث عائشة كذلك، وفي الخامس النهي عن الجر الأخضر، وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف، فذهب مالك إلى ما دلّ عليه صنيع البخاري، وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك ولا يحرم، وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان، وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولًا ثم نسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باقٍ، منهم ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، كذا أطلق، قال: والأول أصح، انتهى بتغير واختصار

(2)

.

قلت: وقد أخرج الإمام مالك في "الموطأ" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أنه نهى عن أن ينتبذ في الدباء والمزفت"، وبسط في "الأوجز"

(3)

في النقل عن كتب فروع المالكية، ثم قال: وعلم من ذلك أن المعروف في

(1)

"فتح الباري"(10/ 56).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 58).

(3)

"أوجز المسالك"(15/ 528، 529).

ص: 93

مذهب الإمام مالك الكراهة عن الدباء والمزفت فقط، ولذا أورد الروايتين فيهما دون غيرهما من الظروف، قال الموفق: يجوز الانتباذ في كلها، وعن أحمد أنه كره الانتباذ في الأربعة، والصحيح الأول، انتهى.

(8 -‌

‌ باب نقيع التمر ما لم يسكر)

أشار بالترجمة إلى أن الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن معقل وغيره من كراهة نقيع الزبيب محمول على ما تغير، وكاد يبلغ حدّ الإسكار، أو أراد قائله حسم المادة كما سيأتي عن عبيدة السلماني، وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه للسكر لا إثباتًا ولا نفيًا إما من جهة أن المدة التي ذكرها سهل - وهو من أول الليل إلى أثناء نهاره - لا يحصل فيه التغير جملة، أو إنما خصه بما لا يسكر من جهة المقام، والله أعلم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(9 -‌

‌ باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة)

بسط الكلام في هامش النسخة "الهندية"

(2)

في تحقيق الباذق.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "ومن نهى عن كل مسكر" كأنه أخذه من قول عمر: "فإن كان يسكر جلدته" مع نقله عنه تجويز شرب الطلاء على الثلث، فكأنه يؤخذ من الخبرين أن الذي أباحه ما لم يسكر أصلًا، وأما قوله:"من الأشربة" فلأن الآثار التي أوردها مرفوعها وموقوفها تتعلق بما يشرب، انتهى من "الفتح".

(1)

"فتح الباري"(10/ 62).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 341).

(3)

"فتح الباري"(10/ 63).

ص: 94

(10 -‌

‌ باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر. . .) إلخ

قال ابن بطال: قوله: "إذا كان مسكرًا" خطأ؛ لأن النهي عن الخليطين عام وإن لم يسكر كثيرهما لسرعة سريان الإسكار إليهما من حيث لا يشعر صاحبه به، فليس النهي عن الخليطين لأنهما يسكران حالًا بل لأنهما يسكران مآلًا، فإنهما إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف في النهي عنهما.

قال الكرماني: فعلى هذا فليس هو خطأ، بل يكون أطلق ذلك على سبيل المجاز، وهو استعمال مشهور، وأجاب ابن المنيِّر بأن ذلك لا يرد على البخاري إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

.

وقال: الذي يظهر لي أن مراد البخاري بهذه الترجمة الردّ على من أوّل النهي عن الخليطين بأحد تأويلين: أحدهما: حمل الخليط على المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلًا وقد اشتد، ونبيذ زبيب وحده مثلًا قد اشتد، فيخلطان ليصيرا خلًّا، فيكون النهي من أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة من غير تكلف، ثانيهما: أن يكون علة النهي عن الخلط الإسراف، فيكون كالنهي عن الجمع بين إدامين، ويؤيد الثاني قوله في الترجمة:"وأن لا يجعل إدامين في إدام"، وقد نصر الطحاوي من حمل النهي عن الخليطين على منع السرف، إلى آخر ما بسط الحافظ، وبسط في نقل مذاهب العلماء في حكم الخليط.

وقال القسطلاني

(2)

: وهل إذا خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق ولو لم يسكر، وقال الكوفيون بالحل، ولا خلاف أن

(1)

"فتح الباري"(10/ 67).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 400).

ص: 95

العسل باللبن ليس بخليطين؛ لأن اللبن لا ينبذ، واختلف في الخليطين بالتخليل، انتهى.

قال العلامة العيني

(1)

: قلت: في هذا الباب أقوال: أحدها: أنه يحرم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، والثاني: يحرم خليط كل نوعين مما ينتبذ في الانتباذ، وبعد الانتباذ لا يخص شيء، وهو قول بعض المالكية، والثالث: أن النهي محمول على التنزيه، وأنه ليس بحرام ما لم يصر مسكرًا، وقال شيخنا زين الدين: حكاه النووي عن مذهبنا وأنه قول جمهور العلماء، الرابع: روي عن الليث أنه قال: لا بأس أن يخلط نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ثم يشربان جميعًا، وإنما جاء النهي عن أن ينتبذا جميعًا لأن أحدهما يشد صاحبه، الخامس: أنه لا كراهة في شيء من ذلك، وهو قول أبي حنيفة في رواية عن أبي يوسف.

قال النووي: أنكر عليه الجمهور وقالوا: هذه منابذة لصاحب الشرع، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، فإن لم يكن حرامًا كان مكروهًا.

قلت: هذه جرأة شنيعة على إمام أجلّ من ذلك، وأبو حنيفة لم يكن قال ذلك برأيه، وإنما مستنده في ذلك أحاديث، ثم ذكر العلامة العيني تلك الأحاديث.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"

(2)

: قوله: "نهى عن أن ينتبذ البسر والرطب. . ." إلخ، هذا النهي كالنهي عن الانتباذ في الظروف كان في أول الأمر لما فيه بعد الخلط من قوة فيسرع الاشتداد، ثم صار الأمر واسعًا غير أن المسكر حرام أيًّا ما كان، انتهى.

وفي هامشه عن "الهداية": لا بأس بالخليطين لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر شربة ما كدت أهتدي إلى أهلي، فغدوت إليه

(1)

"عمدة القاري"(14/ 603).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 35، 36).

ص: 96

من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب، وهذا من الخليطين، ثم ذكر توجيه الحديث نحو ما قال الشيخ قُدِّس سرُّه.

قوله: (وأن لا يجعل إدامين) أي: التمر والزبيب مثلًا فيكونان كالواحد فيكون تابعًا لما سبق، كذا قالوا.

والأوجه عندي: أنه تأسيس وحكم مستقل كما هو المعروف عن عمر رضي الله عنه، وقد تقدم نحوه في كلام الحافظ.

(11 -‌

‌ باب شرب اللبن)

قال ابن المنيِّر: أطال التفنن في هذه الترجمة ليردّ قول من زعم أن اللبن يسكر كثيره، فردّ ذلك بالنصوص، وهو قول غير مستقيم؛ لأن اللبن لا يسكر بمجرده، وإنما يتفق فيه ذلك نادرًا بصفة تحدث، وقال غيره: قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغيَّر صار يسكر، وهذا ربما يقع نادرًا إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه، إلا إن علم أن عقله يذهب به فشربه لذلك، ثم ذكر الحافظ رواية عن "سنن سعيد بن منصور" من قول ابن عمر ما يؤيد اتخاذ الخمر باللبن، فارجع إليه لو شئت

(1)

.

قلت: وعندي لا حاجة إلى هذه المباحث التي ذكرها الشرَّاح كما ترى ولا طائل تحتها، والظاهر أن المصنف رحمه الله بدأ من ههنا من أنواع الأشربة ما يحلّ بعد الفراغ عن بيان ما يحرم منها، ويؤيده التراجم الآتية، وتقدم أيضًا في أول الكتاب أن المصنف رحمه الله ذكر في "كتاب الأشربة" كلا النوعين: الحلال والحرام، والظاهر إنما شرع باللبن لكونه أشرف الأنواع، ويؤيده حديث الباب من حيث إنه عرض عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وأشار بذكر الآية في الترجمة إلى أصل حلِّه حيث منَّ الله تعالى على عباده به، ويمكن أن يقال: إن الإمام البخاري أشار بذكر هذه الآية إلى ما عسى أن يتوهمه

(1)

"فتح الباري"(10/ 71).

ص: 97

أحد من قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66] كراهة اللبن لكون معدنه قريبًا من معدن النجاسة، فذكر في الباب ما يزيل هذا التوهم [من] حديث الإسراء وعرض اللبن عليه صلى الله عليه وسلم.

(12 -‌

‌ باب استعذاب الماء)

بالذال المعجمة، أي: طلب الماء العذب، والمراد به الحلو، ذكر فيه حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه:"ويشرب من ماء فيها طيب"، وقد ورد في خصوص لفظ الترجمة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت السقيا"، والسقيا بضم المهملة وبالقاف بعدها تحتانية: عين بينها وبين المدينة يومان، هكذا أخرجه أبو داود، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: ولعل الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى أن استعذاب الماء ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وكان من دأبه الشريف صلى الله عليه وسلم، ويمكن أنه أشار بذلك إلى ما يستفاد من كلام ابن بطال.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، وقد كرهه مالك لما فيه من السرف، أما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون، وليس في شرب الماء الملح فضيلة، انتهى.

(13 -‌

‌ باب شرب اللبن بالماء)

قال الحافظ

(3)

: أي: ممزوجًا، وإنما قيَّده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش، قال ابن المنيِّر: مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، وهو يؤيد ما تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر،

(1)

"فتح الباري"(10/ 74).

(2)

"فتح الباري"(10/ 74).

(3)

"فتح الباري"(10/ 75، 76).

ص: 98

أي: إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء؛ لأن اللبن عند الحلب يكون حارًا، وتلك البلاد في الغالب حارة فكانوا يكسرون حرَّ اللبن بالماء البارد، انتهى.

(14 -‌

‌ باب شراب الحلواء والعسل)

تقدم الكلام على تحقيق لفظ الحلواء ومعناه في "باب الحلواء والعسل" من "كتاب الأطعمة".

قال القسطلاني

(1)

: وليس المراد بقوله: "شراب الحلواء" الحلواء المعهودة المعقودة بالنار، بل كل حلواء تشرب من نقيع حلو وغيره مما يشبهه، وقوله:"الحلواء" شامل للعسل، فذكره بعدها من التخصيص بعد التعميم، ثم ذكر أثرين للزهري وابن مسعود، ثم قال: فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الترجمة والأثرين؟ أجاب ابن المنيِّر بأنه ترجم على شيء وأعقبه بضده قال: وبضدها تتبين الأشياء، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصًّا، ثم ذكر توجيهًا آخر، فارجع إليه لو شئت.

والأوجه عندي: أن المراد في الترجمة بشراب الحلواء والعسل الماء المخلوط بشيء حلو الذي يقال له في الهندية: "شربت"، و"شربت العسل" معروف في ديارنا، ولذا لم يترجم المصنف بالشراب الحلو؛ لأنه يطلق على العذب.

وبسط الحافظ الكلام في مصداق الترجمة.

(15 -‌

‌ باب الشرب قائمًا)

قال ابن بطال: أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائمًا، كذا قال وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 409، 410).

(2)

"فتح الباري"(10/ 81).

ص: 99

والأوجه عندي ما قال ابن بطال من أنه أشار بالترجمة إلى ترجيح أحاديث الجواز، ولذا لم يذكر في الباب شيئًا من أحاديث النهي كما ترى، فمعنى الترجمة جواز الشرب قائمًا، والمسألة خلافية لأجل اختلاف الروايات.

قال الحافظ

(1)

: واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه، منها عند مسلم عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائمًا"، ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ:"نهى"، ولمسلم عن أبي هريرة بلفظ:"لا يشربنّ أحدكم قائمًا فمن نسي فليستقئ" إلى أن قال الحافظ: قال القرطبي: لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية القول به، وتعقب بأن ابن حزم جزم بالتحريم.

ثم قال: وسلك العلماء في ذلك مسالك:

أحدها: الترجيح، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذا طريقة أبي بكر بن الأثرم، الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وغيره فقالوا: إن أحاديث النهي منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم، فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي، الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل فقيل: المراد بالقيام ههنا المشي، وجنح الطحاوي إلى حمل النهي على من لم يسمّ عند شربه، ومال جماعة إلى حمل النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهذا أحسن المسالك، وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطبّ مخافة وقوع ضرر به، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(2)

.

وفيه: وعلم مما سبق أنهم اختلفوا في ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أن النهي مخصوص بما سوى زم زم وفضل الوضوء، وهو

(1)

"فتح الباري"(10/ 82 - 84).

(2)

"لامع الدراري"(5/ 198).

ص: 100

مختار بعض أصحابنا الحنفية، كصاحب "المنية" وصاحب "الدر المختار" وغيرهما إلى أن قال: الخامس: النهي للتنزيه والفعل للجواز، وهو مختار النووي والسيوطي وغيرهما، وهو مختار أكثر أصحابنا الحنفية حتى أن الحلبي نقل عليه الإجماع، والسادس: ما اختاره الطحاوي أن النهي للمضرة، فهذا أمر إرشاد طبّيّ لا شرعي، انتهى.

(16 -‌

‌ باب من شرب وهو واقف على بعيره)

قال ابن العربي: لا حجة في هذا على الشرب قائمًا؛ لأن الراكب على البعير قاعد غير قائم، كذا قال، والذي يظهر لي أن البخاري أراد حكم هذه الحالة وهل تدخل تحت النهي أو لا؟ وإيراده الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم يدلّ على الجواز، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العلامة السندي

(2)

: قوله: "باب من شرب وهو واقف" أي: بعرفة "على بعيره"، والوقوف بعرفة هو الكون فيها أعم من القيام والقعود والنوم كما لا يخفى، فلا يرد أن الراكب على البعير قاعد لا قائم، فكيف سماه واقفًا، ولا حاجة إلى الجواب عنه بأن الراكب من حيث كونه سائرًا يشبه القائم، ومن حيث كونه مستقرًا على الدابة يشبه القاعد، فمراده بيان حكم هذه الحالة هل تدخل تحت النهي أم لا؟ مع أن هذا يتحقق إذا كان البعير سائرًا لا واقفًا، والأمر ههنا بالعكس، والله أعلم، انتهى.

(17 -‌

‌ باب الأيمن فالأيمن في الشرب)

هذا مستحب عند الجمهور، وقال ابن حزم: يجب، وقوله:"في الشرب" يعم الماء وغيره من المشروبات، ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك، وقال عياض: يشبه أن يكون

(1)

"فتح الباري"(10/ 85).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(3/ 325).

ص: 101

مراده أن السُّنَّة ثبتت في الماء خاصة، وتقديم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وصنيع الإمام مالك في "الموطأ" أيضًا يدل على أنه لا يقول بتخصيص الماء فإنه قد ترجم فيه: "السُّنَّة في الشراب وتناوله عن اليمين" وذكر فيه حديث الباب، وفيه ذكر اللبن.

وفي "الأوجز"

(2)

: قال الباجي: قوله: "الأيمن فالأيمن" يقتضي أن التيامن مشروع في مناولة الشراب والطعام وما جرى مجراهما، وفي "العتبية" عن أشهب: يستحب في مكارم الأخلاق أن يبدأ بالأيمن فالأيمن في الكتاب بالشهادات والمجلس والوضوء وما أشبه ذلك، انتهى.

قلت: ومسألة الباب أعني الأيمن فالأيمن إنما هو إذا كان الحاضرون مرتبون في الجلوس، وأما إذا كانوا غير مرتبين في جلوسهم فالأدب حينئذٍ الأكبر فالأكبر والأسنّ فالأسنّ، كما يستفاد مما ورد في حديث السواك أن "كبر" أي: أعط السواك أكبرهما، هكذا قال ابن رسلان في "شرحه".

(18 -‌

‌ باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب)

كأنه لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص، فلا يطرد الحكم فيها لكل جليسين، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(19 -‌

‌ باب الكرع في الحوض)

اختلفت الروايات فيه، فقد ورد النهي عن الكرع في بعض الروايات عند ابن ماجه كما سيأتي، فلعل المصنف أشار إلى ردّ تلك الروايات، والله أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 86).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 332).

(3)

"فتح الباري"(10/ 86).

ص: 102

قال الحافظ

(1)

: الكرع: تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كفٍّ، وقال ابن التِّين: حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معًا قال: وأهل اللغة على خلافه قلت: ويرده ما أخرجه ابن ماجه

(2)

عن ابن عمر قال: "مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها" الحديث، ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظًا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم: كرع؛ لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه

(3)

من وجه آخر عن ابن عمر فقال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع" وسنده أيضًا ضعيف، انتهى مختصرًا.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فقد قال الحافظ

(4)

: وإنما قيد في الترجمة بالحوض؛ لأن جابرًا أعاد قوله: وهو يحول الماء في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مرتين، والظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه، فكأنه كان هناك حوض يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب، انتهى.

(20 -‌

‌ باب خدمة الصغار الكبار)

ذكر فيه حديث أنس: "كنت قائمًا على الحي أسقيهم وأنا أصغرهم" وهو ظاهر فيما ترجم به، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 77).

(2)

"سنن ابن ماجه"(رقم 3433).

(3)

"سنن ابن ماجه"(رقم 3431).

(4)

"فتح الباري"(10/ 88).

(5)

"فتح الباري"(10/ 88).

ص: 103

(21 -‌

‌ باب تغطية الإناء)

ذكر فيه حديث جابر وفيه: "وخمروا الطعام والشراب"، ومعنى التخمير التغطية، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(22 -‌

‌ باب اختناث الأسقية)

افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة، وهو الانطواء والتكسر والانثناء، والأسقية جمع السقاء، والمراد به المتخذ من الأدم صغيرًا كان أو كبيرًا، وقيل: القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرًا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(23 -‌

‌ باب الشرب من فم السقاء)

أشار المصنف إلى ترجيح روايات النهي وإلى أن النهي عامّ، ولذا لم يكتف على الترجمة السابقة، وكذا مال الحافظ إلى ترجيح المنع كما سيأتي.

قال الحافظ

(3)

: الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها، قال ابن المنيِّر: لم يقنع بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاصّ بصورة الاختناث فبين أن النهي عام، انتهى.

قال النووي: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر؛ فقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي، قال النووي: ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك.

قلت: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله، فهي أرجح، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة؛ لأنهم كانوا أولًا

(1)

"فتح الباري"(10/ 89).

(2)

"فتح الباري"(10/ 89).

(3)

"فتح الباري"(10/ 90 - 92).

ص: 104

يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز.

قال الحافظ: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث كبشة قالت: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة"، وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة في "الشمائل"، انتهى، ملخصًا وملتقطًا من "الفتح".

وقد بسط الحافظ في الجمع بين الروايات، وحاصله أن فعله صلى الله عليه وسلم إما خاصّ به أو محمول على الجواز أو للضرورة أو منسوخ بأحاديث النهي، وكذا حكى الحافظ عن ابن أبي جمرة عدة أقوال في علة النهي، فارجع إليه لو شئت.

(24 -‌

‌ باب النهي عن التنفس في الإناء)

ذكر فيه حديث أبي قتادة، وقد تقدم في "كتاب الطهارة".

قال الحافظ

(1)

تحت حديث الباب: زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر النهي عن النفخ في الإناء، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي، وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء، إلى آخر ما ذكره الحافظ.

(25 -‌

‌ باب الشرب بنفسين أو ثلاثة)

كذا ترجم مع أن لفظ الحديث الذي أورده في الباب: "كان يتنفس" فكأنه أراد أن يجمع بين حديث الباب والذي قبله؛ لأن ظاهرهما التعارض فحملهما على حالتين: التنفس داخل الماء والتنفس خارجه، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 92).

(2)

"فتح الباري"(10/ 93).

ص: 105

فأشار المصنف بعقد الترجمتين هذه والسابقة إلى أن كل واحد منهما من آداب الشرب، أحدهما عدم التنفس في الإناء، وثانيهما عدم الشرب بنفس واحد.

قال القسطلاني

(1)

تحت حديث الباب: أي: لا يجعل نفسه داخل الإناء لأنه قد يقع منه شيء من الريق فيعافه الشارب، و"أو" للتنويع أو للشك من الراوي، وفي حديث ابن عباس رفعه بسند ضعيف عند الترمذي:"لا تشربوا واحدة كما يشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث" فلم يقل "أو"، انتهى.

وقال العيني

(2)

بحثًا على المسألة: والأصل أن المستحب الشرب في ثلاثة أنفاس، واختلفوا هل يجوز الشرب بنفس واحد؟ فروي عن ابن عباس وطاوس وعكرمة كراهته، وقال ابن عباس: هو شرب الشيطان، إلى آخر ما ذكر.

(26 -‌

‌ باب الشرب في آنية الذهب)

كذا أطلق الترجمة، وكأنه استغنى عن ذكر الحكم بما صرح به بعد في "كتاب الأحكام" أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم حتى يقوم دليل الإباحة، وقد وقع التصريح في حديث الباب بالنهي، ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في القديم ونقل عنه أدت النهي فيه للتنزيه؛ لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونصّ في الجديد على التحريم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 422، 423).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 627).

(3)

"فتح الباري"(10/ 94).

ص: 106

(27 -‌

‌ باب آنية الفضة)

تقدم حكمه في الباب السابق.

قال الحافظ

(1)

: وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلًا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره: ويلتحق بهما (أي: بالأكل والشرب) ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذّت فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل، قال: واختلف في علة المنع، فذكر فيه أقوالًا عديدة، فارجع إليه لو شئت.

(28 -‌

‌ باب الشرب في الأقداح)

أي: هل يباح أو يمنع لكونه من شعار الفسقة؟ ولعله أشار إلى أن الشرب فيها وإن كان من شعار الفسقة لكن ذلك بالنظر إلى المشروب وإلى الهيئة الخاصة بهم فيكره التشبه بهم، ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح إذا سلم من ذلك، قاله الحافظ

(2)

.

وتعقب عليه العلَّامة العيني

(3)

إذ قال: هذا كلام غير مستقيم، وكيف يقول: إن الشرب فيها من شعائر الفسقة؟ وقد وضع البخاري عقيب هذا "باب الشرب من قدح النبي- صلى الله عليه وسلم"، وذكروا أيضًا أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح يقال له: الريان، وآخر يقال له: المغيث، وآخر مضبّب بثلاث ضبّات من فضة، وقيل: من حديد، وفيه حلقة يعلق بها، أصغر من المد وأكثر من نصف المد، إلى آخر ما بسط، وسكت العلامة القسطلاني عن غرض الترجمة.

(1)

"فتح الباري"(10/ 97، 98).

(2)

"فتح الباري"(10/ 98).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 631).

ص: 107

ولا يبعد عندي أن تكون إشارة إلى ترجيح القدح على الكوز والإبريق وغيرهما، فإن القدح لسعة فمه يظهر فيه للشارب ما قد يسقط فيه شيء من التبن ونحوه.

(29 -‌

‌ باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم

-)

أي: تبركًا به، قال ابن المنيِّر: كأنه أراد بهذه الترجمة دفع توهم من يقع في خياله أن الشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تصرف في ملك الغير بغير إذن، فبيَّن أن السلف كانوا يفعلون ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما تركه فهو صدقة، لا يقال: إن الأغنياء كانوا يفعلون ذلك والصدقة لا تحل للغني؛ لأن الجواب أن الممتنع على الأغنياء من الصدقة هو المفروض منها، وهذا ليس من الصدقة المفروضة.

قال الحافظ

(1)

: والذي يظهر أن الصدقة المذكورة من جنس الأوقاف المطلقة ينتفع بها من يحتاج إليها، وتقرّ تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان عند سهل قدح، وعند عبد الله بن سلام آخر، والجبة عند أسماء بنت أبي بكر وغير ذلك، انتهى من "الفتح".

قلت: لا حاجة إلى هذا البحث الطويل، بل الغرض من الترجمة الشرب من قدح شرب منه صلى الله عليه وسلم تبركًا به أعم من أن يكون ذلك القدح في ملكه صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وعلى هذا فمطابقة الحديث للترجمة أيضًا ظاهرة، فإن الظاهر أن القدح المذكور في أول حديث الباب كان لسهل لا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة حينئذٍ في إثبات المطابقة إلى ما ذكره العلَّامة العيني

(2)

من أن هذا القدح في الأصل كان للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. فإنه خلاف الظاهر، بل الظاهر أنه كان لسهل رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 99).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 631، 632).

ص: 108

وقال الحافظ

(1)

أيضًا: ومطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة من جهة رغبة الذين سألوا سهلًا أن يخرج لهم القدح المذكورة ليشربوا فيه تبركًا به، انتهى.

ولم يتعرض القسطلاني لوجه المطابقة.

(30 -‌

‌ باب شرب البركة والماء المبارك)

قال المهلب: سمي الماء بركة؛ لأن الشيء إذا كان مباركًا فيه يسمى بركة، وقال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر فيه البركة بالمعجزة، بل يستحب الإكثار منه، وقال ابن المنيِّر: في ترجمة البخاري إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه الإكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل الثلث له، انتهى

(2)

.

فعلى هذا الغرض من الترجمة بيان جواز الإكثار في الشرب من الماء المبارك.

والأوجه عندي: أن الغرض من الترجمة السابقة الاستبراك المخصوص بقدح النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار بهذه الترجمة إلى الاستبراك مطلقًا أعم من أن يكون حصل بيد النبي صلى الله عليه وسلم أو بيد غيره من الصلحاء، ويشير إليه إطلاق لفظ الترجمة، وإن كان المذكور في حديث الباب ذكر بركته صلى الله عليه وسلم فيقاس بركة غيره عليه صلى الله عليه وسلم.

وأما براعة الاختتام ففي قوله: "ليس معنا ماء"، وهكذا يمكن في قوله:"تابعه سعيد. . ." إلخ، كما أفاده الحافظ، فإن الناس يتبع أحدهم الآخر في كل يوم إلى دار القرار، وهو المعبر بلساننا بلفظ "جل جلاؤ"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 100).

(2)

"فتح الباري"(10/ 102).

(3)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 109

75 -

‌ كتاب المرضى

هكذا في النسخة "الهندية" وكذا في نسخة "الفتح"، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني""كتاب المرضى والطب"، ثم أفرد في نسختيهما فيما سيأتي "كتاب الطب"، فعلى هاتين النسختين يلزم التكرار، ولعل زيادة "والطب" في نسختيهما من تصرف النساخ، وليس في أصل نسختيهما فإنهما قد تعرضا ههنا لتحقيق لفظ المرضى ولم يتعرضا لمعنى الطب أصلًا، والله أعلم.

قال القسطلاني

(1)

: وقال في "الفتح": "كتاب المرضى،‌

‌ باب ما جاء في كفارة المرض

"، كذا لهم إلا أن البسملة سقطت لأبي ذر، وخالفهم النسفي فلم يفرد كتاب المرضى من كتاب الطبّ بل صدر بـ "كتاب الطب"، ثم بسمل، ثم ذكر "باب ما جاء في كفارة المرض"، واستمر على ذلك إلى آخر "كتاب الطب"، ولكل وجه، والمرضى جمع مريض، والمرض خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، ويعبر عنه بأنه حالة تصدر بها الأفعال خارجة عن الموضوع لها غير سليمة، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: المراد بالمرض ههنا مرض البدن، وقد يطلق المرض على مرض القلب إما للشبهة كقوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وإما للشهوة كقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، ووقع ذكر مرض البدن في القرآن في الوضوء والصوم والحج، انتهى.

(1 - باب ما جاء في كفارة المرض)

الكفارة صيغة مبالغة من الكفر وهو التغطية، ومعناه أن ذنوب المؤمن تتغطى بما يقع له من ألم المرض، وقوله:"كفارة المرض" هو من الإضافة

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 433).

(2)

"فتح الباري"(10/ 104).

ص: 110

إلى الفاعل، وأسند التكفير للمرض لكونه سببه، وقال في "الكواكب": الإضافة بيانية كنحو: شجر الأراك، أي: كفارة هي مرض، إلى آخر ما ذكر القسطلاني

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: "وقول الله عز وجل. . ." إلخ، قال الكرماني: مناسبة الآية للباب أن الآية أعم إذ المعنى أن كل من يعمل سيئة فإنه يجازى بها، وقال ابن المنيِّر: الحاصل: أن المرض كما جاز أن يكون مكفرًا للخطايا فكذلك يكون جزاء لها، وقال ابن بطال: ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها، وعن الحسن أن الآية المذكورة نزلت في الكفارة خاصة، والأحاديث في هذا الباب تشهد للأول، انتهى.

قال الحافظ: والأحاديث الواردة في سبب نزول الآية لما لم تكن على شرط البخاري ذكرها، ثم أورد من الأحاديث على شرطه ما يوافق ما ذهب إليه الأكثر من تأويلها، ثم ذكر الحافظ عدة روايات في شأن نزولها.

قال العلامة السندي

(3)

: في ذكر هذه الآية ههنا إشارة إلى أن المراد بالجزاء في الآية ما يعم المرض ونحوه كما ورد في الحديث: "لا جزاء الآخرة فقط"، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: نقل عن الشافعي في "المسامرة": أن الصبر ليس بشرط في كون المصائب كفارات، نعم إن صبر يضاعف له الأجر، وقال: إن المصائب بمنزلة العذاب فإنه مكفر مطلقًا، كذلك إن المصائب أيضًا نوع من العذاب فلا يشترط فيها الصبر؛ بل تلك في المسلم بالكفارة وضعًا، قلت: ونحوه عندي الحرُّ والقرُّ فإنه يكفر أيضًا، وإليه يشير قوله: "ما يصيب

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 433).

(2)

"فتح الباري"(10/ 104).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 2).

(4)

"فيض الباري"(6/ 32، 33).

ص: 111

المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم. . ." إلخ.

وقال الحافظ

(1)

بعد حديث الباب: وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال: ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة، إلى آخر ما ذكر.

وفي "الأوجز"

(2)

تحت حديث "من يرد الله به خيرًا يصب منه. . ." إلخ: وقد استدل به على أن مجرد حصول المرض يترتب عليه التكفير سواء انضم إلى ذلك صبر أم لا؟ وأبى ذلك قوم كالقرطبي في "المفهم" فقال: محل ذلك إذا صبر واحتسب، إلى آخر ما بسط الحافظ في ذلك.

قلت: ومال أبو الوليد الباجي أيضًا إلى التقييد بالصبر والاحتساب كما في "الأوجز"، فارجع إليه لو شئت.

(2 -‌

‌ باب شدة المرض)

أي: وبيان ما فيها من الفضل، هكذا في "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني"

(3)

.

(3 -‌

‌ باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل الأول فالأول)

اختلفت النسخ، وفي نسخة الهندية هكذا، واكتفى في نسخة "الفتح" على لفظ:"ثم الأمثل فالأمثل"، وفي نسختي "العيني" و"القسطلاني":"الأنبياء ثم الأول فالأول".

(1)

"فتح الباري"(10/ 105).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 514).

(3)

"فتح الباري"(10/ 110)، و"عمدة القاري"(14/ 438)، و"إرشاد الساري"(12/ 642).

ص: 112

قال الحافظ

(1)

: قوله: "ثم الأمثل فالأمثل" كذا للأكثر، وللنسفي "الأول فالأول" وجمعهما المستملي، والمراد بالأول الأولية في الفضل، والأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل، وهم الفضلاء، وصدر هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الدارمي وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال:"قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه" الحديث، وفيه:"حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، ولعل الإشارة بلفظ:"الأول فالأول" إلى ما أخرجه النسائي من حديث فاطمة أخت حذيفة وفيه: "أشد الناس بلاءًا لأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، انتهى من "الفتح".

(4 -‌

‌ باب وجوب عيادة المريض)

كذا جزم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة، وتقدم حديث أبي هريرة في "الجنائز":"حق المسلم على المسلم خمس"، فذكر منها عيادة المريض، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع، ويحتمل أن يكون للندب، وجزم الداودي بالأوّل.

وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض، وعن الطبري: تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسنّ فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعني: على الأعيان.

واستدل بعموم قوله: "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد، لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجي، قد يأتي مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد

(1)

"فتح الباري"(10/ 111).

ص: 113

عقبه المصنف به، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم:"عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم، وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسياقه أتم. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعًا:"ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والدرس" فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، ويؤخذ من إطلاق الحديث أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور.

وجزم الغزالي في "الإحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس:"كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث"، وهذا حديث ضعيف جدًا، تفرد به مسلمة بن علي وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: هو حديث باطل، انتهى.

ثم ذكر الحافظ الكلام على آداب العيادة، فارجع إليه لو شئت

(1)

.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: بسط الكلام على المسألة في "الأوجز"، وحديث ابن ماجه ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"، وكذا ابن طاهر المقدسي في "تذكرة الموضوعات"، وذكر السخاوي له شواهد في "المقاصد الحسنة"، وقال السندي: لعله إن صح يحمل على أنه لتحقق مرضه، أي: يؤخر حتى يتحقق عنده أنه مريض، انتهى.

وأطال الزرقاني الكلام عليه في "شرح المواهب"، انتهى.

(5 -‌

‌ باب عيادة المغمى عليه)

قال ابن المنيِّر: فائدة الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده.

قال الحافظ

(3)

: ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية

(1)

"فتح الباري"(10/ 112، 113).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 445)، و"أوجز المسالك"(16/ 549 - 552).

(3)

"فتح الباري"(10/ 114).

ص: 114

العيادة عليه لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك، انتهى من "الفتح".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

تحت الترجمة: دفع بذلك ما عسى أن يتوهم من أن عيادته لغو؛ لأنها لم يتحصل بها تطييب قلبه لعدم عقله وكان الأهم هو هذا، انتهى.

(6 -‌

‌ باب فضل من يصرع من الريح)

اختلفوا في المراد من الريح على قولين: فالأكثرون على أن المراد منه مرض يحدث من حبس الرياح، وقال بعضهم: هو ما يحدث من أثر الجن، وفي "المجمع"

(2)

عن النووي في "شرح مسلم": قوله: "يرقى من هذه الريح" أراد به الجنون ومسّ الجن، وروي "من الأرواح" أي: الجن لأنهم كالريح أو الروح في عدم إبصارهم، انتهى.

وقال العيني

(3)

: قوله: "من الريح" كلمة "من" تعليلية، أي: بسبب الريح، انتهى.

وبسط الكلام عليه الحافظ، ومنه في هامش "اللامع"، فارجع إليه

(4)

.

(7 -‌

‌ باب فضل من ذهب بصره)

قال الحافظ

(5)

: سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي، وقد جاء بلفظ الترجمة حديث أخرجه البزار عن زيد بن أرقم بلفظ: "ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره، ومن ابتلي ببصره فصبر حتى

(1)

"لامع الدراري"(9/ 445).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(2/ 394).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 646).

(4)

راجع: "فتح الباري"(10/ 114)، و"لامع الدراري"(9/ 446).

(5)

"فتح الباري"(10/ 116).

ص: 115

يلقى الله تعالى لقي الله تعالى ولا حساب عليه"، وأصله عند أحمد بغير لفظه بسند جيد، انتهى.

(8 -‌

‌ باب عيادة النساء الرجال)

أي: ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر، انتهى من "الفتح"

(1)

(9 -‌

‌ باب عيادة الصبيان)

مصدر مضاف لمفعوله، أي: عيادة الرجال الصبيان، وقد مرَّ حديث الباب في "الجنائز"، قاله القسطلاني

(2)

.

(10 -‌

‌ باب عيادة الأعراب)

بفتح الهمزة، وهم سكان البوادي، قاله الحافظ

(3)

.

وقال تحت حديث الباب: قال المهلب: فائدة هذا الحديث أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابيًّا جافيًا، ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلّمه ويذكّره بما ينفعه ويأمره بالصبر، إلى آخر ما ذكر الحافظ.

(11 -‌

‌ باب عيادة المشرك)

قال الكرماني

(4)

: قالوا: إنما يعاد المشرك ليدعى إلى الإسلام إذا رجي إجابته إليه، وأما إذا لم يطمع في إسلامه فلا يعاد، انتهى.

وحكى الحافظ هذا القول عن ابن بطال، ثم قال

(5)

: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 117).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 448).

(3)

"فتح الباري"(10/ 119).

(4)

"شرح الكرماني"(20/ 118).

(5)

"فتح الباري"(10/ 119).

ص: 116

قلت: ذكر في "الشرح الكبير" للحنابلة عن أحمد فيه روايتان، وفي "الدر المختار": جاز عيادته بالإجماع، وفي عيادة المجوسي قولان، قال ابن عابدين: قوله: عيادته، أي: عيادة مسلم ذميًّا نصرانيًا أو يهوديًا لأنه نوع برٍّ في حقهم، وما نهينا عن ذلك، وصحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديًا، وقوله: في عيادة المجوسي. . . إلخ، قال في "العناية": فيه اختلاف المشايخ، فمنهم من قال به لأنهم أهل الذمة، وهو المروي عن محمد، ومنهم من قال: هم أبعد عن الإسلام من اليهود والنصارى، ألا ترى أنه لا تباح ذبيحة المجوس ونكاحهم، انتهى. فظاهر المتن كـ "المنتقى" وغيره اختيار الأول، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(1)

.

(12 -‌

‌ باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة فصلى بهم)

أي: المريض بمن عاده، وتقدم شرح حديث الباب في أبواب الإمامة من "كتاب الصلاة"، وكذا قول الحميدي المذكور في آخره، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(13 -‌

‌ باب وضع اليد على المريض)

قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحًا.

قلت: وقد يكون العائد عارفًا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 448).

(2)

"فتح الباري"(10/ 120).

(3)

"فتح الباري"(10/ 120).

ص: 117

(14 -‌

‌ باب ما يقال للمريض وما يجيب)

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك أنه ينبغي للعائد أن يقول خيرًا، وللمريض أن يحسن الظن بربه تعالى، فلا يتكلم بشرٍّ، وأيضًا ففي الحديث دلالة على أنه لا بأس لو تكلم بشيء مما يجد إذا لم يكن على سبيل الشكوى، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر مطابق لحديث الباب، والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بالترجمة على عادته المستمرة إلى ما أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يردّ شيئًا، وهو يطيب نفس المريض"، لكن لما كان في سنده ضعفًا

(2)

لم يخرجه البخاري بل أشار إليه.

قال الحافظ

(3)

بعد ذكر حديث الترمذي هذا: وفي سنده لين، وقوله:"نفسوا" أي: أطمعوه في الحياة، ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من الكرب وطمأنينة لقلبه، انتهى.

والتنفيس في الحديث الثاني من حديثي الباب الظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس"، وأما في الحديث الأول ففي قول ابن مسعود:"إنك لتوعك وعكًا شديدًا" يعني: هذه عادة مستمرة لك ليس بأمر جديد يخاف منه، انتهى من هامش "اللامع" بزيادة.

(15 -‌

‌ باب عيادة المريض راكبًا وماشيًا ورِدْفًا)

بكسر الراء وسكون الدال، أي: مرتدفًا لغيره، قاله القسطلاني

(4)

.

(16 -‌

‌ باب قول المريض: إني وجع)

كذا في النسخة "الهندية" و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح":"باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع. . ." إلخ.

(1)

"لامع الدراري"(9/ 448، 449).

(2)

كذا في الأصل، والظاهر:"ضعفٌ".

(3)

"فتح الباري"(10/ 121).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 456).

ص: 118

قال الحافظ

(1)

في ذكر مناسبة أحاديث الباب بالترجمة: وأما قول أيوب عليه السلام فاعترض ابن التِّين ذكره في الترجمة فقال: هذا لا يناسب التبويب؛ لأن أيوب إنما قاله داعيًا، ولم يذكره للمخلوقين، قلت: لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردًّا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضاء والتسليم، فنبَّه على أن الطلب من الله ليس ممنوعًا، بل فيه زيادة عبادة؛ لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم، وأثنى الله عليه بذلك، وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد بسط الحافظ الكلام على تفصيل ما يجوز من التشكي وما لا يجوز منه، فارجع إليه لو اشتقت.

قوله: (بل أنا وارأساه) في هامش النسخة المصرية عن شيخ الإسلام

(2)

: أي: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي، فإنك لا تموتين في هذه الأيام بل تعيشين بعدي.

وقوله: (وأعهد) أي: أوصي بالخلافة لأبي بكر.

وقوله: (أن يقول القائلون. . .) إلخ، أي: كراهة ذلك، انتهى.

(17 -‌

‌ باب قول المريض: قوموا عني)

أي: إذا وقع من الحاضرين عنده ما يقتضي ذلك، وتقدم حديث الباب في "كتاب العلم" بلفظ:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني"، وهو المطابق للترجمة، ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره، وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه، وجملة آداب العيادة عشرة أشياء، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 124).

(2)

"تحفة الباري"(5/ 517).

(3)

"فتح الباري"(10/ 126).

ص: 119

(18 -‌

‌ باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له)

وفي رواية الكشميهني: "ليدعو له"، ذكر فيه حديث الجعيد وهو ابن عبد الرحمن والسائب هو ابن يزيد، وقد تقدم الحديث مشروحًا في الترجمة النبوية عند ذكر خاتم النبوة، وستأتي الإشارة إلى خصوص المسح على رأس المريض والدعاء بالبركة في "كتاب الدعوات" إن شاء الله تعالى

(1)

.

(19 -‌

‌ باب نهي تمني المريض الموت)

كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"باب تمني المريض الموت".

قال الحافظ

(2)

: أي: هل يمنع مطلقًا أو يجوز في حالة؟ ثم ذكر اختلاف النسخ المذكور آنفًا.

وقال القسطلاني

(3)

تحت حديث الباب: ولابن حبان: "لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" الحديث، فلو كان الضرر أخرويّ

(4)

بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في "الموطأ"

(5)

: "اللَّهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط"، وعند أبي داود

(6)

من حديث معاذ مرفوعًا: "إذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون"، انتهى.

قوله: (لن يدخل أحدًا عمله الجنة) بسط العلامة السندي

(7)

الكلام على

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 127).

(2)

"فتح الباري"(10/ 128).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 467).

(4)

كذا في الأصل، وفي "القسطلاني":"للأخرى"، وهو الظاهر.

(5)

انظر "أوجز المسالك"(15/ 303).

(6)

كذا قال الحافظ، ولم أعثر عليه في "سنن أبي داود"، انظر:"أنيس الساري"(11/ 1199).

(7)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 7).

ص: 120

شرح هذا الحديث، وقال أيضًا: وأما قوله: "فسددوا" فمعناه: فتوسطوا في الأعمال ولا تفرطوا فيها، إذ ليس المدار عليها بل على الفضل، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى.

(20 -‌

‌ باب دعاء العائد للمريض)

أي: بالشفاء ونحوه، وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(21 -‌

‌ باب وضوء العائد للمريض)

ولا يخفى أن محله إذا كان العائد بحيث يتبرك المريض به، قاله الحافظ

(2)

. وكذا في "القسطلاني"، وقال العيني

(3)

: أي: هذا باب في بيان وضوء العائد عند دخوله على المريض، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

تحت حديث الباب: وفيه أن وضوء العائد للمريض إذا كان إمامًا في الخير يتبرك به، وأن صبّه مما يرجى نفعه، وقيل: كان مرض جابر الحمى المأمور بإبرادها بالماء، وصفة ذلك أن يتوضأ الرجل المرجوّ خيره وبركته، ويصبّ فضل وضوئه عليه، قاله ابن بطال وغيره، انتهى.

(22 -‌

‌ باب من دعا برفع الوباء والحمى)

قال عياض: الوباء عموم الأمراض، وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده، لكن ليس كُلّ وباء طاعونًا، وعلى ذلك يحمل قول الداودي لما ذكر الطاعون: الصحيح أنه الوباء، وقال ابن الأثير في "النهاية": الطاعون المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به

(1)

"فتح الباري"(10/ 131، 132).

(2)

"فتح الباري"(10/ 132)، و"إرشاد الساري"(12/ 472).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 666).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 473).

ص: 121

الأمزجة والأبدان، إلى آخر ما بسط الحافظ

(1)

.

ثم قال: وقد استشكل بعض الناس الدعاء برفع الوباء لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت، والموت حتم مقضيّ فيكون ذلك عبثًا، وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيئ الأسقام، انتهى مختصرًا.

قلت: وما يظهر لهذا العبد الضعيف في الغرض من الترجمة أنه إنما ترجم بذلك لأن لا يتوهم أنه لا ينبغي الدعاء برفع الوباء والحمى، فإنهما من أسباب الشهادة وكفارة السيئات، فإن الطاعون من أسباب الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام:"المطعون شهيد".

وبسط الكلام على أسباب الشهادة في آخر "كتاب الجنائز" من "الأوجز"

(2)

، وكذا في "كتاب الجهاد" منه، وفيه: ذكر الزرقاني منهم صاحب الحمى، انتهى.

ومطابقة الحديث بالترجمة قال القسطلاني

(3)

: ولم يذكر في هذا الحديث رفع البلاء الذي ترجم به، أجيب بأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه كما سبق في أواخر الحج بلفظ: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، انتهى.

وأما براعة اختتام الكتاب ففي قوله: "وانقل حماها" عند الحافظ رحمه الله، وأوضح منه عندي في قوله:"والموت أدنى من شراك نعله"

(4)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(10/ 133).

(2)

"أوجز المسالك"(4/ 542 - 548، 9/ 316).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 474).

(4)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 122

76 -

‌ كتاب الطب

تقدم في مبدأ "كتاب المرضى" اختلاف النسخ، وأن النسفي لم يفرد "كتاب الطب".

قال الحافظ

(1)

: قوله: "كتاب الطب"، وفي نسخة الصغاني:"والأدوية"، والطبّ بكسر المهملة، وحكى ابن السيد تثليثها، والطبيب هو الحاذق بالطبّ، ويقال له أيضًا: طبّ بالفتح والكسر، ومستطب، وامرأة طبّ بالفتح، ونقل أهل اللغة أن الطبّ بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي وللتداوي وللداء أيضًا، فهو من الأضداد، ويقال أيضًا للرفق والسحر، ويقال للشهوة، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص به المعالج عرفًا، والطب نوعان: طبّ جسد وهو المراد ههنا، وطبّ قلب، ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى، وأما طبّ الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة، إلى آخر ما بسط.

قال القسطلاني

(2)

: والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص به المعالج في العرف، لكن كره تسميته بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"أنت رفيق والله الطبيب" أي: أنت ترفق بالمريض والله الذي يبرئه ويعافيه، وترجم له أبو نعيم: كراهية أن يسمى الطبيب الله، انتهى.

قلت: يعني: أنه ليس من أسماء الله الحسنى، فلا يقال لله: يا طبيب.

وبسط الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد"

(3)

: في هديه صلى الله عليه وسلم في الطب

(1)

"فتح الباري"(10/ 134).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 475).

(3)

"زاد المعاد"(4/ 5).

ص: 123

الذي تطبب به صلى الله عليه وسلم، وبيَّن ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"

(1)

مختصرًا.

وترجم الإمام مالك في "الموطأ": "تعالج المريض"، وذكرت في "الأوجز"

(2)

بعض المباحث مما يتعلق بالعلاج والطب وفيه قال السيوطي: والأحاديث المأثورة في علمه صلى الله عليه وسلم بالطب لا تحصى، وقد جمع منها دواوين، واختلف في مبدأ هذا العلم على أقوال كثيرة، والمختار أن بعضه علم بالوحي إلى بعض الأنبياء، وسائره بالتجارب؛ لما روى البزار والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن نبي الله سليمان عليه السلام كان إذا قام يصلي رأى شجرة ثابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا، فإن كانت لدواء كتبت" الحديث، وفيه أيضًا عن النووي: مذهب السلف وعامة الخلف استحباب الدواء خلافًا لمن أنكره فقال: كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي، انتهى.

وكتب الشيخ في "البذل" في حديث أسامة: "جاء الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: تداووا"، الظاهر أن الأمر للإباحة والرخصة، وهو الذي يقتضيه المقام؛ فإن السؤال كان عن الإباحة قطعًا، ويفهم من كلام بعضهم أنه للندب وهو بعيد، نعم قد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا للجواز فمن نوى موافقته صلى الله عليه وسلم يؤجر على ذلك، كذا في "فتح الودود"، انتهى.

قلت: وبه جزم شيخ مشايخنا الكَنكَوهي في "الكوكب الدري" إذ قال: الأمر أمر إباحة وتخيير، ثم ذكر أنواع التوكل ومراتبه، إلى آخر ما بسط في "الأوجز".

(1)

"لامع الدراري"(9/ 453).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 526، 527)، و"بذل المجهود"(11/ 584)، و"الكوكب الدري"(3/ 78).

ص: 124

(1 -‌

‌ باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)

قال الحافظ

(1)

: كذا للإسماعيلي وابن بطال ومن تبعه، ولم أر لفظ "باب" من نسخ الصحيح إلا للنسفي، انتهى.

قلت: والترجمة لفظ حديث الباب، وأخرج مسلم من حديث جابر مرفوعًا: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى".

قال النووي

(2)

: وفي هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف، وردّ على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية، وقال: كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي، إلى آخر ما ذكر.

(2 -‌

‌ باب هل يداوي الرجل المرأة)

ههنا ثلاث أسئلة، ولكل منها جواب يستفاد ذلك من كلام الحافظ كما سترى، إذ قال: ليس في سياق حديث الباب تعرض للمداواة إلا أن يدخل في عموم قولها: "نخدمهم"، نعم ورد الحديث المذكور بلفظ:"ونداوي الجرحى ونردّ القتلى"، وقد تقدم كذلك في "باب مداواة النساء الجرحى" من "كتاب الجهاد"، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس، وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجًا لها أو محرمًا، وأما حكم المسألة فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجسّ باليد وغير ذلك، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 134).

(2)

"شرح النووي"(7/ 452).

(3)

"فتح الباري"(10/ 136).

ص: 125

(3 -‌

‌ باب الشفاء في ثلاث)

سقطت الترجمة للنسفي، ولفظ "باب" للسرخسي، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(فائدة): كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: قوله: "ورواه القمي. . ." إلخ، وهذا القمي غير القمي المعتبر في الروافض، فلا يغرنّ أحدًا قول الرافضة: أن القمي معتبر حتى إنه من رواة البخاري، انتهى.

وفي هامشه: القمي منسوب إلى قم: بلد بعراق العجم، وما له في البخاري سوى هذا الموضع، ورقم عليه الحافظ في "التهذيب": خت والأربعة، وما أفاده الشيخ من أنه ليس من الروافض به جزم شيخنا في "البذل" إذ قال: ليس هو بابن بابويه القمي الرافضي كما زعمه بعض المتأخرين، انتهى.

وهذا ظاهر فإن الرافضي هو ابن بابويه، وراوي البخاري ابن عبد الله بن سعد، وقد ذكره الحافظ في "مقدمة الفتح" في سياق أسماء من طُعِن فيه من رجال البخاري في المعلقات، انتهى ملخصًا.

(4 -‌

‌ باب الدواء بالعسل وقول الله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:

69])

كأنه أشار بذكر الآية إلى أن الضمير فيها للعسل وهو قول الجمهور، وزعم بعض أهل التفسير أنه للقرآن.

قال الحافظ

(3)

: والعسل يذكر ويؤنث، وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه منافع كثيرة، ثم بسطها.

قوله: (إن كان في شيء من أدويتكم خير. . .) إلخ، قال السندي رحمه الله في

(1)

"فتح الباري"(10/ 137).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 455، 456).

(3)

"فتح الباري"(10/ 140).

ص: 126

الحاشية

(1)

: التعليق بهذا الشرط ليس للشك، بل للتحقيق والتأكيد إذ وجود الخير في شيء من الأدوية من المحقق الذي لا يمكن فيه الشك، فالتعليق به يوجب تحقق المعلق به بلا ريب، كأن يقال: إن كان في أحد في العالم خير ففيك، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم، انتهى.

(5 -‌

‌ باب الدواء بألبان الإبل)

أي: في المرض الملائم له، قاله الحافظ

(2)

.

وعندي أن المصنف رحمه الله أشار بهذه الترجمة إلى أن شرب ألبان الإبل كان للتداوي كما أن شرب الأبوال كان للتداوي، فهذه الترجمة كالتوطئة للترجمة الآتية، فليس للذي يحل أبوالها كالمالكية والحنابلة مساغ لإثبات مذهبهم بأن شرب أبوالها كان للإباحة لاستوائه بشرب ألبانها وهو للتغذية، فنبَّه بهذه الترجمة بأن شرب الألبان أيضًا كان للتداوي، فتأمل فإنه لطيف، والله أعلم.

وأجاد البحث في "فيض الباري"

(3)

: وأبدى احتمال أن التداوي بالأبوال لم يكن بالشرب بل بالنشوق، وحكي عن بعض الأطباء أن رائحة أبوال الإبل نافعة لمرض الاستسقاء، انتهى.

ثم رأيت "الفيض" فإذا هو أيضًا قد أشار إلى نحو هذا.

(6 -‌

‌ باب الدواء بأبوال الإبل)

ذكر فيه حديث العرنيين، ووقع في خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رفعه:"عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذّرِبَة بطونَهم" والذربة بفتح المعجمة وكسر الراء جمع ذرب، والذرب بفتحتين: فساد المعدة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 9).

(2)

"فتح الباري"(10/ 141).

(3)

"فيض الباري"(1/ 429، 430).

(4)

"فتح الباري"(10/ 143).

ص: 127

(7 -‌

‌ باب الحبة السوداء)

وسيأتي في آخر الحديث: "والحبة السوداء الشونيز"، والشونيز بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون التحتانية بعدها زاي، وروي بفتح الشين، وحكى عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال: الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهرة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر، وهي الكمون الأسود، ويقال له أيضًا: الكمون الهندي، وعن الحسن البصري أنها الخردل، وحكى أبو عبيد الهروي أنها ثمرة البطم بضم الموحدة وسكون المهملة، وقال الجوهري: هو صمغ شجرة تدعى الكمكام، قال القرطبي تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين: أحدهما أنه قول الأكثر، والثاني كثرة منافعها بخلاف الخردل والبطم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "فيض الباري"

(2)

: وقد كتب جالينوس في الشونيز أربعين فائدة، وما لنا ولجالينوس، وإنما هو دواء من ربّنا ينتفع به مَن توكَّل عليه وفوَّض أمره إليه، انتهى.

(8 -‌

‌ باب التلبينة للمريض)

تقدم تفسير التلبينة بالبسط في "كتاب الأطعمة".

(9 -‌

‌ باب السعوط)

بمهملتين: ما يجعل في الأنف مما يتداوى به، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(10 -‌

‌ باب السعوط بالقسط الهندي والبحري)

قال أبو بكر بن العربي: القسط نوعان: هندي وهو أسود، وبحري وهو أبيض، والهندي أشدهما حرارة، قاله الحافظ

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 145).

(2)

"فيض الباري"(6/ 46).

(3)

"فتح الباري"(10/ 147).

(4)

"فتح الباري"(10/ 148).

ص: 128

(11 -‌

‌ باب أي ساعة يحتجم)

والمراد بالساعة في الترجمة مطلق الزمان لا خصوص الساعة المتعارفة، وورد في الأوقات اللائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء على شرطه، فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند الاحتياج، ولا تتقيد بوقت دون وقت؛ لأنه ذكر الاحتجام ليلًا، وذكر حديث ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم"، وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارًا.

ثم ذكر الحافظ

(1)

عدة روايات واردة في تعيين الأوقات والأيام للحجامة من روايات ابن ماجه و"سنن أبي داود" وغيرهما، وقال صاحب "الفيض"

(2)

تحت ترجمة الباب: لعل البخاري يشير إلى حديث عند أبي داود، فيه تفصيل الأيام للاحتجام، انتهى.

وتقدم عن الحافظ أن البخاري مال فيه إلى عدم تعيين الزمان.

(12 -‌

‌ باب الحجم في السفر)

قال الحافظ

(3)

: كأنه يشير إلى ما أورده في الباب الذي يليه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في طريق مكة"، وقد تبين في حديث ابن عباس أنه كان حينئذ محرمًا، فانتزعت الترجمة من الحديثين معًا، على أن حديث ابن عباس وحده كاف في ذلك؛ لأن من لازم كونه صلى الله عليه وسلم كان محرمًا أن يكون مسافرًا؛ لأنه لم يحرم قط وهو مقيم، انتهى.

(13 -‌

‌ باب الحجامة من الداء)

أي: بسبب الداء، قال الموفق البغدادي: الحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن، والحجامة للصبيان، وفي البلاد الحارة أولى من الفصد وآمن غائلة، وقد تُغني عن كثير من الأدوية، إلى

(1)

"فتح الباري"(10/ 149).

(2)

"فيض الباري"(6/ 47).

(3)

"فتح الباري"(10/ 150).

ص: 129

آخر ما ذكر الحافظ

(1)

.

(14 -‌

‌ باب الحجامة على الرأس)

ورد في فضل الحجامة في الرأس حديث ضعيف أخرجه ابن عدي عن ابن عباس رفعه: "الحجامة في الرأس تنفع من سبع: من الجنون، والجذام، والبرص، والنعاس، والصداع، ووجع الضرس، والعين" وقال الأطباء: إن الحجامة في وسط الرأس نافعة جدًّا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: وترجم الإمام أبو داود في "سننه

(3)

: "باب في موضع الحجامة" وأخرج فيه عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ثلاثًا في الأخدعين والكاهل" قال معمر: احتجمت فذهب عقلي حتى كنت ألقن فاتحة الكتاب في صلاتي، وكان احتجم على هامته، انتهى.

وقال محشيه: كأنه أخطأ الموضع أو المرض، انتهى.

فيمكن أن يكون الإمام البخاري تبادر ذهنه الثاقب إلى هذا الأثر فترجم بذلك.

(15 -‌

‌ باب الحجامة من الشقيقة والصداع)

أي: بسببهما، والشقيقة وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وذكر الصداع بعده من العام بعد الخاص، إلى آخر ما بسط الحافظ

(4)

من الكلام على أسباب الصداع وغير ذلك.

(16 -‌

‌ باب الحلق من الأذى)

أي: حلق شعر الرأس وغيره، وكأنه أورده عقب حديث الحجامة

(1)

"فتح الباري"(10/ 151).

(2)

"فتح الباري"(10/ 151).

(3)

انظر: "بذل المجهود"(11/ 589).

(4)

"فتح الباري"(10/ 153).

ص: 130

وسط الرأس للإشارة إلى أن جواز حلق الشعر للمحرم لأجل الحجامة عند الحاجة إليها يستنبط من جواز حلق جميع الرأس للمحرم عند الحاجة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(17 -‌

‌ باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو)

كأنه أراد أن الكيّ جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين، وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: واختلفت الروايات في الكيّ منعًا وجوازًا، وقد ترجم الإمام أبو داود في "سننه

(3)

: "باب في الكيّ"، وذكر فيه حديثين: أحدهما عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكيّ فاكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن"، وثانيهما حديث جابر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ من رمية"، واختلفوا في الجمع بينهما والبسط في الشروح.

قال الحافظ

(4)

: والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه - أي: النهي - خاصّ بعمران؛ لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيّه.

ثم قال الحافظ: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى إلا أن القرطبي نسب إلى "كتاب أدب النفوس" للطبري: أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ: روي أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأُحد، قلت: والثابت في الصحيح كما تقدم في غزوة أُحد أن فاطمة أحرقت حصيرًا فحشت به جرحه، وليس هذا الكيّ المعهود، وجزم ابن التِّين بأنه اكتوى، وعكسه ابن القيم في "الهدي"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 154).

(2)

"فتح الباري"(10/ 155).

(3)

انظر: "بذل المجهود"(11/ 592).

(4)

"فتح الباري"(10/ 155، 156).

ص: 131

(18 -‌

‌ باب الإثمد والكحل من الرمد)

أي: بسبب الرمد، والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة، وحكي فيه ضم الهمزة: حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز، وأجوده يؤتى به من أصبهان، والرمد بفتح الراء والميم: ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

.

قوله: (فيه عن أم عطية) يشير إلى حديث أم عطية مرفوعًا، وقد تقدم في أبواب العدة، لكن لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبًا إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه:"اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" أخرجه الترمذي وحسّنه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(19 -‌

‌ باب الجذام)

بضم الجيم وتخفيف المعجمة: هو علة رديئة تحدث من انتشار المِرَّة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء، انتهى.

ثم إنه يشكل ههنا أن حق هذه الترجمة أن تذكر في "كتاب المرضى" السابق لا في "كتاب الطب"، ولم يتعرض لهذا الإشكال أحد من الشرَّاح، ويمكن التفصي عنه أن الإمام البخاري إنما ذكره ههنا لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب:"فرّ من المجذوم. . ." إلخ، وإرشاده صلى الله عليه وسلم هذا من قبيل الحِمْيَة التي تناسب "كتاب الطب"، لا يقال: إنه سيأتي في هذا الكتاب

(1)

"فتح الباري"(10/ 157، 158).

(2)

"فتح الباري"(10/ 157).

ص: 132

بعض الأبواب المتعلقة بالأمراض؛ فإن للتوجيه فيها مساغًا كما لا يخفى، ويشكل على الحديث أيضًا أن ظاهره يخالف قوله صلى الله عليه وسلم:"لا عدوى. . ." إلخ، واختلف العلماء في الجمع بينهما كما بسط عليه الكلام الحافظ أشدَّ البسط، وكذا في "الأوجز"، ولخَّص في هامش "اللامع" من "الأوجز"، وفي آخره: فهذه ستة مسالك في الجمع بين تلك الأحاديث والاثنان في الترجيح، فصار المجموع ثمانية أقوال

(1)

، انتهى.

قلت: وسيأتي قريبًا "باب لا عدوى" ونذكر الكلام على دفع التعارض بين الروايات هناك.

(20 -‌

‌ باب المنّ شفاء للعين)

قال الحافظ

(2)

: في هذه الترجمة إشارة إلى ترجيح القول السائر إلى أن المراد بالمنّ في حديث الباب الصنف المخصوص من المأكول لا المصدر الذي بمعنى الامتنان، وإنما أطلق على المنّ شفاء؛ لأن الخبر ورد أن الكمأة منه وفيها شفاء، فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته للأصل أولى، انتهى. وبسط الكلام في شرح حديث الباب.

(21 -‌

‌ باب اللدود)

بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يصبّ في أحد جانبي فم المريض، واللدود بالضم: الفعل، ولددت المريض: فعلت ذلك به، وتقدم في "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" بيان مما لدوه صلى الله عليه وسلم به، قال الحافظ

(3)

.

قلت: واللدود في إباحته كالسعوط كلاهما من الأدوية المباحة، وإنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها ولم يكن به ذلك.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 158 - 163)، و"أوجز المسالك"(16/ 558 - 564)، و"لامع الدراري"(9/ 460).

(2)

"فتح الباري"(10/ 163).

(3)

"فتح الباري"(10/ 166).

ص: 133

(22 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال العلامة العيني

(1)

: كذا وقع "باب" مجردًا عن الترجمة، ولم يذكر ابن بطال لفظ "باب"، وأدخل الحديث في الباب الذي قبله، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقد استشكل ابن بطال مناسبة حديث هذا الباب للترجمة الذي قبله بعد أن تقرر أن الباب إذا كان بلا ترجمة يكون كالفصل من الذي قبله، وأجاب باحتمال أن يكون أشار إلى أن الذي يفعل بالمريض بأمره لا يلزم فاعل ذلك لوم ولا قصاص؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بصبّ الماء على كل من حضره بخلاف ما نهى عنه أن لا يفعل به؛ لأن فعله جناية عليه فيكون فيه القصاص.

قلت: ولا يخفى بعده، ويمكن أن يقرب بأن يقال أولًا: إنه أشار إلى أن الحديث عن عائشة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وما اتفق له فيه واحد، ذكره بعض الرواة تامًا، واقتصر بعضهم على بعضه، وقصة اللدود كانت عند ما أغمي عليه وكذلك قصة السبع قرب، لكن اللدود كان نهى عنه، ولذلك عاتب عليه بخلاف الصبّ فإنه كان أمر به فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفًا لا يكره على تناول شيء ينهى عنه ولا يمنع من شيء يأمر به، انتهى.

وقال العيني

(3)

بعد ذكر الإشكال: وأجيب بجواب فيه تعسف، وهو أنه يحتمل أن يكون بينه وبين الحديث السابق نوع تضادٍ؛ لأن في الأول فعلوا ما لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحصل عليهم الإنكار واللوم بذلك، وفي هذا فعلوا بما أمر به وهو ضدّ ذلك في المعنى، والأشياء تتبين بضدها، انتهى.

وسكت العلامة القسطلاني عن هذا البحث.

(1)

"عمدة القاري"(14/ 696).

(2)

"فتح الباري"(10/ 167).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 697).

ص: 134

والأوجه عندي: أن يقال: إن مَنْعَه صلى الله عليه وسلم عن اللدود كان خاصًا لنفسه الشريف إذ لو كان عامًّا لم يأمر بلدودهم.

(23 -‌

‌ باب العذرة)

بضم المهملة وسكون الذال المعجمة: هو وجع الحلق وهو الذي يسمى سقوط اللهاة، وقيل: هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من اللهاة، واللهاة بفتح اللام: اللحمة التي في أقصى الحلق، قاله الحافظ

(1)

.

(24 -‌

‌ باب دواء المبطون)

المراد بالمبطون من اشتكى بطنه لإفراط الإسهال، وأسباب ذلك متعددة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قوله: (كذب بطن أخيك) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: فيه مجاز والجامع الدلالة، والمقصود أنه ينتفع ويخبرك أنه يستضر فكان كذبًا حيث أظهر ما أبطن خلافه، وأراك خلاف الواقع، انتهى.

وأوضح منه ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب الدري"

(4)

كما ذكر في هامش "اللامع"، وكذا ذكر فيه من كلام الشرَّاح، فارجع إليه لو شئت.

(25 -‌

‌ باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن)

وهذا اختيار البخاري، وقيل: هو النسيء، أي: تأخير المحرم إلى صفر، وقيل: هو حية في البطن أعدى من الجرب، وقيل: هو الشؤم الذي كانوا يتشاءمون بدخول شهر صفر، كذا في الحاشية عن الكرماني

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 167، 168).

(2)

"فتح الباري"(10/ 168).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 456).

(4)

انظر: "الكوكب الدري"(3/ 97).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 492)، وانظر:"شرح الكرماني"(21/ 9).

ص: 135

قال الحافظ

(1)

: وترجح عند البخاري ما قال لكونه قرن الحديث بالعدوى، إلى آخر ما بسط في تفسيره.

وفي "القسطلاني"

(2)

: قوله: "وهو داء يأخذ البطن" زاد في "القاموس": يصفر الوجه، انتهى.

(26 -‌

‌ باب ذات الجنب)

قال العلامة القسطلاني

(3)

: أي: ذكر دواء داء، هو ذات الجنب الحادث في نواح الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل الذي في الصدر والأضلاع، انتهى.

وقال أيضًا في شرح قوله: "منها ذات الجنب" إلخ،: أي: صاحبة الجنب، ومعناه باليونانية "ورم الجنب"، وهو من الأمراض الخطرة؛ لأنه يحدث بين القلب والكبد، وهو من سيئ الأسقام، وينقسم قسمين: حقيقي وغير حقيقي، إلى آخر ما بسط.

(27 -‌

‌ باب حرق الحصير ليسدّ به الدم)

قال الحافظ

(4)

: قوله: "حرق الحصير" كذا لهم، وأنكره ابن التِّين فقال: والصواب "إحراق الحصير" لأنه من أحرق أو تحريق من حرّق، قال: فأما الحرق فهو: حرق الشيء يؤذيه، قلت: لكن له توجيه، انتهى.

قلت: وفي "مختار الصحاح"

(5)

: الحرق بفتحتين: النار، وأحرقه بالنار وحرّقه شُدِّد للكثرة، وتحرق الشيء بالنار واحترق، ثم قال: وحَرَقَ الشيءَ بالتخفيف بَرَدَه وحكّ بعضه ببعض، انتهى.

وهذا يخالف ما ذكره البخاري من قوله: "حرق الحصير" لكن قال في

(1)

"فتح الباري"(10/ 171).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 513).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 514، 515).

(4)

"فتح الباري"(10/ 174).

(5)

"مختار الصحاح"(ص 70).

ص: 136

"القاموس"

(1)

: وحَرَقَه بالنار يَحْرِقُه، وأحرقه، وحرّقه بمعنى، انتهى، وهذا يوافق البخاري.

وقال الحافظ

(2)

: وقوله: "ليسد به الدم" أي: مجاري الدم، أو ضمّن سدّ معنى قطع، وهو الوجه، وكأنه أشار إلى أن هذا ليس من إضاعة المال؛ لأنه إنما يفعل للضرورة المبيحة، قال ابن بطال: زعم أهل الطبّ أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم، بل الرماد كله كذلك؛ لأن الرماد من شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث "التداوي بالرماد" انتهى.

(28 -‌

‌ باب الحمى من فيح جهنم)

قال الحافظ

(3)

: وسيأتي في آخر الباب "من فوح" بالواو، وتقدم في صفة النار بلفظ "فور" بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرّها ووهجه، والحمى أنواع، واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنّة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة، وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حرَّ الحمى شبيه بحرِّ جهنم تنبيهًا للنفوس على شدة حرّ النار، والأول أولى، والله أعلم.

ثم بسط الحافظ الكلام على شرح قوله: "فأطفئوها بالماء"، وكذا بسط الكلام عليه في "الأوجز"

(4)

، وذكر أيضًا مختصرًا في هامش "اللامع".

وقال العلامة السندي

(5)

: قوله: "فأطفئوها بالماء. . ." إلخ، للحديث

(1)

"القاموس المحيط"(ص 805).

(2)

"فتح الباري"(10/ 174).

(3)

"فتح الباري"(10/ 175).

(4)

"أوجز المسالك"(16/ 540 - 544)، و"لامع الدراري"(9/ 464).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 14).

ص: 137

تأويلات كثيرة أشار المصنف إلى بعضها بحديث أسماء المذكور بعد ذلك، وقد سبق في الكتاب إشارة إلى أن المراد بـ[الماء] ماءُ زمزم، ومما يحتمله الحديث أن يكون كناية عن تغطية المحموم، والسعي في خروج العرق منه بما أمكن على أن المراد بالماء العرق المعلوم أنه يبرد الحمى، ويحتمل أن يكون كناية عن الاشتغال بما يستحق به المحموم الرحمة من التصدق وغيره من أعمال البر على أن المراد بالماء ماء الرحمة المعارض لنار جهنم، انتهى مختصرًا.

وقد وقع في سالف الزمان في بلدة ميرته وباء الحمى، وقد ضاع به رجال كثير، فعمل مولانا محمد قاسم النانوتوي نوَّر الله مرقده بهذا العلاج الغسل، فاشتفى به سبعمائة نفر، ولله در مشايخنا رحمهم الله ورضي عنهم، ومما يجب التنبيه عليه أن العبرة في أمثال هذه الأمور لقوة الإيمان وشدة الاعتقاد كما لا يخفى.

(29 -‌

‌ باب من خرج من أرض لا تلائمه)

من الملائمة بالمدّ، أي: الموافقة وزنًا ومعنىً، وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي أورده بعده في النهي عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه، وإنما هو مخصوص بمن خرج فرارًا منه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: ويناسب هذا الباب ما أخرجه أبو داود بسنده عن فروة بن مسيك رضي الله عنه، قال "قلت: يا رسول الله، أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وأنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف"، انتهى

(2)

.

قال الخطابي: ليس هذا من باب الطيرة والعدوى، وإنما هذا من باب

(1)

"فتح الباري"(10/ 178).

(2)

انظر: "بذل المجهود"(11/ 651، 652)، و"معالم السنن"(3/ 509).

ص: 138

الطبّ؛ لأن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى أسقام البدن عند الأطباء، وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى.

(30 -‌

‌ باب ما يذكر في الطاعون)

أي: مما يصح على شرطه، والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالًّا على الموت العام كالوباء، ويقال: طعن فهو مطعون وطعين إذ أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون، هذا كلام الجوهري، إلى آخر ما بسط الحافظ من كلام أهل اللغة والفقه والأطباء في تعريفه، واختار الحافظ أن الطاعون يغاير الوباء، فارجع إليه لو شئت

(1)

.

(31 -‌

‌ باب أجر الصابر في الطاعون)

وفي نسخة الحافظ: "على الطاعون"، وقال

(2)

: أي: سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها، انتهى.

وقال العلَّامة القسطلاني

(3)

في شرح الترجمة: أي: ذكر أجر الصابر في الطاعون ولو لم يصبه، ثم قال في شرح قوله:"فجعله الله رحمة للمؤمنين": من هذه الأمة، وزاد في حديث أبي عسيب عند أحمد:"ورجس على الكافر"، وهل يكون الطاعون رحمة وشهادة للعاصي من هذه الأمة أو يختص بالمؤمن الكامل؟ والمراد بالعاصي مرتكب الكبيرة الذي يهجم عليه الطاعون وهو مصرّ، فإنه يحتمل أن لا يلحق بدرجة الشهداء لقوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21].

(1)

راجع: "فتح الباري"(10/ 180).

(2)

"فتح الباري"(10/ 192).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 529، 530).

ص: 139

وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه: "لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع"، قال في "الفتح": فدل هذا وغيره مما روي معناه أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية فكيف يكون شهادة، نعم يحتمل أن تحصل له درجة الشهادة لعموم الأحاديث في ذلك، ولا يلزم المساواة بين الكامل والناقص في المنزلة؛ لأن درجات الشهادة متفاوتة، انتهى ملخصًا من "الفتح"، كذا في "القسطلاني"، وقد تقدم في مبدأ "كتاب المرضى" أن الثواب في المرض لا يتوقف على الصبر، نعم يحصل به مضاعفة الأجر.

(32 -‌

‌ باب الرقى بالقرآن والمعوذات)

الرقى بضم الراء وفتح القاف مقصورًا: جمع رقية بسكون القاف، أي: التعويذ، والمعوذات بكسر الواو المشددة: الفلق والناس والإخلاص من باب تسمية التغليب، أو المراد: المعوذتان وسائر العوذ كـ {وقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]، أو جمع اعتبارًا بأن أقل الجمع اثنان، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من المكروهات جملةً وتفصيلًا من السحر والحسد وشرّ الشيطان ووسوسته وغير ذلك، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

: "باب الرقى. . ." إلخ، وترجمته فيما وافقت الشرع "دم" وفيما خالفته "منتر"، انتهى.

(33 -‌

‌ باب الرقى بفاتحة الكتاب)

ذكر فيه حديث أبي سعيد، وقد تقدم في "كتاب الإجارة" في "باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب".

قال الحافظ

(3)

: قال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 531).

(2)

"فيض الباري"(6/ 60).

(3)

"فتح الباري"(10/ 198).

ص: 140

ومنافع فما الظن بكلام ربِّ العالمين، ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا في غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب إلى أن قال: وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم، انتهى.

(34 -‌

‌ باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم)

أراد إثبات جواز أخذ الأجرة في الرقية، وهو جائز عند الأئمة الأربعة، وإنما اختلفوا في أخذ الأجر على تعليم القرآن، كما تقدم الاختلاف في ذلك في "كتاب الإجارة".

(35 -‌

‌ باب رقية العين)

أي: رقية الذي يصاب بالعين، تقول: عنت الرجل: أصبته بعينك، فهو معين ومعيون، ورجل عائن ومعيان وعيون، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

في شرح الترجمة: وليس المراد به الرمد، بل الإضرار بالعين والإصابة بها، كما يتعجب الشخص من الشيء بما يراه بعينه فيتضرر ذلك الشيء من نظره.

وقال النووي: أنكرت طائفة العين قالوا: لا أثر لها، والدليل على فساد قولهم أنه أمر ممكن، والصادق أخبر بذلك فلا يجوز ردُّه، انتهى.

وبسط الحافظ الكلام على حقيقة الإصابة بالعين

(3)

.

(36 -‌

‌ باب العين حق)

أي: الإصابة بها من جملة ما تحقق من كونه لها تأثير في النفوس، قاله القسطلاني

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 200).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 717).

(3)

انظر: "فتح الباري"(10/ 200).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 537).

ص: 141

وقال أيضًا تحت حديث الباب: وفي الحديث ردّ على طائفة من المبتدعة حيث أنكروا إصابة العين كما تقدم في الباب السابق، ثم قال: واختلف في القصاص فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئًا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة كالساحر عند من لا يقتله كفرًا، وقال الشافعي: لا قصاص ولا دية ولا كفارة، إلى آخر ما ذكر.

(37 -‌

‌ باب رقية الحية والعقرب)

أي: مشروعية ذلك، وأشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب على ما سأذكره. ثم قال تحت حديث الباب: ووقع في رواية أبي الأحوص عن الشيباني بسنده: "رخص في الرقية من الحية والعقرب"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العلَّامة العيني

(2)

بعد حديث الباب: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "الرقية من كل ذي حمة" لأن الحمة كل شيء يلدغ أو يلسع، قاله الخطابي، وقيل: هي شوكة العقرب، انتهى.

(38 -‌

‌ باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم

-)

أي: التي كان يرقي بها، قاله الحافظ

(3)

.

قلت: لعله أشار به إلى أولوية الأخذ في الرقى بالمأثور من الأدعية.

(39 -‌

‌ باب النفث في الرقية)

بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة، في هذه الترجمة إشارة إلى الردّ على من كره النفث مطلقًا كالأسود بن يزيد أحد التابعين تمسّكًا

(1)

"فتح الباري"(10/ 206).

(2)

"عمدة القاري"(14/ 722).

(3)

"فتح الباري"(10/ 206).

ص: 142

بقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن خاصة كإبراهيم النخعي، أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره، فأما الأسود فلا حجة له في ذلك؛ لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذمّ النفث مطلقًا، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: إثبات الترجمة بالرواية مبنيّ على نوع مقايسة وتعدية للحكم لوجود علته، والله أعلم، انتهى.

وبهذا جزم العلامة العيني، وتعقب على الحافظ كما ذكر في هامش "اللامع" فارجع إليه.

(40 -‌

‌ باب مسح الراقي في الوجع بيده اليمنى)

لعله دفع بهذه الترجمة ما يتوهم من النفث كون اليسار أولى به وإن لم يكن في حديث الباب ذكر النفث.

(41 -‌

‌ باب المرأة ترقي الرجل)

مطابقة الحديث بالترجمة واضحة، وإنما ترجم المصنف بهذا الباب لكون الرقية متضمنة للنفث كما تقدم في الأبواب السابقة، والنفث يوجد فيه شيء من الريق البتة، وأيضًا لا يوجد بين الراقي والمرقي عادةً الحجاب، ولا إشكال في حديث الباب لكون الراقية من أزواجه، والإشكال إنما هو إذا كانت المرأة الراقية أجنبية، فإن ريقها مما يجتنب عنه، والله أعلم. ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح.

(1)

"فتح الباري"(10/ 209).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 465).

ص: 143

(42 -‌

‌ باب من لم يرق)

هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيًّا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيًّا للمفعول، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وكأن المصنف أشار إلى كونه - أي: ترك الرقية - من أعلى مراتب التوكل، أو الغرض بيان مستدل من لم ير الرقية وكرهها.

وقال العلامة القسطلاني

(2)

في شرح حديث الباب: قال ابن الأثير: وهذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها وهم خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا وأمرًا؛ لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، وكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ولا ينقص ذلك من توكله؛ لأنه كان كامل التوكل يقينًا، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئًا بخلاف غيره، انتهى.

(43 -‌

‌ باب الطيرة)

بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن: هي التشاؤم، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة، وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشائمون بالبارح، انتهى من "الفتح"

(3)

مختصرًا.

وفيه أيضًا

(4)

: أخرج عبد الرزاق حديثًا مرفوعًا: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ،

(1)

"فتح الباري"(10/ 211).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 549).

(3)

"فتح الباري"(10/ 212).

(4)

"فتح الباري"(10/ 213).

ص: 144

وإذا ظننت فلا تحقق"، وأخرج البيهقي في "الشعب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفًا: "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللَّهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك"، انتهى.

(44 -‌

‌ باب الفأل)

بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فؤول بالهمزة جزمًا، وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال:"ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيرها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللَّهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

وقوله: "وخيرها الفأل" قال الكرماني تبعًا لغيره: هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة وليس كذلك، بل هي إضافة توضيح إلى آخر ما ذكر في الفرق بين الفأل والطيرة وغير ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(45 -‌

‌ باب لا هامة)

وسيعيد المصنف هذه الترجمة قريبًا، وسيأتي هناك إن شاء الله وجه الفرق بين الترجمتين.

(46 -‌

‌ باب الكهانة)

بفتح الكاف ويجوز كسرها ادّعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، قال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادّة ونفوس شريرة وطباع نارية فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصًا في العرب لانقطاع النبوة فيهم، وهي أصناف، إلى آخر

(1)

"فتح الباري"(10/ 214).

ص: 145

ما بسط في "الفتح"

(1)

.

(47 -‌

‌ باب السحر وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا. . .} [البقرة: 102]) إلخ

والسحر بكسر السين وسكون الحاء المهملتين، وأما السحر بمعنى الصبح فبفتحتين، قال تعالى:{إلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، وفي "مختار الصحاح"

(2)

: السحر بالفتح وجمعه سحور كفلس وفلوس، وقد يحرك في مكان حرف الحلق، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: والسحر أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته، واختلف هل له حقيقة أم لا؟ والصحيح وهو الذي عليه الجمهور أن له حقيقة، وعلى هذا فهل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعًا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وفرقوا بين المعجزة والكرامة والسحر بأن السحر يكون بمعاناة أحوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، بل إنما تقع غالبًا اتفاقًا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي، وقال القرطبي: الحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحبّ والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر، انتهى من "القسطلاني".

وقال الحافظ

(4)

: قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان، ثم ذكر عدة معان ثم قال: واختلف في السحر فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة.

(1)

"فتح الباري"(10/ 216، 217).

(2)

"مختار الصحاح"(ص 143).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 559).

(4)

"فتح الباري"(10/ 222، 223).

ص: 146

قال النووي: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسُّنَّة الصحيحة المشهورة، انتهى.

لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ إلى آخر ما تقدم في كلام القسطلاني.

قال الحافظ: ونقل الخطابي أن قومًا أنكروا السحر مطلقًا، وكأنه عنى القائلين بأنه تخييل فقط، وإلا فهي مكابرة، وقال في الفرق بين السحر وبين غيره: ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق وأن الكرامة لا تظهر على فاسق، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

في الفرق بين المعجزة والسحر: أن السحر يحتاج إلى بقاء توجه نفس الساحر والتفاته إليه وتعلق عزيمته به، فإذا غفل عنه بطل أثره، بخلاف المعجزة فإنها أغنى عنه، وهذا لا ينافي بقاء بعض آثاره كالمرض والصحة، وإنما أريد به بطلانه حيث تأثيره في انقلاب الماهية، كجعل الدراهم دنانير، فتلك الدراهم لا تزال تخيل دنانير ما دام توجهه باقيًا إليها، فإذا انقطع تعود في المنظر كما كانت، ولذا تراهم يحتاجون إلى تجديد سحرهم في الأيام الخاصة ليقوى أثره، انتهى.

وبسط الكلام على حقيقة السحر في "الأوجز"

(2)

تحت قول كعب الأحبار: لولا كلمات أقولهن لجعلتني اليهود حمارًا.

وأما حكم السحر تعليمًا وتعلمًا فقال الحافظ

(3)

: في المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها، وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين: إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه، فالأول فلا محظور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعًا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان

(1)

"فيض الباري"(6/ 141، 142).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 68).

(3)

"فتح الباري"(10/ 224، 225).

ص: 147

للأوثان؛ لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل بخلاف تعاطيه، والعمل به، وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحلّ أصلًا، وإلا جاز للمعنى المذكور، وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر، انتهى.

قلت: ويؤيده الباب الآتي، فقد قرن فيه بين الشرك والسحر، وسيأتي حكم الساحر بعد بابين.

قوله: (لكنه دعا ودعا. . .) إلخ، في هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(1)

: أي: لكنه لم يكن مشتغلًا بي بل بالدعاء، والمستدرك منه قوله:"وهو عندي" أو قوله: "كان يخيل إليه" أي: كان السحر أضرّ في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث إنه توجه إلى الله ودعا، انتهى.

وكذا أفاد صاحب "الفيض"

(2)

: تحت قوله: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. . ." إلخ، كما سيأتي في "‌

‌باب هل يستخرج السحر

"، فاحفظ هذا اللفظ، فإنه صريح في أن السحر كان في أمور النساء، ولم يكن له تعلق بأمور الشرع، وفي أكثر الألفاظ إيهام كما في الرواية الآتية، ففيها أنه فعل الشيء وما فعله، فسبق إلى بعضهم الإطلاقُ نظرًا إلى اللفظ، فجعل يؤوله حتى إن أبا بكر الجصاص أنكر هذا الحديث رأسًا، انتهى.

(48 -‌

‌ باب الشرك والسحر من الموبقات)

أي: المهلكات.

(49 - باب هل يستخرج السحر؟)

أي: من الموضع الذي وضع فيه، كذا في "القسطلاني"

(3)

.

(1)

"تحفة الباري"(5/ 547).

(2)

"فيض الباري"(6/ 67).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 565).

ص: 148

قال صاحب "الفيض"

(1)

: واعلم أن في نقض الهيئة التركيبية للسحر أثرًا في إبطاله، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: كذا أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف، وصدَّر بما نقله عن ابن المسيب من الجواز إشارة إلى ترجيحه، انتهى.

قوله: (طبّ) بكسر الطاء المهملة وتشديد الموحدة: سحر، "أو" بإسكان الواو، "يؤخذ" بفتح الهمزة والخاء المعجمة المشددة، أي: يحبس، "عن امرأته" فلا يصل إلى جماعها، و "الأخذة" بضم الهمزة: هي الكلام الذي يقوله الساحر، وقيل: هي خرزة يرقى عليها، أو هي الرقية نفسها، "أيحل عنه" بهمزة الاستفهام وضم التحتية وفتح الهاء وتشديد اللام، "أو ينشر" بضم التحتية وسكون النون، وضبط بفتح النون وتشديد المعجمة من النشرة، وهي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرًا أو شيئًا من الجن.

قال الكرماني: وكلمة "أو" يحتمل أن تكون شكًّا أو نوعًا شبيهًا باللفّ والنشر بأن يكون الحلّ في مقابلة الطبّ، والتنشير في مقابلة التأخيذ، انتهى من كلام القسطلاني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث "العين حق" في قصة اغتسال العائن، وممن صرّح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري وغيرهما، ثم وقفت على صفة النشرة في "كتاب الطبّ النبويّ" لجعفر المستغفري، وفيه: وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة وورد البساتين، ثم يلقيهما في إناء نظيف، ويجعل فيهما ماء عذبًا، ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليًا يسيرًا، ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 67).

(2)

"فتح الباري"(10/ 233).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 565).

(4)

"فتح الباري"(10/ 233، 234).

ص: 149

ثم قال الحافظ

(1)

في شرح قوله: "حتى استخرجه. . ." إلخ، كذا وقع في رواية ابن عيينة، وفي رواية عيسى بن يونس:"قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته"، وفي رواية وهيب:"قلت: يا رسول الله، فأخرجه للناس"، وفي رواية ابن نمير:"أفلا أخرجته؟ قال: لا"، وكذا في رواية أبي أسامة التي بعد هذا الباب، قال ابن بطال: ذكر المهلب: أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان، وجعل سؤال عائشة عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس، وجعل سؤالها عن الاستخراج ولم يذكر الجواب، وصرَّح به أبو أسامة، قال: والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان لتقدمه في الضبط، ويؤيده أن النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة، والزيادة من سفيان مقبولة لأنه أثبتهم، قال: ويحتمل وجهًا آخر فذكر ما محصله: أن الاستخراج المنفيّ في رواية أبي أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان، فالمثبت هو استخراج الجفّ والمنفي استخراج ما حواه، قال: وكأن السرّ في ذلك أن لا يراه الناس فيتعلمه من أراد استعمال السحر، انتهى.

قلت: ولعل المصنف زاد لفظة "هل" لأجل هذا الاختلاف في الاستخراج وعدمه.

وقال القسطلاني

(2)

: وفي حديث عمرة عن عائشة من الزيادة أنه وجد في الطلعة تمثالًا من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، وكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة، انتهى.

قوله: (فلم ينهه عنه) كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: يعني: ما لم تكن فيه كلمة منهية عنها مما فيه شرك أو كفر أو غير ذلك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 234، 235).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 568).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 468، 469).

ص: 150

وذكر في "هامشه" ما يؤيد كلام الشيخ من الروايات، وفيه أيضًا عن "تقرير مولانا محمد حسن المكي" في بيان حكم النشرة: أن النشرة مشترك بين عمل خاص للحبّ وبين كشف السحر، ففي موضع النهي يراد به المعنى الأول، وفي موضع الإجازة يراد به المعنى الثاني، انتهى.

(50 -‌

‌ باب السحر)

قال الحافظ

(1)

: كذا وقع ههنا للكثير وسقط لبعضهم، وعليه جرى ابن بطال والإسماعيلي وغيرهما، وهو الصواب؛ لأن الترجمة قد تقدمت بعينها قبل ببابين، ولا يعهد ذلك للبخاري إلا نادرًا عند بعض دون بعض، انتهى.

قلت: ولا يبعد عند هذا العبد الضعيف أن يقال في دفع التكرار: أن الغرض من الترجمتين مختلف، فالغرض من الأول إثبات حقيقة السحر ردًّا على من أنكره كما تقدم، والغرض ههنا ذكر أحكام السحر من جواز العلاج لإزالته بالدعاء وغيره، أو أشار إلى أن إزالته بالدعاء أفضل من العلاج بالدواء، وسيأتي في "كتاب الدعوات""باب تكرير الدعاء"، فذكر فيه حديث سحره صلى الله عليه وسلم، وأشار بذلك إلى أنه ينبغي للمسحور أن يكرر الدعاء، فقد كرر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء له، فقد دعا ثم دعا.

ثم اعلم أنه قد تقدم حكم تعليم السحر وتعلمه منعًا وجوازًا قبل بابين، وأما حكم الساحر وبيان حدّه فذكره الحافظ

(2)

ههنا تحت حديث الباب فقال: استدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حدًّا إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي:"حدُّ الساحر ضربة بالسيف" ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخصّ منه من له عهد، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل، وهو قول أبي حنيفة

(1)

"فتح الباري"(10/ 236).

(2)

"فتح الباري"(10/ 236).

ص: 151

والشافعي، وعن مالك: إن أدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحلّ قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، قال: وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق، فلا تقبل توبته ويقتل حدًّا إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد، وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف أنه قتل بسحره فيقتل به، وادّعى أبو بكر الرازي في "الأحكام" أن الشافعي تفرد بقوله: إن الساحر يقتل قصاصًا إذا اعترف أنه قتله بسحره، والله تعالى أعلم، انتهى.

(51 -‌

‌ باب من البيان سحر)

وفي نسخة الحافظ: "إن من البيان سحرًا" وقال: في رواية الكشميهني والأصيلي: "السحر".

قوله: (قدم رجلان) قال الحافظ

(1)

: لم أقف على تسميتهما صريحًا، فقد زعم جماعة أنهما الزبرقان وعمرو بن الأهتم التميميان، قدما في وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، ثم ذكر قصة قدومهم من رواية البيهقي في "الدلائل"، ثم قال تحت حديث الباب: وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحثّ على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ، وهذا واضح إن صح أن الحديث ورد في قصة عمرو بن الأهتم، وحمله بعضهم على الذمّ لمن تصنّع في الكلام وتكلّف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره، فشبّه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة، وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل هذا الحديث في "الموطأ" في "باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله"، إلى آخر ما ذكر.

قلت: وأما عند المصنف فيمكن أن يقال: إنه مال إلى حمله على الذمّ كما يظهر من صنيعه، فإن المذكور في سياق التراجم ههنا هو السحر المذموم كما هو ظاهر، فالتشبيه حينئذٍ يشعر بالذم لا محالة، والله أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 237).

ص: 152

(52 -‌

‌ باب الدواء بالعجوة للسحر)

أي: لأجل دفعه، والعجوة بفتح المهملة وإسكان الجيم: ضرب من أجود تمر المدينة يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، كذا في الحاشية

(1)

.

قوله: (يعني حديث علي) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: بيان للضمير المجرور في قوله: "غيره"، والحاصل: أن في غير حديث علي تنصيص على السبع، انتهى.

قلت: والمراد بعلي، علي بن المديني شيخ البخاري، وللشرَّاح ههنا كلام فارجع إلى القسطلاني

(3)

لو شئت.

(53 -‌

‌ باب لا هامة)

قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شدّدها ذهب إلى أنها واحدة الهوامّ وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح نفيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وكتب الشيخ في "البذل"

(5)

: بتخفيف الميم على المشهور ورجح القرطبي التشديد، انتهى.

وقد تقدمت هذه الترجمة قبل سبعة أبواب، وذكر فيه أيضًا الحديث

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 561).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 471).

(3)

انظر: "إرشاد الساري"(12/ 573، 574).

(4)

"فتح الباري"(10/ 241).

(5)

"بذل المجهود"(11/ 641).

ص: 153

المذكور مختصرًا، فهذا التكرار مشكل. ولذا قال الحافظ

(1)

: وهذا من نوادر ما اتفق له أن يترجم للحديث في موضعين بلفظ واحد.

فالأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الترجمة وإن كانت مكررة من حيث اللفظ لكن ليست بمكررة باعتبار المعنى والمقصود، وتقدم نظيره في "كتاب العلم" من "باب فضل العلم" وذلك أنهم اختلفوا في تفسير الهامة، فكتب شيخنا في "البذل"

(2)

: فيه تأويلان: أحدهما: أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي الطائر المعروف من طير الليل، قيل: هي البومة، كانوا إذا سقط على دار أحدهم رآها ناعية له بعينه أو بعض أهله، وهذا تفسير مالك، والثاني: أن العرب كانت تعتقد أن روح الآدمي - وقيل: عظامه - تنقلب هامة يطير ويسمونها الصدى، وقيل: روح القتيل الذي لا تدرك بثأره يصير هامة فيقول: اسقوني فإذا أدرك بثأره طارت، والثاني قول أكثر العلماء، قاله ابن رسلان، انتهى.

وفي رواية لأبي داود: قلت: فما الهامة؟ قال (أي: عطاء): يقول ناس: الهامة التي تصرِّح هامة الناس وليست بهامة الإنسان إنما هي دابة، انتهى.

قلت: فلعل الإمام البخاري ترجم بالهامة في موضعين إشارة إلى هذين المعنيين، والمناسب للترجمة الأولى التأويل الأول، وحاصله أنه من أسباب النحوسة، ولذا ذكره الإمام البخاري في أبواب التطير والفأل، والمناسب لهذه الترجمة الثانية التأويل الثاني، ولذا أوردها في أبواب السحر، فإن تغير هامة الإنسان إلى الطيران نوع من السحر.

ثم رأيت الحافظ

(3)

أشار إلى نحو ما قلت حيث قال بعد ذكر الاختلاف في تفسير الهامة: ولعل المؤلف ترجم "لا هامة" مرتين بالنظر لهذين التفسيرين، والله أعلم، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 215).

(2)

"بذل المجهود"(11/ 641).

(3)

"فتح الباري"(10/ 241).

ص: 154

(54 -‌

‌ باب لا عدوى)

المذكور في حديث الباب شيئان: العدوى والطيرة، وتقدم في الأحاديث السابقة من "باب الجذام" وغيره ذكر أربعة أشياء، منها هذان الاثنان، والثالثة الهامة، والرابعة الصفر، وذكر الحافظ عدة روايات في ذلك ثم قال

(1)

: فالحاصل من ذلك ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأُوَل قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة، انتهى.

وتقدم الكلام على ما عدا العدوى من تلك الأربعة في تراجمها، وأما العدوى فقال القسطلاني

(2)

في شرح الحديث: أي: لا سراية للمرض عن صاحبه إلى غيره نفيًا لما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأدواء أنها تعدي بطبعها، وهو خبر أريد به النهي، انتهى.

وقال العلامة العيني

(3)

: العدوى اسم من الإعداء كالرعوى والبقوى من الإرعاء والإبقاء يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وكانوا يظنون أن المرض بنفسه يعدي، انتهى.

وقال السندي في "حاشية أبي داود": هي مجاوزة العلة من صاحب إلى غيره بالمجاورة والقرب، انتهى.

وأما الجمع بين روايتي الباب فقد بسط الكلام على ذلك الحافظ وغيره من الشرَّاح، وتقدم أيضًا الإشارة إليه مجملًا في "باب الجذام"، قال العلامة السندي: يحتمل أن المراد بقوله: "لا عدوى" نفي ذلك وإبطاله من أصله، وعلى هذا فما جاء من الأمر بالفرار من المجذوم ونحوه فهو من باب سدّ الذرائع، لئلا يظن المرض الحادث أنه بسبب المجاورة، ويحتمل أن المراد نفي التأثير وبيان أن مجاورة المريض من الأسباب العادية

(1)

"فتح الباري"(10/ 159).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 503).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 693).

ص: 155

لا هي مؤثرة كما يعتقده أهل الطبيعة، وعلى هذا فالأمر بالفرار وغيره ظاهر، انتهى.

وقال الحافظ

(1)

: قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم، وقال: ثقة بالله وتوكلًا عليه" قال: فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط والأكل معه على بيان الجواز، انتهى.

هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولًا ثالثًا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:

أحدهما: مسلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك فأعلّوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها: أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال:"لا عدوى"، وقال:"فمن أعدى الأول"؟ وبأن أبا هريرة تردد في ذلك الحكم كما سيأتي، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك.

والفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس هذه المسألة، فردوا حديث "لا عدوى" بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طرقًا، فالمصير إليه أولى، وأما حديث جابر ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبيَّن الاختلاف فيه ورجّح وقفه على عمر، انتهى من "الفتح".

قلت: وميل الحافظ إلى الجمع، فإنه قال في الجواب عن كل فريق:

(1)

"فتح الباري"(10/ 159، 160).

ص: 156

إن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع وهو ممكن، ثم ذكر الأقوال في طريق الجمع بالبسط، فارجع إليه لو شئت.

وأفاد الشيخ مولانا أشرف علي التهانوي قُدِّس سرُّه كما حكاه في رسالة "أنفاس عيسى": أن في العدوى ثلاثة مذاهب: الأول: أن العدوى ثابت ولا يتوقف على مشيئة الله، وهذا كفر صريح وزندقة، والثاني: اعتقاد ثبوت العدوى بالمشيئة، لكن المشيئة ضرورية توجد لا محالة، وهذا المذهب باطل لكنه ليس بكفر، الثالث: أنه مقيد بالمشيئة، والمشيئة ليست بلازمة، إن شاء الله كان وإن لم يشأ لم يكن، ثم قال: لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أن العدوى ليس بشيء، انتهى.

(55 -‌

‌ باب ما يذكر في سمّ النبي صلى الله عليه وسلم

-)

الإضافة فيه إلى المفعول، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "القسطلاني"

(2)

: قال في "القاموس": السم: القاتل المعروف، ويثلث، الجمع سموم وسمام، انتهى.

وهو هنا من إضافة المصدر لمفعوله، وقول الكرماني: سم بالحركات الثلاث، تعقبه العيني بأنه مصدر فلا تكون السين فيه مفتوحة جزمًا، والحركات الثلاث إنما تكون في كونه اسمًا، كذا في "القسطلاني"، وفيه تحريف، والموجود في نسخة "العيني"

(3)

هكذا: قلت: ليس في هذا المحل، فإن السين فيه مفتوحة جزمًا؛ لأنه مصدر. . . إلخ.

قوله: (رواه عروة عن عائشة) كأنه يشير إلى ما علقه في الوفاة النبوية آخر المغازي، فقال: قال يونس عن ابن شهاب قال عروة: قالت عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم

(1)

"فتح الباري"(10/ 245).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 580).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 752).

ص: 157

الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، وصله البزار وغيره، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(56 -‌

‌ باب شرب السمّ والدواء به وما يخاف منه والخبيث)

أي: الدواء الخبيث، كأنه يشير بالدواء بالسم إلى ما ورد من النهي عن التداوي بالحرام، وقد تقدم بيانه في "كتاب الأشربة"، وزعم بعضهم أن المراد بقوله:"به" منه، والمراد ما يدفع ضرر السم، وأشار بذلك إلى ما تقدم قبلُ من حديث:"من تصبح بسبع تمرات" الحديث، وفيه:"لم يضره سم" فيستفاد منه استعمال ما يدفع ضرر السم قبل وصوله، ولا يخفى بعد ما قال، لكن يستفاد منه مناسبة ذكر حديث العجوة في هذا الباب، وأما قوله:"وما يخاف منه" فهو معطوف على الضمير المجرور العائد على السم، وقوله:"منه" أي: من

(2)

الموت به أو استمرار المرض، فيكون فاعل ذلك قد أعان على نفسه، وأما مجرد شرب السم فليس بحرام على الإطلاق؛ لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع، أشار إلى ذلك ابن بطال، وقد أخرج ابن أبي شيبة وغيره:"أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له: احذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأتوه به فأخذه بيده ثم قال: بسم الله واقتحمه فلم يضره"، فكأن المصنف رمز إلى أن السلامة من ذلك وقعت كرامةً لخالد بن الوليد، فلا يتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل المرء نفسه، ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة في الباب، ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به، وأما قوله:"والخبيث" فيجوز جرّه والتقدير: والتداوي بالخبيث،

(1)

"فتح الباري"(10/ 245).

(2)

هكذا قال العلامة العيني، والظاهر أن الضمير المجرور فيه عائد إلى الموصول في قوله:"بما. . ." إلخ، "ز".

ص: 158

ويجوز الرفع على أن الخبر محذوف والتقدير: ما حكمه؟ أو هل يجوز التداوي به؟ وقد ورد النهي عن تناوله صريحًا، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا

(1)

، انتهى.

وفي "القسطلاني"

(2)

: قوله: "والخبيث" لنجاسته كالخمر ولحم الحيوان المحرم الأكل، أو لاستقذاره، فتكون كراهته من جهة إدخال المشقة على النفس، وفي الترمذي:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث" قال البدر الدماميني: وهو حجة على الشافعية في إجازتهم التداوي بالنجس، وقول الترمذي: يعني السمّ، غير مسلّم، فاللفظ عام، ولم يقم دليل على التخصيص بما ذكره، انتهى.

قال في "فتح الباري"

(3)

: حمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى، وقد ورد في آخر الحديث متصلًا به: يعني السم، قال: ولعل البخاري أشار في الترجمة إلى ذلك، انتهى.

وقال العلامة العيني

(4)

تحت الترجمة: وأبهم الحكم اكتفاءً بما يفهم من حديث الباب، وهو عدم جوازه؛ لأنه يفضي إلى قتل نفسه، ثم قال بعد ذكر الحديث الأول: هذا الحديث يوضح إبهام ما في الترجمة من الحكم، وهو وجه المطابقة بينهما، انتهى.

قلت: لم يتعرض لمطابقة أحاديث الباب بالترجمة العلامة القسطلاني، بل سكت عليه مع أن الترجمة ومطابقة أحاديث الباب بها تحتاج إلى تدقيق وتفتيش، وذلك أن الترجمة متضمنة لأربعة أجزاء، والمذكور في الحديث صريحًا واحد منها، فالجزء الأول من الترجمة شرب السم، والثاني التداوي بالسم، والثالث التداوي بما يخاف منه، والرابع

(1)

انظر: "لامع الدراري"(9/ 472، 473).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 583).

(3)

"فتح الباري"(10/ 248).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 753، 754).

ص: 159

التداوي بالخبيث، كما هو ظاهر من ألفاظ الترجمة، وما ذكره الشرَّاح ههنا لا يشفي العليل ولا يروي الغليل.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف كما ذكرت في هامش "اللامع"

(1)

: أن الجزء الأول من الترجمة ثابت بحديث الباب، كما هو ظاهر، وهو أن شرب السم حرام، وأما الجزء الثاني وهو التداوي بالسم فيستفاد من الحديث أنه جائز؛ لأن مدار النهي على القتل والإهلاك والضرر، فإذا لم يضر ولم يقتل بل يشرب دواءً فلا بأس به، كما يتداوى بالمباحات مثل العجوة وغيرها، ولذا ذكر الإمام البخاري حديث العجوة ثاني حديثي الباب إشارة إلى أن التداوي كما هو جائز بالمباحات فكذا بالسمّ إذا كان شربه بحدّ لا يضر، فالتداوي به حينئذٍ كالتداوي بالمباحات، وأما الجزء الثالث، أي: التداوي بما يخاف منه فهو ملحق بالسم، فما هو حكم السم هو حكمه، أي: الجواز حين ينفع ولا يضره، وعدم الجواز إذا كان مضرًا غير نافع، وأما الجزء الرابع، أي: التداوي بالخبيث فلم يثبت بحديثي الباب صريحًا فإما أن يقال: إنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كما تقدم في كلام الحافظ، وإما أن يقال: إنه يستفاد أيضًا بحديث السم؛ لأنه أيضًا خبيث، ويحتمل أن يقال: إن هذا الجزء ثابت بالحديث الآتي في الترجمة الآتية، فإن لبن الأتان خبيث لا محالة، وحينئذ فالترجمة الآتية جزء من هذه الترجمة، فهو من الأصل الستين وهو أصل مطرد من أصول التراجم.

(57 -‌

‌ باب ألبان الأتن)

بضم الهمزة والمثناة الفوقانية بعدها نون جمع أتان، قال في "الفتح"

(2)

. قال العلَّامة العيني

(3)

: أي: بيان حكم ألبان الأتن، وبيان الحكم في الحديث، انتهى.

(1)

انظر: "لامع الدراري"(9/ 472، 473).

(2)

"فتح الباري"(10/ 249).

(3)

"عمدة القاري"(14/ 755).

ص: 160

قلت: المراد بالحكم حكم التداوي بها، ولذا ذكره في "كتاب الطب".

وقال الحافظ

(1)

: وقد اختلف في ألبان الأتن، فالجمهور على التحريم، وعند المالكية قول في حلّها من القول بحل أكل لحمها، انتهى من "الفتح".

وقد تقدم ذكر الخلاف في لحوم الحمر الأهلية في بابها من "كتاب الذبائح والصيد"، وفي "البحر شرح الكنز"

(2)

: كره لبن الأتان؛ لأن اللبن يتولد من اللحم فصار مثله، وكذا لبن الخيل يكره عند الإمام كلحمه عنده، انتهى.

وكذا في "الدر المختار"

(3)

إذ قال: وكره لحم الأتان، أي: الحمارة الأهلية خلافًا لمالك، ولبنها ولبن الجلالة. . . إلخ، قال ابن عابدين: قوله: الأهلية، بخلاف الوحشية فإنها ولبنها حلالان، قوله: خلافًا لمالك، وللخلاف لم يقل حرم فإنه دليل تعارض الأدلة، انتهى.

وقال الموفق

(4)

: وألبان الحمر محرمة في قول أكثرهم، ورخص فيها عطاء وطاوس والزهري، والأول أصح؛ لأن حكم الألبان حكم اللحمان، انتهى.

قلت: والمبحوث عنه ههنا هو استعمال لبنها للتداوي، ولم أر من تعرض لحكم ألبان الأتن للتداوي فليفتش، نعم صرَّحوا في أبوال الإبل أنه لا بأس بها للتداوي عند صاحبي أبي حنيفة.

(58 -‌

‌ باب إذا وقع الذباب في الإناء)

وإنما عقد المصنف الترجمة بذلك؛ لأن ما هو المذكور في حديث الباب في حق الذباب إنما هو من باب الطب كما لا يخفى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 249).

(2)

"البحر الرائق"(8/ 207).

(3)

"رد المحتار"(9/ 490، 491).

(4)

"المغني"(13/ 319).

ص: 161

قال الحافظ

(1)

في ذكر ما يستفاد من الحديث: قال الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة، وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، انتهى.

وذكر الحافظ وغيره من الشرَّاح بعض الروايات الواردة في الذباب وبعض خواصه وما يتعلق به من الأحكام، قال الحافظ

(2)

: وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعًا: "عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل" وسنده لا بأس به، قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبًا له بل ليعذب أهل النار به، قال الجوهري: يقال: إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب، وقال أفلاطون: الذباب أحرص الأشياء حتى إنه يلقي نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه، ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك، وكانت ألَحّت عليه ذبابة فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: وقد مرّ منّا أن الغمس إنما هو إذا لم يكن الشيء حارًّا، فإنه إذا كان حارًّا شديدًا كالشاي فإن الغمس لا يزيده إلا شرًّا، انتهى.

قلت: وهذا رأيه وإلا فالواقع في الحديث هو الأمر المطلق، والله تعالى أعلم.

ثم براعة الاختتام عند الحافظ في قوله: "ثم ليطرحه" وعندي في قوله: "فليغمسه" وأيضًا في قوله: "داءً"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 251).

(2)

"فتح الباري"(10/ 250).

(3)

"فيض الباري"(6/ 71).

(4)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(9/ 118).

ص: 162

77 -

‌ كتاب اللباس

قال العلَّامة العيني

(1)

: أي: هذا كتاب في بيان أنواع اللباس وأحكامها، واللباس ما يلبس، وكذلك الملبس واللبس بالكسر واللبوس أيضًا ما يلبس، وأورد ابن بطال هذا الكتاب بعد الاستئذان، ولا وجه له، انتهى.

وفي "الأوجز"

(2)

عن القاري عن "القاموس": لبس الثوب كسمع، لبسًا بالضم ولباسًا بالكسر، وأما لبس كضرب لبسًا بالفتح فمعناه خلط، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]، وإنما ذكرته للالتباس على كثير من الناس، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: واللبس بالكسر والملبس كمقعد ومنبر: ما يلبس، انتهى.

قلت: مقصود المصنف بهذا الكتاب بيان اللباس ومتعلقاته من أبواب الزينة، فإن المصنف قد أدرج في هذا الكتاب كثيرًا من الأبواب التي ليست هي من جنس اللباس كالتزعفر للرجال والتلبيد والذبائب، وجملة من أبواب الطيب وإصلاح الشعر وغير ذلك، وقد اختلف صنيع المحدثين ههنا، فترجم الإمام النسائي "كتاب الزينة" بدل كتاب اللباس، وترجم الإمام أبو داود بترجمتين فترجم أولًا "كتاب اللباس" ثم ترجم بـ "كتاب الترجل"، وذكر فيه جملة من الأبواب التي يتعلق بالزينة، وأما الإمام أبو عيسى الترمذي فقد ذكر بعض هذه الأبواب تحت عنوان "كتاب اللباس" وبعضها في "أبواب الاستئذان والآداب".

(1)

"عمدة القاري"(15/ 3).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 145)، و"مرقاة المفاتيح"(8/ 234).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 588).

ص: 163

(1 -‌

‌ باب قول الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية [الأعراف:

32])

هكذا في النسخ الهندية و"القسطلاني"، وسقط لفظ "باب" في نسخة "الفتح" و"العيني"، بل ذكرا هذه الآية تحت "كتاب اللباس".

قال الحافظ

(1)

: كأنه أشار إلى سبب نزول هذه الآية، وقد أخرجه الطبري بسنده عن ابن عباس قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفّرون ويصفّقون، فأنزل الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الآية [الأعراف: 32]، وسنده صحيح، انتهى.

وذكر هذا الحديث الحافظ ابن كثير

(2)

أيضًا في تفسير هذه الآية وعزاه إلى أبي القاسم الطبراني وزاد في آخر الحديث: "فأمروا بالثياب".

وفي "الأوجز"

(3)

: التجمل بالثياب مشروع بل مندوب، فإنه تبارك وتعالى منّ بذلك على عباده بقوله:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]، وفي "تفسير الجلالين": هو ما يتجمل به من الثياب، إلى آخر ما بسط في "الأوجز".

ثم لا يخفى عليك أن الأولى والأنسب لهذا المقام هو قوله تبارك وتعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} الآية، فهذه الآية هي التي ذكر فيها اللباس والزينة صريحًا، ومع ذلك لم يذكرها البخاري بل صدَّر "كتاب اللباس" بالآية الأخرى كما ترى، ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح، وما يظهر لهذا العبد الضعيف: أن من دأب الإمام البخاري كما تقدم في تفسير سورة الطلاق واضحًا هو إيثار الأخفى على الأجلى، فلذلك اختار هذه الآية، وأيضًا فإن المصنف قد ذكر في هذا الكتاب جملة من الأبواب التي يتعلق بالزينة كما تقدم آنفًا، فناسب ذكر هذه الآية لهذا الوجه أيضًا،

(1)

"فتح الباري"(10/ 253).

(2)

"تفسير ابن كثير"(2/ 525).

(3)

"أوجز المسالك"(16/ 145).

ص: 164

فإنه ذكر في هذه الآية لفظ الزينة، وهذا بحث لطيف لعلك لم تجده في غير هذا الكتاب.

قوله: (في غير إسراف ولا مخيلة. . .) إلخ، قال العلامة السندي

(1)

: متعلق بالكل، والإسراف والمخيلة يتصوران في التصدق أيضًا، انتهى.

(2 -‌

‌ باب من جرّ إزاره من غير خيلاء)

أي: فلا بأس به، قال القسطلاني: قال النووي

(2)

: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نصّ الشافعي على الفرق، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم، وإلا فمنع تنزيه، والأحاديث المطلقة يجب حملها على المقيدة بالخيلاء، انتهى ملخصًا.

وهكذا نقل القسطلاني

(3)

عن نصّ الشافعي أن التحريم مخصوص بالخيلاء وإلا كره تنزيهًا.

وفي "الفيض"

(4)

: وجرُّ الثوب عندنا ممنوع مطلقًا، فهو إذنْ من أحكام اللباس، وقصر الشافعية النهي على قيد المخيلة، فإن كان الجر بدون التكبر فهو جائز، وإذنْ لا يكون الحديث من أحكام اللباس، إلى آخر ما ذكر.

(3 -‌

‌ باب التشمر في الثياب)

وهكذا في نسخة "الفتح"

(5)

هو بالشين المعجمة وتشديد الميم، انتهى.

وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني": "التشمير" بالياء من التفعيل، وهو رفع أسفل الثوب.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 23).

(2)

انظر: "شرح النووي"(7/ 313).

(3)

انظر: "إرشاد الساري"(12/ 593).

(4)

"فيض الباري"(6/ 72).

(5)

"فتح الباري"(10/ 256)، و"عمدة القاري"(15/ 6)، و"إرشاد الساري"(12/ 591).

ص: 165

قال الحافظ

(1)

: ويؤخذ من حديث الباب أن النهي عن كفّ الثياب في الصلاة محله في غير ذيل الإزار، ويحتمل أن تكون هذه الصورة وقعت اتفاقًا فإنها كانت في حالة السفر وهو محل التشمير، انتهى.

(4 -‌

‌ باب ما أسفل من الكعبين ففي النار)

كذا أطلق في الترجمة ولم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارةً إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرهما، وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد، وقد أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه أبو عوانة وابن حبان، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سعيد، ورجاله رجال مسلم، وكأنه أعرض عنه لاختلاف وقع فيه على العلاء وعلى أبيه، انتهى

(2)

.

قلت: ولفظه عند أبي داود

(3)

من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج - أو لا جناح - فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جرّ إزاره بطرًا لم ينظر الله إليه"، كذا في "الأوجز"

(4)

.

قلت: لكن فيه أن حديث أبي سعيد هذا الذي أحال عليه الحافظ قُدِّس سرُّه ليس بمطلق، بل سياقه في حق الإزار كما ترى، اللَّهم إلا أن يقال: إنه لم يقيد في سياق هذا الحديث قوله: "من أسفل من الكعبين" بقوله: "من الإزار"، كما قيد بذلك في حديث الباب.

(1)

"فتح الباري"(10/ 256).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 256).

(3)

"سنن أبي داود"(رقم 4093).

(4)

"أوجز المسالك"(16/ 180).

ص: 166

(5 -‌

‌ باب من جرّ ثوبه من الخيلاء)

أي: بسبب الخيلاء، فكلمة "من" للتعليل، والغرض من الترجمة ظاهر من أن المنع لا يختص بالإزار، ففي "المشكاة"

(1)

برواية أبي داود

(2)

والنسائي

(3)

وابن ماجه

(4)

من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".

وفي "الأوجز"

(5)

: وقد أخرج أبو داود عن ابن عمر قال: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص، قال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار؛ لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي. قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النصّ بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك، انتهى.

قال الحافظ

(6)

: وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، قال الحافظ: والحاصل: أن للرجال حالين: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان، إلى آخر ما ذكر.

قلت: هكذا نقلوا في حق الرجال أن الجائز في أزرهم أنها إلى الكعبين، لكن لم يصرِّحوا في حكم الكعبين من أن الغاية هل هي داخلة في المغيّا أم لا؟ ويستفاد من روايةٍ أن الكعبين داخلان في المنع فلا يجوز سترهما، فقد ذكر الحافظ

(7)

: أخرج النسائي وصحح الحاكم أيضًا

(1)

"مشكاة المصابيح"(رقم 4332).

(2)

"سنن أبي داود"(رقم 4094).

(3)

"سنن النسائي"(رقم 5334).

(4)

"سنن ابن ماجه"(رقم 3576).

(5)

"أوجز المسالك"(16/ 180، 181).

(6)

"فتح الباري"(10/ 259).

(7)

"فتح الباري"(10/ 257).

ص: 167

من حديث حذيفة بلفظ "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين في الإزار"، انتهى.

وهذا صريح في أنه لا يجوز ستر الكعبين، وقال ابن عابدين

(1)

في الكلام على آداب اللبس وأحكامه: ويكره للرجال السراويل التي تقع على ظهر القدمين، "عتابية"، انتهى. وهكذا في "البحر"

(2)

.

وقال النووي في "شرح مسلم"

(3)

: فالمستحب نصف الساقين، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم وإلا فمنع تنزيه، انتهى.

(6 -‌

‌ باب الإزار المهدّب)

بدال مهملة ثقيلة مفتوحة، أي: الذي له هدب، وهي أطراف من سدى بغير لحمة، ربما قصد بها التجمل، وقد تفتل صيانة لها من الفساد، وقال الداودي: هي ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية.

ثم قال الحافظ تحت حديث الباب: ووقع في هذا الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث أبي جري جابر بن سليم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(7 -‌

‌ باب الأردية)

جمع رداء بالمدّ، وهو ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أيّ صفة كان، قاله الحافظ

(5)

.

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 506).

(2)

انظر: "البحر الرائق"(8/ 216).

(3)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(7/ 313).

(4)

"فتح الباري"(10/ 265)، وانظر:"سنن أبي داود"(رقم 4475).

(5)

"فتح الباري"(10/ 265).

ص: 168

(8 -‌

‌ باب لبس القميص وقال يوسف: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا. . .} [يوسف: 93] إلخ)

وفي نسخ الشروح: "وقول الله تعالى حكاية عن يوسف".

قال الحافظ

(1)

: كأنه يشير إلى أن لبس القميص ليس حادثًا وإن كان الشائع في العرب لبس الإزار والرداء، ثم قال تحت حديث الباب: قال ابن العربي: لم أر للقميص ذكرًا صحيحًا إلا في الآية المذكورة وقصة ابن أُبي، ولم أر لهما ثالثًا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال هذا في كتابه "سراج المريدين"، وكأنه صنفه قبل شرح الترمذي، فلم يستحضر حديث أم سلمة ولا حديث أبي هريرة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصًا بدأ بميامنه"، ثم ذكر الحافظ عدة روايات أخر.

قلت: وحديث أم سلمة الذي أشار إليه الحافظ أخرجه الترمذي

(2)

في "باب ما جاء في القميص" بعدة طرق ولفظه: قالت: "كان أحبّ الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص"، وكتب الشيخ في "الكوكب"

(3)

: هذا في الثياب المخيطة، والسبب في ترجيحه ما فيه من الستر ما ليس في غيره، ولم تكن سراويل إذا ذاك رائجة رواج القميص مع أنه ليس السراويل يجزئ عن القميص والقميص يجزئ عنه، وأيضًا فليس شمول الجسم في السراويل مثله في القميص، وأما حيث رجح الحلة فهو في غير المخيطة وترجحه من حيث إن فيها زيادة فائدة نسبة القميص من نزعه أنَّى شاء مع بقاء الستر بالرداء الأخرى، ولا يمكن ذلك في نحو القميص، إلى آخر ما ذكر.

(9 -‌

‌ باب جيب القميص من عند الصدر وغيره)

قال القسطلاني

(4)

: قوله: "وغيره" بالجر عطفًا على القميص، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 266).

(2)

"سنن الترمذي"(رقم 1762).

(3)

"الكوكب الدري"(2/ 451).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 603).

ص: 169

قال الحافظ

(1)

: الجيب بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة: هو ما يقطع في الثوب ليخرج منه الرأس أو اليد أو غير ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: الجيب الذي يحيط بالعنق جيب الثوب، أي: جعل فيه ثقب، وأورده البخاري على أنه ما يجعل في الصدر ويوضع فيه الشيء، وبذلك فسّره أبو عبيد لكن ليس هو المراد هنا، وإنما الجيب الذي أشار إليه في الحديث هو الأول، كذا قال، ولا مانع من حمله على المعنى الآخر، بل استدل به ابن بطال

(2)

على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر، إلى آخر ما بسط الحافظ.

(10 -‌

‌ باب من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر)

ترجم له في الصلاة "الصلاة في الجبة الشامية" وفي الجهاد "الجبة في السفر والحرب"، وكأنه يشير إلى أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك، وأن السفر يغتفر فيه لبس غير المعتاد في الحضر، وقد تواردت الأحاديث عمن وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أن كميه ضاقا عن إخراج يديه منهما، أشار إلى ذلك ابن بطال

(3)

، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(11 -‌

‌ باب لبس جبة الصوف في الغزو)

قال ابن بطال

(5)

: كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد لأن إخفاء العمل أولى. قال: ولم ينحصر التواضع في لبسه بل في القطن وغيره ما هو بدون ثمنه، انتهى من "الفتح"

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 267).

(2)

"شرح ابن بطال"(9/ 84).

(3)

"شرح ابن بطال"(9/ 85، 86).

(4)

"فتح الباري"(10/ 268).

(5)

"شرح ابن بطال"(9/ 86).

(6)

"فتح الباري"(10/ 269).

ص: 170

(12 -‌

‌ باب القباء وفرّوج حرير)

بفتح القاف وبالموحدة، ممدود، فارسي معرب، وقيل: عربيّ، واشتقاقه من القبو وهو الضم، قوله:"وهو القباء" قلت: وقع كذلك مفسّرًا في بعض طرق الحديث، قوله:"ويقال: هو الذي له شقّ من خلفه" أي: فهو قباء مخصوص، ولهذا جزم أبو عبيد

(1)

ومن تبعه من أصحاب الغريب نظرًا لاشتقاقه، وقال ابن فارس: هو قميص الصبيّ الصغير.

وقال القرطبي

(2)

: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف، يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة، انتهى من كلام الحافظ

(3)

.

(13 -‌

‌ باب البرانس)

جمع برنس بضم الموحدة والنون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة، تقدم تفسيره في "كتاب الحج". قاله الحافظ

(4)

. وقال القسطلاني

(5)

: قال في "القاموس"

(6)

: قلنسوة طويلة كان النساء في صدر الإسلام يلبسنها، أو كل ثوب رأسه منه، انتهى.

قال الحافظ

(7)

: وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال: كان يلبس ههنا. ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث علي رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيّا بهم أو تشبَّه فليس مني" أخرجه الطبراني في "الأوسط"

(8)

بسند لا بأس به، انتهى.

(1)

"غريب الحديث"(3/ 188).

(2)

"المفهم"(5/ 397).

(3)

"فتح الباري"(10/ 269).

(4)

"فتح الباري"(10/ 272).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 609).

(6)

"القاموس المحيط"(ص 493).

(7)

"فتح الباري"(10/ 272).

(8)

"المعجم الأوسط"(رقم 3909).

ص: 171

وذكر القسطلاني

(1)

فيمن كرهه ابن عمر وسالمًا وابن جبير.

(14 -‌

‌ باب السراويل)

ذكر فيه حديث ابن عباس رفعه: "من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل" ولم يرد فيه حديث على شرطه، ثم ذكر الحافظ عدة روايات في ذلك

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: والمطابقة للترجمة في قوله: "السراويل" كما لا يخفى، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا عند أبي نعيم الأصبهاني:"إن أول من لبس السراويل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم"، وفي السنن الأربعة وصححه ابن حبان من حديث سويد بن قيس:"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى من رجل سراويل"، وعند أبي يعلى والطبراني في حديث طويل وفيه:"فاشترى سراويل بأربعة دراهم"، انتهى مختصرًا.

قال الحافظ

(4)

: ووقع في "الإحياء" للغزالي: أن الثمن ثلاثة دراهم، والذي تقدم أنه أربعة دراهم أولى، انتهى.

وهل لبس صلى الله عليه وسلم السراويل أم لا؟ بسط الكلام عليه أصحاب السير.

(15 -‌

‌ باب العمائم)

قال الحافظ

(5)

: كأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شيء، وقد ورد فيها حديث عمرو بن حريث أنه قال:"كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه:"اعتموا تزدادوا حلمًا" أخرجه الطبراني والترمذي في "العلل المفرد"، وضعّفه البخاري، وقد صححه الحاكم فلم يصب، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 609).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 272).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 611).

(4)

"فتح الباري"(10/ 273).

(5)

"فتح الباري"(10/ 273).

ص: 172

قلت: وقد ذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة"

(1)

عدة روايات في هذا المعنى، وذكر فيه حديث:"العمائم تيجان العرب" الديلمي من جهة أبي نعيم، ثم من جهة ابن عباس به مرفوعًا بزيادة:"والاحتباء حيطانها"، وقال أيضًا: ومنه للبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس مرفوعًا: "عليكم بالعمائم فإنها سيما الملائكة، فأرخوها خلف ظهوركم"، ومما لا يثبت ما أورده الديلمي في "مسنده" عن ابن عمر رفعه:"صلاة بعمامة تعدل بخمس وعشرين صلاة" وعن جابر: "ركعتان بعمامة أفضل من سبعين بغيرها"، ثم قال بعد ذكر الروايات: وبعضه أوهى من بعض، انتهى.

(16 -‌

‌ باب التقنّع)

هو تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء أو غيره.

ثم قال الحافظ

(2)

: قال الإسماعيلي ما ذكره من العصابة لا يدخل في التقنع، فالتقنع تغطية الرأس، والعصابة شدّ الخرقة على ما أحاط بالعمامة، قلت: الجامع بينهما وضع شيء زائد على الرأس فوق العمامة، والله أعلم، انتهى.

وقال القاري في "شرح الشمائل"

(3)

: التقنع معروف، وهو تغطية الرأس بطرف العمامة أو برداء، أعم من أن يكون فوق العمامة أو تحتها؛ لما ورد في البخاري، ثم ذكر حديث الباب وفيه:"متقنعًا بثوبه"، والظاهر أنه كان متغشيًا به فوق العمامة لا تحتها؛ لأنه كان مستخفيًا من أهل مكة متوجهًا إلى المدينة، انتهى.

(فائدة): وقد ترجم الإمام أبو داود

(4)

: "باب في التقنع"، وذكر فيه حديث الباب أعني حديث الهجرة كما فعل المصنف، وترجم أيضًا الإمام

(1)

"المقاصد الحسنة"(ص 297)، (ح 717).

(2)

"فتح الباري"(10/ 274).

(3)

"شرح الشمائل"(1/ 177).

(4)

"سنن أبي داود"(رقم 4083)، و"الشمائل للترمذي"(رقم 127).

ص: 173

الترمذي في "الشمائل": "باب ما جاء في تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وذكر تحته حديث أنس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيّات"، ولا يخفى أن المراد بالتقنع ههنا غير المراد في ترجمة البخاري، ولذا قال القاري

(1)

: والمراد به هنا استعمال القناع، وهو ثوب يلقي [به] الشخص على رأسه بعد تدهينه لئلا يصل أثر الدهن إلى القلنسوة والعمامة وأعالي الثوب، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

في شرح قوله: "متقنعًا": أي: مطيلسًا رأسه، هذا أصل لبس الطيلسان.

وبسط الكلام عليه المناوي

(3)

وقال: صح عن ابن مسعود وله حكم المرفوع: "التقنع من أخلاق الأنبياء"، وغير ذلك من الروايات.

(17 -‌

‌ باب المغفر)

بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء، ذكر ابن بطال

(4)

: أن بعض المتعسفين أنكر على مالك قوله في هذا الحديث: "وعلى رأسه المغفر" وأنه تفرد به. قال: والمحفوظ أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ثم أجاب عن دعوى التفرد - كما ذكر في "الفتح" فارجع إليه - وعن الحديث الآخر بأنه دخل وعلى رأسه المغفر، وكانت العمامة السوداء فوق المغفر، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(5)

.

وقال القسطلاني

(6)

: وجمع بين الحديثين باحتمال أن أحدهما كان فوق الآخر، أو دخل أولًا وعليه المغفر ثم نزعه ولبس العمامة السوداء في بقية دخوله، انتهى.

(1)

"شرح الشمائل"(1/ 177).

(2)

"فتح الباري"(10/ 274).

(3)

"شرح الشمائل"(1/ 177).

(4)

"شرح ابن بطال"(9/ 97).

(5)

"فتح الباري"(10/ 275).

(6)

"إرشاد الساري"(12/ 617).

ص: 174

(18 -‌

‌ باب البرود)

جمع بردة بضم الموحدة، قال الجوهري: كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب.

قوله: (والحبرة) وفي نسخة "الفتح": "والحبر"، قال الحافظ: بكسر المهملة وفتح الموحدة جمع حبرة على وزن عنبة، وهي البرد اليماني، وقال الداودي: هي الخضراء؛ لأنها لباس أهل الجنّة، ولذلك يستحب في الكفن، وقال ابن بطال

(1)

: هي من برود اليمن تصنع من قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم، سميت حبرة؛ لأنها تحبر، أي: تزين، والتحبير التزيين، انتهى من "الفتح"

(2)

بزيادة من كلام العيني.

قال القسطلاني

(3)

: و"الشملة" بفتح الشين المعجمة وسكون الميم: كساء دون القطيفة يشتمل به، انتهى.

(19 -‌

‌ باب الأكسية والخمائص)

جمع خميصة بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وهي كساء من صوف أسود أو خزّ مربعة لها أعلام، ولا يسمى الكساء خميصة إلا إن كان لها علم، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(20 -‌

‌ باب اشتمال الصماء)

في "القسطلاني"

(5)

عن "القاموس": هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يردّه ثانية من خلفه على يده اليمنى فعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعًا، أو الاشتمال بثوب واحد ليس عليه غيره،

(1)

"شرح ابن بطال"(9/ 99).

(2)

"فتح الباري"(10/ 277)، "عمدة القاري"(15/ 27).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 617).

(4)

"فتح الباري"(10/ 277).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 623).

ص: 175

ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه، انتهى.

وفي هامش "الهندية"

(1)

عن "مجمع البحار"

(2)

: هو أن يتجلّل الرجل بثوبه ولا يرفع منه ويسدّ على يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء [التي] ليس فيها خرق ولا صدع، ويقول الفقهاء: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره فيرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فتنكشف عورته، ويكره على الأول لئلا يعرض له حاجة من دفع بعض الهوامّ أو غيره فيتعذر عليه أو يعسر، ويحرم على الثاني إن انكشف بعض عورته وإلا يكره، انتهى.

(21 -‌

‌ باب الاحتباء في ثوب واحد)

قال العيني

(3)

: قال الجوهري: احتبى الرجل: إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقيل: هو أن يقعد الإنسان على إليتيه وينصب ساقيه ويحتوي عليهما بثوب ونحوه، انتهى.

قلت: وقوله في الترجمة: "في ثوب واحد" كأنه أشار به إلى محمل النهي. قال القسطلاني

(4)

: لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد ربما يتحرك فتبدو عورته، انتهى.

قلت: وسيأتي بسط الكلام عليه في "كتاب الاستئذان"، فإن المصنف رحمه الله بوّب هناك بـ "باب الاحتباء باليد".

(22 -‌

‌ باب الخميصة السوداء)

تقدم تفسيره قريبًا قبل بابين، قال القسطلاني

(5)

: ثوب من حرير أو صوف معلم أو كساء رقيق من أيّ لون كان، وقيل: لا تسمى خميصة إلا إذا كانت سوداء معلمة، انتهى.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 625).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(3/ 359).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 32).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 625).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 626).

ص: 176

(23 -‌

‌ باب الثياب الخضر)

كذا للكشميهني، وللمستملي والسرخسي:"ثياب الخضر" كقولهم: مسجد الجامع، قال ابن بطال

(1)

: الثياب الخضر من ثياب الجنة وكفى بذلك شرفًا لها.

قلت: وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة: "أنه رأى على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(24 -‌

‌ باب الثياب البيض)

كأنه لم يثبت عنده على شرطه فيها شيء صريح، فاكتفى بما وقع في الحديثين اللذين ذكرهما، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه:"عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم" وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: "فإنها من خير ثيابكم"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(25 -‌

‌ باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه)

هكذا في النسخة "الهندية"، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وليس في نسخة الحافظ ذكر افتراش، قال: ووقع في "شرح ابن بطال" و"مستخرج أبي نعيم" زيادة افتراشه في الترجمة، والأولى ما عند الجمهور، وقد ترجم للافتراش مستقلًا كما سيأتي بعد أبواب، والتقييد بالرجال يخرج النساء، وسيأتي في ترجمة مستقلة.

قال ابن بطال

(4)

: اختلف في الحرير فقال قوم: يحرم لبسه في كل

(1)

"شرح ابن بطال"(9/ 102).

(2)

"فتح الباري"(10/ 282).

(3)

"فتح الباري"(10/ 283).

(4)

"شرح ابن بطال"(9/ 105، 106).

ص: 177

الأحوال حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين، وقال قوم: يجوز لبسه مطلقًا وحملوا أحاديث المنع على من لبسه خيلاء أو على التنزيه.

قلت: وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه، قال القاضي عياض: إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، واختلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما: الفخر والخيلاء، والثاني: لكونه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزيّ النساء دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة وهي التشبه بالمشركين

(1)

، انتهى.

قلت: وهذا الإجماع في الحرير الخالص، وأما المخلوط ففي "الهداية"

(2)

: ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يلبسون الخز مسدًّى بالحرير، ولأن الثوب إنما يصير ثوبًا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدي، انتهى.

وفي "جامع الرموز"

(3)

: قوله: ولحمته غيره. . . إلخ، سواء كان مغلوبًا أو مساويًا للحرير كالقطن والكتان والصوف، فإن الاعتبار لآخر الوصفين، وقيل: لا يلبس إلا إذا غلب اللحمة على الحرير، والصحيح الأولى كما في "المحيط"، انتهى.

وهذا التفصيل، أي: التفريق بين السدي واللحمة عندنا الحنفية، وأما الجمهور فالعبرة عندهم للغلبة، قال الموفق

(4)

: فأما المنسوج من الحرير وغيره كثوب منسوج من قطن وإبريسم أو قطن وكتّان فالحكم للأغلب منها؛ لأن الأولى مستهلك فيه، قال ابن عبد البر: مذهب ابن عباس وجماعة

(1)

"فتح الباري"(10/ 285).

(2)

"الهداية"(2/ 366).

(3)

"جامع الرموز"(2/ 303).

(4)

"المغني"(2/ 307).

ص: 178

من أهل العلم أن المحرم الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره، فإن كان الأقل الحرير فهو مباح، وإن كان القطن فهو محرم، فإن استويا ففي تحريمه وإباحته وجهان، وهذا مذهب الشافعي، انتهى.

وذكر العلامة العيني في هذه المسألة عشرة أقوال للعلماء.

وأما الجزء الثالث من الترجمة ففيه خلاف أيضًا قال العيني

(1)

: قال شيخنا: في حديث عمر رضي الله عنه حجة لما قاله أصحابنا من أنه لا يرخص في التطريز والعلم في الثوب إذا زاد على أربعة أصابع، وأنه تجوز الأربعة فما دونها، وممن ذكره من أصحابنا البغوي في "التهذيب" وتبعه الرافعي والنووي، انتهى.

وذكر الزاهدي من أصحابنا الحنفية أن العمامة إذا كانت طُرّتُها قدر أربع أصابع من إبريسم بأصابع عمر، وذلك قيس شبرنا يرخص فيه، والأصابع لا مضمومة كل الضم ولا منشورة كل النشر، والعلم في مواضع قال بعضهم: يجمع، وقيل: لا يجمع، إلى آخر ما ذكر في تفصيل المسألة.

(26 -‌

‌ باب مس الحرير من غير لبس)

وفي نسخة "الفتح": "من مس الحرير"، ويستفاد غرض الترجمة مما حكاه الحافظ

(2)

عن ابن بطال

(3)

من أن النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه، بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسّه وبيعه والانتفاع بثمنه، انتهى.

قلت: ومما ينبغي الوقوف عليه لكونه مناسبًا لهذا المقام، ولم يتعرض له أحد من الشرَّاح أنه لا يتوهم من ظاهر لفظ الترجمة أن البخاري أراد به أنه عليه الصلاة والسلام لم يلبس الحرير، ويتأكد هذا التوهم من كلام

(1)

"عمدة القاري"(15/ 40).

(2)

"فتح الباري"(10/ 291).

(3)

"شرح ابن بطال"(9/ 111، 112).

ص: 179

العيني

(1)

حيث قال: أي: هذا باب في بيان من مسّ الحرير وتعجب منه ولم يلبس، انتهى.

لكن هذا ليس بصحيح فإنه قد أخرج الترمذي

(2)

في "باب" بلا ترجمة من أبواب اللباس بسنده عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: "قدم أنس بن مالك فأتيته، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا واقد بن عمرو، قال: فبكى، وقال: إنك لشبيه بسعد، وإن سعدًا كان من أعظم الناس وأطولهم، وأنه بُعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من ديباج منسوج

(3)

فيها الذهب فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فجعل الناس يلمسونها فقال: أتعجبون من هذا؟ لمناديل سعد في الجنة خير مما ترون"، انتهى.

وكذا أخرجه أحمد

(4)

ولفظه: "إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها" الحديث.

قوله: (ويروى فيه عن الزبيدي عن الزهري. . .) إلخ، قال الحافظ

(5)

: أراد البخاري بهذا التعليق ما رويناه في "المعجم الكبير"

(6)

للطبراني من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزبيدي عن الزهري عن أنس قال: "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من استبرق، فجعل ناس يلمسونها بأيديهم ويتعجبون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعجبكم هذه؟ فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها" قال الدارقطني في "الأفراد": لم يروه عن الزبيدي إلا عبد الله بن سالم، انتهى.

(27 -‌

‌ باب افتراش الحرير)

أي: حكمه في الحلّ والحرمة، قاله الحافظ

(7)

.

وقال في شرح الحديث: قوله: "وأن نجلس عليه" قد أخرج البخاري

(1)

"عمدة القاري"(15/ 45).

(2)

"سنن الترمذي"(رقم 1723).

(3)

في الأصل: "ممسوج فيه" وهو تحريف.

(4)

"مسند أحمد"(3/ 207).

(5)

"فتح الباري"(10/ 291).

(6)

"المعجم الكبير"(رقم 5347).

(7)

"فتح الباري"(10/ 292).

ص: 180

ومسلم حديث حذيفة من عدة أوجه ليس فيها هذه الزيادة، وهي قوله:"وأن نجلس عليه"، وهي حجة قوية لمن قال: يمنع الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور خلافًا لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وأجاب بعض الحنفية بأن لفظ "نهى" ليس صريحًا في التحريم، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده، وأدار بعض الحنفية الجواز والمنع على اللبس لصحة الأخبار فيه، قالوا: والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور بحديث أنس:"فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس"، ولأن لبس كل شيء بحسبه، انتهى من "الفتح" مختصرًا.

وفي "الدر المختار"

(1)

: ويحلّ توسده وافتراشه والنوم عليه، وقالا والشافعي ومالك: حرام وهو الصحيح، انتهى.

وذكر ابن عابدين: قيل: أبو يوسف مع أبي حنيفة، وقيل: مع محمد، انتهى.

وذكر ابن عابدين وكذا العلَّامة العيني

(2)

مستدلات الحنفية في ذلك، وبحديث الباب استدل ابن قدامة على تحريم الافتراش كما في "المغني"

(3)

، وبه استدل الجمهور كما تقدم في كلام الحافظ.

(28 -‌

‌ باب لبس القسي)

بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة، وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث": أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال لها: القس رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقس قرية بمصر، منهم الطبري وابن سيده، ثم ذكر الحافظ الاختلاف في محل وقوع هذه القرية، ثم قال:

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 512).

(2)

انظر: "عمدة القاري"(15/ 46).

(3)

انظر: "المغني"(2/ 305).

ص: 181

وحكاه أبو عبيد الهروي عن شمر اللغوي أنها بالزاي لا بالسين، نسبة إلى القز وهو الحرير، فأبدلت الزاي سينًا

(1)

، انتهى.

وقال العلَّامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان لبس الثوب القسي.

قلت: القس كانت بلدة على ساحل البحر الملح بالقرب من دمياط، كان ينسج فيها الثياب من الحرير، واليوم خرابة، انتهى.

وفي الحاشية "الهندية"

(3)

عن "المجمع"

(4)

: هي ثياب من كتّان مخلوط بحرير، وفسّر بثياب مضلعة فيها حرير أمثال الأترنج، انتهى.

قلت: وهذا الثاني الأخير مصرَّح في حديث الباب.

(29 -‌

‌ باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكّة)

بكسر المهملة وتشديد الكاف: نوع من الجرب، أعاذنا الله تعالى منه.

وذكر الحكة مثالًا لا قيدًا، وقد ترجم له في الجهاد:"الحرير للجرب"، وتقدم أن الراجح أنه بالمهملة وسكون الراء، وقال في شرح الحديث: قال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير، انتهى.

ويلتحق بذلك ما يقي من الحر أو البرد حيث لا يوجد غيره، وقد تقدم في الجهاد أن بعض الشافعية خصّ الجواز بالسفر دون الحضر، واختاره ابن الصلاح، وخصّه النووي في "الروضة" مع ذلك بالحكة، ونقله الرافعي في القمل أيضًا، انتهى

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 292). وانظر: "غريب الحديث"(1/ 226).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 47).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 649).

(4)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 272).

(5)

"فتح الباري"(10/ 295).

ص: 182

وقال النووي في "شرح مسلم"

(1)

تحت حديث الباب: وهذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكّة لما فيه من البرودة، وكذلك للقمل وما في معنى ذلك، وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، وفي هذا الحديث دليل لجواز لبس الحرير عند الضرورة، كمن فاجأته الحرب، ولمن خاف من حر أو برد أو نحوها ولم يجد غيره، ثم الصحيح عند أصحابنا والذي قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعًا، وقال بعض أصحابنا: يختص بالسفر وهو ضعيف، انتهى.

وقال ابن قدامة في "المغني"

(2)

: فإن لبس الحرير للقمل أو الحكة أو مرض ينفعه لُبسُ الحرير جاز في إحدى الروايتين، ثم ذكر حديث الباب، وقال: وما ثبت في حق صحابي ثبت في حق غيره ما لم يقم دليل التخصيص، والرواية الأخرى: لا يباح لُبسه للمرض لاحتمال أن تكون الرخصة خاصة لهما وهو قول مالك، والأول أصح إن شاء الله، والتخصيص على خلاف الأصل، انتهى.

ولم أجد الكلام على هذه المسألة مشبعًا في فروع الحنفية، وفي "البحر"

(3)

وفي "التتارخانية": وإنما يكره اللبس إذا لم تقع الحاجة في لُبس، فلو كان به جرب أو حكة كثيرًا ولا يجد غيره لا يكره لبسه، انتهى.

وهكذا حكى ابن عابدين

(4)

عن "التتارخانية" بزيادة حديث الباب في الاستدلال، ثم قال: أقول: لكن صرّح الزيلعي قبيل الفصل الآتي أنه عليه السلام رخص ذلك خصوصية لهما، تأمل، انتهى.

قلت: وكذا حمل حديث الباب على الخصوصية أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن"

(5)

تحت قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]،

(1)

"شرح النووي"(7/ 302).

(2)

"المغني"(2/ 306).

(3)

"البحر الرائق"(8/ 216).

(4)

"ردّ المحتار"(9/ 511).

(5)

"أحكام القرآن"(2/ 204).

ص: 183

فإنه ذكر في تفسير هذه الآية ما ورد من خصوصية علي رضي الله عنه في جواز المرور له في المسجد جنبًا وغير ذلك من الخصوصيات الواردة في حق بعض الصحابة، وعدّ من جملتها خصوصية الزبير بإباحة لبس الحرير، وذكر شيخنا في "البذل"

(1)

تحت حديث الباب عن تقرير شيخ شيوخنا الكَنكَوهي: قوله: "من حكة" وقد تعين العلاج به ههنا لضرورة كونهم على السفر، ولا شيء ثمة يداوي به، فما أبيح للضرورة لا يتعداها ويتقدر بقدرها، انتهى.

وهذا ما يتعلق بمسألة الباب، وأما ما يتعلق بصنيع المصنف من دقائق الترجمة فقوله:"للحكة" فلعله أشار به إلى ترجيحها في علة الجواز، فلا يختص الرخصة بالسفر.

قال القسطلاني

(2)

: قال السبكي: الروايات في الرخصة لعبد الرحمن والزبير يظهر أنها مرة واحدة اجتمع عليهما الحكة والقمل في السفر، وكأن الحكة نشأت عن أثر القمل، وحينئذ فقد يقال: المقتضي للترخيص إنما هو اجتماع الثلاثة، وليس أحدها بمنزلتها، فينبغي اقتصار الرخصة على مجموعها، إلى آخر ما ذكر.

وعندي أيضًا لفظ الترجمة يشير إلى أن الحكم الوارد في حديث الباب ليس بخصيصة للزبير كما قاله الحنفية، بل هو رخصة عامة لجميع الرجال لأجل الحكة.

(30 -‌

‌ باب الحرير للنساء)

لعله أفرده بالذكر لوجود الخلاف فيه في السلف، كما تقدمت الإشارة إليه في "باب لبس الحرير".

وقال الحافظ

(3)

: كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران في

(1)

"بذل المجهود"(12/ 84، 85).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 642).

(3)

"فتح الباري"(10/ 296).

ص: 184

تخصيص النهي بالرجال صريحًا، فاكتفى بما يدل على ذلك، وقد أخرج أحمد وأصحاب "السنن" وصححه ابن حبان والحاكم من حديث علي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا وذهبًا فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي، حلّ لإناثهم" وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الترمذي والحاكم من حديث أبي موسى وأعلّه ابن حبان وغيره بالانقطاع، إلى آخر ما ذكر.

قلت: ولفظه عند الترمذي

(1)

عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم" ثم قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وعلي وعقبة بن عامر وأم هانيء وأنس وحذيفة وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحانة وابن عمر والبراء، هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم الاختلاف في مسألة الباب في "باب لبس الحرير وافتراشه".

وقال الحافظ

(2)

: قال ابن أبي جمرة

(3)

: إن قلنا: إن تخصيص النهي للرجال لحكمة فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبًا إنما هو للأزواج وقد ورد:"أن حسن التبعل من الإيمان" قال: ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث، انتهى.

(31 -‌

‌ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوّز من اللباس والبسط)

معنى قوله: "يتجوز": يتوسع، فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس والغالي بل يستعمل ما تيسر، ووقع في رواية الكشميهني:"يتجزى" بجيم وزاي أيضًا لكنها ثقيلة مفتوحة بعدها ألف وهي أوضح، والبسط بفتح الموحدة: ما يبسط ويجلس عليه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"سنن الترمذي"(رقم 1720).

(2)

"فتح الباري"(10/ 296).

(3)

"بهجة النفوس"(4/ 137).

(4)

"فتح الباري"(10/ 302).

ص: 185

وتعقب العلَّامة العيني

(1)

على كلام الحافظ في ضبط هذين اللفظين فقال في الأول يعني قوله: "يتجزى": وما أظنه صحيحًا إلا بالحاء المهملة والراء، ثم حكى في ضبط لفظ البسط ما تقدم في كلام الحافظ.

ثم قال: وقال الكرماني: البسط جمع البساط فحينئذ لا تكون الباء إلا مضمومة، وما أظن الصحيح إلا هذا، انتهى.

قلت: والذي ذكره الإمام البخاري في هذه الترجمة هو الأصل في دأبه صلى الله عليه وسلم في اللباس أي: التوسع، فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه بل يستعمل ما تيسر بلا كلفة، ولذا افتتح القسطلاني في "المواهب اللدنية" بيان لبسه صلى الله عليه وسلم من ترجمة البخاري هذه

(2)

.

(32 -‌

‌ باب ما يدعى لمن لبس ثوبًا جديدًا)

قال الحافظ

(3)

: كأنه لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبًا فقال: البس جديدًا، وعش حميدًا، ومت شهيدًا" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وأعله النسائي، وجاء أيضًا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبًا سماه باسمه عمامة أو قميصًا أو رداء، ثم يقول: اللَّهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له"، وغير ذلك من الروايات التي ذكرها الحافظ.

وقال العيني

(4)

بعد ذكر تلك الروايات: ولم يرو البخاري حديثًا منها؛ لأنها لم تثبت على شرطه، انتهى.

قلت: ولعله لم يترجم لهذا الوجه بما يقول الرجل عند لبسه ثوبًا

(1)

"عمدة القاري"(15/ 53).

(2)

انظر: "المواهب اللدنية"(2/ 426).

(3)

"فتح الباري"(10/ 303).

(4)

"عمدة القاري"(14/ 56).

ص: 186

جديدًا، وإلا فمقتضى القياس أن يترجم لهذا المعنى ليتم المقابلة بهذه الترجمة، وهكذا صنع الإمام أبو داود في "سننه"، وأما الإمام الترمذي فقد ترجم في "جامعه" لكلا المعنيين على حدة.

(33 -‌

‌ باب التزعفر للرجال)

كذا في النسخة "الهندية" و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح":"النهي عن التزعفر للرجال".

قال الحافظ

(1)

أي: في الجسد لأنه ترجم بعده "باب الثوب المزعفر"، وقيّده بالرجل ليخرج المرأة، انتهى.

وقال العيني

(2)

تحت حديث الباب: قال ابن بطال وابن التِّين: هذا النهي خاصّ بالجسد ومحمول على الكراهة؛ لأن تزعفر الجسد من الرفاهية التي نهى الشارع عنها بقوله: "البذاذة من الإيمان"، والدليل على كون النهي محمولًا على الكراهة دون التحريم حديثُ أنس:"أن عبد الرحمن بن عوف قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة، فقال: مهيم" الحديث، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمره بغسلها فدلّ على أن نهيه عنه لمن لم يكن عروسًا إنما هو محمول على الكراهة، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: واختلف في النهي عن التزعفر هل هو لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق، أو للونه فيلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وأرخص في المعصفر، ثم ذكر عن البيهقي رواية في النهي عن المعصفر، ثم نقل عن البيهقي: ولو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعًا للسُّنَّة كعادته.

(1)

"فتح الباري"(10/ 304).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 57).

(3)

"فتح الباري"(10/ 304).

ص: 187

وقال النووي: ورخص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل.

وقال الحافظ أيضًا: والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه، انتهى ملخصًا ومختصرًا.

وتقدم في "كتاب النكاح""باب الصفرة للمتزوج" وما قال الحافظ

(1)

هناك من أن المصنف قيده بالمتزوج إشارةً إلى الجمع بين حديث الباب وحديث النهي عن التزعفر للرجال، وتقدم هناك عن القسطلاني

(2)

أن التزعفر منهي عنه عند الشافعية والحنفية، وقال المالكية: يجوز في الثوب دون البدن.

(34 -‌

‌ باب الثوب المزعفر)

قال الحافظ

(3)

في شرح الحديث: وقد أخذ من التقييد بالمحرم جواز لبس الثوب المزعفر للحلال، قال ابن بطال: أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي في "باب النعال السبتية" يدل على الجواز، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة، قال المهلب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله تعالى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]، انتهى.

وأخرج مالك في "الموطأ" عن نافع "أن عبد الله بن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران".

وفي "الأوجز"

(4)

: قال الباجي

(5)

: أما المصبوغ بالزعفران فذهب

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 221).

(2)

انظر: "إرشاد الساري"(11/ 500).

(3)

"فتح الباري"(10/ 205)، وانظر:"شرح ابن بطال"(9/ 119، 120).

(4)

"أوجز المسالك"(16/ 160).

(5)

"المنتقى"(7/ 220).

ص: 188

ابن عمر إلى إباحة ذلك، وبه قال مالك وأكثر فقهاء المدينة، إلى آخر ما ذكر، وفي "المحلى": روى الشيخان عن أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم هي أن يتزعفر الرجل" وبه قال أبو حنيفة والشافعي والجمهور: أنه يكره تحريمًا لبس الثوب المزعفر، قال ابن الهمام: وإنما عملوا بالنهي مع معارضة أخبار الإباحة تقديمًا للمحرم على المبيح، انتهى من "الأوجز".

وأما حكم الثوب المعصفر وإن لم يتعرض له البخاري فنحن نذكره تتميمًا للفائدة وتكميلًا لها، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" وفي رواية فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما".

قال النووي

(1)

: اختلف العلماء في الثياب المعصفرة وهي المصبوغة بعصفر، فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية عنه أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها، وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي، وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة، ثم ذكر النووي عن الإمام البيهقي ما تقدم في الباب السابق، وحاصله ترجيح تحريم المعصفر للأحاديث الواردة فيه.

قلت: وما حكى النووي من مذهب أبي حنيفة إباحة المعصفر ليس بصحيح، ففي "الدر المختار"

(2)

: كره لبس المعصفر والمزعفر للرجال، انتهى.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(7/ 304).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 515).

ص: 189

قال صاحب "المحلى": حكاية الإباحة عن أبي حنيفة لا توجد في كتب المذهب، كذا في "الأوجز"

(1)

، وذكر الزرقاني عن مالك فيه عدة روايات كما في "الأوجز"، منها ما تقدم في كلام النووي، وعنه الجواز مطلقًا، وعنه الكراهة مطلقًا وهي المشهورة، ففي "المدونة": كره مالك الثوب المعصفر المفدم للرجال في غير الإحرام، والمفدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة: القوي الصبغ الذي ردّ في العصفر مرة بعد أخرى، قال في "التوضيح": أما المعصفر غير المفدم والمزعفر فيجوز لبسها في غير الإحرام، نصّ على الأول في "المدونة" وعلى الثاني في غيرها، انتهى.

وضبط الحافظ المفدم بتشديد الدال، كذا في "الأوجز"، وكذا يكره لبس المزعفر والمعصفر عند الحنابلة كما في "المغني"

(2)

.

فحاصل الخلاف في لبس المعصفر والمزعفر: أن المزعفر يكره لبسه للرجل عند الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة خلافًا لمالك فإنه أباحه، وأما المعصفر فكالمزعفر يكره عندنا الحنفية والحنابلة، وأباحه الشافعي خلافًا للبيهقي فإنه رجّح الكراهة، واختلفت الروايات فيه عن مالك، والمشهور عندهم كراهة المعصفر المفدم وإباحة غيره.

(35 -‌

‌ باب الثوب الأحمر)

قال الحافظ

(3)

: وتقدم في "باب التزعفر" ما يتعلق بالمعصفر فإنه غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر، وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال:

الأول: الجواز مطلقًا، ونسب الحافظ هذا المذهب إلى جماعة من الصحابة والتابعين منهم ابن المسيب والنخعي.

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 165، 166).

(2)

"المغني"(2/ 299).

(3)

"فتح الباري"(10/ 305، 306).

ص: 190

القول الثاني: المنع مطلقًا لما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعًا من النهي عن المفدم وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر، ثم ذكر الحافظ عدة روايات في المنع عن الحمرة.

القول الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد.

الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عباس، وقد تقدم قول مالك في "باب التزعفر".

القول الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي، واحتج بأن الحلة الواردة في الأخبار الواردة في لبسه صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر وبرود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج.

القول السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر لورود النهي عنه، ولا يمنع ما صبغ بغيره من الأصباغ.

القول السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء، فإن الحلل اليمانية غالبًا تكون ذات خطوط حمر وغيرها، إلى آخر ما ذكر الحافظ ما هو الراجح عنده من التحقيق في هذا المقام.

وكتب الشيخ الكَنكَوهي في "الكوكب الدري": والمذهب في لبس الحمرة والصفرة أن المزعفر والمعصفر ممنوع عنه الرجال مطلقًا، والحمرة والصفرة غير ذلك، فالفتوى على جوازهما مطلقًا، لكن التقوى غير ذلك، والله أعلم بالصواب، انتهى.

ص: 191

وفي هامشه عن "الدر المختار"

(1)

: كره لبس المعصفر والمزعفر الأحمر والأصفر للرجال ولا بأس بسائر الألوان، وفي "شرح النقاية" وغيره: لا بأس بالثوب الأحمر، ومفاده أن الكراهة تنزيهية، وصرَّح في "التحفة" بالحرمة، فأفاد أنها تحريمية وهي المحمل عند الإطلاق، وللشرنبلالي فيه رسالة نقل فيها ثمانية أقوال، منها أنه مستحب، انتهى.

وقال القاري في "شرح الشمائل"

(2)

في شرح قوله: "وعليه حلة حمراء": أي: ما فيه خطوط حمر، وإلا فالأحمر البحت منهي عنه ومكروه لبسه، إلى آخر ما ذكر.

ولم يرض به الشارح المناوي وردّ على من قال: إن المراد به ما فيه خطوط حمر، وقال: ولبس المصطفى الأحمر القاني مع نهيه عنه ليبين جوازه، وأن النهي للتنزيه، انتهى.

قلت: ولعله اختار ذلك رعايةً لمذهبه فإن الشافعي أباح لبس الثوب الأحمر كما في "القسطلاني" إذ قال

(3)

: واختلف في لبس الثياب المصبوغة أحمر بالعصفر أو غيره، فأباحها جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي، إلى آخر ما ذكر، وهكذا نقل القاضي مذهب الشافعي كما في "البذل"

(4)

.

وقال الموفق

(5)

: وأما الصلاة في الثوب الأحمر فقال أصحابنا: يكره للرجال لبسه والصلاة فيه، ثم ذكر الأحاديث المتعارضة الواردة في لبس الأحمر، ورجّح أحاديث الجواز ثم قال: ولأن الحمرة لون فهي كسائر الألوان، انتهى.

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 515، 516).

(2)

"جمع الوسائل شرح الشمائل" للقاري (1/ 115).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 650، 651).

(4)

"بذل المجهود"(12/ 100).

(5)

"المغني"(2/ 301، 302).

ص: 192

(36 -‌

‌ باب الميثرة الحمراء)

وفي "مرقاة الصعود"

(1)

: الميثرة بالكسر وهي مفعلة من الوثارة بالمثلثة يقال: وثره وثارة فهو وثير، أي: وطيء؛ لأن أصلها مؤثرة فقلبت الواو ياء لكسرة الميم، وهي من مراكب العجم، تعمل من حرير أو ديباج، ويتخذ كالفراش الصغير، ويحشى بقطن يجعلها الراكب تحته على الرحال فوق الجمال، ويدخل فيه مياثر السرج؛ لأن النهي يشمل كل ميثرة حمراء كانت على رحل أو سرج، انتهى.

وقال الشيخ في "البذل"

(2)

: هي وطاء محشوّ يترك على رحل البعير تحت الراكب، وأصله الواو وميمه زائدة، وقيل: أغشية للسرج، والحرمة متعلقة بالحرير، وقيل: من الجلود، والنهي للإسراف، أو لأنه يكون فيها حرير، كذا في "المجمع"

(3)

، انتهى.

قلت: واختلف في تفسيرها على أقوال كثيرة بسطها الحافظ في "الفتح"

(4)

.

قال القسطلاني

(5)

تحت حديث الباب: وهذه المنهيات كلها للتحريم بخلاف الأوامر فإنها على ما سبق، والتقييد بالحمر لا اعتبار بمفهومه إذا كانت من الحرير، انتهى.

(37 -‌

‌ باب النعال السبتيّة وغيرها)

جمع نعل، وهي مؤنثة، وقال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم.

(1)

انظر: "درجات مرقاة الصعود"(ص 164).

(2)

"بذل المجهود"(12/ 80).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 656، 5/ 15).

(4)

انظر: "فتح الباري"(10/ 307).

(5)

"إرشاد الساري"(12/ 652).

ص: 193

قوله: "السبتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة: منسوبة إلى السبت بمعنى القطع، قال أبو عبيد: هي المدبوغة، وقال بعضهم: إنها التي حلق عنها الشعر، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها وغير مدبوغة، قال أبو عبيد: وكانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، وقال أيضًا بعد ذكر الحديث الأول: مطابقته للترجمة تؤخذ منه، وقال بعد الحديث الثاني: مطابقته للترجمة ظاهرة، انتهى.

قلت: وعندي أن المصنف إنما ترجم بالنعال السبتية لما يتوهم من بعض الروايات من كراهتها، ولما قال عبيد بن جريج كما في رواية الباب من قوله:"لم أر أحدًا يصنعها" فأشار المصنف بالترجمة إلى مشروعيتها.

قال الحافظ

(3)

: واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال، وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما أنا أمشي في المقابر وعليّ نعلان إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السبتيتين، إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، واحتج به على ما ذكر.

وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعها لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولّوا عنه مدبرين، وهو دالّ على جواز لبس النعال في المقابر.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك، والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 308).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 59، 60).

(3)

"فتح الباري"(10/ 309).

ص: 194

(38 -‌

‌ باب يبدأ بانتعال اليمنى)

حديث الباب ظاهر فيما ترجم له.

(39 -‌

‌ باب ينزع النعل اليسرى)

هكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة الحافظ بتقديم الباب الآتي على هذا الباب، والمراد بقوله:"ينزع النعل اليسرى" أي: ابتداء ولم يصرّح بذلك؛ لأنه يظهر بمقابلة الترجمة السابقة، وفي "الفتح"

(1)

: قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسًّا في القوة وشرعًا في الندب إلى تقديمها.

وقال النووي: يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخفّ والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مرَّ كثير من هذا في "كتاب الطهارة" في شرح حديث عائشة:"كان يعجبه التيمن"، انتهى.

(40 -‌

‌ باب لا يمشي في نعل واحدة)

قال ابن العربي: قيل: العلة فيها أنها مشية الشيطان، وقيل: لأنها خارجة عن الاعتدال، وقال البيهقي: الكراهة فيه للشهرة فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صيّرَ صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب، وغير ذلك من الحكم التي حكاها الحافظ

(2)

.

ثم بسط الحافظ ههنا الكلام على اختلاف الروايات، فذكر من رواية مسلم عن أبي هريرة: "إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة

(1)

"فتح الباري"(10/ 311، 312).

(2)

"فتح الباري"(10/ 310).

ص: 195

حتى يصلحها" ثم قال: وهو دالّ على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة قال: "ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها"، وقد رجح البخاري وغير واحد وقفه على عائشة، إلى آخر ما بسط من الكلام عليه.

(41 -‌

‌ باب قبالان في نعل)

أي: في كل فردة، "ومن رأى قبالًا واحدًا واسعًا" أي: جائزًا، القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة: هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين أصبعي الرجل، قاله الحافظ

(1)

.

وقال في شرح الحديث: قوله "قبالان" زاد ابن سعد: "من سبت ليس عليهما شعر"، قال الكرماني: دلالة الحديث على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع ما يلبس في الرجلين، وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشيء بالشيء يفيد التوزيع، فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد.

قلت: بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف، فقد أخرج البزار والطبراني في "الصغير" من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا، وزاد:"وكذا لأبي بكر ولعمر، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان رضي الله عنه"، ورجال سنده ثقات، انتهى.

وسكت العلامة القسطلاني عن وجه المطابقة.

وقال العلَّامة العيني

(2)

تحت كل واحد من حديثي الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة، فكأنه لم يراع الركن الثاني من الترجمة، وقال أيضًا في شرح الترجمة: وأشار بهذا إلى أن قبالين أو قبالًا واحدًا مباح، وليس في ذلك شيء لا يجزي غيره، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 312، 313).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 63).

ص: 196

كذا قال، والظاهر عندي من سياق الترجمة أن الإمام البخاري رجح القبالين على قبال واحد كما لا يخفى.

(42 -‌

‌ باب القبة الحمراء من أدم)

بفتح الهمزة والمهملة: هو الجلد المدبوغ وكأنه صبغ بحمرة قبل أن يجعل قبة، ذكر فيه طرفًا من حديث أبي جحيفة، وقد تقدم في أوائل الصلاة بتمامه، والغرض منه هذا قوله:"وهو في قبة حمراء من أدم" فهو مطابق لما ترجم له، ولعله أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره في "باب الثوب الأحمر"، انتهى

(1)

.

قلت: ولعل الحافظ أشار بقوله: حديث رافع إلى ما ذكره في الباب المذكور بقوله: ومن طريق البيهقي في "الشعب" من رواية أبي بكر الهذلي - وهو ضعيف - عن الحسن عن رافع بن يزيد الثقفي رفعه: "إن الشيطان يحبّ الحمرة، وإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة"، وأخرجه ابن منده وأدخل في رواية له بين الحسن ورافع رجلًا فالحديث ضعيف، وبالغ الجوزقاني فقال: إنه باطل

(2)

، انتهى.

وأما مطابقة الحديث الثاني بالترجمة فذكر الحافظ

(3)

: قال الكرماني

(4)

: هذا لا يدل على أن القبة حمراء لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة، وكثيرًا ما يفعل البخاري ذلك.

قال الحافظ: ويمكن أن يقال: لعله حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد، فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين، والتي ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع، وبينهما نحو سنتين، فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل، انتهى.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 313).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 306).

(3)

"فتح الباري"(10/ 313).

(4)

"شرح الكرماني"(21/ 95).

ص: 197

(43 -‌

‌ باب الجلوس على الحصير ونحوه)

أما الحصير فمعروف، يتخذ من السعف وما أشبهه، وأما قوله:"ونحوه" فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع.

وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه سأل عائشة: "أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير"، ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة، وقد تقدم شرح حديث عائشة في "كتاب الصلاة"، وترجم المصنف هناك "باب الصلاة على الحصير"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(44 -‌

‌ باب المزرّر بالذهب)

قال العلامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في ذكر لبس الثياب المزررة بالذهب وهو المشدود بالأزرار، انتهى.

وذكر الحافظ في "المقدمة"

(3)

: "المزرر بالذهب" أي: أزرارها ذهب، انتهى.

قلت: والأزرار جمع زرّ بالكسر وهو الذي يوضع في القميص كما في "القاموس"

(4)

، وذكر له عدة معان، وقال أيضًا: وبالفتح: شدّ الأزرار، انتهى.

وفي "البذل"

(5)

في شرح قوله: "فبايعناه وإن قميصه لمطلق الأزرار": وهو جمع زرّ ما يعلّق بالعروة، والعروة حلق الجيب، انتهى.

قال الحافظ

(6)

: قوله: "فخرج وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب"

(1)

"فتح الباري"(10/ 314).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 66).

(3)

"هدي الساري"(ص 124).

(4)

"القاموس المحيط"(ص 373).

(5)

"بذل المجهود"(12/ 109).

(6)

"فتح الباري"(10/ 315).

ص: 198

هذا يحتمل أن يكون قبل التحريم فلما وقع تحريم الحرير والذهب على الرجال لم يبق في هذا حجة لمن يبيح شيئًا من ذلك، ويحتمل أن يكون بعد التحريم، فيكون أعطاه لينتفع به بأن يكسوه النساء أو ليبيعه، ويكون معنى قوله:"فخرج وعليه قباء" أي: على يده، فيكون من إطلاق الكل على البعض، انتهى.

قلت: وهذا كله باعتبار الديباج والحرير كما في حديث الباب، وأما الثوب المزرر بالذهب إذا كان الثوب من غير حرير فهو مباح عندنا كما في "الدر المختار"

(1)

إذ قال: وفي "شرح الوهبانية" عن "المنتقى": لا بأس بعروة القميص وزرّه من الحرير لأنه تبع، وفي "السير الكبير": لا بأس بأزرار الذهب والديباج، إلى آخر ما ذكر. وفي "فتاوى رشيدية"

(2)

: أن العبرة في إباحة أزرار الذهب والفضة للمساحة لا الوزن، بخلاف الخاتم فإن العبرة فيها للوزن، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(3)

: صرَّح محمد في "السير الكبير" أن أزرار الذهب جائز، وقال مولانا الكَنكَوهي: إن ما كان منها مخيطًا بالثوب فهو جائز لكونها تابعًا للثوب، وما كان منفصلًا عنه فإنه لا يجوز، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

أيضًا في موضع آخر: والزر ترجمته (تكمه كَهندي) لا (بىن)، انتهى.

قلت: والأول هو الذي يكون مخيطًا بالثوب، وأما الثاني (بىن) فهو الذي يكون منفصلًا عن الثوب غير مخيط به.

(45 -‌

‌ باب خواتيم الذهب)

جمع خاتم، ويجمع أيضًا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواء، وبلا ياء أيضًا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وهما

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 511).

(2)

"فتاوى رشيدية"(ص 587).

(3)

"فيض الباري"(6/ 92).

(4)

"فيض الباري"(6/ 159).

ص: 199

واضحتان، ثم ذكر الحافظ

(1)

بقية اللغات نظمًا ونثرًا، ثم قال في الكلام على الروايات الواردة في الباب: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة: "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال: تحلي به"، قال ابن دقيق العيد: فظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم [من] تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السُّنَّة فيه، وكذا ما روي فيه عن خباب، وقد قال له ابن مسعود:"أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه عليّ بعد اليوم"، قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال مثل ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم.

قال الحافظ: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، ثم بسط الكلام عليه، وقال أيضًا: النهي عن خاتم الذهب مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء، انتهى.

وقال المناوي في "شرح الشمائل"

(2)

نقلًا عن النووي: أجمعوا على تحريمه للرجال إلا ما حكي عن ابن حزم أنه أباحه، وعن بعضهم أنه مكروه لا حرام، قال: وهذان باطلان وقائلهما محجوج بالأحاديث التي ذكرها مسلم مع إجماع من قبله على تحريمه، انتهى.

لكن قال الزين العراقي: لا يصح نقل الإجماع فقد لبسه جمع من الصحابة والتابعين، إلى آخر ما ذكر، وتقدم توجيه نقل الإجماع في كلام الحافظ.

(1)

"فتح الباري"(10/ 316، 317).

(2)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 155).

ص: 200

لكن في "الأوجز"

(1)

: قال صاحب "المحلى": مذهب الأئمة الأربعة والجمهور أنه يحرم، ورخص فيه طائفة منهم إسحاق بن راهويه، وقال: مات خمس من الصحابة وخواتيمهم من ذهب، رواه ابن أبي شيبة، انتهى.

(46 -‌

‌ باب خاتم الفضة)

أي: جواز لبسه، ولم يذكر الحافظ الخلاف ههنا، وذكر فيه الخلاف في "الأوجز"

(2)

ففيه: قال الباجي

(3)

: روي عن بعض أهل الشام أنه منع من ذلك، أي: التختم بالفضة لغير السلطان لحديث أبي ريحانة: "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عشر خصال: الوشم والوسم والتختم لغير السلطان" الحديث، وهو حديث ضعيف، وقد أجمع الناس بعد هذا القائل على جواز التختم، وفي "المحلى": اختلفوا في إباحة لبس خاتم الفضة، فأباحه كثير مطلقًا، ومنهم من كرهه إذا قصد به الزينة، ومنهم من كرهه إلا لذي سلطان، والصحيح عند الشافعية والمالكية القول الأول، وقالوا: إن لبسه صلى الله عليه وسلم وإن كان لمصلحة الكتابة ثم استدامه ولبسه أصحابه فلم ينكره عليهم بل أقرَّهم عليه، وأما حديث أبي ريحانة فقال الحافظ زين الدين بن رجب: ذكر بعض أصحابنا أن أحمد ضعّفه، انتهى.

وقال الزرقاني

(4)

: أما حديث أبي ريحانة الذي أخرجه أبو داود والنسائي فضعّفه مالك لما سئل عنه، وكذا ضعّفه أحمد، انتهى.

وبسط الكلام عليه في "الأوجز" أشدّ البسط.

ثم جواز لبس خاتم الفضة مقيّد بما ورد عند أبي داود من حديث بريدة بن الحصيب: "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث بطوله كما سيأتي في "باب خاتم الحديد" وفي آخره: "فقال: يا رسول الله، من أي شيء

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 466، 467).

(2)

"أوجز المسالك"(16/ 468، 469).

(3)

"المنتقى"(7/ 254).

(4)

"شرح الزرقاني"(4/ 318).

ص: 201

أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالًا"، قال ابن رسلان في "شرحه" كما في "البذل"

(1)

: ولا يحلّ لبس خاتم ثقيل يزيد على مثقال، انتهى.

وحكى القاري في "جمع الوسائل"

(2)

اختلاف الشافعية في الزيادة على المثقال، وفي "شرح الإقناع"

(3)

: لم يتعرض الأصحاب لمقداره، ولعلهم اكتفوا على العرف، انتهى.

وأما عند المالكية فقال الدردير

(4)

: يحرم الزائد على الدرهمين، وأما عند الحنابلة ففي "نيل المآرب"

(5)

: يباح للذكر الخاتم من الفضة ولو زاد على مثقال، انتهى.

وأما عند الحنفية ففي "الدر المختار"

(6)

: ولا يزيده على مثقال، انتهى.

قال ابن عابدين: وقيل: لا يبلغ به المثقال، "ذخيرة"، أقول: ويؤيده نصّ الحديث السابق من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تتمه مثقالًا"، انتهى.

(47 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، هكذا في النسخة "الهندية"، وكذا في نسخة "العيني" و"القسطلاني"، وسقط الباب في نسخة الحافظ، ولم يتعرض الحافظ لاختلاف النسخ ولا العيني، نعم تعرض له العلامة القسطلاني

(7)

إذ قال: وسقط هذا الباب لأبي ذر، انتهى.

قال العيني

(8)

: هو كالفصل للباب الذي قبله، انتهى.

(1)

"بذل المجهود"(12/ 251).

(2)

"جمع الوسائل"(1/ 148).

(3)

"شرح الإقناع"(2/ 377).

(4)

"الشرح الكبير"(1/ 107).

(5)

"نيل المآرب"(1/ 161).

(6)

"ردّ المحتار"(9/ 520).

(7)

"إرشاد الساري"(12/ 664).

(8)

"عمدة القاري"(15/ 70).

ص: 202

كذا قال واقتصر عليه، وعندي لعله ذكره للتنبيه على تنقيح المطروح هل هو خاتم الذهب أو الفضة؟ فأورد الروايتين تحت الباب، رواية طرح الذهب وطرح الفضة.

قال الحافظ

(1)

تحت رواية طرح الفضة: هكذا روى الحديث الزهري عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه، ونسب فيه إلى الغلط لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اتخاذ الناس مثله إنما هو خاتم الذهب كما صرَّح به في حديث ابن عمر، قال النووي تبعًا لعياض

(2)

: قال جميع أهل الحديث: هذا وهم من ابن شهاب؛ لأن المطروح ما كان إلا خاتم الذهب، ومنهم من تأوّله كما سيأتي.

قال الحافظ: وحاصل الأجوبة ثلاثة، ثم ذكرها وزاد عليه من عنده وجهًا رابعًا ذكره فارجع إليه.

(48 -‌

‌ باب فصّ الخاتم)

قال الجوهري: الفصّ بفتح الفاء والعامة تكسرها، وأثبتها غيره لغة، وزاد بعضهم الضمَّ، وعليه جرى ابن مالك في المثلث، كذا في "الفتح"

(3)

.

وفيه أيضًا: قوله: "وكان فصه منه" لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب "السنن" من حديث أنس: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيًّا"؛ لأنه إما أن يحمل على التعدد، وحينئذ فمعنى قوله:"حبشي" أي: كان حجرًا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعًا أو عقيقًا لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه، إما الصياغة وإما النقش، انتهى.

ثم ذكر الحافظ في آخر الباب: وقد اعترضه الإسماعيلي، فقال: ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شيء، ثم ذكر الجواب عنه، وأراد

(1)

"فتح الباري"(10/ 319، 320).

(2)

"الإكمال"(6/ 610).

(3)

"فتح الباري"(10/ 322).

ص: 203

بالحديث الحديث الأول من الباب، فإن مطابقته بالترجمة خفية، ولذا قال العيني

(1)

: مطابقته بالترجمة تؤخذ من قوله: "أنظر إلى وبيص خاتمه" لأن الوبيص لا يكون إلا من الفصّ غالبًا، سواء كان فصه منه أم لا؟ انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الإجمال في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية، انتهى.

وعندي أن في ترجمة المصنف بلفظ "فص الخاتم"، ثم في إيراده حديث أنس:"كان فصه منه" إيماء إلى ترجيح ذلك، أي: أن فصه كان منه بخلاف ما ورد أن فصه كان حبشيًا كما تقدم في كلام الحافظ، والله تعالى أعلم.

ثم ههنا اختلاف آخر في الروايات ذكره الحافظ والعلامة العيني وهو أن خاتمه صلى الله عليه وسلم كان كلّه من فضة أو كان من حديد ملويًّا عليه فضة كما في رواية أبي داود والنسائي، وأجاب الحافظ عن ذلك الاختلاف بحمله على التعدد.

(49 -‌

‌ باب خاتم الحديد)

أراد المصنف بذلك إثبات جوازه، كما هو الراجح عند الشافعية خلافًا لما ذهب إليه الجمهور، لكن لا يصح الاستدلال بحديث الباب على جواز لبس خاتم الحديد، كما قال الحافظ

(3)

حيث قال: ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته، انتهى.

واستدل الجمهور بما أخرجه أبو داود

(4)

وغيره من أصحاب "السنن" من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه: "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه

(1)

"عمدة القاري"(15/ 71).

(2)

"فتح الباري"(10/ 322).

(3)

"فتح الباري"(10/ 323).

(4)

"سنن أبي داود"(رقم 4223).

ص: 204

خاتم من شبه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام، فطرحه، ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، فطرحه" الحديث.

وقال الحافظ

(1)

تحت ترجمة الباب: قد ذكرت ما ورد فيه في الباب الذي قبله وكأنه لم يثبت عنده شيء من ذلك على شرطه، انتهى.

وأشار الحافظ بقوله: قد ذكرت، ما تقدم في الباب السابق من رواية أبي داود:"كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويّا عليه فضة" الحديث، واختلفوا في التختم بالحديد كما سيأتي ذكر الخلاف فيه لو كان خاتم الحديد ملويًّا عليه فضة حتى لا يرى جاز، صرَّح به ابن عابدين، ففي "الدر المختار"

(2)

: ولا يتختم إلا بالفضة لحصول الاستغناء بها، فيحرم بغيرها كحجر وذهب وحديد وصفر ورصاص وزجاج وغيرها، انتهى.

وذكر ابن عابدين في الاستدلال عليه حديث أبي داود المذكور، وهذا الحديث صححه ابن حبان كما قال الحافظ، وقال المناوي

(3)

تعقبًا على كلام النووي: وخبر النهي عنه ضعيف إذ قال: واعترض بقول بعض الحفاظ: إن له شواهد إن لم ترقه إلى درجة الصحة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن، ثم قال: والإنصاف أن خبر النهي دليل صالح للكراهة التنزيهية، انتهى.

وفي هامشي على "البذل"

(4)

: قال ابن العربي في "شرح الترمذي"

(5)

: الأحاديث في ذلك صحاح، وإن لم يكن في الصحيح، ويعضده الإجماع على تركه عملًا، انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم"

(6)

: لأصحابنا في كراهة خاتم الحديد وجهان، أصحهما لا يكره، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 323).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 517، 518).

(3)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 139).

(4)

"بذل المجهود"(12/ 250).

(5)

"شرح الترمذي"(7/ 279).

(6)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(5/ 232).

ص: 205

وكذا يكره التختم بالحديد عند المالكية كما قال الدسوقي

(1)

، وكذا عند الحنابلة، ففي "نيل المآرب"

(2)

: كره تختمهما، أي: الرجل والمرأة بالحديد والرصاص والنحاس، انتهى.

(50 -‌

‌ باب نقش الخاتم)

أي: بيان نقش الخاتم وكيفيته، قاله العيني والقسطلاني

(3)

، وسكت الحافظ عن شرح الترجمة.

والظاهر عندي أنه أراد بيان جوازه لأن النقش مظنة المنع، ويؤيده ما قاله المناوي

(4)

بحثًا على مسألة جواز التختم وكراهته: لأن الفساد كما قاله ابن جماعة وغيره إنما هو ناشئ عن النقش لا التختم، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(5)

: وينقشه اسمه أو اسم الله تعالى لا تمثال إنسان أو طير ولا محمد رسول الله، انتهى.

قال ابن عابدين: وذلك لأنه نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم، وقد نهى عليه الصلاة والسلام أن ينقش أحد عليه، كما رواه في "الشمائل"، ونقش خاتم أبي بكر:"نعم القادر الله" وعمر: "كفى بالموت واعظًا" وعثمان: "لتصبرن أو لتندمن" وعلي: "الملك لله" وأبي حنيفة: "قل الخير وإلا فاسكت" وأبي يوسف: "من عمل برأيه فقد ندم" ومحمد: "من صبر ظفر"، انتهى، "قهستاني" عن "البستان".

قال الحافظ

(6)

في شرح قوله: "نقشه: محمد رسول الله": زاد ابن سعد من مرسل ابن سيرين: بسم الله محمد رسول الله، ولم يتابع على هذه الزيادة، وأما ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن

(1)

"حاشية الدسوقي"(1/ 108).

(2)

"نيل المآرب"(1/ 61).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 73)، و"إرشاد الساري"(12/ 670).

(4)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 137).

(5)

"ردّ المحتار"(9/ 519، 520).

(6)

"فتح الباري"(10/ 324).

ص: 206

عبد الله بن محمد بن عقيل: أنه أخرج لهم خاتمًا وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه، فيه تمثال أسد، ففيه مع إرساله ضعف؛ لأن ابن عقيل مختلف في الاحتجاج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف، وعلى تقدير ثبوته فلعله لبسه مرة قبل النهي، انتهى.

(51 -‌

‌ باب الخاتم في الخنصر)

أي: دون غيرها من الأصابع، وكأنه أشار إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث علي قال:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه" يعني: السبابة والوسطى، وسيأتي بيان أيّ الخنصرين اليمنى أو اليسرى كان يلبس الخاتم فيه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: ومسألة الباب، أي: كون الخاتم في الخنصر إجماعية، ففي "البذل"

(2)

: قال النووي

(3)

: يكره جعل الخاتم في الوسطى والتي تليها لهذا الحديث (الذي تقدم في كلام الحافظ)، وأجمع المسلمون على جعل الخاتم في الخنصر، انتهى.

وفي هامشي على "البذل": كذا حكى المناوي في "شرح الشمائل"

(4)

عن النووي الإجماع على سُنِّيته جعله في الخنصر، وقال: ورد النهي عن السبابة والوسطى، ولم يرد شيء في الإبهام والبنصر، انتهى.

وقال ابن عابدين

(5)

: ينبغي أن يكون في خنصرها (أي: اليسرى) دون سائر أصابعه، انتهى.

وصرَّح في "شرح الإقناع"

(6)

بكراهة غير الخنصر، وذكر صاحب "نيل

(1)

"فتح الباري"(10/ 324).

(2)

"بذل المجهود"(12/ 254).

(3)

"شرح النووي"(7/ 322).

(4)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 152).

(5)

"ردّ المحتار"(9/ 519).

(6)

"شرح الإقناع"(2/ 337).

ص: 207

المآرب"

(1)

الحكمة فيه، ولم يصرّح بالكراهة حيث قال: وإنما كان في الخنصر لكونها طرفًا فهو أبعد من الامتهان فيما تتناوله اليد، انتهى.

وأما كونها في اليد اليسرى أو اليمنى فمسألة خلافية لم يترجم لها المصنف، وترجم له الإمام أبو داود إذ قال:"باب ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار"، وأخرج فيه حديثين متعارضين، فأخرج أوّلًا حديث علي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه"، ثم أخرج حديث ابن عمر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره"، وكتب الشيخ في "البذل": قال في "فتح الودود": قد صح تختمه صلى الله عليه وسلم في اليمين واليسار جميعًا، فقال بعضهم: يجوز الوجهان، واليمين أفضل؛ لأنه زينة واليمين بها أولى، وقال آخرون بنسخ اليمين لما جاء في بعض الروايات الضعيفة أنه تختم أولًا في اليمين ثم حوّل إلى اليسار، ومنهم من يرى الوجهين مع ترجيح اليسار، انتهى.

قلت: ولكن علماء الأحناف منعوا عن التختم في اليسار لما صار ذلك شعارًا لأهل البدع من الرافضة، وقد حرم التشبه بأهل الاهواء كما حرم بالكفرة، انتهى مختصرًا من "البذل".

وهكذا كتب الشيخ الكَنكَوهي في "الكوكب"

(2)

: إن اتخاذ الخاتم في اليسار من ديدن الروافض وشعارهم فكره لنا ذلك، وإلا فكان الأمران كأنهما متساويان، انتهى.

قلت: ولكن في "الدر المختار"

(3)

: ويجعله في اليد اليسرى، وقيل: اليمنى إلا أنه من شعار الروافض فيجب التحرز عنه، انتهى.

وهذا خلاف ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه، والجواب أن هذا مبني على اختلاف حالهم بحسب اختلاف الزمان كما أشير إليه أيضًا بعد ذلك في "الدر المختار"، فارجع إليه.

(1)

"نيل المآرب"(1/ 61).

(2)

"الكوكب الدري"(2/ 448).

(3)

"ردّ المحتار"(9/ 519).

ص: 208

وحاصل مذاهب الأئمة الأربعة كما في كتب فروعهم أن اليسار أولى عندنا الحنفية كما تقدم عن "الدر المختار"، وكذا عند الحنابلة كما في "نيل المآرب"

(1)

، وعند المالكية اليسار سُنَّة، قال الدسوقي

(2)

: لأنه آخر الفعلين عنه صلى الله عليه وسلم، وللشافعية وجهان: الصحيح أن اليمين أفضل؛ لأنه زينة واليمين أشرف وأخص بالزينة، كما قال النووي

(3)

.

وبسط الحافظ الكلام في هذه المسألة ثم قال

(4)

: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى، إلى آخر ما بسط. وأما الإمام البخاري فنقل الإمام الترمذي عنه أن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء روي في هذا الباب. وصرَّح فيه بالتختم في اليمين، قاله الحافظ.

(52 -‌

‌ باب اتخاذ الخاتم ليختم به الشيء أو ليكتب به. . .) إلخ

عندي أشار المصنف بقوله: "ليختم به. . ." إلخ، إلى أن تركه أولى لمن لا يحتاج إليه، وفي "الدر المختار"

(5)

: وترك التختم لغير السلطان والقاضي وذي حاجة إليه كمُتَولٍّ أفضل، انتهى.

قال ابن عابدين: أشار إلى أن التختم سُنَّة لمن يحتاج إليه كما في "الاختيار". قال القهستاني: وفي "الكرماني": نهى الحلواني بعض تلامذته عنه، وقال: إذا صرت قاضيًا فتختم، وفي "البستان" عن بعض التابعين: لا يتختم إلا ثلاثة: أمير، أو كاتب، أو أحمق، وظاهره أنه يكره لغير ذي الحاجة، لكن قول المصنف: أفضل؛ كـ "الهداية" وغيرها يفيد الجواز،

(1)

"نيل المآرب"(1/ 61).

(2)

"حاشية الدسوقي"(1/ 107، 108).

(3)

"شرح النووي"(7/ 323).

(4)

"فتح الباري"(10/ 327).

(5)

"رد المحتار"(9/ 520).

ص: 209

فالنهي للتنزيه. وفي "التتارخانية": كره بعض الناس اتخاذ الخاتم إلا لذي سلطان وأجازه عامة أهل العلم، انتهى.

وتقدم شيء من الكلام عليه في "باب خاتم الفضة".

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(1)

، وفيه: قال المناوي

(2)

: حلّ اتخاذ خاتم الفضة ولبسه بإجماع من يعتد به بل يسنّ ولو منقوشًا ولو لم يحتجه لختم ولا غيره، انتهى.

(تكملة): قال الحافظ

(3)

: جزم أبو الفتح اليعمري أن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة، ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك، وكان إرساله إلى الملوك في مدة الهدنة، وكان في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجّه الرسل في المحرم من السابعة، وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك، والله تعالى أعلم، انتهى.

(53 -‌

‌ باب من جعل فصّ الخاتم في بطن كفه)

قال ابن بطال

(4)

: قيل لمالك: يجعل الفصّ في باطن الكف؟ قال: لا، قال ابن بطال: ليس في كون فصّ الخاتم في بطن الكفّ ولا ظهرها أمر ولا نهي، وقال غيره: السرّ في ذلك أن جعله في بطن الكف أبعد من أن يظن أنه فعله للتزين به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس:"جعله في ظاهر الكف"، انتهى من "الفتح"

(5)

.

قلت: وهو ما أخرجه أبو داود

(6)

عن محمد بن إسحاق قال: رأيت

(1)

"أوجز المسالك"(16/ 468 - 474).

(2)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 137).

(3)

"فتح الباري"(10/ 325).

(4)

"شرح ابن بطال"(9/ 136).

(5)

"فتح الباري"(10/ 325، 326).

(6)

"سنن أبي داود"(رقم 4229).

ص: 210

على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا في خنصره اليمنى فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصّه على ظهرها، قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه كذلك، انتهى.

وكتب شيخنا قُدِّس سرُّه في "البذل"

(1)

: قال العلماء: حديث الباطن أصح وأكثر وهو الأفضل، كذا في "مرقاة الصعود"، وقال ابن رسلان: يجوز أن يكون فعل ذلك في وقت لبيان الجواز، وأكثر أوقاته مما يلي باطن كفه، انتهى.

قلت: وجعلُ فصِّه مما يلي بطنَ كفِّه مصرَّح في كتب مذاهب الأربعة، ففي "الدر المختار"

(2)

وشرحه: ويجعله، أي: الفص، لبطن كفه بخلاف النسوان لأنه تزين في حقهن "هداية"، انتهى.

وفي "شرح الإقناع"

(3)

: والسُّنَّة أن يجعل الفص مما يلي كفه، انتهى.

وهكذا في "نيل المآرب"

(4)

إذ قال: ويجعل فصه مما يلي كفه، انتهى.

وقال الدسوقي

(5)

: وكما يندب لبسه في اليسرى يندب جعل فصّه للكف لأنه أبعد من العجب، انتهى.

(54 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينقشنّ على نقش خاتمه)

قوله: (لا ينقشنّ) هكذا في النسخة "الهندية" بنون التأكيد، وفي نسخ الشروح الثلاثة بغيرها.

(1)

"بذل المجهود"(12/ 257، 258).

(2)

"رد المحتار"(9/ 519).

(3)

"شرح الإقناع"(2/ 377).

(4)

"نيل المآرب"(1/ 61).

(5)

"حاشية الدسوقي"(1/ 107، 108).

ص: 211

قال القسطلاني

(1)

: وسبب النهي كما قاله النووي أنه صلى الله عليه وسلم إنما نقش على خاتمه ذلك ليختم به كتبه إلى الملوك، فلو نقش غيره مثله لحصل الخلل، انتهى.

(55 -‌

‌ باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر)

قال ابن بطال

(2)

: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطرًا واحدًا، كذا قال، قلت: قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطرًا واحدًا يكون الفصّ مستطيلًا لضرورة كثرة الأحرف، فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعًا أو مستديرًا، وكل منهما أولى من المستطيل، قاله الحافظ

(3)

.

وقال

(4)

أيضًا في كيفية تلك الأسطر: وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت من أسفل إلى فوق، يعني: أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك فإنه قال فيها: محمد سطر، والسطر الثاني: رسول، والسطر الثالث: الله، ولك أن تقرأ محمد بالتنوين، ورسول بالتنوين وعدمه، والله بالرفع وبالجر، انتهى.

(56 -‌

‌ باب الخاتم للنساء. . .) إلخ

أي: أعم من أن يكون من ذهب أو فضة كما هو ظاهر لفظ الترجمة وحديث الباب، فلعل الغرض منه أن لبسهن إياه ليس فيه التشبه بالرجال كما حكي عن الخطابي في خاتم الفضة، وسيأتي.

قال الحافظ

(5)

: قال ابن بطال

(6)

: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 674).

(2)

"شرح ابن بطال"(9/ 137).

(3)

"فتح الباري"(10/ 328).

(4)

"فتح الباري"(10/ 329).

(5)

"فتح الباري"(10/ 330).

(6)

"شرح ابن بطال"(9/ 137، 138).

ص: 212

قلت: وقد تقدم في "باب خاتم الذهب" من كلام الحافظ

(1)

أن النهي عن خاتم الذهب مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء، انتهى.

وهذا الذي ذكره الحافظ في حق خاتم الذهب، ولم أجد الخلاف في كتب مذاهب الأئمة الأربعة في جواز خاتم الفضة للنساء إلا ما يحكى عن الخطابي فقد قال النووي

(2)

: وقال الخطابي: يكره للنساء خاتم الفضة لأنه من شعار الرجال، قال: فإن لم تجد خاتم ذهب فلتصفره بزعفران وشبهه، وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لبسها خاتم الفضة، انتهى.

وهكذا بحث المناوي في "شرح الشمائل"

(3)

على هذه المسألة إذ قال: ثم إن مما يتعجب منه قول الشارح: فيه حلّ اتخاذ خاتم الفضة للرجال والنساء إذ ليس في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم له ما يفيد حلّه للنساء، بل احتمال اختصاصه بالرجال قائم لكونه من شعارهم، ووقائع الأحوال إذا تطرق إليه الاحتمال سقط بها الاستدلال، ومن ثم ذهب جمع، منهم الخطابي إلى كراهته للأنثى لما ذكر فإن لَبِسَتْه صَفَّرْته بنحو زعفران، لكن ليس بمقبول عند أجلاء الشافعية، نعم لُبسها له خلاف الأولى، فقد قال جمع من عظمائهم: الأولى لها أن لا تلبس البياض والفضة لما فيه من التشبه بالرجال، انتهى.

ولا يخفى أن هذا اختلاف في خاتم الفضة، وأما خاتم الذهب فليس فيه خلاف أحد، والله تعالى أعلم.

(57 -‌

‌ باب القلائد والسخاب للنساء)

السخاب بكسر المهملة وتخفيف الخاء المعجمة وبعد الألف موحدة: هو قلادة من عنبر أو قرنفُلٍ أو غيره ولا يكون فيه خرز، وقيل: هو خيط فيه

(1)

"فتح الباري"(10/ 317).

(2)

"شرح النووي"(7/ 317).

(3)

"جمع الوسائل شرح الشمائل"(1/ 137، 138).

ص: 213

خرز، وسمي سخابًا لصوت خرزه عند الحركة، مأخوذ من السخب وهو اختلاط الأصوات، يقال بالصاد والسين، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: وتفسير السخاب أيضًا مذكور في الترجمة، وقال العلامة العيني

(2)

: قال ابن الأثير: السخاب خيط ينظم فيه خرز تلبسه الصبيان والجواري، وقيل: هو قلادة تتخذ من قرنفل وطيب وسُكّ ونحوه، وليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء، انتهى.

(تنبيه): وفي "الفتح"

(3)

: والسخاب جمع سُخُب بضمتين، انتهى.

كذا في النسخة التي بأيدينا من "الفتح"، وفي هامش النسخة "الهندية"

(4)

معزيًا إلى "المجمع"

(5)

: قوله: "وسخابها" جمع سخب، وهو قلادة من قرنفل إلخ، ويتوهم منه أن السخاب لفظ جمع ومفرده سُخُب، وليس كذلك بل الواقع عكسه، كما في "القاموس"

(6)

وهكذا في "المجمع"، وعبارة "المجمع" هكذا: والسخاب: هو خيط ينظم فيه خرز إلى أن قال: وحديث "فكأنهم صبيان يمرثون سخبهم" هي جمع سخاب، انتهى.

فوقع الغلط في عبارة الحاشية في نقل كلام صاحب "المجمع" في الاختصار.

(58 -‌

‌ باب استعارة القلائد)

ذكر فيه حديث عائشة في قصة قلادة أسماء، وقد تقدم في "كتاب الهبة""باب الاستعارة للعروس عند البناء" وفي "النكاح""باب استعارة الثياب للعروس"، وتقدم الكلام على الغرض من هذه التراجم الثلاثة في "كتاب الهبة".

(1)

"فتح الباري"(2/ 454).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 81).

(3)

"فتح الباري"(10/ 330).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(11/ 698).

(5)

"مجمع بحار الأنوار"(3/ 50).

(6)

"القاموس المحيط"(ص 102).

ص: 214

(59 -‌

‌ باب القرط للنساء)

بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة: ما يحلى به الأذن ذهبًا كان أو فضة صرفًا أو مع لؤلؤ وغيره، ويعلّق غالبًا على شحمتها، قاله الحافظ

(1)

.

(60 -‌

‌ باب السخاب للصبيان)

تقدم الأقوال في تفسير السخاب قريبًا، ومنها ما قاله ابن الأثير أنه خيط ينظم فيه خرز تلبسه الصبيان والجواري، والغرض من الترجمة بيان جوازه كما هو ظاهر من حديث الباب، وتقدم حديث الباب في "كتاب البيوع"، وأخرجه مسلم أيضًا في الفضائل، وكذا النسائي وابن ماجه في "السُّنَّة"، قال العلامة النووي

(2)

: وفي هذا الحديث جوازُ إلباس الصبيان القلائد والسُّخُب ونحوها من الزينة، واستحبابُ تنظيفهم لا سيما عند لقائهم أهلَ الفضل، واستحباب النظافة مطلقًا، انتهى.

وقد أخرج الإمام أبو داود

(3)

من حديث ثوبان قصة يناسب هذا الباب وفيه: "أن فاطمة رضي الله تعالى عنها حلّت الحسن والحسين قُلبين من فضة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي: من غزوة) ولم يدخل، فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى، فهتكت الستر وَفَكَّكَتْ القُلبين عن الصبيين وقطعته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه منهما وقال: يا ثوبان، اذهب بهذا إلى آل فلان أهل بيت بالمدينة، إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج"، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(4)

تحت ترجمة الباب: ذهب مالك إلى جواز

(1)

"فتح الباري"(10/ 331).

(2)

"شرح النووي"(8/ 208).

(3)

"سنن أبي داود"(رقم 4213).

(4)

"فيض الباري"(6/ 97).

ص: 215

الحلي للصبيان ما داموا صبيانًا، وهذا منه توسيع عظيم لم يذهب إليه أحد، انتهى.

قلت: قال الدردير

(1)

: وأما الصغير فيكره لوليه إلباسُه الحريرَ والذهبَ، ويجوز له إلباسُه الفضةَ هذا هو المعتمد، انتهى.

(61 -‌

‌ باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال)

أي: ذمّ الفريقين، ويدلّ على ذلك اللعن المذكور في الخبر، قاله الحافظ

(2)

.

وقال في شرح الحديث: قال الطبري: المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، قلت: وكذا في الكلام والمشي، وأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فربّ قوم لا يفترق زيّ نسائهم من رجالهم في اللبس لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار، انتهى.

(62 -‌

‌ باب إخراجهم)

وفي نسخ الشروح الثلاثة: "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت".

(63 -‌

‌ باب قصّ الشارب)

قد تقدم في مبدأ "كتاب اللباس" أن مقصود المصنف بهذا الكتاب ليس هو بيان اللباس خاصة، بل المقصود ذكر اللباس وما يناسبه من أبواب الزينة ونحوها، فكُنْ منه على ذكر.

قال العلامة القسطلاني

(3)

: ولما فرغ المصنف من اللباس شرع يذكر

(1)

"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 62).

(2)

"فتح الباري"(10/ 332).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 683).

ص: 216

ما له تعلق به من جهة الاشتراك في الزينة، وبدأ بالتراجم المتعلقة بالشعور وما أشبهها، انتهى.

وهكذا في "الفتح" وزاد

(1)

: وذكر ثانيًا التراجم المتعلقة بالتطيب، وثالثًا المتعلقة بتحسين الصورة، ورابعًا المتعلقة بالتصاوير لأنها قد تكون في الثياب، وختم بما يتعلق بالارتداف وتعلقه به خفي، وتعلقه بـ "كتاب الأدب" الذي يليه ظاهر، والله أعلم، انتهى من "الفتح".

وفيه: وأصل القصّ تتبع الأثر، وقيّده ابن سيده في "المحكم" بالليل، والقصّ أيضًا إيراد الخبر تامًّا على من لم يحضره، ويطلق أيضًا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: وعند النسائي بلفظ الحلق، لكن أكثر الأحاديث بلفظ القصّ، وعند النسائي في رواية بلفظ تقصير الشارب، وفي حديث ابن عمر في الباب التالي:"وأحفوا الشوارب"، وفي الباب الذي بعده:"أنهكوا الشوارب"، وفي مسلم:"جزوا الشوارب"، وهي تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة؛ لأن الإحفاء الإزالة والاستقصاء، والإنهاك المبالغة في الإزالة، والجزّ قصّ الشعر إلى أن يبلغ الجلد، انتهى مختصرًا.

قال الحافظ

(3)

: قال النووي: المختار في قصّ الشارب أنه يقصّه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما رواية "أحفوا" فمعناها أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارًا منه لمذهب مالك.

قال الحافظ: صرّح في "شرح المهذب" بأن هذا مذهبنا، وقال الطحاوي: لم أر عن الشافعي في ذلك نصًّا وأصحابه الذين رأيناهم

(1)

"فتح الباري"(10/ 334، 335).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 685).

(3)

"فتح الباري"(10/ 347).

ص: 217

كالمزني والربيع يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير، ونقل ابن القاسم عن مالك أن إحفاء الشارب مثلة، وأن المراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وقال أشهب: سألت مالكًا عمن يحفي شاربه فقال: أرى أن يوجع ضربًا، وقال الأثرم: كان أحمد يحفي إحفاء شديدًا، ونصّ على أنه من القصّ، انتهى.

وأما مذهب الحنفية فقال الحافظ

(1)

: قال الطحاوي: الحلق مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(2)

: وفيه - أي: "المجتبى" -: حلق الشارب بدعة، وقيل: سنة، انتهى.

قال ابن عابدين: قوله: وقيل: سُنَّة، مشى عليه في "الملتقى"، وعبارة "المجتبى" بعد ما رمز للطحاوي: حلقه سُنَّة، ونسبه إلى أبي حنيفة وصاحبيه، انتهى.

قلت: كذا نقل بعض العلماء عن الإمام الطحاوي أنه قال: الحلق مذهب الحنفية، وأصل عبارة الطحاوي في "معاني الآثار"

(3)

: قصّ الشارب حسن وإحفاؤه أحسن وأفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، انتهى.

وقال الطحطاوي

(4)

: قال الطحاوي: يستحب إحفاء الشوارب ونراه أفضل من قصّها، وفي "شرح شرعة الإسلام": قال الإمام: الإحفاء قريب من الحلق، وأما الحلق فلم يرد بل كرهه بعض العلماء ورآه بدعة، انتهى.

فالظاهر أن في نسبة الحلق إلى الطحاوي مسامحة.

(1)

"فتح الباري"(10/ 347).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 573).

(3)

"شرح معاني الآثار"(4/ 230).

(4)

"حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 526).

ص: 218

وأما الجمع بين تلك الروايات المختلفة ففي "فتح الملهم"

(1)

: قلت: في "القاموس": قصّ الشعر والظفر: قطع شيء منهما بالمقصّ، أي: المقراض، انتهى.

وهذا لا ينافي في الإحفاء؛ فإن القصّ إذا بولغ فيه ينتهي إلى الإحفاء كما ذكره ابن الهمام في "فتح القدير"، والإحفاء الشديد قريب من الحلق، فيطلق عليه الحلق مبالغة كما ذكره الزبيدي في "شرح الإحياء"، وعلى هذا لا تتضاد الروايات، ويمكن أن يحمل حديث القصّ على أدنى ما تحصل به السُّنَّة ومخالفة المجوس وغيرهم، وحديث الإحفاء على أفضل مراتب السُّنَّة وأكملها، ويراد بالحلق الوارد في رواية النسائي الإحفاء الشديد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"

(2)

: في إحفاء الشوارب أقوال: حلقها أو قصّها قليلًا بحيث تظهر أطراف الشفة العليا فحسب، وقيل: بل قصّها بالمبالغة، ولعل هذا القول الثالث أصح، فإنه يجمع العمل بالروايتين معًا، أي: رواية القصّ ورواية الإحفاء، انتهى.

(64 -‌

‌ باب تقليم الأظفار)

وهو تفعيل من القلم، وهو القطع، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدّ يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم قال:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فأوهم فيها، فسئل فقال: ما لي لا أوهم ورُفُغ أحدكم بين ظفره وأنملته" رجاله ثقات مع إرساله، والرُفُغُ بضم الراء ويجمع على أرفاغ، وهي مغابن الجسد كالإبط وكل موضع يجتمع فيه الوسخ، والتقدير:

(1)

"فتح الملهم"(2/ 333).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 402).

ص: 219

وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكّون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة

(1)

.

ثم قال الحافظ

(2)

: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القصّ شيء من الأحاديث، لكن جزم النووي في "شرح مسلم" بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى ثم بالوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام، وفي اليسرى بالبداءة بخنصرها ثم بالبنصر إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مستندًا، وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادعى استحباب تقديم اليد في القصّ على الرجل إلى دليل؛ فإن الإطلاق يأبى ذلك.

قلت: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء والجامع التنظيف، وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة:"كان يعجبه التيمن في طهوره وترجله وفي شأنه كله"، والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها آلة التشهد، إلى آخر ما ذكر.

وفي "الدر المختار"

(3)

: ويستحب قلم أظافيره - إلا لمجاهد في دار الحرب فيستحبّ توفير شاربه وأظفاره - يوم الجمعة، وكونه بعد الصلاة أفضل إلا إذا أخَّره إليه تأخيرًا فاحشًا فيكره، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وقد ذكر في الباب ثلاثة أحاديث، الثالث منها لا تعلق له بالظفر، وإنما هو مختصّ بالشارب واللحية، فيمكن أن يكون مراده في هذه الترجمة والتي قبلها تقليم الأظفار وما ذكر معها وقصّ الشارب وما ذكر معه، ويحتمل أن يكون أشار إلى أن حديث ابن عمر في الأول وحديثه في الثالث واحد، منهم من طوّله ومنهم من اختصره، انتهى.

(فائدة): ذكر السيوطي في رسالة "نور اللمعة في خصائص الجمعة"

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 345).

(2)

"فتح الباري"(10/ 345، 346).

(3)

"ردّ المحتار"(9/ 580، 581).

(4)

"فتح الباري"(10/ 349).

ص: 220

عدة روايات في فضل تقليم الأظفار يوم الجمعة، فارجع إليه لو شئت.

(65 -‌

‌ باب إعفاء اللحى)

كذا استعمله من الرباعي، وهو بمعنى الترك، ثم قال:"عفوا: كثروا أو كثرت أموالهم" وأراد تفسير قوله تعالى في الأعراف: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] فإما أن يكون أشار بذلك إلى أصل المادة أو إلى أن لفظ الحديث وهو "أعفوا اللحى" جاء بالمعنيين؛ فعلى الأول يكون بهمزة قطع وعلى الثاني بهمزة وصل، وقد حكى ذلك جماعة من الشرَّاح منهم ابن التِّين قال: وبهمزة قطع أكثر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: واللحى بكسر اللام وتضم جمع لحية بالكسر فقط: اسم لما ينبت على العارضين والذقن، انتهى.

وكتب الشيخ في "الكوكب"

(3)

: وأما إعفاء اللحية فالظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم أن الإعفاء مسنون بحيث يخرج من التشبه بالهنود والمجوس فحسب، انتهى.

وفي هامشه: قال الغزالي: اختلف السلف فيما زاد من اللحية فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقصّ ما تحت القبضة، كان ابن عمر يفعله ثم جماعة من التابعين، والأمر في هذا قريب لأن الطول المفرط قد يشوّه الخلقة، قال النووي: والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقًا ويتركها على حالها كيف كانت لحديث "أعفوا اللحى"، وأما حديث عمرو بن شعيب بسنده:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته" فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به، هكذا في "البذل"

(4)

. وفي "الدر المختار"

(5)

: لا بأس بأخذ أطراف

(1)

"فتح الباري"(10/ 351).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 688).

(3)

"الكوكب الدري"(3/ 402، 403).

(4)

"بذل المجهود"(12/ 225).

(5)

"ردّ المحتار"(9/ 583).

ص: 221

اللحية، والسُّنَّة فيها القبضة، قال ابن عابدين: كذا ذكره محمد في "كتاب الآثار" عن الإمام قال: وبه نأخذ، انتهى.

وفي موضع آخر من "الدر المختار"

(1)

: القدر المسنون هو القبضة، وصرّح في "النهاية" بوجوب قطع ما زاد على القبضة، ومقتضاه الإثم بتركه إلا أن يحمل الوجوب على الثبوت، قال ابن عابدين: قوله: وصرّح في "النهاية. . ." إلخ، ومثله في "المعراج"، وقد نقله عنها في "الفتح" وأقرَّه، قوله: إلا أن يحمل. . . إلخ، يؤيده أن ما استدل به صاحب "النهاية" لا يدل على الوجوب، ولذا حذف الزيلعي لفظ: يجب، وقال: وما زاد يقصّ، إلى آخر ما قال.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(2)

وفيه: وفي "الشرح الكبير"

(3)

لابن قدامة: يستحب إعفاء اللحية لما ذكرنا من الحديث، وهل يكره أخذ ما زاد على القبضة فيه وجهان: أحدهما يكره، والثاني لا يكره لما روى البخاري ذلك من فعل ابن عمر، انتهى إلى آخر ما ذكر في "الأوجز" من النقول.

ثم قال: وعلم مما سبق أنهم اختلفوا فيما طال من اللحية على أقوال: الأول: يتركها على حالها ولا يأخذ منها شيئًا، وهو مختار الشافعية ورجحه النووي، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة. والثاني: كذلك إلا في حج أو عمرة فيستحب أخذ شيء منها، قال الحافظ: هو المنصوص عن الشافعي. والثالث: يستحب أخذ ما فحش طولها جدًا بدون التحديد بالقبضة، وهو مختار الإمام مالك، ورجحه القاضي عياض. والرابع: يستحب أخذ ما زاد على القبضة وهو مختار الحنفية، انتهى.

(1)

"ردّ المحتار"(3/ 397).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 10).

(3)

"الشرح الكبير"(1/ 105).

ص: 222

(66 -‌

‌ باب ما يذكر في الشيب)

أي: هل يخضب أو يترك، قاله الحافظ

(1)

.

وقال العيني

(2)

: الشيب بياض الرأس عن الأصمعي وغيره، وقال الجوهري: الشيب والمشيب واحد، والأشيب المبيض الرأس، وقال في شرح الحديث: اختلف في خضابه صلى الله عليه وسلم، فمنعه الأكثرون منهم أنس، وأثبته بعضهم لحديث أم سلمة وابن عمر:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة"، وجمع بينهما بأن ذلك كان طيبًا فظنّه من رآه صبغًا، انتهى.

قال الحافظ

(3)

بعد ما بسط شيئًا من الكلام على هذا الاختلاف: وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضب، وذكر حديث ابن عمر:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة" وهو في الصحيح، ووافق مالك أنسًا في إنكار الخضاب وتأوّل ما ورد في ذلك، انتهى.

وقال الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد"

(4)

: فإن قيل: قد ثبت في "الصحيح" عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "لم يختضب النبي صلى الله عليه وسلم" قيل: قد أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال: قد شهد به غير أنس على النبي صلى الله عليه وسلم أنه خضب، وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد، فأحمد أثبت خضاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من المحدثين ومالك أنكره، انتهى.

قلت: هكذا حمل الشرَّاح هذه الترجمة على أن المراد به الخضاب وتركه، لكن فيه أن الترجمة الآتية صريح في حكم الخضاب، فحينئذٍ يلزم التكرار، فالأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن المقصود بالترجمة الآتية بيان حكم الخضاب على ما هو صريح مدلول الترجمة، وأما القصد من هذا الباب فليس إلى خصوص الخضاب بل إلى ما ورد من الروايات في الشيب من فضله والمنع عن نتفه ونحو ذلك، لكن لما لم تكن هذه الروايات على

(1)

"فتح الباري"(10/ 352).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 92، 93).

(3)

"فتح الباري"(6/ 572).

(4)

"زاد المعاد"(4/ 367).

ص: 223

شرط المصنف لم يذكرها في الباب، وذكر في الباب ما كان على شرطه كما هو دأبه في مثل ذلك، ولا يخفى ذلك على من أمعن النظر في تراجمه، وقد أوضح هذا المرام الإمام أبو داود في "سننه" فترجم بترجمتين متعاقبتين، فترجم أولًا "باب في نتف الشيب" ثم ترجم "باب في الخضاب"، وذكر في الثانية ما ذكره البخاري في "‌

‌باب الخضاب

" الباب الآتي، وأخرج في الترجمة الأولى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"

(1)

، ولفظ الترمذي

(2)

من حديث عمرو بن شعيب أيضًا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب، وقال: إنه نور المسلم"، انتهى.

قال صاحب "العون"

(3)

: فإن قلت: فإذا كان حال الشيب كذلك فلِمَ شرع ستره بالخضاب؟ قلنا: ذلك لمصلحة أخرى دينية وهو إرغام الأعداء وإظهار الجلادة لهم، قال ابن العربي: وإنما نهى عن النتف دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه، انتهى.

قوله: (وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة. . .) إلخ، قد اختلط كلام الشرَّاح في شرح هذا المقام.

وبسط الكلام عليه الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

وكذا في "هامشه".

(67 - باب الخضاب)

أي: تغيير لون شيب الرأس واللحية، قاله الحافظان

(5)

.

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 4202).

(2)

"سنن الترمذي"(رقم 2821).

(3)

"عون المعبود"(11/ 171).

(4)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 3).

(5)

"فتح الباري"(10/ 354)، "عمدة القاري"(15/ 95).

ص: 224

زاد العيني: قال الجوهري: الخضاب ما يختضب به، وقد خضبت الشيء أخضبه خضبًا واختضبت بالحناء ونحوه، وكفّ خضيب، انتهى.

وقال العلامة القسطلاني

(1)

في شرح قوله: "فخالفوهم" أي: اصبغوا شيب لُحَاكم بالصفرة أو الحمرة، وفي "السنن" وصححه الترمذي من حديث أبي ذر مرفوعًا:"إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم" وهو يحتمل أن يكون على التعاقب والجمع، والكتم بفتح الكاف والفوقية: يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، فالجمع بينهما يخرج الصبغ بين السواد والحمرة، وأما الصبغ بالأسود البحت فممنوع لما ورد في الحديث من الوعيد عليه، وأوّل من خضب به من العرب عبد المطلب، وأما مطلقًا ففرعون لعنه الله تعالى، انتهى.

وقال العيني

(2)

: اختلفوا فيما يصبغ به، فالجمهور على أن الخضاب بالحمرة والصفرة دون السواد لما روي فيه من الأخبار المشتملة على الوعيد، ثم ذكر تلك الروايات، وقال: وذكر ابن أبي العاصم بأسانيد: أن حسنًا وحسينًا رضي الله عنهما كانا يختضبان به، أي: بالسواد، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر بالخضاب بالسواد ويقول: هو تسكين للزوجة وأهيب للعدو، وعن ابن أبي مليكة أن عثمان كان يخضب به، وروى ابن وهب عن مالك قال: لم أسمع في صبغ الشعر بالسواد نهيًا معلومًا، وغيره أحبّ إليّ، وعن أحمد فيه روايتان، وعن الشافعية أيضًا روايتان، والمشهور أنه يكره، وقيل: يحرم، ويتأكد المنع لمن دلّس به، انتهى.

وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز"

(3)

وفيه: وفي "المحلى": يكره عند مالك صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم، وقال الحافظ: في السواد عن أحمد كالشافعية روايتان: المشهورة يكره، وقيل: يحرم، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 693).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 97).

(3)

"أوجز المسالك"(17/ 43، 44).

ص: 225

وقال النووي: يحرم خضابه بالسواد على الأصح، وقيل: يكره تنزيهًا، والمختار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا السواد" وهذا مذهبنا، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(1)

: يكره بالسواد، وقيل: لا، قال ابن عابدين: قوله: يكره، أي: لغير الحرب، قال في "الذخيرة": أما الخضاب بالسواد للغزو ليكون أهيب في عين العدو فهو محمود بالاتفاق، وإن ليزين نفسه للنساء فمكروه، وعليه عامة المشايخ وبعضهم جوَّزه بلا كراهة، انتهى.

وفي "المحلى": وكان يخضب بالسواد عثمان وسعد بن أبي وقاص، وعدّ جماعة من الصحابة والتابعين ممن كانوا يخضبون بالسواد، ثم قال: ومن كرهه تحريمًا احتج بما في مسلم عن جابر في قصة أبي قحافة من قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السواد"، إلى آخر ما بسط في "الأوجز".

قلت: وهذا الخلاف إنما هو في الخضاب بالسواد، وأما الخضاب مطلقًا فقال الحافظ

(2)

: وقد اختلف في الخضب وتركه، فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وترك الخضاب علي وأُبي بن كعب وأنس وجماعة إلى أن قال: ولكن الخضاب مطلقًا أولى؛ لأن فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد تركُ الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة، فالترك في حقه أولى، انتهى.

وفي "الأوجز"

(3)

: قال النووي: قال القاضي: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، ورووا حديثًا من النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغيِّر شيبه، وقال آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جماعة من الصحابة والتابعين، انتهى.

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 605).

(2)

"فتح الباري"(10/ 355).

(3)

"أوجز المسالك"(17/ 48).

ص: 226

وفي "الدر المختار"

(1)

: يستحب للرجل خضاب شعره ولحيته ولو في غير حرب في الأصح، انتهى.

وقال الحافظ في "الفتح"

(2)

: ونقل عن أحمد أنه يجب، وعنه: يجب ولو مرة، وعنه: لا أحبّ لأحد ترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب، لكن حكى الموفق

(3)

عنه الاستحباب فقط، فقال: ويستحب خضاب الشعر بغير سواد، قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به، انتهى.

وقال النووي: مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة، انتهى.

وقال الإمام مالك في "الموطأ": وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، وليس على الناس فيه ضيق، قال الزرقاني

(4)

: خلافًا لمن قال: الصبغ بغير السواد سُنَّة، انتهى.

(68 -‌

‌ باب الجعد)

هو صفة الشعر، يقال: شعر جعد بفتح الجيم وسكون المهملة وبكسرها، قاله الحافظ

(5)

.

وزاد العيني

(6)

: وهو خلاف البسط، انتهى.

والظاهر عند هذا العبد الضعيف في الغرض من الترجمة على ما يستفاد من مجموع أحاديث الباب أن شدة الجعودة ليست بمحمودة فينبغي إزالته بالامتشاط وغيره، وقليله محمود لا يزال.

(69 -‌

‌ باب التلبيد)

هو جمع الشعر في الرأس بما يلزق بعضه ببعض كالخطمي والصمغ

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 604).

(2)

"فتح الباري"(10/ 355).

(3)

"المغني"(1/ 125).

(4)

"شرح الزرقاني"(4/ 339).

(5)

"فتح الباري"(10/ 357).

(6)

"عمدة القاري"(15/ 97).

ص: 227

لئلا يتشعث ويقمل في الإحرام، وقد تقدم بسطه في الحج

(1)

.

قلت: ولما كان التلبيد مما يصنع عادةً وقت الإحرام، ولذا فسّروه بأنه جعل المحرم في رأسه شيئًا من الصمغ كما تقدم، وَجَّه العيني

(2)

ذكره ههنا فقال: وجه إيراد هذا الباب ههنا من حيث إن الأبواب الستة التي قبل هذا الباب كلها في أحوال الشعر، وتلبيد الشعر أيضًا من جملتها، انتهى.

قوله: (من ضفّر فليحلق ولا تشبهوا بالتلبيد) قال الحافظ

(3)

: حكى ابن بطال أنه بفتح أوله، والأصل: لا تتشبهوا فحذفت إحدى التائين، قال: ويجوز ضم أوله وكسر الموحدة والأول أظهر. ثم ذكر الحافظ في معنى الحديث احتمالين فارجع إليه لو شئت.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: قوله: "من ضفّر فليحلق. . ." إلخ، الظاهر أن الأمر للاستحباب، ومعنى العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبّد رأسه وحلق فكان الأدب للملبّد الحلق، وكذلك هو أدب لمن تشبّه بالملبّد بالتضفير، ثم حثّ على اختيار الأعلى بترك الأدنى فقال:"لا تشبهوا بالتلبيد" بأن تضفروا بل حصِّلوا عينَ التلبيد، ثم أورد ابن عمر تأييدًا لقول أبيه:"إني رأيته صلى الله عليه وسلم ملبدًا"، وقيل في معنى العبارة: إن مفاد كلام عمر النهي عن التلبيد وما يشبهه وهو التضفير، غير أنه لم يذكرهما جميعًا للعلم بحال الأصل بذكر الشبه، فإذا كان التشبه بالتلبيد ممنوعًا كان عين التلبيد أولى بالمنع، والنهي مع ذلك تنزيه وأدب، وعلى هذا فكلام ابنه مسوق للردّ عليه حيث أثبت سُنِّية التلبيد فيكون التضفير ندبًا أيضًا لشبهه به لا منهيًا عنه، وما ذكرناه في معنى العبارة أولى، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه أوضح وأجود مما في الشروح، وذكر حاصله وحاصل كلام الشرَّاح في هامش "اللامع"، وأما قوله: "من لبّد

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 360).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 102)

(3)

"فتح الباري"(10/ 361).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 6 - 8).

ص: 228

فليحلق" فمسألة خلافية تقدمت في "باب من لبّد رأسه عند الإحرام فليحلق" من "كتاب الحج"، وكذا تقدم في "باب من أهلّ ملبِّدًا" أقوال الأئمة في حكم التلبيد عند الإحرام، وأما حكم التلبيد في غير الإحرام فلم أر من تعرض لذكر الخلاف فيه.

(70 -‌

‌ باب الفرق)

بفتح الفاء وسكون الراء، أي: فرق شعر الرأس، وهو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس، يقال: فرق شعره فرقًا بالسكون، وأصله من الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دارة وسط الرأس، قاله الحافظ

(1)

.

ثم قال في شرح الحديث: قوله: "ثم فرق بعد" في رواية معمر "ثم أمر بالفرق ففرق، وكان الفرق آخر الأمرين"، ومما يشبه الفرق والسدل صبغ الشعر وتركه كما تقدم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، إلى آخر ما ذكر.

قال عياض: الفرق سُنَّة؛ لأنه الذي استقر عليه الحال، والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: وروي أن الصحابة رضي الله عنهم كان منهم من يفرق ومنهم من كان يسدل، ولم يعب بعضهم على بعض، وصحّ أنه صلى الله عليه وسلم كانت له لمة، فإن انفرقت فرقها وإلا تركها، قال النووي: الصحيح جواز الفرق والسدل، انتهى.

(71 -‌

‌ باب الذوائب)

جمع ذؤابة، والأصل ذئائب فأبدلت الهمزة واوًا، والذؤابة ما يتدلى من شعر الرأس، والغرض من حديث الباب ههنا قوله:"فأخذ بذؤابتي" فإن

(1)

"فتح الباري"(10/ 361، 362).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 702).

ص: 229

فيه تقريره صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الذؤابة، وفيه دفع لرواية من فسر القزع بالذؤابة كما سأذكره في الباب الذي يليه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وسيأتي في الباب الآتي من كلام الحافظ: أن من الذوائب بعضها من المأذون اتخاذها وبعضها ممنوع.

وفي "الفيض"

(2)

: الذوائب: الشعر الذي سوّاه بالمشط، والضفائر جمع ضفيرة وهي الشعر المنسوجة عرضًا، وفي "العالمكَيرية": أنها مكروهة.

قلت: يجب تأويله بما إذا كانت كذوائب المتصوفة اليوم، وإلا فهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا كما عند الترمذي، وقال أيضًا: يكره للرجل أن يجعل أشعاره ضفائر، فإن قسمها بدون ضفر جاز كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، انتهى.

(72 -‌

‌ باب القزع)

بفتح القاف والزاي ثم المهملة جمع قزعة، وهي القطعة من السحاب، وسمي شعر الرأس إذا حلق بعضه وترك بعضه قزعًا تشبيهًا بالسحاب المتفرق.

قال النووي: الأصح أن القزع ما فسّره به نافع، وهو حلق بعض رأس الصبي مطلقًا، ومنهم من قال: هو حلق مواضع متفرقة منه، والصحيح الأول؛ لأنه تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به.

قلت: إلا أن تخصيصه بالصبي ليس قيدًا، قال النووي: أجمعوا على كراهيته إذا كان في مواضع متفرقة إلا للمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه، ولا فرق بين الرجل والمرأة، إلى أن قال الحافظ: وأما ما أخرجه أبو داود عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع، وهو أن يحلق رأس الصبي

(1)

"فتح الباري"(10/ 363).

(2)

"فيض الباري"(6/ 103، 104).

ص: 230

ويتخذ له ذؤابة"، فما أعرف الذي فسّر القزع بذلك، فقد أخرج أبو داود عقب هذا من حديث أنس: "كانت لي ذؤابة فقالت أمي: لا أجزها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدّها ويأخذ بها"، ويمكن الجمع بأن الذؤابة الجائز اتخاذها ما يفرد من الشعر فيرسل ويجمع ما عداها بالضفر وغيره، والتي تمنع أن يحلق الرأس كله ويترك ما في وسطه فيتخذ ذؤابة، وقد صرّح الخطابي بأن هذا مما يدخل في معنى القزع، والله أعلم، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(73 -‌

‌ باب تطييب المرأة زوجها بيديها)

قال الحافظ

(2)

: كأن فقه هذه الترجمة من جهة الإشارة إلى الحديث الوارد في الفرق بين طيب الرجل والمرأة، وأن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه، والمرأة بالعكس، فلو كان ثابتًا لامتنعت المرأة من تطييب زوجها بطيبه لما يعلق بيديها وبدنها منه حالة تطييبها له، وكان يكفيه أن يطيب نفسه، فاستدل المصنف بحديث عائشة المطابق للترجمة، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من حديث عمران بن حصين، وإذا كان الخبر ثابتًا فالجمع بينه وبين حديث الباب أن لها مندوحة أن تغسل أثره إذا أرادت الخروج لأن منعها خاصّ بحالة الخروج، انتهى.

(74 -‌

‌ باب الطيب في الرأس واللحية)

أي: هذا باب في بيان مشروعية الطيب الذي يستعمل في الرأس واللحية، انتهى من "العيني"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 364، 365).

(2)

"فتح الباري"(10/ 366).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 108).

ص: 231

(75 -‌

‌ باب الامتشاط)

هو افتعال من المشط بفتح الميم، وهو تسريح الشعر بالمشط

(1)

، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

تبعًا للعيني: أي: باب استحباب الامتشاط، انتهى.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فقال القسطلاني

(3)

: قوله: "يحكّ رأسه بالمدرى" بكسر الميم وفتح الراء بينهما دال مهملة ساكنة، مقصور: عود تدخله المرأة في رأسها لتضم بعض شعرها إلى بعض أو هو المشط، إلى آخر ما ذكر من الأقوال، فعلى القول الأول تكون المطابقة بطريق المقايسة، واختاره الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" كما سيأتي، وعلى القول الثاني فالمطابقة ظاهرة واختاره العيني

(4)

إذ قال: مطابقة الحديث بالترجمة ظاهر من حيث إن المدرى هو المشط عند البعض، وقال ابن بطال: المدرى بالكسر عند العرب المشط، قال امرؤ القيس:

يظلل المداري في مثنى ومرسل

ذكر أبو حاتم عن الأصمعي وأبي عبيد قال: المداري: الأمشاط، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: إثبات الترجمة بالرواية الموردة فيه مقايسة، فإن المدرى كالمشط غير أن أسنان المشط وافرة متقاربة، انتهى.

وذكر في هامشه ما يؤيد كلام الشيخ رحمه الله.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 367).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 707)، "عمدة القاري"(15/ 109).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 707).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 109، 110).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 14).

ص: 232

(76 -‌

‌ باب ترجيل الحائض زوجها)

أي: تسريحها شعره، ذكر فيها حديث عائشة، وسبق في "باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله" من "كتاب الحيض".

(77 -‌

‌ باب الترجل)

اختلفت النسخ ههنا في لفظ الترجمة، ففي نسخة "الفتح":"باب الترجيل والتيمن فيه"، وفي نسخة "العيني":"باب الترجيل والتيمن" بحذف لفظ: "فيه"، وفي نسخة "القسطلاني":"باب الترجيل".

قال العلامة العيني

(1)

: أي: بيان استحبابه، وهو تسريح شعر اللحية والرأس ودهنه، واستحباب التيمن في كل شيء، وفي بعض النسخ:"باب الترجل"، وفي التفعل من المبالغة ما ليس في التفعيل، والترجل لنفسه والترجيل لغيره، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: والتيمن في الترجل أن يبدأ بالجانب الأيمن وأن يفعله باليمنى، قال ابن بطال ما شرح الترجيل بما تقدم من كلام العيني وهو من النظافة، وقد ندب الشرع إليها قال الله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وأما حديث النهي عن الترجل إلا غبًّا فالمراد به ترك المبالغة في الترفه، انتهى.

(78 -‌

‌ باب ما يذكر في المسك)

قد تقدم التعريف بالمسك في "كتاب الذبائح" حيث ترجم له "باب المسك"، قاله الحافظ

(3)

.

ووجه إيراد هذا الباب ههنا من جهة أن استعمال المسك وهو من أطيب الطيب نوع من الزينة.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 110).

(2)

"فتح الباري"(10/ 368).

(3)

"فتح الباري"(10/ 369).

ص: 233

(79 -‌

‌ باب ما يستحب من الطيب)

قال العلامة العيني

(1)

: أي: في بيان ما يستحب استعمال أطيب ما يوجد من الطيب، ولا يستعمل الأدنى مع وجود الأعلى إلا عند الضرورة، انتهى.

وزاد الحافظ

(2)

: ويحتمل أن يشير إلى التفرقة بين الرجال والنساء في التطيب كما تقدمت الإشارة إليه قريبًا، ثم قال: والغرض من حديث الباب هنا أن المراد بأطيب

(3)

الطيب المسك، وقد ورد ذلك صريحًا أخرجه مالك من حديث أبي سعيد رفعه قال:"المسك أطيب الطيب" وهو عند مسلم أيضًا، انتهى.

(80 -‌

‌ باب من لم يردّ الطيب)

كأنه أشار إلى أن النهي عن ردّه ليس على التحريم، وقد ورد ذلك في بعض طرق حديث الباب وغيره، كذا في "الفتح"

(4)

. وهكذا أفاد العيني، وسكت عن بيان الغرض القسطلاني.

قلت: ووجه الإشارة إلى ما قاله الحافظان أن التبويب بلفظ: "من" يشعر إلى التخفيف والتوسع في ذلك، بخلاف ما لو ترجم بلفظ "باب لا يردّ الطيب" كما لا يخفى.

(81 -‌

‌ باب الذريرة)

بمعجمة ورائين بوزن عظيمة، وهي نوع من الطيب مركب، قال الداودي: تجمع مفرداته ثم تسحق وتنخل ثم تذرّ في الشعر والطوق فلذلك سميت ذريرة، وعلى هذا أكل طيب مركب ذريرة، لكن الذريرة نوع

(1)

"عمدة القاري"(15/ 112).

(2)

"فتح الباري"(10/ 370).

(3)

كذا في الأصل، والمذكور في حديث الباب بلفظ:"أطيب ما أجد" والمراد واحد، (ز).

(4)

"فتح الباري"(10/ 371)، "عمدة القاري"(15/ 112).

ص: 234

من الطيب مخصوص، يعرفه أهل الحجاز وغيرهم، وجزم غير واحد، منهم النووي بأنه فتات قصب طيب يجاء به من الهند

(1)

، انتهى.

(82 -‌

‌ باب المتفلجات للحسن)

أي: في بيان ذمّ النساء المتفلِّجات لأجل الحسن، والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تطلب الفلج أو تصنعه، والفلج: انفراج ما بين الثنيتين، والتفلج: أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات، ويستحسن من المرأة، فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة لتصير متفلجة، وقد تفعله الكبيرة توهم أنها صغيرة؛ لأن الصغيرة غالبًا تكون مفلجة جديدة السنّ ويذهب ذلك في الكبر، وتحديد الأسنان يسمى الوشر بالراء، وقد ثبت النهي عنه أيضًا في بعض طرق حديث ابن مسعود من حديث غيره في "السنن" وغيرها

(2)

، انتهى.

فورد النهي عن ذلك لما فيه من تغيير الخلقة الأصلية، انتهى من "الفتح"

(3)

بزيادة من "العيني".

(83 -‌

‌ باب الوصل في الشعر)

كذا في النسخة "الهندية" و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة "الفتح":"باب وصل الشعر".

قال العلامة العيني

(4)

: أي: في بيان ذمّ وصل الشعر، يعني: الزيادة فيه بشعر آخر، انتهى.

وقال الحافظ

(5)

في شرح الترجمة: أي: الزيادة فيه من غيره، ثم قال

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 371).

(2)

"فتح الباري"(10/ 372)، "عمدة القاري"(15/ 113).

(3)

"فتح الباري"(10/ 372).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 114).

(5)

"فتح الباري"(10/ 374، 375).

ص: 235

تحت حديث الباب: وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرًا أم لا، يؤيده حديث جابر:"زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئًا" أخرجه مسلم، انتهى.

وتعقبه العلامة العيني

(1)

إذ قال: هذا الذي قاله غير مستقيم؛ لأن الحديث الذي أشار به إليه الذي هو حديث معاوية لا يدلّ على المنع مطلقًا لأنه مقيد بوصل الشعر بالشعر، فكيف يجعله حجة للجمهور، فانظر إلى هذا التصرف العجيب، انتهى.

قلت: وهذا الإيراد من العلامة العيني ليس بصحيح، فإن حديث الباب حديث معاوية مروي بعدة طرق بألفاظ مختلفة بزيادة ونقصان، أخرجه بهذه الطرق الإمام مسلم في "صحيحه"، أشار إلى بعضها الحافظ أيضًا، وفي طريق من تلك الطرق:"وجاء رجل بعصىً على رأسها خرقة، قال معاوية: ألا وهذا الزور، قال قتادة: يعني ما تكثِّر به النساءُ أشعارَهن من الخرق" فمجموع طرق الحديث يدل لا محالة على ما قاله الحافظ، ثم المسألة خلافية شهيرة بسط الكلام عليها في "الأوجز"

(2)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

في "كتاب النكاح": قوله: "أنه قد لعن الموصلات" لا يقال: لو كان النهي مقيدًا بما إذا كان الوصل بشعر الإنسان لما أورده النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا؛ لأنا نقول: النهي عنه بصورة الإطلاق سدّ للباب، ويمكن أن يكون السؤال عن شعر الإنسان فقط، فلذلك أطلق الجواب، انتهى.

وفي هامشه: وهذا مبني على مذهب الحنفية والجمهور من أن المراد النهي عن وصل الشعر بالشعر، وبه جزم الإمام أبو داود في "سننه" إذ قال: قال أبو داود: تفسير الواصلة التي تصل الشعر بشعر النساء، وبه جزم الإمام

(1)

"عمدة القاري"(15/ 115).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 18 - 22).

(3)

"لامع الدراري"(9/ 329).

ص: 236

محمد في "موطئه" إذ ترجم على حديث معاوية "باب المرأة تصل شعرها بشعر غيرها"، ثم قال بعد ذكر حديث معاوية: وبهذا نأخذ ولا بأس بالوصل في الرأس إذا كان صوفًا، فأما الشعر من شعور الناس فلا ينبغي، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، انتهى.

وبهذا قال الإمام أحمد كما في "سنن أبي داود": كان أحمد يقول: القرامل ليس به بأس، انتهى.

قال الحافظ: القرامل جمع قرمل بفتح القاف وسكون الراء: نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها، انتهى.

قلت: وبما ذكره الإمام محمد من مذهب الحنفية جزم صاحب "الدر المختار"

(1)

إذ قال: ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام سواء كان شعرها أو شعر غيرها، انتهى.

قال ابن عابدين: لكن في "التتارخانية": إذا وصلت المرأة شعر غيرها بشعرها فهو مكروه، وإنما الرخصة في غير شعر بني آدم، إلى آخر ما ذكر.

وذكر العلامة النووي في "شرح مسلم"

(2)

تفصيلًا عند الشافعية في هذه المسألة، وحاصله: أن الوصل بشعر الآدميّ حرام مطلقًا، وإن كان بشعر غير الآدمي فإن كان شعرًا نجسًا كشعر الميتة فهو حرام أيضًا، وإن كان بشعر طاهر فإن لم يكن لها زوج أو سيد فهو أيضًا حرام، وإن كان لها زوج أو سيد فثلاثة أوجه: أحدها الجواز، والثاني الحرمة، والأصح عندهم إن فعلته بإذن السيد أو الزوج هو جائز وإلا فحرام.

ثم قال النووي: وقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة، فقال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء سواء

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 535).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(7/ 359، 360).

ص: 237

وصلته بشعر أو صوف أو خرق، واحتجوا بحديث جابر، وقال بعضهم: يجوز جميع ذلك وهو مروي عن عائشة، ولا يصح عنها بل الصحيح عنها كقول الجمهور، انتهى.

(84 -‌

‌ باب المتنمصات)

جمع متنمصة، وحكى ابن الجوزي متمنصة بتقديم الميم على النون، وهو مقلوب، والمتنمصة: التي تطلب النماص، والنامصة: التي تفعله، والنماص: إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش منماصًا لذلك، ويقال: إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما، قال أبو داود في "السنن": النامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه. قال الطبري: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله تعالى عليها بزيادة أو نقص التماسَ الحسن لا للزوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه، ومن تكون لها سن زائد فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف، وكل ذلك داخل في النهي.

وقال النووي: يستثنى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فلا يحرم عليها إزالتها بل يستحب، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

قال ابن عابدين

(2)

: وفي "تبيين المحارم": إزالة الشعر من الوجه حرام، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالته بل تستحب، انتهى.

(85 -‌

‌ باب الموصولة)

أي: ذمّ المرأة الموصولة، قاله العيني

(3)

والقسطلاني.

(1)

"فتح الباري"(10/ 377).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 536).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 199)، "إرشاد الساري"(12/ 718).

ص: 238

قوله: (يعني لعن النبي صلى الله عليه وسلم)، في "تراجم شيخ المشايخ"

(1)

: قال في "فتح الباري"

(2)

: لم يتجه لي هذا التفسير إلا إن كان المراد لعن الله تعالى على لسان نبيه.

قلت: توجيه هذا التفسير - والله أعلم - أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمة" إلى آخره يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون خبرًا عن الله تعالى أنه لعن كذا وكذا، وثانيهما: أنه دعاء منه صلى الله عليه وسلم على من فعل ذلك، فالتفسير نفس المعنى الأخير، انتهى.

قلت: وسياق النسخ المصرية سوى نسخة الحافظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: الواشمة والموتشمة والواصلة والمستوصلة، يعني: لعن النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا السياق واضح لا يرد عليه ما أورده الحافظ ومعناه ظاهر، وذلك أن الراوي لم يتذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بلفظ "يعني" كما هو مطرد في مثل تلك المواضع، ويتمشى ما قال الحافظ في النسخة التي فيها لفظ "لعن الله" في صدر الحديث.

(86 -‌

‌ باب الواشمة)

أي: ذمّ المرأة التي تشم، والوشم: أن يغرز في العضو نحو إبرة فإذا سال الدم حشاه بنحو نورة فيخضر، وقد يكون في اليد وغيرها، وقد يفعل نقشًا، وقد يجعل دوائر، وقد يكتب اسم المحبوب، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

(87 -‌

‌ باب المستوشمة)

أي: ذمّ المرأة الطالبة للوشم المفعول بها، قاله القسطلاني

(4)

(1)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 415).

(2)

"فتح الباري"(10/ 379).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 7).

(4)

"إرشاد الساري"(12/ 722 - 724).

ص: 239

ثم قال في شرح الحديث: وسبب لعن المذكورات أن فعلهن تغيير لخلق الله وتزوير وتدليس وخداع، ولو رخّص فيه لاتخذه الناس وسيلة إلى أنواع الفساد، ولعله قد يدخل في معناه صنعة الكيمياء، فإن من تعاطاها إنما يروم أن يلحق الصنعة بالخلقة، وكذلك كل مصنوع يشبه بمطبوع وهو باب عظيم من الفساد حكاه في "الكواكب"، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: ومما ينبغي أن يتدبر أن الإمام البخاري لم يترجم للواصلة كما ترجم للواشمة والمستوشمة، وأيضًا أدخل الباب الأجنبي "باب المتنمصات" بين الوصل والموصولة، ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح، وللتوجيه مساغ، انتهى.

ويمكن أن يجاب عن الإيراد الأول أنه ترجم لما يتعلق بالوصل ترجمتين: إحداهما بلفظ الموصولة، والثانية في حق الواصلة، وهو الترجمة الأولى، وإنما عبرها بلفظ الوصل دون الواصلة اعتبارًا لمادة الكلمة للتنفن، وأما الجواب عن إدخال الباب الأجنبي أن النمص خلاف الوصل وضده فذكره بجنبها لتناسب الضدين.

(88 -‌

‌ باب التصاوير)

جمع تصوير بمعنى الصورة، والمراد بيان حكمها من جهة مباشرة صنعتها، ثم من جهة استعمالها واتخاذها، قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن على ما سيأتي تقريره في "باب ما وطئ من التصاوير" بعد بابين، وأغرب ابن حبان فادّعى أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو نظير الحديث الآخر: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس" قال: فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 14).

ص: 240

ثم قال الحافظ: وقد استشكل كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]؟ والجواب: أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، ويحتمل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح

(1)

، انتهى.

(89 -‌

‌ باب عذاب المصوّرين يوم القيامة)

أي: الذين يصنعون الصور، وقد استشكل كون المصوِّر أشدّ الناس عذابًا مع قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، فإنه يقتضي أن يكون المصوّر أشدّ عذابًا من آل فرعون، ثم بسط الحافظ في الجواب عنه فارجع إليه لو شئت

(2)

.

(90 -‌

‌ باب نقض الصور)

بضم المهملة وفتح الواو جمع صورة، وحكي سكون الواو في الجمع أيضًا، كذا في "الفتح"

(3)

.

وقال العيني

(4)

تحت الحديث الأول: مطابقته للترجمة ظاهرة.

وقوله: (فيه تصاليب) قال الكرماني: أي: التصاوير كالصليب، يقال: ثوب مصلب، أي: عليه نقش كالصليب الذي للنصارى، وقال بعضهم: التصاليب جمع صليب، كأنهم سموا ما كانت فيه صورة الصليب تصليبًا تسمية بالمصدر، قلت: على ما ذكره يكون التصاليب جمع تصليب لا جمع صليب، انتهى.

(91 -‌

‌ باب ما وطئ من التصاوير)

أي: هل يرخص فيه؟ ووطئ بضم الواو مبني للمجهول، أي: صار يداس عليه ويمتهن، قاله الحافظ

(5)

.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 380 - 382).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 383).

(3)

"فتح الباري"(10/ 385).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 125).

(5)

"فتح الباري"(10/ 387).

ص: 241

وفي "الفيض"

(1)

تحت ترجمة الباب: وحاصله كون التصاوير ممتهنة، واعلم أن فعل التصوير حرام مطلقًا، أي: تصوير الحيوان، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مجسمة أو مسطحة، ممتهنة أو موقرة، وإنما الكلام في نفس التصوير، أي: الصورة فيعلم من "الكبيري شرح المنية" أن الصغيرة هي التي لا تبدو للناظر أعضاؤها وإلا فهي كبيرة، انتهى.

قوله: (فيه تماثيل. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظلّ لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد. قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له، فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعدّ ممتهنًا فهو حرام.

قلت: وفيما نقله مؤاخذات، ثم بسطها فارجع إليه لو شئت.

قوله: (فجعلناه وسادتين. . .) إلخ، قال صاحب "فيض الباري"

(3)

: ولم تتنقح المسألة من هذا اللفظ أيضًا؛ لأن صدر الحديث يدلّ على أن الإِباحة لأجل الهتك، وآخره يدلّ على أن الإباحة لكونها ممتهنة؛ لأنه لا دليل في جعلها وسادتين على انشقاق تلك التصاوير أيضًا، انتهى.

(92 -‌

‌ باب من كره القعود على الصور)

أي: ولو كانت مما توطأ، قاله الحافظ

(4)

.

وقال تحت حديث الباب: وظاهر حديثي عائشة هذا والذي قبله التعارض؛ لأن الذي قبله يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الستر الذي فيه الصورة

(1)

"فيض الباري"(6/ 111).

(2)

"فتح الباري"(10/ 388).

(3)

"فيض الباري"(6/ 112).

(4)

"فتح الباري"(10/ 389، 390).

ص: 242

بعد أن قطع وعملت منه الوسادة، وهذا يدل على أنه لم يستعمله أصلًا، وقد أشار المصنف إلى الجمع بينهما؛ لأنه لا يلزم من جواز اتخاذ ما يوطأ من الصور جواز القعود على الصورة، فيجوز أن يكون استعمل من الوسادة ما لا صورة فيه، ويجوز أن يكون رأى التفرقة بين القعود والاتكاء، وهو بعيد، ويحتمل أيضًا أن يجمع بين الحديثين بأنها لما قطعت الستر وقع القطع في وسط الصورة مثلًا فخرجت عن هيئتها، فلهذا صار يرتفق بها، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: قال العيني: لا تعارض بين الحديثين أصلًا لأن حديث الباب وحديث مسلم المذكور فيه "فجعلته مرفقتين فكان يرتفق بهما في البيت" حديث واحد، لكن البخاري لم يذكر هذه الزيادة، والله أعلم، انتهى.

كذا حكى القسطلاني عن العيني ولم يتعقبه بشيء، لكن التعارض بين الحديثين ظاهر كما لا يخفى، وقد أشار البخاري إلى الجمع بينهما بهاتين الترجمتين كما تقدم، وما أشار إليه العلامة العيني من الزيادة في رواية مسلم فلا يدفع التعارض، فإن الوارد فيها لفظ "مرفقتين" وفرق بين المرفقة والنمرقة، وإلا وقع التعارض بين أول الحديث وآخره.

وقال العلامة السندي

(2)

: وقد أجيب بأن الواقعة متحدة، ولا يخفى أنه يقوي التعارض، ويوجب أن إحدى الروايتين باطلة، وأطال العلامة السندي الكلام في بيان الجواب عنه.

وذكر في هامش "اللامع"

(3)

أيضًا فارجع إليه لو اشتقت.

وبسط صاحب "الفيض"

(4)

الكلام على هاتين الترجمتين أيضًا في

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 731)، "عمدة القاري"(12/ 129).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 45).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 15، 16).

(4)

"فيض الباري"(6/ 112 - 113).

ص: 243

الفرق بينهما وبيان الغرض منهما، فذكر عدة وجوه محتملة، فارجع إليه لو شئت التفصيل.

(93 -‌

‌ باب كراهية الصلاة في التصاوير)

أي: في الثياب المصورة، ووجه انتزاع الترجمة من الحديث أن الصور إذا كانت تلهي المصلي وهي مقابله، فكذا تلهيه وهو لابسها بل حالة اللبس أشدّ، ويحتمل أن تكون "في" بمعنى "إلى"، فتحصل المطابقة وهو اللائق بمراده، فإن في المسألة خلافًا، فنقل عن الحنفية أنه لا تكره الصلاة إلى جهة فيها صورة إذا كانت صغيرة أو مقطوعة الرأس، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الدر المختار"

(2)

في ذكر مكروهات الصلاة: ولبس ثوب فيه تماثيل ذي روح، وأن يكون فوق رأسه أو بين يديه، أو بحذائه يمنة أو يسرة أو محل سجوده تمثال، ولو في وسادة منصوبة لا مفروشة، واختلف فيما إذا كان التمثال خلفه، والأظهر الكراهة، ولا يكره لو كانت تحت قدميه أو محل جلوسه لأنها مهانة، انتهى.

(94 -‌

‌ باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة)

تقدم البحث في المراد بالصورة في "باب التصاوير".

قال القرطبي في "المفهم"

(3)

: إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة؛ لأن متخذها قد تشبه بالكفار؛ لأنهم يتخذون الصور في بيوتهم ويعظمونها، فكرهت الملائكة ذلك فلم تدخل بيته هجرًا له لذلك، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 391).

(2)

"ردّ المحتار"(2/ 416، 417).

(3)

"المفهم"(5/ 421، 422).

(4)

"فتح الباري"(10/ 391، 392).

ص: 244

(95 -‌

‌ باب من لم يدخل بيتًا فيه صورة)

قال الرافعي: وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان: قال الأكثر: يكره، وقال أبو محمد: يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار كما في ظاهر الحمام أو دهليزها لا يمتنع الدخول، قال: وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي المجلس مكرمة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الأوجز"

(2)

: قال الموفق

(3)

: أما دخول منزل فيه صورة فليس بمحرم، وإنما أبيح ترك الدعوة لأجله عقوبةً للداعي بإسقاط حرمته لإيجاده المنكر في داره، ولا يجب على من رآه في منزل الداعي الخروجُ في ظاهر كلام أحمد، وهذا مذهب مالك، فإنه كان يكرهها تنزهًا ولا رآها محرمة، وقال أكثر أصحاب الشافعي: إذا كانت الصور على الستور أو ما ليس بموطوءة لم يجز له الدخول؛ لأن الملائكة لا تدخله، ولأنه لو لم يكن محرمًا لما جاز ترك الدعوة الواجبة عن أجله، ولنا ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان" الحديث، رواه أبو داود، وكون الملائكة لا تدخله لا يوجب تحريم دخوله علينا، انتهى مختصرًا.

وقال الزيلعي على "الكنز"

(4)

: ومن دعي إلى وليمة وكان هناك لعب وغناء قبل أن يحضرها فلا يحضرها؛ لأنه لا يلزمه إجابة الدعوة إذا كان هناك منكر، وقال علي رضي الله عنه: صنعت طعامًا فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 393).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 249).

(3)

"المغني"(10/ 202).

(4)

"تبيين الحقائق"(6/ 13).

ص: 245

(96 -‌

‌‌

‌ باب

من لعن المصوّر)

أي: فهو جائز كما في حديث الباب.

(97 - باب)

بغير ترجمة، هكذا في النسخة "الهندية" بغير ترجمة، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"باب من صوّر صورة كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ".

قال الحافظ

(1)

: كذا ترجم بلفظ الحديث، ووقع عند النسفي "باب" بغير ترجمة، وثبتت الترجمة عند الأكثر، وسقط الباب والترجمة من رواية الإسماعيلي، وعلى ذلك جرى ابن بطال. ونقل عن المهلب توجيه إدخال حديث الباب في الباب الذي قبله فقال: اللعن في اللغة: الإبعاد من رحمة الله تعالى، ومن كلّف أن ينفخ الروح وليس بنافخ فقد أبعد من الرحمة، انتهى.

قلت: وهذا التوجيه الذي حكاه الحافظ مبنيّ على النسخة التي سقط فيها الباب والترجمة كلاهما، وأما على النسخة التي بأيدينا فالأوجه عندي أن يقال: إن هذا الباب كالفصل لما قبله، وأشار المصنف بذلك الباب إلى نوع آخر من الوعيد غير اللعنة.

وقال الحافظ بعد حديث الباب: وقد استشكل هذا الوعيد في حق المسلم، فإن وعيد القاتل عمدًا ينقطع عند أهل السُّنَّة مع ورود تخليده بحمل التخليد على مدة مديدة، وهذا الوعيد أشدّ منه؛ لأنه مغيًا بما لا يمكن وهو نفخ الروح، فلا يصح أن يحمل على أن المراد أنه يعذّب زمانًا طويلًا ثم يتخلص، والجواب أنه يتعين تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر ليكون أبلغ في الارتداع، وظاهره غير مراد،

(1)

"فتح الباري"(10/ 393، 394).

ص: 246

وهذا في حق العاصي بذلك، وأما من فعله مستحلًا فلا إشكال فيه، انتهى.

(98 -‌

‌ باب الارتداف على الدابَّة)

أي: إركاب راكب الدابة خلفه غيره، وقد كنت استشكلت إدخال هذه التراجم في "كتاب اللباس"، ثم ظهر لي أن وجهه أن الذي يرتدف لا يأمن من السقوط فينكشف، فأشار إلى أن احتمال السقوط لا يمنع من الارتداف إذ الأصل عدمه فيتحفظ المرتدف إذا ارتدف من السقوط، وإذا سقط فليبادر إلى الستر، وتلقيت فهمَ ذلك من حديث أنس في قصة صفية الآتي في "باب إِرداف المرأة خلف الرجل".

وقال الكرماني: الغرض الجلوس على لباس الدابة وإن تعدد أشخاص الراكبين عليها، والتصريح بلفظ القطيفة في الحديث السابق مشعر بذلك

(1)

، انتهى.

وتعقب العلامة العيني على كلام الحافظ حسب عادته فارجع إليه لو شئت

(2)

.

وقال القسطلاني

(3)

: ولم يظهر لي وجه دخول هذا الباب وما بعده بـ "كتاب اللباس"، لكن قال في "الكواكب"، فذكر ما تقدم عن الكرماني في كلام الحافظ، ثم قال: كذا قال، فليتأمل، انتهى.

قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه قد تقدم أن المصنف رحمه الله ذكر عدة أبواب في "كتاب اللباس" مما يتعلق بالزينة كما تقدم في مبدأ هذا الكتاب، ولما كانت هذه الأبواب على الظاهر مما يخالف الزينة فذكرها بعد ذكر أبواب الزينة استطرادًا، فإن الضد أقرب خطورًا بالبال مع ضده، والله أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 395).

(2)

انظر: "عمدة القاري"(15/ 133).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 737، 738).

ص: 247

(99 -‌

‌‌

‌ باب

الثلاثة على الدابة)

هذه الترجمة جزء من أجزاء الترجمة التي سبقت في "كتاب الحج"، وهو "باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة"، وتقدم هناك استطرادًا، وههنا ذكره المصنف قصدًا واستقلالًا، وأراد بذلك إثبات جواز ركوب الثلاثة على الدابة خلافًا لما ورد من النهي عن ذلك عند الطبراني والطبري، كما تقدمت الإشارة إلى بعض تلك الروايات في "كتاب الحج" في الباب المذكور.

قال العلامة القسطلاني

(1)

: وأما الأحاديث المذكور فيها النهي عن ذلك فتكلم في سندها، ولئن سلمنا الاحتجاج بها فيجمع بأن ما ورد فيه النهي محمول على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة.

قال النووي: مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز ركوب ثلاثة على الدابة إذا كانت مطيقة، وقال الدميري: أفاد الحافظ ابن منده أن الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون نفسًا، ولم يذكر منهم عقبة بن عامر الجهني، ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه، انتهى.

(100 -‌

‌ باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه)

وقال بعضهم هو عامر الشعبي فيما أخرجه ابن أبي شيبة عنه، قاله القسطلاني

(2)

.

(101 - باب)

بغير ترجمة، هكذا في النسخة "الهندية" بغير ترجمة، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"باب إرداف الرجل خلف الرجل".

(1)

"إرشاد الساري"(12/ 738).

(2)

"إرشاد الساري"(12/ 739).

ص: 248

قال العلامة العيني

(1)

: ووقع في كتاب ابن بطال "باب" بلا ترجمة، انتهى.

(102 -‌

‌ باب إرداف المرأة خلف الرجل)

كذا في النسخة "الهندية" و"العيني" و"القسطلاني"، وفي نسخة الحاشية وكذا في نسخة "الفتح" بزيادة:"ذا محرم".

(103 -‌

‌ باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى)

وجه دخول هذه الترجمة في "كتاب اللباس" من جهة أن الذي يفعل ذلك لا يأمن من الانكشاف، ولا سيما الاستلقاء يستدعي النوم والنائم لا يتحفظ، فكأنه أشار إلى أن من فعل ذلك ينبغي له أن يتحفظ لئلا ينكشف، وكأنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، وهو فيما أخرجه مسلم من حديث جابر رفعه:"لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى" أو ثبت لكنه رآه منسوخًا، وسيأتي شرحه مستوفي في "كتاب الاستئذان" إن شاء الله تعالى، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: وقد ترجم المصنف هناك أيضًا بـ "باب الاستلقاء"، وسيأتي الكلام عليه هناك في دفع التكرار، ولا يخفى عليك أنه قد تقدم أيضًا في أبواب المساجد "باب الاستلقاء في المسجد"، وتقدم هناك الجمع بين الروايات المختلفة الواردة في ذلك.

وقال العلامة القسطلاني

(3)

: ودلالة الاستلقاء المترجم له من الحديث من جهة أن رفع إحدى الرجلين على الأخرى لا يتأتى إلا عند الاستلقاء، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 136).

(2)

"فتح الباري"(10/ 399).

(3)

"إرشاد الساري"(12/ 742).

ص: 249

وتعقب عليه السندي

(1)

وبسطه فارجع إليه لو شئت.

ثم البراعة في قوله: "الاستلقاء" لأنه هيئة الميت، وأيضًا في قوله:"وضع الرجل على الرجل" المذكِّر قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29، 30]

(2)

.

* * *

(1)

انظر: "صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 47).

(2)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 250

78 -

‌ كتاب الأدب

الأدب استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، وعبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، قاله الحافظ

(1)

.

وقال العلامة العيني

(2)

: يقال: أَدُبَ الرجل يَأْدُبُ إذا كان أديبًا، كما يقال: كرم يكرم إذا كان كريمًا، والأدب مأخوذ من المأدبة، وهو طعام يتخذ ثم يدعى الناس إليه، فكأن الأدب مما يدعى كل أحد إليه، إلى آخر ما بسط.

وفي "فيض الباري"

(3)

: قال صاحب "المغرب": إن الأدب اسم لكل رياضة محمودة يتخرج بها الرجل إلى كل فضيلة من الفضائل، وترجمته في الهندية:"تَمِيز"، ويقال للفن المخصوص: الأدب؛ لأنه كان في زمن سلاطين الإسلام وسيلة إلى حسن التقرير والتحرير وكتابة الفرامين إلى غير ذلك من الملكات الحسنة مما لا بد لحُضَّار مجالسهم، انتهى.

(1 -‌

‌ باب قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:

8])

كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"باب البر والصلة وقول الله سبحانه وتعالى. . ." إلخ.

قال الحافظ

(4)

: ووقع في أول "الأدب المفرد" للبخاري: "باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} "، وكتاب "الأدب المفرد" يشتمل على أحاديث زائدة على ما في "الصحيح"، وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 400).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 139).

(3)

"فيض الباري"(6/ 118).

(4)

"فتح الباري"(10/ 400).

ص: 251

(2 -‌

‌ باب من أحق الناس بحسن الصحبة)

قال الحافظ

(1)

: الصحبة والصحابة مصدران بمعنىً وهو المصاحبة، ثم قال في شرح الحديث: قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون بالأم ثلاثة أمثال ما للأب من البرّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد به الأم ثم تشارك الأب في التربية، وقال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظّ الأوفر في البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برّهما سواء، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر، وفيه نظر، إلى آخر ما قال في الترتيب بين الأقرباء، ومال أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن"

(2)

في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} الآية [الإسراء: 23] إلى ترجيح حقّ الأم على الأب حيث قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظّم حق الأم على الأب، ثم ذكر حديث أبي هريرة حديث الباب.

وفي "شرح الإحياء"

(3)

: قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب لأنه صلى الله عليه وسلم كرّر الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في المرة الرابعة فقط، وقيل: للأم ثُلُثَا البر وللأب الثُلُث، ووجهه الحديث الذي ذكر فيه حق الأم مرتين والأب مرة، وروي هذا عن الليث بن سعد، انتهى مختصرًا.

قال العلامة العيني

(4)

: وحديث أبي هريرة يدل على أن طاعة الأم مقدمة، وهو حجة على من خالفه، انتهى.

وكتب الشيخ في "الكوكب"

(5)

: قوله: "من أبرّ. . ." إلخ، وجه ذكر

(1)

"فتح الباري"(10/ 401، 402).

(2)

"أحكام القرآن"(3/ 197).

(3)

"إتحاف السادة المتقين"(7/ 288).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 142).

(5)

"الكوكب الدري"(3/ 44).

ص: 252

الأم ترجيحها على الأب في أحكام البر والصلة، وأما الإطاعة ففيها تقديم للأب كالتعظيم، انتهى.

قلت: وبه صرح في كراهية "العالمكَيرية"

(1)

وهكذا قال صاحب "الفيض"

(2)

.

(3 -‌

‌ باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين)

تقدم الكلام عليه في "كتاب الجهاد" فإنه قد ترجم هناك بـ "باب الجهاد بإذن الأبوين" ومناسبته بالكتابين ظاهرة.

(4 -‌

‌ باب لا يسبّ الرجل والده)

وفي نسخ الشروح الثلاثة "والديه" بالتثنية.

قال الحافظ

(3)

: أي: ولا أحدهما، أي: لا يتسبب إلى ذلك، قال ابن بطال: وحديث الباب أصل في سدّ الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 108]، انتهى من "الفتح".

(5 -‌

‌ باب إجابة دعاء من برّ والديه)

ذكر فيه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم فمُ الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم، وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب الإجارة"، قاله الحافظ

(4)

.

(1)

"العالمكَيرية"(5/ 365).

(2)

"فيض الباري"(6/ 181).

(3)

"فتح الباري"(15/ 403، 404).

(4)

"فتح الباري"(10/ 405).

ص: 253

(6 -‌

‌ باب عقوق الوالدين من الكبائر. . .) إلخ

العقوق بضم العين المهملة مشتق من العقّ وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

.

(7 -‌

‌ باب صلة الوالد المشرك)

من جهة ولده المؤمن، قاله القسطلاني

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث أسماء بنت أبي بكر: "أتتني أمي وهي راغبة"، وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب الهبة"، وتقدم بيان الاختلاف في قوله:"راغبة" هل هي بالميم أو الموحدة، انتهى.

(8 -‌

‌ باب صلة المرأة أمها ولها زوج)

قال القسطلاني

(4)

: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة إذا قلنا: إن الضمير في "ولها" راجع إلى المرأة، إذ أسماء كانت زوجة للزبير وقت قدومها، وإن قلنا: إنه راجع إلى الأم فذلك باعتبار أن يراد بلفظ "أبيها" زوج أم أسماء، ومثل هذا المجاز شائع، وكونه كالأب لأسماء ظاهر، قاله في "الكواكب". وقال ابن بطال: في الحديث من الفقه أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، وأن للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية تقدم الكلام عليها في "كتاب الهبة" في "باب هبة المرأة لغير زوجها"، والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بهذه

(1)

"فتح الباري"(10/ 406).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 16).

(3)

"فتح الباري"(10/ 413).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 17).

ص: 254

الترجمة إلى جواز ذلك كما هو مذهب الجمهور، خلافًا لما يتوهم عما ذكره الإمام أبو داود في "باب عطية المرأة بغير إذن زوجها" عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" قال الشيخ في "البذل"

(1)

: قال الخطابي

(2)

: عند أكثر العلماء هذا على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك، ثم ذكر خلاف مالك في المسألة، كذا في هامش "اللامع"

(3)

.

(9 -‌

‌ باب صلة الأخ المشرك)

بالإِضافة إلى المفعول وطيّ ذكر الفاعل أن صلة المسلم لأخيه المشرك، ذكر في الباب حديث ابن عمر:"رآى عمر حلة سيراء تباع" الحديث، وقد تقدم في "كتاب الهبة"، انتهى من "القسطلاني"

(4)

بزيادة.

(10 -‌

‌ باب فضل صلة الرحم)

بفتح الراء وكسر الحاء المهملة يطلق على الأقارب، وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا؟ سواء كان ذا محرم أم لا، وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجح؛ لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(11 -‌

‌ باب إثم القاطع)

أي: قاطع الرحم، وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة رفعه: "إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة،

(1)

"بذل المجهود"(11/ 275).

(2)

"معالم السنن"(3/ 174).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 17).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 18).

(5)

"فتح الباري"(10/ 414).

ص: 255

فلا يقبل عمل قاطع رحم"، وللطبراني من حديث ابن مسعود: "إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم" وغير ذلك من الروايات ذكرها الحافظ

(1)

.

(12 -‌

‌ باب من بسط في الرزق لصلة الرحم)

أي: لأجل صلة رحمه، ثم قال الحافظ في شرح الحديث: وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعًا: "صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" ونحو ذلك من الروايات ذكرها الحافظ في "الفتح"

(2)

.

وقد تقدم في البيوع "باب من أحب البسط في الرزق"، وأخرج المصنف هناك ثاني حديثي الباب حديث أنس بن مالك.

(13 -‌

‌ باب من وصل وصله الله)

أي: من وصل رحمه وصله الله، يعني: يعطف عليه بفضله إما في عاجل دنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضّل رجل على رجل آخر بمال أو وهبه هبة: وصل فلان فلانًا، كذا قاله العلامة العيني

(3)

.

وذكر المصنف فيه ثلاثة أحاديث قال الحافظ: وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه، وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(14 -‌

‌ باب تبلّ الرحم ببلالها)

قال صاحب "الفيض"

(5)

: وهذه محاورة يراد بها صلة الرحم وترجمته بالهندية: "سينجنا"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 415).

(2)

"فتح الباري"(10/ 415).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 155).

(4)

"فتح الباري"(10/ 419).

(5)

"فيض الباري"(6/ 123).

ص: 256

قال العلامة العيني

(1)

: "يَبَلُّ" على بناء المعلوم وفاعله محذوف تقديره يبلّ الشخص المكلف، و"الرحم" منصوب على أنه مفعول "يبل"، ويجوز أن يكون "يبل" على صيغة المجهول مسندًا إلى "الرحم" المرفوع به، والبلال بكسر الموحدة، وكل ما يبل به الحلق من الماء واللبن يسمى بلالًا، وقد يجمع البلة بالكسر وهي الندواة على بلال، وقال الخطابي: البلال مصدر بللت الرحم أبلّه بِلالًا وبَلالًا بالكسر والفتح إذا نديتها بآلة، انتهى.

(15 -‌

‌ باب ليس الواصل بالمكافئ)

قال الحافظ

(2)

: قال شيخنا في "شرح الترمذي": المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه، فإن فيه قطعًا بإعراضه عن ذلك وهو من قبيل:"ليس الشديد بالصرعة"، و"ليس الغناء عن كثرة العرض"، انتهى.

وأقول: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذٍ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئًا، والله تعالى أعلم، انتهى.

(16 -‌

‌ باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم)

أي: هل يكون له في ذلك ثواب؟ وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف في ذلك، وتقدم البحث في ذلك في "كتاب الإيمان" في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري:"إذا أسلم العبد فحسن إسلامه"، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 157).

(2)

"فتح الباري"(10/ 423، 424).

(3)

"فتح الباري"(10/ 424).

ص: 257

قلت: وترجم الإمام البخاري هناك بـ "باب حسن إسلام المرء"، وتقدم الكلام على المسألة هناك، يعني: هل الكافر يثاب على حسناته إذا أسلم؟ وأيضًا قد ترجم المصنف في "كتاب الزكاة" بـ "باب من تصدق في الشرك ثم أسلم"، وأخرج فيه حديث حكيم بن حزام المذكور في هذا الباب.

(17 -‌

‌ باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به)

أي: ببعض جسده.

قوله: (أو قبلها أو مازحها) قال ابن التِّين: ليس في الخبر المذكور في الباب للتقبيل ذكر، فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مسّ جسده صار كالتقبيل، وإلى ذلك أشار ابن بطال، والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص، وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وأورد العلامة العيني

(2)

على قول الحافظ: من العام بعد الخاص: بأنه ليس كذلك؛ لأن لكل واحد من التقبيل والمزاح معنى خاصًّا، وليس بينهما عموم وخصوص، انتهى.

وحكى القسطلاني قول ابن التِّين المتقدم في كلام الحافظ ثم قال: كذا قال فليتأمل

(3)

، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الباب الآتي من قبيل باب في باب، كما هو معروف من أصول التراجم فلا إيراد ولا حاجة إلى الجواب.

(18 -‌

‌ باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته)

لعل المصنف أشار إلى أن القبلة والمعانقة وغيرهما رحمة، وردّ على من أنكره من المتكبرين كما يستفاد من قول الأقرع بن حابس، قال

(1)

"فتح الباري"(10/ 425).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 161).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 31).

ص: 258

ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه، وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة، قاله الحافظ

(1)

.

وقال أيضًا في شرح حديث أبي هريرة: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وحكى القاري في "المرقاة"

(3)

عن النووي: قبلة الوالد خدّ الولد واجب، وقبلة غيره من الأطراف، وقبلة غير الولد من أولاد الأصدقاء سنة، انتهى فتأمل.

والذي ذكره العلامة النووي في "شرح مسلم" تحت حديث أنس بن مالك: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث، وفيه فضيلة رحمة العيال والأطفال وتقبيلهم

(4)

، انتهى.

(19 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخ الشروح:"باب جعل الله الرحمة في مائة جزء". قال الحافظ

(5)

: هكذا ترجم ببعض الحديث، وفي رواية النسفي:"باب من الرحمة"، وللإسماعيلي:"باب" بغير ترجمة، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(6)

: قوله: "فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق"، وفيه رائحة من وحدة الوجود لأنه يدل على أن تلك الرحمة عينها جعلت بين العباد مع أنها كانت جزءًا من أجزاء رحمة الربّ، فما كان للربّ

(1)

"فتح الباري"(10/ 427).

(2)

"فتح الباري"(10/ 430).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 460).

(4)

"شرح النووي"(8/ 85).

(5)

"فتح الباري"(10/ 431).

(6)

"فيض الباري"(6/ 125، 126).

ص: 259

جلّ مجده صارت للعباد بعينها، وهل الوحدة المذكورة ممكنة أو لا؟ فالوجه أنها ممكنة إلا أن الغلو فيها غلو، وقد أنكرها الشيخ المجدد السرهندي في "مكتوباته"، وفي "العبقات": أن بطاقة وجدت من تحت وسادة حضرة الشيخ المجدد فوجد فيها مكتوبًا: إن آخر ما انكشف عليَّ هو أن وحدة الوجود حق، قلت: وفيه احتمال بعد ما لم يثبت من جهة صاحب الشرع، وكيف ما كان ليست المسألة مما تصلح أن تدخل في العقائد، انتهى.

(20 -‌

‌ باب قتل الولد خشية أن يأكل معه)

قال الحافظ

(1)

: ووقع لأبي ذر عن المستملي والكشميهني: "باب أيّ الذنب أعظم"، وعند النسفي:"باب من الرحمة"، انتهى.

(21 -‌

‌ باب وضع الصبي في الحجر)

شفقةً وتعطفًا عليه، الحجر بفتح الحاء المهملة وكسرها وسكون الجيم، قاله القسطلاني

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: ويستفاد من الحديث الرفق بالأطفال والصبر على ما يحدث منهم وعدمُ مؤاخذتهم لعدم تكليفهم، انتهى.

(22 -‌

‌ باب وضع الصبي على الفخذ)

هذه الترجمة أخصُّ من التي قبلها، قاله الحافظ

(4)

.

وقال القسطلاني

(5)

تحت حديث الباب: واستشكل بأن أسامة أسنّ من الحسن بكثير لأنه صلى الله عليه وسلم أمّره على جيش عند وفاته الشريفة، وكان عمره

(1)

"فتح الباري"(10/ 433).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 39).

(3)

"فتح الباري"(10/ 434).

(4)

"فتح الباري"(10/ 434).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 40).

ص: 260

فيما قيل: عشرين سنة حينئذ، وكان سنّ الحسن إذ ذاك ثمان سنين، وأجيب باحتمال أن يكون أقعد أسامة على فخذه لنحو مرض أصابه فمرَّضَه بنفسه الشريفة لمزيد محبته له، وجاء الحسن فأقعده على الآخر، أو أن إقعادهما ليس في وقت واحد، أو عبَّر به عن إقعاده بحذاء فخذه لينظر في مرضه بقوله:"فيقعدني على فخذه" مبالغة في شدة قربه منه، انتهى.

(23 -‌

‌ باب حسن العهد من الإيمان)

قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة، وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، إلى آخر ما بسط الحافظ

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الحديث والترجمة؟ أجيب بأن لفظ الترجمة ورد في حديث عائشة عند الحاكم والبيهقي في "الشعب" قالت: "جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان"، فاكتفى البخاري بالإشارة على عادته تشحيذًا للأذهان، تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان، انتهى. وهكذا في "الفتح".

(24 -‌

‌ باب فضل من يعول يتيمًا)

أي: يربيه وينفق عليه، كذا في "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 435)، وانظر:"غريب الحديث"(3/ 138)، "مشارق الأنوار"(2/ 130)، "المفردات"(ص 591).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 41، 42)، و"فتح الباري"(10/ 436).

(3)

"فتح الباري"(10/ 436).

ص: 261

قوله: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. . ." إلخ، قال العلامة السندي

(1)

: كأنه كناية عن زيادة قرب لكافل اليتيم إليه صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، وإلا فمعلوم أن درجته صلى الله عليه وسلم أرفع، والله تعالى أعلم، انتهى.

(25 -‌

‌ باب الساعي على الأرملة)

بفتح الميم: التي لا زوج لها، سواء تزوجت قبل ذلك أم لا؟ أو هي التي فارقها زوجها، غنية كانت أو فقيرة، وقال ابن قتيبة: سميت بذلك لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج، انتهى

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "باب الساعي على الأرملة. . ." إلخ، أي: في مصالحها، ذكر فيه حديث أبي هريرة موصولًا، وحديث صفوان بن سليم مرسلًا، وقد تقدم شرحه في "كتاب النفقات"، قاله الحافظ.

(26 -‌

‌ باب الساعي على المسكين)

قال العلامة العيني

(4)

: أي: فضل الساعي على المسكين، أي: الكاسب لأجل المسكين والقائم بمصلحته، انتهى.

(27 -‌

‌ باب رحمة الناس والبهائم)

أي: صدور الرحمة من الشخص لغيره، وكأنه أشار إلى حديث ابن مسعود رفعه قال:"لن تؤمنوا حتى ترحموا، قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمةُ الناس رحمةَ العامة" أخرجه الطبراني ورجاله ثقات، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"حاشية السندي على صحيح البخاري"(4/ 52).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 42، 43).

(3)

"فتح الباري"(10/ 437).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 173).

(5)

"فتح الباري"(10/ 438).

ص: 262

(28 -‌

‌ باب الوصاية بالجار)

هكذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"الوصاءة" بالهمزة بدل الياء.

قال القسطلاني

(1)

: وفي نسخة: "كتاب"، يعني: بدل "باب"، وفي نسخة:"كتاب البر والصلة"، والوصاءة بفتح الواو والصاد المهملة المخففة بعدها همزة، ممدودًا، لغة في الوصية، وكذا الوصاية بإِبدال الهمزة ياءً، انتهى.

(29 -‌

‌ باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه)

جمع بائقة، وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتةً، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(30 -‌

‌ باب لا تحقرنّ جارة لجارتها)

يعني: لا تمنع الجارة عن إعطاء شيء حقير لجارتها لأجل قلَّته، قاله العيني

(3)

.

(31 -‌

‌ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)

المراد به الإيمان الكامل، وخصّه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي: من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 48).

(2)

"فتح الباري"(10/ 443).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 181).

(4)

"فتح الباري"(10/ 446).

ص: 263

(32 -‌

‌ باب حق الجوار في قرب الأبواب)

قال الحافظ

(1)

: قوله "أقربهما" أي: أشدهما قربًا، قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيَّما في أوقات الغفلة، واختلف في حدّ الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه: من سمع النداء فهو جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن عائشة: حدّ الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعن الأوزاعي مثله، انتهى.

وتقدم التبويب في الشفعة بـ "باب أي الجوار أقرب".

(33 -‌

‌ باب كل معروف صدقة)

أورد فيه حديث جابر رضي الله عنه بهذا اللفظ، وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة، وقد أخرجه الدارقطني والحاكم مثله، وزاد في آخره:"وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقةً"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(34 -‌

‌ باب طيب الكلام)

أصل الطيب ما تستلذّه الحواسُّ، ويختلف باختلاف متعلقه، قال ابن بطال: طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96]، والدفع قد يكون بالقول كما يكون بالفعل، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 447).

(2)

"فتح الباري"(10/ 447).

(3)

"فتح الباري"(10/ 448)، وانظر:"شرح ابن بطال"(9/ 225).

ص: 264

(35 -‌

‌ باب الرفق في الأمر كله)

الرفق بكسر الراء: هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف، قاله الحافظ

(1)

.

(36 -‌

‌ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا)

قال الحافظ

(2)

: بجر "بعضهم" على البدل ويجوز الضم، قال ابن بطال: والمعاونة في أمور الآخرة وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة:"والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".

قال الحافظ: وقع في حديث عن ابن عباس سنده ضعيف رفعه: "من سعى لأخيه المسلم في حاجة قضيت له أو لم تقض غفر له"، انتهى.

(37 -‌

‌ باب {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية [النساء:

85])

وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم، بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة، وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن، والسيئة الدعاء عليه، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(3)

.

(38 -‌

‌ باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا)

الفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول

(1)

"فتح الباري"(10/ 449).

(2)

"فتح الباري"(10/ 450، 451)، "شرح ابن بطال"(9/ 227).

(3)

"فتح الباري"(10/ 451، 452).

ص: 265

والفعل والصفة، يقال: طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله، لكن استعماله في القول أكثر، والمتفحش بالتشديد، أي: الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه، انتهى

(1)

.

(39 -‌

‌ باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل)

جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة؛ لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق بل هو من معظمها، والبخل ضده، ثم بسط الحافظ الكلام في تحقيق معنى الحسن والخلق والسخاء والبخل، ثم قال: وأشار بقوله: "وما يكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز إطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذمومًا، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(40 -‌

‌ باب كيف يكون الرجل في أهله)

ذكر فيه حديث عائشة "كان في مهنة أهله"، وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من "كتاب الصلاة"، والمهنة بكسر الميم وبفتحها، وأنكر الأصمعي الكسر وفسّرها هناك بخدمة أهله، وبينت أن التفسير من قول الراوي، وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه:"قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم"، ولأحمد من حديث عائشة:"يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه"، وفي رواية عنها أيضًا بلفظ:"ما كان إلا بشرًا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه"، وأخرجه الترمذي في "الشمائل" وفي رواية عند ابن سعد:"كان ألين الناس وأكرم الناس وكان رجلًا من رجالكم، إلا أنه كان بسامًا"، قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستنّ بهم، ولئلا

(1)

"فتح الباري"(10/ 453).

(2)

"فتح الباري"(10/ 456، 457).

ص: 266

يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمّها بقوله تعالى:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(41 -‌

‌ باب المقة من الله)

أي: ابتداؤها من الله، والمقة بكسر الميم وتخفيف القاف هي المحبة، وقد ومق يمق، والأصل الومق، والهاء فيه عوض عن الواو، كعدة ووعد وزنة ووزنَ. وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه، لكنها على غير شرط البخاري، فأشار إليها في الترجمة كعادته، أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة عن أبي أمامة مرفوعًا قال:"المقة من الله، والصيت من السماء، فإذا أحبّ الله عبدًا" الحديث، وللبزار عن أبي هريرة رفعه:"ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنًا وضع في الأرض، وإن كان سيئًا وضع في الأرض"، والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال صاحب "الفيض"

(3)

: المقة المحبة، والجار والمجرور بعده فاعل له، وصرّح الأشموني أن الجار والمجرور بعد المصدر يصلح فاعلًا ومفعولًا، انتهى.

(42 -‌

‌ باب الحب في الله)

أي: في ذات الله من غير أن يشوبه رياء أو هوىً، قاله العيني والقسطلاني

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 461).

(2)

"فتح الباري"(10/ 461، 462).

(3)

"فيض الباري"(6/ 134).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 197)، "إرشاد الساري"(13/ 71).

ص: 267

(43 -‌

‌ باب قول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية [الحجرات:

11])

قال العيني

(1)

: المناسبة بين الحديث والآية الكريمة هي أن ضحك الرجل مما يخرج من الأنفس فيه معنى الاستهزاء والسخرية، ثم قال: وتمام هذا الحديث على ثلاث قصص: القصة الأولى قصة عقر الناقة، والثانية قصة النهي عن الضحك مما يخرج من الإنسان، والثالثة قصة النهي عن جلد المرأة، وأخرج البخاري في تفسير سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} الثلاثة عن موسى بن إسماعيل، وأخرج في أحاديث الأنبياء عليهم السلام بالقصة الأولى، وأخرج هنا بالقصة الثانية والثالثة، وأخرج في النكاح القصة الثالثة، انتهى.

(44 -‌

‌ باب ما ينهى عن السباب واللعن)

قال العلامة العيني

(2)

: السباب بكسر السين المهملة، يحتمل أن يكون من باب المفاعلة، وأن يكون بمعنى السبّ، أي: الشتم، وهو التكلم في شأن الإنسان بما يعيبه، واللعن هو التبعيد عن رحمة الله عز وجل، انتهى.

قوله: (لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه. . .) إلخ، قال صاحب "الفيض"

(3)

: ذهب الغزالي من الشافعية والسرخسي من الحنفية إلى أن من رمى أخاه بكلمة الكفر فقد كفر هو بنفسه حقيقةً.

وفي "الدر المختار": أنه لا يوجب كفرًا إذا قالها ستًا، نعم إن قالها جادًّا فكما قال الغزالي والسرخسي، انتهى. ثم بسط الكلام في شرح الحديث.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 199).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 200).

(3)

"فيض الباري"(6/ 136).

ص: 268

(45 -‌

‌ باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم: الطويل والقصير. . .) إلخ

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه، وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقًا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال:"أكما يقول ذو اليدين"؟ وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة. وإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذّ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا: "حميد الطويل" غيبة، وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها:"وفي القوم رجل في يديه طول".

قال ابن المنيِّر: أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز، وإن كان للتنقيص فهو لم يجز، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(46 -‌

‌ باب الغيبة وقول الله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. . .} [الحجرات: 12]) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هكذا اكتفى بذكر الآية المصرّحة بالنهي عن الغيبة، ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر. وقد اختلف في حدّ الغيبة وفي حكمها، فأما حدّها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك،

(1)

"فتح الباري"(10/ 468، 469).

(2)

"فتح الباري"(10/ 470، 471).

ص: 269

وقال ابن الأثير في "النهاية": الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه.

وقال النووي في "الأذكار" تبعًا للغزالي: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.

قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم: قال بعض من يدعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، وكل ذلك من الغيبة، وتمسك من قال: إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه وفيه: "ذكرك أخاك بما يكرهه" فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص، فدلّ على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاةً لاشتقاقها، وبذلك جزم أهل اللغة.

ثم بسط الحافظ الكلام في حكم الغيبة، ونقل الإجماع على أنها من الكبائر، وقيل: من الصغائر، وتعقب هذا القول، ثم قال: ذكر المصنف في الباب حديث ابن عباس وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه "يمشي بالنميمة" قال ابن التِّين: إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه بظهر الغيب، انتهى من "الفتح".

وقال ابن عابدين

(1)

بحثًا على تعريف الغيبة: قوله: حال كونه غائبًا، هذا القيد مأخوذ من مفهومها اللغوي ولم يذكر في الحديث، والظاهر أنه لو ذكر في وجهه فهو سبّ وشتم وهو حرام أيضًا بالأولى؛ لأنه أبلغ في الإيذاء عن حال الغيبة، انتهى.

(1)

"ردّ المحتار"(9/ 585 - 587).

ص: 270

وقال أيضًا: أعلم أن الغيبة حرام بنص الكتاب العزيز، وشبّه المغتاب بآكل لحم أخيه ميتًا إذ هو أقبح من الأجنبي ومن الحي، فكما يحرم لحمه يحرم عرضه، قال صلى الله عليه وسلم:"كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" رواه مسلم وغيره، ولا تحل إلا عند الضرورة بقدرها كهذه المواضع (أي: التي ذكرت في "الدر المختار" كما سيأتي).

وفي "تنبيه الغافلين" للفقيه أبي الليث: الغيبة على أربعة أوجه: في وجه هي كفر بأن قيل له: لا تغتب، فيقول: ليس هذا غيبة لأني صادق فيه، فقد استحلّ ما حرم بالأدلة القطعية وهو كفر، إلى أن قال: وفي وجه هي مباح وهو أن يغتاب معلنًا بفسقه أو صاحب بدعة، وإن اغتاب الفاسق ليحذره الناس يثاب عليه؛ لأنه من النهي عن المنكر، انتهى.

أقول: والإباحة لا تنافي الوجوب في بعض المواضع الآتية، انتهى.

وفي "الدر المختار": وكذا لا إثم عليه لو ذكر مساوئ أخيه على وجه الاهتمام فلا يكون غيبة، إنما الغيبة أن يذكر على وجه الغضب يريد السبّ، انتهى.

قال ابن عابدين: قوله: لا يكون غيبة؛ لأنه لو بلغه لا يكرهه؛ لأنه مهتم له متحزن ومتحسر عليه، لكن بشرط أن يكون صادقًا في اهتمامه وإلا كان مغتابًا منافقًا مرائيًا مزكيًّا لنفسه؛ لأنه شتم أخاه المسلم وأظهر خلاف ما أخفى، وأشعر الناس أنه يكره هذا الأمر لنفسه ولغيره، وأنه من أهل الصلاح حيث لم يأت بصريح الغيبة، وإنما أتى بها في معرض الاهتمام، فقد جمع أنواعًا من القبائح، نسأل الله تعالى العصمة، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(1)

بعد تعريف الغيبة: ذكر الشامي فيها المستثنيات، وملخصها يرجع عندي إلى كلمة واحدة وهي أن الغيبة هي التي كانت لتجريد الصدر والتلذذ بها وجعلها شغلًا، أما إذا كان بصدد ذكر

(1)

"فيض الباري"(6/ 138).

ص: 271

حوادث الأيام وصروفها فذكر فيه أشياء لا يكون من الغيبة المحظورة.

شر الورى بمساوئ الناس مشتغل

مثل الذباب يراعي موضع العلل

انتهى.

وسيأتي ترجمة المصنف بقوله: "ما يجوز من اغتياب أهل الفساد".

قال الحافظ

(1)

: قال العلماء تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعًا حيث يتعين طريقًا إلى الوصول إليه بها كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والمحاكمة والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة، انتهى.

(47 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير دور الأنصار)

وكأنَّ فيه تعريضًا لغيرهم، وبذلك يدخل هذا الباب في هذا الكتاب، أو يقال: إن الخير فيهم لأجل اهتمامهم ومراعاتهم الآداب، وبهذا يزول الإشكال.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

تحت الترجمة: ظاهره إزراء بالآخرين فكان مظنة عدم الجواز، ودفعه بأن المنهي عنه هو الالتزام، وأما إذا لزم ذلك ولم يكن من قصده إزراء الآخرين وتحقيرهم، وإنما قصد امتداح قوم فلا ضير فيه، انتهى.

وفي هامشه: ولأجل ذلك ذكره الإمام البخاري في أبواب الغيبة وغيرها.

قال الحافظ: في إيراد هذه الترجمة هنا إشكال؛ لأن هذا ليس من الغيبة أصلًا إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك، فيستثنى ذلك من عموم قوله:"ذكرك أخاك بما يكره"، ويكون محل الزجر إذا

(1)

"فتح الباري"(10/ 472).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 21، 22).

ص: 272

لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة ولو كرهه المحدث عنه، انتهى.

وقال العلامة العيني

(1)

: وهذا المقدار لا يعدّ غيبة وهذا نحو قولك: أبو بكر أفضل من عمر، وليس ذلك غيبة لعمر، انتهى.

(48 -‌

‌ باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب)

والمراد من أهل الريب المتهمون بالفساد، انتهى من كلام "فيض الباري"

(2)

. ذكر فيه حديث عائشة في قوله: "بئس أخو العشيرة"، ونوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعًا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولًا هو اللغوي، وإذا استثني منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: وهذا الباب كالاستثناء من باب الغيبة، وتقدم الكلام هناك على المسألة مبسوطًا.

(49 -‌

‌ باب النميمة من الكبائر)

قال القسطلاني

(4)

: وهي نقل مكروه بقصد الإفساد، وضابطها كشف ما يكره من شيء بكل ما يفهم، وهي أم الفتن، وقد قيل: إن النمام يفسد في ساعةٍ مما لا يفسده الساحر في شهر، وعلى سامعها إن جهل كونها نميمة أو نصحًا أن يتوقف حتمًا، فإن تبين أنها نميمة، فعليه أن لا يصدّقه لفسقه بها، ثم ينهاه عنها وينصحه، ثم يبغضه في الله ما لم يتب، ولا يظنّ بأخيه

(1)

"عمدة القاري"(15/ 206).

(2)

"فيض الباري"(6/ 139).

(3)

"فتح الباري"(10/ 471).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 87).

ص: 273

الغائب سوءًا، ويحرم بحثه عنها وحكاية ما نقل إليه كيلا ينتشر التباغض، ولا ينمّ على النمام فيصير نمامًا.

قال النووي: وهذا إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهو مستحب أو واجب، كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصًا ظلمًا فحذره منه، انتهى.

وفي "المجمع"

(1)

: النميمة نقل الحديث على جهة الفساد والشرِّ، نمَّ الحديث ينمّه وينمُّه فهو نمّام، وهو أقبح القبائح، وأكثر إطلاقه على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه إن كره، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: واختلف في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان؟ والراجح التغاير، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا وجهيًّا، إلى آخر ما ذكر.

وقال في مطابقة الحديث بالترجمة: ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة القبرين وهو ظاهر فيما ترجم به لقوله في سياقه: "وانه لكبير"، وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ:"وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة"، انتهى.

(50 -‌

‌ باب ما يكره من النميمة)

كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرًا مثلًا، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرّهم، قاله الحافظ

(3)

.

(51 -‌

‌ باب قول الله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:

30])

قال الراغب: الزور الكذب، قيل له ذلك لكونه مائلًا عن الحق، والزور بفتح الزاي: الميل، وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن القول

(1)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 812، 813).

(2)

"فتح الباري"(10/ 472، 473).

(3)

"فتح الباري"(10/ 472).

ص: 274

المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقًا أو كذبًا، فالكذب فيه أقبح، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(52 -‌

‌ باب ما قيل في ذي الوجهين)

أورد فيه حديث أبي هريرة، وفيه تفسيره وهو من جملة صور النمام، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(53 -‌

‌ باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: والفرق بينه وبين النميمة أن المقصود ههنا الإصلاح ودفع الشرّ، وفي النميمة الإفساد وإثارة الشر، فجاز ذلك دونها، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، وأما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق ويجتنب الأذى فلا، وقلّ من يفرق بين البابين، فطريقُ السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الإمساكُ عن ذلك، وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(5)

: ويفهم من الحديث أن الكبراء من الخواص قد يعز عليهم ما يقال فيهم من الباطل لما في فطر البشر إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل اقتداءً بالسلف ليتأسى بهم الخلف، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 473).

(2)

"فتح الباري"(10/ 474).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 22).

(4)

"فتح الباري"(10/ 475، 476).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 92).

ص: 275

(54 -‌

‌ باب ما يكره من التمادح)

[أي] بين الناس بما فيه الإطراء ومجاوزة الحد، قاله القسطلاني

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر من الصور لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب واحد، ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره، وقد ترجم له في الشهادات:"ما يكره من الإطناب في المدح"، انتهى.

وتعقب العلامة العيني

(3)

على كلام الحافظ، وذكر الفرق في المشاركة التي تكون في المفاعلة والتفاعل، فارجع إليه لو شئت.

(55 -‌

‌ باب من أثنى على أخيه بما يعلم)

أي: فهو جائز ومستثنى من الذي قبله، والضابط أن لا يكون في المدح مجازفة ويؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وفي "فيض الباري"

(5)

: اعلم أن المصنف بوّب أولًا بكراهة التمادح، ولما علم أن إطلاقها غير مراد بَوَّبَ ثانيًا ليدل على استثناء فيه، انتهى.

(56 -‌

‌ باب قول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:

90])

قال العيني

(6)

: أشار البخاري بإيراد هذه الآيات إلى وجوب ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، يدل عليه قوله:{وَالْإِحْسَانِ} أي: إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته، ثم في تفسير هذه الآية أقوال، ثم بسط العيني عشرة أقوال في تفسير العدل والإحسان.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 92).

(2)

"فتح الباري"(10/ 476).

(3)

انظر: "عمدة القاري"(15/ 212).

(4)

"فتح الباري"(10/ 478، 479).

(5)

"فيض الباري"(6/ 141).

(6)

"عمدة القاري"(15/ 215).

ص: 276

وقال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال: وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب جمع الحديث أن الله تعالى لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه، كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شرّ، فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من أثر الضرر الناشيء عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني، انتهى.

(57 -‌

‌ باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ. . .} [الفلق: 5]) إلخ

أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورًا على وقوعه بين اثنين فصاعدًا، بل الحسد مذموم، ومنهي عنه لو وقع من جانب واحد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(58 -‌

‌ باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:

12])

قال العلامة العيني

(3)

: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في رجلين من الصحابة اغتابا سلمان رضي الله عنه، انتهى.

(59 -‌

‌ باب ما يكون في الظن)

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني":"ما يكون من الظن"، وفي نسخة الحافظ:"ما يجوز من الظن".

(1)

"فتح الباري"(10/ 480).

(2)

"فتح الباري"(10/ 481).

(3)

"عمدة القاري"(13/ 219).

ص: 277

قال الحافظ

(1)

: كذا للنسفي ولأبي ذر عن الكشميهني وكذا في ابن بطال، وفي رواية القابسي والجرجاني:"ما يكره" وللباقين: "ما يكون"، والأول أليق بسياق الحديث، انتهى.

ولم يتعرض الشرَّاح لما في النسخ الهندية بلفظ "في" بدل "من"، وتعرض له الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

إذ قال: لعل المعنى: هذا باب بيان جواز إظهار ما في ظن الرجل، أو المعنى: باب ما يكون في الظن من جواز أو كراهة أو حرمة، فالظن الظاهر دليله جائز كما هو ظاهر الحديث، والظن الذي ليس عليه قرينة وفيه إساءة ظن بالآخر لا يجوز، وهذا على نسخة "في"، وأما على نسخة "من" فالمعنى: باب بيان الظن، فإن كلمة "من" بيان لـ "ما"، والله تعالى أعلم، انتهى.

ولله در الشيخ قُدِّس سرُّه فإنه قد أجاد في شرح ألفاظ الترجمة على كلتا النسختين.

ثم قال الحافظ

(3)

بعد ذكر حديث الباب: قيل: الحديث لا يطابق الترجمة لأن في الترجمة إثبات الظن وفي الحديث نفي الظن، والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي لا لنفي الظن، فلا تنافي بينه وبين الترجمة، وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه لأنه في مقام التحذير من مثل من قال حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه، انتهى.

زاد العلامة العيني

(4)

بعد حكاية هذا الجواب: وقال الكرماني: العرف في قول القائل: ما أظن زيدًا في الدار: أظنه ليس في الدار، قلت: هو حاصل الجواب المذكور، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 485).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 23).

(3)

"فتح الباري"(10/ 485، 486).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 220).

ص: 278

(60 -‌

‌ باب ستر المؤمن على نفسه)

قال الحافظ

(1)

: أي: إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له، ثم قال في شرح الحديث: قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامةُ من الاستخفاف، وقد استشكلت مطابقة الحديث للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه، والذي في الحديث ستر الله على المؤمن، والجواب أن الحديث مصرّح بذمّ من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر، انتهى.

(61 -‌

‌ باب الكبر)

قال الراغب: الكبر والتكبر والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربّه بأن يمتنع من قبول الحقّ والإذعان له بالتوحيد والطاعة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال القاري في "المرقاة"

(3)

: قالت السادة الصوفية رحمهم الله: إن آخر ما يخرج من رأس الصديقين محبة الجاه، فإن الجاه ولو كان في الأمور العلمية والعملية والمشيخة والحالات الكشفية فمن حيث النظر إلى المخلوق والغفلة عن الغيرة الربوبية أو الرؤية الإثنينية بعد ظهور أنوار الأحدية يحجب السالك عن الخلوة في الجلوة بوصف البقاء بالله والفناء عما سواه، هذا وقد روى صاحب "الكشاف" في "ربيع الأبرار" عن ابن مسعود رضي الله عنه: يكون الرجل مرائيًا في حياته وبعد موته، قيل: كيف ذاك؟ قال: يحب أن يكثر الناس في جنازته، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 486، 487).

(2)

"فتح الباري"(10/ 489).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(9/ 35، 36).

ص: 279

(62 -‌

‌ باب الهجرة)

بكسر الهاء وسكون الجيم، أي: ترك الشخص مكالَمَتَه الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل: الترك، فعلًا كان أو قولًا، وليس المراد بها مفارقة الوطن، فإن تلك تقدم حكمها.

قال النووي: قال العلماء: تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنصّ، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض. وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ليلة ذلك اليوم وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة.

قال الحافظ: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، وقد مضى في "باب ما نهي عن التحاسد" في حديث أبي أيوب بلفظ:"ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها إلى آخر ما ذكر

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: تزول الهجرة بمجرد السلام وردّه عند الأكثرين، وقال الإمام أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولًا، انتهى.

(63 -‌

‌ باب ما يجوز من الهجران لمن عصى)

وهذا استثناء مما سبق، وذكره صاحب "الفيض"

(3)

أيضًا إذ قال: فعل فيه مثل ما فعل في الغيبة والنميمة؛ فترجم أولًا بالهجرة وذكر ما فيها من الوعيد، ثم نبَّه على أن فيها استثناء أيضًا، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز؛ لأن عموم

(1)

"فتح الباري"(10/ 492).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 110).

(3)

"فيض الباري"(6/ 145).

(4)

"فتح الباري"(10/ 497).

ص: 280

النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فبيَّن ههنا السبب المسوغ للهجر، وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكفّ عنها، قال المهلب: غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلًا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام، وقال الطبري: قصة كعب أصل في هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعًا، ولا يشرع هجران الكافر وهو أشدّ جرمًا منهما، وأجاب ابن بطال بأن لله أحكامًا فيها مصالح للعباد، وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبّد لا يعقل معناه، وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره بخلاف العاصي المسلم، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: اعلم أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ترجم للهجرة ببابين: الأول في النهي عن الهجرة لأمر دنيوي، والثاني في جوازها لأمر ديني، لكن يشكل إدخال حديث عائشة في هذا الباب.

قال الكرماني: فإن قلت: كيف طابق الحديث الترجمة ولا معصية ثمة؟ قلت: لعل البخاري أراد قياس هجران الشخص للأمر المخالف للشريعة على هجران اسمه للأمر المخالف للطبيعة، قال ابن بطال: غرضه بيان صفة الهجران الجائز، وأن ذلك متنوع على قدر الأسباب، فما كان لمعصية ينبغي هجره مطلقًا كما في حديث كعب، وما كان

(2)

لمعاتبة بين

(1)

"لامع الدراري"(10/ 24).

(2)

في الأصل: "قال" بدل "كان"، وهو تحريف.

ص: 281

الأهل والإخوان فيهجر عن التسمية ونحوها كما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنها، قال القاضي: مغاضبة عائشة هي من الغيرة التي عفي عنها للنساء، ولولا ذلك لكان عليها في ذلك من الحرج ما فيه؛ لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة، وفي قولها:"لا أهجر إلا اسمك" دلالة على أن قلبها مملوء من المحبة، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة، انتهى بزيادة من "الفتح"

(1)

.

وقال العلامة السندي

(2)

في شرح ترجمة الباب: قوله: "لمن عصى" أي: ونحوه كهجران الاسم لشدة الغيرة، فلذلك ذكر في الباب حديث عائشة، والله أعلم، انتهى.

(64 -‌

‌ باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيًّا)

قال الحافظ

(3)

: وكأنّ البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور: "زُرْ غبًّا تزدد حبًّا"، وقد ورد من طرق أكثرها غرائب لا يخلو واحد منها عن مقال، وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وجاء من حديث علي وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة ومعاوية بن حيدة، وقد جمعتها في جزء مفرد.

ثم قال الحافظ: ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب لأن عمومه يقبل التخصيص فيحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته، قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبةً بخلاف غيره، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 497، 498).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 62).

(3)

"فتح الباري"(10/ 498، 499).

ص: 282

(65 -‌

‌ باب الزيارة)

أي: مشروعيتها، "ومن زار قومًا فطعم عندهم" أي: من تمام الزيارة أن يقدّم للزائر ما حضر، قاله ابن بطال، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: لكن المذكور في الترجمة الطعم الذي هو فعل الزائر وليس المذكور فيه الإطعام، والذي ذكره ابن بطال يناسب هذا لا ذاك، فالأوجه عندي أن يقال في الغرض من الترجمة: إنه لا ينبغي للزائر أن يمتنع عن الطعام لأجل أنه لم يدعه لذلك من قبل، يعني: لا يقول الزائر: لا آكل الطعام؛ لأنك ما دعوتني، وأفاد العزيز المولوي محمد عاقل:

(2)

أنه يحتمل أن يكون الغرض أن طعامه عنده لا يقدح في إخلاص هذا العمل، أي: الزيارة.

(66 -‌

‌ باب من تجمّل للوفود)

أي: حسّن هيئته بالملبوس ونحوه لمن يقدم عليه، والمراد بالوفود من كان يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرسلهم قبائلهم يبايعون لهم على الإسلام ويتعلمون أمور الدين حتى يعلموهم، وإنما أورد الترجمة بصورة الاستفهام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر، فالظاهر أنه إنما أنكر لبس الحرير، ولم ينكر أصل التجمل لكنه محتمل مع ذلك

(3)

، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: قال الشيخ ابن الهمام في "الفتح": إن الجمال غير الزينة، فإن التزين يكون من الأوصاف الرديئة بخلاف الجمال فإنه من الخصال الحميدة، ثم فرق أن الزينة هو جلب الحسن والتطرية ليكون له

(1)

"فتح الباري"(10/ 499).

(2)

هو ختن المؤلف الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، من كبار مدرسي جامعة مظاهر علوم في سهار نفور الهند، وهو الآن رئيس هيئة التدريس في نفس الجامعة.

(3)

"فتح الباري"(10/ 500، 501).

(4)

"فيض الباري"(6/ 146).

ص: 283

منظرًا حسنًا عند الخلائق، بخلاف الجمال فإنه اكتساب الحسن لئلا يكون قبيح المنظر ومشارًا إليه بالأصابع، انتهى.

(67 -‌

‌ باب الإخاء والحلف)

بكسر المهملة وسكون اللام، وبفتح المهملة وكسر اللام، هو المعاهدة، وقد تقدم بيانها في أوائل الهجرة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العلامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان مشروعية الإخاء، أي: المؤاخاة، ثم قال في شرح الحديث: وليس بين قوله: "قد حالف" وبين قوله: "لا حلف في الإسلام" منافاة؛ لأن المنفي هو المعاهدة الجاهلية والمثبت هو المؤاخاة.

وقال النووي: "لا حلف في الإسلام" معناه حلف التوارث وما يمنع الشرع منه، وأما المؤاخاة والمحالفة على طاعة الله تعالى والتعاون على البرّ فلم ينسخ، إنما المنسوخ ما يتعلق بالجاهلية، انتهى.

ولا يبعد عندي أن يقال: إن الإخاء والحلف يشمل ما اشتهر في هذا الزمان باسم: (كميي بنانا).

(68 -‌

‌ باب التبسم والضحك)

قال الحافظ

(3)

: قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، انتهى.

وقال العلامة العيني

(4)

: أي: هذا باب في بيان إباحة التبسم والضحك، انتهى. وهكذا في "القسطلاني".

(1)

"فتح الباري"(10/ 501).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 233).

(3)

"فتح الباري"(10/ 504).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 233)، "إرشاد الساري"(13/ 117).

ص: 284

قوله: (فقال عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي. . .) إلخ، قال العلامة السندي

(1)

: لا يخفى أن المبادرة إلى الحجاب لازمة عند دخول الأجنبي سواء كان عمر أو غيره فما وجه التعجب؟ فلعل الواقعة كانت قبل آية الحجاب، أو لعل فيهن من يجوز لها الكشف عند عمر كحفصة مثلًا، فالتعجب بالنظر إلى قيامها، أو لعل التعجب من إسراعهن قبل أن يعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم يأذن له أم لا، وهذا أقرب إلى لفظ الحديث، والله أعلم، انتهى.

(69 -‌

‌ باب قول الله {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:

119])

قال ابن التِّين: اختلف في قوله: {مَعَ الصَّادِقِينَ} فقيل: معناه: مثلهم، وقيل: منهم، قلت: وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أدّاه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم منّ الله عليه بقبول توبته، وقال في قصته:"ما أنعم الله عليّ من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(70 -‌

‌ باب الهدي الصالح)

بفتح الهاء وسكون الدال: هو الطريقة الصالحة، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من وجهين عن ابن عباس رفعه:"الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزء من النبوة"، وفي الطريق الأخرى:"جزء من سبعين جزء من النبوة"، وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 63).

(2)

"فتح الباري"(10/ 507، 508).

(3)

"فتح الباري"(10/ 509).

ص: 285

(71 -‌

‌ باب الصبر والأذى وقول الله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر:

10])

كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخة "العيني":"الصبر على الأذى"، وفي نسخة "الفتح":"الصبر في الأذى".

قال الحافظ

(1)

: أي: حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولًا أو فعلًا، وقد يطلق على الحلم، قال بعض أهل العلم: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها، ويقال فيها، ولهذا شقّ على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرًا من المنفق؛ لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء الله أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود:"الصبر نصف الإيمان"، وقد ورد في فضل الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه بسند حسن عن ابن عمر رفعه:"المؤمن الذي خالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم، انتهى.

(72 -‌

‌ باب من لم يواجه الناس بالعتاب)

أي: حياءً منهم، وقوله:"ما بال أقوام؟ " في رواية جرير: "ما بال رجال؟ " قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة؛ لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول: ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا، فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العلامة العيني

(3)

: قال ابن بطال: إنما كان لا يواجه الناس

(1)

"فتح الباري"(10/ 511، 512).

(2)

"فتح الباري"(10/ 513).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 244).

ص: 286

بالعتاب إذا كان في خاصة نفسه كالصبر على جهل الجهال وجفاء الأعراب، ألا يُرى أنه ترك الذي جبذ البردة عن عنقه حتى أثرت جبذته فيه، وأما إذا انتهكت من الدين حرمة فإنه لا يترك العتاب عليها والتقريع فيها، ويصدع بالحق فيما يجب على منتهكها ويقتصّ منه، انتهى.

قلت: وإليه أشار الإمام البخاري من الترجمة التي تأتي بعد بابين، وما حكى الحافظ عن ابن بطال في شرح الترجمة يؤيده ما أخرجه الإمام أبو داود في "سننه"

(1)

في "باب حسن العشرة" من "كتاب الأدب" عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا"، وأخرج من حديث أنس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلًا في وجهه بشيء يكرهه" الحديث.

(73 -‌

‌ باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)

كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر ذلك بغير تأويل من قائله، واستدل لذلك في الباب الذي يليه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العيني

(3)

: قوله: "بغير تأويل" يعني: في تكفيره، قيّد به لأنه إذا تأوّل في تكفيره يكون معذورًا غير آثم، ولذلك عذر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في نسبة النفاق إلى حاطب بن أبي بلتعة لتأويله، وذلك أن عمر بن الخطاب ظنّ أنه صار منافقًا بسبب ذلك، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

في شرح الحديث: كذا حمله البخاري على تحقق الكفر على أحدهما بمقتضى الترجمة، ولذا ترجم عليه مقيّدًا بغير تأويل، وحمله بعضهم على الزجر والتغليظ، فيكون ظاهره غير مراد، انتهى.

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 4788، 4789).

(2)

"فتح الباري"(10/ 514).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 245).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 134).

ص: 287

(74 -‌

‌ باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلًا أو جاهلًا)

أي: بالحكم أو بحال المقول فيه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: قوله: "من قال ذلك" إشارة إلى قوله في الترجمة السابقة: "من كفر أخاه بغير تأويل" يعني: من قال ذلك القول حال كونه متأولًا بأن ظنه كذا، أو قاله حال كونه جاهلًا بحكم ما قاله أو بحال المقول فيه، انتهى.

وهكذا شرح الترجمة العلامة القسطلاني، فظاهر كلام الشرَّاح أن كلا البابين متعلق بمسألة واحدة وهي قول الرجل لآخر: يا كافر، فإن قال ذلك بغير تأويل فهو لا يجوز وهو مؤدّى الباب الأول، وإن قاله متأوّلًا فهو جائز وهو مؤدّى الباب الثاني على رأي الشرَّاح.

وأنت تعلم أن أحدهما مستلزم للآخر فيلزم التكرار بين هذين البابين، وما يخطر بالبال - والله أعلم بحقيقة الحال - أنهما مسألتان مختلفتان، فالباب الأول كما قال الشرَّاح في حق من قال للآخر: يا كافر بغير تأويل في هذا القول، وأما الباب الثاني فمؤدّاه عندي مسألة أخرى، وهي تكفير من قال كلمة الكفر أو فعل فعلًا يوجب الكفر جاهلًا أو متأوّلًا، فمتعلق التأويل ههنا فعل المقول فيه لا فعل القائل بخلاف الترجمة السابقة فإنها على عكس ذلك، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فتأمل فإنه لطيف مناسب لدقائق تراجم البخاري.

ومطابقة حديث الباب أعني قصة حاطب إما على قول الشرَّاح ففي قول عمر: إنه منافق، فإنما قال عمر ما قاله متأولًا، وإما على ما اخترته في معنى الترجمة فالمطابقة في فعل حاطب، فإنه فعل ما فعله متأوّلًا، والله أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 516).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 247)، و"إرشاد الساري"(13/ 136).

ص: 288

وترجم الإمام البخاري في "كتاب استتابة المعاندين والمرتدين" بلفظ "باب ما جاء في المتأولين"، وسيأتي شيء من الكلام على المسألة هناك إن شاء الله تعالى.

(75 -‌

‌ باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم وكان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة، انتهى.

(76 -‌

‌ باب الحذر من الغضب لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} الآية [الشورى:

37])

أي: الحذر من الغضب لغير أمر الله لقوله في الترجمة الأولى: "لأمر الله".

(77 -‌

‌ باب الحياء)

قال العلامة القسطلاني

(2)

: أي: فضل الحياء، وهو تغير وانكسار يعمري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذمّ، وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، انتهى.

قلت: وتقدم بعض المباحث المتعلقة بالحياء في "كتاب الإيمان"، وذكر المصنف فيه ثلاثة أحاديث: أحدها حديث عمران بن حصين، وقد أخرجه مسلم أيضًا في "كتاب الإيمان"،

قال الحافظ

(3)

: وقد ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" لبشير بن كعب

(1)

"فتح الباري"(10/ 518).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 148).

(3)

"فتح الباري"(10/ 522).

ص: 289

هذا قصة مع ابن عباس تشعر بأنه كان يتساهل في الأخذ عن كل من لقيه، انتهى.

وأما الحديث الثاني فقد تقدم في "كتاب الإيمان"، وأما الثالث فقد تقدم قريبًا في "باب من لم يواجه الناس بالعتاب" وفي "باب صفته صلى الله عليه وسلم".

(78 -‌

‌ باب إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)

كذا في النسخة "الهندية" بإثبات الياء التحتانية، وفي نسخ الشروح الثلاثة:"إذا لم تستح" بحذف الياء.

قال القسطلاني

(1)

: لم تستح بكسر الحاء، وفي نسخة "الكرماني":"لم تستحي" بإثبات الياء كما في النسخة "الهندية"، وهو القياس فإنه في الأصل تستحيي بيائين، وبدخول الجازم سقطت إحدى اليائين.

قال الكرماني في الباب السابق: قوله: "إنك تستحي" بياء واحدة وبيائين، فإذا جزم يجوز أن يبقى بدونها، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: كذا ترجم بلفظ الحديث، وضمّه في "الأدب المفرد" إلى ترجمة الحياء، ثم قال في شرح الحديث: وقد سبق هذا الحديث في ذكر بني إسرائيل في أواخر أحاديث الأنبياء.

قال النووي في "الأربعين": الأمر فيه للإباحة، أي: إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله وإلا فلا، وعلى هذا مدار الإسلام، وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحي من تركه، والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحي من فعله، وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه، فتضمن الحديث الأحكام الخمسة، وقيل: هو أمر تهديد، ومعناه إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 151)، "شرح الكرماني"(21/ 235).

(2)

"فتح الباري"(10/ 523).

ص: 290

فإن الله مجازيك عليه، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء، وقيل: هو أمر بمعنى الخبر، أي: من لا يستحيي يصنع ما أراد، انتهى.

(79 -‌

‌ باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين)

هذا تخصيص للعموم الماضي في الذي قبله أن الحياء خير كله، أو يحمل الحياء في الخبر الماضي على الحياء الشرعي، فيكون ما عداه مما يوجد فيه حقيقة الحياء لغة، ليس مرادًا بالوصف المذكور، وذكر فيه ثلاثة أحاديث تقدمت، وهي ظاهرة فيما ترجم له، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقد ترجم على حديث أم سلمة وابن عمر حديثي الباب في "كتاب العلم""باب الحياء في العلم"، وتقدم هناك آراء المشايخ والشرَّاح في غرض المصنف بالترجمة.

(80 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسّروا ولا تعسّروا)

قال الحافظ

(2)

: أما حديث "يسّروا" فوصله في الباب، وأما الحديث الآخر فأخرجه مالك في "الموطأ" عن عائشة، فذكر حديثًا في صلاة الضحى وفيه:"وكان يحبّ ما خفّ على الناس"، انتهى.

(81 -‌

‌ باب الانبساط إلى الناس)

قال العيني

(3)

: وفي رواية الكشميهني: "مع الناس"، والمراد به أن يتلقى الناس بوجه بشوش وينبسط معهم بما ليس فيه ما ينكره الشرع وما يرتكب فيه الإثم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الأمة أخلاقًا وأبسطهم وجهًا، وقد وصفه الله عز وجل بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فكان ينبسط

(1)

"فتح الباري"(10/ 524).

(2)

"فتح الباري"(10/ 525).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 262، 263).

ص: 291

إلى النساء والصبيان ويداعبهم ويمازحهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأمزح ولا أقول إلا حقًّا" فينبغي للمؤمن الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه.

قوله: (والدعابة مع الأهل) بالجر عطفًا على الانبساط، وهي من بقية الترجمة، وهي بضم الدال: الملاطفة في القول بالمزاح، من دعب يدعب فهو دعاب، قال الجوهري: أي: لعاب، والمداعبة الممازحة، فإن قلت: قد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس رفعه: "لا تمار أخاك - أي: لا تخاصمه - ولا تمازحه" الحديث.

قلت: يجمع بينهما بأن المنهي عنه ما فيه إِفراط أو مداومة عليه؛ لأنها تؤول إلى الإيذاء والمخاصمة وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح فافهم، انتهى.

(82 -‌

‌ باب المداراة مع الناس)

هو بغير همز وأصله الهمز لأنه من المدافعة

(1)

، والمراد به الدفع برفق، وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه، واقتصر على إيراد ما يؤدي معناه، فمما ورد فيه صريحًا حديث لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مداراة الناس صدقة" أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط"، وحديث أبي هريرة:"رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أخرجه البزار بسند ضعيف.

قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظنّ بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار

(1)

كذا في الأصل، (ز).

ص: 292

الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العلامة القسطلاني

(2)

في تعريف المداهنة: هي معاشرة المعلن بالفسق وإظهار الرضاء بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان ولا بالقلب، انتهى.

(83 -‌

‌ باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقال معاوية: لا حلم إلا عن تجربة)

كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخة "الكرماني" و"القسطلاني":"لا حكيم إلا ذو تجربة"، وفي نسخة "الفتح":"لا حكيم إلا بتجربة"، وفي نسخة "العيني":"لا حليم إلا ذو تجربة".

قال العلامة العيني

(3)

: ومناسبة ذكر أثر معاوية للحديث الذي هو الترجمة هي أن الحليم الذي ليس له تجربة قد يقع في أمر مرة بعد أخرى، فلذلك قيَّد الحليم بذي التجربة، والحلم عبارة عن التأني في الأمور المقلقلة، والمعنى أن المرء لا يوصف بالحلم حتى يجرب الأمور، وقيل: إن من جرّب الأمور وعرف عواقبها آثر الحلم وصبر على قليل الأذى ليدفع به ما هو أكثر منه، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"

(5)

ولفظه: "قال معاوية: لا حلم إلا بالتجارب"، وأخرجه البخاري

(1)

"فتح الباري"(10/ 528).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 160).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 267).

(4)

"فتح الباري"(10/ 529، 530).

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة"(8/ 409) و (11/ 94).

ص: 293

في "الأدب المفرد"

(1)

من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال: "كنت جالسًا عند معاوية فحدث نفسه ثم انتبه فقال: لا حليم إلا ذو تجربة، قالها ثلاثًا"، وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعًا:"لا حليم إلا ذو عشرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة"، وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان، قال ابن الأثير: معناه لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها، فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها، وقال غيره: المعنى لا يكون حليمًا كاملًا إلا من وقع في زَلّة، وحصل منه خطأ فحينئذٍ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فيعفو عنه، وكذلك من جرَّب الأمور علم نفعها وضررها، فلا يفعل شيئًا إلا عن حكمة، انتهى.

قال الكرماني

(2)

: قوله: "لا يلدغ المؤمن" الحديث، قال الخطابي:"لا يلدغ" خبر ومعناه أمر، يقول: ليكن المؤمن حازمًا حذرًا لا يؤتى عن ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا، وقد يرويه بعضهم:"لا يلدغ" بكسر الغين في الوصل فيتحقق معنى النهي فيه، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: نقل النووي عن القاضي عياض: سبب هذا الحديث معروف وهو أنه صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الشاعر يوم بدر، فمنّ عليه وعاهده أن لا يحرض عليه ولا يهجوه فأطلقه، فلحق بقومه ثم رجع إلى التحريض والهجاء، ثم أسر يوم أُحد فسأله المنّ فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يلدغ المؤمن" الحديث، وذكر القسطلاني أيضًا الخلاف في أن هذا القول مثل قديم تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم أو هو أول من تكلم به فارجع إليه لو شئت.

وفي "فيض الباري"

(4)

: قوله: "لا يلدغ المؤمن. . ." إلخ، يعني: من شأن المؤمن أن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، فكأنه يكون معتبرًا

(1)

"الأدب المفرد"(ص 195)، (رقم 564).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 8).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 163، 164).

(4)

"فيض الباري"(6/ 159).

ص: 294

من الحوادث لا كالفساق لا يبالي بشيء وإن أفرغت عليه المصائب وأقيمت عليه الحدود ويبتلى بالفتن، فالمؤمن يكون فطنًا متيقظًا يتقي مواضع التهم، وإذا ابتلي مرة بشرّ لا يأتيه ثانيًا حتى لا يكون مطعنًا للناس، وهذا لا ينافي كونه أبله، فإن ترجمته (ساده)، ويقابله (جالاك)، وليست ترجمته (بيوقوف)، فالمؤمن لا يكون خداعًا، انتهى.

وفي حاشية العلامة السندي

(1)

: ولعل هذا الحديث محمول على أمور الدين كما يقتضيه اسم المؤمن، أي: ليس من شأن المؤمن على مقتضى إيمانه أن يصدّق الكاذب الذي ظهر كذبه مرة ثانية فينخدع في المرتين جميعًا لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وهذا هو مورد الحديث، وأما الانخداع في أمور الدنيا بناءً على قلة التفاته إليها وعدم اهتمامه بها فهو ممدوح مطلوب، وعليه يحمل حديث:"المؤمن غر كريم" فلا تدافع بين الحديثين، انتهى.

(84 -‌

‌ باب حق الضيف)

قد تقدم حديث الباب مشروحًا في "كتاب الصيام"، والغرض منه قوله:"وإن لزورك عليك حقًّا"، والزور بفتح الزاء وسكون الواو: الزائر، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(85 -‌

‌ باب إكرام الضيف)

قال القسطلاني

(3)

: أي: استحبابه، مصدر مضاف لمفعوله والفاعل محذوف، أي: إكرام المضيف، "و" استحباب "خدمته إياه بنفسه" من عطف الخاص على العامّ، إذ الإكرام أعم من أن يكون بالنفس أو بأحد، "وقوله" بالجر عطفًا على السابق، " {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]، قال

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 70).

(2)

"فتح الباري"(10/ 531).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 166).

ص: 295

أبو عبد الله" المؤلف: "يقال" في المفرد: "هو زور" وفي الجمع: "هؤلاء زور" فيستوي فيه الجمع والمفرد، "و" كذا "ضيف ومعناه أضيافه وزواره لأنها مصدر مثل قوم رضى وعدل" يعني: مرضيون وعدول، فالمعنى جمع واللفظ مفرد، انتهى من "القسطلاني".

ثم اعلم أن ما تقدم من قوله: "قال أبو عبد الله" إلى آخره هذا كله ساقط من نسخة "الكرماني"، وموجودة في نسخ الشروح الثلاثة من "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني" في هذا الباب، وأما في النسخة "الهندية" ففيها هذه العبارة في آخر الباب الأول.

(86 -‌

‌ باب صنع الطعام والتكلف للضيف)

ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء وهو ظاهر فيما ترجم له، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال العيني

(2)

: مطابقة الحديث بالترجمة في قوله: "فصنع له طعامًا"، انتهى.

وأنت خبير بأن الترجمة مشتملة على جزئين: صنع الطعام والتكلف للضيف.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: ولعله قصد إثبات الجزء الثاني بقوله: "كُلْ فإني صائم" فإنهم لما كانت عادتهم الصوم والتبذل فالظاهر أنهم لم يكونوا يصنعون طعامًا بالنهار وكانوا يكتفون بطعام الليل فكان صنع الطعام الجديد له تكلفًا.

ولا يبعد أن يستنبط التكلف من قوله: "فأكل"، فإنه لما اعتاد الصوم والتزمه كان الإفطار لأجل الضيف احتمالًا للكلفة من غير شك، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 534).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 272).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 31).

ص: 296

قال الحافظ

(1)

: أشار المصنف بالترجمة إلى حديث يروى عن سلمان في النهي عن التكلف للضيف ولفظه: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف" أخرجه أحمد والحاكم بسند لين، وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدّم له فرهن مطهرته بسبب ذلك، ثم قال الرجل لما فرغ:"الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة"، والجمع بينهما أنه يقرّب لضيفه ما عنده ولا يتكلف ما ليس عنده، فإن لم يكن عنده شيء فيسوغ حينئذٍ التكلفُ بالطبخ ونحوه، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: وقد كان سلمان إذا دخل عليه رجل دعا بما حضر خبزًا أو ملحًا وقال: لولا أنا نهينا أن يتكلف بعضنا لتكلفت لك، انتهى.

وتقدم شيء من الكلام على الخلاف في التكلف للضيف في "باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه" من "كتاب الأطعمة"، ثم إنه يشكل ههنا في بادئ الرأي التكرار في الترجمة، ويمكن التفصي عنه باختلاف الكتابين؛ لأنه ذكره هناك لكونه من فروع الأطعمة، وذكره ههنا لكونه من جملة الآداب، وله نظائر كثيرة في "صحيح البخاري"، وأوجه منه أن يقال في الفرق بينهما نظرًا إلى حديثي البابين واختلاف ألفاظ الترجمتين: أنه أثبت في الباب الأول التكلف للضيف المدعوّ، وأثبت ههنا التكلف للضيف الوارد غير المدعوّ، ثم إن حديث الباب قد تقدم في "كتاب الصوم" في "باب من أقسم على أخيه ليفطر".

(87 -‌

‌ باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف)

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر، وقد تقدم شرحه في "علامات النبوة" من الترجمة

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 534) و (14/ 211).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 173).

(3)

"فتح الباري"(10/ 535).

ص: 297

النبوية، وأخذ الغضب منه من قول عبد الرحمن:"فعرفت أنه يجد علي" وهي من الموجدة وهي الغضب، وقد وقع التصريح بذلك في الطريق التي بعد هذه حيث قال فيه:"فغضب أبو بكر"، انتهى.

قلت: ولا يخفى عليك أن ما ذكره الحافظ فيه إثبات الغضب وترجمة الإمام البخاري بكراهة الغضب، ومقتضاه نفي الغضب لا إثباته، ولذا قال الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: قوله: "باب ما يكره من الغضب. . ." إلخ، دلّ عليه قوله:"لم أر في الشرّ كالليلة" وقوله: "الأولى من الشيطان"، فإن مقالته هذه دلّت على أنه عدّ غضبه وحلفه وجميع ما جرى شرًا ومن أمر الشيطان، انتهى.

ويترتب على هذا كراهة الغضب وهو الترجمة، فللّه درّ الشيخ قُدِّس سرُّه.

(88 -‌

‌ باب قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل. . .) إلخ

لم تقع هذه الترجمة ولا هذا التعليق في رواية أبي ذر، وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها، وهي من هذا الوجه مختصرة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العيني

(3)

: ولم تقع هذه الترجمة ولا التعليق المذكور في رواية أبي ذر، وإنما ساق هذا الحديث الذي في هذا الباب عقيب الحديث الذي في الباب السابق، انتهى.

(89 -‌

‌ باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال)

المراد الأكبر في السنّ إذا وقع التساوي في الفضل، وإلا فيقدّم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السنّ، ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة

(1)

"لامع الدراري"(10/ 32).

(2)

"فتح الباري"(10/ 535).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 274).

ص: 298

ورافع بن خديج في قصة محيصة وحويصة، وسيأتي شرحه في "كتاب القسامة"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(90 -‌

‌ باب ما يجوز من الشعر والرجز)

قال العلامة القسطلاني

(2)

: أي: ما يجوز أن ينشد من الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصدًا، والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزونًا اتفاقًا فلا يسمى شعرًا، قوله:"الرجز" أي: وما يجوز من الرجز وهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، فعلى هذا يكون عطفه على الشعر من عطف الخاصّ على العامّ، واحتج القائل بأنه ليس بشعر بأنه يقال فيه: راجز لا شاعر، وسمي رجزًا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، يقال: رجز البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه.

وفي "المجمع"

(3)

: الرجز بحر من البحور ونوع من أنواع الشعر، يكون كل مصراع منه مفردًا، وتسمى قصائده أراجيز جمع أرجوزة، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجزًا كتسمية قائل بحور الشعر شاعرًا، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: "و" ما يجوز من "الحداء" بضم الحاء وتخفيف الدال المفتوحة المهملتين، يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبًا، ويلحق به غناء الحجيج المشوق للحج بذكر الكعبة البيت الحرام وغيرها من المشاعر العظام، وما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكيت الولد في المهد، "و" بيان "ما يكره" إنشاده "منه" من الشعر، والجائز من الشعر ما لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن الهجو وعن الإغراق في المدح والكذب المحض فالتغزل بمعين لا يسوغ، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 536).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 179).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(2/ 293).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 179، 180).

ص: 299

وزاد الحافظ

(1)

: وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها، قلت: وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدًا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز بعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في "الأدب المفرد":"ما يكره من الشعر"، وأورد فيه حديث عائشة مرفوعًا:"إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ:"أعظم الناس فرية رجل هاجى رجلًا فهجا القبيلة بأسرها" وصححه ابن حبان.

وقال الحافظ أيضًا: ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقًا بالألحان التي تشتمل عليها المُوسِيقَى، وفيه نظر، وقال الماوردي: اختلف فيه فأباحه قوم مطلقًا، ومنعه قوم مطلقًا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع وكذا أكثر الحنابلة إلى آخر ما ذكر.

وقال بعد ذكر حديث الباب: قال الطبري: في هذا الحديث ردّ على من كره الشعر مطلقًا واحتج بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان، وعن أبي أمامة رفعه:"إن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر"، ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية، وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد ألهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه، كما سيأتي تقريره

(1)

"فتح الباري"(10/ 538، 539، 540، 543).

ص: 300

بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب، إلى آخر ما بسط الحافظ.

(91 -‌

‌ باب هجاء المشركين)

الهجاء والهجو بمعنى، وأشار بهذه الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبًّا، وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أنس رفعه:"جاهدوا المشركين بألسنتكم"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وكذا حمله القسطلاني

(2)

على الاستحباب، وحمله العيني

(3)

على الجواز إذ قال: أي: هذا باب في بيان جواز الهجاء للمشركين، انتهى. لكن اختار هو أيضًا بعد ذلك الاستحباب لحديث أبي داود المذكور في كلام الحافظ.

(92 -‌

‌ باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر. . .) إلخ

أشار المصنف بهذه الترجمة إلى محمل روايات النهي والذمّ.

قال الحافظ

(4)

تحت ترجمة الباب: هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد، انتهى.

(93 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تربت يمينك" و"عقرى حلقى")

كأنه أراد جواز استعمال مثل هذه الألفاظ إذا لم تكن محمولة على حقيقة معناها، أي: الدعاء عليه.

(1)

"فتح الباري"(10/ 526).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 189).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 285).

(4)

"فتح الباري"(10/ 548).

ص: 301

(94 -‌

‌ باب ما جاء في زعموا)

قال الحافظ

(1)

: كأنه يشير إلى حديث أبي قلابة قال: "قيل لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا؟ قال: بئس مطية الرجل" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا، وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ، وفيه قولها:"زعم ابن أمي" فإن أم هاني أطلقت ذلك في حق عليّ، ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في "زعم" أنها تقال في الأمر الذي لا يوقف على حقيقته، وقال ابن بطال

(2)

: معنى هذا الحديث أن من أكثر من الحديث بما لا يتحقق صحته لم يؤمن عليه الكذب، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(3)

: وذلك لأن الإنسان إذا أراد أن يتكلم بأمر يعلم أنه كذب يصدّره بتلك الكلمة ويقول: زعم الناس كذلك، كأنه لا يحمله على نفسه ويعزوه إلى الناس احترازًا عن صريح الكذب والزور، فالمعنى أن تلك الكلمة آلة لإشاعة الزور، كما أن المطية آلة لقطع السفر، فإذا أراد الرجل أن لا يمشي على أقدامه ركب راحلته وذهب، كذلك إذا أراد أن يتكلم بالكذب ولا يحمله على نفسه قال: زعموا، فأجرى الكذب بين الناس، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

وفي المثل: زعموا مطية الكذب، انتهى.

قلت: فأشار المصنف بالترجمة وبإيراد الحديث تحته إلى جواز استعمال هذا اللفظ، خلافًا لما يتوهم من حديث أبي داود المتقدم، وذلك لأن هذا اللفظ كثيرًا ما يستعمل بمعنى القول.

قال الحافظ

(5)

: وقد وقع في حديث ضمام بن ثعلبة الماضي في

(1)

"فتح الباري"(10/ 551).

(2)

"شرح ابن بطال"(9/ 330).

(3)

"فيض الباري"(6/ 167، 168).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 197).

(5)

"فتح الباري"(10/ 551).

ص: 302

"كتاب العلم": "زعم رسولك"، وقد أكثر سيبويه في كتابه من قوله في أشياء يرتضيها: زعم الخليل، انتهى.

(95 -‌

‌ باب ما جاء في قول الرجل: ويلك)

لعله رمز إلى تضعيف الحديث الوارد عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في قصة: لا تجزعي من الويح فإنه كلمة رحمة، ولكن اجزعي من الويل" أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" بسند واه، وهو آخر حديث فيه.

وذكر المصنف في الباب تسعة أحاديث تقدمت كلها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وأفرد المصنف لهذا اللفظ بابًا مستقلًا مع أنه قد أثبت قبل باب جواز استعمال مثل هذه الألفاظ من قوله: "تربت يمينك" و"عقرى حلقى" إما لأنه ورد في منعه حديث أو لأنه أشدّ من تلك الألفاظ من حيث المعنى.

(96 -‌

‌ باب علامة الحبّ في الله لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ. . .} [آل عمران: 31]) إلخ

ذكر فيه حديث: "المرء مع من أحب".

قال الكرماني

(2)

: يحتمل أن يكون المراد بالترجمة محبة الله للعبد أو محبة العبد لله أو المحبة بين العباد في ذات الله بحيث لا يشوبها شيء من الرياء، والآية مساعدة للأولين، واتباع الرسول علامة للأولى لأنها مسببة للاتباع، وللثانية لأنها سببه، انتهى.

ولم يتعرض لمطابقة الحديث للترجمة، وقد توقف فيه غير واحد، والمشكل منه جعل ذلك علامة الحبّ في الله، وكأنه محمول على الاحتمال

(1)

"فتح الباري"(10/ 553، 554).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 34).

ص: 303

الثاني الذي أبداه الكرماني، وأن المراد علامة حبّ العبد لله، فدلّت الآية أنها لا تحصل إلا باتباع الرسول، ودلّ الخبر على أن اتباع الرسول وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به أنه قد يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك، وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه، دل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة والكون مع العاملين بذلك لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم، والمحبة من أعمال القلوب، فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية الاستواء في الدرجات، ثم ذكر الحافظ الاختلاف في سبب نزول الآية

(1)

.

وأجاد شيخ مشايخنا الشاه ولي الله الدهلوي في "تراجمه"

(2)

إذ قال: قال الزركشي: وجه مطابقة الأحاديث لباب علامة الحب غير ظاهر.

قلت: الترجمة تحلّ محلّ التفسير للحديث، فأفاد أن محبّ النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بالاتباع كأنه قال: علامة الحبّ في الله الاتباع لقوله تعالى إلخ، انتهى.

فكأن المصنف أشار بالترجمة إلى تقييد الروايات بالاتباع، وأنه لا يكفي مجرد دعوى المحبة، فإن المحب لمن يحبّ مطيع.

(فائدة): قال الحافظ

(3)

: قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث، يعني:"المرء مع من أحب" في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين"، وبلغ عدد الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ أنس الآتي، أي:"أنت مع من أحببت"، انتهى.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 558).

(2)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 458).

(3)

"فتح الباري"(10/ 560).

ص: 304

(97 -‌

‌ باب قول الرجل للرجل: اخسأ)

قال ابن بطال: اخسأ زجر للكلب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة، واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما لا ينبغي له مما يسخط الله، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال الكرماني

(2)

: قيل: هو زجر للكلب وإبعاد له، قال تعالى:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، أي: ابعدوا بُعدَ الكلاب ولا تكلمون في رفع العذاب عنكم، وكل من عصى الله سقطت حرمته، فجاز خطابه بنحوه من الغلظة والذمّ ليرجع عن ذلك، انتهى.

فغرض الترجمة إثبات جواز هذا القول لمن كان أهلًا له، وهو المستفاد من حديث الباب.

(98 -‌

‌ باب قول الرجل: مرحبًا. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا للأكثر، وفي رواية المستملي:"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبًا" قال الأصمعي: معنى قوله: مرحبًا: لقيت رحبًا وسعة، وقال الفراء: نصب على المصدر، وفيه معنى الدعاء بالرحب والسعة، وقيل: هو مفعول به، أي: لقيت سعة لا ضيقًا، انتهى.

(99 -‌

‌ باب يدعى الناس بآبائهم)

كذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخة "الفتح":"باب ما يدعى الناس بآبائهم".

قال الحافظ

(4)

: كذا للأكثر، وذكره ابن بطال بلفظ:"هل يدعى الناس" زاد في أوله: هل، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع لأم

(5)

الدرداء

(1)

"فتح الباري"(10/ 561)، "شرح ابن بطال"(9/ 333).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 36).

(3)

"فتح الباري"(10/ 562).

(4)

"فتح الباري"(10/ 563، 577).

(5)

كذا في الأصل، والصواب:"لأبي الدرداء"، (ز).

ص: 305

أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان ولفظه: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" ورجاله ثقات إلا أن في سنده انقطاعًا بين عبد الله بن أبي زكريا راويه عن أبي الدرداء [وأبي الدرداء] فإنه لم يدركه، واستغنى المصنف عنه لما لم يكن على شرطه بحديث الباب وهو حديث ابن عمر لقوله فيه:"غدرة فلان ابن فلان" فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم.

وقال ابن بطال

(1)

: في هذا الحديث ردّ لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترًا على آبائهم قلت: هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جدًا، قال ابن بطال: والدعاء بالآباء أشدّ في التعريف وأبلغ في التمييز، انتهى ملتقطًا.

وقال القسطلاني

(2)

: وفي الحديث العمل بظواهر الأمور، قال في "فتح الباري": وهو يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على من هو في نفس الأمر وهو المعتمد، انتهى.

(100 -‌

‌ باب لا يقل: خبثت نفسي)

بفتح الخاء المعجمة وضم الموحدة، ويقال: بفتح الموحدة، والضم أصوب، قال الراغب

(3)

: الخبث يطلق على الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال.

قلت: وعلى الحرام والصفات المذمومة القولية والفعلية، قال الخطابي

(4)

تبعًا لأبي عبيد

(5)

: لقست وخبثت بمعنى واحد، وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سُنَّته تبديل الاسم القبيح بالحسن، وقال غيره: معنى لقست غثت بغين معجمة ثم

(1)

"شرح ابن بطال"(9/ 335).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 216).

(3)

"المفردات"(ص 272).

(4)

"أعلام الحديث"(3/ 2209).

(5)

"غريب الحديث"(2/ 72).

ص: 306

مثلثة، وهو يرجع أيضًا إلى معنى خبثت، وقيل: معناه ساء خلقها، قال ابن أبي جمرة

(1)

: النهي عن ذلك للندب، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح، ويجمع أمورًا زائدة على المراد بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(101 -‌

‌ باب لا تسبوا الدهر)

قال العلامة العيني

(3)

: أي: هذا باب فيه المنع عن سبّ الدهر، وذكره في الترجمة بقوله:"لا تسبوا الدهر" فإنه في لفظ مسلم هكذا، ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، وروى مسلم هذا الحديث بطرق مختلفة ومتون متباينة، انتهى.

قلت: وهو آخر حديث من "سنن أبي داود".

وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه الكلام على شرح هذا الحديث في "البذل"

(4)

.

(102 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الكرم قلب المؤمن. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن، ولم يرد أن غيره لا يسمى كرمًا كما أن المراد بقوله:"إنما المفلس من ذكر"، ولم يرو أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسًا، وبقوله:"إنما الصرعة" كذلك، وكذا قوله:"لا ملك إلا الله" لم يرد أنه لا يجوز أن يسمى غيره ملكًا، وإنما أراد الملك

(1)

"بهجة النفوس"(4/ 176).

(2)

"فتح الباري"(10/ 564).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 307، 308).

(4)

"بذل المجهود"(13/ 661 - 663)، (ح 5274).

(5)

"فتح الباري"(10/ 566).

ص: 307

الحقيقي، وإن سمي غيره ملكًا، واستشهد لذلك بقوله تعالى:{إِنَّ الْمُلُوكَ} [النمل: 34]، وفي القرآن من ذلك عدة أمثلة.

ثم قال الحافظ

(1)

في شرح الحديث: وقد أخرج الطبراني والبزار من حديث سمرة رفعه: "إن اسم الرجل المؤمن في الكتب: الكرم من أجل ما أكرمه الله على الخليقة، وإنكم تدعون الحائط من العنب الكرم" الحديث، قال الخطابي ما ملخصه: إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر بمحو اسمها، ولأن في تبقية هذا الاسم لها تقريرًا لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها، فنهى عن تسميتها كرمًا، وقال:"إنما الكرم قلب المؤمن" لما فيه من نور الإيمان وهدى الإسلام، وحكى ابن بطال عن ابن الأنباري: أنهم سموا العنب كرمًا لأن الخمر المتخذة منه تحثّ على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق، فلذلك نهى عن تسمية العنب بالكرم حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المؤمن الذي يتقي شربها ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم، انتهى إلى آخر ما بسطه الحافظ.

(103 -‌

‌ باب قول الرجل: فداك أبي وأمي. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في ذكر قول الرجل بين كلامه: "فداك أبي وأمي"، الفداء بكسر الفاء والمد وبفتح الفاء ويقصر، يعني: أنت مفدى بأبي وأمي. والفداء: فكاك الأسير، يقال: فداه يفديه فداء وفدىً وفاداه يفاديه مفاداة إذا أعطى فداءه وأنقذه، وفداه بنفسه فداء إذا قال له: جُعِلْتُ فداك، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: "باب قول الرجل" لغيره "فداك" بفتح الفاء والقصر "أبي وأمي"، انتهى.

قال الكرماني

(4)

: الفداء إذا كسر أوله يمدّ ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 567).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 310، 311).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 220).

(4)

"شرح الكرماني"(22/ 43).

ص: 308

فعلى هذا يجوز أن يكون المذكور في الترجمة من لفظ فداك بفتح الفاء وكسرها، فلا وجه لقول القسطلاني:"بفتح الفاء" نظرًا إلى الضابطة المذكورة.

وسكت الشرَّاح عن غرض الترجمة، وتعرض له الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

إذ قال: قوله "باب قول الرجل. . ." إلخ، بيَّنه لما في ظاهره مظنة الكراهة لترك حرمة الأب ولأنه لا يملكه حتى يفديه، انتهى.

وفي هامشه: قال النووي: فيه جواز التفدية بالأبوين، وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقًا؛ لأنه ليس فيه حقيقة فداء، وإنما هو كلام وإلطاف وإعلام لمحبته له ومنزلته، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقًا، انتهى.

نعم قد تعرض الحافظ وغيره من الشرَّاح لغرض الترجمة الآتية وذكروا فيها الخلاف كما سيأتي، وكأنهم جعلوا حكم ما ذكر في الترجمتين واحدًا، يعني: جعلوا تفدية الرجل بنفسه وبأبويه في حكم واحد.

(104 -‌

‌ باب قول الرجل: جعلني الله فداك)

أي: هل يباح أو يكره؟ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه، غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبي صلى الله عليه وسلم قائلَ ذلك ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره.

وقد ترجم أبو داود نحو هذه الترجمة وساق حديث أبي ذر: "قلت

(1)

"لامع الدراري"(10/ 37).

ص: 309

للنبي صلى الله عليه وسلم: لبيك وسعديك، جعلني الله فداك" الحديث، وكذا أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" في الترجمة، قال الطبراني: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك، وأما ما رواه مبارك بن فضالة عن الحسن قال: "دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاكٍ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك، قال: ما تركت أعرابيتك بعد"، ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة، وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض، إما بالتأنيس والملاطفة وإما بالدعاء والتوجع.

قال الحافظ: ويمكن أن يعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره لأن نفسه أعز من أنفس القائلين وآبائهم، والجواب أن الأصل عدم الخصوصية، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

وقال العلامة الكرماني

(2)

بعد ذكر حديث الباب: قال ابن بطال: فيه ردّ قول من لم يجوِّز تفدية الرجل بنفسه أو بأبويه، وزعم أنه إنما فدى النبي صلى الله عليه وسلم سعدًا بأبويه لأنهما كانا مشركين، فأما المسلم فلا يجوز له ذلك، انتهى.

(105 -‌

‌ باب أحبّ الأسماء إلى الله، وقول الرجل لصاحبه: يا بني)

كذا في النسخة "الهندية" بزيادة: "قول الرجل. . ." إلخ، ولم يذكره هذه الزيادة في نسخة من نسخ الشروح، ولا في المتون المصرية الأخر الموجودة عندنا، ولم يتعرض له أحد من الشرَّاح، وليس له ذكر في حديث الباب، فالظاهر أنه من تصرف النساخ، والله أعلم بحقيقة الحال.

والأوجه عندي على ثبوت هذه النسخة أنه من الأصل الثامن والثلاثين

(1)

"فتح الباري"(10/ 569).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 44).

ص: 310

من أصول التراجم، وهذا أصل مطرد تقدمت نظائره في "مقدمة اللامع"، فكأنه أشار بذلك إلى روايات وردت في ذلك، وقد ترجم الإمام الترمذي في "جامعه":"باب ما جاء يا بني"، وذكر فيه حديث أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا بني".

وكتب الشيخ في "الكوكب"

(1)

تحت ترجمة الباب: يعني أنه ليس سبًّا إنما هي كلمة ترحم وتلطف تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "أحب الأسماء إلى الله. . ." إلخ، ورد بهذا اللفظ حديث أخرجه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر رفعه:"إن أحبّ أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن"، قال القرطبي: يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد، وإنما كانت أحبّ إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله، وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية، ثم أضيف العبد إلى الربّ إضافة حقيقة، فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة، وقال غيره: الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما؟ قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وقال في آية أخرى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63]، وقد أخرج الطبراني من حديث [أبي] زهير الثقفي رفعه:"إذا سميتم فعبِّدوا"، ومن حديث ابن مسعود رفعه:"أحبّ الأسماء إلى الله ما تعبد به"، وفي إسناد كل منهما ضعف، انتهى.

(1)

"الكوكب الدري"(3/ 424)، (ح 2831).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 38).

(3)

"فتح الباري"(10/ 570)، "المفهم"(5/ 453).

ص: 311

(106 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي)

قال العلامة القسطلاني

(1)

: قوله: "لا تكتنوا" بسكون الكاف وفتح الفوقية وضم النون، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي:"ولا تكنوا" بفتح الكاف والنون المشددة على حذف إحدى التائين أو بسكون الكاف وضم النون، "بكنيتي" بالياء.

قال في "الفتح"

(2)

: وللأصيلي: "بكنوتي" بالواو بدل التحتية وهي بمعناها، تقول: كنيته وكنوته بمعنى، والكنية ما أوله أب أو أم، والاسم ما عري عنه، "قاله أنس. . ." إلخ، فيما سبق موصولًا في البيوع وصفة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:"سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي"، انتهى بزيادة من "الفتح".

وأما حديث الباب أعني حديث جابر فقد تقدم في "أبواب الخمس"، وما قاله القسطلاني تقدم موصولًا في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم"، قاله تبعًا للحافظ، وهو زَلَّة قلم والصواب بدله: في "باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم".

ومسألة الباب خلافية شهيرة، تقدمت الإشارة إليها في الباب المذكور، قال النووي: اختلف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: الأول: المنع مطلقًا سواء كان اسمه محمدًا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي، والثاني: الجواز مطلقًا ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم، والثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره، قال الرافعي: يشبه أن يكون هذا هو الأصح لأن الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار، وتعقب النووي كلام الرافعي هذا كما في "الفتح".

قال الحافظ: وبالمذهب الأول قال الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم، وحكى الطبري مذهبًا رابعًا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقًا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقًا، ثم ساق

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 224).

(2)

"فتح الباري"(10/ 572).

ص: 312

من طريق سالم بن أبي الجعد: كتب عمر: لا تسموا أحدًا باسم نبي، واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه عن أنس رفعه:"يسمونهم محمدًا ثم يلعنونهم" وهو حديث أخرجه البزار وأبو يعلى أيضًا وسنده لين. وحكى غيره مذهبًا خامسًا وهو المنع مطلقًا في حياته، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد فيمتنع وإلا فيجوز، إلى آخر ما بسط الحافظ في الدلائل والروايات الواردة فيه، ثم قال: وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكيُّ أخيرًا مع غرابته، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"

(2)

: والأصح أن النهي مقيَّد بزمان حياته صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وفي هامشه: وهو مختار صاحب "الدر المختار" إذ قال

(3)

: ومن كان اسمه محمدًا لا بأس بأن يكنى أبا القاسم لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" قد نسخ؛ لأن عليًّا كنى ابنه محمد ابن الحنفية: أبا القاسم، انتهى.

وقال القاضي في "الشفاء"

(4)

: حمل محققو العلماء نهيه صلى الله عليه وسلم على مدة حياته وأجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة، وللناس فيه مذاهب، وما ذكرنا هو مذهب الجمهور، والصواب إن شاء الله تعالى، انتهى.

قال النووي

(5)

: هذا مذهب مالك، انتهى.

(107 -‌

‌ باب اسم الحزن)

بفتح المهملة وسكون الزاي: ما غلظ من الأرض وهو ضدّ السهل، واستعمل في الخلق يقال: في فلان حزونة، أي: في خلقه غلظة وقساوة، قاله الحافظ

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 572 - 574).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 425).

(3)

"ردّ المحتار"(9/ 598).

(4)

"الشفاء"(2/ 218).

(5)

"شرح النووي"(7/ 368).

(6)

"فتح الباري"(10/ 574).

ص: 313

(108 -‌

‌ باب تحويل الاسم إلى اسم هو أحسن منه)

قال الحافظ

(1)

: هذه الترجمة منتزعة مما أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عروة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح حوَّله إلى ما هو أحسن منه" وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه، وقال أيضًا: وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم"(وقد تقدم مفصّلًا في "باب ما يدعى الناس بآبائهم")، قال أبو داود: وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم العاصَ وعتلةَ - بفتح المهملة والمثناة بعدها لام - وشيطان وغراب وحباب - بضم المهملة وتخفيف الموحدة - وشهاب وحرب وغير ذلك، ثم ذكر الحافظ تعيين هؤلاء، وقال في آخره: وأسانيدها مبينة في كتابي في الصحابة، انتهى.

(109 -‌

‌ باب من سمى بأسماء الأنبياء)

قال الحافظ

(2)

: في هذه الترجمة حديثان صريحان: أحدهما: أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم"، وثانيهما: أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي وهب الجُشَمِي رفعه: "تسمَّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام"، وكأنّ المؤلف رحمه الله لما لم يكونا على شرطه اكتفى بما استنبطه من أحاديث الباب، وأشار بذلك إلى الردّ على من كره ذلك كما تقدم عن عمر أنه أراد أن يغير أسماء أولاد طلحة وكان سماهم بأسماء الأنبياء، انتهى.

قال الحافظ

(3)

أيضًا في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سموا باسمي. . ."

(1)

"فتح الباري"(10/ 575 - 577).

(2)

"فتح الباري"(10/ 578).

(3)

"فتح الباري"(10/ 573).

ص: 314

إلخ: أخرج أحمد والطبراني من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أرسل عمر إلى بني طلحة وهم سبعة يغيِّر أسماءهم فقال له محمد وهو كبيرهم: والله لقد سمّاني النبي صلى الله عليه وسلم محمدًا، فقال: قوموا فلا سبيل إليكم" قال الحافظ: فهذا يدلّ على رجوعه عن ذلك، انتهى.

وفي "القسطلاني"

(1)

: كره مالك التسمية بأسماء الملائكة كجبريل، وقال أيضًا: وفي هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وقد ثبت عن سعيد بن المسيب أنه قال: أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء، انتهى.

قوله: (ولو قضى أن يكون. . .) إلخ، كتب الشيخ قدس سره في "اللامع"

(2)

: وهذا حكم منه بحسب ظنه لما تفرس في إبراهيم من أمارات النجابة وخلال السعادة، فحاصله أنه لو كان بعده نبي لكان إبراهيم، لا أنه لو كان إبراهيم حيًّا لكان نبيًّا لا محالة فإن العكس غير لازم، انتهى.

وبسط العلامة السندي

(3)

أيضًا الكلام على شرح هذا الحديث فارجع إليه لو شئت.

(110 -‌

‌ باب تسمية الوليد)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: يعني بذلك جواز تسمية المسلم بشيء من أسماء أهل الشرك إذا لم يتضمن شيئًا من المعاني القبيحة، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: ورد في كراهة هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمي الرجل عبده أو ولده

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 226 - 233).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 41).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 80، 81).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 42).

(5)

"فتح الباري"(10/ 580).

ص: 315

حربًا أو مُرّة أو وليدًا" الحديث، وسنده ضعيف جدًا، وورد فيه أيضًا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" والبيهقي في "الدلائل" من طريقه عن سعيد بن المسيب قال: ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه"، ثم بسط الحافظ الكلام على ثبوت هذا الحديث وعدمه، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات".

وقال العلامة القسطلاني

(1)

: وفي حديث معاذ بن جبل عند الطبراني أيضًا قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكر حديثًا فيه قال: "الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام يبوء بدمه رجل من أهل بيته"، وسنده ضعيف جدًا، وفسر بالوليد بن يزيد بن عبد الملك لفتنة الناس به حتى خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك، انتهى.

(111 -‌

‌ باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفًا)

كذا اقتصر على حرف، وهو مطابق لحديث عائشة في عائش، ولحديث أنس في أنجش، وأما حديث أبي هريرة فنازع ابن بطال في مطابقته فقال: ليس من الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير، وذلك أنه كناه أبا هريرة، وهريرة تصغير هرة، فخاطبه باسمها مذكرًا فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى.

قلت: وهو نقص في الجملة لكن كون النقص منه حرفًا فيه نظر، وكأنه لحظ الاسم قبل التصغير وهي هرة، فإذا حذفت التاء الأخيرة صدق أنه نقص من الاسم حرفًا، وقد ترجم في "الأدب المفرد" مثله، لكن قال:"شيئًا" بدل "حرفًا"، إلى آخر ما ذكر الحافظ في "الفتح"

(2)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 234).

(2)

"فتح الباري"(10/ 581).

ص: 316

(112 -‌

‌ باب الكنية لصبي قبل أن يولد للرجل)

قال العلامة السندي

(1)

: وفي نسخة: "قبل أن يلد الرجل" والمعنى، أي: قبل أن يصير رجلًا فيولد له أو فيلد، والله أعلم، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: ذكر فيه قصة أبي عمير وهو مطابق لأحد ركني الترجمة، والركن الثاني مأخوذ من الإلحاق بل بطريق الأولى، وأشار بذلك إلى الردّ على من منع تكنية من لم يولد له مستندًا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجه وأحمد والطحاوي وصححه الحاكم من حديث صهيب:"أن عمر قال له: ما لك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني"، وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال:"كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم"، انتهى.

وتعقب العيني

(3)

قول الحافظ: أن الركن الثاني مأخوذ بالإلحاق، إذ قال: هذا كلام غير موجه لأن جواز التكني للصبي لا يستلزم جواز التكني للرجل قبل أن يولد له، فكيف يصح الإلحاق به فضلًا عن الأولوية؟! والظاهر أنه لم يظفر بحديث على شرطه مطابق للجزء الثاني، فلذلك لم يذكر له شيئًا، انتهى.

وحكى القسطلاني تعقبَ العيني وسكت عليه.

قلت: والتعقب ليس بوجيه عندي، وسبق إلى وجه المطابقة الذي ذكره الحافظ ابن بطال أيضًا، قال الكرماني

(4)

: قال ابن بطال: بناء الكنية إنما هي على معنى التكرمة والتفاؤل له أن يكون أبا وأن يكون له ابن، وإذا جاز للصبي في صغره فالرجل قبل أن يولد له أولى بذلك، انتهى.

قال القسطلاني: وحديث الباب فيه فوائد جمعها أبو العباس بن القاصّ

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 81).

(2)

"فتح الباري"(10/ 582).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 323).

(4)

"شرح الكرماني"(22/ 53).

ص: 317

من الشافعية في جزء مفرد، وسبقه إلى ذلك أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث، ثم الترمذي في "الشمائل"، ثم الخطابي، انتهى.

قلت: ووجهه ما ذكره الحافظ في "الفتح" إذ قال: ذكر ابن القاصّ في أول كتابه: أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك لحديث أبي عمير هذا قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهًا، ثم ساقها مبسوطة.

قال الحافظ: فلخصتها مستوفيًا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه ثم ذكرها، فارجع إليه لو شئت

(1)

.

(113 -‌

‌ باب التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى)

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه قصة علي بن أبي طالب في ذلك، وقد تقدمت بأتم من هذا السياق في مناقبه، وفيه بيان الاختلاف في سبب ذلك وأن الجمع بينهما ممتنع، ثم ظهر لي إمكان الجمع، وقد ذكرته في بابه من "كتاب الاستئذان"، انتهى.

وقال في "المناقب": ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك، وروى ابن إسحاق من طريقه وأحمد من حديث عمار بن ياسر قال:"نِمت أنا وعلي في غزوة العسيرة في نخل، فما أفقنا إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله يقول لعلي: قم يا أبا تراب، لما يُرى عليه من التراب"، وهذا إن ثبت حمل على أنه خاطبه بذلك في هذه الكائنة الأخرى، إلى آخر ما ذكر.

وذكره الحافظ ههنا أيضًا في آخر الباب وزاد: وغزوة العشيرة كانت

(1)

راجع: "فتح الباري"(10/ 584).

(2)

"فتح الباري"(7/ 72) و (10/ 587، 588).

ص: 318

في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج عليّ فاطمة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه في حق علي، ثم قال: ويستفاد من الحديث جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، وذكر فوائد أُخر.

قال العلامة العيني

(1)

: مطابقة الحديث للترجمة في آخر الحديث، انتهى.

قلت: أي: في قوله: "اجلس يا أبا تراب"، وأوضحه الكرماني

(2)

فقال: فإن قلت: ما وجه دلالته على الكنيتين وهو الجزء الآخر من الترجمة؟ قلت: أبو الحسن هو الكنية المشهورة لعلي رضي الله عنه فلما كني بأبي تراب صار ذا كنيتين، انتهى.

قلت: ويخطر بالبال - والله أعلم بحقيقة الحال - أن المصنف أشار بالجزء الأول من الترجمة إلى جواز التكني بأبي تراب دفعًا لما يتوهم أن فيه نوع مذلة.

(114 -‌

‌ باب أبغض الأسماء إلى الله تبارك وتعالى

قال الحافظ

(3)

: كذا ترجم بلفظ "أبغض" وهو بالمعنى، وقد ورد بلفظ "أخبث" بمعجمة وموحدة ثم مثلثة، وبلفظ "أغيظ"، وهما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولابن أبي شيبة عن مجاهد بلفظ:"أكره الأسماء"، ونقل ابن التِّين عن الداودي قال: ورد في بعض الأحاديث: "أبغض الأسماء إلى الله خالد ومالك" قال: وما أراه محفوظًا لأن في الصحابة من يسمى بهما، قال: وفي القرآن تسمية خازن النار مالكًا، قال: والعباد وإن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى، انتهى كلامه.

فأما الحديث الذي أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث، ثم رأيت

(1)

"عمدة القاري"(15/ 324).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 54).

(3)

"فتح الباري"(10/ 588، 589).

ص: 319

في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "أحب الأسماء إلى الله ما سمي به، وأصدقها الحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره" فلم يضبط الداودي لفظ المتن أو هو متن آخر اطلع عليه، وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض الملائكة فليس بواضح لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئًا، وأما احتجاجه لجواز التسمية بخالد بما ذكر من أن الأرواح لا تفنى، فعلى تقدير التسليم فليس بواضح أيضًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] والخلد: البقاء الدائم بغير موت، فلا يلزم من كون الأرواح لا تفنى أن يقال صاحب تلك الروح: خالد، انتهى.

قوله: (تفسيره شاهان شاه) قال الحافظ

(1)

: وقد تعجب بعض الشرَّاح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية، وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده، وذلك أن لفظ "شاهان شاه" كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر، فنبّه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمّه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدّى معناه بأيِّ لسان كان فهو مراد بالذمّ، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الترمذي:"مثل شاهان شاه"، وقوله:"شاهان شاه" هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحكى عياض عن بعض الروايات "شاهٍ شاه" بالتنوين بغير إشباع في الأولى والأصل هو الأولى، وهذه الرواية تخفيف منها، وزعم بعضهم أن الصواب "شاه شاهان"، وليس كذلك لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا:"موبذان موبذ"، فموبذ هو القاضي وموبذان جمعه، فكذا شاه هو الملك وشاهان هو الملوك، انتهى.

وهكذا قال الكرماني

(2)

حيث قال: معناه ملك الملوك، لكن في

(1)

"فتح الباري"(10/ 590).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 54).

ص: 320

قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: قوله: "شاهان شاه" الظاهر أنه من التركيب المقلوب كقولهم: "سرا برده"، انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه هو كذلك، أي: أنه من التركيب المقلوب، وما قال الشرَّاح كما تقدم من أن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف فإنما هو في اللغة الهندية، وأما في اللغة الفارسية فليس كذلك، بل القاعدة عندهم تقديم المضاف على المضاف إليه كما هو في اللغة العربية، فتأمل.

(115 -‌

‌ باب كنية المشرك)

قال الحافظ

(2)

: أي: هل يجوز ابتداء؟ وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته أو ذكره بها؟ وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير ويلتحق به الثاني في الحكم، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: دَفَعَ به مظنة الكراهة لما فيه من الاحترام والإعزاز بحسب الظاهر، انتهى.

قلت: وقد قيّد العلماء جواز تكنية المشرك بالشرائط والمصالح، فقد ترجم الإمام النووي في كتاب "الأذكار"

(4)

: "باب جواز تكنية الكافر والمبتدع والفاسق إذا كان لا يعرف إلا بها أو خيف من ذكره باسمه فتنة"، ثم ذكر تحت ترجمة الباب: قال تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] واسمه عبد العزى، قيل: ذكر تكنيته لأنه بها يعرف، وقيل: كراهةً لاسمه حيث جعل عبدًا للصنم، وتكرر في الحديث تكنية أبي طالب واسمه عبد مناف، وفي "الصحيح":"هذا قبر أبي رغال"، ونظائر هذا كثيرة، هذا

(1)

"لامع الدراري"(10/ 42).

(2)

"فتح الباري"(10/ 592).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 44).

(4)

"كتاب الأذكار"(ص 423).

ص: 321

كله إذا وجد الشرط الذي ذكرناه في الترجمة، فإن لم يوجد لم يزد على الاسم، إلى آخر ما ذكر.

وتعقب عليه الحافظ في "الفتح" فارجع إليه لو شئت، وقال أيضًا: قال ابن بطال: في الحديث جواز تكنية المشركين على وجه التألف إما رجاءً لإسلامهم أو لتحصيل منفعة منهم

(1)

، انتهى.

(116 -‌

‌ باب المعاريض مندوحة عن الكذب)

قال الحافظ

(2)

: "مندوحة" بوزن مفعولة بنون ومهملة، أي: فسحة ومتسع، ندحت الشيء وسعته، وانتدح فلان بكذا اتسع، والمعنى أن في المعاريض من الاتساع ما يغني عن الكذب، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال:"صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرًا، وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب" وأخرجه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعًا ووهّاه.

ثم قال الحافظ: والمعاريض جمع معراض من التعريض بالقول، قال الجوهري: وهو خلاف التصريح وهو التورية بالشيء عن الشيء، وقال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب أو باطن وظاهر، قلت: والأولى أن يقال: كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه، ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض والكناية، وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك، انتهى.

قال الكرماني

(3)

: وفي المثل: إن في المعاريض لمندوحة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 592).

(2)

"فتح الباري"(10/ 594).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 58).

ص: 322

وبسط الحافظ

(1)

الكلام في مطابقة حديثي الباب للترجمة، وقال الكرماني

(2)

: قال شارح

(3)

التراجم: حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من باب المجاز، ولعل البخاري لما رأى ذلك جائزًا قال: فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

: ومحل جواز استعمال المعاريض إذا كانت فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق، وأما استعمالها في إبطال حق أو تحصيل باطل فلا يجوز، انتهى.

(117 -‌

‌ باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق. . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: قوله: "قول الرجل: ليس بشيء" يعني بذلك أنه لا يعدّ كذبًا، فإن المراد أنه ليس بشيء معتدّ به، وقوله:"قرّ الدجاجة" أي: كما يقرّ الدجاجة النطفة في فرج امرأتها، انتهى.

وهذا المعنى ذكره القاري أيضًا في "المرقاة"

(6)

، ولم يذكره شرَّاح البخاري.

(118 -‌

‌ باب رفع البصر إلى السماء. . .) إلخ

قال ابن التِّين: غرض البخاري الردّ على من كره أن يرفع بصره إلى السماء، كما أخرجه الطبري عن إبراهيم التيمي وعن عطاء السلمي: أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء تخشعًا، نعم صحّ النهي عن رفع

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 595).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 60).

(3)

هو: ابن المنير كما في "القسطلاني"، (ز).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 247).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 44، 45).

(6)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 359، 360).

ص: 323

البصر إلى السماء في حالة الصلاة، كما تقدم في الصلاة عن أنس رفعه:"ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" الحديث، والجمع بين الحديثين أن النهي خاصّ بالصلاة

(1)

، انتهى مختصرًا.

وهكذا في "شرح الكرماني" إذ قال: قال ابن بطال: فيه ردّ على أهل الزهد في قولهم: إنه لا ينبغي النظر إلى السماء تخشعًا وتذللًا لله سبحانه وتعالى، انتهى من "الفتح".

وقال القسطلاني

(2)

: ويحكى أن في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلّته سحابة فعبدها فتى فلم تظله، فقالت له أمه: لعل فرطة فرطتْ منك في مدتك، قال: ما أذكر، قالت: لعلك نظرتَ مرةً إلى السماء ولم تعتبر، قال: لعل، قالت: فما أتيت إلا من ذاك، انتهى.

(119 -‌

‌ باب من نكت العود بين الماء والطين)

قال الحافظ

(3)

: النكت بالنون والمثناة: الضرب المؤثر، ذكر فيه حديث أبي موسى وقد تقدم مطوّلًا في المناقب، وهو ظاهر فيما ترجم له، وفقه الترجمة أن ذلك لا يعدّ من العبث المذموم؛ لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، انتهى بزيادة من "العيني".

وقال القسطلاني

(4)

: والنكت بالعصا يقع كثيرًا عند التفكر في شيء لكن لا يسوغ استعماله، إلا فيما لا يضر، فلو ضرّ بجدارٍ أو غيره منع، والحديث مر في المناقب، انتهى.

قلت: ومما يقوي الاحتياج إلى عقد هذه الترجمة ما يتوهم من عدم جوازه لما في "المشكاة"

(5)

برواية الترمذي وابن ماجه من حديث

(1)

"فتح الباري"(10/ 596)، "شرح الكرماني"(22/ 63).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 251).

(3)

"فتح الباري"(10/ 597)، "عمدة القاري"(15/ 334).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 252).

(5)

"مشكاة المصابيح"(رقم 3872).

ص: 324

عقبة بن عامر رفعه: "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسَه وملاعبته امرأتَه فإنهن من الحق" الحديث، وذلك لأن اللهو الباطل ما لا منفعة فيه ولا طائل تحته، ووقوع هذا النكت كما تقدم إنما يكون عند التفكر في شيء فلا يعدّ مذمومًا، ويأتي ترجمة المصنف في "كتاب الاستئذان""باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله. . ." إلخ، ولمح صاحب "الفيض"

(1)

إلى غرض آخر إذ قال: ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مخالفًا للوقار والمتانة، انتهى.

(120 -‌

‌ باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض)

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له"، ومضى بأتم من هذا السياق في تفسير سورة {وَاللَّيْلِ} ، والغرض منه قوله:"ينكت في الأرض بعود"، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: وهذا الفعل يقع غالبًا ممن يتفكر في شيء يريد استحضار معانيه، انتهى.

قلت: ولعل التبويب بهذه الترجمة مع أن معناه قد تقدم في الباب السابق إشارة منه إلى مزيد الاهتمام في أمر التفكر والتدبر، وإلا فأصل النكت قد ثبت جوازه في الباب السابق، وقد ورد الحثّ والتحريض في عدة آيات من القرآن في الأمر بالتفكر بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]، فتأمل فإنه لطيف.

(121 -‌

‌ باب التكبير والتسبيح عند التعجب)

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن،

(1)

"فيض الباري"(6/ 183).

(2)

"فتح الباري"(10/ 597).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 253).

(4)

"فتح الباري"(10/ 598).

ص: 325

وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى، وهذا توجيه جيد، كأن البخاري رمز إلى الردّ على من منع من ذلك، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: وفي الترجمة دلالة على ردّ ما قال بعضهم: إن من قال لآخر: كل، فقال: اذكروا باسم الله، كفر، ووجه الردّ ظاهر، فإن في الحديث وضع اسم الله موضع كلام الناس كما في مسألة "بسم الله" فافهم، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(2)

: أباح المصنف إخراج الأذكار عن معناها واستعمالها في غيره، وهو ثابت في السلف ثبوتًا لا مردّ له، وحينئذ ينبغي أن يؤوّل ما في "الدر المختار": أن الطلبة إن اصطلحوا على أن يكبروا أو يسبحوا عند ختم الدرس فهو مكروه؛ لأنه إخراج الذكر عن مدلوله، نعم إن كان إخراجه إلى محل ممتهن فله وجه كما ذكره الحنفية أن السائل إن ذكر اسم الله على الباب لا يقول السامع:"جل جلاله" أو كلمة تدل على عظمته تعالى، وإن كان أدبًا في عامة الأحوال، وذلك لأنه قال باسمه في موضع لم يكن له ذلك، انتهى.

(122 -‌

‌ باب الخذف)

هكذا في النسخة "الهندية"، وفي نسخ الشروح الأربعة من "الكرماني" "والفتح" و"العيني" و"القسطلاني":"باب النهي عن الخذف"، وهو بفتح الخاء وسكون الذال المعجمتين وبالفاء، وهو: رمي الحصا بالأصابع، قاله القسطلاني

(3)

.

وقال تحت حديث الباب: والغرض النهي عن أذى المسلمين، وهو من آداب الإسلام، والحديث مر في الصيد وغيره، انتهى.

قلت: وقد ترجم هناك "باب الخذف والبندقة"، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 45، 46).

(2)

"فيض الباري"(6/ 184).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 255، 256).

ص: 326

(123 -‌

‌ باب الحمد للعاطس)

أي: مشروعيته، فظاهر الحديث يقتضي وجوبه لثبوت الأمر الصريح به، ولكن نقل النووي الاتفاق على استحبابه، وأما لفظه فنقل ابن بطال وغيره عن طائفة أنه لا يزيد على: الحمد لله، كما في حديث أبي هريرة الآتي بعد بابين، وعن طائفة: يقول: الحمد لله على كل حال، قال: وقد جاء النهي عن ابن عمر أخرجه الترمذي قال: "عطس رجل فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: الحمد لله والصلاة على رسول الله ولكن ليس هكذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعند الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري رفعه:"إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال"، ومثله عند أبي داود من حديث أبي هريرة، وعن طائفة: يقول: الحمد لله رب العالمين.

قلت: ورد ذلك في حديث لابن مسعود أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" والطبراني، وورد الجمع بين اللفظين فعنده في "الأدب المفرد" عن علي بلفظ:"الحمد لله رب العالمين على كل حال"، وهذا موقوف رجاله ثقات، إلى آخر ما بسط الحافظ في تلك الروايات وفي آداب العاطس، فارجع إليه لو شئت

(1)

.

وقال العلامة القسطلاني

(2)

: والحكمة فيه كما قاله الحليمي أن العطاس يدفع الأذى عن الدماغ الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحسّ، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنه نعمة جليلة يناسب أن تقابل بالحمد لما فيه من الإقرار لله بالحق والقدرة وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع، انتهى ملتقطًا.

(1)

راجع: "فتح الباري"(10/ 600).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 256).

ص: 327

(124 -‌

‌ باب تشميت العاطس إذا حمد الله)

قال الحافظ

(1)

: أي: مشروعية التشميت بالشرط المذكور، ولم يعين الحكم، وقد ثبت الأمر بذلك كما في حديث الباب، انتهى.

وقال العلامة الكرماني

(2)

: التشميت بالمعجمة أصله إزالة شماتة الأعداء، والتفعيل للسلب فاستعمل للدعاء بالخير لا سيما بلفظ: يرحمكم الله، وبالمهملة بكونه على سمت حسن، انتهى.

وبسط الكلام على ذلك في "الأوجز"

(3)

في لغته، هل هو بالشين المعجمة أو المهملة، واختلافهم في حكمه وغير ذلك من المباحث، أما حكمه فظاهر الأمر الوارد في الحديث الوجوبُ، وبه قال ابن المزين من المالكية: وبه قال جمهور أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وقوّاه ابن القيم في حواشي السنن، وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية ورجحه ابن رُشد وابن العربي، وبه قال الحنفية وجمهور الحنابلة، وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية.

وقال العيني: وعند جمهور العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة أنه فرض كفاية، انتهى من هامش "اللامع"

(4)

.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فقال الكرماني

(5)

: فإن قيل: الترجمة في التشميت للحامد وحديث البراء عامّ؟ قلت: هو وإن كان مطلقًا لكن لا بد من التقييد بالحامد للحديث الذي بعده والذي قبله حملًا للمطلق على المقيد، قال ابن بطال: كان ينبغي للبخاري أن يذكر حديث أبي هريرة في هذا الباب، قال: وهذا الباب من الأبواب التي عجلت المنية عن تهذيبه، لكن المعنى المترجم به مفهوم منه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(10/ 603).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 67).

(3)

"أوجز المسالك"(17/ 224 - 228).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 47).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 260).

ص: 328

(125 -‌

‌ باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب)

قال العلامة القسطلاني

(1)

: العطاس بضم العين، والتثاؤب بالفوقية ثم المثلثة والواو بغير همز في الفرع وأصله، قال في "الكواكب": وهو بالهمز على الأصح، وهو تنفس ينفتح منه الفم من الامتلاء وثقل النفس وكدورة الحواسّ، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيها منصرف إلى سببهما، وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسامّ وعدم الغاية في الشبع، وهو بخلاف التثاؤب، فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئًا عن كثرة الأكل والتخليط فيه، والأول يستدعي النشاط في العبادة والثاني على عكسه، انتهى.

(126 -‌

‌ باب إذا عطس كيف يشمّت)

بفتح الميم المشددة على صيغة المجهول، ثبت بحديث الباب أنه يقول له:"يرحمك الله".

قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له: "يرحمك الله"، يخصّه بالدعاء وحده، وقد أخرج البيهقي في "الشعب" وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه:"لما خلق الله آدم عطس فألهمه ربّه أن قال: الحمد لله، فقال له ربّه: يرحمك الله"، وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال:"يقول: يرحمنا الله وإياكم"، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أبي جمرة:"سمعت ابن عباس إذا شمّت يقول: عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله"، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 260).

(2)

"فتح الباري"(10/ 607).

(3)

"فتح الباري"(10/ 608، 609).

ص: 329

(127 -‌

‌ باب لا يشمّت العاطس إذا لم يحمد الله)

أورد فيه حديث أنس الماضي في "باب الحمد للعاطس"، وكأنه أشار إلى أن الحكم عامّ وليس مخصوصًا بالرجل الذي وقع له ذلك، وأخرج مسلم من حديث أبي موسى بلفظ:"إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمّتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه"، قال النووي: مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمّت، قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه، الجمهور على الثاني، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

.

(128 -‌

‌ باب إذا تثاوب فليضع يده على فيه)

قال الحافظ

(2)

: كذا للأكثر، وللمستملي "تثاءب" بهمزة بدل الواو، وقد أنكر الجوهري كونه بالواو، وقال غير واحد: إنهما لغتان، وبالهمز والمد أشهر، انتهى.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فقال الكرماني

(3)

: فإن قلت: أين وجه دلالته على وضع اليد على الفم؟ قلت: عموم الردّ، إذ قد يكون ذلك بالوضع كما يكون بتطبيق الشفة على الأخرى مع أن الوضع أسهل وأحسن، قال ابن بطال: ليس في الحديث الوضع، ولكن ثبت في بعض الروايات:"إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه"، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وقد وقع في بعض طرقه صريحًا أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه"، ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة، انتهى.

قال العلامة العيني

(5)

: فإن قلت: أكثر روايات "الصحيحين" أن التثاوب مطلق وجاء مقيدًا بحالة الصلاة في رواية لمسلم من حديث

(1)

"فتح الباري"(10/ 610).

(2)

"فتح الباري"(10/ 611).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 71).

(4)

"فتح الباري"(10/ 611).

(5)

"عمدة القاري"(15/ 344).

ص: 330

أبي سعيد: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع".

قلت: قال شيخنا زين الدين رحمه الله: يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، انتهى.

وقال العلامة القسطلاني

(1)

: ولم يتعرض لأيّ اليدين يضعها، ووقع في "صحيح أبي عوانة" أنه قال عقب الحديث: ووضع سهيل - يعني: راويه عن أبي سعيد عن أبيه - يده اليسرى على فيه، وهو محتمل لإرادة التعليم خوف إرادة وضع اليمنى بخصوصها، انتهى.

وهذا آخر "كتاب الأدب" أدَّبنا الله تعالى بآداب الإسلام بفضله العييم، وعصمنا من نزغات الشيطان وزَلّات الأقدام بلطفه الكريم.

وأما براعة الاختتام فقال الحافظ: البراعة في قوله: "فليرده ما استطاع"، وعندي في قوله:"يرحمك الله" فإنه كالنص على ذلك لما في حديث سلمة بن الأكوع عند البخاري لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن الأكوع: "يرحمه الله"، قال رجل من القوم:"وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به"، وهكذا في العرف لفظ المرحوم يختص بالميت

(2)

.

* * *

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 264، 265).

(2)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 112، 118).

ص: 331

79 -

‌ كتاب الاستئذان

قال العلامة القسطلاني

(1)

: وهو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، وقد أجمعوا على مشروعيته، وتظاهرت به دلائل القرآن والسُّنَّة، انتهى.

قال القاري في "المرقاة"

(2)

: الاستئذان بسكون الهمز ويبدل ياء، ومعناه: طلب الإذن، والأصل فيه قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآيات، انتهى.

قلت: هذه الآية واقعة في أول سورة النور وفيها في الاستئذان آية أخرى في آخر تلك السورة وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الآيات [النور: 58]، قال صاحب "تَارِيْخ الخميس"

(3)

في هذه الآية الثانية: أنها نزلت في السنة العاشرة من الهجرة، وذكر الروايات في شأن نزولها، والظاهر أن الآية الأولى نزلت قبل ذلك، لكن لم أر التصريح بذلك، وفي "التفسير الكبير" ما يؤيد هذا، إذ قال في ذيل تفسير الآية الثانية

(4)

: ومن الناس من قال: إن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية [النور: 27] فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وصار ذلك منسوخًا بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة، انتهى.

قال ابن كثير

(5)

: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} الآية،

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 266).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 450).

(3)

"تاريخ الخميس"(2/ 153).

(4)

"التفسير الكبير"(12/ 28).

(5)

"تفسير ابن كثير"(4/ 265).

ص: 332

هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، انتهى.

وأما أحكام الاستئذان وفروعه فسيأتي في الأبواب الآتية.

ثم لا يذهب عليك أن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن "كتاب الاستئذان" ليس بكتاب مستقل، بل هو جزء من "كتاب الأدب"، ولك أن تقول: إنه كتاب في كتاب بمنزلة الاصطلاح المعروف: باب في باب، كما تقدم في أصول التراجم مفصلًا، فإن الاستئذان أيضًا أدب من الآداب، ولذا ذكره مسلم في "كتاب الآداب"، وعلى هذا لا يرد على المصنف ما أوردوا من الأبواب الآتية في أواخر هذا الكتاب من "باب الاحتباء باليد" و"باب السرير والقائلة بعد الجمعة" وغير ذلك، وعلى هذا لا يحتاج إلى ما في حاشية النسخة "الهندية"

(1)

عن"الخير الجاري" إذ قال: ولا يخفى أنه ذكر في هذا الكتاب أمورًا سوى الاستئذان، فالأول أن يقدر ههنا: كتاب الاستئذان وما يناسبه، أو ما هو في حكمه، وعليك الاعتبار بمثله في مثله، وليكن هذا أصلًا من أصول هذا الكتاب، انتهى. والبسط في هامش "اللامع"

(2)

.

(1 -‌

‌ باب بدء السلام)

قال الحافظ

(3)

: "بدء" بفتح أوله والهمز بمعنى الابتداء، أي: أول ما وقع السلام، وإنما ترجم للسلام مع الاستئذان للإشارة إلى أنه لا يؤذن لمن لم يسلم، وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش:"حدثني رجل أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال لخادمه: اخرج لهذا فعلّمه فقال: قل: السلام عليكم أأدخل؟ " الحديث، انتهى.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 321).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 48).

(3)

"فتح الباري"(11/ 3).

ص: 333

قلت: ولا يبعد أن يقال: إن الإمام البخاري أشار به إلى مسألة خلافية، وهي هل يبدأ بالسلام ثم يستأذن أو بالعكس؟ قال النووي في "الأذكار"

(1)

: والسُّنَّة أن يسلّم ثم يستأذن لحديث أبي داود وهو الصحيح، وذكر الماوردي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هذا، والثاني: عكسه، والثالث: إن وقع عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدّم السلام، وإن لم تقع عليه عينه قدّم الاستئذان، انتهى مختصرًا.

وإلى تقديم السلام مال الطحاوي في "مشكله"

(2)

، ورجحه ابن القيم في "الهدي"

(3)

.

قوله: (خلق الله آدم على صورته. . .) إلخ، بسط الكلام في شرح هذا الحديث في "فيض الباري"

(4)

وهامشه أشدّ البسط.

(2 -‌

‌ باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا .. . .} [النور: 27]) إلخ

تقدم في أول الكتاب أن هذه الآية هي الأصل في مسألة الاستئذان.

قال الحافظ

(5)

: المراد بالاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور، وقد تقدم في أواخر النكاح في حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه:"فقلت: أستأنس يا رسول الله! قال: نعم"، وحكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان، وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في "الشعب" بسند صحيح أن ابن عباس كان يقرأ:(حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا) ويقول: أخطأ الكاتب، وكان يقرأ على قراءة

(1)

"كتاب الأذكار"(ص 377، 378).

(2)

"مشكل الآثار"(4/ 248).

(3)

"زاد المعاد"(2/ 414).

(4)

"فيض الباري"(6/ 187).

(5)

"فتح الباري"(11/ 8).

ص: 334

أُبي بن كعب، وعن إبراهيم النخعي أنه قال: في مصحف ابن مسعود: (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا)، إلى آخر ما بسط الحافظ.

(3 -‌

‌ باب السلام اسم من أسماء الله. . .) إلخ

هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع، له طرق ليس منها شيء على شرط المصنف في "الصحيح"، فاستعمله في الترجمة، وأورد ما يؤدي معناه على شرطه وهو حديث التشهد، وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله تعالى:{السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وأما مناسبة الآية بالترجمة فبأن المراد بالتحية في الآية السلام خاصة خلافًا لما حكي عن المالكية أن المراد بها الهدية، كما في "الحاشية الهندية"

(2)

عن العيني وبسطه الحافظ

(3)

، وتعقب على من قال: إنه قول المالكية، وقال: بل هو قول الحنفية.

قلت: وهو كذلك فإن الجصاص في "أحكام القرآن"

(4)

حملها على الهدية، ثم حكى الحافظ

(5)

عن مالك: أن المراد من الآية تشميت العاطس ثم تعقب عليه، فارجع إليه لو شئت. فكأن البخاري أشار بذكر الآية في "باب السلام" إلى أن المراد منها هو السلام، وأفاد الشيخ قُدِّس سرُّه ههنا وجهًا آخر، وهو أدقّ وأتقن حيث قال

(6)

: ولعل الوجه في إيراد الآية في هذا الباب أن المأمور به من التحية ما فيه حسن سواء كان الحسن قليلًا أو كثيرًا، كما يدل عليه قوله تعالى:{بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86]، فإن صيغة التفضيل مشعرة بزيادة الحسن في هذا الردّ، فكان دليلًا على أصل الحسن في التحية، وليس في قولهم:"السلام على الله" حسن، لانقلاب المعنى فلم

(1)

"فتح الباري"(11/ 13).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 329).

(3)

"فتح الباري"(11/ 13).

(4)

"أحكام القرآن"(2/ 217، 218).

(5)

"فتح الباري"(11/ 14).

(6)

"لامع الدراري"(10/ 49، 50).

ص: 335

يكن قائله آتيًا بالمأمور به لأن المأمور به إنما يتأدّى إذا تضمن الحسن ولو أقل مما في ردّها، انتهى.

(4 -‌

‌ باب تسليم القليل على الكثير)

هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدًا، والاثنين بالنسبة لثلاثة فصاعدًا وما فوق ذلك، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

في شرح الحديث: وهو من باب التواضع لأن حق الكثير أعظم، فإن قلت: المناسب أن يسلّم الكثير على القليل لأن الغالب أن القليل يخاف من الكثير؟ أجاب في "الكواكب" بأن الغالب في المسلمين أمن بعضهم من بعض، فلوحظ جانب التواضع الذي هو لازم السلام، انتهى.

(5 -‌

‌ باب يسلم الراكب على الماشي)

قال الحافظ

(3)

: في رواية الكشميهني: "تسليم الراكب. . ." إلخ، على وفق الترجمة التي قبلها، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

: قال في "شرح المشكاة": وإنما استحب ابتداء السلام للراكب لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف من الملتقيين إذا التقيا أو من أحدهما في الغالب، أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن، أو للتعظيم لأن السلام إنما يقصد به أحد أمرين: إما اكتسابُ ودّ أو استدفاع مكروه، قاله الماوردي، وقال ابن بطال: تسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع، وقال المازري: لأن للراكب مزيةً على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب احتياطًا على الراكب من الزهو، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 14).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 276).

(3)

"فتح الباري"(11/ 15).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 277).

ص: 336

(6 -‌

‌ باب يسلم الماشي على القاعد)

لحديث الباب شاهد من حديث عبد الرحمن بن شبل بزيادة أخرجه عبد الرزاق وأحمد بسند صحيح بلفظ: "يسلم الراكب على الراجل، والراجل على الجالس، والأقل على الأكثر، فمن أجاب كان له ومن لم يجب فلا شيء له"

(1)

، انتهى.

(7 -‌

‌ باب يسلم الصغير على الكبير)

قوله: (والمارّ على القاعد. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: هو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ الماشي؛ لأنه أعم من أن يكون المارّ ماشيًا أو راكبًا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه بلفظ:"يسلّم الفارس على الماشي، والماشي على القائم"، وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسًا، أو واقفًا أو متكئًا أو مضطجعًا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة، وهي ما إذا تلاقى مارّان راكبان أو ماشيان، وقد تكلم عليها المازري

(3)

فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرًا في الدين إجلالًا لفضله؛ لأن فضيلة الدين مرغّب فيها في الشرع، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، انتهى مختصرًا من "الفتح" والبسط فيه.

(8 -‌

‌ باب إفشاء السلام)

الإفشاء: الإظهار، والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سُنَّة، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عمر:"إذا سلّمت فأسمع فإنها تحية من عند الله" قال النووي: أقله أن يرفع صوته

(1)

انظر: "فتح الباري"(11/ 15، 16).

(2)

"فتح الباري"(11/ 16).

(3)

"المعلم"(3/ 87).

ص: 337

بحيث يسمع المسلّم عليه، فإن لم يُسْمِعُه لم يكن آتيًا بالسُّنَّة، انتهى.

قال الحافظ: واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرًّا بل يشترط الجهر، وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه، وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه:"لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف"، ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم ردّ السلامَ وهو يصلي إشارة، انتهى كله من "الفتح"

(1)

.

(9 -‌

‌ باب السلام للمعرفة وغير المعرفة)

أي: من يعرفه المسلم ومن لا يعرفه، وصدر الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود:"أنه مر برجل فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فردّ عليه ثم قال: إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة"، وأخرجه الطحاوي بلفظ:"إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(10 -‌

‌ باب آية الحجاب)

الظاهر من كلام الشرَّاح أن المقصود بيان سبب نزولها.

قال القسطلاني

(3)

: أي: باب ذكر نزول آية الحجاب، ولأبي ذر عن الكشميهني:"علامة الحجاب" بدل "آية الحجاب"، انتهى.

والأوجه عندي: أن الغرض بيان مصداق آية الحجاب وتعيينها، وقد تقدم المباحث المتعلقة بهذا المقام في تفسير سورة الأحزاب مبسوطًا، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(11/ 18، 19).

(2)

"فتح الباري"(11/ 21).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 282).

ص: 338

(11 -‌

‌ باب الاستئذان من أجل البصر)

أي: شرع من أجله لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره من يدخل إليه أن يطلع عليه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (فقال: لو أعلم أنك تنتظر لطعنت به في عينك. . .) إلخ، وفيه مسألة وهي حكم من أصيبت عينه أو غيرها بسبب ذلك، سيأتي في الديات إن شاء الله تعالى إذ قد ترجم المصنف هناك بـ "باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه".

(12 -‌

‌ باب زنا الجوارح دون الفرج)

قال القاري

(2)

: قال ابن الهمام: الزنا مقصور في اللغة الفصحى لغة أهل الحجاز التي جاء بها القرآن قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ويمد في لغة نجد، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: أي: أن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره، وفيه إشارة إلى حكمة النهي عن رؤية ما في البيت بغير استئذان لتظهر مناسبته للذي قبله، انتهى.

قوله: (والفرج يصدّق ذلك ويكذبه) ذكر الشرَّاح له معنى، ويخطر ببالي من قديم الزمان له معنى آخر إن كان صوابًا فمن الله وفضله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وهو أن معنى تصديق الفرج وتكذيبه أن الفرج إن كان يتأثر بزنا العين كالقبلة وبزنا اليد كاللمس ونحوهما بأن يحصل في الفرج شيء من الحسّ والحركة والانتشار تكون هذه الأمور، أي: زنى الجوارح المذكور في الحديث في حكم الزنا، وإن لم يتأثر الفرج ولم تنتشر الآلة فلا تكون هذه الأمور في حكم الزنا بل أدنى منه جريمة، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(11/ 24).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(7/ 142).

(3)

"فتح الباري"(11/ 26).

ص: 339

(13 -‌

‌ باب التسليم والاستئذان ثلاثًا)

أي: سواء اجتمعا أو انفردا، وحديث أنس شاهد للأول، وحديث أبي موسى شاهد للثاني، وقد ورد في بعض طرقه الجمع بينهما، واختلف هل السلام شرط في الاستئذان أو لا؟ فقال المازري

(1)

: صورة الاستئذان: السلام عليكم، أأدخل؟ ثم هو بالخيار أن يسمي نفسه أو يقتصر على التسليم، كذا قال، وسيأتي ما يعكر عليه في "باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفيه أيضًا: واختلف فيمن سلم ثلاثًا فظنّ أنه لم يسمع فعن مالك: له أن يزيد حتى يتحقق، وذهب الجمهور وبعض المالكية إلى أنه لا يزيد اتباعًا لظاهر الخبر، انتهى.

(14 -‌

‌ باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن)

أي: قبل أن يدخل أم لا، بل يكتفي بقرينة الطلب؟ قوله:"وقال سعيد عن قتادة. . ." إلخ.

قال القسطلاني

(3)

: هذا التعليق وصله المؤلف في "الأدب المفرد" وأبو داود، وزاد أبو داود:"إلى طعام"، ثم قال: لم يسمع قتادة من أبي رافع. قال في "الفتح": وقد ثبت سماعه منه في الحديث الآتي في "كتاب التوحيد" من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا رافع حدثه، انتهى.

قلت: وأشار المصنف بلفظ "هل" في الترجمة إلى اختلاف الروايات.

قال الحافظ

(4)

: ثم أورد المصنف طرفًا من حديث مجاهد عن أبي هريرة وفيه: "قال فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم"، وظاهره يعارض الحديث الأول، ومن ثم لم يجزم بالحكم، وجمع المهلب وغيره

(1)

"المعلم"(3/ 86).

(2)

"فتح الباري"(11/ 27).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 291).

(4)

"فتح الباري"(11/ 32).

ص: 340

بتنزيل ذلك على اختلاف الحالين: إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة إلا لم يحتج إلى استئناف إذن، وقال ابن التِّين: لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله والثاني بخلافه، قال: والاستئذان على كل حال أحوط، وقال غيره: إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول ويكفيه سلام الملاقاة، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان، وبهذا جمع الطحاوي، انتهى.

وأفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أن الإذن على نوعين: الإذن لأجل الدخول في البيت والإذن لأجل الستر والحجاب، والشخص المدعو وإن لم يفتقر إلى الإذن لأجل الدخول لكون الدعوة كافية في ذلك لكنه لا يستغني من الإذن لأجل الستر، فلو دعا أحد أحدًا وهو في مكان لا يفتقر فيه إلى ستر فحينئذ لا يحتاج إلى الإذن مطلقًا، انتهى ملخصًا.

(15 -‌

‌ باب التسليم على الصبيان)

قال الحافظ

(2)

: وكأنه ترجم بذلك للردّ على من قال: لا يشرع؛ لأن الردّ فرض وليس الصبي من أهل الفرض، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أشعث قال: كان الحسن لا يرى التسليم على الصبيان، وعن ابن سيرين: أنه كان يسلّم على الصبيان ولا يسمعهم، انتهى.

قلت: ويمكن أن يقال: إنه ترجم بذلك من حيث إنه يخالف في بادئ الرأي ما تقدم قريبًا بقوله: "باب تسليم الصغير على الكبير" قال ابن بطال: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وفيه طرحُ الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب.

قلت: ويستثنى من السلام على الصبي ما لو كان وضيئًا وخشي

(1)

"لامع الدراري"(10/ 53، 54).

(2)

"فتح الباري"(11/ 32، 33).

ص: 341

من السلام عليه الافتنان، فلا يشرع، ولا سيما إن كان مراهقًا منفردًا، انتهى من "الفتح".

(16 -‌

‌ باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال)

قال الحافظ

(1)

: أشار بهذه الترجمة إلى ردّ ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال، وهو مقطوع أو معضل، والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة، وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما، وورد فيه حديث ليس على شرطه وهو حديث أسماء بنت يزيد:"مرّ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلّم علينا" حسّنه الترمذي، وليس على شرط البخاري فاكتفى بما هو على شرطه، وأخرج أبو نعيم في "عمل اليوم والليلة" من حديث واثلة مرفوعًا:"يسلّم الرجال على النساء ولا تسلّم النساء على الرجال" وسنده واهٍ، ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفًا عليه وسنده جيد.

ثم قال الحافظ تحت الحديث الثاني من حديثي الباب: حكى ابن التِّين أن الداودي اعترض فقال: لا يقال للملائكة رجال، ولكن الله ذكرهم بالتذكير. والجواب أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الرجل، انتهى من "الفتح".

وقال السندي

(2)

تحت الترجمة: كأنه أراد به تسليم أحد الجنسين المتغايرين على الآخر، فلذلك ذكر في الباب حديث سلام جبريل على عائشة وذكر وجوهًا أخر، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(11/ 34).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 89).

ص: 342

وقال الحافظ

(1)

: وقال ابن بطال (في مسألة الباب): فرق المالكية بين الشابّة والعجوز سدًّا للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقًا، وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا: ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها، انتهى.

قلت: وما حكى ابن بطال من مذهب الإمام مالك صرّح به مالك في "الموطأ"، وقال النووي كما في "الأوجز"

(2)

: أما النساء فإن كن جمعًا سلّم عليهن، وإن كانت واحدة سلّم عليها زوجها ومحرمها، وأما الأجنبي فإن كانت عجوزًا لا تشتهى استحب له السلامُ عليها واستحب لها السلام عليه، وإن كانت شابة أو عجوزًا تشتهى لم يسلم عليها الأجنبي ولم تسلم عليه، ومن سلّم منهما لم يستحق جوابًا ويكره جوابه، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(3)

: نظم جمع فيه كل من يكره السلام عليه وفيه:

كذا الأجنبيات الفتيات أمنع

قال ابن عابدين: ومفهومه جوازه على العجوز، بل صرحوا بجواز مصافحتها عند أمن الشهوة، وفيه أيضًا في موضع آخر

(4)

: ولا يكلم الأجنبية إلا عجوزًا عطست أو سلّمت فيشمتها ويردّ السلام عليها وإلا لا. قال ابن عابدين: أي: هي إن لم تكن عجوزًا بل شابة لا يشمتها ولا يردّ السلام بلسانه بل ردّ عليها في نفسه، وقال أيضًا: وتقدم في شروط الصلاة أن صوت المرأة عورة على الراجح، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 34).

(2)

"أوجز المسالك"(17/ 178 - 181).

(3)

"ردّ المحتار"(2/ 374).

(4)

"ردّ المحتار"(9/ 530).

ص: 343

(17 -‌

‌ باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا)

قال الحافظ

(1)

: وكأنه لم يجزم بالحكم لأن الخبر ليس صريحًا في الكراهة، انتهى.

وقال العيني

(2)

: تحت ترجمة الباب: ولم يذكر الحكم اكتفاءً بما في حديث الباب. ثم قال في شرح الحديث: مطابقته للترجمة ظاهرة، انتهى.

قلت: وهو كذلك، وما تقدم من كلام الحافظ من أنه لم يجزم بالحكم لأن حديث الباب ليس صريحًا في الكراهة فهذا إنما هو على بادئ الرأي، وإلا فالشرَّاح قاطبة اتفقوا أن مقصوده صلى الله عليه وسلم الإنكار على جابر، وإن اختلفوا في وجه الإنكار كما هو في الشروح، وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في "شرح مسلم"

(3)

بقوله: "باب كراهة قول المستأذن: أنا"، وقال القاري في "شرح المشكاة"

(4)

: قوله: "فقال: أنا أنا" مكررًا للإنكار عليه. قال الطيبي: أي: قولك: "أنا" مكروه فلا تعد، والثاني تأكيد، انتهى.

(18 -‌

‌ باب من ردّ فقال: عليك السلام. . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: ظاهر صنيعه أنه لا فرق عنده بين تقديم السلام على كلمة "على" وتأخيره عنه، وإن أشار بذكر الرواية إلى أن تقديم الجار هو الغالب في الردّ، انتهى.

قلت: وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر فإنه ذكر في الترجمة قول الملائكة وهو بتقديم لفظ السلام، وذكر الرواية المرفوعة وفيه عكس ذلك، فثبت الوجهان. وبما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه جزم الكرماني

(6)

إذ قال: واعلم أن مقصود البخاري من هذا الباب أن ردّ السلام ثبت على نوعين:

(1)

"فتح الباري"(11/ 35).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 366).

(3)

"شرح النووي"(7/ 389).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 453).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 54).

(6)

"شرح الكرماني"(22/ 90).

ص: 344

بتقديم السلام على "عليك"، وبالتأخير عنه، وكلاهما جواب، والله أعلم، انتهى.

وفي الترجمة وجوه أخر بسطها الحافظ، إذ قال

(1)

: يحتمل أن يكون أشار إلى من قال: لا يقدَّم على لفظ السلام شيء بل يقول في الابتداء والردّ: السلام عليك، أو من قال: لا يقتصر على الإفراط بل يأتي بصيغة الجمع، أو من قال: لا يحذف الواو بل يجيب بواو العطف فيقول: وعليك، أو من قال: يكفي في الجواب أن يقتصر على "عليك" بغير لفظ السلام، أو من قال: لا يقتصر على "عليك السلام" بل يزيد: ورحمة الله، وهذه خمسة مواضع جاءت فيها آثار تدلّ عليها، ثم ذكرها، ولعل متمسّك من قال بالوجه الأول من تلك الوجوه هو ما روى أبو داود من حديث أبي جري جابر بن سليم وفيه:"قلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى" الحديث.

(19 -‌

‌ باب إذا قال: فلان يقرئك السلام)

بضم التحتية من أقرأ، ولأبي ذر عن الكشميهني:"يقرأ عليك السلام" بفتح التحتية، انتهى من "القسطلاني"

(2)

.

قال القاضي: يقال: أقرأته السلامَ وهو يقرئك السلامَ بضم الياء رباعيًّا لا غير، وإذا قلت: يقرأ عليك فبالفتح لا غير، وقيل: هما لغتان، انتهى. كذا في النسخة المصرية لمسلم.

وقال الحافظ

(3)

: قال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتعقب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة، والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 36، 37)، وانظر:"سنن أبي داود"(رقم 5209).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 300).

(3)

"فتح الباري"(11/ 38).

ص: 345

قلت: ولعل المصنف أشار بالترجمة إلى ما ورد في ذلك من اختلاف الروايات، فقد ترجم الإمام أبو داود أيضًا بعين هذه الترجمة، وذكر فيه حديثين وفي أحدهما:"فأتيته فقلت: إن أبي يقرئك السلام، فقال: عليك وعلى أبيك السلام"، ثم ذكر الإمام أبو داود حديث عائشة المذكور في هذا الباب. قال الشيخ في "البذل"

(1)

: وفي هذا الحديث اقتصر في الجواب على أصل المسلّم، وفي الحديث الأول شمل المبلغ أيضًا فالأمران جائزان، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وفي الحديث إذا أتاه شخص بسلام من شخص أو في ورقة وجب الردّ على الفور، ويستحب أن يردّ على المبلّغ، كما أخرج النسائي عن رجل من بني تميم:"أنه بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام أبيه فقال له: وعليك وعلى أبيك السلام"، وقد تقدم في المناقب

(3)

: أن خديجة لما بلّغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل سلامَ الله عليها قالت: "إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام"، ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردّت على النبي صلى الله عليه وسلم فدلّ على أنه غير واجب، انتهى.

(20 -‌

‌ باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين)

قال النووي: السُّنَّة إذا مرَّ بمجلس فيه مسلم أو كافر أن يسلّم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم، قال ابن العربي: ومثله إذا مر بمجلس يجمع أهل السُّنَّة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظلمة، وبمجلس فيه محبّ ومبغض، واستدل النووي على ذلك بحديث الباب، وهو مفرع على منع ابتداء الكافر بالسلام، وقد ورد النهي عنه صريحًا، وقالت طائفة: يجوز

(1)

"بذل المجهود"(13/ 618).

(2)

"فتح الباري"(11/ 38).

(3)

أي: في كلام الحافظ، (ز).

ص: 346

ابتداؤهم بالسلام فأخرج الطبري من طريق ابن عيينة قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام، لقول إبراهيم لأبيه:{سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47]، وأجاب عياض عن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن القصد بذلك المتاركة والمباعدة لا التحية، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(21 -‌

‌ باب من لم يسلّم على من اقترف ذنبًا ولم يردّ سلامه حتى تتبين توبته)

قال الحافظ

(2)

: أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق والمبتدع، قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلّم سلّم، وكذا قال ابن العربي وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيب عليكم، وقال ابن وهب: يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرًا؛ لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح واللهو وفحش القول والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(3)

: ويكره السلام على الفاسق لو معلنًا وإلا لا. قال ابن عابدين: ويسلم على قوم في معصية وعلى من يلعب بالشطرنج ناويًا أن يشغلهم عما هم فيه عند أبي حنيفة، وكره عندهما تحقيرًا لهم، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضًا فقيل: يستبرئ حاله سنةً، وقيل: ستة أشهر، وقيل: خمسين يومًا كما في قصة كعب، وقيل: ليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مدعاه في توبته، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 39).

(2)

"فتح الباري"(11/ 40).

(3)

"ردّ المحتار"(9/ 595).

(4)

"فتح الباري"(11/ 40).

ص: 347

قلت: وقد تقدم شيء من الكلام على هذه المسألة في "اللامع"

(1)

وهامشه في "كتاب الشهادات" تحت قول البخاري: وكيف تعرف توبته؟ ثم قد ظهر من كلام الحافظ أنه جعل للترجمة جزئين، وكذا يستفاد من كلام العيني، وذلك لأنهما جعلا السلام وردّه في حكم واحد، لكن يظهر من كتب فقهنا الفرق بين حكم السلام وحكم الردّ، فعلى هذا صار للترجمة ثلاثة أجزاء، ففي حاشية ابن عابدين

(2)

تفريعًا على كلام صاحب "البحر": ومفاده أن كل محل لا يشرع فيه السلام لا يجب ردّه، وذكر أمثلته، ثم قال: وينبغي وجوبُ الردّ على الفاسق لأن كراهة السلام عليه للزجر فلا تنافي الوجوب عليه، تأمل، انتهى.

(22 -‌

‌ باب كيف الردّ على أهل الذمة السلام)

قال الحافظ

(3)

: في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من ردّ السلام على أهل الذمة فلذلك ترجم بالكيفية، ودل الحديث على التفرقة في الردّ على المسلم والكافر، قال ابن بطال: قال قوم: ردُّ السلام على أهل الذمة فرض لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية [النساء: 86]، وثبت عن ابن عباس أنه قال: من سلّم عليك فردّ عليه ولو كان مجوسيًا. وبه قال الشعبي وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور، وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يردّ السلام على الكافر مطلقًا، فإن أراد منع الردّ بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: قال النووي: اتفقوا على الردّ على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام، بل يقال لهم: عليكم فقط أو: وعليكم، انتهى.

(1)

انظر: "لامع الدراري"(7/ 60 - 70).

(2)

"رد المحتار"(2/ 376).

(3)

"فتح الباري"(11/ 42).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 305).

ص: 348

قلت: وهكذا في "شرح الإقناع"

(1)

: "وروضة المحتاجين" يعني: إنكار الشافعية الزيادة على لفظ: وعليك. وبسط القاري في "شرح المشكاة" الروايات في أنه لا يزيد على: وعليك.

وفي "الدر المختار"

(2)

: ويسلم المسلم على أهل الذمة لو له حاجة إليه وإلا كره، وهو الصحيح، كما كره للمسلم مصافحة الذمي، ثم قال

(3)

: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي على مسلم فلا بأس بالردّ، ولكن لا يزيد على قوله: وعليك، قال ابن عابدين: قوله: فلا بأس بالردّ، المتبادر منه أن الأولى عدمه، "ط". لكن في "التتارخانية": وإذا سلم أهل الذمة ينبغي أن يردّ عليهم الجواب وبه نأخذ، انتهى.

(23 -‌

‌ باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره)

قال العلامة العيني

(4)

: أي: هذا باب في بيان جواز من نظر في كتاب من يحذر على صيغة المجهول من الحذر، أي: الخوف، وقال الجوهري: الحذر المحرز.

قوله: (ليستبين) أي: ليظهر أمره. فإن قلت: أخرج أبو داود من حديث ابن عباس: "من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار"، قلت: يخص منه ما يتعين طريقًا إلى دفع مفسدة هي أكبر من مفسدة النظر على أن هذا حديث ضعيف، انتهى.

وهكذا في "القسطلاني" ولفظه في الجواب عن الحديث المذكور

(5)

: إنما هو في حق من لم يكن متهمًا على المسلمين، وأما من كان متهمًا فلا حرمة له، انتهى.

(1)

انظر: "شرح الإقناع"(4/ 291)، و"مرقاة المفاتيح"(8/ 420، 421).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 590).

(3)

"ردّ المحتار"(9/ 591).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 327).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 309).

ص: 349

وقال الحافظ

(1)

في الغرض من الترجمة: كأنه يشير إلى أن الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخص منه ما يتعين طريقًا إلى دفع مفسدة هي أكثر من مفسدة النظر، انتهى.

ذكر المصنف فيه حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وتقدم في تفسير سورة الممتحنة وغيره في عدة مواضع.

(24 -‌

‌ باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب)

قال العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان كيفية الكتاب إلى أهل الكتاب، ثم قال تحت حديث الباب: مطابقته بالترجمة في قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله" إلخ، فإن فيه إعلامًا كيف يكتب إلى أهل الكتاب، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: ذكر فيه طرفًا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل وهو واضح فيما ترجم له، قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، انتهى.

ثم تعقب عليه الحافظ وكذا القسطلاني

(4)

إذ قال: لا يصح الاستدلال بذلك، ذلك لأنه لم يسلم فليس هو ممن اتبع الهدى فهو سلام مقيد، انتهى. مختصرًا.

والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى هذا بأن يكتب إليهم: السلام على من اتبع الهدى، لا بلفظه المعروف بلفظ الخطاب: السلام عليكم، قال القاري في "المرقاة"

(5)

في شرح حديث هرقل: قال النووي: وفي هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد،

(1)

"فتح الباري"(11/ 47).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 374).

(3)

"فتح الباري"(10/ 47).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 310).

(5)

"مرقاة المفاتيح"(7/ 469).

ص: 350

منها قوله: "سلام على من اتبع الهدى" فيه دليل لمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الكافر لا يبدأ بالسلام. قال القاري: ما أظن فيه خلافًا، انتهى.

(25 -‌

‌ باب بمن يبدأ في الكتاب)

أي: بنفسه أو بالمكتوب إليه، قاله الحافظ

(1)

.

في هامش المصرية عن "شرح شيخ الإسلام"

(2)

: أي: هل يبدأ بالكاتب أو بالمكتوب إليه، وكل سائغ، ولكن جرت العادة في الرسائل بالابتداء بالكاتب، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: ذكر فيه طرفًا من حديث الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض ألف دينار، وكأنه لما لم يجد فيه حديثًا على شرطه مرفوعًا اقتصر على هذا، وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته في شرعنا ولم ينكر، ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله، وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء:"أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه" وعن نافع: كان عُمّال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. قال المهلب: السُّنَّة أن يبدأ الكاتب بنفسه، انتهى.

وكتب الشيخ في "البذل"

(4)

تحت حديث هرقل: إن الاستدلال به على تقدم ذكر الكاتب على المكتوب إليه على العموم فمحل نظر؛ بل الحديث يدل على أن الأعلى إذا كتب إلى الأدنى يبدأ باسم نفسه قبل المكتوب إليه، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلى باعتبار الدين والدنيا من هرقل، فإنه وصف نفسه بكونه رسول الله ووصف هرقل بكونه عظيمَ الروم، ثم دعاه إلى الانقياد والاستسلام.

فهذا يدل ظاهرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ملك الروم فبدأ بنفسه،

(1)

"فتح الباري"(11/ 48).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 152).

(3)

"فتح الباري"(11/ 48).

(4)

"بذل المجهود"(13/ 524).

ص: 351

وكذلك من يكون أعظم من المكتوب إليه يبدأ بنفسه، وأما إذا كان المكتوب إليه أعظم كالولد يكتب إلى والده أو الرجل يكتب إلى شيخه فينبغي حينئذ أن يبدأ باسم المكتوب إليه لا باسمه، وأما حديث العلاء بن الحضرمي فإنه بدأ باسمه في كتابته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعًا واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما تقريره صلى الله عليه وسلم فلأجل بيان الجواز، قال المنذري: فيهما - أي: في روايتي ابن العلاء - مجهول. قال بعضهم: يبدأ الكتاب باسمه فيقول: من فلان ابن فلان إلى فلان ابن فلان، انتهى.

قال العلامة النووي في "شرح مسلم"

(1)

في قصة خضر مع موسى تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "رحمة الله علينا وعلى موسى - وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه -. . ." الحديث، قال أصحابنا: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء وشبهه من أمور الآخرة، واختلف العلماء في الابتداء في عنوان الكتاب؟ فالصحيح الذي قاله كثير من السلف وجاء به الصحيح أنه يبدأ بنفسه فيقدمها على المكتوب إليه فيقول: من فلان إلى فلان، واستدل عليه من حديث هرقل، ثم قال: وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوب إليه فيقول: إلى فلان من فلان، قالوا: إلا أن يكتب الأمير إلى من دونه أو السيد إلى عبده أو الوالد إلى ولده، انتهى.

(26 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم)

هذه الترجمة معقودة لحكم قيام القاعد للداخل، ولم يجزم فيها بحكم للاختلاف بل اقتصر على لفظ الخبر كعادته، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(3)

: أي: بيان مشروعية قيام القاعد للداخل احترامًا له، انتهى.

قال العيني

(4)

: وفي الحديث أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد

(1)

"شرح النووي"(8/ 158).

(2)

"فتح الباري"(11/ 49).

(3)

"تحفة الباري"(6/ 152).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 375، 376).

ص: 352

من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل في مجلس السلطان الأكبر، والقيام فيه لغيره من أصحابه، وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة رواه أبو داود وابن ماجه قال:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم متوكأً على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم" قال الطبري: هذا حديث ضعيف مضطرب السند، فيه من لا يعرف، وقال أيضًا: وفيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات، وعن أبي الوليد بن رشد: أن القيام على أربعة أوجه، ثم ذكرها.

وبسط الحافظ

(1)

الكلام أيضًا على روايات الباب إثباتًا ونفيًا أشدّ البسط فارجع إليه.

وفي "الدر المختار"

(2)

: يجوز بل يندب القيام تعظيمًا للقادم كما يجوز القيام، ولو للقارئ بين يدي العالم. قال ابن عابدين: أي: إن كان ممن يستحق التعظيم، وفي "مشكل الآثار": القيام لغيره ليس بمكروه لعينه، إنما المكروه محبة القيام لمن يقام له، إلى آخر ما ذكر.

وبسط الشيخ الكلام عليه في "البذل"

(3)

، وفيه عن "اللمعات": اختلفت فيه الروايات، والصحيح أن احترام أهل الفضل من أهل العلم والصلاح والشرف بالقيام جائز، وما جاء من كراهته صلى الله عليه وسلم قيام الصحابة له فهو من جهة الاتحاد الموجب لرفع التكلف لا للنهي.

وقال النووي

(4)

: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاءت فيه أحاديث، ولم يصحّ في النهي عنه شيء تصريحًا.

وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم في التقرير: القيام جائز في نفسه

(1)

"فتح الباري"(11/ 50 - 54).

(2)

"ردّ المحتار"(9/ 551).

(3)

"بذل المجهود"(13/ 600 - 602)، وانظر:"أشعة اللمعات"(4/ 30).

(4)

"شرح النووي"(6/ 338).

ص: 353

ما لم يعترِه عارض يخرجه من الجواز إلى الكراهة. . .، إلى أن قال: وأما الذي أورده المؤلف من الروايات فليس شيء منها كافيًا لإثبات المدعى؛ لأن القيام فيها ليس بقيام تعظيم، وفيه الكلام، وإنما هو قيام إعانة وإمداد في الأول، وقيام معانقة في الثاني، إلى آخر ما ذكر.

(27 -‌

‌ باب المصافحة)

قال العلامة القسطلاني

(1)

: أي: مشروعية المصافحة، وهي الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقد أخرج الترمذي بسند ضعيف من حديث أبي أمامة رفعه: "تمام تحيتكم بينكم المصافحة"، وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود بسند حسن عن أنس رفعه:"قد أقبل أهل اليمن وهم أول من حيّانا بالمصافحة"، وفي "جامع ابن وهب" من هذا الوجه:"وكانوا أول من أظهر المصافحة"، قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته.

وقال النووي: المصافحة سُنَّة مجمع عليها عند التلاقي، وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن البراء رفعه:"ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا"، وقال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل صنيعه في "الموطأ"، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفًا وخلفًا، انتهى من "الفتح" مختصرًا.

وقال صاحب "الفيض"

(3)

: اعلم أن كمال السُّنَّة في المصافحة أن تكون باليدين، ويتأدى أصل السُّنَّة من يد واحدة أيضًا، وقد بَوَّب البخاري بُعَيده "باب الأخذ باليدين"، ثم الذين يدّعون العمل بالحديث ينكرون

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 314).

(2)

"فتح الباري"(11/ 54، 55).

(3)

"فيض الباري"(6/ 204، 205).

ص: 354

التصافح باليدين، ولما لم يكن في ذلك عند المصنف حديث على شرطه أخرج حديث ابن مسعود في التشهد، فاكتفى عن الاستشهاد على النوع بالاستشهاد على الجنس، فإن التصافح في حديثه كان عند التعليم دون التسليم، وهذا غير ذاك، نعم أخرج لها أثرين، ثم للتصافح باليدين حديث مرفوع أيضًا كما في "الأدب المفرد".

وأراد المدرسون أن يستدلوا عليه بحديث ابن مسعود هذا فقالوا: أما كون التصافح فيه باليدين من جهة النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث نصّ فيه، وأما كونه كذلك من جهة ابن مسعود فالراوي وإن اكتفى بذكر يده الواحدة إلا أن المرجو منه أنه لم يكن ليصافحه بيده الواحدة والنبي صلى الله عليه وسلم قد صافحه بيديه الكريمتين؛ فإنه يستبعد من مثله أن لا يبسط يديه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم بسط له يديه، غير أن الراوي لم يذكره لعدم كون غرضه متعلقًا بذلك، انتهى.

قلت: وفي "تذكرة الخليل"

(1)

: أنه قد اتفق لشيخنا الفقيه الكبير والمحدث الجليل مولانا خليل أحمد قُدِّس سرُّه أنه صافحه أحد ممن يدعي العمل بالحديث بيد واحدة وصافحه الشيخ بيدين، فاعترض على الشيخ واستدل بحديث ابن مسعود هذا فإنه صافح بيد واحدة، فأجاب شيخنا قُدِّس سرُّه على الفور متبسّمًا بقوله: فنحن على السُّنَّة أم أنتم؟ فبُهِتَ. وأراد الشيخ بذلك أن المصافحة باليدين موافق لفعله صلى الله عليه وسلم، وأما المصافحة بيد واحدة فكان من فعل ابن مسعود رضي الله عنه.

وكتب الشيخ في "الكوكب"

(2)

: قوله: "الأخذ باليد" اللام فيه للجنس فلا تثبت الواحدة، والحق فيه أن مصافحته صلى الله عليه وسلم ثابتة باليد وباليدين إلا أن المصافحة بيد واحدة لما كانت شعار أهل الأفرنج وجب تركه لذلك، انتهى.

(1)

"تذكرة الخليل"(ص 298).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 392).

ص: 355

وأما وجه مطابقة الحديث الثاني بالترجمة فذكر الحافظ وجه إدخال هذا الحديث في المصافحة أن الأخذ باليد يستلزم التقاء صفحة اليد بصفحة اليد غالبًا، ومن ثم أفردها بترجمة تلي هذه لجواز وقوع الأخذ باليد من غير حصول المصافحة

(1)

، انتهى.

قلت: وهذا مبني على ما في نسخة "الفتح"، وسيأتي اختلاف ذكر النسخ في الترجمة الآتية.

(28 -‌

‌ باب الأخذ باليدين وصافح حماد. . .) إلخ

هكذا في النسخ الهندية "اليدين" بصيغة التثنية وهكذا في نسخة "الكرماني" و"العيني" و"القسطلاني"، وأما في نسخة "الفتح" فكما تقدمت الإشارة إليه أن فيها "اليد" بالإفراد، وتقدم توجيهه في كلام الحافظ.

قال العيني

(2)

: سقطت هذه الترجمة وأثرها وحديثها من رواية النسفي، وقوله:"الأخذ باليدين" رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي:"الأخذ باليد" بالإفراد، وما وقع في بعض النسخ "باليمين" فليس بصحيح، ثم قال تحت حديث الباب: مطابقته بالترجمة في قوله: "وكفي بين كفيه" وهو الأخذ باليدين، انتهى.

قلت: وقد تقدم أن في نسخة الحافظ: "الأخذ باليد" بصيغة الإفراد فكان ينبغي للحافظ أن يتعرض للمناسبة بين الحديث والترجمة لكنه سكت عن وجه المطابقة.

والأوجه عندي نسخة "اليدين" بالتثنية لكونه مطابقًا لأثر حماد المذكور في الترجمة وكذا الحديث المرفوع. وأما المطابقة على نسخة الإفراد فإما أن يقال: إن اللام في قوله: "باليد" للجنس فيشمل اليدين، وإما أن يقال: إنه أشار بذلك أن ما ورد في بعض الروايات من الأخذ باليد فالمراد به

(1)

"فتح الباري"(11/ 55).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 377، 378).

ص: 356

المصافحة المشروعة

(1)

وهي تكون باليدين فلذا عقبها بأثر حماد، وهذا غاية ما يقال في المطابقة بين الحديث والترجمة، وهذا الوجه الأخير أشار إليه الحافظ

(2)

أيضًا مختصرًا كما تقدم في الباب السابق.

ثم لا يتوهم التكرار في هذه الترجمة والترجمة السابقة، وذلك لأن الغرض من الترجمة الأولى بيان مشروعيتها خلافًا لما حكي عن مالك وغيره من الكراهة ذاهبًا إلى أن المراد من المصافحة أن يصفح بعضهم عن بعض، من الصفح وهو التجاوز، كما هو معروف عن الإمام مالك، فأثبت المصنف بالترجمة المصافحة بالمعنى المعروف المتبادر عند الجمهور، ولذا ذكر فيه حديث ابن مسعود:"كفي بين كفيه". وأما هذه الترجمة فأشار بها إلى كيفية المصافحة وهي أن تكون باليدين كما يظهر من أثر حماد وحديث الباب المرفوع، أو يقال: إن الغرض من الترجمة الأولى بيان كيفية المصافحة باليدين، فإن المصافحة باليدين تحتمل صورًا مختلفة كما بسط في "الأوجز"

(3)

، والبسط في هامش "اللامع"

(4)

فارجع إليه لو شئت. وقد تقدم بحث المصافحة باليد أو اليدين في الباب السابق.

(29 -‌

‌ باب المعانقة وقول الرجل: كيف أصبحت

؟)

هذه الترجمة مشكلة جدًّا، وذلك لأنه ليس في حديث الباب ذكر الجزء الأول من جزئي الترجمة أصلًا، وذكر الثانية بلفظ: كيف أصبح؟ قالوا: وهذا يكفي للمناسبة، وأما الجزء الأول من الترجمة فذكر في حاشية النسخة "الهندية"

(5)

أنها ترجمة مستقلة لم يذكر لها الحديث، وكان بين

(1)

وفي الأصل: "المشروعية".

(2)

انظر: "فتح الباري"(11/ 55).

(3)

انظر: "أوجز المسالك"(16/ 126 - 134).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 56، 57).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 376).

ص: 357

الترجمتين بياض لكن جمع بينهما الكاتب، والمناسب له معانقته صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ كما تقدم في "كتاب البيوع" في "باب ما ذكر في الأسواق"، وكذا تقدم قريبًا في "باب السخاب للصبيان" فكأدن البخاري أشار إلى هذا الحديث وذكر حديث الباب بلفظ "يا أبا حسن" رمزًا إلى الحسن تشحيذًا للأذهان، انتهى.

وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(1)

: لم يذكر في المعانقة حديثًا بل ذكره في البيع في معانقته صلى الله عليه وسلم للحسن، فيحتمل أنه اكتفى هنا بذلك، أو أنه كما قيل: قصد أن يسوقه هنا فلم يستحضر له غير السند السابق، وليس من عادته غالبًا إعادة السند الواحد، فأدركه الموت قبل أن يقع له ما يوافق ذلك، انتهى.

وأما الشيخ الإمام الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه فإنه قد أثبت جزئي الترجمة بالمقايسة حيث قال

(2)

: والجزءان من الترجمة يتوقف إثباتهما على نوع مقايسة، فإن المعانقة غاية في المواجهة وأثر يترتب على المخالة، فإذا جازت المواجهة وكانت الخلة باعثة عليها لربما أدّت إلى المعانقة، وأما قولهم:"أصبحت" فإن السؤال لما ثبت عن حال الغائب كان سؤاله عن حال الحاضر المخاطب أظهر في الجواز، وأيضًا فإن السؤال عن حاله صلى الله عليه وسلم كان يتضمن المسألة عن حال أهل البيت بأسرهم، ومنهم علي رضي الله عنه وهو المخاطب في هذا الكلام فثبت بالسؤال عن حاله عليه الصلاة والسلام جواز المسألة عن حال المخاطب وإن كانت الدلالة عليه تضمنية، انتهى.

وأما حكم المعانقة وهو المقصود من ترجمة الباب فقد تقدم فيه خلاف مالك في "باب المصافحة"، وروي عنه ما يدل على أنه رجع عن القول بالكراهة، فقد قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة فكرهها مالك وأجازها ابن عيينة، ثم ساق قصتهما في ذلك، أخرجها ابن عساكر في "تاريخه" قال: استأذن سفيان بن عيينة على مالك

(1)

"تحفة الباري"(6/ 154).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 58، 59).

(3)

"فتح الباري"(11/ 59).

ص: 358

فأذن له فقال: السلام عليكم، فردّوا عليه ثم قال: السلام خاصّ وعامّ، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته، ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك، قال: قد عانق من هو خير منك، قال: جعفر؟ قال: نعم. ثم قال الحافظ: قال الذهبي في "الميزان": هذه الحكاية باطلة وإسنادها مظلم، انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم"

(1)

: واختلف العلماء في معانقة الرجل للرجل القادم من سفر، فكرهها مالك وقال: هي بدعة، واستحبها سفيان وغيره وهو الصحيح الذي عليه الأكثرون والمحققون، وتناظر مالك وسفيان في المسألة فاحتج سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بجعفر حين قدم، فقال مالك: هو خاص به، فقال سفيان: ما نخصه بغير دليل، فسكت مالك. قال القاضي عياض: وسكوت مالك دليل لتسليمه، قولَ سفيان وموافقته، وهو الصواب، انتهى.

وأما مذهب الحنفية فذكر ابن عابدين

(2)

: قال في "الهداية": ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئًا منه أو يعانقه.

وذكر الطحاوي أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة لما روي "أنه عليه السلام عانق جعفرًا حين قدم من الحبشة وقبّله بين عينيه". ولهما ما روي "أنه عليه السلام نهى عن المكامعة" وهي المعانقة "وعن المكاعمة" وهي التقبيل، وما رواه محمول على ما قبل التحريم، قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد، أما إذا كان عليه قميص أو جبة لا بأس به بالإجماع وهو الصحيح، انتهى.

(30 -‌

‌ باب من أجاب بلبيك وسعديك)

قال العلامة الكرماني

(3)

: قال ابن بطال: معنى "لبيك": أنا مقيم على

(1)

"شرح النووي"(8/ 208، 209).

(2)

"رد المحتار"(9/ 546).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 102).

ص: 359

طاعتك، من قولهم: لبّ فلان بالمكان: إذا أقام به، وقيل: معناه: إجابة بعد إجابة، ومعنى "سعديك": إسعادًا لك بعد إسعاد، انتهى.

قال العلامة العيني

(1)

: وهذا من المصادر التي حذف فعلها لكونه وقع مثنى، وذلك يوجب حذف فعله قياسًا؛ لأنهم لما ثنوه صار كأنهم ذكروه مرتين فكأنه قال: لبًّا لبًّا، وأما سعديك فمعناه في العبادة: أنا متبع أمرك غير مخالف لك فأسعدني على متابعتك إسعادًا بعد إسعاد، وأما في إجابة المخلوق فمعناه: أسعدك إسعادًا بعد إسعاد، أي: مرة بعد أخرى، انتهى.

وسكت الشرَّاح عن غرض الترجمة، ولعل الغرض منه الردّ لما حكي عن مالك من كراهة ذلك كما في "الشرح الكبير"

(2)

، وأوَّلَه بأن مراده استعمال تلبية الحج لا مطلق لبيك، وترجم الإمام أبو داود في "سننه"

(3)

على هذا المعنى بقوله: "باب الرجل ينادي الرجل فيقول: لبيك".

(31 -‌

‌ باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه)

هكذا ترجم بلفظ الخبر، وهو خبر معناه النهي، وقد رواه ابن وهب بلفظ النهي:"لا يقم" وفي رواية عند مسلم "لا يقيمنّ" بلفظ النهي المؤكد، انتهى من "الفتح"

(4)

.

قال الكرماني

(5)

: وهو نفي في معنى النهي، فقيل: إنه للتحريم، وقيل: للتنزيه، وهو من باب الآداب ومحاسن الأخلاق، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(6)

: وظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل، ولفظ الحديث وإن كان عامًّا لكنه مخصوص بالمجالس المباحة كالمساجد ومجالس الحكام والعلم وغيرها، وأما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا إذن له فيها فإنه يقام ويخرج منها، إلى آخر ما ذكر.

(1)

عمدة القاري" (15/ 380).

(2)

"الشرح الكبير"(2/ 42).

(3)

انظر: "بذل المجهود"(13/ 618).

(4)

"فتح الباري"(11/ 62).

(5)

"شرح الكرماني"(22/ 104).

(6)

"إرشاد الساري"(13/ 322).

ص: 360

(32 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ. . .} [المجادلة: 11]) إلخ

كذا في النسخة "الهندية" والشروح الثلاثة سوى نسخة "الكرماني"، فإن فيها:{فِي الْمَجَالِسِ} بلفظ الجمع.

قال القسطلاني

(1)

: وقرأ عاصم {فِي الْمَجَالِسِ} بالجمع اعتبارًا بأن لكل واحد مجلسًا، والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شأن نزول الآية.

وقال أيضًا: وعن ابن عباس: هي مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن: كانوا يتشاحُّون على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة، فنزلت، والظاهر أن الحكم يطرد في مجالس الطاعات وإن كان السبب خاصًا، انتهى.

(33 -‌

‌ باب من قام من مجلسه أو بيته. . .) إلخ

لم يتعرض الشرَّاح عن غرض الترجمة

(2)

وكذا لشرح الترجمة إلا العلامة العيني فإنه قد شرح ألفاظ الترجمة إذ قال

(3)

: أي: هذا باب يذكر فيه من قام من مجلسه وكان عنده ناس أطالوا الجلوس عنده فاستحيى أن يقول لهم: قوموا، وهو معنى "لم يستأذن أصحابه"، وقوله:"أو تهيأ" أي: تجهز للقيام حتى يرى من عنده أنه يريد القيام ليقوموا معه، وهذه الترجمة مسبوكة من معنى حديث الباب، انتهى.

وقال العلامة القسطلاني

(4)

تحت حديث الباب: وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يطيل الجلوس بعد قضاء حاجته التي دخل لها، ولصاحب الدار أن يظهر له أن يقوم من عنده ويظهر التثاقل به، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 323).

(2)

كذا في الأصل: "عن غرض الترجمة" والظاهر أن يكون: "لغرض الترجمة".

(3)

"عمدة القاري"(15/ 384).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 325).

ص: 361

وأما الغرض من الترجمة فما يخطر بالبال - والله أعلم بحقيقة الحال - أن الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى جواز ما ذكره في الترجمة لئلا يتوهم أن هذا القيام من غير استئذان، وإظهار التثاقل عند الضيف ينافي ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن لزورك عليك حقًّا"، وأمثال هذا الحديث الواردة في مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن التنبيه على سوء صنيع الضيف لا ينافي مكارم الأخلاق الذي بعث صلى الله عليه وسلم لأجل تكميلها وتتميمها.

(34 -‌

‌ باب الاحتباء باليد)

وفي هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(1)

: أي: باليدين بأن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويدير يديه مثلًا على ساقيه ويمسك إحديهما بالأخرى، انتهى.

قال العلامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان أمر الاحتباء باليد، ولم يبين حكمه اكتفاءً بما دل عليه حديث الباب، والاحتباء مصدر احتبى يحتبي: إذا جمع ظهره وساقيه بعمامة، قاله الكرماني.

وفسره البخاري بقوله: "وهو القرفصاء"، وأخذه من كلام أبي عبيدة فإنه قال: القرفصاء جلسة المحتبي ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه. والقرفصاء بضم القاف وسكون الراء وفتح الفاء وضمها ممدودًا ومقصورًا: ضرب من القعود وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذه ببطنه ويحتبي بيديه فيضعهما على ساقيه، وقيل: جلسة الرجل على أليتيه، انتهى.

قلت: الاحتباء قد يكون بالثوب وقد يكون باليد كما في "الفتح" وغيره، ففي "المجمع"

(3)

: الاحتباء أن يضم رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون باليدين، انتهى.

(1)

"تحفة الباري"(6/ 156).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 385).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(1/ 432).

ص: 362

وأما القرفصاء فهي تكون باليد ففي "المجمع"

(1)

: والقرفصاء هي جلسة المحتبي بيديه، انتهى.

فعلى هذا هي أخص من الاحتباء لكن لا يشكل تفسير المصنف أحدهما بالآخر؛ لأنه قيد الاحتباء بقوله: باليد، ولا شك أنه القرفصاء.

وقال العيني

(2)

تحت حديث الباب: قوله: "محتبيًا بيده" الاحتباء قد يكون باليد وقد يكون باليدين، فظاهر هذا الحديث أنه كان باليد، وأما باليدين فقد رواه أبو داود من حديث أبي سعيد:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيديه" ورواه البزار وزاد: "نصب ركبتيه"، وروى البزار أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ:"جلس عند الكعبة وضمَّ رجليه فأقامهما واحتبى بيديه"، انتهى.

ثم اعلم أنه قد تقدم في "كتاب اللباس" ترجمة المصنف بقوله: "باب الاحتباء في ثوب واحد"، وقد تقدم هناك أن المصنف أشار بقوله:"في ثوب واحد" إلى محمل النهي، وهو أن المنع محمول على ما إذا كان عليه ثوب واحد، وأخرج المصنف هناك حديث أبي هريرة:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين: أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء" الحديث، وثبت بحديث الباب ههنا جلوسه صلى الله عليه وسلم محتبيًا بيده، والجمع بينهما هو ما تقدم من أن النهي مقيد بما إذا كان عليه ثوب واحد.

قال العلامة النووي في "شرح مسلم"

(3)

: وكان الاحتباء عادة العرب في مجالسهم، فإن انكشف معه شيء من عورته فهو حرام، والله أعلم، انتهى.

وهكذا ذكر الحافظ

(4)

من أن النهي مقيد بما إذا لم يكن على الفرج شيء، أي: يستره، ومقتضاه أن الفرج إذا كان مستورًا فلا نهي، انتهى.

(1)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 260).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 386).

(3)

" شرح النووي"(7/ 328).

(4)

"فتح الباري"(1/ 477).

ص: 363

وفي "المشكاة"

(1)

من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد احتبى بيديه" رواه رزين، ولما ثبت الاحتباء منه صلى الله عليه وسلم فأقل مراتبه الجواز بل قيل: إنه سُنَّة، قال القاري في "المرقاة"

(2)

تحت حديث ابن عمر حديث الباب: المراد به سُنِّية الاحتباء في الجلوس، ذكره ابن الملك، والظاهر أن سُنِّيته لا تحصل بمجرد هذا الفعل، بل هو بيان الجواز ودليل الاستحباب، انتهى.

(35 -‌

‌ باب من اتكأ بين يدي أصحابه. . .) إلخ

قال العيني

(3)

: قيل: الاتكاء: الاضطجاع، وفي حديث عمر رضي الله عنه:"وهو متكئ على سرير" أي: النبي صلى الله عليه وسلم مضطجع على سرير بدليل قوله: "قد أثّر السرير في جنبه"، وقال الخطابي: كل معتمد على شيء متمكن منه فهو متكئ، انتهى.

وقد بسط الحافظ

(4)

الكلام في تفسير الاتكاء والفرق بينه وبين الاضطجاع، وفي هامش المصرية عن "شرح شيخ الإسلام"

(5)

: والاتكاء ههنا بقرينة حديث الباب الاضطجاع على الجنب، وفي حديث "لا آكل متكئًا" الاستواء قاعدًا متمكنًا، قال ابن الأثير: المتكئ في العربية كل من استوى قاعدًا على وطاء متمكنًا، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مَالَ في قعوده معتمدًا على أحد شقيه، قال: ومعنى حديث "لا آكل متكئًا" أي: إذا أكلت لم أقعد متكئًا مثل من يريد الاستكثار منه، ولكن آكل بُلْغَةً فيكون قعودي له مستوفزًا، انتهى.

وقال الحافظ

(6)

: نقل ابن العربي عن بعض الأطباء أنه كره الاتكاء، وتعقبه بأن فيه راحة كالاستناد والاحتباء، قال المهلب: يجوز للعالم

(1)

"مشكاة المصابيح"(رقم 4713).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 480، 481).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 386).

(4)

"فتح الباري"(11/ 66).

(5)

"تحفة الباري"(6/ 157).

(6)

"فتح الباري"(11/ 67).

ص: 364

والمفتي والإمام الاتكاءُ في مجلسه بحضرة الناس لألمٍ يجده في بعض أعضائه، أو لراحة يرتفق بذلك، انتهى.

(36 -‌

‌ باب من أسرع في مشيه لحاجة)

أي: لسبب من الأسباب.

وقوله: (أو قصد) أي: لأجل قصد شيء معروف، والقصد هنا بمعنى المقصود، أي: أسرع لأمر مقصود، قال ابن بطال: في الحديث جواز إسراع الإمام في حاجته، وقد جاء أن إسراعه عليه الصلاة والسلام في دخوله إنما كان لأجل صدقة أحبّ أن يفرقها في وقته.

ثم قال الحافظ

(1)

: وقوله في الترجمة: "لحاجة أو قصد" يشعر بأن مشيه لغير الحاجة كان على هينته، ومن ثم تعجبوا من إسراعه فدل على أنه وقع على غير عادته، فحاصل الترجمة أن الإسراع في المشي إن كان لحاجة لم يكن به بأس، وإن كان عمدًا لغير حاجة فلا، انتهى.

قلت: وعندي أن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى أن الإسراع في المشي إذا كان لحاجة لا ينافي الوقار والتؤدة.

(37 -‌

‌ باب السرير)

قال العلامة العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان حكم اتخاذ السرير، وهو معروف، قال الراغب: إنه مأخوذ من السرور لأنه في الغالب لأولي النعمة، انتهى.

والظاهر أن المصنف أشار به إلى أن اتخاذ السرير لا ينافي الزهد.

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث عائشة وهو ظاهر فيما ترجم له، قال ابن بطال: فيه جواز اتخاذ السرير والنوم عليه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 67).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 388).

(3)

"فتح الباري"(11/ 68).

ص: 365

(38 -‌

‌ باب من ألقي له وسادة)

قال الحافظ

(1)

في شرح الحديث: قوله: "فألقيت له وسادة" قال المهلب: فيه إكرام الكبير، وجواز زيارة الكبير تلميذه، وتعليمه في منزله ما يحتاج إليه في دينه، وإيثار التواضع وحمل النفس عليه، وجواز ردّ الكرامة حيث لا يتأذى بذلك من تردّد عليه، انتهى.

(39 -‌

‌ باب القائلة بعد الجمعة)

أي: بعد صلاة الجمعة، وهي النوم في وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبلُ أو بعدُ، ويقال لها أيضًا القيلولة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العيني

(3)

: قال ابن الأثير: المقيل والقيلولة: الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وأخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن عباس رفعه: "استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة"، وورد الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رفعه قال:"قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" وفي سنده كثير بن مروان وهو متروك، وأخرج سفيان بن عيينة في "جامعه" من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفًا قال:"نوم أول النهار حرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق"، وسنده صحيح، انتهى.

(40 -‌

‌ باب القائلة في المسجد)

قال الحافظ

(5)

تحت حديث الباب: قال المهلب: فيه جواز النوم في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وعكسه غيره، وهو يظهر من سياق القصة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 69).

(2)

"فتح الباري"(11/ 69، 70).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 391).

(4)

"فتح الباري"(11/ 70).

(5)

"فتح الباري"(11/ 70).

ص: 366

قلت: والمسألة خلافية تقدمت المذاهب فيها في أبواب المساجد، فقد ترجم المصنف هناك "باب نوم الرجال في المسجد"، وجملة المذاهب فيه ما قال النووي في "شرح مسلم"

(1)

: يجوز النوم عندنا في المسجد، نصّ عليه الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم"، قال ابن المنذر: رخص في النوم في المسجد ابن المسيب والحسن وعطاء والشافعي.

وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقدًا، وروي عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه للصلاة فلا بأس، وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد، وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر، ثم ذكر قول أحمد مثل قول مالك. وأما عندنا الحنفية فقد عدّ صاحب "الدر المختار" في ما يكره في المسجد النومَ لغير المعتكف.

(41 -‌

‌ باب من زار قومًا فقال عندهم)

من القيلولة، أي: نام عندهم نصف النهار، ومطابقة حديثي الباب بالترجمة ظاهرة، وأشار العلامة السندي

(2)

إلى غرض الترجمة فقال: أي: قوله تعالى {إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} الآية [الأحزاب: 53]، وإن كان بحسب الظاهر مطلقًا لكنه مقيد معنىً بحال عدم الداعي ونحوه، انتهى.

(42 -‌

‌ باب الجلوس كيفما تيسر منه)

قال العلامة العيني

(3)

: أي: بيان جواز الجلوس كيفما تيسر، ويستثنى منه ما نهي عنه في حديث الباب على ما يأتي الآن، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: مطابقة الحديث لما ترجم من حيث إنه خص النهي بحالتين، فيفهم منه أن ما عداهما ليس منهيًّا عنه؛ لأن الأصل عدم

(1)

"شرح النووي"(2/ 195).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 95).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 393).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 336، 337).

ص: 367

النهي فالأصل الجواز، نعم نقل ابن بطال عن ابن

(1)

طاوس أنه كان يكره التربع ويقول: هي جلسة مهلكة. لكن عورض "بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر تربّع في مجلسه حتى تطلع الشمس" رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة، انتهى.

وتعقب العلامة السندي

(2)

كلام القسطلاني في بيان المطابقة إذ قال: وفيه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن حالتي اللبس لا عن حالتي الجلوس حتى يحسن الاستدلال على جواز ما عدا حالتي الجلوس، وأيضًا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر، ولا في الحديث ما يدل عليه، كيف وقد نهى عن البيعتين مع أن المنهي عنه من البيوع أكثر من أن يحصر، والله تعالى أعلم، انتهى. وبسط الحافظ الكلام في وجه المطابقة.

(43 -‌

‌ باب من ناجى بين يدي الناس. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(3)

في شرح ترجمة الباب: "ومن لم يخبر" أي: في بيان من لم يخبر بسر صاحبه في حياة صاحبه إلخ.

والحاصل: أن هذه الترجمة مشتملة على شيئين لم يوضح الحكم فيهما اكتفاء بما في الحديث، أما الأول فحكمه جواز مساررة الواحد بحضرة الجماعة، وليس ذلك من نهيه عن مناجاة الاثنين دون الواحد؛ لأن المعنى الذي يخاف من ترك الواحد لا يخاف من ترك الجماعة، وذلك أن الواحد إذا سارّوا دونه وقع بنفسه أنهما يتكلمان فيه بالسوء، ولا يتفق ذلك في الجماعة.

وأما الثاني فحكمه أنه لا ينبغي إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسرّ، إلى آخر ما ذكر، ثم قال: وهذا حاصل معنى الترجمة المذكورة، وبه يتضح أيضًا معنى الحديث، انتهى.

(1)

هكذا في "الفتح"، وفي نسخة "العيني" بدله:"طاوس"، فليفتش، (ز).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 95).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 394).

ص: 368

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الغرض من الجزء الأول من جزئي الترجمة بيان أن النجوى والمساررة بواحد إذا كان بمحضر من الجماعة فلا ينافي إكرامهم، وليست هذه الترجمة من قبيل مناجاة الاثنين دون الواحد كما ذكره العيني، وحكاه الحافظ أيضًا عن ابن بطال، وذلك لأن ما ذكره الشرَّاح ههنا في بيان الغرض سيأتي مستقلًا بعد ثلاثة أبواب، وهو قوله:"باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمساررة" إلخ، فتأمل فإنه لطيف.

(44 -‌

‌ باب الاستلقاء)

قال الحافظ

(1)

: هو الاضطجاع على القفا، سواء كان معه نوم أم لا، وقد تقدمت هذه الترجمة وحديثها في آخر "كتاب اللباس" قبيل "كتاب الأدب"، انتهى.

قلت: فعلى هذا يشكل التكرار ولم يتعرض الشرَّاح للجواب عنه، وعندي يمكن أن يقال في وجه الفرق بينهما: أن المصنف ذكره سابقًا لمناسبة اللباس لاحتمال الكشف في هذه الصورة، وههنا ذكره لبيان الجواز لورود النهي عنه، ويمكن أيضًا أن يقال: إن المقصود في الترجمة السابقة هو الجزء الثاني من الترجمة، وهو وضع الرجل على الأخرى، والمقصود ههنا نفس الاستلقاء، وقد تقدم أيضًا في أبواب المساجد "باب الاستلقاء في المسجد"، وتقدم هناك الكلام على الجمع بين الروايات المختلفة الواردة في ذلك، وكذا ذكر مذاهب العلماء فيه.

(45 -‌

‌ باب لا يتناجى اثنان دون الثالث. . .) إلخ

أي: لا يتحدّثان سرًّا، وسقط لفظ "باب" من رواية أبي ذر، وأشار بإيراد الآيتين إلى أن التناجي الجائز المأخوذ من مفهوم الحديث مقيد بأن

(1)

"فتح الباري"(11/ 81).

ص: 369

لا يكون في الإثم والعدوان، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وهكذا قال العيني وتبعهما القسطلاني، لكن ما أفاده هؤلاء الشرَّاح هو يتعلق بالآية الأولى فقط، ولا ينطبق على الآية الثانية وهو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الآية [المجادلة: 12] كما لا يخفى، وقد تعرض له الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

فأجاد حيث أفاد: ومناسبة الآيتين بالترجمة خفية إلا أن يقال: إنّ تناجي اثنين إذا كان سببًا لمساءة الثالث كان ذلك تناجيًا بالإثم والعدوان وهو منهي عنه، فكان إيراد الآية ههنا تعميمًا لها حتى يدخل فيه تلك الجزئية، وأن التناجي لا بد وأن يكون على حسب قواعده المقررة وآدابه المعلومة دل عليه الآية الثانية، فإن خصوص تقديم الصدقة وإن كان منسوخًا، غير أن ما تضمنته هذه الآية من كون النجوى على حسب الآداب غير منسوخ، سواء كانت النجوى بالرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره، انتهى.

وذكر في هامش "الكوكب الدري"

(3)

في شرح حديث الباب سبعة أبحاث: الأول: علة النهي. والثاني: ما قال بعضهم: إن هذا الحكم منسوخ. والثالث: ما قال الجمهور: لا فرق في ذلك بين السفر والحضر. والرابع: أن ذكر الاثنين في أحاديث الباب ليس بقيد احترازي. والخامس: أن النهي إذا كان بغير رضا الثالث. والسادس: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. والسابع: هل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ بسط الكلام على هذه المباحث في هامش "الكوكب"، فارجع إليه لو شئت.

(46 -‌

‌ باب حفظ السر)

أي: ترك إفشائه لأنه أمانة وحفظها واجب، وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر مرفوعًا:"إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة"،

(1)

"فتح الباري"(11/ 81)، "عمدة القاري"(15/ 396)، "إرشاد الساري"(13/ 340).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 61).

(3)

"الكوكب الدري"(3/ 420، 421).

ص: 370

وعند عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم: إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(47 -‌

‌ باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة)

بتشديد الراء "والمناجاة" من بعض دون بعض؛ لعدم توهم الحاصل بين الثلاثة، قاله القسطلاني

(2)

.

وقال في شرح الحديث: والغرض من الحديث قوله: "فأتيته وهو في ملأ فساررته"؛ لأن فيه دلالة على أن أصل المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار، نعم إذا أذن من بقي ارتفع المنع، وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في المنع بين السفر والحضر وهو قول الجمهور، وخصّ ذلك بعضهم بالسفر في الموضع الذي لا يأمن فيه الرجل على نفسه، فأما في الحضر والعمارة فلا بأس، وقيل: إن هذا كان في أول الإسلام، فلما فشا الإسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم، والصحيح بقاء الحكم والتعميم، والله أعلم، انتهى.

(48 -‌

‌ باب طول النجوى)

قال القسطلاني

(3)

: في "اللباب": النجوى يكون اسمًا ومصدرًا، قال تعالى:{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] أي: متناجون، وقال:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 7] وقال في المصدر: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] قوله: "والمعنى يتناجون" وقال الأزهري: أي: هم ذو نجوى، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 341).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 342، 343).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 344).

ص: 371

(49 -‌

‌ باب لا تترك النار في البيت عند النوم)

قول: (لا تترك) بضم الفوقية مبني للمفعول، و"النار" رفع نائب عن الفاعل، قوله:"في بيوتكم حين تنامون" قيد به لحصول الغفلة به غالبًا، نعم إذا أمن الضرر كالقناديل المعلقة فلا بأس.

قال النووي تحت قوله: "وأطفئوا المصابيح" إلخ: وهذا الأمر عام يدخل فيه نار السراج وغيرها، وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر، وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

(50 -‌

‌ باب إغلاق الأبواب بالليل)

كذا في النسخة "الهندية" ونسخ الشروح سوى "الفتح"، فإن فيها:"غلق الأبواب".

قال الحافظ

(2)

: الإغلاق هو الفصيح، وقال عياض: هو الصواب، قلت: لكن الغلق ثبت في لغة نادرة، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: قوله: "وغلقوا الأبواب" حراسةً للأنفس والأموال من أهل الفساد ولا سيما الشيطان، قوله:"أوكئوا الأسقية" صيانة من الشيطان، فإنه لا يكشف غطاء ولا يحلّ سقاء، واحترازًا من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة من السماء كما روي، وقيل: إنها في كانون الأول، انتهى.

قلت: وقد تقدم في بدء الخلق زيادة في هذا الحديث لم تذكر ههنا وهي قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا"، قال القاري في "المرقاة"

(4)

: قوله: "لا يفتح بابًا مغلقًا" أي: بابًا أغلق مع ذكر اسم الله عليه كما في

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 346).

(2)

"فتح الباري"(11/ 87).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 347).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(8/ 115).

ص: 372

رواية، والمعنى أنه لا يقدر على فتحه لأنه غير مأذون فيه، بخلاف إذا كان مفتوحًا أو مغلقًا لكن لم يذكر اسم الله عليه، قال ابن الملك: وعن بعض الفضلاء أن المراد بالشيطان شيطان الإنس لأن غلق الأبواب لا يمنع شياطين الجن، وفيه نظر؛ لأن المراد بالغلق الغلق المذكور فيه اسم الله تعالى، فيجوز أن يكون دخولهم من جميع الجهات ممنوعًا ببركة التسمية، وإنما خص الباب بالذكر لسهولة الدخول منه، فإذا منع منه كان المنع من الأصعب بالأولى. ثم رأيت في "الجامع الصغير" برواية أحمد عن أبي أمامة مرفوعًا وفيه:"فإنه لم يؤذن لهم بالتسور عليكم"، انتهى.

(51 -‌

‌ باب الختان بعد ما كبر)

وفي نسخة الحافظ: "بعد الكبر"، والكبر بكسر الكاف وفتح الموحدة.

قال الكرماني

(1)

: وجه مناسبة هذه الترجمة بـ "كتاب الاستئذان" أن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبًا، قاله الحافظ.

وقد تقدم الكلام على وجه إدخال مثل هذه التراجم في هذا الكتاب في مبدء "كتاب الاستئذان".

ثم قال الحافظ

(2)

تحت حديث الباب: يستدل بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان حتى لو أخّر لمانع حتى بلغ السنَّ المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر، انتهى.

ثم اختلفوا في حكم الختان فقال الحافظ

(3)

: وقد ذهب إلى وجوب الختان الشافعي وجمهور أصحابه، وقال به من القدماء عطاء حتى لو أسلم

(1)

"شرح الكرماني"(22/ 120)، "فتح الباري"(11/ 88).

(2)

"فتح الباري"(11/ 89).

(3)

"فتح الباري"(10/ 340).

ص: 373

الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن، وعن أحمد وبعض المالكية يجب، وعن أبي حنيفة واجب وليس بفرض، وعنه سُنَّة يأثم بتركه، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(1)

: والأصل أن الختان سُنَّة كما جاء في الخبر، وهو من شعائر الإسلام وخصائصه، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، فلا يترك إلا لعذر، وعذر شيخ لا يطيقه ظاهر، انتهى.

وفي "المغني"

(2)

لابن قدامة: واجب عند الشافعي وأحمد، ولذا يجوز له كشف العورة، سُنَّة عند مالك وأبي حنيفة، انتهى.

قلت: وما قال الموفق في تأييد مسلكه من قوله: ولذا يجوز له كشف العورة، يستفاد جوابه من جانب الحنفية مما ذكره الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

إذ قال: قوله: "بعد ما كبر. . ." إلخ، فيه دلالة على أن فرض الستر ساقط عند ذاك بإجازة الشرع كما يدل عليه استمرار عادات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ونظير سقوط الستر لعذر الختان سقوطه عند الولادة والعلاج وغير ذلك مما ليس شيء منها واجبًا ولا فرضًا، انتهى.

قوله: (ونتف الإبط) قال الشيخ في "البذل"

(4)

: أي: قلع شعره بحذف المضاف، وعلم منه أن حلقه ليس بسُنَّة، وقيل: النتف أفضل لمن قوي عليه، قال في "الدر المختار" و"شرحه": وتنظيف بدنه بنحو إزالة الشعر من إبطيه، ويجوز فيه الحلق، والنتف أولى، انتهى.

وفي هامش "البذل": قال ابن رسلان: حكي عن يونس قال: دخلت على الشافعي وعنده من يحلق إبطه فقال: أَعْلَم أن السُّنَّة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع، انتهى.

(1)

"ردّ المحتار"(10/ 480).

(2)

"المغني"(1/ 115).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 63).

(4)

"بذل المجهود"(1/ 338).

ص: 374

(52 -‌

‌ باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله)

أي: كمَنِ الْتَهى بشيء من الأَشياء مطلقًا سواء كان مأذونًا في فعله أو منهيًا عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكر في معاني القرآن مثلًا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا، فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها، ثم قال: أول هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله" الحديث، وكأنه لما لم يكن على شرط المصنف استعمله لفظ ترجمة.

ثم قال الحافظ في شرح الحديث: قال الكرماني: وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة بالاستئذان أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل

(1)

، انتهى.

(53 -‌

‌ باب ما جاء في البناء)

أي: من منع وإباحة، والبناء أعم من أن يكون بطين أو مدر أو بخشب أو من قصب أو من شعر.

قوله: (قال أبو هريرة. . .) إلخ، وقد تقدم هذا الحديث موصولًا مطولًا في "كتاب الإيمان"، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذمّ التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحًا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة بن عامر:"إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق إلى أين؟ " وفي سنده ضعف مع كونه موقوفًا، وأخرج الترمذي وصححه من حديث خباب رفعه: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا

(1)

"فتح الباري"(11/ 91، 92)، "شرح الكرماني"(22/ 120).

ص: 375

التراب، أو قال: البناء"، وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك"، وصححه الترمذي وابن حبان، وأخرج أبو داود أيضًا من حديث أنس رفعه: "أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا" أي: إلا ما لا بد منه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "البذل"

(2)

في شرح قوله: "ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك": كتب مولانا محمد يحيى المرحوم في تقريره: ليس فيه نهي عما كانوا فيه من الإصلاح، بل المقصود تذكيرهم المنية والتنبيه على أن المرء لا ينبغي له أن يلهو بشيء من المشاغل عن مصيره وعاقبته، انتهى.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فما في هامش "اللامع"

(3)

من "تقرير المكي": قوله: "بنيت بيدي. . ." إلخ، إشارة إلى صغر ذلك البنيان لأنه إذا بناه بيده وحده ولم يشاركه أحد في بنائه فما ظنك بأنه لا يكون صغيرًا، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: قوله: "ما أعانني عليه أحدٌ" هو تأكيد لقوله: "بنيت بيدي"، وإشارة إلى خفة مؤنة، انتهى.

ثم ما وقع في الحديث من التعارض في قوله: "والله لقد بنى. . ." إلخ، ذكر الكلام عليه في "اللامع"

(5)

وهامشه فارجع إليه.

ثم البراعة في قوله: "منذ قبض النبي صلى الله عليه وسلم"

(6)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(11/ 92، 93).

(2)

"بذل المجهود"(13/ 624).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 64).

(4)

"فتح الباري"(11/ 93).

(5)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 64).

(6)

انظر: "مقدمة لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 376

80 -

‌ كتاب الدعوات

قال الحافظ

(1)

في ذكر مناسبة الترتيب بين الأبواب والكتب: ولما كان السلام والاستئذان سببًا لفتح الأبواب السفلية أردفها بالدعوات التي هي فتح الأبواب العلوية، ولما كان الدعاء سبب المغفرة ذكر الاستغفار، ولما كان الاستغفار سببًا لهدم الذنوب قال: باب التوبة، ثم ذكر الأذكار الموقتة وغيرها والاستعاذة، انتهى من مقدمة "اللامع"

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: الدعوات بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله، وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحثُّ على فعله، ويطلق أيضًا على رفعة القدر كقوله تعالى:{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} [غافر: 43]، ويطلق الدعاء أيضًا على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس: 10]، انتهى.

قال القاري في "المرقاة"

(4)

: والدعاء طلب الأدنى بالقول من الأعلى شيئًا على جهة الاستكانة، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: الدعاء في عرف القرآن والحديث أطلق على معنيين: الأول: ذكره تعالى، ثم اشتهر في زماننا في طلب الحاجة. والثاني: هو الدعوة مطلقًا كقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، ثم إن باب الأدعية لا يزال يجري حتى في الجنة أيضًا، أما الأحكام فإنها تنتهي بانتهاء نشأة الدنيا، فكم من فرق بين الفاني والباقي، وأنَّى يلتقي السهيل مع السُّها، والثريا مع الثرى، انتهى.

(1)

"هدي الساري"(1/ 474).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 281).

(3)

"فتح الباري"(11/ 94).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 5).

(5)

"فيض الباري"(6/ 216، 217).

ص: 377

(1 -‌

‌ باب قول الله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:

60])

هكذا في النسخة "الهندية"، وعليه علامة النسخة، وليس في شيء من نسخ الشروح الأربعة ولا النسخة المصرية لفظ "باب"، وهو الأظهر؛ لأن المصنف لم يذكر فيه حديثًا.

قال الحافظ

(1)

: وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دلّ على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60]، واستدلوا بحديث النعمان بن بشير مرفوعًا:"الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} الآية" أخرجه الأربعة والحاكم، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة، فهو كالحديث الآخر:"الحج عرفة" أي: معظم الحج وركنه الأكبر، إلى آخر ما ذكر الحافظ من الروايات الواردة في ذلك.

ثم قال الحافظ

(2)

: وحكى القشيري في "الرسالة" الخلاف في المسألة فقال: اختلف أيّ الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل، ويصح أن يقال: ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبّر ابن بطال

(3)

عن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، إلى آخر ما ذكر الحافظ.

وقال القاري

(4)

: قال النووي: أجمع أهل الفتاوى في الأمصار في جميع الأعصار على استحباب الدعاء، وذهب طائفة من الزهاد وأهل

(1)

"فتح الباري"(11/ 94).

(2)

"فتح الباري"(11/ 95).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 72).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 5).

ص: 378

المعارف إلى أن تركه أفضل استسلامًا، وقال جماعة: إن دعا للمسلمين فحسن وإن خصّ نفسه فلا، وقيل: إن وجد باعثًا للدعاء استحب وإلا فلا، ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسُّنَّة والأخبار الواردة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، انتهى.

قلت: وأجاد شيخنا حضرة الحاج مولانا خليل أحمد نوّر الله مرقده في رسالة "إتمام النعم في ترجمة تبويب الحكم" باللغة الأردية، وكذا شارحه مولانا عبد الله الكَنكَوهي في شرح هذه الرسالة المطبوعة باسم "إكمال الشيم" الكلام على الفرق بين دعاء العارفين وبين دعاء غيرهم من عامة الناس.

(2 -‌

‌ باب ولكل نبي دعوة مستجابة)

كذا في النسخة "الهندية"، وهكذا في نسخة "الفتح"، وأما في نسخة "الكرماني" و"العيني" و"القسطلاني" ففيها بدون لفظ "باب".

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، وسقط لفظ "باب" لغيره، فصار من جملة الترجمة الأولى، ومناسبتها للآية الإشارة إلى أن بعض الدعاء لا يستجاب عينًا. ثم قال في شرح الحديث: وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة، وقيل: معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي: أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب، إلى آخر ما ذكر من الأقوال في شرح الحديث.

(1)

"فتح الباري"(11/ 96).

ص: 379

وقال القاري في "المرقاة"

(1)

: قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة. . ." إلخ، أي: في حق مخالفي أمته جميعهم بالاستئصال، وقيل: معناه أن لكل نبي دعوة متيقنة الإجابة بخلاف بقية دعواته فإنها على طمع الإجابة، انتهى.

(3 -‌

‌ باب أفضل الاستغفار. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: سقط لفظ "باب" لأبي ذر، ووقع في شرح ابن بطال بلفظ:"فضل الاستغفار"، وكأن المصنف أراد إثبات مشروعية الحثِّ على الاستغفار بذكر الآيتين، ثم بيَّن بالحديث أولى ما يستعمل من ألفاظه، والترجمة بالأفضلية، ووقع الحديث بلفظ السيادة، وكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية، ومعناها الأكثر نفعًا لمستعمله، انتهى.

(4 -‌

‌ باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة)

قال الحافظ

(3)

: أي: وقوع الاستغفار منه، أو التقدير مقدار استغفاره في كل يوم، ولا يحمل على الكيفية لتقدم بيان الأفضل، وهو لا يترك الأفضل، انتهى.

وقد تكلم الحافظ ههنا على شرح ما وقع عند مسلم وأبي داود من حديث: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة"، ثم قال الحافظ

(4)

بعد شرح هذا الحديث: وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، فارجع إليه لو شئت.

(فائدة): أفاد العلامة الزرقاني

(5)

في شرح قوله: فقال: "لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" الحديث، قوله:

(1)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 5).

(2)

"فتح الباري"(11/ 98).

(3)

"فتح الباري"(11/ 101).

(4)

"فتح الباري"(11/ 101).

(5)

"شرح الزرقاني على الموطأ"(2/ 159).

ص: 380

غفر الله لك، أي: ستر وحال بينك وبين الذنب، فلا يقع منك ذنب أصلًا؛ لأن الغفر الستر وهو إما بين العبد والذنب وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول وبأممهم الثاني، فهو كناية عن العصمة، وهذا قول في غاية الحسن، انتهى.

(5 -‌

‌ باب التوبة)

أشار المصنف بإيراد هذين البابين وهما الاستغفار ثم التوبة في أوائل كتاب الدعاء إلى أن الإجابة تسرع إلى من لم يكن متلبسًا بالمعصية، فإذا قدم التوبة والاستغفار قبل الدعاء كان أمكن لإجابته، وما ألطف قول ابن الجوزي إذ سئل: أأسبح أو أستغفر؟ فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور، والتوبة ترك الذنب على أحد الوجه، وفي الشرع: تركُ الذنب لقبحه، والندمُ على فعله، والعزمُ على عدم العود، وردُّ المظلمة إن كانت أو طلب البراءة من صاحبها، ثم حكى الحافظ عن القرطبي كلامًا مبسوطًا في شرح حقيقة التوبة

(1)

.

(6 -‌

‌ باب الضجع على الشق الأيمن)

الضجع بفتح أوله وسكون الجيم مصدر، يقال: ضجع الرجل يضجع ضجعًا وضجوعًا، فهو ضاجع، والمعنى وضع جنبه بالأرض، وفي رواية "باب الضجعة" وهو بكسر أوله؛ لأن المراد الهيئة، ويجوز الفتح، أي: المرة. ذكر فيه حديث عائشة وقد مضى في "كتاب الصلاة"، وترجم له "باب الضجع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر"، وذكر المصنف هذا الباب والذي بعده توطئة لما يذكر بعدهما من القول عند النوم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

انظر: "فتح الباري"(11/ 102، 103)، و"المفهم"(7/ 28).

(2)

"فتح الباري"(11/ 109).

ص: 381

ويشكل ههنا أن من حق هذا الباب أن يذكر في "كتاب الآداب"؟

قال الكرماني

(1)

: فإن قلت: ما وجه تعلقه بـ "كتاب الدعوات"؟ قلت: يعلم من سائر الأحاديث أنه كان يدعو عند الاضطجاع.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن هذا الباب وأمثاله - من "باب إذا بات طاهرًا"، و"وضع اليد تحت الخد"، و"النوم على الشق الأيمن" - لها تعلقًا خاصًّا بـ "كتاب الدعوات"، وهو التنبيه على أن الهيئات الواردة في الحديث في الأدعية المخصوصة مقصودة ليست باتفاقية، ونظيره في حديث البراء في الباب الآتي أنه صلى الله عليه وسلم أمر البراء رضي الله عنه بلفظ:"نبيك الذي أرسلت" وغيّره البراء رضي الله عنه وقت الاستذكار به بقوله: "ورسولك الذي أرسلت"، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع كون الرسول أفضل من النبي، فكما أن للألفاظ المنقولة بلسانه الشريف صلى الله عليه وسلم خصيصة فكذا للهيئات المخصوصة في الأدعية المخصوصة أثر خاص في تأثير هذه الأدعية، انتهى.

(7 -‌

‌ باب إذا بات طاهرًا وفضله)

وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث ليست على شرطه، منها حديث معاذ رفعه:"ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة نحوه، وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر رفعه:"من بات طاهرًا بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللَّهم اغفر لعبدك فلان"

(2)

.

ثم قال الحافظ

(3)

في شرح الحديث: قال النووي: في الحديث ثلاث سنن مهمة: إحداها: الوضوء عند النوم، وإن كان متوضيًا كفاه لأن

(1)

"شرح الكرماني"(22/ 127).

(2)

انظر: "فتح الباري"(11/ 109).

(3)

"فتح الباري"(11/ 112).

ص: 382

المقصود النوم على طهارة. ثانيها: النوم على اليمين. ثالثها: الختم بذكر الله، انتهى من "الفتح".

وقال الكرماني

(1)

: وفيه استحباب الوضوء عند النوم ليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلاعب الشيطان به، وأما كون النوم على الأيمن فلأنه أسرع إلى الانتباه، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: والأمر للندب لئلا يأتيه الموت بغتة فيكون على هيئة كاملة، ثم ذكر ما تقدم عن الكرماني.

وقال الحافظ

(3)

: وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال "الرسول" بدل "النبي" أن ألفاظ الأذكار توقيفية ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، انتهى.

(تنبيه): قلت: وما اشتهر بينهم من كون النوم مستقبل القبلة وعدُّوه من جملة الآداب المستحبة لم يتعرض له الشرَّاح ههنا ولا النووي في "الأذكار" ولا الجزري في "الحصن" ولا ابن القيم في "الهدي" ولا الزرقاني في "شرح المواهب" ولا شارح "الإحياء"، وقد ترجم الإمام أبو داود في آخر السنن بقوله:"باب كيف يتوجه الرجل عند النوم"؟ وأورد فيه عن أبي قلابة عن بعض آل أم سلمة قال: "كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا مما يوضع الإنسان في قبره، وكان المسجد عند رأسه"

(4)

.

وفي "هامشه" عن "فتح الودود": قوله: "نحوًا مما يوضع الإنسان في قبره" أي: على هيئة وضع الإنسان في القبر، انتهى.

قال صاحب "عون المعبود"

(5)

: وأورد السيوطي هذا الحديث برواية المؤلف في "الجامع الصغير" بلفظ: "نحوًا مما يوضع الإنسان في قبره"

(1)

"شرح الكرماني"(22/ 128).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 368).

(3)

"فتح الباري"(11/ 112).

(4)

انظر: "بذل المجهود"(13/ 439).

(5)

"عون المعبود"(13/ 263، 264).

ص: 383

وقال العلامة العزيزي في شرحه: "مما يوضع" أي: من الفراش الذي يفرش للميت في قبره، وقد وضع في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء كان فراشه للنوم نحوها، انتهى.

ولفظ حديث الكتاب وما قال في "فتح الودود" يناسب تبويب المؤلف والله أعلم، انتهى.

قلت: وتبويب الإمام أبي داود صريح في أنه حمل الحديث على بيان الهيئة، وأنه كان كهيئة الاضطجاع في القبر، فصار هذا الحديث أصلًا للنوم مستقبل القبلة.

(8 -‌

‌ باب ما يقول إذا نام)

قال الحافظ

(1)

: سقطت هذه الترجمة لبعضهم وثبتت للأكثر، انتهى.

(9 -‌

‌ باب وضع اليد تحت الخد اليمنى)

قال الإسماعيلي: ليس في الحديث ذكر اليمنى، وإنما ذلك وقع في رواية شريك ومحمد بن جابر عن عبد الملك بن عمير.

قلت: جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، فطريق شريك هذه (أي: التي أشار إليها الإسماعيلي) أخرجها أحمد من طريقه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال الكرماني

(3)

: فإن قلت: الترجمة مقيدة باليمنى فمن أين استفاده؟ قلت: إما من حديث صريح به لم يكن بشرطه، وإما مما ثبت أنه كان يحبُّ التيامن في شأنه كله، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 113).

(2)

"فتح الباري"(11/ 115).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 129، 130).

ص: 384

(10 -‌

‌ باب النوم على الشق الأيمن)

الفرق بينه وبين ما تقدم من "باب الضجع على الشق الأيمن" ما أفاده الحافظ

(1)

: من أن: بين النوم والضجع عموم وخصوص وجهي.

وقال أيضًا: وخص الأيمن لفوائد: منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها ما قال ابن الجوزي: هذه الهيئة نصّ الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا: يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن [ساعة] ثم ينقلب إلى الأيسر؛ لأن الأول سبب لانحدار الطعام والنوم على اليسار يهضم لاشتمال الكبد على المعدة، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(2)

: والضجع على الشق الأيمن من نوم الأنبياء عليهم السلام لأن القلب في الشق الأيسر فلا يزال يتعلق في تلك الضجعة ولا يغرق في النوم، وأما الأطباء فاختاروا النوم على الشق الأيسر فإنه أنفع للصحة. ولما كان نظر الأنبياء عليهم السلام في عالم الآخرة اختاروا ما كان أنفع فيه، وكان همّ الأطباء في صحة البدن فقط، انتهى مختصرًا.

وقال القاري في "المرقاة"

(3)

: قيل: أنفع هيئات النوم الابتداءُ بالأيمن، ثم الانقلاب إلى اليسار ثم إلى اليمين، وفيه ندب اليمين في النوم لأنه أسرع إلى الانتباه لعدم استقرار القلب حينئذ؛ لأنه معلق بالجانب الأيسر فيعلق فلا يستغرق في النوم، بخلاف النوم على الأيسر فإن القلب يستقر فتكون الاستراحة له بطئًا للانتباه، انتهى.

قلت: هكذا قالوا من أنه ينقلب إلى اليسار بعد الاضطجاع على الأيمن، لكن ظاهر الأحاديث العموم، أي: النوم على الشق الأيمن مطلقًا، ويؤيده أيضًا ما حكى القاري من المصلحة من أن القلب حينئذ يكون معلقًا فيكون أسرع إلى التيقظ فإنه لا يحصل في صورة الانقلاب إلى الأيسر، فتأمل.

(1)

"فتح الباري"(11/ 110 - 115)، "كشف المشكل"(2/ 240).

(2)

"فيض الباري"(6/ 219).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 225).

ص: 385

(11 -‌

‌ باب الدعاء إذا انتبه من الليل)

وفي نسخة "القسطلاني" و"العيني": "بالليل".

قال القسطلاني

(1)

: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "من الليل".

قوله: (وقال كريب: وسبع في التابوت. . .) إلخ، قال العلامة القسطلاني

(2)

: أي: سبع من الكلمات أو الأنوار في الصدر الذي هو وعاء القلب تشبيهًا بالتابوت الذي يحرز فيه المتاع، أو التابوت الذي كان لبني إسرائيل فيه السكينة، أو الصندوق، أي: سبع مكتوبة عند كريب لم يحفظها ذلك الوقت، أو المراد بالتابوت حينئذ أن السبعة بجسد الإنسان لا بالمعاني كالجهات الست.

قوله: (وذكر خصلتين) أي: العظم والمخ كما قاله السفاقسي والداودي، وقال في "الكواكب": لعلهما الشحم والعظم، انتهى.

(12 -‌

‌ باب التسبيح والتكبير عند المنام)

قال الحافظ

(3)

: أي: والتحميد، انتهى. وكذا قال القسطلاني.

وقال العيني

(4)

: وكان ينبغي أن يقول: والتحميد أيضًا؛ لأن حديث الباب يشمل هذه الثلاثة، انتهى.

(13 -‌

‌ باب التعوذ والقراءة عند النوم)

ذكر فيه حديث عائشة في قراءة المعوذات، وقد تقدم شرحه في "كتاب الطب"، وبينت اختلاف الرواة في أنه كان يقول ذلك دائمًا أو بقيد الشكوى، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 374).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 376).

(3)

"فتح الباري"(11/ 119)، "إرشاد الساري"(13/ 378).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 425).

(5)

"فتح الباري"(11/ 125).

ص: 386

(14 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر من غير ترجمة وسقط لبعضهم، وعليه شرح ابن بطال، والراجح إثباته، ومناسبته لما قبله عموم الذكر عند النوم، وعلى إسقاطه فهو كالفصل من الباب الذي قبله؛ لأن في الحديث معنى التعويذ وإن لم يكن بلفظه، انتهى.

قلت: قوله: وعلى إسقاطه فهو كالفصل إلخ، هكذا في نسخة "الفتح" الموجودة عندنا، وفيه تخليط لأن في صورة إسقاط لفظ الباب لا يترتب عليه قوله: فهو كالفصل من الباب الذي قبله، فتأمل.

(15 -‌

‌ باب الدعاء نصف الليل)

أي: بيان فضل الدعاء في ذلك الوقت على غيره إلى طلوع الفجر، قال ابن بطال: هو وقت شريف خصه الله بالتنزيل فيه، فيتفضل على عباده بإجابة دعائهم وإعطاء سؤلهم وغفران ذنوبهم، وهو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقة اللذة والدعة صعب لا سيما أهل الرفاهية، وفي زمن البرد، وكذا أهل التعب ولا سيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه مع ذلك دلَّ على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فلذلك نبَّه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قال الكرماني

(3)

: فإن قلت: في الترجمة نصف الليل وفي الحديث الثلث؟ قلت: حين يبقى الثلث يكون قبل الثلث، وهو المقصود من النصف، انتهى.

وقال العيني

(4)

بعد ذكر قول العلامة الكرماني: وقال ابن بطال: عدل

(1)

"فتح الباري"(11/ 126).

(2)

"فتح الباري"(11/ 129).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 136).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 429).

ص: 387

المصنف لأنه أخذ الترجمة من دليل القرآن وذكر النصف. وقيل - القائل الحافظ رحمه الله -: أشار البخاري إلى الرواية التي وردت بلفظ النصف، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ:"نصف الليل أو ثلث الليل الآخر"، انتهى.

(16 -‌

‌ باب الدعاء عند الخلاء)

أي: عند إرادة الدخول، ذكر فيه حديث أنس، وقد تقدم شرحه في "كتاب الطهارة"، وفيه ذكر من رواه بلفظ:"إذا أراد أن يدخل"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وتقدم الكلام على الخلاف في المسألة في "كتاب الطهارة".

(17 -‌

‌ باب ما يقول إذا أصبح)

ذكر فيه ثلاثة أحاديث، وقد ورد فيما يقال عند الصباح عدة أحاديث ذكرها الحافظ، منها حديث عبد الله بن غنام البياضي رفعه:"من قال حين يصبح: اللَّهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته"، انتهى من "الفتح"

(2)

. ويقول في المساء: "اللَّهم ما أمسى" بدل "ما أصبح".

(18 -‌

‌ باب الدعاء في الصلاة)

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه ثلاثة أحاديث، وقد تقدم الكلام على حديث أبي بكر الصديق في "باب الدعاء قبيل السلام" في أواخر صفة الصلاة قبيل "كتاب الجمعة"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 129).

(2)

"فتح الباري"(11/ 130، 131).

(3)

"فتح الباري"(11/ 131).

ص: 388

(19 -‌

‌ باب الدعاء بعد الصلاة)

قال الحافظ

(1)

: أي: المكتوبة، وفي هذه الترجمة ردّ على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع متمسكًا بالحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم لا يثبت إلا قدر ما يقول: اللَّهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسًا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت "أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه"، فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه.

قال ابن القيم في "الهدي النبوي": وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء الإمام والمنفرد والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أصلًا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضًا من السُّنَّة بعدهما، قال: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهذا اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلّم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر لا لكونه دبر المكتوبة.

ثم قال الحافظ: قلت: وما ادعاه من النفي مطلقًا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللَّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"

(1)

"فتح الباري"(11/ 133، 134).

ص: 389

أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة:"قيل: يا رسول الله، أيّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات" وقال: حسن، وغير ذلك من الأحاديث ذكرها الحافظ.

وقال صاحب "الفيض"

(1)

: لا ريب أن الأدعية دبر الصلوات قد تواترت تواترًا لا ينكر، أما رفع الأيدي فثبت بعد النافلة مرة أو مرتين، فألحق بها الفقهاء المكتوبة أيضًا، وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى كونه بدعة، بقي أن المواظبة على أمر لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين كيف هي؟ فتلك هي الشاكلة في جميع المستحبات، فإنها تثبت طورًا فطورًا ثم الأمة تواظب عليها، نعم نحكم بكونها بدعة إذا أفضى الأمر إلى النكير على من تركها، انتهى.

وقال أيضًا في موضع آخر

(2)

: واعلم أن الأدعية بهذه الهيئة الكذائية لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عنه رفع الأيدي دبر الصلوات في الدعوات إلا أقل قليل، ومع ذلك وردت فيه ترغيبات قولية، والأمر في مثله أن لا يحكم عليه بالبدعة، فهذه الأدعية في زماننا ليست بسُنَّة بمعنى ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليست ببدعة بمعنى عدم أصلها في الدين، فقد هدى إلى الرفع في قوليات كثيرة؛ وفعله بعد الصلاة قليلًا، فإن التزم أحد منا الدعاء بعد الصلاة برفع اليد فقد عمل بما رغب فيه وإن لم يكثره بنفسه، انتهى مختصرًا.

وفي هامشه: قلت: ونحوه فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى، فإنها وإن ثبتت في بعض الروايات لكنه أقل قليل حتى إن بعضهم ذهب إلى إنكار ثبوتها فعلًا، والصحيح أنها ثابتة ولو قليلًا، انتهى مختصرًا.

وقد تقدم أيضًا شيء من الكلام عليه قبيل "كتاب الجمعة" وسيأتي ترجمة المصنف بعد أربعة أبواب بـ "باب رفع الأيدي في الدعاء".

(1)

"فيض الباري"(6/ 225).

(2)

"فيض الباري"(2/ 213).

ص: 390

(20 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ. . .} [التوبة: 103]) إلخ

كذا للجمهور، ووقع في بعض النسخ زيادة:{إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} ، واتفقوا على أن المراد بالصلاة هنا الدعاء.

قوله: (ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه) في هذه الترجمة إشارة إلى ردِّ ما جاء عن ابن عمر أخرج ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: "ذكرت رجلًا عند ابن عمر فترحمت عليه، فلهز في صدري وقال لي: ابدأ بنفسك"، وعن إبراهيم النخعي:"كان يقال: إذا دعوت فابدأ بنفسك فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك"، وأحاديث الباب ترد على ذلك، ثم قال: وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أُبي بن كعب رفعه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه" وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر ولفظه: "وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه"، ويؤيد هذا القيد أنه صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه، ثم ذكر الحافظ أمثلته من قصة هاجر:"يرحم الله أم إسماعيل. . ." إلخ، وحديث أبي هريرة:"اللَّهم أيده بروح القدس" يريد حسان بن ثابت، وحديث ابن عباس:"اللَّهم فقهه في الدين" وغير ذلك من الأمثال، وقد دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كقوله:"يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، انتهى من "الفتح"

(1)

ملخصًا.

وأما الإمام النووي فقد فصل بين أنواع الأدعية، فقد أجاد ولله درّه، فقال في "شرح مسلم"

(2)

تحت حديث خضر المتقدم. قال أصحابنا: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء وشبهه من أمور الآخرة، وأما حظوظ الدنيا فالأدب فيها الإيثار وتقديم غيره على نفسه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 136، 137).

(2)

"شرح النووي"(8/ 158).

ص: 391

وفي مبدأ "الحصن الحصين"

(1)

في بيان أدب الدعاء: وأن يبدأ بنفسه، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "الكوكب"

(2)

: قوله: "بدأ بنفسه" لأن السؤال للغير وترك نفسه يوهم أن له غنى عنه، انتهى.

قلت: وحديث "كان إذا دعا بدأ بنفسه" أخرجه الإمام أبو داود أيضًا في "أبواب الحروف والقراءات"

(3)

.

(21 -‌

‌ باب ما يكره من السجع في الدعاء)

السجع بفتح السين وسكون الجيم: كلام مقفى من غير مراعاة وزن، قاله القسطلاني

(4)

.

قال الحافظ

(5)

: قوله: "ما يكره. . ." إلخ، لما فيه من التكلف المانع للخشوع المطلوب في الدعاء، قال الداودي: المراد الاستكثار منه، ثم قال: ولا يرد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة لأن ذلك كان يصدر من غير قصد إليه، انتهى.

قلت: وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" قال ابن رسلان في شرحه كما في هامشي على "البذل"

(6)

: قيل: المراد به التكلف في السجع، كما قيل في قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقيل: أن يأتي بغير جوامع الكلم، وقيل: أن يأتي بغير المأثور من الأدعية، انتهى.

(1)

"الحصن الحصين"(ص 31).

(2)

"الكوكب الدري"(4/ 335).

(3)

انظر: "سنن أبي داود"(ح 3984).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 398).

(5)

"فتح الباري"(11/ 139).

(6)

"بذل المجهود"(1/ 488)، (ح 96).

ص: 392

(22 -‌

‌ باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له)

قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول: اللَّهم أعطني إن شئت، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما شاءه، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر، وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة: قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه - يعني: من التقصير - فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إِبليس حين قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قال القسطلاني

(2)

: وفي الترمذي

(3)

عن أبي هريرة مرفوعًا: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ"، انتهى.

(23 -‌

‌ باب يستجاب للعبد ما لم يعجل)

قال الحافظ

(4)

في شرح قوله: "يقول: دعوت فلم يستجب لي": قال ابن بطال

(5)

: المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء، ثم قال: وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه:"من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة" الحديث،

(1)

"فتح الباري"(11/ 140).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 400).

(3)

"سنن الترمذي"(ح 3479).

(4)

"فتح الباري"(11/ 140، 141).

(5)

"شرح ابن بطال"(10/ 100).

ص: 393

أخرجه الترمذي بسند لين، وقدمت في أول "كتاب الدعاء" الأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا تردّ، إلى آخر ما قال.

(24 -‌

‌ باب رفع الأيدي في الدعاء)

أي: على صفة خاصة، وسقط لفظ "باب" لأبي ذر.

قال الحافظ

(1)

: وفي الحديث الأول ردٌّ على من قال: لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه وفي الذي بعده ردّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلًا، وتمسك بحديث أنس:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، ثم بعد ما ذكر الحافظ الفرق في الرفع في الاستسقاء وغيره، قال: قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح، قلت: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في "الأذكار" وفي "شرح المهذب" جملة، وعقد لها البخاري أيضًا في "الأدب المفرد"، ثم سرد الحافظ بعض تلك الروايات فارجع إليه لو شئت. وأما رفع الأيدي في الدعاء بعد الصلوات المكتوبات فقد تقدم الكلام عليه قريبًا في "باب الدعاء بعد الصلاة".

(25 -‌

‌ باب الدعاء غير مستقبل القبلة)

قال الحافظ

(2)

: ووجه أخذه من الحديث من جهة أن الخطيب من شأنه أن يستدبر القبلة وأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا في المرتين استدار، انتهى.

ثم لا يخفى عليك أن هذه الترجمة هكذا وقعت في جميع النسخ الموجودة بتقديم هذه الترجمة على الآتية، وكان الأوجه تأخيرها عن الترجمة الآتية، ويمكن أن يقال في وجه تقديمه: أن الدعاء غير مستقبل

(1)

"فتح الباري"(11/ 141، 142).

(2)

"فتح الباري"(11/ 143).

ص: 394

القبلة لما كان على خلاف آداب الدعاء على الظاهر فكان أحوج إلى البيان، وأما الدعاء مستقبل القبلة فلكونه موافقًا لآداب الدعاء ليس له مزيد احتياج إلى ذكره.

(26 -‌

‌ باب الدعاء مستقبل القبلة)

استشكلوا مطابقة الحديث بالترجمة.

قال القسطلاني

(1)

: قوله: "فدعا واستسقى ثم استقبل القبلة. . ." إلخ، فقدّم الدعاء قبل الاستقبال، وحينئذ فلا مطابقة بين الترجمة والحديث، لكن قال الإسماعيلي: يحتمل أن البخاري أراد أنه لما تحول وقلب رداءه دعا حينئذ أيضًا، ويحتمل أنه أشار كعادته لما ورد في بعض طرق الحديث مما سبق في "كتاب الاستسقاء" أنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وقد ورد في استقبال القبلة عند الدعاء من فعله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، انتهى.

(27 -‌

‌ باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث أنس، وقد مضى قريبًا، وذكره في عدة أبواب، وليس في شيء منها ذكر العمر، فقال بعض الشرَّاح: مطابقة الحديث للترجمة أن الدعاء بكثرة الولد يستلزم حصول طول العمر.

قال الحافظ: والأولى أن يقال: إنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرقه، فأخرج في "الأدب المفرد" من وجه آخر عن أنس، وفيه زيادة قوله:"أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له".

فأما كثرة ولد أنس وماله فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث: قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم، وتقدم في "كتاب الصوم" في "باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم"

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 405).

(2)

"فتح الباري"(11/ 144، 145).

ص: 395

قول أنس: إني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة، وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيئ منه ريح المسك.

وأما طول عمر أنس فقد ثبت في الصحيح أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين، وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل، وقيل: سنة ثلاث، وله مائة وثلاث سنين قاله خليفة وهو المعتمد، وأكثر ما قيل في سنه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه تسعًا وتسعين سنة، انتهى من "الفتح" بإيضاح وتغير، وسيأتي بعض ما يناسبه في "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة".

(28 -‌

‌ باب الدعاء عند الكرب)

الكرب: هو الحزن يأخذ بالنفس.

قال العلامة الكرماني

(1)

في شرح حديث الباب: فإن قلت: هذا ذكر لا دعاء؟ قلت: إنه ذكر يستفتح به الدعاء بكشف كربه، وقال سفيان بن عيينة: أما علمت أن الله تعالى قال: "من حبسه ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، انتهى.

وقال العلامة العيني

(2)

: مطابقته للترجمة في قوله: "يدعو عند الكرب. . ." إلخ، انتهى.

قلت: الأمر كما قال الكرماني.

(29 -‌

‌ باب التعوذ من جهد البلاء)

الجهد بفتح الجيم وبضمها: المشقة، قاله الحافظ

(3)

.

(1)

"شرح الكرماني"(22/ 149).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 445).

(3)

"فتح الباري"(11/ 148).

ص: 396

وقال القسطلاني

(1)

: البلاء بفتح الموحدة مع المد ويجوز الكسر مع القصر: وهو الحالة التي يمتحن بها الإنسان وتشق عليه بحيث يتمنى فيها الموت ويختاره عليها، وعن ابن عمر: جهد البلاء قلة المال وكثرة العيال، انتهى.

قوله: (ودرك الشقاء. . .) إلخ، قال القاري في "المرقاة"

(2)

: الشقاء بفتح الشين بمعنى الشقاوة نقيض السعادة، ويجيئ بمعنى التعب كقوله تعالى {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2]، إلى آخر ما بسط في شرح هذا اللفظ.

قلت: وكذا ضبط لفظ الشقاء بفتح الشين في كتب اللغة.

(30 -‌

‌ باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللَّهم الرفيق الأعلى)

وهكذا في نسخة الشروح سوى نسخة الحافظ، فإن فيها بابًا بلا ترجمة. قال العيني

(3)

: ووقع في رواية الأكثرين لفظ "باب" مجردًا عن الترجمة، وفيه:"اللَّهم الرفيق الأعلى"، والرفيق منصوب على تقدير: اخترتُ الرفيقَ الأعلى، وقال الداودي: الرفيق الأعلى الجنة، وقيل: جماعة الأنبياء الذي يسكنون أعلى عليين، انتهى.

وقال الكرماني

(4)

: أي: اخترت الموت المؤدّي إلى رفاقة الملأ الأعلى من الملائكة أو الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، انتهى.

وتقدم الكلام على هذا الحديث في آخر "المغازي" في "باب آخر ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم".

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 408).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 312).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 448).

(4)

"شرح الكرماني"(22/ 152).

ص: 397

(31 -‌

‌ باب الدعاء بالموت والحياة)

قال القسطلاني

(1)

تبعًا للعيني: أي: ذكر كراهية الدعاء بالموت والحياة إذا كانت الحياة شرًا للداعي، انتهى.

(32 -‌

‌ باب الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رؤوسهم)

قال الحافظ

(2)

: ورد في فضل مسح رأس اليتيم حديث أخرجه أحمد والطبراني عن أبي أمامة بلفظ: "من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمرّ يدُه عليها حسنة"، وسنده ضعيف، ولأحمد من حديث أبي هريرة:"أن رجلًا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: أطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"، وسنده حسن، انتهى.

(33 -‌

‌ باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

-)

هذا الإطلاق يحتمل حكمها وفضلها وصفتها ومحلها، والاقتصار على ما أورده في الباب يدل على إرادة الثالث، وقد يؤخذ منه الثاني، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وقال العيني

(4)

: أي: هذا باب في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هذا الإطلاق يحتمل حكمها وفضلها وصفتها ومحلها، قلت: حديثا الباب يقيدان هذا الإطلاق لأنهما ينبئان عن الكيفية، والمطابقة بين الترجمة والحديث مطلوبة، ولا تجيئ المطابقة إلا بما قلنا، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: أما حكمها فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب:

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 410)، "عمدة القاري"(15/ 448).

(2)

"فتح الباري"(11/ 151).

(3)

"فتح الباري"(11/ 152).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 452).

(5)

"فتح الباري"(11/ 152، 153).

ص: 398

أولها: قول ابن جرير الطبري: إنها من المستحبات، وادّعى الإجماع على ذلك.

ثانيها: مقابله، وهو نقل ابن القصار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة.

ثالثها: تجب في العمر في صلاة أو في غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرازي من الحنفية وابن حزم وغيرهما.

رابعها: تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعي ومن تبعه.

خامسها: تجب في التشهد، وهو قول الشعبي وإسحاق بن راهويه.

سادسها: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل، نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر.

سابعها: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبو بكر بن بكير من المالكية.

ثامنها: كلما ذكر، قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربي من المالكية: إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري.

تاسعها: في كل مجلس مرة، ولو تكرر ذكره مرارًا، حكاه الزمخشري.

عاشرها: في كل دعاء، حكاه أيضًا.

وأما محلها فيؤخذ مما أوردته من بيان الآراء في حكمها.

وبسط أيضًا الكلام في معنى الصلاة، وقال في بحث كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

(1)

: قال النووي في "شرح المهذب"

(2)

: ينبغي أن يجمع ما في

(1)

"فتح الباري"(11/ 157).

(2)

"شرح المهذب"(3/ 446).

ص: 399

الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللَّهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك" مثله، وزاد في آخره:"في العالمين"، وقال في "الأذكار" مثله، وزاد:"عبدك ورسولك" بعد قوله: "محمد" في "صل"، ولم يزدها في "بارك"، وقال في "التحقيق" و"الفتاوى" مثله إلا أنه أسقط "النبي الأمي" في "وبارك"، وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه، ثم ذكرها الحافظ.

قلت: قال النووي: في "الأذكار"

(1)

: والأفضل أن يقول: "اللَّهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد"، روينا هذه الكيفية في "صحيحي البخاري ومسلم" عن كعب بن عجرة مرفوعًا إلا بعضها فهو صحيح من رواية غير كعب، انتهى.

ثم ما يستشكل ههنا في التشبيه بالصلاة الإبراهيمة؟ أجاب عنه الحافظ بعشرة أوجه، فارجع إليه لو شئت

(2)

.

(34 -‌

‌ باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم

-؟)

أي: استقلالًا أو تبعًا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ثم بسط الحافظ الكلام على ذلك

(3)

.

وقال القسطلاني

(4)

تحت حديث ابن أبي أوفى: تمسك بذلك من جوّز الصلاة على غير الأنبياء استقلالًا، وهو مقتضى صنيع المصنف رحمه الله تعالى لأنه صدَّر بالآية ثم بالحديث الدالّ على الجواز مطلقًا، انتهى.

(1)

"الأذكار"(ص 124).

(2)

راجع: "فتح الباري"(11/ 161).

(3)

"فتح الباري"(11/ 169).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 419).

ص: 400

وفي "الأوجز"

(1)

: قال العيني

(2)

: احتج به (بالحديث المذكور) من جوّز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالاستقلال، وهو قول أحمد أيضًا، وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي والأكثرون: إنه لا يصلّى على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استقلالًا، ولكن يصلى عليهم تبعًا. والجواب عن هذا الحديث أن هذا حقه عليه الصلاة والسلام، له أن يعطيه لمن شاء، وليس لغيره ذلك، انتهى. وبسط الكلام على المسألة في "الأوجز".

(35 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة

")

قال العلامة القسطلاني

(3)

: وفي "مسلم": "اللَّهم إني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه فأيما مؤمن سببته أو جلدته"، ومن طريق أخرى عن أبي هريرة:"اللَّهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته"، وفي أخرى:"فأي مؤمن آذيته أو شتمته"، وفي أخرى:"اللَّهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر"، ومن حديث عائشة: قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء، لا أدري ما هو، فأغضباه فسبّهما ولعنهما فلما خرجا قلت له فقال:"أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللَّهم إنما أنا بشر" الحديث، ثم قال: وفي الحديث كمال شفقته على أمته وجميل خلقه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عنّا أفضل الجزاء بمنّه وكرمه، وأماتنا على محبته وسُنَّته، انتهى. قلت: آمين ثم آمين.

(36 -‌

‌ باب التعوذ من الفتن)

ستأتي هذه الترجمة وحديثها في "كتاب الفتن"، قاله الحافظ

(4)

(1)

"أوجز المسالك"(3/ 417).

(2)

"عمدة القاري"(6/ 556).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 421، 422).

(4)

"فتح الباري"(11/ 173).

ص: 401

وقال القسطلاني

(1)

: الفتن جمع فتنة وهي اسم للامتحان والاختبار، انتهى.

(37 -‌

‌ باب التعوذ من غلبة الرجال)

أي: قهرهم وتسلطهم واستيلائهم هرجًا ومرجًا، وذلك كغلبة القوّام، قاله الكرماني.

وعن بعضهم: قهر الرجال هو جور السلطان، انتهى من "القسطلاني"

(2)

.

(38 -‌

‌ باب التعوذ من عذاب القبر)

تقدم الكلام عليه في أواخر "كتاب الجنائز".

(39 -‌

‌ باب التعوذ من فتنة المحيا والممات)

" المحيا" زمن الحياة، "والممات" زمن الموت من أول النزع وهلمّ جرًّا، قال ابن بطال

(3)

: هذه كلمة جامعة لمعانٍ كثيرةٍ، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربّه في رفع ما نزل ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من جميع ما ذكر دفعًا عن أمته وتشريعًا لهم؛ ليبين لهم صفة المهم من الأدعية، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وقال الكرماني

(5)

: المحيا: إما مصدر أو اسم زمان، والممات، أي: زمان الموت، أي: بعده، أو وقت النزع، انتهى.

(40 -‌

‌ باب التعوذ من المأثم والمغرم)

المأثم: ما يقتضي الإثم، والمغرم: ما يقتضي الغرم، انتهى من "الفتح"

(6)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 422).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 424، 425).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 117).

(4)

"فتح الباري"(11/ 176).

(5)

"شرح الكرماني"(22/ 162).

(6)

"فتح الباري"(11/ 177).

ص: 402

قال القسطلاني

(1)

: المغرم: الدين فيما لا يجوز، انتهى.

وقال الكرماني

(2)

: المأثم بمعنى الإثم، والمغرم بمعنى الغرامة، وهي ما يلزمك أداؤه كالدين والدية، انتهى.

وقال العلامة السندي

(3)

: اعلم أنه جاء في بعض الروايات هكذا: "من شر فتنة الغنا ومن شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة المسيح"، بلفظ زيادة الشر في الكل، وفي بعضها بإثباته في البعض دون البعض، والظاهر أن الفتنة تحمل على معنى الاختبار عند زيادة لفظ الشر، والاختبار له طرفان خير وشر، والتعوذ إنما وقع من شرهما لا خيرهما، وعند عدم لفظ الشر، فالفتنة بمعنى الافتتان في الدين نعوذ بالله منه، وهو شر كله، فإذا ثبت في بعض دون بعض فما ثبت فيه يحمل الفتنة على المعنى الأول، وما لا فيحمل على المعنى الثاني، والله تعالى أعلم، انتهى.

(41 -‌

‌ باب التعوذ من الجبن والكسل)

قال الحافظ

(4)

في شرح الحديث: تقدم شرح هذه الأمور الستة، ومحصله: أن الهَمَّ لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط، والبخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة، انتهى.

(42 -‌

‌ باب التعوذ من البخل)

قال الواحدي: البخل في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان، وفي الشرع: منع الواجب، وقد تكرر ذمُّ البخل في الحديث، وصح:"خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق"

(5)

، انتهى من "القسطلاني"

(6)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 429).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 162).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 108).

(4)

"فتح الباري"(11/ 178).

(5)

"أخرجه البخاري" في "الأدب المفرد"(282).

(6)

"إرشاد الساري"(13/ 426 - 431).

ص: 403

(43 -‌

‌ باب التعوذ من أرذل العمر)

قال العيني

(1)

: هو الهرم زمان الخرافة وحين انتكاس الأحوال، قال الله تعالى:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، قيل: ليس في حديث الباب لفظ الترجمة فلا مطابقة، قلت: تؤخذ المطابقة من قوله: "وأعوذ بك من الهرم" لأنه يفسّر بأرذل العمر، كما مرّ آنفًا، انتهى.

(44 -‌

‌ باب الدعاء برفع البلاء والوجع)

أي: برفع المرض عمن نزل به سواء كان عامًّا أو خاصًّا، وقد تقدم بيان الوباء وتفسيره في "باب ما يذكر في الطاعون" من "كتاب الطب"، وأنه أعم من الطاعون، وأن حقيقته مرض عام ينشأ عن فساد الهواء، وقد يسمى طاعونًا بطريق المجاز، وأوضحت هناك الردّ على من زعم أن الطاعون والوباء مترادفان بما ثبت هناك أن الطاعون لا يدخل المدينة، وأن الوباء وقع بالمدينة كما في قصة العرنيين، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(45 -‌

‌ باب الاستعاذة من أرذل العمر)

كذا في النسخة "الهندية"، وزاد في نسخ الشروح الأربعة:"ومن فتنة الدنيا وفتنة النار" وهو الأوجه، وبهذه الزيادة يزول إشكال تكرار هذه الترجمة بالترجمة السابقة قبل الباب المتقدم.

وفي هامش النسخة "الهندية"

(3)

عن "الخير الجاري": مغايرة هذه الترجمة بالترجمة السابقة باعتبار زيادة الجزء الأخير، ومن عادته أنه ربما يذكر مجموع الأمور التي أراد ذكرها في باب واحدٍ، ثم يذكر واحدًا منها في بابٍ بابٍ، فيعقد لكل منها بابًا مستأنفًا؛ ليكون كل منها مستقلًا بالإفادة، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 464).

(2)

"فتح الباري"(11/ 180).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 510).

ص: 404

(46 -‌

‌ باب الاستعاذة من فتنة الغنى)

قال القسطلاني

(1)

: هو كصرف المال في المعاصي، انتهى.

(47 -‌

‌ باب التعوذ من فتنة الفقر)

قال القسطلاني

(2)

: المراد الفقر المدقع لأنه الذي يخاف من فتنته كحسد الغنى والتذلل له بما يتدنس به عرضه وينثلم به دينه وتسخطه وعدم رضاه بما قسم الله له، إلى غير ذلك مما يذمّ فاعله ويأثم عليه، انتهى.

(48 -‌

‌ باب الدعاء بكثرة المال مع البركة)

فيه وكذا في الترجمة الآتية إشارة إلى أن هذه الأمور إن كانت مع البركة تكون خيرًا وإلا فتكون موجبًا للفتنة.

قوله: (اللَّهم أكثر ماله وولده) قال القسطلاني

(3)

: فكان أكثر الصحابة أولادًا، قاله النووي.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وأنس، وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعًا وهو المهلب بن أبي صفرة، انتهى.

(49 -‌

‌ باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة)

تقدم بيان كثرة أولاده في الباب المتقدم، وأيضًا قبله بعدة أبواب.

(50 -‌

‌ باب الدعاء عند الاستخارة)

أي: طلب الخيرة بكسر الخاء وفتح التحتية بوزن العنبة، اسم من قولك: اختار الله له، وقال في "النهاية": الاستخارة: طلب الخير في

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 438).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 438، 439).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 439).

ص: 405

الشيء، وهي استفعال من الخير ضد الشر، فالمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.

قوله: (يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) خصّه في "بهجة النفوس" بغير الواجب والمستحب، فلا يستخار في فعلهما، والمحرم والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح أو المستحب إذا تعارض فيه أمران أيهما يبدأ به أو يقتصر عليه، وألحق به في "الفتح" الواجب والمستحب المخير وفيما إذا كان موسعًا، قال: ويتناول العموم العظيم والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم، انتهى كله من "القسطلاني"

(1)

.

قوله: (ويسمي حاجته) في هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(2)

: أي: ينطق بها بعد الدعاء وينويها بقلبه عنده، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قال النووي في "الأذكار": يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، ويستدل له بحديث أنس عند ابن السني:"إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبعًا، ثم انظر إلى الذي يسبق في قلبك، فإن الخير فيه"، وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدًا، والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر حديث أبي سعيد:"ولا حول ولا قوة إلا بالله"، انتهى.

(51 -‌

‌ باب الوضوء عند الدعاء)

هكذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح الأربعة:"باب الدعاء عند الوضوء".

قال العلامة العيني

(4)

: وفي بعض النسخ: "باب الوضوء عند الدعاء"،

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 440، 441).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 194).

(3)

"فتح الباري"(11/ 187)، انظر:"الأذكار"(ص 199).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 470).

ص: 406

والأول هو المناسب للحديث، وإن كان للثاني أيضًا وجه، والحديث طويل أخرجه في المغازي في "باب غزوة أوطاس" بهذا الإسناد بعينه، انتهى.

قلت: بل الأولى والأوجه عندي ما في النسخ الهندية أي: الوضوء عند الدعاء، والفرق بين اللفظين ظاهر، والدليل على ما اخترته سياق الحديث، فقد تقدم الحديث في الباب المذكور بلفظ:"قال (أي: أبو عامر): قل له (صلى الله عليه وسلم): استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه" الحديث، فهذا يدلّ على أن الوضوء إنما كان لقصد الدعاء، فالغرض من الترجمة بيان أدب من آداب الدعاء.

(52 -‌

‌ باب الدعاء إذا علا عقبة)

كذا ترجم بالدعاء، وأورد في الحديث التكبير، وكأنه أخذه من قوله في الحديث:"إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا" فسمى التكبير دعاءً، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(53 -‌

‌ باب الدعاء إذ هبط واديًا فيه حديث جابر)

والمراد بحديث جابر ما تقدم في الجهاد في "باب التسبيح إذا هبط واديًا" من حديثه بلفظ: "كنا إذا صعدنا كبّرنا وإذا نزلنا سبّحنا"، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(54 -‌

‌ باب الدعاء إذا أراد سفرًا فيه يحيى بن أبي إسحاق عن أنس)

مما وصله في الجهاد في "باب ما يقول إذا رجع من الغزو"، وفيه:"فلما أشرفنا على المدينة قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون"، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(11/ 188).

(2)

"فتح الباري"(11/ 188).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 446).

ص: 407

(55 -‌

‌ باب الدعاء للمتزوج)

قال العلامة النووي في "الأذكار"

(1)

بعد ذكر حديث الباب: وروينا بالأسانيد الصحيحة في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"ابن ماجه" وغيرها عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفَّأ الإنسان، أي: إذا تزوج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ويكره أن يقال له: بالرِّفاء والبنين إلى آخر ما قال.

(56 -‌

‌ باب ما يقول إذا أتى أهله)

ذكر فيه حديث ابن عباس، وفي لفظه ما يقتضي أن القول المذكور يشرع عند إرادة الجماع، فيرفع احتمال ظاهر الحديث أنه يشرع عند الشروع في الجماع، وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب النكاح"، انتهى

(2)

.

(57 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "آتنا في الدنيا حسنة

")

قال الحافظ

(3)

: قد اختلفت عبارات السلف في تفسير الحسنة، ثم قال بعد ذكر عدة أقوال: قال الشيخ عماد الدين بن كثير: الحسنة في الدنيا تشمل كلّ مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجةٍ حسنةٍ وولدٍ بارٍّ ورزقٍ واسعٍ وعلمٍ نافعٍ وعمل صالحٍ ومركبٍ هنيءٍ وثناءٍ جميلٍ، إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة، وأما الوقاية من عذاب النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم وترك الشبهات، انتهى.

(1)

"الأذكار"(ص 406).

(2)

"فتح الباري"(11/ 191).

(3)

"فتح الباري"(11/ 192).

ص: 408

(58 -‌

‌ باب التعوذ من فتنة الدنيا)

تقدمت هذه الترجمة ضمن ترجمة، وذلك قبل اثني عشر بابًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وهو "باب الاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا. . ." إلخ، كما تقدم في محله مع ذكر اختلاف النسخ، وتقدم تفسيره في "باب التعوذ من البخل" بقوله: يعني فتنة الدجال.

قال الحافظ

(2)

: وفي إطلاق الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث أبي أمامة وفيه:"أنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال"، أخرجه أبو داود وابن ماجه، انتهى.

(59 -‌

‌ باب تكرير الدعاء)

أي: ينبغي التكرار فإنه صلى الله عليه وسلم لما احتاج إلى تكريره فما بال غيره.

وقال القسطلاني

(3)

: "باب تكرير الدعاء" مرة بعد أخرى لإظهار الفقر والحاجة إلى الرب تعالى خضوعًا وتذللًا [له]، انتهى.

وزاد العلامة العيني

(4)

: وقد روى أبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثًا ويستغفر ثلاثًا"، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، انتهى.

وذكره الجزري في "الحصن"

(5)

من جملة آداب الدعاء.

قال الحافظ

(6)

: ورواية عيسى بن يونس تقدمت موصولةً في الطب، وهو المطابق للترجمة بخلاف رواية أنس بن عياض التي أوردها في الباب،

(1)

"فتح الباري"(11/ 192).

(2)

"فتح الباري"(11/ 179).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 451).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 475).

(5)

"الحصن الحصين"(ص 32).

(6)

"فتح الباري"(11/ 193).

ص: 409

فليس فيها تكرير الدعاء، ووقع عند مسلم في هذا الحديث:"فدعا ثم دعا ثم دعا"، انتهى.

قلت: وتقدم توجيهه في أبواب السحر من آخر "كتاب الطب".

(60 -‌

‌ باب الدعاء على المشركين)

ذكره ههنا مطلقًا، وذكر في "كتاب الجهاد""باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة"، ومطابقة أحاديث الباب بالترجمة ظاهرة

(1)

.

(61 -‌

‌ باب الدعاء للمشركين)

قال العلامة العيني

(2)

: وقد تقدمت هذه الترجمة في "كتاب الجهاد"، لكن قال:"باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم"، ثم أخرج حديث أبي هريرة الذي هو حديث الباب، فوجه البابين أعني "باب الدعاء على المشركين" و"باب الدعاء للمشركين" باعتبارين، ففي الأول مطلق الدعاء عليهم لأجل تماديهم على كفرهم وإيذائهم المسلمين، وفي الثاني الدعاء بالهداية ليتألفوا بالإسلام، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: وحكى ابن بطال: أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين، ودليله قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] قال: والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام، إلى آخر ما قال.

وفي "الفيض"

(4)

تحت ترجمة الباب: المراد به الدعاء له للإسلام، أما الدعاء بالنفع الدنيويّ لهم، فهو أيضًا جائز، انتهى.

(1)

انظر: "عمدة القاري"(15/ 477).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 480).

(3)

"فتح الباري"(11/ 196).

(4)

"فيض الباري"(6/ 240).

ص: 410

(62 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت

")

قال الحافظ

(1)

: كذا ترجم ببعض الخبر، وهذا القدر منه يدخل فيه جميع ما اشتمل عليه؛ لأن جميع ما ذكر فيه لا يخلو عن أحد الأمرين، انتهى.

(63 -‌

‌ باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة)

وقد ترجم في "كتاب الجمعة""باب الساعة التي في يوم الجمعة"، ولم يذكر في البابين شيئًا يشعر بتعيينها، وقد اختلف في ذلك كثيرًا، واقتصر الخطابي منها على وجهين: أحدهما: أنها ساعة الصلاة، والآخر: أنها ساعة من النهار عند دنو الشمس للغروب. واستوعبت الخلاف الوارد في الساعة المذكورة، فزاد على الأربعين قولًا، واتفق لي نظير ذلك في ليلة القدر، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: وتقدم شيء من الكلام على هذا في "كتاب الجمعة".

(64 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لنا في اليهود". . .) إلخ

أي: لأنا ندعو عليهم بالحق وهم يدعون علينا بالظلم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": وذلك لأن اليهود قصدوا الدعاء بالموت في هذا الآن، وظاهر أنه لم يستجب، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقصد في دعائه إلا أن يموتوا في وقت موتهم، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"فتح الباري"(11/ 197).

(2)

"فتح الباري"(11/ 199).

(3)

"فتح الباري"(11/ 200).

ص: 411

وفي هامشه: ويحتمل أن يقال: إن الدعاء على النبي لا يقبل، كما بسط الروايات ابن كثير في قصة بلعام أنه كان إذا دعا على موسى وقومه لم يقبل، بل وقع على قوم بلعام، وإذا دعا لقومه بخير جرى على لسانه لقوم موسى، فلما رأى قومه قالوا: ما نراك تدعو إلا علينا، قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت على موسى أيضًا ما استجيب لي، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع".

(65 -‌

‌ باب التأمين)

يعني قول "آمين" عقب الدعاء، وورد في التأمين مطلقًا أحاديث منها حديث عائشة مرفوعًا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام

(1)

والتأمين" رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وزاد في رواية لابن ماجه: "فأكثروا من قول آمين"، ولأبي داود من حديث أبي زهير النميري قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على رجل قد ألحَّ في الدعاء، فقال: "أوجب إن ختم" فقال: بأي شيء؟ قال: "بآمين" الحديث، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: فلعل الإمام البخاري أشار بهذه الترجمة إلى تقوية هذه الروايات.

(66 -‌

‌ باب فضل التهليل)

أي: قول لا إله إلا الله، قال القسطلاني

(3)

: وهي الكلمة العليا التي يدور عليها رحى الإسلام والقاعدة التي تبنى عليها أركان الدين، وانظر إلى العارفين وأرباب القلوب كيف يستأثرونها على سائر الأذكار، وما ذاك إلا لما رأوا فيها من الخواص التي لم يجدوها في غيرها، انتهى.

(1)

في الأصل: "الصلاة".

(2)

"فتح الباري"(11/ 200).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 463).

ص: 412

(67 -‌

‌ باب فضل التسبيح)

قال الحافظ

(1)

: يعني قول: "سبحان الله"، ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل، ويطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويطلق ويراد به الصلاة النافلة، وأما صلاة التسبيح فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

تحت حديث الباب: وقد يشعر هذا بأن التسبيح أفضل من التهليل من حيث إن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة المذكورة في مقابلة التهليل، وأجيب بأن ما جعل في مقابلة التهليل من عتق الرقاب يزيد على فضل التسبيح وتكفير الخطايا، إذ ورد أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار، فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا مع زيادة مائة درجة، إلى آخر ما ذكر.

وبسط الكلام عليه أيضًا الحافظ أشدّ البسط.

(68 -‌

‌ باب فضل ذكر الله تعالى)

باللسان بالأذكار المرغب فيها شرعًا، والإكثار منها كالباقيات الصالحات، والحوقلة والحسبلة والبسملة والاستغفار وقراءة القرآن بل هي أفضل والحديث ومدارسة العلم ومناظرة العلماء، وهل يشترط استحضار الذاكر لمعنى الذكر أم لا؟ المنقول أنه يؤجر على الذكر باللسان وإن لم يستحضر معناه، نعم يشترط أن لا يقصد به غير معناه، والأكمل أن يتفق الذكر بالقلب واللسان، وأكمل منه استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم المذكور ونفي النقائص عنه تعالى.

وقسم بعض العارفين الذكر إلى أقسام سبعة: ذكر العينين بالبكاء،

(1)

"فتح الباري"(11/ 206).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 469، 470)، وانظر:"فتح الباري"(11/ 207).

ص: 413

والأذنين بالإصغاء، واللسان بالثناء، واليدين بالعطاء، والبدن بالوفاء، والقلب بالخوف والرجاء، والروح بالتسليم والرضاء، ذكره في "الفتح"، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وقال صاحب "الفيض"

(2)

: وراجع معنى التفضيل من رسالة الشاه عبد العزيز

(3)

في "تفضيل الشيخين"، فإنه قد كفى وشفى، انتهى.

(69 -‌

‌ باب قول "لا حول ولا قوة إلا بالله

")

بسط العلامة القسطلاني في وجوه إعرابه الخمسة المقررة في كتب العربية، فارجع إليه لو شئت

(4)

.

(70 -‌

‌ باب "لله تعالى مائة اسم غير واحد

")

أفاد صاحب "الفيض"

(5)

: إنما نقص واحد من المائة إبقاءً للوترية، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(6)

: ولم يقع في شيء من طرق الحديث سرد الأسماء إلا في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي، وفي رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه، والطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج، وفيها اختلاف شديد في سرد الأسماء والزيادة والنقص، ووقع سرد الأسماء أيضًا في طريق ثالث عند الحاكم في "مستدركه".

واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج؟ إلى آخر ما ذكر القسطلاني، ثم قال: وليس المراد من الحديث حصر الأسماء في التسعة والتسعين، قال القرطبي: ويدلّ عليه أن أكثرها صفات، وصفات الله تعالى لا تتناهى، إلى آخر ما بسط.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 471)، وانظر:"فتح الباري"(11/ 209، 210).

(2)

لعله سهو قلم، ليست هذه الرسالة للشاه عبد العزيز بل لوالده الشاه ولي الله الدهلوي باسم:"قرة العينين في تفضيل الشيخين".

(3)

"فيض الباري"(6/ 246).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 474).

(5)

"فيض الباري"(6/ 246).

(6)

"إرشاد الساري"(13/ 477).

ص: 414

وفي هامش "الفيض"

(1)

ملخصًا عن كلام الحافظ: ليس المراد بذكر تلك الأسماء حصرَها في هذا العدد، فحكى القاضي أبو بكر بن العربي عن بعضهم: أن لله ألفَ اسم، ونقل الفخر الرَّازي عن بعضهم: أن لله تعالى أربعة آلاف اسم، استأثر بعلم ألف منها، وأَعْلَمَ الملائكةَ بالبقية، والأنبياءَ بألفين منها، وسائرَ الناس بألفٍ، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل، وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، خلافًا للجمهور، وأجاب عنه الجمهور بأن الحصر المذكور باعتبار الوعد المذكور في حفظها، انتهى.

(71 -‌

‌ باب الموعظة ساعة بعد ساعة)

قال الحافظ

(2)

: مناسبة هذا الباب بـ "كتاب الدعوات" أن الموعظة يخالطها غالبًا التذكير بالله، وقد تقدم أن الذكر من جملة الدعاء، وختم به أبواب الدعوات التي عقبها بـ "كتاب الرقاق" لأخذه من كل منهما شوبًا، انتهى.

وعندي: أن الإمام البخاري أشار بالترجمة وحديثها إلى أنه ينبغي الاحتراز عن الملال في الدعاء، فإنه لما يحترز عنه في التذكير وهو أهم ففي الدعاء بالأولى، فلا ينبغي التطويل في الدعاء حتى يؤدي إلى الملال، وليس المراد كراهة الطول مطلقًا، بل الطول المؤدي إلى الملال والسآمة، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"

(3)

.

وأما براعة الاختتام ففي لفظ "الساعة" المذكور في الترجمة، وفي قوله:"أدخُل فَأُخرج"، وهل هذا غير منظر القبر، وكذا لفظ السآمة أذكر للسام بدون الهمز وهو الموت

(4)

.

(1)

"فيض الباري"(6/ 246).

(2)

"فتح الباري"(11/ 228).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 74).

(4)

انظر: "لامع الدراري"(1/ 118).

ص: 415

81 -

‌ كتاب الرقاق

اختلفت النسخ، ففي النسخ الهندية كما ترى، وهكذا في نسخة "العيني"، وفي نسخ الشروح الأخر "كتاب الرقاق، الصحبة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة".

قال العلامة القسطلاني

(1)

: والرقاق: جميع رقيق وهو الذي فيه رقة، وهي الرحمة ضد الغلظة، انتهى.

وفي نسخة "الكرماني"

(2)

: الرقائق بدل الرقاق، وقال: هي جمع الرقيقة، وهي مشتقة من الرقة ضد الغلظة، أي: كتاب الكلمات المرققة للقلوب، وقيل: من الرقة بمعنى الرحمة، وفي بعضها: كتاب الرقاق، وهو جمع الرقيق، انتهى.

قال العيني

(3)

: وسميت أحاديث الباب بذلك؛ لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(4)

: قال القاري: الرقاق جمع رقيق، وهو الذي له رقة، أي: لطافة قاله شارح.

والظاهر ما قاله السيوطي من أن المراد بها الكلمات التي ترق بها القلوب إذا سمعت، وترغب عن الدنيا بسببها وتزهد فيها، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 191).

(2)

"شرح الكرماني"(22/ 191).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 496).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 75)، و"مرقاة المفاتيح"(9/ 5).

ص: 416

(1 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيش الآخرة

")

وفي نسخة "العيني"

(1)

: "باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن لا عيش إلا عيش الآخرة".

(2 -‌

‌ باب مثل الدنيا في الآخرة، وقوله:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية [محمد:

36])

هذه الترجمة بعض لفظ حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي عن المستورد بن شداد رفعه: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع" وسنده إلى التابعي على شرط البخاري؛ لأنه لم يخرج للمستورد، واقتصر على ذكر حديث سهل، والمراد بذلك في الحديث التمثيل والتقريب، وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(2)

.

(3 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنّك غريب. . .") إلخ

قال الحافظ

(3)

: هكذا ترجم ببعض الخبر إشارةً إلى ثبوت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من رواه موقوفًا قصر فيه، انتهى.

(4 -‌

‌ باب في الأمل وطوله. . .) إلخ

الأمل - بفتحتين -: رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني، ثم ذكر الحافظ

(4)

الفرق بين الأمل والتمني.

وقال العيني

(5)

: أي: هذا باب في بيان إلهاء الأمل عن العمل،

(1)

"عمدة القاري"(15/ 496).

(2)

"فتح الباري"(11/ 232).

(3)

"فتح الباري"(11/ 233).

(4)

"فتح الباري"(11/ 236).

(5)

"عمدة القاري"(15/ 500).

ص: 417

والأمل مذموم لجميع الناس إلا العلماء فلولا أملهم وطوله لما صنّفوا ولما ألّفوا، وقد نبّه عليه ابن الجوزي:

وآمال الرجال لهم فضوح

سوى أمل المصنف ذي العلام

انتهى.

وقال الكرماني

(1)

: فإن قلت: ما وجه مناسبة الآية الأولى للترجمة؟ قلت: صدرها، وهو قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية [آل عمران: 185]، أو عجزها وهو {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، أو ذكر لمناسبة قوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96] إذ في تلك الآية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] والله أعلم، انتهى. وحكاه الحافظ أيضًا عن الكرماني.

(5 -‌

‌ باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: وفي رواية النسفي: "يعني الشيب"، وقد اختلفوا في تفسير النذير، فالأكثر على أن المراد به الشيب، وقال علي: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن علي: القرآن، واختلفوا أيضًا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال، أحدها: أنه أربعون سنة، والثاني: ست وأربعون سنة، روي ذلك عن ابن عباس، [والثالث]: وعنه أيضًا أنه سبعون سنة، والرابع: ستون سنة، وتمسك قائله بحديث الباب، انتهى من "الفتح" بزيادة من "العيني"

(3)

.

(1)

"شرح الكرماني"(22/ 194)، وانظر:"فتح الباري"(11/ 236).

(2)

"فتح الباري"(11/ 239).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 503).

ص: 418

(6 -‌

‌ باب العمل الذي يبتغى به وجه الله. . .) إلخ

أي: يطلب به "وجه الله" أي: ذاته، لا للرياء والسمعة، قاله العيني

(1)

.

(7 -‌

‌ باب ما يحذر من زهرة الدنيا)

على صيغة المجهول من الحذر، وفي بعض النسخ بالتشديد من التحذير، وزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها.

(والتنافس فيها) من النفاسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال: نافست في الشيء منافسةً ونفاسةً ونفاسًا، ونفس الشيء بالضم نفاسةً صار مرغوبًا فيه، انتهى من كلام العيني

(2)

.

وفسّر الكرماني والقسطلاني

(3)

المنافسة بالرغبة، وقال الراغب في "المفردات"

(4)

والمنافسة: مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل، واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره، انتهى.

وبسط الكلام في نقل معناه صاحب "المجمع"

(5)

، وفيه النفاسة بفتح نون: الحسد، وقال أيضًا: والنفاسة قريب من معنى الحسد، والمنافسة المغالبة على الشيء، وفي الحديث:"ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا" أي: ترغبوا على وجه المعارضة والانفراد فيها، وقال أيضًا: ومنه تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون، انتهى.

قلت: ويستفاد من هذا الحديث أن التنافس من مقدّمات الحسد.

(1)

"عمدة القاري"(15/ 505).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 507).

(3)

"شرح الكرماني"(22/ 199)، "إرشاد الساري"(13/ 496).

(4)

"مفردات القرآن"(ص 818).

(5)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 776، 777).

ص: 419

(8 -‌

‌ باب {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:

5])

مناسبة الآية كتاب الرقاق ظاهرة، ولذا ترجم بذلك.

قال القسطلاني

(1)

: أي: فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتّع والتلذّذ بزهرتها ومنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله، انتهى من "القسطلاني".

(9 -‌

‌ باب ذهاب الصالحين)

أي: ذكر ذهاب الصالحين، أي: موتهم، وذهاب الصالحين من أشراط الساعة وقرب فناء الدنيا، انتهى من كلام "العيني"

(2)

.

(10 -‌

‌ باب ما يتقى من فتنة المال. . .) إلخ

قال العيني

(3)

: ومعنى الفتنة في كلام العرب الاختبار والابتلاء، والفتنة الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أي: ليميلونك، والفتنة أيضًا الاحتراق، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي: يحرقون، والابتلاء والاختبار يجمع ذلك كله، انتهى.

(11 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال حلوة خضرة. . .") إلخ

قال العلامة العيني

(4)

: قوله: "خضرة" التاء للمبالغة، أو باعتبار أنواع المال، وكذا الكلام في: حلوة، انتهى.

وزاد القسطلاني

(5)

: أو صفة لمحذوف كالبقلة، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 504).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 514).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 515).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 520).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 513).

ص: 420

وقال الحافظ

(1)

: ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمي كل شيء مشرقٍ ناضرٍ أخضر، وقال ابن الأنباري: قوله: "المال خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه، كأنّه قال: المال كالبقلة الخضراء الحلوة، إلى آخر ما ذكر.

(12 -‌

‌ باب ما قدم من ماله فهو له)

الضمير للإنسان المكلّف، وحذف للعلم به وإن لم يجر له ذكر، قال ابن بطال وغيره: في الحديث التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم لسعد:"إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه، وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحّه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(13 -‌

‌ باب المكثرون هم الأقلون. . .) إلخ

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح:"هم المقلون".

قال الحافظ

(3)

: كذا للأكثر، وللكشميهني:"الأقلون"، وقد ورد الحديث باللفظين، ووقع في رواية المعرور عن أبي ذر:"الأخسرون" بدل "المقلون" وهو بمعناه بناءً على أن المراد بالقلة في الحديث قلة الثواب، وكل من قلّ ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه، انتهى.

(14 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن لي أُحدًا ذهبًا

")

هكذا في "الهندية"، وفي نسخة "الكرماني" و"العيني" و"القسطلاني" بلفظ:"ما أحب أن لي مثل أُحدٍ ذهبًا" بزيادة لفظ "مثل"، وأما في

(1)

"فتح الباري"(11/ 246).

(2)

"فتح الباري"(11/ 260)، وانظر:"شرح ابن بطال"(10/ 162).

(3)

"فتح الباري"(11/ 261).

ص: 421

نسخة "الفتح" ففيه بدله: "ما يسرّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا".

(15 -‌

‌ باب الغنى غنى النفس)

أي: سواء كان المتصف بذلك قليل المال أو كثيره، والغنى بكسر أوله مقصور، وقد مدّ في ضرورة الشعر، وبفتح أوله مع المدّ هو الكفاية، قاله الحافظ

(1)

.

وقال العلامة العيني

(2)

: وحاصل معناه: ليس الغنى الحقيقي المعتبر من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا، ولذا ترى كثيرًا من المتمولين فقير النفس مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدة شرهه وحرصه على جمعه كأنّه فقير، وأما غنى النفس فهو من باب الرضا لقضاء الله لعلمه أن ما عند الله لا ينفد، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

مخافة فقر فالذي فعل الفقر

أي: ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي، وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرًا، انتهى.

قال الحافظ: وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، انتهى.

(16 -‌

‌ باب فضل الفقر)

قال العيني

(4)

: والمراد به الفقر الذي صاحبه راضٍ بما قسّم الله له وصابر على ذلك، ولا يصدر من قوله وفعله ما يسخط الله تعالى، ولا يترك التكسب، وأما فقراء هذا الزمان فإن أكثرهم غير موصوف بهذه الصفات،

(1)

"فتح الباري"(11/ 271).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 530).

(3)

"فتح الباري"(11/ 273).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 530).

ص: 422

وأما الخلاف في أن الفقير الصابر أفضل أم الغني الشاكر؟ فهو مشهور، انتهى.

وبسط الحافظ

(1)

الكلام على مسألة التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر، فارجع إليه لو شئت.

(17 -‌

‌ باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. . .) إلخ

أي: في حياته، (وتخليهم عن الدنيا) أي: عن ملاذِّها والتبسط فيها، ذكر فيه ثمانية أحاديث، قاله الحافظ

(2)

.

قلت: وقد أخرج الإمام أبو داود في "باب الإمام يقبل هدايا المشركين" من "كتاب الخراج" حديثًا طويلًا في بيان معيشة النبي صلى الله عليه وسلم ونفقته من حديث عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالًا مؤذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له صلى الله عليه وسلم شيء، كنت أنا الذي أَلِيْ ذلك [منه] منذ بعثه الله تعالى حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا طويلًا فيه قصة، فارجع إليه لو شئت

(3)

.

(18 -‌

‌ باب القصد والمداومة على العمل)

القصد: سلوك الطريق المعتدلة، أي: استحباب ذلك، وسيأتي أنهم فسّروا السداد بالقصد، وبه تظهر المناسبة، قاله الحافظ

(4)

.

وقال أيضًا: ذكر المصنف فيه ثمانية أحاديث أكثرها مكرر، وفي بعضها زيادة على بعض، ومحصل ما اشتملت عليه الحثّ على مداومة العمل الصالح وإن قلّ، وأن الجنة لا يدخلها أحد بعمله بل برحمة الله، وقصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاته، والأول هو المقصود

(1)

"فتح الباري"(11/ 274).

(2)

"فتح الباري"(11/ 283).

(3)

"سنن أبي داود"(3055).

(4)

"فتح الباري"(11/ 295).

ص: 423

بالترجمة، والثاني ذكر استطرادًا، وله تعلق بالترجمة أيضًا، والثالث يتعلق بها أيضًا بطريق خفي.

ثم قال في آخر أحاديث الباب: وفي الحديث إشارة إلى الحثِّ على مداومة العمل؛ لأن من مثل الجنة والنار بين عينيه كان ذلك باعثًا له على المواظبة على الطاعة والانكفاف عن المعصية، وبهذا التقريب تظهر مناسبة الحديث للترجمة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (سددوا) في هامش المصرية عن"شيخ الإسلام"

(2)

: من السداد بالمهملة، وهو القصد من القول والعمل.

وقوله: (وقاربوا) أي: لا تبلغوا النهاية في العمل بل تقربوا منها لئلا تملوا، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: قوله: "سددوا. . ." إلخ، أي: اقصدوا السداد، أي: الصواب، انتهى.

(19 -‌

‌ باب الرجاء مع الخوف)

عندي هما باعثان على مداومة العمل، ولذا عقب الأولى بهما.

وقال الحافظ: أي: استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول إلى المكر وفي الثاني إلى القنوط وكل منهما مذموم، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(20 -‌

‌ باب الصبر عن محارم الله)

قال الحافظ

(5)

: يدخل في هذا المواظبة على فعل الواجبات والكف عن المحرمات، وذلك ينشأ عن علم العبد بقبحها، وأن الله حرمها صيانةً لعبده عن الرذائل، فيحمل ذلك العاقل على تركها ولو لم يرد على فعلها

(1)

"فتح الباري"(11/ 300).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 223).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 540).

(4)

"فتح الباري"(11/ 301).

(5)

"فتح الباري"(11/ 303).

ص: 424

وعيد، وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن

(1)

المكروه وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج، انتهى.

(21 -‌

‌ باب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:

3])

استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل، وكأنه أشار إلى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله، وأن كلًّا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونًا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع، والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلّت عليه هذه الآية {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي"، قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(22 -‌

‌ باب ما يكره من قيل وقال)

قال القسطلاني

(3)

: بفتحهما في الفرع كأصله، ثم قال في شرح الحديث: قوله: "ينهى عن قيل وقال" بفتحهما فعلان ماضيان، الأول مجهول، وهو حكاية أقاويل الناس: قال فلان كذا وفلان كذا، وقيل كذا أو كذا، ولأبي ذر:"قيلٍ وقالٍ" بالتنوين فيهما اسمان، يقال: قَالَ قَوْلًا وَقِيلًا وَقَالًا، أي: نهى عن الإكثار مما لا فائدة فيه من الكلام، انتهى.

وبسط الحافظ

(4)

الكلام في شرح الحديث وبيان معناه.

(1)

هكذا في "الفتح" وفي "القسطلاني"(13/ 548): "على المكروه" هو الصواب، (ز).

(2)

"فتح الباري"(11/ 305، 306).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 552).

(4)

"فتح الباري"(11/ 306، 307).

ص: 425

قلت: ومناسبة الباب بالكتاب لعله من جهة أن كثرة الكلام بما لا فائدة فيه مما يورث القساوة في القلب.

(23 -‌

‌ باب حفظ اللسان. . .) إلخ

أي: عن النطق بما لا يسوغ شرعًا مما لا حاجة للمتكلم به، وقد أخرج أبو الشيخ في "كتاب الثواب" والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي جحيفة رفعه:"أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(24 -‌

‌ باب البكاء من خشية الله)

أي: بيان فضله، قاله العيني

(2)

.

(25 -‌

‌ باب الخوف من الله)

قال العيني

(3)

: أي: في بيان شدة الاعتناء بالخوف من الله عز وجل، والخوف من لوازم الإيمان، قال تعالى:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية مما دونه، انتهى.

(26 -‌

‌ باب الانتهاء عن المعاصي)

أي: تركها أصلًا ورأسًا، والإعراض عنها بعد الوقوع فيها، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(11/ 308، 309).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 553).

(3)

"عمدة القاري"(15/ 554).

(4)

"فتح الباري"(11/ 313).

(5)

"فتح الباري"(11/ 316).

ص: 426

(27 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا. . ." إلخ)

قال الحافظ

(1)

رحمه الله: والمراد بالعلم ههنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، انتهى.

(28 -‌

‌ باب حجبت النار بالشهوات)

فمن هتك الحجاب بارتكاب الشهوات المحرمة كالزنا وغيره مما منع الشرع منه كان ذلك سببًا لوقوعه، أعاذنا الله من ذلك ومن سائر المهالك بمنه وكرمه، قاله القسطلاني

(2)

.

ثم قال في شرح الحديث: قوله: "حجبت. . ." إلخ، ولمسلم:"حفت" بالحاء المهملة المضمومة والفاء المفتوحة المشددة في الموضعين من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه، فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات، وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذمِّ الشهوات وإن مالت إليه النفوس، والحضِّ على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشقّت عليها، انتهى.

وفي شرح هذا الحديث قولان، أحدهما: شرح الجمهور، والثاني: ما اختاره أبو بكر ابن العربي كما بسط في الشروح، وذكرهما صاحب "الفيض"

(3)

أيضًا، وقال بعد ذكر القولين: والظاهر عندي أن الشرحين صحيحان باعتبارين مختلفين، وإن كان الأسبق إلى الذهن شرح الجمهور فشرحهم أسبق، وشرح القاضي ألطف، انتهى. فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(11/ 319).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 566).

(3)

"فيض الباري"(6/ 265).

ص: 427

(29 -‌

‌ باب الجنة أقرب إلى أحدكم. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء، وتقدم في هذا المعنى قريبًا حديث:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة" الحديث، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها، وقال ابن الجوزي

(3)

: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية، انتهى.

قال السندي

(4)

: قوله: "الجنة أقرب إلى أحدكم. . ." إلخ؛ لأن حصول كل منهما يكون منوطًا بكلمة لا يبالي بها المتكلم، وأي شيء أقرب إلى الإنسان مما شأنه ذلك، والله تعالى أعلم، انتهى.

ذكر المصنف فيه حديثين، ومناسبة الأول بالترجمة ظاهرة، وأما الثاني فخفية، قال القسطلاني

(5)

: ومطابقته للترجمة من حيث إن كل شيء ما خلا الله في الدنيا الذي لا يؤول إلى طاعة الله تعالى ولا يقرب منه إذا كان باطلًا يكون الاشتغال به مبعدًا من الجنة مع كونها أقرب إليه من شراك نعله، قاله العيني.

وقال: إنه من الفيض الإلهي الذي وقع في خاطره، وقال في "فتح الباري": مناسبته للترجمة خفية، وكأن الترجمة لما تضمنت ما في الحديث الأول من التحريض على الطاعة ولو قلّت، والزجر عن المعصية ولو قلّت،

(1)

"فتح الباري"(11/ 321).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 198).

(3)

"كشف المشكل"(1/ 312).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 127).

(5)

"إرشاد الساري"(13/ 568)، "عمدة القاري"(15/ 561)، "فتح الباري"(11/ 322).

ص: 428

تضمنت أن من خالف ذلك إنما يخالفه لرغبة في أمر من أمور الدنيا، وكل ما في الدنيا باطل، كما صرّح به الحديث الثاني، فلا ينبغي للعاقل أن يؤثر الفاني على الباقي، انتهى.

(30 -‌

‌ باب لينظر إلى من هو أسفل منه. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

: قال ابن بطال: لا يكون أحد على حالة سيئة من الدنيا إلا يجد من أهلها ما هو أسوأ حالًا منه، فإذا تأمل ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير إبراز

(2)

حبه فيعظم اغتباطه بذلك، نعم ينظر إلى من هو فوقه في الدين فيقتدي به فيه، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: والترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه بلفظ: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم"، انتهى.

(31 -‌

‌ باب من همّ بحسنة أو سيئة)

قال الحافظ

(4)

: الهمّ: ترجيح قصد الفعل، تقول: هممت بكذا، أي: قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب، ثم بسط الكلام في شرح الحديث. قوله:"ومن همّ بسيئة فلم يعملها. . ." إلخ، ولا يخفى أن الترك الذي يثاب عليه ما يكون لوجه الله لا لأمر آخر. قال الخطابي

(5)

: هذا إذا تركها مع القدرة عليها إذ لا يسمى الإنسان تاركًا للشيء الذي لا يقدر عليه، انتهى، كذا في الحاشية

(6)

.

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 569).

(2)

كذا في "القسطلاني"، وفي "الفتح" بدله:"من غير أمر أوجبه فيلزم نفسه الشكر. . ." إلخ، (ز).

(3)

"فتح الباري"(11/ 322).

(4)

"فتح الباري"(11/ 323).

(5)

"أعلام الحديث"(3/ 2252).

(6)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 665).

ص: 429

قلت: فعلى هذا لا منافاة بينه وبين ما في أبي داود

(1)

من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا عملتِ الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها".

(32 -‌

‌ باب ما يتقى من محقرات الذنوب)

بفتح القاف المشددة وهي التي يحتقرها فاعلها، انتهى من "القسطلاني"

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: وعند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبًا" وصحّحه ابن حبان، انتهى.

(33 -‌

‌ باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها)

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجيًا أعجب وكسل وإن كان هالكًا ازداد عتوًّا فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء، وقد روى الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك: رأيت رجلًا قتل ظلمًا فقلت في نفسي: أنا أفضل من هذا، فقال: أمنك على نفسك أشدّ من ذنبه، قال الطبري: لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء، انتهى.

(34 -‌

‌ باب العزلة راحة من خلاط السوء)

قال الحافظ

(6)

: لفظ هذه الترجمة أثر أخرجه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن عمر أنه قاله، لكن في سنده انقطاع، و"خلاط" بضم

(1)

"سنن أبي داود"(4345).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 572).

(3)

"فتح الباري"(11/ 329).

(4)

"فتح الباري"(11/ 330).

(5)

"شرح ابن بطال"(10/ 203).

(6)

"فتح الباري"(11/ 331).

ص: 430

المعجمة وتشديد اللام للأكثر، وهو جمع مستغرب، وذكره الكرماني بلفظ "خلط" بغير ألف وهو بضمتين مخففًا كذا ذكر الصغاني في "العباب"، قال الخطابي: جمع خليط، ويجمع أيضًا على خلط بضمتين مخففًا قال: والخِلاط بالكسر والتخفيف المخالطة، قلت: فلعله الذي وقع في هذه الترجمة، انتهى.

(35 -‌

‌ باب رفع الأمانة)

هي ضدّ الخيانة، والمراد برفعها إذهابها بحيث يكون الأمين معدومًا أو شبه المعدوم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (فيظل أثرها مثل أثر الوكت) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: لعل المراد بذلك تصوير الخيانة وتمثيل أثرها في القلب، فإنها في أول الوهلة أقل منها في الثانية، كما أن الوكت وهو السواد الحاصل بدوام العمل بفأس ونحوه أقلّ من المجل، ويمكن أن يكون المراد تمثيل بقاء أثر الأمانة إلى آخر ما ذكر، فارجع إليه لو شئت.

وفي "الفيض"

(3)

: الوكت "سياه داغ"، والمجل "آبله"، ثم اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له مثلًا لرفع الأمانة أولًا ثم ذكر مثالًا لإيضاح تمثيله، فقال: كجمر دحرجته. . . إلخ، ثم اختلف الشارحون أن التشبيه للأمانة الزائلة أو الباقية، وهما وجهان، وراجع الطيبي

(4)

، انتهى.

(36 -‌

‌ باب الرياء والسمعة)

الرياء: مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسمعة: بضم المهملة مشتقة من سمع، والمراد بها

(1)

"فتح الباري"(11/ 333).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 76).

(3)

"فيض الباري"(6/ 268).

(4)

"شرح الطيبي"(10/ 49، 50).

ص: 431

نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(37 -‌

‌ باب من جاهد نفسه في طاعة الله)

المراد بالمجاهدة كفّ النفس عن إرادتها من الشغل بغير العبادة، وبهذا تظهر مناسبة الترجمة لحديث الباب، قال القشيري: أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها، وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فالمجاهدة تقع بحسب ذلك، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(38 -‌

‌ باب التواضع)

مشتق من الضعة بكسر أوله وهي الهوان، والمراد بالتواضع إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل: هو تعظيم من فوقه لفضله، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قال القسطلاني

(4)

: قال الجنيد: هو خفض الجناح ولين الجانب، انتهى، وأورد على حديثي الباب بعدم المطابقة بالترجمة كما ذكرت في هامش "اللامع".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: ودلالة الرواية الأولى عليه من حيث إنها دلّت على أنه لا شيء في مخلوقاته تعالى إلا وعليه فضل لخلق آخر من خلقه، وأيضًا فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"إن حقًا على الله. . ." إلخ، دلّ على هذا المعنى، فعلم بكل منهما أن لا ينبغي لشيء من الخليقة أن يعدّ لنفسه فضلًا وأن يتكبر على أحد، وأما الرواية الثانية فدلالتها على الترجمة

(1)

"فتح الباري"(11/ 336).

(2)

"فتح الباري"(11/ 338).

(3)

"فتح الباري"(11/ 341).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 584).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 77، 78).

ص: 432

من حيث إن العبادات لا سيما الصلاة غاية في الخضوع والتواضع، وقد تبين فيها ما يترتب على هذا التواضع من علو المرتبة والقبول في حضرة الرب تبارك وتعالى، انتهى.

قلت: والأوجه عندي في مناسبة الحديث الثاني بالترجمة أنها في قوله: "من عادى لي وليًا" فإن المتواضع لا يعادي أحدًا فضلًا عن الأولياء.

(39 -‌

‌‌

‌ باب

قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين. . .") إلخ

قال القسطلاني

(1)

: بنصب الساعة، وقوله:"كهاتين" أي: كما بين هاتين الأصبعين السبّابة والوسطى، انتهى. وذكر العلامة الكرماني

(2)

بالرفع والنصب.

وبسط الحافظ الكلام على إعرابه فارجع إليه لو شئت

(3)

.

وأما مناسبة الباب بالكتاب فبما ذكره الحافظ حيث قال: ولما أراد البخاري إدخال أشراط الساعة وصفة القيامة في "كتاب الرقاق" استطرد من حديث الباب الذي قبله المشتمل على ذكر الموت الدال على فناء كل شيء إلى ذكر ما يدلّ على قرب القيامة، وهو من لطيف ترتيبه، انتهى.

ثم بسط الحافظ والقسطلاني ههنا الكلام على مدة بقاء الدنيا.

وبسط الكلام في الروايات الواردة في ذلك، فارجع إليه لو شئت

(4)

.

(40 - باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(5)

: كذا للأكثر بغير ترجمة، وللكشميهني "باب طلوع الشمس من مغربها"، وكذا هو في نسخة الصغاني، وهو مناسب، ولكن الأول أنسب؛ لأنه يصير كالفصل من الباب الذي قبله،

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 589).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 23).

(3)

"فتح الباري"(11/ 348).

(4)

"فتح الباري"(11/ 348 - 352)، و"إرشاد الساري"(13/ 589 - 593).

(5)

"فتح الباري"(11/ 352).

ص: 433

ووجه تعلقه به أن طلوع الشمس من مغربها إنما يقع عند إشراف قيام الساعة كما سأقرره، انتهى.

قلت: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن المصنف ذكره بغير ترجمة لمناسبة قوله تعالى - في الباب السابق -: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} الآية [النحل: 77]، لما ذكر في حديث الباب من أمور تدل على فجأة القيامة كقوله صلى الله عليه وسلم:"ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان" الحديث.

ثم إن الشيخ الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه أفاد ههنا في شرح حديث الباب نكتة بديعة لم أر من تعرّض لها من الشرَّاح حيث قال: قوله: "آمنوا أجمعون. . ." إلخ، ربما يختلج أن خوارق العادات من كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء وآيات قدرة العزيز سلطانه تبارك وتعالى من لدن عهد آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام متكاثرة، إلا أنه لم يصر شيء منها سببًا لإسلام الخلق وإيمانهم كافة فكيف آمنوا بتلك الآية أجمعون، ولعل الوجه في ذلك أن الشياطين والمردة امتنعوا عند ذلك من الإغواء والإضلال لعلمهم أن الإيمان لا يفيد بعد ذلك، فلا حاجة إلى الصدّ عنه، فكان امتناعهم عن الإضلال سببًا ظاهرًا للإيمان، وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الغفلة مانعةً عن قبول الحق ليظهر من آمن بالغيب ممن لم يؤمن به، وهذا أوان انكشاف المغيبات، فلم يبق المانع عن قبول الحق حتى ينحجزوا عنه، انتهى من "اللامع"

(1)

.

(41 -‌

‌ باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)

هكذا ترجم بالشقِّ الأول من الحديث الأول إشارةً إلى بقيته على طريق الاكتفاء، قال العلماء: محبة الله لعبده إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه وكراهته له على الضد من ذلك، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 78، 79).

(2)

"فتح الباري"(11/ 358).

ص: 434

قوله: (وعرفت أنه. . .) إلخ، أي: الأمر الذي حصل [له] هو "الحديث الذي كان يحدثنا به"، وهو صحيح أنه لم يقبض نبي قط حتى يخير، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وكتب العلامة السندي

(2)

: الظاهر أن هذا كان من عائشة على وجه الظن والتخمين، وإلا فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد خيّر قبل ذلك بزمان حتى إنه خطب بعد أن خيّر فقال:"إن عبدًا خيّره الله تعالى بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله"، فبكى أبو بكر، والله تعالى أعلم، انتهى.

(42 -‌

‌ باب سكرات الموت)

بفتح المهملة والكاف جمع سكرة، قال الراغب وغيره: السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشيء عن الألم، وهو المراد هنا، وقال أيضًا تحت شرح الحديث: وفي الحديث أن شدة الموت لا تدلّ على نقصٍ في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته، وبهذا التقرير تظهر مناسبة أحاديث الباب للترجمة، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: ولا يبعد عندي أن تكون الترجمة من الأصل الثامن عشر، أي: إرادة العام بترجمة خاصة.

(43 -‌

‌ باب نفخ الصور)

بضم الصاد المهملة وسكون الواو، وليس هو جمع صورة كما زعم بعضهم، أي: ينفخ في الصور الموتى والتنزيل يدلّ عليه قال تعالى: {ثُمَّ

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 599).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 130).

(3)

"فتح الباري"(11/ 362، 363).

ص: 435

نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68] ولم يقل: فيها، فعلم أنه ليس جمع صورة، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

قلت: وتقدم قول البخاري في تفسير سورة الأنعام: الصور: جماعة صورة مع الإيراد عليه، وتقدم الكلام أيضًا على عدد النفخات في كتاب التفسير تحت قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية في تفسير سورة الزمر [68].

(44 -‌

‌ باب يقبض الله الأرض. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

رحمه الله: لما ذكر ترجمة نفخ الصور أشار إلى ما وقع في سورة الزمر قبل آية النفخ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [الزمر: 67]، وفي قوله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13، 14] ما قد يتمسك به أن قبض السماوات والأرض يقع بعد النفخ في الصور أو معه، انتهى.

(45 -‌

‌ باب كيف الحشر)

كذا في أكثر النسخ، وفي نسخة الحافظ:"باب الحشر".

قال القرطبي: الحشر الجمع، وهو أربعة: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، فالذي في الدنيا أحدهما: المذكور في سورة

(3)

الحشر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]، والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة الذي أخرجه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رفعه: "إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات" فذكره، وفي حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعًا:"تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس" الحديث، وفيه: "فما تأمرنا؟ قال:

(1)

"إرشاد الساري"(13/ 605).

(2)

"فتح الباري"(11/ 372).

(3)

وقع في الأصل: "صورة" بالصاد المهملة وهو خطأ.

ص: 436

عليكم بالشام"، وفي لفظ آخر: "ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر"، والحشر الثالث: حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعًا إلى الموقف، قال الله عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، والرابع: حشرهم إلى الجنة أو النار، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(1)

.

ثم قال الحافظ: قلت: الأول ليس حشرًا مستقلًا، فإن المراد حشر كل موجود يومئذٍ، والأول إنما وقع لفرقة مخصوصة، وقد وقع نظيره مرارًا، تخرج طائفة من بلدها بغير اختيارها إلى جهة الشام، كما وقع لبني أميّة أوّل ما تولَّى ابن الزبير الخلافة، فأخرجهم من المدينة إلى جهة الشام، ولم يعدّ ذلك أحد حشرًا، انتهى مختصرًا.

(46 -‌

‌ باب {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. . .} [الحج: 1]) إلخ

قال القسطلاني: قيل: هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة؛ لأنها من أشراطها، انتهى.

ووجه إدخال هذه الترجمة في هذا الكتاب قد تقدمت الإشارة إليه في "باب بعثت أنا والساعة كهاتين" من كلام الحافظ - قُدِّس سرُّه

(2)

-.

(47 -‌

‌ باب {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:

4، 5])

أي: فيسألون عمّا فعلوا في الدنيا، فإن من ظن ذلك لم يتجاسر على قبائح الأفعال، روي أن ابن عمر قرأ سورة التطفيف حتى بلغ هذه الآية {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، فبكى بكاءً شديدًا ولم يقرأ ما بعدها، انتهى من "القسطلاني"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(11/ 378، 379).

(2)

انظر: "فتح الباري"(11/ 348).

(3)

"إرشاد الساري"(13/ 624).

ص: 437

(48 -‌

‌ باب القصاص يوم القيامة، وهي الحاقة. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(1)

: أي: هذا باب في بيان كيفية القصاص يوم القيامة، والقصاص بكسر القاف مأخوذ من القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبّعه؛ لأن الذي يطلب القصاص يتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، انتهى.

قلت: ولا يخفى أن بيان كيفية القصاص الواقع يوم القيامة مما يرقّق القلب.

(49 -‌

‌ باب من نوقش الحساب عذب)

المراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، قاله الحافظ

(2)

.

(50 -‌

‌ باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب)

فيه إشارة إلى أن وراء التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرًا آخر، وأن من المكلفين من لا يحاسب أصلًا، ومنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا، ومنهم من يناقش الحساب، انتهى من "الفتح"

(3)

.

ثم قال الحافظ

(4)

: أحاديث الباب تخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم

(5)

"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين

(1)

"عمدة القاري"(15/ 607).

(2)

"فتح الباري"(11/ 401).

(3)

"فتح الباري"(11/ 406).

(4)

"فتح الباري"(11/ 414).

(5)

قلت: لم أعثر عليه في "صحيح مسلم"، بل أخرجه الترمذي في "سننه"(4/ 612)، (رقم 2417)، وأورده القرطبي في مختصره لـ "صحيح مسلم"، ثم شرحه، وهو ليس عند مسلم، والحافظ نقله عن القرطبي، ظنًا منه أن مسلمًا أخرجه، كما لم يعز المزي في "التحفة"(8/ 233)، (رقم 11597) إلا إلى الترمذي فقط.

ص: 438

اكتسبه وفيم أنفقه"، قال القرطبي

(1)

: الحديث مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب وبمن يدخل النار من أول وهلة، انتهى.

(51 -‌

‌ باب صفة الجنة والنار)

تقدم هذا في بدء الخلق في ترجمتين، ووقع في كل منهما:"وأنها مخلوقة"، وأورد فيهما أحاديث في تثبيت كونهما موجودتين، وأحاديث في صفتهما أعاد بعضها في هذا الباب، وقال أيضًا: ذكر المصنف في الباب ثلاثة وعشرين حديثًا، انتهى

(2)

.

قوله: (جيء بالموت ثم يذبح. . .) إلخ، بسط الحافظ

(3)

الكلام في الجواب عن الإيراد المشهور على هذا الحديث فارجع إليه لو شئت.

ثم قال الحافظ: قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، قال: فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السُّنَّة.

قال الحافظ: جمع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال، ثم ذكرها الحافظ.

قوله: (ما بين منكبي الكافر. . .) إلخ، قال السندي

(4)

: قيل: هو من قبيل الانتفاخ لا الزيادة من خارج؛ لئلا يلزم تعذيب الأجزاء الغير العاصية، وقد يقال: هو قادر على أن يحفظ غير العاصي من الأجزاء عن العذاب مع الزيادة تقبيحًا في الصورة وتشديدًا في العذاب، وذلك بأن يجعل الأجزاء الزائدة طريقًا لوصول العذاب إلى الأصلية مع عدم الوصول إلى الزائدة، فتأمل، انتهى.

(1)

"المفهم"(7/ 158).

(2)

"فتح الباري"(11/ 419).

(3)

"فتح الباري"(11/ 421، 422).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 136).

ص: 439

(52 -‌

‌ باب الصراط جسر جهنم)

أي: الجسر المنصوب على جهنم لعبور المسلمين عليه إلى الجنة، وهو بفتح الجيم ويجوز كسرها، وقد وقع في حديث الباب لفظ الجسر، وفي رواية شعيب الماضية في "باب فضل السجود" بلفظ:"يضرب الصراط" فكأنه أشار في الترجمة إلى ذلك، انتهى

(1)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(11/ 446).

ص: 440

81‌

‌ م - كتاب الحوض

هكذا في النسخة "الهندية"، وهكذا هو في متن ضمن شرح الكرماني، وأما في بقية الشروح ففيها "باب في الحوض" من غير تسمية.

قال العلامة العيني

(1)

: وفي بعض النسخ: "كتاب في الحوض" وقبله البسملة، وقال أيضًا: أي: هذا باب في ذكر حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والحوض الذي يجمع فيه الماء، ويجمع على أحواض وحياض، والأحاديث التي وردت فيه كثيرة بحيث صارت متواترة من جهة المعنى، والإيمان به واجب، وهو الكوثر على باب الجنة، يسقى المؤمنون منه، وهو مخلوق اليوم، انتهى.

وكذا قال الكرماني

(2)

، وقال: وهو الكوثر، انتهى.

وسيأتي أن الصواب أن اسم أحدهما الكوثر وهو نهر في الجنة واسم الآخر الحوض وهو في الموقف.

قلت: والروايات فيهما كثيرة جدًا بحيث صارت متواترة معنى، عدَّ العيني من رواه من الصحابة فأوصلهم إلى الخمسين

(3)

.

قال القسطلاني

(4)

: وقد تواتر حديث الكوثر من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، انتهى.

قال النووي

(5)

: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أحاديث

(1)

"عمدة القاري"(15/ 640).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 63).

(3)

انظر: "عمدة القاري"(15/ 640، 641).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 675).

(5)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (8/ 67، 68).

ص: 441

الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السُّنَّة والجماعة، لا يتأوّل ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة إلى آخر ما ذكر من أسماء الصحابة.

قال النووي: وقد جمع ذلك كلّه الإمام البيهقي في كتابه "البعث والنشور" بأسانيده وطرقه المتكاثرات، انتهى.

وأنكره الخوارج وبعض المعتزلة، والمعروف أنه من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج الترمذي عن سمرة مرفوعًا:"إن لكل نبي حوضًا" فإن ثبت فالمختص بنبينا عليه الصلاة والسلام نهر الكوثر الذي يصبّ منه في حوضه، كذا في هامش النسخة "الهندية"

(1)

.

وهو الظاهر عندي من أن المختص هو نهر الجنة، والمشترك بين الأنبياء حوض المحشر، فقد تقدّم في "كتاب التفسير" في تفسير سورة الكوثر الروايات الكثيرة الصريحة في أن الكوثر نهر في الجنة يصبّ منه الماء في حوض المحشر، وإطلاق الحوض على هذا النهر في بعض الروايات مجاز.

قال الحافظ

(2)

نقلًا عن القرطبي: والصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما: في الموقف، والآخر: داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرًا.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصبّ في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه، انتهى.

وفي "العقائد النسفية"

(3)

: والحوض حق، قال التفتازاني في شرحه: لقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال محشيه العلامة الخيالي: يشير إلى أن الكوثر هو الحوض، والأصح أنه غيره، وأنه - أي: الكوثر - في

(1)

انظر: "صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(12/ 783).

(2)

"فتح الباري"(11/ 466).

(3)

"شرح العقائد النسفية"(ص 104).

ص: 442

الجنة، والحوض في الموقف، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

بزيادة واختصار.

ثم قال القسطلاني

(2)

: واختلف في حوضه صلى الله عليه وسلم هل هو قبل الصراط أو بعده؟ قال القابسي: الصحيح أن الحوض قبل، قال القرطبي في "تذكرته": والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشًا من قبورهم، وقال آخرون: إنه بعد الصراط، وصنيع البخاري في إيراده لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة بعد نصب الصراط مشعر بذلك إلى آخر ما ذكر من دلائل الفريقين، فارجع إليه لو شئت.

قلت: والراجح عندي قول من قال: إنه قبل الصراط لأنه إن كان بعد الصراط فكيف وصل إليه المرتدون الذين يحال بينه وبينهم ولم لم يسقطوا في جهنم.

(53 -‌

‌ باب قول الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} . . .) إلخ

تقدّم بيان اختلاف النسخ، وأن في أكثر النسخ "باب في الحوض، وقول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}. . ." إلخ.

قال الحافظ

(3)

: أشار إلى أن المراد بالكوثر النهر الذي يصبّ في الحوض فهو مادة الحوض كما جاء صريحًا في سابع أحاديث الباب، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(4)

: الكوثر فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة، واختلف في تفسيره، فقيل: نهر في الجنة وهو المشهور المستفيض عند السلف والخلف، وقيل: أولاده؛ لأن السورة نزلت ردًّا على من عابه

(1)

"لامع الدراري"(10/ 87).

(2)

"إرشاد الساري"(13/ 674).

(3)

"فتح الباري"(11/ 467).

(4)

"إرشاد الساري"(13/ 675).

ص: 443

بعدم الأولاد، وقيل: الخير الكثير، وقيل: غير ذلك مما ذكرته في كتابي "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية"

(1)

، انتهى.

ثم البراعة في قوله: "أن نرجع على أعقابنا" قاله الحافظ

(2)

.

قلت: في حديث الحوض إذ هو أشدّ ذكرًا للموت والآخرة

(3)

.

* * *

(1)

"المواهب اللدنية"(3/ 140 - 144).

(2)

"فتح الباري"(13/ 544).

(3)

قلت: كذا في الأصل هنا، وفي "اللامع" (10/ 119): و"كتاب الرقاق" كله مذكر للآخرة، وفي آخره حديث الحوض أشد ذكرًا للموت والآخرة.

ص: 444

82 -

‌ كتاب القدر

كذا في النسخ الهندية ونسخ الشروح أيضًا.

قال الحافظ:

(1)

زاد أبو ذر عن المستملي فقال: "باب في القدر"، وكذا للأكثر دون قوله:"كتاب القدر"، والقدر بفتح القاف والمهملة، قال الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] قال الراغب: القدر بوضعه يدلّ على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلًا والقول نقلًا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: قال في "شرح السُّنَّة": الإيمان بالقدر فرض لازم وهو أن يعتقد أن الله خالق أعمال العباد خيرها وشرها، وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن خلقهم، والكل بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب، والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليها ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، إلى آخر ما بسط فيه.

ثم إنهم فرّقوا بين القضاء والقدر، قال العلامة القسطلاني

(3)

: قال الراغب: فيما رأيته في "فتوح الغيب": القدر: هو التقدير، والقضاء: هو التفصيل والقطع، فالقضاء أخصّ من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر كالأساس، والقضاء هو التفصيل والقطع، فذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه

(1)

"فتح الباري"(11/ 477).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 90).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 3).

ص: 445

لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله تنبيهًا على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفع الله، فإذا قضي فلا مدفع له، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] و {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] تنبيهًا على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله، وقال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله، انتهى. وهذا عكس ما تقدم عن القسطلاني.

وفي "فيض الباري"

(2)

: اعلم أن القدر حصل من مجموع الإرادة والقدرة، والإرادة عند المتكلمين عبارة عن تخصيص بعض المقدورات ببعض الأوقات، وأنكرها الفلاسفة، وما ذكره الصدر في "الأسفار" وابن رُشد في "التهافت": أن الفلاسفة أيضًا قائلون بصفة الإرادة، فإنه تمويه بلا مرية، وخداع بلا فرية، إلى آخر ما ذكر، ثم إن العبد عند أهل السُّنَّة مختار، وإن كان مجبورًا في وصف الاختيار، فإنه مودعٌ فيه كالماء في القمقمة، انتهى.

(1 -‌

‌ باب جفّ القلم على علم الله. . .) إلخ

أي: فرغت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة؛ لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها، وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم.

قال الطيبي: هو من إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم عن مداده، قلت: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت

(1)

"فتح الباري"(11/ 477).

(2)

"فيض الباري"(6/ 295، 296).

ص: 446

من أمدٍ بعيد، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(2 -‌

‌ باب الله أعلم بما كانوا عاملين)

الضمير لأولاد المشركين، كما صرّح به في السؤال، قاله الحافظ

(2)

.

وفي "الفيض"

(3)

: وقد تقدم أن ابن تيمية نسب إلى البخاري أنه قائل بنجاتهم، واستدل له بهذه الترجمة، قلت: بل هي دالة على نقيضه؛ لأن ظاهرها أنه اختار التوقف، انتهى.

قوله: (إلا يولد على الفطرة. . .) إلخ، قال السندي

(4)

: الظاهر أن المراد سلامة الطبع بحيث لو عرض عليه الإسلام لَمَالَ إليه، لا نفس الإسلام إذ هو لا يناسب قوله:"الله أعلم بما كانوا عاملين" فتأمّل، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:

38])

أي: حكمًا مقطوعًا بوقوعه، والمراد بالأمر واحد الأمور المقدرة، ويحتمل أن يكون واحد الأوامر؛ لأن الكل موجود بـ "كن"، قاله الحافظ

(5)

.

(4 -‌

‌ باب العمل بالخواتيم)

قال الحافظ

(6)

: لما كان ظاهر حديث علي يقتضي اعتبار العمل الظاهر أردفه بهذه الترجمة الدالة على أن الاعتبار بالخاتمة، انتهى.

(5 -‌

‌ باب إلقاء النذر العبد إلى القدر)

هكذا في النسخة "الهندية"، وكذا في نسخ الشروح سوى نسخة

(1)

"فتح الباري"(11/ 491).

(2)

"فتح الباري"(11/ 493).

(3)

"فيض الباري"(6/ 297).

(4)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 144).

(5)

"فتح الباري"(11/ 495).

(6)

"فتح الباري"(11/ 499).

ص: 447

الحافظ ففيها: "إلقاء العبد النذر إلى القدر" وهو نسخة الحاشية.

قال الكرماني

(1)

: فإن قلت: الترجمة مقلوبة إذ القدر يلقي العبد إلى النذر لقوله - في الحديث -: "يلقيه القدر" قلت: هما مترادفان إذ بالحقيقة القدر هو الموصل وبالظاهر هو النذر، لكن كان الأولى في الترجمة العكس ليوافق الحديث إلا أن يقال: هما متلازمان، انتهى.

قال العلامة العيني

(2)

: والمعنى أن العبد إذا نذر لدفع شر أو لجلب خير، فإن نذره يلقيه إلى القدر الذي فرغ الله منه وأحكمه، فمهما قدره الله هو الذي يقع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:"إن النذر لا يردّ شيئًا"، انتهى.

بسط شيء من الكلام على هذه الترجمة في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه لو شئت، وسيأتي الكلام على حكم النذر وأنواعه في "كتاب الأيمان والنذور" إن شاء الله تعالى.

(6 -‌

‌ باب لا حول ولا قوة إلا بالله. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: ترجم في أواخر الدعوات "باب قول لا حول" بالإضافة، واقتصر هنا على لفظ الخبر، واستغنى به لظهوره في أبواب القدر؛ لأن معنى "لا حول" لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، انتهى.

قلت: ولا توفيق إلا بالقدر، فناسب الباب الكتاب.

(7 -‌

‌ باب المعصوم من عصم الله. . .) إلخ

أي: من عصمه الله بأن حماه من الوقع في الهلاك أو ما يجر إليه، يقال: عصمه الله من المكروه: وقاه وحفظه، واعتصمت بالله: لجأت إليه،

(1)

"شرح الكرماني"(23/ 81).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 665).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 94، 95).

(4)

"فح الباري"(11/ 500، 501).

ص: 448

وعصمة الأنبياء - على نبينا وعليهم الصلاة والسلام - حفظهم عن النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حق غيرهم بطريق الجواز، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(8 -‌

‌ باب قول الله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]) إلخ

وفي نسخة "الفتح": "وحِرْمٌ على قرية" قال الحافظ: كذا لأبي ذر، وفي رواية، غيره:"وحرام" بفتح أوله وزيادة الألف، والقراءتان مشهورتان، قرأ أهل الكوفة بكسر أوله وسكون ثانيه، وقرأ أهل الحجاز وغيرهم بفتحتين وألف، وهما بمعنى كالحلال والحل، ثم قال بعد ذكر الآيتين: ودخول ذلك في أبواب القدر ظاهر، فإنه يقتضي سبق علم الله بما يقع من عبيده، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(9 -‌

‌ باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} الآية [الإسراء:

60])

والمناسبة في قوله تعالى: {جَعَلْنَا} لأنه هو التقدير.

قاله الحافظ

(3)

: وجه دخوله في أبواب القدر من ذكر الفتنة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها، وقد قال موسى عليه الصلاة والسلام:{إِنْ هِيَ إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155].

قال ابن التِّين: وجه دخول هذا الحديث في كتاب القدر الإشارة إلى أن الله تعالى قدَّر على المشركين التكذيب لرؤيا نبيه الصادق، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"فتح الباري"(11/ 501، 502).

(2)

"فتح الباري"(11/ 503).

(3)

"فتح الباري"(11/ 504، 505).

ص: 449

(10 -‌

‌ باب تحاج آدم وموسى عند الله تعالى)

ولفظ قوله: "عند الله" زعم بعض شيوخنا أنه أراد أن ذلك يقع منهما يوم القيامة، ثم ردّه بما وقع في بعض طرقه، وذلك فيما أخرجه أبو داود من حديث عمر قال: قال موسى: "يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم، فقال: أنت أبونا" الحديث، قال: وهذا ظاهره أنه وقع في الدنيا، انتهى.

وفيه نظر: فليس قول البخاري: "عند الله" صريحًا في أن ذلك يقع يوم القيامة، فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان، والذي يظهر لي أن البخاري لمح في الترجمة بما وقع في بعض طرق الحديث، وهو ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة بلفظ:"احتج آدم وموسى عند ربهما" الحديث، ثم ذكر الحافظ اختلاف العلماء في وقت هذه المحاجة وتعيين زمانه.

وبسط الكلام على شرح الحديث أشدّ البسط

(1)

.

(11 -‌

‌ باب لا مانع لما أعطى الله)

هذا اللفظ منتزع من معنى الحديث الذي أورده، قاله الحافظ

(2)

(12 -‌

‌ باب من تعوذ بالله من درك الشقاء)

تقدم شرح ذلك في أوائل الدعوات

(3)

.

(13 -‌

‌ باب يحول بين المرء وقلبه)

كأنّه أشار إلى تفسير الحيلولة التي في الآية بالتقلب الذي في الخبر أشار إلى ذلك الراغب، وقال: المراد أنه يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(11/ 505 - 512).

(2)

"فتح الباري"(11/ 513).

(3)

"فتح الباري"(11/ 513).

(4)

"فتح الباري"(11/ 514).

ص: 450

(14 -‌

‌ باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا. . .} [التوبة: 51] قضى) إلخ

فسّر "كتب" بقضى، وهو أحد معانيها، وبه جزم الطبري في تفسيرها، وقال الراغب: ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضي كقوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أي: فيما قدره، ومنه:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(15 -‌

‌ باب قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ. . .} [الأعراف: 43]) إلخ

قال القسطلاني

(2)

: وجواب لولا مدلول عليه بقوله: {وَمَا كُنَّا} تقديره لولا هداية لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين، وقد دلّت على أن المهتدي من هداه الله، وأن من لم يهده الله لم يهتد، ومذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله في حق الأنبياء والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق، وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر والمحق والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه، فكان يجب عليه أن يحمد نفسه؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنة وخلَّصها من دركات النيران، فلما لم يحمد نفسه البتة إنما حمد الله تعالى فقط، علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى، انتهى.

ثم براعة الاختتام عند الحافظ

(3)

: في قوله: "إذا أرادوا فتنة أبينا". وعند هذا العبد الضعيف

(4)

في قوله: "يوم الخندق"، وكذا في قوله:"وثبت الأقدام. . ." إلخ، فإنه يذكر قوله:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [إبراهيم: 27].

(1)

"فتح الباري"(11/ 514).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 38).

(3)

"فتح الباري"(13/ 544).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 451

83 -

‌ كتاب الأيمان والنذور

بسط الكلام على معناهما لغة وشرعًا في هامش "اللامع"

(1)

، وفيه: وعرفت اليمين شرعًا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى، والنذر أصله الإنذار بمعنى التخويف، وعرّفه الراغب بإنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: والنذر مصدر نَذَرَ بفتح الذال المعجمة يَنْذُرُ بضمها وكسرها، في اللغة: الوعد بخير أو شر، وشرعًا: التزام قربة غير لازمة بأصل الشرع، وزاد بعضهم مقصودة، وقيل: إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر، ومنهم من قال: أن يلزم نفسه بشيء تبرعًا من عبادة أو صدقة أو نحوهما، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فإنما سمّاه نذرًا باعتبار الصورة، انتهى.

وذكر فيه أيضًا أنواع الأيمان والنذور، فالأول على خمسة أنواع، والثاني على سبعة أنواع، وسيأتي بعض تلك الأنواع في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.

(1 -‌

‌ باب قول الله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية [البقرة:

225])

وكذا في نسخة "العيني" بإثبات لفظ الباب، وفي نسخة بقية الشروح سقط لفظ "باب".

قال الحافظ

(3)

: "كتاب الأيمان والنذر، وقول الله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ

(1)

"لامع الدراري"(10/ 98).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 40).

(3)

"فتح الباري"(11/ 516، 517).

ص: 452

اللَّهُ}. . ." إلخ، كذا للجميع بغير لفظ "باب" وهو مقدر، وثبت لبعضهم كالإسماعيلي، انتهى.

قلت: ولم يتعرض الشرَّاح لغرض الإمام البخاري بهذه الترجمة، ولم يأتوا بما يتعلق بالغرض، ولا بمطابقة أحاديث الباب بالترجمة بشيء يشفي العليل ويروي الغليل، وفي هامش "اللامع"

(1)

: ويرد في بادئ الرأي على الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - أنه ترجم بهذه الآية التي في سورة الأنعام، وسيعيد الترجمة بعد اثني عشر بابًا بآية سورة البقرة، ومؤدى الآيتين واحد، فيوهم تكرار الترجمة، وجوابه عندي أن مقصود البابين مختلف، فالمقصود من الباب الأول أن ظاهر الآية يدلّ على أن إبرار القسم واجب، ولا يجوز الحنث بحال لأجل المؤاخذة لقوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الآية [البقرة: 225]، فنبَّه المؤلف بإيراد الروايات الواردة في الباب على أن الحنث قد يكون أولى من الإبرار وأوكد منه، بل قد يكون اللج بيمينه آثم من الحنث، ومقصود الباب الآتي الإشارة إلى اختلافهم في تفسير يمين اللغو كما يدلّ عليه الروايات الواردة في الباب هناك، انتهى.

(2 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: وأيم الله)

بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج، وهمزته همزة وصل عند الأكثر، وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم؛ لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، إلى آخر ما بسط الحافظ

(2)

في تحقيقه أشدّ البسط.

وقال العلامة القسطلاني

(3)

: قوله: "وأيم الله" من ألفاظ القسم كقولك: لعمر الله وعهد الله، وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، أي:

(1)

"لامع الدراري"(10/ 99، 100).

(2)

"فتح الباري"(11/ 521).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 48).

ص: 453

قسمي أو يميني أو لازم لي، وفيها لغات كثيرة، وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزة وصل، وقد تقطع، ونحاة الكوفة يقولون: إنها جمع يمين، وغيرهم يقولون: هي اسم موضوع للقسم، ثم ذكر الخلاف في ذلك، فقال: قال المالكية والحنفية: إنها يمين، وقال الشافعية: إن نوى اليمين انعقد، وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينًا، وإن أطلق فوجهان أصحّهما لا ينعقد، وعن أحمد روايتان أصحّهما الانعقاد، انتهى.

(3 -‌

‌ باب كيف كان يمين النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ

أي: التي كان يواظب على القسم بها أو يكثر، وجملة ما ذكر في الباب أربعة ألفاظ: أحدهما: والذي نفسي بيده، وكذا نفس محمد بيده، فبعضها مصدر بلفظ "لا"، وبعضها بلفظ "أما" وبعضها بلفظ "أيم"، ثانيها: لا ومقلب القلوب، ثالثها: والله. رابعها: ورب الكعبة. والأول أكثرها ورودًا.

ثم ذكر الحافظ

(1)

اختلاف الفقهاء في تعيين ما يقسم به من أسماء الله وصفاته، فارجع إليه لو شئت.

فائدة: أفاد الحافظ ابن القيم

(2)

في بيان قصة الحديبية من جملة الفوائد الفقهية المستفادة منها فقال: ومنها جواز الحلف، بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حُفِظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعًا، وأمره الله تعالى بالحلفِ على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع: في سورة يونس، وسبأ، والتغابن، انتهى.

(4 -‌

‌ باب لا تحلفوا بآبائكم)

ويستفاد بما ذكرت من نقول الفقهاء في "الأوجز"

(3)

: أن الحلف بالآباء والأمهات لا ينعقد يمينًا عند الأئمة الأربعة، وفيه: قال ابن قدامة

(4)

:

(1)

"فتح الباري"(11/ 526).

(2)

"زاد المعاد"(3/ 302).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 672 - 680).

(4)

"المغني"(8/ 705).

ص: 454

لا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق: كالكعبة، والأنبياء، وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي، وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم يمين موجبة للكفارة، انتهى.

وجزم الدردير المالكي بأنه لا ينعقد بالنبي، ولا بالكعبة، والركن، والمقام، والعرش، إلى آخر ما ذكر، وفي "البدائع"

(1)

: لو حلف بشيء من ذلك له لا يكون يمينًا؛ لأنه حلف بغير الله تعالى، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعمّ من التحريم والتنزيه، والمسألة خلافية قولان عند المالكية، والمشهور عندهم الكراهة، والمشهور عند الحنابلة التحريم، وبه جزم الظاهرية، وهكذا الخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشار بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه.

ثم قال الحافظ: قال العلماء: السر في النهي [عن الحلف بغير الله] أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، انتهى ملخصًا.

ثم إنهم استشكلوا مطابقة حديث زهدم الحديث الرابع من أحاديث الباب بالترجمة كما ذكر في هامش النسخة "الهندية"

(3)

.

وكذا بسط في هامش "اللامع"

(4)

، وفيه: والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذكر الكفارة في حديث زهدم وعدم ذكرها في حديث الحلف بالآباء أنه لا تكون الكفارة في الحلف بالآباء،

(1)

"بدائع الصنائع"(3/ 16).

(2)

"فتح الباري"(11/ 531).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(13/ 78).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 103).

ص: 455

والمسألة إجماعية كما تقدمت آنفا، وقال السندي

(1)

في هامشه: قيل في وجه مطابقة حديث أبي موسى للترجمة أنه صلى الله عليه وسلم حلف بالله مرتين، فعلم أن الحلف بغير الله لا يحسن، قلت: والأحسن من ذلك أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحلف على يمين" لا يدل على أن يمينه كانت منعقدة، واليمين بغيره تعالى لا تنعقد، فكان يمينه مطلقًا بالله لا بغيره تعالى، انتهى.

(5 -‌

‌ باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت)

إنما أفرده بالذكر لشدة كراهة الحلف بذلك.

قال الحافظ

(2)

: أما الحلف باللات والعزى فذكر في حديث الباب، وأما الطواغيت فوقع في حديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعًا:"لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم"، وفي رواية مسلم وابن ماجه:"بالطواغي" وهو جمع طاغية، والمراد الصنم، وأما الطواغيت فهو جمع طاغوت، وقد تقدم بيانه في تفسير سورة النساء.

قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى أو غيرهما من الأصنام أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام لم تنعقد يمينه، وعليه أن يستغفر الله ولا كفارة عليه، وعن الحنفية: تجب الكفارة، انتهى.

قلت: وهكذا ذكر الشراح من الحافظ والنووي وهكذا العلامة الباجي مذهب الحنفية في هذه المسألة، والعجب من العلامة العيني إذ حكى قول النووي ولم يتعقبه، ولا يصح النقل عن الحنفية، وذلك لأنه لا يجب الكفارة عندنا في الحلف باللات ونحوها، صرّح به ابن الهمام وغيره من أصحاب الفروع، انتهى من "الأوجز"

(3)

.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 151).

(2)

"فتح الباري"(11/ 536).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 681).

ص: 456

(6 -‌

‌ باب من حلف على الشيء وإن لم يحلّف)

وقد أطلق بعض الشافعية أن اليمين بغير استحلاف تكره فيما لم تكن طاعة، والأولى أن يعبّر بما فيه مصلحة، قال ابن المنيِّر

(1)

: مقصود الترجمة أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] يعني: على أحد التأويلات فيها لئلا يتخيل أن الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النهي، فأشار إلى أن النهي يختص بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم؛ كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذهب، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وأبدى بعض الشرَّاح لحلفه صلى الله عليه وسلم وجهًا وجيهًا حكاه القسطلاني

(3)

إذ قال: قال المهلب: إنما كان صلى الله عليه وسلم يحلف في تضاعيف كلامه وكثير من فتواه متبرعًا بذلك لنسخ ما كانت عليه الجاهلية في الحلف بآبائهم وآلهتهم؛ ليعرّفهم أن لا محلوف به سوى الله تعالى؛ وليتدربوا على ذلك حتى ينسوا ما كانوا عليه من الحلف بغيره تعالى، انتهى.

(7 -‌

‌ باب من حلف بملة سوى الإسلام. . .) إلخ

قوله: (بملة) هي نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وغيرهم، ولم يجزم المصنف بالحكم هل يكفر الحالف بذلك أو لا؟ لكن تصرفه يقتضي أن لا يكفر بذلك؛ لأنه علّق حديث:"من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" ولم يذكر كفارة، قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت ثم فعل، فقال جمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه ولا يكون كافرًا إلا إن أضمر ذلك بقلبه، وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين،

(1)

"المتواري"(ص 222).

(2)

"فتح الباري"(11/ 537).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 71).

ص: 457

وعليه الكفارة، انتهى مختصرًا ملخصًا من "الفتح"

(1)

.

(8 -‌

‌ باب لا يقول: ما شاء الله وشئت. . .) إلخ

هكذا بتّ الحكم في الصورة الأولى، وتوقف في الصورة الثانية، وسببه أنها وإن كانت وقعت في حديث الباب الذي أورده مختصرًا وساقه مطولًا فيما مضى، لكن إنما وقع ذلك من كلام الملك على سبيل الامتحان للمقول له، فتطرق إليه الاحتمال، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قال الكرماني

(3)

: فإن قلت: ليس في الباب ما يدلّ عليه؟ - أي: على الجزء الأول من الترجمة -.

قلت: يروى عن المستملي أنه قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله كان عند الفربري فرأيته لم يتم بعد، وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة، فيها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض، إلى آخر ما قال.

- قلت: وقد تقدّم أمثال هذا الاعتذار من قبل البخاري في مقدمة "لامع الدراري"

(4)

.

وقال الحافظ

(5)

: قال المهلب: إنما أراد البخاري أن قوله: "ما شاء الله ثم شئت" جائز مستدلًا بقوله: "أنا بالله ثم بك"، انتهى.

ثم قال الحافظ

(6)

: مناسبة إدخال هذه الترجمة في "كتاب الأيمان" من جهة ذكر الحلف في بعض طرق حديث ابن عباس، ومن جهة أنه قد يتخيل جواز اليمين بالله ثم بغيره على وزان ما وقع في قوله:"أنا بالله ثم بك"، فأشار إلى أن النهي ثبت عن التشريك، وورد بصورة الترتيب على

(1)

"فتح الباري"(11/ 537، 538).

(2)

"فتح الباري"(11/ 540).

(3)

"شرح الكرماني"(23/ 108).

(4)

"مقدمة لامع الدراري"(1/ 390 - 392).

(5)

"فتح الباري"(11/ 540).

(6)

"فتح الباري"(11/ 541).

ص: 458

لسان الملك، وذلك فيما عدا الأيمان، أما اليمين بغير ذلك فثبت النهي عنها صريحًا فلا يلحق بها ما ورد في غيرها، والله أعلم، انتهى.

(9 -‌

‌ باب قول الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. . .} [الأنعام: 109]) إلخ

أي: حلف المنافقون بالله، وهو جهد اليمين؛ لأنهم بذلوا فيها مجهودهم وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من قال: بالله، فقد جهد يمينه، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وأما الغرض من الترجمة فما ذكره الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

إذ قال: يعني بذلك أن القسم يمين أيضًا، انتهى.

وقد ترجم الإمام أبو داود

(3)

بقوله: "باب في القسم هل يكون يمينًا" وذكر فيه قصة الرؤيا من حديث ابن عباس الذي علّقه البخاري ههنا، وسيأتي مطولًا في "كتاب التعبير"، والمسألة خلافية كما سيأتي.

وقال الحافظ

(4)

: والغرض منه هنا قوله: "لا تقسم" موضع قوله: "لا تحلف"، فأشار إلى الرد على من قال: إن من قال: "أقسمت" انعقدت يمينًا، ولأنه لو قال بدل "أقسمت":"حلفت" لم تنعقد اتفاقًا إلا إن نوى اليمين أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضًا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان "أقسمت" يمينًا لأبر أبا بكر حين قالها، ومن ثمّ أورد حديث البراء عقبه.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 75).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 105).

(3)

"سنن أبي داود" كتاب الأيمان والنذور، باب في القسم هل يكون يمينًا (ح 3269).

(4)

"فتح الباري"(11/ 542).

ص: 459

ثم قال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر

(2)

: مقصود البخاري الردّ على من لم يجعل القسم بصيغة: "أقسمت" يمينًا، انتهى.

قلت: ما ذكره الحافظ هو مذهب الشافعي: وما أشار إليه ابن المنيِّر هو مذهبنا الحنفية، والعجب أن الحديث مستدل الفريقين كليهما، ففي "البذل"

(3)

: قال الخطابي

(4)

: فيه مستدل لمن ذهب إلى أن القسم لا يكون يمينًا بمجرده حتى يقول: "أقسمت بالله"، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار المقسم، فلو كان "أقسمت" يمينًا لأشبه أن يبره، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي، وقد يستدل به من يرى القسم يمينًا على وجه آخر، فيقول: لولا أنه يمين ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقسم" وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة وأصحابه، انتهى.

وقال الحافظ

(5)

: قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: "أقسمت بالله" أو "أقسمت" مجردة، فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وبه قال النخعي والثوري والكوفيون، وقال الأكثرون: لا تكون يمينًا إلا أن ينوي، وقال مالك:"أقسمت بالله" يمين، و"أقسمت" مجردة لا تكون يمينًا إلا إن نوى، وقال الشافعي: المجردة لا تكون يمينًا أصلًا ولو نوى، و"أقسمت بالله" إن نوى تكون يمينًا، وقال إسحاق: لا تكون يمينًا أصلًا، وعن أحمد كالأول، وعنه كالثاني، انتهى.

(10 -‌

‌ باب إذا قال: أشهد بالله أو شهدت بالله)

أي: هل يكون حالفًا؟ وقد اختلف في ذلك فقال الحنفية والحنابلة: نعم، والراجح عند الحنابلة ولو لم يقل بالله أنه يمين، وعند الشافعية لا يكون يمينًا إلا إن أضاف إليه بالله، ومع ذلك فالراجح أنه كناية، فيحتاج

(1)

"فتح الباري"(11/ 542).

(2)

"المتواري"(ص 224).

(3)

"بذل المجهود"(10/ 570).

(4)

"معالم السنن"(4/ 48).

(5)

"فتح الباري"(11/ 542).

ص: 460

إلى القصد وهو نصّ الشافعي في "المختصر"، وعن مالك كالروايات الثلاث، واحتج من أطلق بأنه ثبت في العرف والشرع في الأيمان، قال الله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، ثم قال:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]، فدل على أنهم استعملوا ذلك في اليمين، وكذا ثبت في اللعان، إلى آخر ما قال الحافظ

(1)

.

وقال العلامة العيني

(2)

: وللعلماء في هذا الباب أقوال: أحدها: إن "أشهد" و"أحلف" و"أعزم" كلها أيمان تجب فيها الكفارة، وهو قول النخعي وأبي حنيفة، الثاني: إن "أشهد" لا يكون يمينًا حتى يقول: "أشهد بالله" وإلا فليس بيمين. . .، إلى آخر ما ذكر

(11 -‌

‌ باب عهد الله)

قال القسطلاني

(3)

: أي: قول الشخص: عليّ عهد الله لأفعلن كذا، ثم قال بعد ذكر الحديث: ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: "بعهد الله"، فمن حلف بالعهد فحنث لزمته كفارة عند مالك والكوفيين وأحمد، وقال الشافعي: لا يكون يمينًا إلا إن نواه، قاله ابن المنذر، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

: قال ابن التِّين: هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول: عليّ عهد الله، والثاني: وعهد الله، الثالث: عهد الله، الرابع: أعاهد الله، الخامس: عليَّ العهد، وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع، وفصّل بعضهم فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال: عليّ عهد الله ونحوها، وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو، ثم ذكر مذاهب العلماء نحو ما تقدم عن القسطلاني وزاد: قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية [يس: 60]، فمن قال: عليّ عهد الله صدق؛ لأن الله أخبر أنه أخذ علينا العهد فلا يكون ذلك يمينًا إلا إن نواه،

(1)

"فتح الباري"(11/ 543، 544).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 707).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 80، 81).

(4)

"فتح الباري"(11/ 545).

ص: 461

واحتج الأولون بأن العرف قد صار جاريًا به، فحمل على اليمين، انتهى.

(12 -‌

‌ باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: في هذه الترجمة عطف العام على الخاص، والخاص على العام؛ لأن الصفات أعمّ من العزة والكلام.

ثم قال الحافظ

(2)

: لمح المصنف بهذه الترجمة إلى ردّ ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من "الحلية" لأبي نُعيم عن عون قال: قال عبد الله: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم: وعزة الله، ولكن قولوا كما قال الله تعالى:{رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] انتهى. وعون عن عبد الله منقطع، انتهى من "الفتح".

وقال القسطلاني

(3)

: قوله: "وصفاته" كالخالق والسميع والبصير والعليم، "وكلامه" كالقرآن أو بما أنزل الله، انتهى.

قوله: (أعوذ بعزتك) في هامش المصرية

(4)

: وجه مطابقته للترجمة مع أنه دعاء لا قسم أنه لا يستعاذ إلا بصفة قديمة فالحلف كذلك، انتهى.

ثم انعقاد الحلف بعزة الله متفق بين الأئمة، ففي "الأوجز"

(5)

: عن ابن قدامة في بحث القسم بصفات الله تعالى كعزة الله تعالى وعظمته وجلاله وكلامه، فهذه تنعقد به اليمين في قولهم جميعًا، وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه من صفات ذاته، ولم يزل موصوفًا بها إلى آخر ما بسط فيه من الكلام على ذلك، ولخص منه في هامش "اللامع"

(6)

من كلام الموفق وغيره.

وحاصله: أن القسم بصفات الله تعالى تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(1)

"فتح الباري"(11/ 545).

(2)

"فتح الباري"(11/ 536).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 82).

(4)

"تحفة الباري"(6/ 284).

(5)

"أوجز المسالك"(9/ 683 - 688).

(6)

"لامع الدراري"(10/ 108).

ص: 462

أحدها: ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعزة الله تعالى، فذكر ما تقدم آنفًا. والثاني: ما هو صفات للذات ويعبّر به عن غيرها مجازًا كعلم الله وقدرته، فمتى أقسم بها كان يمينًا، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا قال: "وعلم الله" لا يكون يمينًا؛ لأنه يحتمل المعلوم. والثالث: ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظًا أو نيةً كالعهد والميثاق والأمانة ونحوها، فهذا لا يكون يمينًا إلا بإضافة أو نية، انتهى مختصرًا.

(13 -‌

‌ باب قول الرجل: لعمر الله. . .) إلخ

أي: هل يكون يمينًا؟ وهو مبني على تفسير "لعمر"، ولذا ذكر أثر ابن عباس. قال الراغب: العمر بالضم وبالفتح واحد، ولكن خصّ الحلف بالثاني، وقد اختلف هل تنعقد به اليمين؟ فعن المالكية والحنفية تنعقد؛ لأن معناه بقاء الله، والبقاء من صفات ذاته، وعن مالك: لا يعجبني اليمين بذلك، وقال الشافعي: لا يكون يمينًا إلا بالنية؛ لأنه يطلق على العلم وقد يراد بالعلم المعلوم، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي، انتهى ملخصًا من "الفتح" و"القسطلاني"

(1)

.

وقال الموفق

(2)

: وإن قال: "لعمر الله" فهي يمين، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: إن كان قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا، وهو اختيار أبي بكر، ولنا أنه أقسم بصفة من صفات الله فكان يمينًا كالحلف ببقاء الله تعالى، إلى آخر ما في "الأوجز"

(3)

.

(14 -‌

‌ باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية [البقرة:

225])

هذه آية البقرة، وقد تقدم آية المائدة في أول "كتاب الأيمان" من باب

(1)

"فتح الباري"(11/ 547)، و"إرشاد الساري"(14/ 84).

(2)

"المغني"(13/ 455).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 685).

ص: 463

قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} الآية، وقد تقدم هناك الكلام على دفع ما يتوهم من التكرار بين الترجمتين لاختلاف الغرضين، وأن الغرض ههنا الإشارة إلى اختلاف العلماء في تفسير يمين اللغو، والمسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"

(1)

، وذكر فيه ثمانية أقوال للعلماء، وذكر مختصرًا في هامش "اللامع"

(2)

، وفيه عن تفسير الصاوي

(3)

: اختلف العلماء في معنى اللغو، فقال الشافعي: هو ما سبق إليه اللسان من غير قصد عقد اليمين، وقال أبو حنيفة ومالك: هو أن يحلف على ما يعتقد فتبين خلافه، انتهى.

وقول الإمام أحمد يجمعها كما حكى الموفق عن نصِّ الإمام أحمد أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين يرى أنها كذلك والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء، انتهى.

وجعل ابن الهمام مذهب أحمد موافقًا للحنفية، ورواية له أخرى موافقة للشافعي، انتهى من هامش "اللامع".

وفي "البذل"

(4)

عن "البدائع"

(5)

: وحاصل الخلاف بيننا وبين الشافعي في يمين لا يقصدها الحالف في المستقبل، عندنا ليس بلغو وفيها الكفارة، وعنده لغو لا كفارة فيها، ثم قال: المراد من قول عائشة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يمين اللغو ما يجري في كلام الناس: "لا والله، بلى والله" في الماضي، لا في المستقبل، انتهى.

قلت: فعلى هذا حديث عائشة هذا الذي استدل به الشافعية مسلك الحنفية.

(1)

"أوجز المسالك"(9/ 592).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 99، 100).

(3)

"تفسير الصاوي"(1/ 45).

(4)

"بذل المجهود"(10/ 612، 613).

(5)

"بدائع الصنائع"(3/ 7).

ص: 464

(15 -‌

‌ باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان. . .) إلخ

المسألة التي أشار إليها الإمام البخاري خلافية، قال ابن رُشد في "البداية"

(1)

: إن مالكًا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد، والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا [على] المكره، انتهى.

وقال الموفق

(2)

: من حلف أن لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا فلا كفارة عليه، نقله عن أحمد الجماعة إلا في الطلاق والعتاق، فإنه يحنث، هذا ظاهر المذهب، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يحنث في الجميع، وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة، وهو قول ربيعة ومالك وأصحاب الرأي، والقول الثاني للشافعي، انتهى.

قلت: وما ذكر الموفق من مذهب الحنفية، هو كذلك كما في "الدر المختار"

(3)

إذ قال: وفيه - أي: اليمين المنعقدة - الكفارة ولو مكرهًا أو ناسيًا، انتهى.

وأما غرض المصنف بالترجمة ومطابقة الأحاديث بها فقال الكرماني

(4)

تحت حديث ابن عباس: فإن قلت: ما وجه مناسبة الحديث للترجمة إذ ليس فيه ذكر اليمين؟ قلت: غرضه من الترجمة بيان رفع القلم عن الناسي والمخطئ ونحوهما وعدم المؤاخذة به، فهذا الحديث وما بعده من الأحاديث تناسبها بهذا الوجه، انتهى.

قلت: اختلفوا في غرض الإمام البخاري بهذه الترجمة، والأوجه عندي ما قاله ابن المنيِّر

(5)

: إن غرض البخاري بالترجمة جمع أدلة الفريقين كما تقدم نظيره في "كتاب الشروط" في قصة جمل جابر، فإنه ذكر فيه

(1)

"بداية المجتهد"(1/ 415).

(2)

"المغني"(13/ 446، 447).

(3)

انظر: "رد المحتار"(5/ 478، 479).

(4)

"شرح الكرماني"(23/ 115).

(5)

"المتواري"(ص 227).

ص: 465

أحاديث الاشتراط والهبة، وحاول الحافظ

(1)

أن غرض البخاري تأييد مسلكه وأول الروايات إليه مع بُعد التأويل في بعضها.

وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه أيضًا الكلام على هذا الباب إذ قال

(2)

: وجملة ما ساقه ههنا من الروايات لا يدلّ شيء منها على نفي الكفارة، فإن أراد إثبات أنه لا كفارة في هذا الحنث فغير مسلم لعدم الثبوت، وإن أراد إثبات أنه لا معصية فيه فهو مسلم، وإثبات ذلك بالروايات موجه، إلى آخر ما بسط في مطابقة الأحاديث بالترجمة.

(16 -‌

‌ باب اليمين الغموس. . .) إلخ

بفتح المعجمة وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة، قيل: سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل، وقيل: الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جفنةً فجعلوا فيها طيبًا أو دمًا أو رمادًا، ثم يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها؛ ليتم لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا.

ثم قال الحافظ: نقل ابن المنذر وابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالأوزاعي والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(3)

.

قلت: وإلى مسلك الجمهور ميل المصنف، وقال القسطلاني

(4)

: واليمين الغموس: أن يحلف على الماضي متعمدًا للكذب كأن يقول: والله ما فعلت كذا أو فعلت كذا نفيًا وإثباتًا، وهو يعلم أنه ما فعله أو فعله، أو أن يحلف كاذبًا ليذهب بمال أحد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(11/ 550، 551).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 110).

(3)

"فتح الباري"(11/ 555 - 557).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 98).

ص: 466

(17 -‌

‌ باب قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية [آل عمران:

77])

أشار المصنف بذلك كما في الحاشية

(1)

عن العيني

(2)

تأكيد مسلك الجمهور أن لا كفارة في يمين الغموس إذ المذكور في الآيات والروايات الإثم لا غير، قوله:"على يمين صبر" في هامش النسخة المصرية بالإضافة، أي: التي تصبر، أي: يلزم بها الحالف ويحبس عليها، ومنهم من نَوَّن يمين، أي: يمينٌ مصبورةٌ على التجوز إذ المصبور في الحقيقة صاحبها، أو المراد أن الحالف هو الذي صبر نفسه وحبسها على هذه اليمين، فاليمين مصبورة، أي: مصبور عليها، انتهى.

(18 -‌

‌ باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب)

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه ثلاثة أحاديث يؤخذ منها حكم ما في الترجمة على الترتيب، وقد تؤخذ الأحكام الثلاثة من كل منها، ولو بضرب من التأويل، وقد ورد في الأمور الثلاثة على غير شرطه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا:"لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم" أخرجه أبو داود، وفي بعض طرقه عند أبي داود أيضًا:"ولا في معصية"، وللطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رفعه:"لا يمين في غضب" الحديث، وسنده ضعيف.

وبسط الحافظ وغيره من الشرَّاح فيما قصد المصنف بهذه الترجمة، وكذا تكلموا في مناسبة أحاديث الباب بالترجمة.

وكتب مولانا محمد حسن المكي في "التقرير"

(4)

: غرضه أن اليمين

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(13/ 115).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 721).

(3)

"فتح الباري"(11/ 564، 565).

(4)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 114).

ص: 467

في هذه الثلاثة لا ينعقد أصلًا. وقوله: "فحلف أن لا يحملنا ثم حَمَلَنا" فعلم أن اليمين لم تكن منعقدة لعدم الإبل في ملكه حين الحلف. وقوله: "فرجع إلى مسطح النفقة" فعلم أن اليمين لم تكن منعقدة، قلنا: قد كفر، انتهى.

قلت: وهذا مبني على تبويب البخاري ومسلكه وإلا فالمسألة في الكفارة في هذه الأمور خلافية، وما أفاده الشيخ المكي من قوله:"قلنا: قد كفر" به جزم الصاوي على "الجلالين".

وأفاد العلامة الكرماني

(1)

في غرض الترجمة غير ما أفاده الشيخ المكي إذ قال: فإن قلت: كيف دلَّ الحديثان على الجزئين الأولين من الترجمة؟ قلت: لعله قاسهما على الغضب، فإن قلت: فما حكمهما هل ينعقد اليمين وتجب الكفارة فيهما؟ قلت: مختلف فيه، وميل البخاري إلى الانعقاد والوجوب حيث سلكهما في مسلك الغضب، انتهى.

وأما تفصيل مذاهب الأئمة في هذه الأمور الثلاثة ففي "الأوجز"

(2)

: قال الموفق

(3)

: أما نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعًا، ويجب على الناذر كفارة يمين، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدلّ على أنه لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، انتهى.

وأما اليمين فيما لا يملك فقال العلامة العيني

(4)

: وفي "التوضيح"

(5)

: إذا حلف الرجل بعتق ما لا يملك إن ملكه في المستقبل، فقال مالك: إن عين أحدًا أو قبيلةً أو جنسًا لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبدًا حر، لم يلزمه عتق، وكذلك في الطلاق إن عين قبيلة أو بلدةً أو صفة ما، لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه

(1)

"شرح الكرماني"(23/ 123).

(2)

"أوجز المسالك"(9/ 570).

(3)

"المغني"(13/ 624).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 724).

(5)

(30/ 329).

ص: 468

الطلاق والعتق سواء عمّ أو خصّ، وقال الشافعي: لا يلزمه خصّ أو عمّ، انتهى.

قلت: وهذا الخلاف فيما إذا علَّق العتق أو الطلاق على سبب الملك كما هو مصرّح في كلام العيني هذا، وإلا فالتعليق غير معتبر عند أحد، بل هو حينئذٍ كالتنجيز، فكما أن تنجيز العتق فيما لا يملك غير صحيح عند الكل، فكذا هذا التعليق.

وأما الجزء الثالث من الترجمة فقال العيني

(1)

أيضًا: وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكِّدًا ليمينه، وروي عن ابن عباس: أن الغضبان يمينه لغو ولا كفارة فيها، وروي عن مسروق والشعبي وجماعة: أن الغضبان لا يلزمه شيء، ولا طلاق ولا عتاق لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا طلاق في إغلاق" ثم قال العيني: وهذا الحديث أخرجه أبو داود وقال: أظنه في الغضب، وقال غيره: الإِغلاق الإكراه، لكن هذا حديث ليس بثابت، انتهى من "العيني" بتغيير.

(19 -‌

‌ باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم. . .) إلخ

قوله: (فهو على نيته. . .) إلخ، قال الكرماني

(2)

: يعني إن قصد بالكلام ما هو كلام عرفًا لا يحنث بهذه الأذكار والقراءة والصلاة، وإن قصد الأعم يحنث بها، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: ولم يتعرض لما إذا أطلق، والجمهور على أنه لا يحنث، وعن الحنفية يحنث، وفرّق بعض الشافعية بين القرآن، فلا يحنث به ويحنث بالذكر، وحجة الجمهور أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين وأنه لا يحنث بالقراءة والذكر داخل الصلاة فليكن كذلك خارجها، وقال ابن المنيِّر: معنى قول البخاري: "هو على نيته" أي: العرفية، قال:

(1)

"عمدة القاري"(15/ 725).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 124).

(3)

"فتح الباري"(11/ 567).

ص: 469

ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يحنث بذلك إلا إن نوى إدخاله في نيته فيؤخذ منه حكم الإطلاق، انتهى.

وفي العيني

(1)

: قال أصحابنا: حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن في صلاته أو سبح لم يحنث، وإن قرأ في غير الصلاة يحنث، خلافًا للشافعي، والقياس أن يحنث فيهما، انتهى.

قلت: والظاهر أن ميل البخاري إلى أن القراءة والتسبيح وغيرهما كلام، أي: عند الإطلاق وعدم النية، ويستأنس ذلك مما أورده في هذا الباب.

(20 -‌

‌ باب من حلف أن لا يدخل على أهله شهرًا. . .) إلخ

أي: ثم دخل فإنه لا يحنث، هذا يتصور إذا وقع الحلف أول جزء من الشهر اتفاقًا فإن وقع في أثناء الشهر ونقص هل يتعين أن يلفق ثلاثين أو يكتفي بتسع وعشرين؟ فالأول قول الجمهور، وقالت طائفة، منهم ابن عبد الحكم من المالكية بالثاني، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(21 -‌

‌ باب إن حلف أن لا يشرب نبيذًا. . .) إلخ

بسط الكلام على شرح هذه الترجمة وبيان الغرض منها من كلام الشرَّاح، ومن تقارير الشيخ الكَنكَوهي في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه لو شئت.

قال الحافظ

(4)

: قال المهلب: الذي عليه الجمهور أن من حلف أن لا يشرب النبيذ بعينه لا يحنث بشرب غيره، ومن حلف لا يشرب نبيذًا لا يخشى من السكر به فإنه يحنث بكل ما يشربه مما يكون فيه المعنى المذكور، فإن سائر الأشربة من الطبيخ والعصير تسمّى نبيذًا لمشابهتهما له

(1)

"عمدة القاري"(15/ 726).

(2)

"فتح الباري"(11/ 568).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 115، 116).

(4)

"فتح الباري"(11/ 569).

ص: 470

في المعنى، فهو كمن حلف لا يشرب شرابًا، وأطلق فإنه يحنث بكل ما يقع عليه اسم شراب.

قال ابن بطال

(1)

: ومراد البخاري ببعض الناس أبو حنيفة ومن تبعه، فإنهم قالوا: إن الطلاء والعصير ليسا بنبيذ؛ لأن النبيذ في الحقيقة ما نبذ في الماء ونقع فيه، فأراد البخاري الردَّ عليهم، إلى آخر ما ذكر الحافظ من كلام ابن بطال. ثم قال: وزعم ابن المنيِّر أن الشارع بمعزل عن مقصود البخاري هنا، قال: وإنما أراد تصويب قول الحنفية، ومن ثم قال: لم يحنث، ولا يضره قوله بعده:"في قول بعض الناس"، فإنه لو أراد خلافه لترجم على أنه يحنث، وكيف يترجم على وفق مذهب ثم يخالفه، انتهى.

قال الحافظ: والذي فهمه ابن بطال أوجه وأقرب إلى مراد البخاري، انتهى.

قلت: ومذهب الحنفية ما في "البدائع"

(2)

كما في هامش "اللامع"

(3)

: لو حلف لا يشرب نبيذًا فأيّ نبيذ شرب حنث لعموم اللفظ، وإن شرب سكرًا لا يحنث لأن السكر لا يسمى نبيذًا؛ لأنه اسم لخمر التمر، وهو الذي من ماء التمر إذا غلا أو اشتد وقذف بالزبد أو لم يقذف على الاختلاف، وكذا لو شرب فضيخًا لأنه لا يسمى نبيذًا، انتهى.

وأفاد الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع": وحاصل استدلال المؤلف أن التفاوت بين الطلاء والسكر وبين النبيذ ليس أكثر من التفاوت بينه وبين النقيع، فلما ورد في الرواية إطلاق لفظ النبيذ على النقيع فأولى أن يتناول لفظه السكر والطلاء، والله أعلم بمراد عباده، انتهى.

(1)

"شرح ابن بطال"(6/ 143).

(2)

"بدائع الصنائع"(3/ 106).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 117).

ص: 471

(22 -‌

‌ باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرًا بخبز. . .) إلخ

أي: هل يكون مؤتدمًا فيحنث أم لا؟ واختلفوا في مراد البخاري هل هو موافق للحنفية أو مخالف لهم؟ مال الحافظ إلى الثاني، والأوجه عندي الأول لذكره حديث أكله صلى الله عليه وسلم:"الخبز بالتمر" ثم حديث عائشة بنفي الائتدام.

قال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر

(2)

وغيره: مقصود البخاري الردّ على من زعم أنه لا يقال: ائتدم إلا إذا أكل بما اصطبغ به، قال: ومناسبته لحديث عائشة أن المعلوم أنها أرادت نفي الإدام مطلقًا بقرينة ما هو معروف من شظف عيشهم، فدخل فيه التمر وغيره.

وقال الكرماني

(3)

: وجه المناسبة أن التمر لما كان موجودًا عندهم، وهو غالب أقواتهم، وكانوا شباعًا منه علم أن أكل الخبز به ليس ائتدامًا، قال: ويحتمل أن يكون ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأدنى ملابسة، وهو لفظ المأدوم لكونه لم يجد شيئًا على شرطه.

قال الحافظ: والأول مباين لمراد البخاري، والثاني هو المراد، لكن بأن ينضم إليه ما ذكره ابن المنيِّر، انتهى من "الفتح".

وتعقب العلامة العيني

(4)

كلام الحافظ، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: الوجه الأول، وما قال الحافظ من أنه مباين لغرض الإمام البخاري ليس بوجيه، فإنه لم يفصح بمراده بل ذكر في الترجمة الشرط بغير جزاء، ولما ذكر في حديث عبد الله بن سلام أكله صلى الله عليه وسلم الخبز بالتمر ونفت عائشة رضي الله تعالى عنها الأكل بالإدام، فالظاهر أنها لم تعد التمر إدامًا لعدم العرف بذلك.

(1)

"فتح الباري"(11/ 571).

(2)

"المتواري"(ص 229).

(3)

"شرح الكرماني"(23/ 127).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 732).

ص: 472

وتلخيص مذهب الحنفية في ذلك ما في "الدر المختار"

(1)

: والإدام ما يصطبغ به الخبز إذا اختلط به كخل وزيت لا اللحم والبيض، وقال محمد: هو ما يؤكل مع الخبز غالبًا، فما يؤكل وحده غالبًا كتمر وزبيب وبطيخ وسائر الفواكه ليس إدامًا إلا في موضع يؤكل تبعًا للخبز غالبًا اعتبارًا للعرف، انتهى.

وبقول محمد قالت الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأحمد كما قال العيني، كذا في هامش "اللامع"

(2)

.

وقال الحافظ

(3)

: ومن حجة الجمهور حديث عائشة في قصة بريدة: "فدعا بالغداء فأتي بخبز وإدام من أدم البيت"، الحديث، وترجم له المصنف في الأطعمة "باب الأدم"، قال ابن القصار: وقال الكوفيون: الإدام اسم للجمع بين الشيئين، فدلّ على أن المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعًا له بأن تتداخل [أجزاؤه] في أجزائه، وهذا لا يحصل إلا بما يصطبغ به، انتهى.

قال العيني

(4)

: فإن قلت: معنى ما يصطبغ به ما يختلط به الخبز، فكيف يختلط الخبز بالملح؟ قلت: يذوب في الفم فيحصل الاختلاط، انتهى.

(23 -‌

‌ باب النية في الأيمان)

قال العيني

(5)

: قال المهلب وغيره: إذا كانت اليمين بين العبد وربه لا خلاف بين العلماء أنه ينوي ويحمل على نيته، وإذا كانت بينه وبين آدمي وادعى في نيته غير الظاهر لم يقبل قوله، وحمل على ظاهر كلامه إذا كانت عليه بينة بإجماع، إلى آخر ما ذكر.

(1)

انظر: "رد المحتار"(5/ 577، 578).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 118).

(3)

"فتح الباري"(11/ 571).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 731).

(5)

"عمدة القاري"(15/ 733).

ص: 473

(24 -‌

‌ باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة)

أي: تصدق بماله أو جعله هدية للمسلمين، وهذا الباب هو أول أبواب النذور، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وتقدم الكلام على معنى النذر في أول الكتاب، وقد اختلف العلماء فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على اثني عشر مذهبًا كما بسط في "الأوجز"

(2)

، فارجع إليه لو شئت، ومذاهب الأئمة الأربعة أنه يجب عليه الثلث عند مالك وأحمد والكل عند الشافعي إن نذر على وجه التبرر كإن شفى الله مريضي، وإن كان النذر لجاجًا وغضبًا مثل أن يقول: إن فعلت كذا فهو بالخيار إن شاء فعل ذلك وإن شاء كفر كفارة يمين، وعند الحنفية يجب التصدق بجميع ماله من جنس الزكاة، أي جنس كان بلغ نصابًا أو لا، ولا يدخل فيه المال غير الزكوي.

(25 -‌

‌ باب إذا حرم طعامًا. . .) إلخ

كأن يقول: طعام كذا حرام عليّ، أو نذرت لله، أو لله عليّ أن لا آكل كذا، أو لا أشرب كذا، وهذا من نذر اللجاج، والراجح عدم الانعقاد إلا إن قرنه بحلف فيلزمه كفارة يمين، انتهى من "القسطلاني"

(3)

، وكذا في "الفتح"

(4)

.

وزاد فيه

(5)

: قال ابن المنذر: اختلف فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا يحل، فقالت طائفة: لا يحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وبهذا قال أهل العراق، وقالت طائفة: لا تلزمه الكفارة إلا إن حلف، وإلى ترجيح هذا القول أشار المصنف بإيراد الحديث لقوله:"وقد حلفت" وهو قول مسروق والشافعي ومالك، لكن استثنى مالك المرأة فقال: تطلق، ولو قال

(1)

"فتح الباري"(11/ 572).

(2)

"أوجز المسالك"(9/ 698 - 705).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 120).

(4)

"فتح الباري"(11/ 574).

(5)

"فتح الباري"(11/ 575).

ص: 474

لأمته من غير أن يحلف فلا تحرم عليه أمَتُه، وقال الشافعي: لا يقع عليه شيء إذا لم يحلف إلا إذا نوى الطلاق فتطلق، أو العتق فتعتق، وعنه يلزمه كفارة يمين، انتهى.

وهكذا قال العيني إذ قال: ولم يذكر جواب "إذا" على عادته، وهو أنه ينعقد يمينه، وعليه كفارة يمين إذا استباحه، لكن إذا حلف، وهو الذي ذهب إليه البخاري، فلذلك أورد حديث الباب لأن فيه: قد حلفت، ثم ذكر المذاهب نحو ما تقدم، وقد تقدم الكلام مبسوطًا على هاتين المسألتين أعني تحريم الرجل امرأته على نفسه، وتحريم الطعام والشراب في "كتاب الطلاق"، فكن منه على ذكر، وحققت هناك أن ميلَ المصنف في المسألة إلى مسلك الإمام مالك.

(26 -‌

‌ باب الوفاء بالنذر)

أي: حكمه وفضله، قاله الحافظ

(1)

. وذكر المصنف فيه كلا النوعين ما يدلّ على المدح بوفاء النذر، وما يدل على المنع عن النذر، وسيأتي توجيه ذلك من كلام الحافظ. وقوله:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يؤخذ منه أن الوفاء به قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة، انتهى من "الفتح".

وقال العلامة العيني

(2)

: أورد هذه الآية إشارةً إلى أن الوفاء بالنذر مما يجلب الثناء على فاعله، ولكن المراد هو نذر الطاعة لا نذر المعصية، وقام الإجماع على وجوب الوفاء إذا كان النذر بالطاعة، واختلف في ابتداء النذر فقيل: إنه مستحب، وقيل: مكروه، وبه جزم النووي، ونصَّ الشافعي على أنه خلاف الأولى، وحمل بعض المتأخرين النهي على نذر اللجاج، واستحب نذر التبرر، انتهى.

ولم يذكر العيني مذهب مالك، وذكره الحافظ

(3)

: إذ قال بعد نقل

(1)

"فتح الباري"(11/ 576).

(2)

"عمدة القاري"(15/ 737).

(3)

"فتح الباري"(11/ 578).

ص: 475

نصّ الشافعي: إن النذر مكروه، وكذا نقل عن المالكية، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم، وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، انتهى.

قال القسطلاني

(1)

: والذي رأيته في "شرح مختصر الشيخ خليل" للشيخ بهرام المالكي: أن النذر المطلق وهو الذي يوجبه الإنسان على نفسه ابتداء شكرًا لله تعالى مندوب، قال ابن رُشد: وهو مذهب مالك، وأما المكرر وهو ما إذا نذر صوم كل خميس أو كل اثنين أو نحو ذلك فهو مكروه، قال في "المدونة": مخافة التفريط في الوفاء به، إلى آخر ما قال.

ثم قال الحافظ

(2)

: قال ابن المنيِّر

(3)

: مناسبة أحاديث الباب للترجمة في قوله: "يستخرج به من البخيل"، وإنما يخرج البخيل ما تعين عليه إذ لو أخرج ما يتبرع لكان جوادًا، قلت: ويحتمل أن يكون البخاري أشار إلى تخصيص النذر المنهي عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإن الثناء الذي تضمنته محمول على نذر القربة كما تقدم أول الباب، فيجمع بين الآية والحديث بتخصيصر كل منهما بصورة من صور النذر، فكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك، انتهى ملتقطًا من "الفتح".

قوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر) في هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(4)

: علل بأن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب، وإلى ذلك أشار بقوله:"إنه لا يرد شيئًا"، والنهي للتنزيه إذ لو كان للتحريم لبطل النذر، وسقط لزوم الوفاء به، ولا ينافي ذلك قول أصحابنا: إن النذر قربة، ولهذا لا تبطل به

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 123).

(2)

"فتح الباري"(11/ 580).

(3)

"المتواري"(ص 230).

(4)

"تحفة الباري"(6/ 295).

ص: 476

الصلاة؛ لأن النهي: محمول على من ظنّ أنه لا يقوم بما التزمه، أو أن للنذر تأثيرًا كما يلوح به الحديث أو على المعلق بشيء، فالقول بأنه قربة محله في غير ذلك، وبذلك علم ضعف إطلاق قول الكرماني: المكروه التزام القربة لا القربة إذ ربما لا يقدر على الوفاء، انتهى.

(27 -‌

‌ باب إثم من لا يفي بالنذر)

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر وسقط لغيره لفظ "إثم"، انتهى.

ومطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة، قال ابن بطال

(2)

: سوّى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذمومًا، انتهى من "الفتح".

(28 -‌

‌ باب النذر في الطاعة. . .) إلخ

أي: حكمه، ويحتمل أن يكون "باب" بالتنوين ويريد بقوله:"النذر في الطاعة" حصر المبتدأ في الخبر فلا يكون نذر المعصية نذرًا شرعًا، انتهى

(3)

.

(29 -‌

‌ باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم)

أي: هل يجب الوفاء عليه؟ والمراد بالجاهلية جاهلية المذكور، وهو حاله قبل إسلامه، قال ابن بطال: قاس البخاري النذر على اليمين وترك الكلام على الاعتكاف، ذكر فيه حديث ابن عمر في نذر عمر الجاهلية أنه يعتكف، والحديث سبق في آخر الاعتكاف، وسبق في غزوة حنين تعيين زمن سؤال عمر، ولفظه: "لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر

(1)

"فتح الباري"(11/ 581).

(2)

"شرح ابن بطال"(6/ 156).

(3)

"فتح الباري"(11/ 581).

ص: 477

كان نذره في الجاهلية اعتكاف ليلة" قال ابن بطال: وبوجوب هذا النذر يقول الشافعي وأبو ثور، كذا قال، والمشهور عند الشافعية أنه وجه لبعضهم، وأن الشافعي وجلّ أصحابه على أنه لا يجب بل يستحب، وكذا قال المالكية والحنفية، وعن أحمد في رواية يجب، وبه جزم الطبري والبخاري وداود.

قال الحافظ: إن وجد عن البخاري التصريح بالوجوب قبل، وإلا فمجرد ترجمته لا تدل على الوجوب، انتهى من "الفتح"

(1)

و"القسطلاني"

(2)

.

قوله: (أوف بنذرك. . .) إلخ، قال القسطلاني

(3)

: تمسّك به من قال بصحة نذر الكافر، ومن منع وهو الصحيح يحمل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاعتكاف إلا تشبيهًا بما نذر، لا عين ما نذر، وتسميته بالنذر من مجاز التشبيه أو من مجاز الحذف، انتهى.

(30 -‌

‌ باب من مات وعليه نذر. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: أي: هل يقضى عنه أو لا؟ والذي ذكره في الباب يقتضي الأول، لكن هل هو على سبيل الوجوب أو الندب؟ خلاف يأتي بيانه، ثم قال فيما يأتي: وعند الظاهرية ومن وافقهم أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، وذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقًا، انتهى ملتقطًا من "الفتح".

وتقدّم ذكر الخلاف في المسألة في آخر "كتاب الحج" من "باب الحج والنذر عن الميت"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(11/ 582).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 127).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 127).

(4)

"فتح الباري"(11/ 584، 585).

(5)

"فتح الباري"(4/ 65).

ص: 478

(31 -‌

‌ باب النذر فيما لا يملك وفي معصية)

تقدم ذكر المذاهب في "باب اليمين فيما لا يملك".

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: لم يذكر في الباب ما يدلّ على الجزء الأول، وكأنه أدخل الجزء الأول في الثاني، فإن نذر المرء فيما لا يملكه هبة أو صدقة أو عتاقة يشبه نذره بمعصية في امتناعه من التمكن من إتيانه، فافهم، انتهى.

وبما وجّهه الشيخ جزم ابن المنيِّر كما في هامش "اللامع"، وفيه: قال الحافظ

(2)

: تقدم التنبيه في "باب من حلف بملة سوى الإسلام" على الموضع الذي أخرج البخاري فيه التصريح بما يطابق الترجمة، وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ:"وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك".

ثم بسط الحافظ عدة روايات في هذا المعنى، وحديث ثابت بن الضحاك الذي [أشار إليه الحافظ تقدم في البخاري في "باب ما ينهى من السباب واللعن" من "كتاب الأدب"، فلا يبعد عندي] أن يقال: إن الإمام البخاري أشار بالترجمة على عادته إلى هذا الحديث، انتهى من هامش "اللامع".

(32 -‌

‌ باب من نذر أن يصوم أيامًا فوافق النحر أو الفطر)

أي: أيامًا معينة فوافق النحر أو الفطر، أي: هل يجوز له الصيام أو البدل أو الكفارة؟ انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعًا ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر أو وقعا معًا أو أحدهما اتفاقًا، فلو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة

(1)

"لامع الدراري"(10/ 120).

(2)

"فتح الباري"(11/ 586).

ص: 479

فقال: لو أقدم فصام وقع ذلك عن نذره، وقد تقدم بسط ذلك في أواخر "الصيام"، انتهى

(1)

.

قلت: تقدم في الصيام "باب صوم يوم الفطر" و"باب صيام أيام التشريق"، وبسط الكلام عليه هناك.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: ومسالك الأئمة في ذلك كما بسط في "الأوجز"

(3)

أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز صوم هذين اليومين، أي: الفطر والأضحى، لا نفلًا ولا قضاءً ولا نذرًا، واختلفوا في صحة النذر بصومهما، فيصحّ النذر عند الحنفية، ويجب القضاء، وهو الأصح من قولي أحمد كما جزم به في "نيل المآرب"، ولا يصح النذر عند الشافعي فلا قضاء عليه، وقال مالك: إن نذرهما بعينهما بأن نذر صوم يوم الأضحى مثلًا فلا يصح النذر، وإن نذر يومًا وافق يوميهما مثل إن نذر صوم قدوم فلان فقدم يوم النحر فهذا النذر يصح عنده، ويجب القضاء، انتهى.

قلت: وعن الإمام أبي حنيفة فيه ثلاث روايات، وظاهر الرواية عنه هو ما ذكر، أعني: صحة النذر مطلقًا.

(33 -‌

‌ باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم. . .) إلخ

يعني: هل يصح اليمين أو النذر على الأعيان؟ فصورة اليمين نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن هذه الشملة لتشتعل عليه نارًا"، وصورة النذر مثل أن يقول: هذه الأرض لله نذرًا، ونحوه، انتهى من "العيني"

(4)

، وكذا في "الفتح"

(5)

، وعزاه إلى الكرماني

(6)

، ثم قال: والذي فهمه ابن بطال أولى، فإنه أشار إلى أن مراد البخاري الردّ على من قال: إذا حلف أو نذر

(1)

"فتح الباري"(11/ 591).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 121).

(3)

"أوجز المسالك"(5/ 198، 199).

(4)

"عمدة القاري"(15/ 748).

(5)

"فتح الباري"(11/ 593).

(6)

"شرح الكرماني"(23/ 137).

ص: 480

أن يتصدق بماله كله اختص ذلك بما فيه الزكاة دون ما يملكه مما سوى ذلك، ونقل محمد بن نصر المروزي في "كتاب الاختلاف" عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن نذر أن يتصدق بماله كله: يتصدق بما تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة والمواشي، لا فيما ملكه مما لا زكاة فيه من الأرضين والدور ومتاع البيت والرقيق والحمير ونحو ذلك، فلا يجب عليه فيها شيء، ثم نقل بقية المذاهب على نحو ما قدمته في "باب من أهدى ماله"، فعلى هذا فمراد البخاري موافقة الجمهور، وأن المال يطلق على كل ما يتمول، انتهى.

وكذا قدمنا بقية المذاهب في الباب الذي أشار إليه الحافظ.

ثم إن الحافظ رحمه الله جعل "كتاب الكفارات" كتابًا مستقلًا؛ ولذا ذكر براعة الاختتام هنا في آخر "كتاب الأيمان" إذ قال: والبراعة في قوله: "فجاءه سهم عائر فقتله"، انتهى

(1)

.

وهو كذلك عندي، وسيأتي بيان اختلاف النسخ.

* * *

(1)

انظر: "فتح الباري"(13/ 544).

ص: 481

84 -

‌ كتاب كفارات الأيمان

(1 -‌

‌ باب كفارات الأيمان)

كذا في نسخة "الفتح" و"العيني" بلفظ "كتاب"، وأما في النسخ الهندية ففيها بلفظ باب.

قال العلامة العيني

(1)

: هكذا في رواية أبي ذر عن المستملي، وفي رواية غيره "باب"، والكفارات جمع كفارة على وزن فعالة بالتشديد من الكفر، وهو التغطية، ومنه قيل للزارع: كافر؛ لأنه يغطي البذر، وكذلك الكفارة؛ لأنها تكفر الذنب، أي: تستره، ومنه تكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به، وفي الاصطلاح: الكفارة ما يكفر به من صدقة ونحوها، انتهى.

وقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. . .} إلخ [المائدة: 89] ذكر الشرَّاح في ضمن هذه الترجمة عدة فروعاتٍ خلافيةً.

قال الحافظ

(2)

: وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور، وهو قول الجمهور خلافًا لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحدًا كفى، وهو مروي عن الحسن، ولمن قال كذلك، لكن قال عشرة أيام متوالية، وهو مروي عن الأوزاعي.

قوله: (وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ، يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب.

قوله: (ويذكر عن ابن عباس) أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في "تفسيره"

(3)

، قال: كل شيء في القرآن أو نحو قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} الآية [البقرة: 196] فهو فيه مخيَّر، وما كان {فَمَنْ لَمْ

(1)

"عمدة القاري"(15/ 751).

(2)

"فتح الباري"(11/ 594).

(3)

"تفسير سفيان الثوري"(ص 61)، (رقم 79/ 36).

ص: 482

يَجِدْ} فهو على الولاء، أي: على الترتيب، وأما أثر عطاء فوصله الطبري

(1)

قال ابن بطال

(2)

: هذا - أي: التخيير - متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في قدر الإطعام، ثم ذكر الاختلاف في ذلك، قلت: وقد تقدم عدة أبواب في فدية المحرم إذا حلق في "كتاب الحج"، وتقدم هناك مبسوطًا اختلاف العلماء في مقدار الطعام، وكذا في التخيير بين هذه الأشياء، فارجع إليه لو شئت، ثم إنهم أجمعوا على أن الحانث مخيَّر في الثلاثة من الإطعام والكسوة والتحرير، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وفيه خلاف لابن عمر حيث جعل "أو" ههنا للتنويع، كما بسط في "الأوجز"

(3)

.

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل آية التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى، وتعقبه ابن المنيِّر فقال: يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة، فأورد حديث كعب لأنه وقع التنصيص فيه على نصف صاع، ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فيحمل المطلق على المقيد، إلى آخر ما في "الفتح".

(2 -‌

‌ باب قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية [التحريم:

2])

هكذا في النسخ الهندية، وكذا في أكثر نسخ الشروح سوى نسخة "الفتح" ففيه:"باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير؟ وقول الله تعالى. . ." إلخ.

قال الحافظ

(6)

: وسقط لبعضهم ذكر الآية، وأشار الكرماني إلى

(1)

"تفسير الطبري"(4/ 76)، (رقم 3383).

(2)

"شرح ابن بطال"(6/ 168).

(3)

"أوجز المسالك"(9/ 645).

(4)

"فتح الباري"(11/ 594).

(5)

"شرح ابن بطال"(6/ 168).

(6)

"فتح الباري"(11/ 596).

ص: 483

تصويبه فقال: قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي: تحليلها بالكفارة، والمناسب أن يذكر هذه الآية في الباب الذي قبله.

ثم قال الحافظ: قال ابن المنيِّر

(1)

: مقصوده أن ينبِّه على أن الكفارة إنما تجب بالحنث كما أن كفارة المواقع إنما تجب باقتحام الذنب، وأشار إلى أن الفقير لا يسقط عنه إيجاب الكفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم فقره وأعطاه مع ذلك ما يكفِّر به، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

قوله: "ومتى تجب الكفارة" أي: حيث وجد، ودلالة الرواية عليه ظاهرة، انتهى.

قلت: وعلى هذا الغرض من الترجمة عندي أنه هل يجب أداء الكفارة على الفور أم على التراخي، وهذا أوجه عندي مما نقله الحافظ عن ابن المنيِّر من أن الكفارة إنما تجب بالحنث لا قبل الحنث، لكن لم أجد المسألة التي ذكرها الشيخ نصًّا في الكفارة، نعم الاختلاف في قضاء رمضان هل هو على الفور أو التراخي مشهور، ويستنبط منه الاختلاف في الكفارة أيضًا كما ذكر في هامش "اللامع"

(3)

فارجع إليه لو شئت.

(3 -‌

‌ باب من أعان المعسر في الكفارة)

قال الحافظ

(4)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل، وهو ظاهر فيما ترجم له، فكما جاز إعانة المعسر بالكفارة عن وقاعه في رمضان، كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيه، انتهى.

(4 -‌

‌ باب يعطى في الكفارة عشرة مساكين. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: أما العدد فبنصِّ القرآن في كفارة اليمين، وقد ذكرت

(1)

"المتواري"(ص 232).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 122).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 122، 123).

(4)

"فتح الباري"(11/ 596).

(5)

"فتح الباري"(11/ 597).

ص: 484

الخلاف فيه قريبًا، وأما التسوية بين القريب والبعيد فقال ابن المنيِّر

(1)

: ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبله، وليس فيه إلا قوله:"أطعمه أهلك"، لكن إذا جاز إعطاء الأقرباء، فالبعداء أجوز، وقاس كفارة اليمين على كفارة الجماع في الصيام في إجازة الصرف إلى الأقرباء، قلت: وهو على رأي من حمل قوله: "أطعمه أهلك" على أنه في الكفارة، وأما من حمله على أنه أعطاه التمر المذكور في الحديث لينفقه عليهم، وتستمر الكفارة في ذمته إلى أن يحصل له يسرة فلا يتجه الإلحاق، وكذا على قول من يقول تسقط عن المعسر مطلقًا، ومذهب الشافعي جواز إعطاء الأقرباء إلا من تلزمه نفقته، انتهى.

قلت: وأورد في الحاشية

(2)

أنه لا وجه لذكر العشرة في الترجمة؛ لأن العشرة في كفارة اليمين، وحديث الباب في كفارة الوقاع فلا مطابقة بينهما إلى آخر ما ذكر في الحاشية من الجواب، قلت: إنما ذكر العشرة في الترجمة؛ لأن الترجمة من كتاب الأيمان وكفارة اليمين كذلك على أن مقصد الاستدلال تعميم القريب والبعيد لا العدد الوارد في الحديث، فإن عدد الستين إنما هو في كفارة الصيام، وقد تقدّم في "كتاب الصوم""باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج"، وتقدم هناك في مراد قوله صلى الله عليه وسلم:"أطعمه أهلك" واختلاف العلماء في صرف الكفارة إلى العيال، فارجع إليه لو شئت.

(5 -‌

‌ باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته)

قال الحافظ

(3)

: أشار في الترجمة إلى وجوب الإخراج في الواجبات بصاع أهل المدينة؛ لأن التشريع وقع على ذلك أولًا، وأكَّد ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة في ذلك.

(1)

"المتواري"(ص 232، 233).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(13/ 163).

(3)

"فتح الباري"(11/ 598).

ص: 485

قوله: (وما توارث أهل المدينة. . .) إلخ، أشار بذلك إلى أن مقدار المد والصاع في المدينة لم يتغير لتواتره عندهم إلى زمنه، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: وحاصل الترجمة أن العبرة لمكيال المدينة؛ لأنه كان هو الشائع حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء ما يؤدى من المكيلات، فيكون هو المراد لا غير، ثم ذكر الشيخ في "اللامع" توضيح قول السائب:"كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدًّا. . ." إلخ، وفي هامش "اللامع" عن"المشكاة" برواية أبي داود

(2)

عن ابن عمر مرفوعًا: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة"، انتهى.

قلت: وترجم على هذا الحديث الإمام أبو داود "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم المكيال مكيال المدينة".

وبسط الشيخ قُدِّس سرُّه في "البذل"

(3)

في معنى الحديث، وقال القاري في "شرحه"

(4)

: لأن أهل المدينة أصحاب زراعات فهم أعلم بأحوال المكاييل، وأهل مكة أهل تجارات فعهدهم بالموازين وعلمهم بالأوزان أكثر، انتهى.

قلت: واختلفوا في مقدار المد، فالمد رطل وثلث عند مالك والشافعي وأحمد، وهو قول أبي يوسف المرجوع إليه على المشهور، وقيل: لا يصح الرجوع، ورطلان عند أبي حنيفة ومحمد، والبسط في "الأوجز"

(5)

، وفيه أيضًا: مذهب الشافعي وأحمد اختيار المد الأصغر رطل وثلث، ومذهب الحنفية اختيار المد الأكبر رطلان، وفرّق مالك فقال في الظهار بالمد الأكبر، وفي غيره بالمد الأصغر كما في "الأوجز"، ففي "الموطأ"

(6)

: قال

(1)

"لامع الدراري"(10/ 124، 125).

(2)

"مشكاة المصابيح"(رقم 2889)، "سنن أبي داود"(رقم 3340).

(3)

"بذل المجهود"(11/ 25)، (رقم 3340).

(4)

"مرقاة المفاتيح"(6/ 108).

(5)

"أوجز المسالك"(6/ 294).

(6)

"موطأ مالك" باب مكيلة زكاة الفطر، كتاب الزكاة.

ص: 486

مالك: والكفارات كلها وزكاة الفطر وزكاة العشور كل ذلك بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الظهار فإن الكفارة فيه بالمد الأعظم مد هشام، انتهى.

وذكر في "الأوجز"

(1)

في "باب زكاة الفطر" الاختلاف في مقدار مد هشام.

(6 -‌

‌ باب قول الله: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:

92])

يشير إلى أن الرقبة في آية كفارة اليمين مطلقة بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان، قال ابن بطال

(2)

: حمل الجمهور ومنهم الأئمة الثلاث المطلق على المقيد، وخالفهم الكوفيون فقالوا: يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر، واحتج له في كتابه "الكبير" بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومن ثم اشترط التتابع في صيام القتل دون اليمين.

قوله: (وأي الرقاب أزكى؟) كأنه رمز بذلك إلى موافقة الكوفيين؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك في أصل الحكم، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(7 -‌

‌ باب عتق المدبر وأم الولد والمكاتب. . .) إلخ

ذكر فيه حديث جابر في عتق المدبر، وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب العتق"، وبيان الاختلاف فيه، والاحتجاج لمن قال بصحة بيعه، وقضية ذلك صحة عتقه في الكفارة، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(4)

.

قلت: وقد تقدم الاختلاف وبيان المذاهب في بيع المدبر وأم الولد والمكاتب في "كتاب العتق".

وقال القسطلاني

(5)

تحت حديث الباب: ووجه المطابقة قال الكرماني: لأنه إذ جاز بيع المدبر جاز إعتاقه، وقاس الباقي عليه، انتهى.

وقال العلامة العيني

(6)

: وأما عتق ولد الزنا في الرقاب الواجبة فيجوز عند الجمهور، منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال عطاء

(1)

"أوجز المسالك"(6/ 300، 301).

(2)

"شرح ابن بطال"(6/ 175).

(3)

"فتح الباري"(11/ 599).

(4)

"فتح الباري"(11/ 600).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 148).

(6)

"عمدة القاري"(15/ 759).

ص: 487

والشعبي والنخعي والأوزاعي: لا يجوز عتقه، فإن قلت: روي عن أبي هريرة مرفوعًا: "أنه شر الثلاثة"، قلت: روي عن ابن عباس وعائشة إنكار ذلك، انتهى مختصرًا.

قلت: وهذا الحديث الذي أشار إليه العلامة العيني أخرجه الإمام أبو داود

(1)

بلفظ: "ولد الزنا شر الثلاثة"، وقد تكلموا عليه كما أشار إليه العيني، وقد تعرّض الحافظ لإدخال المصنف عتق ولد الزنا في هذا الباب، وعن وجه مناسبته، وذكر بعض آثار الصحابة مما يدلّ على منع عتقه.

(8 -‌

‌ باب إذا أعتق عبدًا بينه وبين آخر أو أعتق في الكفارة لمن ولاؤه)

هكذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح هما بابان مستقلان هكذا:"باب إذا أعتق. . ." إلخ، لكن لم يذكر فيه حديث، ثم ترجم "باب إذا أعتق في الكفارة. . ." إلخ.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "باب إذا أعتق عبدًا بينه وبين آخر" ثبتت هذه الترجمة للمستملي وحده بغير حديث، فكأن المصنف أراد أن يثبت فيها حديث الباب الذي وحده من وجه آخر فلم يتفق، أو تردّد في الترجمتين فاقتصر الأكثر على الترجمة التي تلي هذه، وكتب المستملي الترجمتين احتياطًا، والحديث في الباب الذي يليه صالح لهما بضرب من التأويل، وجمع أبو نعيم الترجمتين في باب واحد.

ثم قال الحافظ: ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة مختصرًا، وفي آخره:"فإنما الولاء لمن أعتق"، وقضيته أن كل من أعتق فصحّ عتقه كان الولاء له، فيدخل في ذلك ما لو أعتق العبد المشترك فإنه إن كان موسرًا صحّ وضمن لشريكه حصته، ولا فرق بين أن يعتقه مجانًا أو عن الكفارة،

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 3963).

(2)

"فتح الباري"(11/ 601).

ص: 488

وهذا قول الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، وعن أبي حنيفة: لا يجزئه عتق العبد المشترك عن الكفارة؛ لأنه يكون أعتق بعض عبد لا جميعه؛ لأن الشريك عنده يخيَّر أن يقوم عليه نصيبه وبين أن يعتقه هو وبين أن يستسعى العبد في نصيب الشريك، انتهى.

قلت: ومبنى الخلاف هو ما قد تقدّم مبسوطًا في "كتاب العتق" هو اختلافهم في تجزي الإعتاق وعدمه، فإن الإعتاق متجز عند أبي حنيفة مطلقًا في حالتي اليسر والعسر، وغير متجز مطلقًا عند صاحبيه، وعند الأئمة الثلاثة متجز في حالة العسر دون اليسر كما تقدم.

(9 -‌

‌ باب الاستثناء في الأيمان)

أي: هذا باب في بيان أحكام الاستثناء في الأيمان، والاستثناء في الاصطلاح: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بإلا وأخواتها، وتطلق أيضًا على التعاليق، ومنها التعليق على المشيئة، وهو المراد في هذه الترجمة، فإذا قال: لأفعلنّ كذا، أو لا أفعل كذا إن شاء الله تعالى فقد استثنى، واتفق العلماء على أن شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ المستثنى به، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ، وذكر عياض فيه عن بعضهم خلاف مالك، لكن نقل في "التهذيب" أن مالكًا نصّ على اشتراط التلفظ، انتهى ملخصًا من "الفتح"

(1)

.

وفيه

(2)

بعد ذكر الحديث: قال أبو موسى المديني في كتابه "الثمين في استثناء اليمين": لم يقع قوله: "إن شاء الله" في أكثر الطرق لحديث أبي موسى، وسقط لفظ "والله" من نسخة ابن المنيِّر، فاعترض بأنه ليس في حديث الباب يمين، وليس كما ظن بل هي ثابتة في الأصول، وإنما أراد البخاري بإيراده بيان صيغة الاستثناء بالمشيئة، وأشار أبو موسى المديني في

(1)

"فتح الباري"(11/ 602).

(2)

"فتح الباري"(11/ 604، 605).

ص: 489

الكتاب المذكور إلى أنه صلى الله عليه وسلم قالها للتبرك لا للاستثناء، وهو خلاف الظاهر.

وقال الحافظ

(1)

تحت الحديث الثاني من حديثي الباب: قد جزم جماعة أن سليمان عليه السلام كان قد حلف كما سأبينه، والحق أن مراد البخاري من إيراد قصة سليمان في هذا الباب أن يبين أن الاستثناء في اليمين يقع بصيغة "إن شاء الله"، فذكر حديث أبي موسى المصرح بذكرها مع اليمين، ثم ذكر قصة سليمان لمجيء قوله صلى الله عليه وسلم فيها تارة بلفظ:"لو قال: إن شاء الله"، وتارة بلفظ:"لو استثنى" فأطلق على لفظ إن شاء الله أنه استثناء، فلا يعترض عليه بأنه ليس في قصة سليمان يمين، انتهى.

(10 -‌

‌ باب الكفارة قبل الحنث وبعده)

قال العلامة السندي

(2)

في مطابقة الحديث بالترجمة: وفيه ذكر قوله: "إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" كأنّه أخذ من الواو الإطلاق؛ لأنه لمطلق الجمع، فالأصل الجواز كيف ما كان مقدمًا على الحنث أو مؤخرًا، ومن يدعي أحدهما فعليه البيان، والله تعالى أعلم، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(3)

: اعلم أن للكفارة ثلاث حالات: إحداها: قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا، ثانيتها: بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقًا، ثالثتها: بعد الحلف وقبل الحنث فاختلف فيها، فقال مالك وسائر فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة: تجزئ قبله، لكن استثنى الشافعي الصيام، فقال: لا يجزئ إلا بعد الحنث؛ لأن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزكاة، والخلاف كما قال القاضي عياض مبني على أن الكفارة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها

(1)

"فتح الباري"(11/ 606).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 162).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 156).

ص: 490

رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين، فلذلك تجزئ قبل وبعد، نعم استحب مالك والشافعي تأخيرها، انتهى.

وفيه

(1)

أيضًا: واختلف هل كفَّر صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكورة كما اختلف هل كفَّر في قصة حلفه على شرب العسل أو على غشيان مارية، ثم ذكر فيه أقوال العلماء.

وأما براعة الاختتام فما تقدم في مقدمة "اللامع"

(2)

من كلام الحافظ أنها في قوله: "إذا سهم عائر فقتله" وفي آخر الكفارة: "وكفِّر عن يمينك"، انتهى.

قلت: وهذا مبني على نسخة الحافظ، وأما على النسخ الهندية فالكفارات فيها مندرج في "كتاب الأيمان"، وفي آخرها: قوله: "كفِّر عن يمينك" كما تقدم في كلام الحافظ، ولا يبعد عندي أنها في قوله:"فأت الذي هو خير" فإنه استعداد للموت أو في قوله: "ابن حرب".

* * *

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 155).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 491

85 -

‌ كتاب الفرائض

قال الحافظ

(1)

: الفرائض جمع فريضة؛ كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض، وهو القطع، يقال: فرضت لفلان كذا، أي: قطعت له شيئًا من المال، قاله الخطابي

(2)

. وقال الراغب

(3)

: قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى:{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] أي: مقدرًا أو معلومًا أو مقطوعًا عن غيرهم، انتهى.

وفي "الأوجز"

(4)

: الفرض لغة التقدير، وشرعًا نصيب مقدّر للوارث، وهي ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

وقال الدردير

(5)

: ويسمى بعلم الفرائض وعلم المواريث، وهو علم يعرف به من يرث ومن لا يرث، ومقدار ما لكل وارث، وموضوعه التركات، وغايته إيصال كل ذي حق حقه من التركة، انتهى.

وقال القسطلاني

(6)

: قيل: إن هذا العلم ينقسم إلى ثلاثة علوم: علم الفتوى، وعلم النسب، وعلم الحساب، انتهى.

(1 -‌

‌ باب قول الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآيتين [النساء:

11])

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح بغير لفظ "باب".

وأما الغرض من الترجمة فما في هامش "اللامع"

(7)

من أنه أشار

(1)

"فتح الباري"(12/ 3).

(2)

"غريب الحديث"(2/ 45، 46).

(3)

"المفردات"(ص 630).

(4)

"أوجز المسالك"(14/ 402).

(5)

"الشرح الكبير"(4/ 426).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 159).

(7)

"لامع الدراري"(10/ 130).

ص: 492

بذلك إلى مبدأ هذا الحكم كما يدل عليه حديث جابر الوارد في الباب من قوله: "فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث"؛ ولذا قدمه على "‌

‌باب تعليم الفرائض

"، فهذا الباب عندي من الأصل التاسع والخمسين من أصول التراجم، وقد تقدم البحث في المراد بآية الميراث الواقع في حديث جابر في "كتاب التفسير" فارجع إليه لو شئت، وفي هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(1)

: نزول آية المواريث في جابر لا ينافي ما روي أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لاحتمال أن بعضها نزل في هذا أو بعضها نزل في ذلك، أو أنها نزلت فيهما معًا في وقت واحد، انتهى.

(2 - باب تعليم الفرائض)

أي: بيان الحثّ على تعليمها لما سيأتي من حديث الترمذي وغيره.

قوله: (وقال عقبة بن عامر. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: هذا الأثر لم أظفر به موصولًا، قال ابن المنيِّر

(3)

: وإنما خصّ البخاري قول عقبة بالفرائض لأنه أدخل فيه من غيرها؛ لأن الفرائض الغالب عليها التعبد وانحسام وجوه الرأي، بخلاف غيرها من أبواب العلم، فإن للرأي فيها مجالًا والانضباط فيها ممكن غالبًا.

قال الحافظ: وقد ورد في الحثِّ على تعلم الفرائض حديث ليس على شرطه أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصحّحه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإِني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما"، إلى آخر ما في "الفتح" من الكلام على الحديث.

قلت: ولعل المصنف أشار إلى هذا الحديث.

(1)

"تحفة الباري"(6/ 308).

(2)

"فتح الباري"(12/ 4، 5).

(3)

"المتواري"(ص 342).

ص: 493

(3 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث. . .) إلخ

الراء من قوله: "لا نورث" بالفتح في الرواية، ولو روي بالكسر لصحّ المعنى أيضًا، وقوله:"صدقة" بالرفع، أي: المتروك عنا صدقة، وادعى الشيعة أنه بالنصب على أن "ما" نافية، ورد عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزل فيجوز النصب على تقدير حذفٍ تقديره: ما تركنا مبذول صدقة، قاله ابن مالك

(1)

.

وينبغي الإضراب عنه والوقوف مع ما ثبتت به الرواية، انتهى من "الفتح"

(2)

، والحديث قد سبق في الخمس.

وقال الحافظ

(3)

: تقدّم الكلام على المراد بقوله: "عاملي" في أوائل فرض الخمس، وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في "الخصائص" لابن دحية حكاية قول رابع أن المراد خادمه، وعبّر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل، وزاد أيضًا: وقيل: الأجير، ويتحصل من المجموع خمسة أقوال: الخليفة، والصانع، والنظار، والخادم، وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا "باب نفقة قيم الوقف"، وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر، انتهى.

وبسط الكلام على شرح الحديث ومباحثه في الجزء السادس من "الأوجز"

(4)

، وفي هامش المصرية: استشكل طلبهما الأرض بعد أخذهما لها على الشرط المذكور، وأجيب بأنهما اعتقدا أن قوله:"لا نورث" مخصوص ببعض ما يخلفه، وأما مخاصمتهما فلم تكن في الميراث بل طلبا أن يقسما بينهما ليستقل كل منهما بالتصرف فيما يصير إليه، فمنعهما عمر؛ لأن القسم إنما يقع في الأملاك، وربما يطول الزمان فيظن أنه ملكهما، قاله الكرماني

(5)

، انتهى.

(1)

"شواهد التوضيح"(ص 211).

(2)

"فتح الباري"(12/ 7).

(3)

"فتح الباري"(12/ 7، 8).

(4)

"أوجز المسالك"(17/ 534 - 550).

(5)

"شرح الكرماني"(23/ 158).

ص: 494

وتقدم شيء من الكلام عليه في هامش "اللامع"

(1)

في "كتاب المغازي"، وأجاد الكلام على مباحث الحديث شيخنا ومرشدنا في "بذل المجهود"

(2)

، وفيه: قال الإمام أبو داود وبعد تخريج هذا الحديث: أراد عمر رضي الله عنه أن لا يوقع عليه اسم قسم، انتهى.

(4 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا فلأهله

")

قال الحافظ

(3)

في شرح الحديث: قوله: "فعلينا قضاؤه" وهل هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ الراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء إنما هو من مال المصالح، ونقل ابن بطال

(4)

وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على من بعده، وعلى الأول قال ابن بطال

(5)

: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة؛ لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلًا، انتهى.

قوله: (من ترك مالًا فلورثته) وهذا بالإجماع، قاله القسطلاني

(6)

.

(5 -‌

‌ باب ميراث الولد من أبيه وأمه)

قال القسطلاني

(7)

: قوله: "الولد" ذكرًا كان أو انثى ولدًا أو ولد ولد وإن سفل، انتهى.

قال الحافظ

(8)

: لفظ "الولد" أعمّ من الذكر والأنثى، ويطلق على الولد للصلب وعلى ولد الولد وإن سفل، قال ابن عبد البر: أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول

(1)

"لامع الدراري"(8/ 283، 284).

(2)

"بذل المجهود"(10/ 140 - 148).

(3)

"فتح الباري"(12/ 10).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 346).

(5)

"شرح ابن بطال"(6/ 428).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 170).

(7)

"إرشاد الساري"(14/ 170).

(8)

"فتح الباري"(12/ 11).

ص: 495

زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه، انتهى من "الفتح".

قوله: (لأوْلى رجل ذكر) قال صاحب "الفيض"

(1)

: اعلم أن العصبة إما بنفسه، أو بالغير، أو مع الغير، فالأول: هو أقرب رجل ذكر إلى الميت، وأما الثاني: فهو الإناث، والغير يكون عصبةً بنفسه، وأما الثالث: فهو والغير كلاهما إناث فيه، فالاستحقاق فيه إنما يأتي من قبل الاجتماع، وإلا فلا عصبية فيه من جهة نفسه، كما في القسم الأول، ولا من جهة الغير، كما في الثاني، انتهى.

(6 -‌

‌ باب ميراث البنات)

قال الحافظ

(2)

: الأصل فيه كما تقدم في أول "كتاب الفرائض" قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها، وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات إلى آخر ما ذكر.

(7 -‌

‌ باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن. . .) إلخ

أي: للميت لصلبه سواء كان أباه أو عمه، قاله الحافظ

(3)

.

وفي "الفيض"

(4)

: قوله: "باب ميراث ابن الابن. . ." إلخ، فابن العم محروم عند وجود العم، وذلك لأن العبرة فيه للطبقة، فإذا كان الابن الصلبي موجودًا لا يعبأ بالابن بالواسطة، انتهى.

وقال العيني

(5)

: قوله: "وقال زيد. . ." إلخ، وهذا الذي قاله زيد إجماع، ووصل أثره سعيد بن منصور، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 333).

(2)

"فتح الباري"(12/ 15).

(3)

"فتح الباري"(12/ 16).

(4)

"فيض الباري"(6/ 333).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 16).

ص: 496

(8 -‌

‌ باب ميراث ابنة ابن مع ابنة)

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: لا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله، وقال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضًا رجع كأبي موسى، انتهى.

(9 -‌

‌ باب ميراث الجد مع الأب والإخوة)

المراد بالجد هنا من يكون من قبل الأب، والمراد بالإخوة الأشقاء ومن الأب، وقد انعقد الإجماع على أن الجد لا يرث مع وجود الأب، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وفي "الفيض

(4)

تحت ترجمة الباب: والإخوة محرومون عندنا عند وجود الجد، وهو مذهب أبي بكر الصديق، وتجري فيه المقاسمة عند صاحبيه، انتهى.

قال العيني

(5)

: قوله: "الجدّ أبٌ" أي: الجد الصحيح حكمه حكم الأب عند عدمه بالإجماع، والجد الصحيح هو الذي لا يدخل في نسبته إلى الميت أم، فإذا كان أبا فله أحوال ثلاث: الفرض المطلق، والفرض، والتعصيب المحض، فهو كالأب في جميع أحواله إلا في أربع مسائل، ثم ذكرها العيني فارجع إليه لو شئت.

وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(6)

: لم يصرح المصنف في الباب بما يطابق الترجمة، وحكم الجد، أي: من قبل الأب عند فقده كحكمه

(1)

"فتح الباري"(12/ 18).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 351).

(3)

"فتح الباري"(12/ 19).

(4)

"فيض الباري"(6/ 334).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 18).

(6)

"تحفة الباري"(6/ 313).

ص: 497

إذا لم يكن للميت إخوة، ومع الإخوة الأشقاء وللأب أخذ الأكثر من المقاسمة أو ثلث الباقي أو سدس الجميع، وأما الإخوة للأم فلا يرثون معه، انتهى.

(10 -‌

‌ باب ميراث الزوج مع الولد وغيره)

أي: من الوارثين فلا يسقط الزوج بحال، وإنما يحطه الولد عن النصف إلى الربع، قال ابن المنيِّر: استشهاد البخاري بحديث ابن عباس هذا مع أن الدليل من الآية واضح إشارة منه إلى تقرير سبب نزول الآية، وأنها على ظاهرها غير مؤولة ولا منسوخة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(11 -‌

‌ باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره)

أي: من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحال، بل يحط الولد الزوج من النصف إلى الربع، ويحط المرأة من الربع إلى الثمن، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: ولفظ الزوج عطف تفسير للمرأة فلا يتوهم بتكرار الترجمة بذكر ميراث الزوج، فافهم.

(12 -‌

‌ باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة)

المراد بالأخوات الأخوات لغير أم.

قال القسطلاني

(3)

: قوله: "الأخوات" أي: للأبوين أو لأب، انتهى.

قال ابن بطال

(4)

: أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات، فمن لم يخلف إلا بنتًا وأختًا فللبنت النصف وللأخت النصف الباقي على ما في حديث معاذ، إلى آخر ما في "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 23).

(2)

"فتح الباري"(12/ 24).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 183).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 356).

(5)

"فتح الباري"(12/ 24).

ص: 498

وفيه ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول: للبنت النصف وما بقي للعصبة، وليس للأخت شيء، فإذا لم تكن عصبة ردّ الفضل على البنت أو البنات، ولم يوافقه على ذلك أحد إلا أهل الظاهر، انتهى مختصرًا من "الفتح".

(13 -‌

‌ باب ميراث الإخوة والأخوات)

قال الحافظ

(1)

: ذكر فيه حديث جابر المذكور في أول "كتاب الفرائض"، والغرض منه قوله:"إنما لي أخوات" فإنه يقتضي أنه لم يكن له ولد، واستنبط المصنف الإخوة بطريق الأولى، انتهى.

(14 -‌

‌ باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:

176])

قال العلامة العيني

(2)

: وإنما ترجم بهذه الآية لأن فيها التنصيص على ميراث الإخوة، انتهى.

وهكذا في "الفتح"

(3)

، وزاد: وقد اختلف في تفسير الكلالة، والجمهور على أنه من لا ولد له ولا والد، واختلف في بنت وأخت هل ترث الأخت مع البنت؟ وكذا في الجد هل يتنزل منزلة الأب فلا ترث معه الإخوة؟ انتهى.

(15 -‌

‌ باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج. . .) إلخ

صورتها أن رجلًا تزوّج امرأة فأتت منه بابن، ثم تزوّج أخرى فأتت منه بآخر، ثم فارق الثانية فتزوّجها أخوه فأتت منه ببنت فهي أخت الثاني

(1)

"فتح الباري"(12/ 25).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 25).

(3)

"فتح الباري"(12/ 26).

ص: 499

لأمه وابنة عمه، فتزوّجت هذه البنت الابن الأول وهو ابن عمها ثم ماتت عن ابني عمها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: ومثالها أن زيدًا وعمرًا مثلًا كانا أخوين ولزيد بنت تسمى هندًا، ولعمرو ابن يسمى خالدًا، فتزوّجت هند بابن عمها خالد، ثم مات زيد فتزوّجت زوجته أم هند بحموها عمرو فولد ولدًا آخر بكرًا ثم ماتت هند، فتركت ابني عمها أحدهما خالد وهو زوجها، والثاني بكر وهو أخوها لأم، فهذه صورة المسألة، فقال علي رضي الله عنه: النصف للزوج وهو خالد، والسدس لأخ لأم وهو بكر، وهذان النصيبان للفرضية، والثلث الباقي لخالد وبكر للعصوبة لكونهما ابني عمها.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: وافق عليًا زيد بن ثابت والجمهور، وقال عمر وابن مسعود: جميع المال - يعني: الذي يبقى بعد نصيب الزوج - للذي جمع القرابتين، فله السدس بالفرض، والثلث الباقي بالتعصيب، وهو قول الحسن وأبي ثور، انتهى.

(16 -‌

‌ باب ذوي الأرحام)

أي: بيان حكمهم هل يرثون أو لا؟ وهم عشرة أصناف: الخال، والخالة، والجد للأم، وولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخت، وبنت الأخ، وبنت العم، والعمة، والعم للأم، وابن الأخ للأم، ومن أدلى بأحد منهم، فمن ورثهم قال: أولاهم أولاد البنت، ثم أولاد الأخت وبنات الأخ، ثم العم والعمة، والخال والخالة، وإذا استوى اثنان قدّم الأقرب إلى صاحب فرض أو عصبة، انتهى

(4)

.

وقال القسطلاني

(5)

: قوله: "ذوي الأرحام" وهو كل قريب ليس بذي

(1)

"فتح الباري"(12/ 27).

(2)

"فتح الباري"(12/ 27).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 360).

(4)

"فتح الباري"(12/ 29).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 189).

ص: 500

سهم ولا عصبة، واختلف هل يرثون أم لا؟ وبالأول قال الكوفيون وأحمد محتجين بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وذوو الأرحام هم أصناف، فذكر نحو ما تقدم عن الحافظ.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: أراد المصنف بذلك معنى أعم من معناه المتعارف بين أصحاب الفرائض، انتهى.

وفي هامشه: أراد الشيخ بذلك إثبات المطابقة بين الحديث والترجمة إذ ليس في حديث الباب ما يدل على ذوي الأرحام المعروفين عند الفقهاء، وذلك لأن الوارد في حديث الباب قوله:"دون ذوي رحمه" وليس المراد بذلك ذوي الأرحام المعروفين، بل الأقارب مطلقًا سواء كانوا من ذوي الفروض أو العصبة أو ذوي الأرحام، وهو أوجه مما قاله العيني

(2)

، إذ قال: مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: {جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] لأن الموالي الورثة، وكذا فسر ابن عباس في هذا الحديث لأنه ذكره في الكفالة بقوله:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة، الحديث، ولفظ الورثة يطلق على ذوي الأرحام، إلى آخر ما في هامش "اللامع".

قوله: (نسختها {والذي عاقدت أيمانكم}) ذكر العلامة العيني

(3)

وغيره من الشرَّاح اختلافهم في تعيين الناسخ والمنسوخ أيهما هو، تقدم البسط في ذلك في "كتاب الكفالة" في "باب قول الله:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33].

والأوجه عندي: أن قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} بيان للضمير المنصوب في نسختها.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 132).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 28).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 28، 29).

ص: 501

(17 -‌

‌ باب ميراث الملاعنة)

قال الحافظ

(1)

: المراد بيان ما ترثه من ولدها الذي لاعنت عليه، ثم ذكر تفصيل الخلاف في المسألة إذ قال: وقد اختلف السلف في معنى إلحاقه بأمه مع اتفاقهم على أنه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه، فجاء عن علي وابن مسعود أنهما قالا في ابن الملاعنة:"عصبته عصبة أمه يرثهم ويرثونه"، وبه قال النخعي والشعبي، وجاء عن علي وابن مسعود أنهما كانا يجعلان أمه عصبة وحدها فتعطى المال كله، فإن ماتت أمه قبله فماله لعصبتها، وبه قال جماعة منهم أحمد في رواية، وجاء عن علي أن ابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته منها، فإن فضل شيء فهو لبيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار، قال مالك: وعلى هذا أدركت أهل العلم، إلى آخر ما بسط في الدلائل.

وفي "الأوجز"

(2)

بعد ذكر مسلك الجمهور عن صاحب "المحلى": قال أبو حنيفة: للأم فرضها، والباقي يرد عليها، وإن كان معها صاحب فرض آخر يرد الفضل عليهم على قدر سهامهم، ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود:"ميراث ولد الملاعنة كله لأمه"، ومن المرفوع ما رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع:"تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت منه"، انتهى.

قلت: وحاصل المذاهب أنه ينقطع التوارث بينه وبين أبيه إجماعًا، وترث الأم حقها، والباقي لها ولأهل الفروض بالردّ عند أبي حنيفة، وللأم للعصبية في إحدى الروايتين عن أحمد، والأخرى له لبيت المال، وهو قول مالك والشافعي، والبسط في "الأوجز".

(1)

"فتح الباري"(12/ 31).

(2)

"أوجز المسالك"(11/ 252).

ص: 502

(18 -‌

‌ باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة)

أي: سواء كانت المستفرشة حرة أو أمة.

قال العلامة القسطلاني

(1)

: وقد كانت عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنا، وكانوا يستأجرون الإماء بالزنا، فمن اعترفت الأم أنه له ألحق به، ولم يقع إلحاق ابن وليدة زمعة في الجاهلية، انتهى.

قلت: ولعل مناسبة هذه الترجمة بكتاب الفرائض من حيث إنه أراد المصنف بذلك أنه لا فرق في توريث الابن بين كون أمه حرة أو أمة، والله تعالى أعلم.

وبسط الحافظ

(2)

الكلام على شرح الحديث وتحقيق لفظ الفراش والمراد منه، وقال أيضًا

(3)

: قال ابن عبد البر: هو من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة إلى آخر ما ذكره الحافظ عمن روى هذا الحديث من الصحابة وفي ذكر من أخرجه.

(19 -‌

‌ باب الولاء لمن أعتق وميراث اللقيط)

وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(4)

: بالرفع معطوف على ما قبله، واللقيط صغير أو مجنون منبوذ لا كافل له، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: هذه الترجمة معقودة لميراث اللقيط، فأشار إلى ترجيح قول الجمهور إن اللقيط حر، وولاؤه في بيت المال، وإلى ما جاء عن النخعي أن ولاءه للذي التقط، واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه:"اذهب فهو حر، وعلينا نفقته، ولك ولاؤه"، وتقدم هذا الأثر معلقًا بتمامه في أوائل الشهادات، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 192).

(2)

"فتح الباري"(12/ 32 - 39).

(3)

"فتح الباري"(12/ 39).

(4)

"تحفة الباري"(6/ 317).

(5)

"فتح الباري"(12/ 39).

ص: 503

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: ولعل الوجه في إيراد اللقيط فيه أنه ليس معتقًا لأحد وهو ظاهر، فلا يكون لأحد عليه ولاء العتاقة، ولا هو ممن له ذو قرابة فيحوزوا تركته، فلم يبق إلا بيت المال، انتهى.

قلت: ويستفاد من كلام الشيخ قُدِّس سرُّه أن المقصود بهذه الترجمة هو بيان الولاء للمعتق، كما هي مسألة إجماعية، ولما كان يتوهم في بادئ الرأي أنه ينبغي أن يرث اللاقط اللقيط لكونه بمنزلة المعتق في حق اللقيط، فإنه صار سببًا لحفظ دمه وماله، فأشار المؤلف بذكر اللقيط في الترجمة إلى دفع هذا التوهم، ويؤيده أيضًا أن المصنف لم يذكر في هذا الباب حديثًا مرفوعًا يدلّ على حكم اللقيط في توارثه وعدمه، فلا حاجة حينئذ إلى الاعتذار الذي ذكره الشرَّاح ههنا في عدم إيراد المصنف ما يدلّ على حكم اللقيط، فللّه در الشيخ قُدِّس سرُّه.

قال الكرماني

(2)

: فإن قلت: أين ذكر ميراث اللقيط؟ قلت: هو مما ترجم عليه ولم يتفق له إلحاق الحديث به، انتهى.

وقال العيني: قوله: "ميراث اللقيط" لم يذكر شيئًا فيه، ثم قال بعد نقل كلام الكرماني المذكور: الظاهر أنه اكتفى بأثر عمر رضي الله عنه فإن فيه بيان حكمه، انتهى.

والمسألة خلافية قال العيني

(3)

: قال عمر: اللقيط حر فإذا كان حرًّا يكون ولاؤه في بيت المال، وإليه ذهب مالك والثوري والشافعي وأحمد، وقال شريح: إن ولاءه لملتقطه، وبه قال إسحاق بن راهويه، وقال أبو حنيفة: له أن ينقل بولائه حيث شاء فإن عقل عنه الذي والاه جناية لم يكن له أن ينقل ولاءه عنه ويرثه، انتهى.

وفي "البدائع"

(4)

في أحكام اللقيط: ومنها: أن نفقته من بيت المال؛

(1)

"لامع الدراري"(10/ 133 - 134).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 169).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 34).

(4)

"بدائع الصنائع"(5/ 292).

ص: 504

لأن ولاءه له، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"الخراج بالضمان"، ومنها: أن عقله لبيت المال؛ لأن عاقلته بيت المال فيكون عقله له، ومنها: أن له أن يوالي من شاء إذا بلغ إلا إذا عقل عنه بيت المال، فليس له أن يوالي أحدًا؛ لأن العقد يلزم بالعقل، انتهى مختصرًا كذا في هامش "اللامع"

(1)

.

(20 -‌

‌ باب ميراث السائبة)

بمهملة وموحدة بوزن فاعلة، وهو العبد الذي يقول له سيده: لا ولاء لأحد عليك أو أنت سائبة يريد بذلك عتقه، وأنْ لا ولاء لأحد عليه، وقد يقول له:"أعتقتك سائبة" أو "أنت حر سائبة"، ففي الصيغتين الأوليين يفتقر في عتقه إلى نية، وفي الأخريين يعتق، واختلف في الشرط فالجمهور على كراهيته، وشذّ من قال بإباحته، واختلف في ولائه، وسأبينه في الباب الذي بعده، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقال العلامة العيني

(3)

: واختلف العلماء في ميراث السائبة، فقال الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق: ولاؤه لمعتقه، واحتجوا بحديث الباب، وقالت طائفة: ميراثه للمسلمين، روي ذلك عن عمر وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك وهو مشهور مذهبه، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(4)

: لأحمد في ذلك روايتان: إحداهما: وهو المنصوص عنه: أنه لا ولاء له عليه، وما رجع من ميراثه ردّه في مثله يشتري به رقابًا يعتقهم، والرواية الثانية: عنه أن الولاء للمعتق، انتهى.

وأما مطابقة الحديث بالترجمة فهو ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" حيث قال: دلالة الرواية عليه من حيث إنها مصرحة بكون الولاء لمن أعتق، سواء سيّبه مولاه أو لم يسيب، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 134).

(2)

"فتح الباري"(12/ 41).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 35، 36).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 135).

ص: 505

قلت: وبه جزم الكرماني إذ قال

(1)

: فإن قلت: ما وجه مناسبته بالترجمة؟ قلت: لما كان الولاء للمعتق استوى فيه السائبة وغيرها، انتهى.

(21 -‌

‌ باب إثم من تبرأ من مواليه)

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة لفظ حديث، أخرجه أحمد والطبراني من طريق سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعًا قال:"إن لله عبادًا لا يكلمهم الله تعالى" الحديث، وفيه:"ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم"، انتهى.

قلت: وأما مناسبة الباب بـ "كتاب الفرائض" فلأجل أنه يتفرع عليه حق التوارث.

قال الحافظ

(3)

: وفي الحديث أن انتماء المولى من أسفل إلى غير مولاه من فوق حرام؛ لما فيه من كفر النعمة وتضييع حق الإرث بالولاء والعقل وغير ذلك، انتهى.

(22 -‌

‌ باب إذا أسلم على يديه. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(4)

: واختلف العلماء فيمن أسلم على يديه رجل من المسلمين، فقال الحسن والشعبي: لا ميراث للذي أسلم على يديه، وولاؤه للمسلمين إذا لم يدع وارثًا، وهو قول ابن أبي ليلى والثوري ومالك والشافعي وأحمد، وحجتهم حديث الباب، وروي عن النخعي: أن ولاءه للذي أسلم على يديه، وأنه يرثه ويعقل عنه، وله أن يحول عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه، انتهى مختصرًا.

وبسط العلامة العيني الكلام على استدلال الفريقين فارجع إليه لو شئت.

(1)

"شرح الكرماني"(23/ 171).

(2)

"فتح الباري"(12/ 42).

(3)

"فتح الباري"(12/ 43).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 39).

ص: 506

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: قوله: "باب إذا أسلم. . ." إلخ، أراد بذلك أن ينفي ولاء الموالاة، وأنت تعلم أن الروايات التي سردها إنما نفت نوعًا من الولاية خاصًا، أي: ولاية العتاقة، ولا يلزم أنه لا ولاية سوى ذلك، انتهى.

وبسط الكلام على شرح هذا الباب وتوضيح مسالك الأئمة في هذه المسألة في هامش "اللامع".

(23 -‌

‌ باب ما يرث النساء من الولاء)

وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(2)

: "من" بمعنى الباء، إذ الولاء لا يورث وإنما يورث به، انتهى.

قال ابن بطال

(3)

: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى، وهو مجمع عليه، وأما جر الولاء فقال الأبهري: ليس بين الفقهاء اختلاف أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن، إلا ما جاء عن مسروق أنه قال: لا يختص الذكور بولاء من أعتق آباؤهم، بل الذكور والإناث فيه سواء كالميراث، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(4)

. وهكذا في "القسطلاني"

(5)

ولفظه: وليس بين الفقهاء خلف أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو جره إليهن من أعتق بولادة أو عتق، انتهى.

(24 -‌

‌ باب مولى القوم من أنفسهم)

أي: عتيقهم في النسبة إليهم والميراث منه.

قوله: (وابن الأخت) أي: "منهم" لأنه ينسب إلى بعضهم، وهي أمه فيرثهم توريث ذوي الأرحام على القول به، انتهى من "القسطلاني"

(6)

.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 135، 136).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 320).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 376).

(4)

"فتح الباري"(12/ 48).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 202).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 202).

ص: 507

قال الحافظ

(1)

: واستدل بحديث الباب من قال بأن ذوي الأرحام يرثون كما يرث العصبات، وحمله من لم يقل بذلك على أن المراد بقوله:"من أنفسهم" أي: في المعاونة والانتصار والبر والشفقة ونحو ذلك، لا في الميراث، وكأنّ البخاري رمز إلى الجواب بإيراد هذا الحديث؛ لأنه لو صح الاستدلال بقوله:"منهم" على إرادة الميراث لصحّ الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه، فدلّ على أن المراد بقوله:"منهم" ما قلنا، انتهى ملتقطًا بتغير.

ثم قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة

(2)

: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلًا عن أولاد الأخوات، فأراد بهذا الكلام التحريض على الألفة بين الأقارب، انتهى.

(25 -‌

‌ باب ميراث الأسير)

أي: المأسور في يد عدوِّنا كذا في هامش المصرية.

وقال الحافظ

(3)

: أي: سواء عرف خبره أم جهل، قال ابن بطال

(4)

: ذهب الجمهور إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث أنه يوقف له، وعن سعيد بن المسيب أنه لم يورث الأسير في أيدي العدو، قال: وقول الجماعة أولى؛ لأنه إذا كان مسلمًا دخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا فلورثته"، وإلى هذا أشار البخاري بإيراد حديث أبي هريرة، وأيضًا فهو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يخرج عن ذلك إلا بحجة كما أشار إليه عمر بن عبد العزيز، انتهى من "الفتح".

(1)

"فتح الباري"(12/ 49).

(2)

"بهجة النفوس"(4/ 232).

(3)

"فتح الباري"(12/ 49، 50).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 378).

ص: 508

(26 -‌

‌ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)

هكذا ترجم بلفظ الحديث ثم قال: "وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث"، فأشار إلى أن عمومه يتناول هذه الصورة، فمن قيّد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل، وحجة الجماعة أن الميراث يستحى بالموت، فإذا انتقل عن ملك الموت

(1)

بموته لم ينتظر قسمته؛ لأنه استحق الذي انتقل عنه ولو لم يقسم المال، انتهى من "الفتح"

(2)

.

قلت: ولما كانت هذه المسألة الثانية متفرعة على السابق ذكرها البخاري بعده، وقال القسطلاني

(3)

: قوله: "فلا ميراث له" وذلك لأن الاعتبار بوقت الموت لا بوقت القسمة عند الجمهور، ثم قال تحت حديث الباب: وذهب معاذ بن جبل ومعاوية وسعيد بن المسيب إلى أنه يرث منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، وأجابوا عن حديث "الإسلام يعلو" بأن معناه فضل الإسلام، وليس فيه تعرض للإرث فلا يترك النص الصريح بذلك، انتهى.

وبسط الكلام على المسألتين المذكورتين في الترجمة في هامش "اللامع"

(4)

، وفيه: لا يذهب عليك أن صاحب "مظاهر حق" الشرح الهندي "لمشكاة المصابيح" حكى مذهب الإمام مالك موافقًا لمن قال: يرث المسلم الكافر، ويوهم كلامه أنه أخذه عن النووي، وليس كذلك، فإن النووي لم يذكر فيه خلاف مالك، بل ذكر مذهبه موافقًا لمسلك الجمهور، انتهى.

(27 -‌

‌ باب ميراث العبد النصراني)

قال القسطلاني

(5)

: ومذهب العلماء أن العبد النصراني إذا مات فماله لسيده بالرق؛ لأن ملك العبد غير صحيح فيستحقه السيد لا بطريق الميراث،

(1)

كذا في الأصل، والظاهر بدله:"الميت"، (ز).

(2)

"فتح الباري"(12/ 50).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 204، 205).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 140).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 205).

ص: 509

وأما المكاتب فإن مات قبل أداء كتابته، وكان في ماله وفاء لباقي كتابته أخذ ذلك في كتابته، فما فضل فلبيت المال، وأما إثم من انتفى من ولده ففي حديث أبي هريرة مرفوعًا عند أبي داود والنسائي وصحّحه ابن حبان والحاكم:"أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه"، ولم يذكر المؤلف حديثًا هنا، ولعله أراد أن يلحق فيه ما هو على شرطه فاخترمته المنية قبل، انتهى.

(28 -‌

‌ باب من ادعى أخًا أو ابن أخ)

اعلم أنه اختلفت النسخ في ذكر هذه التراجم الثلاثة هذه والتي قبلها والآتية بعدها، ففي نسخ الشروح الثلاثة "الكرماني" و"العيني" و"القسطلاني" مثل ما في النسخ الهندية، وأما في نسخة "الفتح" فترتيب التراجم فيها هكذا، فذكر أولًا "باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني"، وليس فيه حديث ثم ثنى بـ "باب إثم من انتفى من ولده"، وثلّث بـ "باب من ادّعى إلى غير أبيه".

قال العلامة العيني

(1)

تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة من حيث إن فيه دعوى أخ ودعوى ابن أخ، وهو ظاهر، انتهى.

قال الكرماني

(2)

: فإن قلت: ههنا ثلاث تراجم متوالية "باب ميراث العبد النصراني" ثم ذكر الأخريين، فالحديث لأيِّ ترجمة من التراجم؟

قلت: الحديث ظاهر في "باب من ادعى أخًا" وهذا مما يؤيد ما ذكروا من أن البخاري ترجم الباب، وأراد أن يلحق بها الأحاديث فلم يتفق له، وخَلَّى بين الترجمتين بياضًا والنقلة ضمّوا البعض إلى البعض.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 47).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 176).

ص: 510

(29 -‌

‌ باب من ادعى إلى غير أبيه)

قال العيني

(1)

: أي: هذا باب في بيان إثم من انتسب إلى غير أبيه، وجواب "من" محذوف يظهر من الحديث، انتهى.

(30 -‌

‌ باب إذا ادّعت المرأة ابنًا)

قال ابن بطال

(2)

: أجمعوا على أن الأم لا تستلحق بالزوج ما ينكره، فإن أقامت البينة قبلت حيث تكون في عصمته، فلو لم تكن ذات زوج وقالت لمن لا يعرف له أب: هذا ابني، ولم ينازعها فيه أحد فإنه يعمل بقولها وترثه ويرثها ويرثه إخوته لأمه، ونازعه ابن التِّين فحكى عن ابن القاسم: لا يقبل قولها إذا ادعت اللقيط، وقد استنبط النسائي في "السنن الكبرى" من هذا الحديث أشياء نفيسة، ثم ذكرها الحافظ

(3)

، والحديث سبق في ترجمة سليمان من أحاديث الأنبياء، انتهى.

قوله: (فقضى به للكبرى) في هامش المصرية: أي: لأنه كان في يدها، ولا بينة للصغرى، انتهى.

قوله: (فقضى به للصغرى. . .) إلخ، قال الكرماني

(4)

: فإن قلت: كيف نقض سليمان حكم داود؟ قلت: حكما بالوحي، وحكومة سليمان كانت ناسخة، أو بالاجتهاد، وجاز النقض بدليل أقوى على أن الضمير في "فقضى" يحتمل أن يكون راجعًا إلى داود، فإن قلت: لما اعترف الخصم بأن الحق لصاحبه كيف حكم بخلافه؟ قلت: لعله علم بالقرينة أنه لا يريد حقيقة الإقرار، قال النووي: استدل سليمان بشفقة الصغرى على أنها أمه، ولعل الكبرى أقرّت بعد ذلك به للصغرى، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 47).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 358).

(3)

"فتح الباري"(12/ 56).

(4)

"شرح الكرماني"(23/ 177، 178).

ص: 511

(31 -‌

‌ باب القائف)

قال العيني

(1)

: وهو على وزن فاعل من القيافة، وهي معرفة الآثار، وفي اصطلاح الفقهاء: هو الذي يعرف الشبه ويميّز الأثر، وسمي بذلك لأنه يقفو الأشياء، أي: يتبعها، ويجمع القائف على القافة، قيل: لا وجه لذكره في "كتاب الفرائض"، وأجيب بجواب لا يمشي إلا على مذهب من يعمل بالقافة، وهو الردّ على من لا يعمل بها، ويلزم من قول من يعمل بها التوارث بين الملحق والملحق به، فله تعلق بالفرائض من هذا الوجه، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: وفي الحديث العمل بالقافة لتقريره صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وقال الحنفية: الحكم بها باطل لأنها حدس، وذلك لا يجوز في الشريعة، وليس في حديث الباب حجة في إثبات الحكم بها لأن أسامة كان قد ثبت نسبه قبل ذلك، فلم يحتج الشارع في إثبات ذلك إلى قول أحد، وإنما تعجب من إصابة مجزز، انتهى.

وبراعة الاختتام لم يذكرها الحافظ، وعندي ما كتبه في مقدمة "اللامع"

(3)

وهو أن "كتاب الفرائض" كله مذكر للموت، وأيضًا في آخره قوله:"وهو مسرور" وهو يذكر قوله تعالى: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] وأيضًا قوله: "قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما" فكان هذا هو كفن شهداء أُحد، انتهى.

* * *

(1)

"عمدة القاري"(16/ 49).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 211).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 512

86 -

‌ كتاب الحدود

قال الحافظ

(1)

: أصل الحد ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وسميت عقوبة الزاني ونحوه حدًّا لكونها تمنعه المعاودة أو لكونها مقدرة من الشارع، وللإشارة إلى المنع يسمى البوّاب حدادًا، قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وعلى فعل فيه شيء مقدر، ومنه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

عن"الهداية"

(3)

: الحد لغة: المنع، ومنه الحداد للبواب، وفي الشريعة: هو العقوبة المقدرة حقًّا لله تعالى، حتى لا يسمى القصاص حدًّا لأنه حق العبد، ولا التعزير لعدم التقدير، والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد، والطهارة ليست أصلية فيه بدليل شرعه في حق الكافر، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: والمذكور فيه نصًّا حدّ الزنا والخمر والسرقة، وقد حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب الحد به في سبعة عشر شيئًا، ثم ذكرها الحافظ، فارجع إليه لو شئت.

(1 -‌

‌ باب ما يحذر من الحدود)

كذا في النسخة "الهندية"، وهكذا في نسخة "الفتح" و"العيني"، وفي نسخة "الكرماني" و"القسطلاني":"كتاب الحدود، وما يحذر من الحدود" قال

(1)

"فتح الباري"(12/ 58).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 143).

(3)

"الهداية"(1/ 239).

(4)

"فتح الباري"(12/ 58).

ص: 513

القسطلاني

(1)

: أي: كتاب بيان أحكام الحدود وبيان ما يحذر من الحدود، ثم قال بعد ذكر اختلاف النسخ: ولم يذكر البخاري هنا حديثًا، انتهى.

(2 -‌

‌ باب الزنا وشرب الخمر)

وهكذا في نسخة "الفتح"، وفي نسخ الشروح الباقية الثلاثة من "الكرماني" و"العيني" و"القسطلاني":"باب لا يشرب الخمر".

قال الحافظ

(2)

: "باب الزنا وشرب الخمر" أي: التحذير من تعاطيهما، انتهى.

(3 -‌

‌ باب ما جاء في ضرب شارب الخمر)

اعلم أن ههنا عدة مسائل مما يتعلق بالخمر وغيرها من أنواع الأشربة، تقدم الكلام عليها في "كتاب الأشربة"، ومنها اختلافهم في مقدار حدِّ الخمر، وهو المذكور ههنا في الترجمة، وظاهر لفظ الترجمة أن المصنف على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدًّا معلومًا.

قال الحافظ

(3)

: والذي تحصل لنا من الآراء في حد الخمر ستة أقوال: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدًا معلومًا، بل كان يقتصر في ضرب الشارب بما يليق به، قال ابن المنذر: قال بعض أهل العلم: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمرهم بضربه وتبكيته، فدلّ على أن لا حدّ فيه، بل فيه التنكيل والتبكيت، قال الحافظ: وأظن أن هذا هو رأي البخاري فإنه لم يترجم بالعدد أصلًا، ولا أخرج ههنا في العدد الصريح شيئًا، ثم ذكر الحافظ ما بقي من الأقوال الخمسة في ذلك.

قال النووي في "شرح مسلم"

(4)

: واختلف العلماء في قدر حد الخمر، فقال الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر: حده أربعون، قال الشافعي:

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 212).

(2)

"فتح الباري"(12/ 59).

(3)

"فتح الباري"(12/ 74، 75).

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 233، 234).

ص: 514

وللإمام أن يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات، ونقل القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: حده ثمانون، واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة، وأنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد، وحجة الشافعي وموافقيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين كما صرّح به في الرواية الثانية - عند مسلم -، وأما زيادة عمر فهي تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام إن شاء فعله وإن شاء تركه بحسب المصلحة، فرآه عمر ففعله، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه، وأما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بدّ منه، انتهى مختصرًا.

قلت: وعن أحمد فيه روايتان ففي "الأوجز"

(1)

: قال الموفق

(2)

: عن الإمام أحمد في قدر الحد روايتان، إحداهما: أنه ثمانون، بهذا قال مالك وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة في زمن عمر، والرواية الثانية: أن الحد أربعون، وهو مذهب الشافعي، انتهى مختصرًا.

(تنبيه): أفاد العلامة السندي

(3)

في الباب الآتي تحت قول علي: "وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه" ظاهره أنه لم يعين قدرًا معينًا، بل كان يضرب فيه ما بين أربعين إلى ثمانين، وعلى هذا فحين شاور عمر الصحابة اتفق رأيهم على تقرير أقصى المراتب، فاندفع توهم أنهم زادوا في حد من حدود الله مع عدم جواز الزيادة في الحد، والله تعالى أعلم، انتهى.

(4 -‌

‌ باب من أمر بضرب الحد في البيت)

يعني خلافًا لمن قال: لا يضرب الحد سرًّا، قاله الحافظ

(4)

.

وفي "القسطلاني"

(5)

تحت حديث الباب: وفيه جواز ضرب الحد في

(1)

"أوجز المسالك"(15/ 501).

(2)

"المغني"(12/ 498).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 171).

(4)

"فتح الباري"(12/ 65).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 216).

ص: 515

البيوت سرًّا خلافًا لمن منعه محتجًا بظاهر ما روي عن عمر في قصة ولده عبد الرحمن أبي شحمة لما شرب بمصر فحدّه عمرو بن العاص في البيت أن عمر رضي الله عنه أنكر عليه، وأحضر ولده أبا شحمة وضربه الحد جهرًا، كما رواه ابن سعد، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولًا، والجمهور على الاكتفاء وحملوا صنيع عمر على المبالغة في تأديب ولده لا أن إقامة الحد لا تصح إلا جهرًا، انتهى.

(5 -‌

‌ باب الضرب بالجريد والنعال)

قال الحافظ

(1)

: أشار بذلك إلى أنه لا يشترط الجلد، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، وهو أوجه عند الشافعية، أصحها: يجوز الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب بالأيدي والنعال والثياب، ثانيها: يتعين الجلد، وثالثها: يتعين الضرب، انتهى.

وفي "الأوجز"

(2)

: قال الموفق

(3)

: والضرب بالسوط ولا نعلم بين أهل العلم خلافًا في غير حد الخمر، فأما حد الخمر فقال بعضهم: يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وذكر بعض أصحابنا أن للإمام فعل ذلك إذا رآه، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب فاجلدوه" والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط، إلى آخر ما في "الأوجز".

(6 -‌

‌ باب ما يكره من لعن شارب الخمر. . .) إلخ

يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهي عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول: "لا يشرب الخمر وهو مؤمن"، وأن المراد به نفي كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 66).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 502).

(3)

"المغني"(12/ 508).

(4)

"فتح الباري"(12/ 75، 76).

ص: 516

وقال القسطلاني

(1)

: والكراهة للتنزيه عند قصد محض السبب، وللتحريم عند قصد معناه الأصلي، وهو الإبعاد من رحمة الله، انتهى.

قال صاحب "الفيض"

(2)

: قوله: "وأنه ليس بخارج من الملة. . ." إلخ، انظر إلى جلالة المصنف أنه لم يتكلم بهذا الحرف في "كتاب الإيمان"؛ لأنه ادّعى فيه جزئية الأعمال للإيمان، واختار أن كفرًا دون كفر، وصدع اليوم أن مرتكب الكبيرة ليس خارجًا عن الملة، وغير داخل في حد الكفر، وقد كان هذا التعبير يضرّه في ما ادّعاه في "كتاب الإيمان"، فكيف أغمض عنه ههنا، كأنه ليس هناك صائتٌ يصوتُ، انتهى.

(7 -‌

‌ باب السارق حين يسرق)

قال العلامة العيني

(3)

: أي: هذا باب يذكر فيه السارق حين يسرق ما يكون حاله، وقد بينه في الحديث بقوله:"ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"، انتهى.

(8 -‌

‌ باب لعن السارق إذا لم يسمّ)

أي: إذا لم يعين، إشارة إلى الجمع بين النهي عن [لعن] الشارب المعين وبين حديث الباب، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(9 -‌

‌ باب الحدود كفارة)

ومطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة.

قال القسطلاني

(5)

بعد ذكر الحديث: زاد الترمذي من حديث علي وصحّحه: "فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة"، واستشكل

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 221).

(2)

"فيض الباري"(6/ 344).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 60).

(4)

"فتح الباري"(12/ 81)

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 227).

ص: 517

بحديث أبي هريرة عند البزار وصحّحه الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا؟ " وأجيب بأن حديث الباب أصح إسنادًا، وبأن الحاكم لا يخفى تساهله في التصحيح، وسبق في "كتاب الإيمان" مزيد بحث لذلك، انتهى.

وتقدم شيء من الكلام على المسألة في الجزء الثاني في أوائل "كتاب الإيمان".

وفي هامش "اللامع"

(1)

: يشكل على هذا الباب ما سيأتي قريبًا من "باب توبة السارق"؛ لأن حد السارق داخل في جملة الحدود، وهي كفارة عند الإمام البخاري كما أثبته في هذا الباب، ولم يتعرض له أحد من الشرَّاح، ويمكن التفصي عنه عند هذا العبد الضعيف المفتقر إلى رحمة ربه الكريم أن كفارة الذنوب شيء آخر عند الإمام البخاري، وقبول شهادة المحدود أمر زائد فوق ذلك، فمجرد التكفير يحصل بالحدود، وأما قبول شهادته فيتوقف على التوبة، ويدل على ذلك ما سيأتي في آخر الباب الآتي، قال أبو عبد الله: إذا تاب السارق بعد ما قطع يده قبلت شهادته، وكذلك كل محدود إذا تاب قبلت شهادتهم، انتهى.

(10 -‌

‌ باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو في حق)

أي: محمي معصوم من الإيذاء، أي: لا يضرب ولا يذل إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبًا، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ظهور المسلمين حمى إلا في حدود الله" كذا في "الفتح"

(2)

، ثم ذكر الحافظ عدة روايات في هذا المعنى، وفي جميعها ضعف ومقال.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 146).

(2)

"فتح الباري"(12/ 85).

ص: 518

(11 -‌

‌ باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله)

قال القسطلاني

(1)

: أي: وجوب إقامة الحدود ووجوب الانتقام لحرمات الله، ثم قال بعد ذكر حديث الباب: قال الكرماني

(2)

: فإن قلت: كيف يخيَّر النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين أحدهما إثم؟ وأجاب بأن التخيير إن كان من الكفار فظاهر، وإن كان من الله والمسلمين فمعناه ما لم يؤد إلى إثم كالتخيير في المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها، فإن المجاهدة بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز، ونحوه أجاب به ابن بطال

(3)

، والأقرب كما قال في "الفتح"

(4)

: أن فاعل التخيير الآدمي وهو ظاهر، وأمثلته كثيرة، ولا سيما إذا صدر من كافر، انتهى.

قلت: والأوجه عندي في الغرض من الترجمة أنه أشار بالجزء الثاني إلى أن الحدود من حقوق الله تعالى لكونها الانتقام لحرمات الله فلا حق لأحد في العفو عنها، ولا الصلح عليها بشيء، فلا يجوز لأحد أن يشفع فيه، كما سيأتي التبويب بقوله:"باب كراهة الشفاعة في الحد"، وتقدم في "كتاب الصلح" ترجمة المصنف بقوله:"باب إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود".

(12 -‌

‌ باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع)

فيه ردّ على ما كان عليه أهل الشرك من اليهود وغيره كما في أبي داود، وتأييد لقوله عليه الصلاة والسلام:"أقيلوا عن ذوي الهيأت عثراتهم إلا الحدود".

قال الحافظ

(5)

: الوضيع من الوضع وهو النقص، ووقع هنا بلفظ "الوضيع"، وفي الطريق التي تليه بلفظ "الضعيف"، وهي رواية الأكثر في هذا الحديث، وقد رواه بلفظ "الوضيع" أيضًا النسائي، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 229).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 188).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 405).

(4)

"فتح الباري"(12/ 86).

(5)

"فتح الباري"(12/ 86).

ص: 519

(13 -‌

‌ باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان)

كذا قيّد ما أطلقه على حديث الباب وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحًا، وهو في مرسل حبيب بن أبي ثابت، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: "لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إليّ فليس لها مترك"، وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه:"تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب"، وترجم له أبو داود:"العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(14 -‌

‌ باب قول الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. . .} [المائدة: 38]) إلخ

ذكر المصنف في الباب ثلاثة مسائل الأولى: بقوله: "وفي كم تقطع" أي: مقدار السرقة الموجب للقطع، وهي خلافية شهيرة، ذكر فيه في "الأوجز"

(2)

عن الزرقاني تبعًا للحافظ قريبًا من عشرين مذهبًا، وذكر في "البذل"

(3)

منها أحد عشر مذهبًا، ونذكر ههنا مذاهب الأئمة الأربعة كما في "الأوجز" عن كتب فروعهم، فمذهب الإمام أحمد ما في "الروض المربع"

(4)

: ويشترط أيضًا أن يكون المسروق نصابًا، ونصاب السرقة ثلاثة دراهم خالصةً أو تخلص من مغشوشة، أو ربع دينار، أي: مثقال وإن لم يضرب، أو عرض قيمته كأحدهما، أي: ثلاثة دراهم أو ربع دينار لقوله عليه السلام: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار" رواه أحمد ومسلم، وكان ربع

(1)

"فتح الباري"(12/ 87).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 395)، "شرح الزرقاني"(4/ 156)، "فتح الباري"(12/ 106 - 108).

(3)

"بذل المجهود"(12/ 454، 455).

(4)

"الروض المربع"(ص 495).

ص: 520

الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهمًا، انتهى.

وأما مذهب الشافعي فربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، ومذهب مالك قال الدردير

(1)

: تقطع بسرقة ربع دينار شرعي أو ثلاثة دراهم شرعية خالصة من الغش، أو بسرقة ما يساوي ثلاثة دراهم من العروض وغيرها، والتقويم بالدراهم لا بربع الدينار هو المشهور.

وأما مذهب الحنفية فهو عشرة دراهم معروف، انتهى.

قال العلامة العيني

(2)

: قالت الظاهرية: يقطع في القليل والكثير ولا نصاب له، وعند الحنفية: عشرة دراهم، وعند الشافعي: ربع دينار، وعند مالك قدر ثلاثة دراهم، انتهى.

وأما المسألة الثانية وهي محل القطع، فذكر الحافظ فيه في "الفتح"

(3)

: أربع مسالك للاختلاف في حقيقة اليد، فقيل: أولها من المنكب، وقيل: من المرفق، وقيل: من الكوع، وقيل: من أصول الأصابع، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج، ونقل عن سعيد بن المسيب واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم به من قال به في السرقة، والثالث: قول الجمهور، ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي، واستحسنه أبو ثور، انتهى من هامش "اللامع"

(4)

.

وأما المسألة الثالثة في الترجمة فذكرها بقوله: "وقال قتادة. . ." إلخ، قال العلامة القسطلاني

(5)

: قوله: "ليس إلا ذلك" فلا يقطع بعد ذلك يمينها، والجمهور على أن أول شيء يقطع من السارق اليد اليمنى لقراءة ابن مسعود شاذة {فاقطعوا أيمانهما} فالقول بإجزاء الشمال مطلقًا شاذ، كما هو ظاهر ما نقل هنا عن قتادة، وفي "الموطأ": إن كان عمدًا وجب

(1)

"الشرح الكبير"(4/ 334).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 70).

(3)

"فتح الباري"(12/ 98).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 148).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 234).

ص: 521

القصاص على القاطع، ووجب قطع اليمنى، وإن كان خطأ وجبت الدية، وتجزئ عن السارق، وكذا قال أبو حنيفة، ثم ذكر تفصيلًا في مذهب الشافعية.

وقال العيني

(1)

: وعن مالك [و] أبي حنيفة: إذا غلط القاطع فقطع اليسرى أنه يجزئ عن قطع اليمين، ولا إعادة عليه، وعن الشافعي وأحمد: على القاطع المخطئ الدية، وفي وجوب إعادة القطع قولان عند الشافعي، وروايتان عند أحمد، انتهى.

وذكر صاحب "الهداية"

(2)

اختلاف الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، فارجع إليه لو شئت.

(15 -‌

‌ باب توبة السارق)

أي: هل تكون بمجرد الحد كما يدلّ عليه الحديث الثاني أو يحتاج إلى التوبة أيضًا بعد الحد كما يدلّ عليه الحديث الأول، ويشكل عليه التكرار بما سبق من "باب الحدود كفارة"، وتقدم الجواب هناك، فارجع إليه.

وقال الحافظ

(3)

في شرح ترجمة الباب: أي: هل تفيده التوبة في رفع اسم الفسق عنه حتى تقبل شهادته أو لا؟ وقد تقدّمت هذه المسألة في الشهادات فيما يتعلق بالقاذف والسارق في شهادتهما، انتهى.

ثم البراعة قد تقدمت في مقدمة "اللامع"

(4)

من كلام الحافظ أنها في قوله: "إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له"، وتقدم فيه أيضًا أن "كتاب الحدود" ختمه الحافظ على "كتاب المحاربين"، وليس كذلك عندي كما هو ظاهر من ملاحظة أبواب حد الزنا وغيره في ذلك، فهو عندي يختم على "كتاب الديات"، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 70).

(2)

"الهداية"(1/ 370).

(3)

"فتح الباري"(12/ 108).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 522

(86‌

‌ م - كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة

. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

رحمه الله: كذا هذه الترجمة ثبتت للجميع هنا، وفي كونها في هذا الموضع إشكال، وأظنها مما انقلب على الذين نسخوا كتاب البخاري من المسودة، والذي يظهر لي أن محلها بين "كتاب الديات" وبين "استتابة المرتدين"، وذلك أنها تخللت بين أبواب الحدود، فإن المصنف ترجم "كتاب الحدود" وصدّره بحديث:"لا يزني الزاني وهو مؤمن"، وفيه ذكر السرقة وشرب الخمر، ثم بدأ بما يتعلق بحدِّ الخمر في أبواب ثم بالسرقة كذلك، فالذي يليق أن يثلِّث بأبواب الزنا على وفق ما جاء في الحديث الذي صدّر به، ثم بعد ذلك إما أن يقدم "كتاب المحاربين، وإما أن يؤخره، ولولا أن يؤخره ليعقبه "باب استتابة المرتدين"، فإنه يليق أن يكون من جملة أبوابه، ولم أر من نبَّه على ذلك إلا الكرماني فإنه تعرّض لشيء من ذلك، ووقع في رواية النسفي زيادة قد يرتفع بها الإشكال، وذلك لأنه قال بعد قوله: "من أهل الكفر والردة" فزاد: "ومن يجب عليه الحد في الزنا" فإن كان محفوظًا فكأنه ضمّ حد الزنا إلى المحاربين لإفضائه إلى القتل في بعض صوره بخلاف الشرب والسرقة، وعلى هذا فالأولى أن يبدل لفظ كتاب بباب، وتكون الأبواب كلها داخلة في "كتاب الحدود"، انتهى.

وتعقب عليه العلامة العيني كما في حاشية النسخة "الهندية"

(2)

فارجع إليه.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري رحمه الله أجاد في

(1)

"فتح الباري"(12/ 109).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(13/ 271).

ص: 523

ذكر هذا الكتاب ههنا، وهذا من دقة نظره كما هو دأبه في هذا الكتاب، وتوضيح ذلك أن العلماء من السلف والخلف اختلفوا في مصداق هذه الآية، والجمهور على أنها نزلت في قُطَّاع الطريق، وهم إخوة السرقة، ولذا عقبه بأبواب السرقة، ولكن ميل البخاري إلى أن نزولها في أهل الكفر والردة، فأجاد الإمام في ذكر مختاره باللفظ صريحًا "كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة" وذكره ههنا رعاية لقول الجمهور لكون قطاع الطريق من إخوان السارقين، وذكره بلفظ الكتاب بدل الباب، للفرق بين قطاع الطريق والسارقين، فإنه لو ذكره بلفظ الباب لتوهم دخوله في أبواب السرقة المتقدمة، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

وذكر فيه أيضًا اختلاف العلماء في تعيين من نزلت هذه الآية في حقهم بالبسط فارجع إليه لو شئت، وبسط منه في الجزء السادس من "الأوجز"

(2)

فقد ذكر فيه أن في آية المحاربة ثلاثة مسائل: الأولى: أنه في الكفرة أو في المسلمين؟ الثانية: في تعريف المحارب، الثالثة: أن الأحكام الأربعة في الآية على التخيير أو التنويع.

(16 -‌

‌ باب لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين. . .) إلخ

الحسم بفتح الحاء وسكون السين المهملتين: الكي بالنار لقطع الدم، وقال الداودي: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار.

قلت: وهذا من صور الحسم، وليس محصورًا فيه، قال ابن بطال

(3)

: إنما ترك حسمهم لأنه أراد إهلاكهم، فأما من قطع في سرقة مثلًا فإنه يجب حسمه؛ لأنه لا يؤمن معه التلف غالبًا بنزف الدم، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 151 - 153).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 444 - 450).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 421، 422).

(4)

"فتح الباري"(12/ 111).

ص: 524

(17 -‌

‌ باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا)

قال الحافظ

(1)

: حكى ابن بطال

(2)

عن المهلب: أن الحكمة في ترك سقيهم كفرهم نعمة السقي التي أنعشتهم من المرض الذي كان بهم، قال: وفيه وجه آخر يؤخذ مما أخرجه ابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما بلغه ما صنعوا: "عطش الله من عطش آل محمد الليلة" قال: فكان ترك سقيهم إجابةً لدعوته صلى الله عليه وسلم.

قلت: وهذا لا ينافي أنه عاقبهم بذلك، كما ثبت أنه سملهم لكونهم سملوا أعين الرعاة، وأبعد من قال: إن ترك سقيهم لم يكن بعلم النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وفي هامش أبي داود عن "فتح الودود" للعلامة السندي: قوله: "يستسقون فلا يسقون. . ." إلخ، قيل: ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما فعل الصحابة من عند أنفسهم للإجماع على أن من وجب عليه القتل لا يمنع الماء إن طلب، وقيل: فعل ذلك قصاصًا لأنهم فعلوا بالراعي مثل ذلك، وقيل: بل لشدة جنايتهم كما يشير إليه كلام أبي قتادة، والله تعالى أعلم، انتهى.

(18 -‌

‌ باب سمر النبي صلى الله عليه وسلم أعين المحاربين)

قال الحافظ

(3)

: قوله: "سمر أعينهم" وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين: "وسمل" باللام وهما بمعنى، قال ابن التِّين وغيره: وفيه نظر، قال عياض: سمر العين بالتخفيف: كحلها بالمسمار المحمي، فيطابق السمل، فإنه فسر بأن يدني من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرها، فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسمارًا، قال: وضبطناه بالتشديد في بعض

(1)

"فتح الباري"(12/ 111).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 424، 425).

(3)

"فتح الباري"(12/ 112).

ص: 525

النسخ، والأول أوضح، وفسروا السمل أيضًا بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد ههنا. . . إلخ.

(19 -‌

‌ باب فضل من ترك الفواحش)

جمع فاحشة، وهي كل ما اشتد قبحه من الذنوب فعلًا أو قولًا، وكذا الفحشاء والفحش، ومنه الكلام الفاحش، ويطلق غالبًا على الزنا فاحشة، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]، وزعم الحليمي أن الفاحشة أشدّ من الكبيرة، وفيه نظر، انتهى

(1)

. ذكر المصنف فيه حديثين قال العلامة العيني

(2)

تحت الحديث الأول: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "ورجل دعته امرأة" إلى قوله: "ورجل تصدق"، ولا يخفى فضل هذا عند الله، وقال تحت الحديث الثاني: مطابقته للترجمة من حيث إن من حفظ لسانه وفرجه يكون له فضل من ترك الفواحش، انتهى.

(20 -‌

‌ باب إثم الزناة)

بضم أوله جمع زان كرماة ورام، قاله الحافظ

(3)

.

زاد العلامة العيني

(4)

: وتعلق هذا الباب بالكتاب ارتكاب ما حرم الله، وهو داخل في محاربة الله تعالى ورسوله، انتهى.

وأما مطابقة أحاديث الباب بالترجمة فقال الحافظان ابن حجر والعيني

(5)

تحت الحديث الأول: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "ويظهر الزنا" أي: يشيع ويشتهر بحيث لا يتكاتم به لكثرة من يتعاطاه، انتهى.

وأما مطابقة باقي الأحاديث فظاهرة لا تخفى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 113).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 82، 83).

(3)

"فتح الباري"(12/ 114).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 83).

(5)

"فتح الباري"(12/ 115)، و"عمدة القاري"(16/ 84).

ص: 526

(21 -‌

‌ باب رجم المحصن)

ذكر العيني

(1)

ههنا اختلاف النسخ فقال: ووقع هنا قبل ذكر الباب عند ابن بطال: "كتاب الرجم"، ثم قال:"باب الرجم" ولم يقع ذلك في الروايات المعتمدة، والمحصن بفتح الصاد من الإحصان، وهو المنع في اللغة، وجاء فيه كسر الصاد، فمعنى الفتح أحصن نفسه بالتزوج عن عمل الفاحشة، ومعنى الكسر على القياس وهو ظاهر، والفتح على غير القياس.

قال أصحابنا: شروط الإحصان في الرجم سبعة: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والوطء، والسادس: الوطء بنكاح صحيح، والسابع: كونهما محصنين حالة الدخول بنكاح صحيح، وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد: الإسلام ليس بشرط لأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين، قلنا: كان ذلك بحكم التوراة قبل نزول آية الجلد في أول ما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان منسوخًا بها.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا يكون الإحصان بالنكاح الفاسد ولا الشبهة، وخالفهم فقال: يكون محصنًا، واختلفوا إذا تزوج الحر أمة هل تحصنه؟ فقال الأكثرون: نعم، وعن عطاء والحسن والثوري والكوفيين وأحمد وإسحاق: لا، واختلفوا إذا تزوج كتابية، ثم ذكر العيني الاختلاف فيه.

وبسط الكلام على شروط الإحصان، وذكر مذاهب الأئمة فيه في الجزء السادس من "الأوجز"

(2)

فارجع إليه لو شئت.

قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال

(4)

: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدًا عالمًا مختارًا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي

(1)

"عمدة القاري"(16/ 86، 87).

(2)

"أوجز المسالك"(10/ 504 - 509) و (15/ 294 - 298).

(3)

"فتح الباري"(18/ 112).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 431).

ص: 527

عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، وكذلك أئمة بعده، وثبت في "صحيح مسلم" عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيب بالثيب الرجم"، انتهى.

قوله: (من زنا بأخته فحده حد الزاني) قال الحافظ

(1)

: وصله ابن أبي شيبة

(2)

عن حفص بن غياث قال: سألت عمر: ما كان الحسن يقول فيمن تزوج ذات محرم وهو يعلم؟ قال: عليه الحد، وأخرج ابن أبي شيبة

(3)

من طريق أبي الشعثاء التابعي المشهور فيمن أتى ذات محرم منه قال: يضرب عنقه، ووجه الدلالة من حديث علي أنه قال:"رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنه لم يفرق بين ما إذا كان الزنا بمحرم أو بغير محرم، وأشار البخاري إلى ضعف الخبر الذي ورد في قتل من زنى بذات محرم، وهو ما ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" من حديث عبد الله بن المطرف مرفوعًا:"من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف"، قال ابن عبد البر: يقولون: إن الراوي غلط فيه، إلى آخر ما بسط الحافظ من الكلام على هذا الحديث.

ثم قال الحافظ: وأشهر حديث في الباب حديث البراء: "لقيت خالي ومعه الراية فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن اضرب عنقه" أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وفي سنده اختلاف كثير، انتهى مختصرًا من "الفتح".

وقال ابن قدامة في "المغني"

(4)

: وإن تزوج ذات محرم فالنكاح باطل بالإجماع، فإن وَطِئَها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم، منهم الحسن

(1)

"فتح الباري"(12/ 118).

(2)

"المصنف"(10/ 105)، (رقم 8918).

(3)

"المصنف"(10/ 105)، (رقم 8917).

(4)

"المغني"(12/ 341 - 343).

ص: 528

ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة والثوري: لا حدّ عليه؛ لأنه وطءٌ تمكنت الشبهة منه، فلم يوجب الحد، كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح، وهو عقد النكاح الذي هو سبب للإباحة، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهةً دارئةً للحد الذي يندرئ بالشبهات.

ثم ذكر الموفق دلائل الفريق الثاني ثم قال: إذا ثبت هذا فاختلف في الحد، فروي عن أحمد أنه يقتل على كل حال، والرواية الثانية حده حد الزاني، وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر، والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد.

وكل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح خامسة أو متزوجة إذا وطئ فيه عالمًا بالتحريم فهو زنى، موجبٌ للحد المشروع فيه قبل العقد، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا حد فيه لأجل الشبهة، وقال النخعي: يجلد مائة ولا ينفى، ولنا ما ذكرنا فيما مضى، وروى أبو نصر المروذي بإسناده أنه رُفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت في عدتها فقال: هل علمتما؟ فقالا: لا، قال: لو علمتما لرجمتكما، فجلدهما أسواطًا، ثم فرق بينهما، انتهى مختصرًا.

وفي "الهداية"

(1)

: ومن تزوج امرأة لا يحل [له] نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة، لكنه يوجب عقوبة إذا كان علم بذلك، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: عليه الحد إذا كان عالمًا بذلك لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو، انتهى.

قوله: (قبل سورة النور أم بعد) قال الحافظ

(2)

: وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور؛ لأن نزولها كان في قصة الإفك، واختلف

(1)

"الهداية"(1/ 346).

(2)

"فتح الباري"(12/ 120).

ص: 529

هل كان سنة أربع أو خمس أو ست، والرجم كان بعد ذلك، وقد حضره أبو هريرة رضي الله عنه، وإنما أسلم سنة سبع، انتهى.

وتعقب عليه العلامة السندي حيث قال: قلت: لا يلزم من ذلك أن كل آية من آيات السورة نزلت بعد الإفك، فلا بدّ من إثبات أن حد الزنا من سورة النور كان قبل أو بعد، فتأمل والله تعالى أعلم، انتهى.

(22 -‌

‌ باب لا يرجم المجنون والمجنونة)

أي: إذا وقع في الزنا في حال الجنون، وهو إجماع، واختلف فيما إذا وقع في حال الصحة، ثم طرأ الجنون هل يؤخر إلى الإفاقة؟ قال الجمهور: لا؛ لأنه يراد به التلف، فلا معنى للتأخير بخلاف من يجلد فإنه يقصد به الإيلام فيؤخر حتى يفيق، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (وقال علي لعمر رضي الله عنهما: أما علمت. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: تقدم بيان من وصله في "باب الطلاق في الإغلاق"، وأن أبا داود وابن حبان والنسائي أخرجوه مرفوعًا، ورجّح النسائي الموقوف، ومع ذلك فهو مرفوع حكمًا، وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور، لكن اختلفوا في إيقاع طلاق الصبي، إلى آخر ما ذكر، وتقدم الاختلاف في طلاق الصبي في محله من "كتاب الطلاق".

قوله: (إن القلم رفع عن المجنون) قال السندي: أي: في غير حقوق العباد والزنا منه، انتهى.

(23 -‌

‌ باب للعاهر الحجر)

قال القسطلاني

(3)

تبعًا للحافظ: سبق في الفرائض وغيرها أن المراد

(1)

"فتح الباري"(12/ 121).

(2)

"فتح الباري"(12/ 121)، وانظر أيضًا:"فتح الباري"(9/ 393).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 262).

ص: 530

بقوله: الحجر الخيبة، أي: لا حق له في النسب، وقيل: معناه وللزاني الرجم بالحجر، وأنه استبعد بأن ذلك ليس لجميع الزناة بل للمحصن، لكن في ترجمة البخاري هنا إيماء إلى ترجيح القول بأنه الرجم بالحجر، فيكون المراد منه أنّ الرجم مشروع للزاني المحصن، والله أعلم، والحديث قد سبق في مواضع، انتهى.

(24 -‌

‌ باب الرجم بالبلاط)

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح:"في البلاط" بدل الباء.

قال الكرماني

(1)

: البلاط بفتح الموحدة وقيل: بكسرها: موضع بين مسجده صلى الله عليه وسلم والسوق، والأرض المستوية والأرض المفروشة بالحجارة ونفس الحجارة، فإن قلت: ما فائدة ذكر البلاط والمواضع كلها على السواء؟

قلت: مقصوده جواز الرجم من غير حفيرة؛ لأن المواضع المبلطة لم تحفر غالبًا، أو أن الرجم يجوز في الأبنية، ولا يختص بالمصلى ونحوه مما هو خارج المدينة، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: في رواية المستملي: "بالبلاط" بالموحدة بدل في، ففهم منه بعضهم أنه يريد أن الآلة التي يرجم بها تجوز بكل شيء حتى بالبلاط، وهو ما تفرش به الدور من حجارة أو آجر وغير ذلك، وفيه بعد، والأولى أن الباء ظرفية، ثم ذكر الحافظ ما تقدم من الإشكال والجواب عن الكرماني، وأجاب الحافظ من عنده بقوله: قلت: ويحتمل أن يكون أراد أن ينبِّه على أن المكان الذي يجاور المسجد لا يعطى حكم المسجد في الاحترام؛ لأن البلاط المشار إليه موضع كان مجاورًا للمسجد النبوي، انتهى.

(1)

"شرح الكرماني"(23/ 204، 205).

(2)

"فتح الباري"(12/ 128).

ص: 531

وفي هامش "اللامع"

(1)

: الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى أن حدّ الزنا ينبغي له الإظهار والتشهير، قال تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فكأنه ذكر ذلك تنبيهًا واحترازًا عما تقدم من "باب من أمر بضرب الحد في البيت" أن حد الزنا يى بداخل فيه، والباب المتقدم كان في حد الشرب، وهذا في حد الزنا، انتهى مختصرًا.

(25 -‌

‌ باب الرجم بالمصلى)

أي: عنده والمراد المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد، وقد وقع في رواية مسلم:"فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد"، وفهم بعضهم كالعياض من قوله:"بالمصلى" أن الرجم وقع داخله، وقال: يستفاد منه أن المصلى لا يثبت له حكم المسجد وإلا لاجتنب الرجم فيه؛ لأنه لا يؤمن التلويث من المرجوم، وتعقب بأن المراد أن الرجم وقع عنده لا فيه، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وقد ترجم المصنف في كتاب العيدين "باب اعتزال الحيض المصلى"، وتقدم هناك أن هذا الحكم استحبابي لأن المصلى ليس بمسجد عند الجمهور، وقال بعض العلماء: يحرم عليها المكث في المصلى؛ لأنه موضع الصلاة فأشبه المسجد، حكاه أبو الفرج الدارمي من الشافعية عن بعضهم، انتهى.

(26 -‌

‌ باب من أصاب ذنبًا دون الحد)

قال العلامة القسطلاني

(3)

تبعًا للكرماني: أي: من ارتكب ذنبًا لا حد له شرعًا كالقبلة والغمزة، وغرض البخاري أن الصغيرة بالتوبة يسقط عنها التعزير، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 154).

(2)

"فتح الباري"(12/ 130).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 265).

ص: 532

قال الحافظ

(1)

: والتقييد بدون الحد يقتضي أن من كان ذنبه يوجب الحد أن عليه العقوبة ولو تاب، وقد مضى الاختلاف في ذلك، وأما التقييد الأخير فلا مفهوم له، بل الذي يظهر أنه ذكره بدلالته على توبته، انتهى.

قوله: (وفيه عن أبي عثمان) أي: في معنى الحكم المذكور في الترجمة حديث مروي عن أبي عثمان، وقد وصله المؤلف في "أوائل كتاب الصلاة" في "باب الصلاة كفارة" وهو أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية [هود: 114]، انتهى من "الفتح".

قوله: (والحديث الأول أبين، قوله: أطعم أهلك) كما في نسخة الهامش، وهو موجود في نسخ الشروح أيضًا، لكن لم يتعرض لشرح هذا القول الحافظ ولا الكرماني بشيء، وتعرض له العلامة العيني

(2)

حيث قال: وأراد بالحديث الأول حديث أبي عثمان النهدي، وهو أبين شيء في الباب، ولم يقع هذا في كثير من النسخ، انتهى.

وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(3)

: أراد به حديث أبي عثمان المذكور في الصلاة فإنه أبين للغرض مما ذكر في هذا الباب، وقوله:"أطعم أهلك" خبر مبتدأ محذوف، وظاهره أنه بيان للحديث الأول المعزو لأبي عثمان، وفيه نظر إذ لم يذكر فيه هذا اللفظ، وإنما ذكر عن غيره في حديث آخر مر في "باب من أعان المعسر في الكفارة"، وبالجملة ففي كلامه قلاقة، انتهى.

قلت: وفي هذا الكلام قلاقة إذ لا يصح جعل قوله: "أطعم أهلك" بيانًا للحديث الأول أعمّ من أن يكون قوله: "أطعم أهلك" مذكورًا ههنا أم لا، وذلك لأن مقصود الإمام البخاري هو أن حديث أبي عثمان النهدي

(1)

"فتح الباري"(12/ 132).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 96).

(3)

"تحفة الباري"(6/ 339).

ص: 533

المشار إليه في أولى الترجمة أبين وأوضح في أداء المعنى الذي عقد الترجمة له من حديث الباب، ومضمون حديث الباب هو قوله:"أطعم أهلك" وهو إن لم يكن ههنا مذكورًا بهذا اللفظ لكنه حاصل معناه، فالذي يتجه هو أن يقال: حديث أبي عثمان النهدي أبين من قوله: "أطعم أهلك" أي: من حديث الباب، فقوله:"أطعم أهلك" ليس بيانًا للحديث الأول، بل هو مفضل عليه لقوله:"أبين"، ولو قال المصنف الحديث الأول أبين من قوله:"أطعم أهلك" لكان أولى وأوضح، فتأمل.

(27 -‌

‌ باب إذا أقرّ بالحد ولم يبين)

قال الحافظ

(1)

في شرح حديث الباب: "ذنبك أو قال: حدك" قد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري حمله على أن من أقرّ بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له، لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر، إلى آخر ما ذكره من الكلام على المسألة، وفي هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(2)

في شرح ترجمة الباب: قوله: "هل للإمام أن يستر عليه": جواب الاستفهام محذوف، أي: نعم، انتهى.

(28 -‌

‌ باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست. . .) إلخ

هذه الترجمة معقودة لجواز تلقين الإمام المقر بالحد ما يدفعه عنه، وقد خصّه بعضهم بمن يظن به أنه أخطأ أو جهل، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 134).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 339).

(3)

"فتح الباري"(12/ 135).

ص: 534

وكذا قال غيره من شرَّاح البخاري أن المقصود بيان الجواز، ولعلهم اقتصروا على الجواز ولم يقولوا بالاستحباب نظرًا إلى ترجمة المصنف، فإنه ترجم بلفظ الاستفهام المشير إلى التردد، وإلا فغيرهم من شرَّاح الحديث وكذا الفقهاء صرَّحوا باستحباب التلقين، ففي "الهداية"

(1)

: ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع، فيقول له: لعلك لمست أو قبلت لقوله عليه السلام لماعز: "لعلك لمستها أو قبلتها"، انتهى.

قال النووي في "شرح مسلم"

(2)

في فوائد الحديث: وفيه استحباب تلقين المقر بحد الزنا والسرقة وغيرهما من حدود الله تعالى، وأنه يقبل رجوعه؛ لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء بخلاف حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى المالية كالزكاة والكفارة وغيرهما، فإنه لا يجوز التلقين فيها، ولو رجع لم يقبل رجوعه، وقد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه، انتهى.

وعلى هذا فيشكل إتيان المصنف بلفظة "هل"، ولعله إنما أوردها إِشارةً إلى الخلاف فيه كما تقدم عن الحافظ وإن كان شاذًّا.

(29 -‌

‌ باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت)

لأن الإحصان شرط الرجم، وهو أن يتزوج امرأة ويدخل بها، ومطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة، قاله العيني

(3)

.

وقال الحافظ

(4)

: قال ابن التِّين: محل مشروعية هذا السؤال إذا كان لم يعلم أنه تزوج تزويجًا صحيحًا ودخل بها، فأما إذا علم إِحصانه فلا يسأل عن ذلك، ثم حكى عن المالكية تفصيلًا في ذلك، إلى آخر ما في "الفتح".

(1)

"الهداية"(1/ 340).

(2)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 216).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 98).

(4)

"فتح الباري"(12/ 136).

ص: 535

(30 -‌

‌ باب الاعتراف بالزنا)

قال العلامة العيني

(1)

: أي: هذا باب في بيان حكم الاعتراف بالزنا، ثم قال بعد ذكر الحديث الأول: مطابقته للترجمة في قوله: "فاعترفت فرجمها"، وهكذا قال بعد ذكر الحديث الثاني من حديثي الباب: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "ألا وإن الرجم" إلى آخره، انتهى.

قلت: فيستفاد منه أن غرض المصنف بالترجمة بيان حكم الزنا وأنه الرجم، وكذا يستفاد من كلام القسطلاني، والذي يشير إليه كلام الحافظ وهو الأوجه عندي أن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى أن الإقرار مرة واحدة يكفي، وهو ظاهر حديثي الباب، والمسألة خلافية، فعند الشافعية والمالكية كذلك، يعني: الاكتفاء مرة خلافًا للحنفية والحنابلة إذ قالوا: لا بدّ من الإقرار أربع مرات، وزاد الحنفية في أربع مجالس.

(31 -‌

‌ باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت)

يردّ على ظاهر الترجمة أنها لا تثبت بالحديث، فإن الثابت بالحديث الرجم بالحبل الآتي في قول عمر، وأما رجم الحبلى فلا يصح به، وأيضًا المسألة إجماعية من أنها لا ترجم حتى تضع، ولم يتعرض لهذا الإشكال ولا الجواب العيني والقسطلاني.

نعم تعرض له الحافظ

(2)

إذ قال: قال الإسماعيلي: يريد إذا حبلت من زنا على الإحصان، ثم وضعت، فأما وهي حبلى فلا ترجم حتى تضع، وقال ابن بطال

(3)

: معنى الترجمة هل يجب على الحبلى رجم أو لا؟ وقد استقر الإجماع على أنها لا ترجم حتى تضع.

قال النووي

(4)

: وكذا لو كان حدها الجلد لا تجلد حتى تضع، وكذا

(1)

"عمدة القاري"(16/ 99 - 101).

(2)

"فتح الباري"(12/ 146).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 456).

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 219).

ص: 536

من وجب عليها قصاص، وهي حامل لا يقتص منه حتى تضع بالإجماع في كل ذلك، انتهى.

فليس غرض الإمام البخاري إثبات رجم المرأة وهي حبلى بل بعد وضع الحمل، أو الترجمة مبنية على الاستفهام، أي: هل ترجم أو لا؟ ونظائره كثيرة لا تحصى، ويمكن أن يقال: إن المصنف أراد بالترجمة الإشارة إلى مسألة أخرى خلافية بسطت في "الأوجز"

(1)

، وهي إثبات الرجم بمجرد الحبل بالزنا، وليس الغرض بيان إيقاع الرجم حالة الحمل، والمسألة خلافية، فعند عمر رضي الله عنه تستحق الحبلى من الزنا الرجم - بعد الوضع - بمجرد الحبل، وإن لم تقر، وبه قال الإمام مالك خلافًا للجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة فعندهم لا بدّ له من إقرار أو بينة، ثم اعلم أنه قد ذكر في "اللامع"

(2)

وهامشه الكلام على بعض أجزاء حديث الباب مبسوطًا مفصلًا فارجع إليه لو شئت.

(32 -‌

‌ باب البكران يجلدان وينفيان. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: هذه الترجمة لفظ خبر أخرجه ابن أبي شيبة

(4)

من طريق الشعبي عن مسروق عن أُبي بن كعب مثله، وزاد:"والثيبان يجلدان ويرجمان"، انتهى.

قلت: المقصود من الترجمة هو الجزء الثاني، أي: النفي، والمسألة خلافية.

قال القسطلاني

(5)

: وحكى ابن نصر في "كتاب الإجماع" الاتفاق على نفي الزاني إلا عند الكوفيين، وعليه الجمهور، وادعى الطحاوي أنه

(1)

"أوجز المسالك"(15/ 299، 300).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 154).

(3)

"فتح الباري"(12/ 157).

(4)

"المصنف"(10/ 81)، (رقم 8836).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 289).

ص: 537

منسوخ، واختلف القائلون بالتغريب، فقال الشافعي بالتعميم للرجل والمرأة، وفي قول له: لا ينفى الرقيق، وخصر مالك النفي بالرجل، وقيّده بالحر، وعن أحمد روايتان، انتهى.

(33 -‌

‌ باب نفي أهل المعاصي والمخنثين)

كأنه أراد الردَّ على من أنكر النفي [على] غير المحارب، فبين أنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده في حق غير المحارب، وإذا ثبت في حق من لم يقع منه كبيرة فوقوعه فيمن أتى كبيرة بطريق الأولى، قاله الحافظ

(1)

.

(34 -‌

‌ باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبًا عنه)

فيه إشكالان: الأول في تعبير المصنف وألفاظ الترجمة، قال الكرماني

(2)

: الأولى أن يقال: باب من أمره الإمام، وغائبًا حال عن فاعل الإقامة، وهو الغير، ويحتمل أن يكون حالًا عن المحدود، والمقام عليه، وفي عبارته تعجرف، انتهى.

وحكى الحافظ

(3)

عبارة الكرماني بلفظ آخر، وهو أوضح، إذ قال: قال الكرماني: في هذا التركيب قلق، وكان الأولى أن يبدل لفظ "غير" بالضمير فيقول: من أمره الإمام. . . إلخ.

وقال العلامة القسطلاني

(4)

: الأوجه كما نبَّه عليه في "الكواكب": أن يقول: من أمر الإمام، ثم حكى عن البرماوي: أنه لا عجرفة فيه، وبسط كلامه.

والإشكال الثاني ما ذكره الحافظ

(5)

بقوله: قال ابن بطال

(6)

: قد ترجم بعد، يعني: في آخر أبواب المحدود "هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب

(1)

"فتح الباري"(12/ 159).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 221).

(3)

"فتح الباري"(12/ 160).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 291).

(5)

"فتح الباري"(12/ 160).

(6)

"شرح ابن بطال"(8/ 469).

ص: 538

الحد غائبًا عنه"، ومعنى الترجمتين واحد، كذا قال، ويظهر لي أن بينهما تغايرًا من جهة أن قوله في الأول: "غائبًا عنه" حال من المأمور، وهو الذي يقيم الحد، وفي الآخر حال من الذي يقام عليه الحد، انتهى.

ثم لا يذهب عليك أنهم أوردوا بحديث الباب على الحنفية في قولهم بوجوب حضور الإمام في الحد، وتقدم الكلام عليه في "كتاب الوكالة" في "باب الوكالة في الحدود" فتذكر.

(35 -‌

‌ باب قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. . .} [النساء: 25]. . .) إلخ

لعل المقصود بيان تفسير الآية، ففسّر قوله تعالى:{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} بقوله: زواني، كما في النسخ الهندية ونسخة "الفتح"، ولم يذكر في الباب حديثًا.

قال الحافظ

(1)

: لعله اكتفى بالآية وتأويلها عن الحديث المرفوع، انتهى.

وليس هذا التفسير في نسخة "العيني" و"القسطلاني".

قال الحافظ

(2)

: وهذا التفسير ثبت في رواية المستملي وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، والمسافحات جمع مسافحة مأخوذ من السفاح، وهو من أسماء الزنا، والأخدان جمع خدن بكسر أوله وسكون ثانيه وهو الخدين، والمراد به الصاحب، قال الراغب: وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب غيره بشهوة، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: لم يذكر في هذا الباب حديثًا بل اقتصر على

(1)

"فتح الباري"(12/ 162).

(2)

"فتح الباري"(12/ 162).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 294).

ص: 539

الآية اكتفاء بها عن الحديث المرفوع، نعم أدخل ابن بطال فيه حديث أبي هريرة التالي لهذا الباب، انتهى.

قلت: وذلك لأجل أنه سقطت الترجمة الآتية في نسخة ابن بطال، فدخل في هذه الترجمة حديث أبي هريرة الآتي في الباب الآتي.

(35‌

‌ م - باب إذا زنت الأمة)

أي: ما يكون حكمها؟ وسقطت هذه الترجمة للأصيلي، وجرى على ذلك ابن بطال، وصار الحديث المذكور فيها حديث الباب المذكور قبلها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (إذا زنت ولم تحصن. . .) إلخ، اعلم أن الحرية من شرائط إِحصان الرجم بالإجماع إلا عند أبي ثور فإنه قال: إن العبد والأمة إذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد، وإن أحصنا فعليهما الرجم.

قال الموفق

(2)

: حد العبد والأمة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال ابن عباس وطاوس: إن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد، ولا حد على غيرهما، لقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} الآية [النساء: 25]، فدليل خطابه أنه لا حد على غير المحصنات، وقال داود: على الأمة نصف الحد إذا زنت بعد ما زوجت، وعلى العبد جلد مائة بكل حال، وفي الأمة إذا لم تزوج روايتان: إحداهما لا حد عليها، والأخرى تجلد مائة، انتهى.

قال العلامة العيني

(3)

: قال الطحاوي: لم يقل هذه اللفظة، أي: قوله: "ولم تحصن" غير مالك بن أنس، ومفهومه أنها إذا أحصنت لا تجلد، بل ترجم كالحرة، لكن الأمة تجلد، محصنةً كانت أو غير محصنةٍ، ولا اعتبار للمفهوم حيث نطق القرآن صريحًا بخلافه في قوله تعالى:

(1)

"فتح الباري"(12/ 162).

(2)

"المغني"(12/ 331).

(3)

"عمدة القاري"(8/ 457).

ص: 540

{فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية، وقال الخطابي: ذكر الإحصان في الحديث غريب مشكل جدًّا، إلا أن يقال: معناه العتق، انتهى ملخصًا من "الأوجز"

(1)

.

وفيه أيضًا: أن المحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان، أحدها: العفائف كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} الآية [النور: 23]، الثاني: بمعنى المزوجات كقوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والثالث: بمعنى الحرائر كقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والرابع: بمعنى الإسلام كقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، انتهى ملتقطًا من "الأوجز"

(2)

.

وبسط الكلام فيه على شرائط الإحصان واختلاف العلماء فيه.

وفيه هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(3)

: قوله: "ولم تحصن" جرى في ذكر هذا القيد على الغالب؛ لأن الحكم لا يختص بعدم إحصانها بل يجري مع إحصانها كما صرّح به في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية، أو لأن الأمة المسؤول عنها كانت غير محصنة، وقيل: الإحصان هنا بمعنى العفة عن الزنا، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(4)

: الإحصان أكثر ما يستعمل في الأحاديث بمعنى التزوج، والمراد به ههنا العفة؛ لأن الأمة حدها الجلد، سواء تزوّجت أو لا، انتهى.

(36 -‌

‌ باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى)

قال الحافظ

(5)

: أما التثريب فهو التعنيف وزنه ومعناه، وقد جاء بلفظ:"ولا يعنفها"، وأما النفي فاستنبطوه من قوله:"فليبعها" لأن المقصود

(1)

"أوجز المسالك"(15/ 332 - 334).

(2)

"أوجز المسالك"(15/ 294).

(3)

"تحفة الباري"(6/ 346).

(4)

"فيض الباري"(6/ 366).

(5)

"فتح الباري"(12/ 165).

ص: 541

من النفي الإبعاد عن الوطن الذي وقعت فيه المعصية، وهو حاصل بالبيع، انتهى.

قلت: وما قاله الحافظ إنما قاله تأييدًا لمذهب الشافعية، وعلى هذا لا مطابقة بين الحديث والترجمة، فإن الترجمة بعدم النفي لا بالنفي.

وقال القسطلاني

(1)

تحت حديث الباب: واستنبط من قوله: "فليبعها" عدم النفي لأن المقصود من النفي الإبعاد وهو حاصل بالبيع، انتهى.

وأنت ترى أن فيه إجمالًا مخلًا، والمطابق لصنيع المصنف ما قاله العلامة العيني

(2)

إذ قال: واستنبط عدم النفي من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم بيعوها" لأن المقصود من النفي الإبعاد، وهو لا يلزم حصوله من البيع، انتهى مختصرًا.

وتقدم بيان الخلاف في مسألة النفي في "باب البكران يجلدان وينفيان".

(37 -‌

‌ باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم. . .) إلخ

أي: بيان أحكام أهل الذمة: اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية، وبيان إحصانهم هل الإسلام شرط فيه أم لا؟ كما سيأتي، انتهى من "العيني"

(3)

.

وههنا مسألتان: إحصان أهل الذمة، والثانية الحكم بينهم، قال العلامة القسطلاني

(4)

: وغرض المؤلف أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان، وإلا لم يرجم اليهوديين، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقال المالكية ومعظم الحنفية: شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 296).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 116).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 117).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 299).

ص: 542

وأما المسألة الثانية فهو الحكم بين أهل الذمة، فقال الموفق

(1)

: وجملة ذلك أنه إذا تحاكم إلينا أهل الذمة، أو استعدى بعضهم على بعض، فالحاكم مخيَّر بين إحضارهم والحكم بينهم وبين تركهم، سواء كانوا من أهل دين واحدٍ أو من أهل أديان، هذا المنصوص عن أحمد، وهو قول النخعي وأحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يجب الحكم بينهم، وهذا القول الثاني للشافعي واختيار المزني؛ لقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، ولنا قوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية [المائدة: 42]، إلى آخر ما ذكر من الكلام على الدلائل، ولم يذكر مذهب مالك والحنفية.

وقال ابن رُشد في "البداية"

(2)

: وأما الحكم على الذمي فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة، والثاني: أنه مخيَّر، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان، والثالث: أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه. . .، إلى آخر ما ذكر في الدلائل، وما ذكره ابن رُشد من مذهب الحنفية هو موافق لما ذكره الجصاص في "أحكام القرآن"

(3)

إذ قال بحثًا على المسألة: فثبت نسخ التخيير بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال أيضًا: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود أن أهل الذمة والمسلمون فيها سواء، إلا أنهم لا يرجمون لأنه غير محصنين، وقال مالك: الحاكم مخيَّر إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم، ثم قال: والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير، فأما شرط المجيء منهم في قوله:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلم تقم الدلالة على نسخه، فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيًا والتخيير منسوخًا، انتهى ملتقطًا.

(1)

"المغني"(12/ 381، 382).

(2)

"بداية المجتهد"(2/ 472).

(3)

"أحكام القرآن"(2/ 435 - 437).

ص: 543

قال الحافظ

(1)

بعد ذكر الحديث الأول من حديثي الباب: قال الكرماني

(2)

: مطابقته للترجمة من حيث الإطلاق.

قلت: والذي ظهر لي أنه جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، هو ما أخرجه أحمد والطبراني من طريق هشيم عن الشيباني قال: قلت: هل رجم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، رجم يهوديًا ويهوديةً، انتهى.

(38 -‌

‌ باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره. . .) إلخ

ذكر فيه قصة العسيف، والحكم المذكور ظاهر فيمن قذف امرأة غيره، وأما من قذف امرأته فكأنه أخذه من كون زوج المرأة كان حاضرًا ولم ينكر ذلك.

وأشار بقوله: "هل على الإمام" إلى الخلاف في ذلك، والجمهور على أن ذلك بحسب ما يراه الإمام. وقال النووي: الأصح عندنا وجوبه، والحجة فيه بعث أنيس رضي الله عنه إلى المرأة، ثم تعقب عليه الحافظ كما في "الفتح"

(3)

، ثم قال: قال ابن بطال

(4)

: أجمع العلماء على أن من قذف امرأة أو امرأة غيره بالزنا فلم يأت على ذلك ببينة أن عليه الحد، إلا إن أقرّ المقذوف، فلهذا يجب على الإمام أن يبعث إلى المرأة يسألها عن ذلك، ولو لم تعترف المرأة في قصة العسيف لوجب على والد العسيف حد القذف، ومما يتفرع عن ذلك لو اعترف رجل بأنه زنى بامرأة معينة فأنكرت هل يجب عليه حد الزنا وحد القذف أو حد القذف فقط؟ قال بالأول مالك، وبالثاني أبو حنيفة، وقال الشافعي وصاحبا أبي حنيفة: من أقرّ منهما فإنما عليه حد الزنا فقط، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 167).

(2)

"شرح الكرماني"(23/ 224).

(3)

"فتح الباري"(12/ 172).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 477).

(5)

"فتح الباري"(12/ 173).

ص: 544

(39 -‌

‌ باب من أدَّب أهله أو غيره دون السلطان)

أي: دون إذنه له في ذلك، وهذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف هل يحتاج من وجب عليه الحد من الأرقاء إلى أن يستأذن سيده الإمام في إقامة الحد عليه، أو له أن يقيم ذلك بغير مشورة؟ وقد تقدم بيانه في "باب إذا زنت الأمة" قاله الحافظ

(1)

.

قلت: والمسألة خلافية شهيرة، قال القسطلاني

(2)

في الباب المذكور: قوله: "فاجلدوها. . ." إلخ، والخطاب فيه لملاك الأمة، فيدل على أن السيد يقيم على عبده وأمته الحد، ويسمع البينة عليهما، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين خلافًا لأبي حنيفة في آخرين، واستثنى مالك القطع في السرقة، انتهى.

قلت: وما ذكر الحافظ في بيان الغرض من الترجمة تعقبه العيني إذ قال

(3)

بعد نقل كلام الحافظ: قلت: لم يبين الخلاف في هذه الترجمة أصلًا، انتهى.

والظاهر عندي في الغرض من الترجمة: أن المصنف أشار بذلك أن الخلاف بين العلماء إنما هو في مسألة إقامة السيد الحد على أرقائه، وليس الخلاف بينهم في التأديب، فإنه لا يحتاج الرجل في تأديب أهله أو أرقائه إلى أن يستأذن السلطان، فالخلاف في إقامة الحدود لا في التأديب، ويؤيد ما قلته أنه لا ذكر في أحاديث الباب لإقامة الحد كما لا يخفى.

قال العيني

(4)

تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أدّب ابنته عائشة رضي الله عنها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يستأذنه.

(1)

"فتح الباري"(12/ 174).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 295).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 120).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 121).

ص: 545

(40 -‌

‌ باب من رأى مع امرأته رجلًا فقتله. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا أطلق ولم يبين الحكم، وقد اختلف فيه، فقال الجمهور: عليه القود، وقال أحمد وإسحاق: إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هدر دمه، وقال الشافعي: يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل إن كان ثيبًا، وعلم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القود في ظاهر الحكم، انتهى.

وهكذا ذكر المذاهب العلامة العيني

(2)

، ولم يصرح بمذهب الحنفية في ذلك.

وفي هامش "الفيض"

(3)

: وسمعت من الشيخ أن من ابتلي بمثله فقتل الزاني لا يؤاخذ به عند ربه، يباح له أن يقتله فيما بينه وبين الله عز وجل، وإن كان حكم القضاء القصاص إذا لم يأت عليه ببينة، وبذلك صرّح النووي من مذهبه في "شرح مسلم" في "باب اللعان"، انتهى.

وقلت: ولفظ النووي في "شرح مسلم"

(4)

هكذا: قد اختلف العلماء فيمن قتل رجلًا وزعم أنه وجده قد زنا بامرأته، فقال جمهورهم: لا يقبل قوله، بل يلزمه القصاص إلا أن يقوم بذلك بينة، أو يعترف به ورثة القتيل، والبينة أربعة من عدول الرجال يشهدون على نفس الزنا، ويكون القتيل محصنًا، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان صادقًا فلا شيء عليه، وقال بعض أصحابنا: يجب على كل من قتل زانيًا محصنًا القصاص، ما لم يأمر السلطان بقتله، والصواب الأول، انتهى.

قلت: وقد وجدت المسألة مصرحًا بها في فروع الحنفية، ففي "الدر المختار"

(5)

في أبواب التعزير: ويكون التعزير بالقتل كمن وجد رجلًا مع

(1)

"فتح الباري"(12/ 174).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 121، 122).

(3)

"فيض الباري"(6/ 368).

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 387).

(5)

"رد المحتار"(6/ 107، 108).

ص: 546

امرأة لا تحل له، ولو أكرهها فلها قتله ودمه هدر، ثم ذكر الخلاف فيما إذا كان يعلم أنه ينزجر بغير القتل، قال ابن عابدين: قلت: وقد ظهر لي في التوفيق بين القولين أن الشرط المذكور إنما هو في ما إذا وجد رجلًا مع امرأة لا تحل له قبل أن يزني بها، فهذا لا يحل قتله إذا علم أنه ينزجر بغير القتل، أما إذا وجده يزني بها فله قتله مطلقًا، انتهى.

وفي "الأوجز"

(1)

: قال الموفق

(2)

: إذا قتل رجلًا وادّعى أنه وجده مع امرأته، لم يقبل قوله إلا ببينة، ولزمه القصاص، روي نحو ذلك عن علي أنه سئل عمن وجد مع امرأته فقتله، فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته، وإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

بعد ذكر المذاهب: قال الداودي: الحديث دال على وجوب القود فيمن قتل رجلًا وجده مع امرأته؛ لأن الله عز وجل وإن كان أغير من عباده فإنه أوجب الشهود في الحدود، فلا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله، ولا يسقط الدم بدعوى، انتهى.

(41 -‌

‌ باب ما جاء في التعريض)

قال الحافظ

(4)

: قال الراغب: هو كلام له وجهان: ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظاهر، انتهى.

وتقدّم بيان مذاهب الأئمة في مسألة الباب في "باب إذا عرّض بنفي الولد" من "كتاب اللعان".

قال الحافظ: وقد أجمعوا على تأديب من وجد مع امرأة أجنبية في بيت، والباب مغلق عليهما، وقد ثبت عن إبراهيم النخعي أنه قال: في التعريض عقوبة، انتهى.

(1)

"أوجز المسالك"(11/ 198).

(2)

"المغني"(11/ 461).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 304).

(4)

"فتح الباري"(12/ 175).

ص: 547

(42 -‌

‌ باب كم التعزير والأدب)

قال القسطلاني

(1)

: قال في "الصحاح": التعزير: التأديب، ومنه سمي الضرب دون الحد تعزيرًا، وقال في "المدارك": وأصل العزر المنع، ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح، انتهى.

ومنه عزّره القاضي، أي: أدَّبه لئلا يعود إلى القبيح، ويكون بالقول والفعل بحسب ما يليق به. وفي "الدر المختار"

(2)

: هو لغةً: التأديب مطلقًا، وشرعًا: تأديب دون الحد أكثره تسعة وثلاثون سوطًا، وأقله ثلاثة، انتهى.

وأما الأدب فبمعنى التأديب، وهو أعم من التعزير؛ لأن التعزير يكون بسبب المعصية بخلاف الأدب، ومنه تأديب الوالد وتأديب المعلم.

ثم قال القسطلاني تحت حديث الباب

(3)

: واختلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الإمام أحمد في المشهور عنه، وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشرة، ثم اختلفوا فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد؟ قولان، وقال الآخرون: هو إلى رأي الإمام بالغًا ما بلغ، ثم ذكر القسطلاني جواب الحديث من جانب الجمهور فارجع إليه لو شئت.

وذكر العلامة العيني

(4)

في المسألة عشرة أقوال، ونقل مذهب الإمام محمد أنه لا يبلغ به أربعين سوطًا بل ينقص منه سوطًا، قال الحافظ

(5)

: وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين.

وفي "الهداية"

(6)

: والتعزير أكثره تسعة وثلاثون سوطًا وأقله ثلاث جلداتٍ، وقال أبو يوسف: يبلغ التعزير خمسًا وسبعين سوطًا، والأصل فيه

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 306).

(2)

"رد المحتار"(7/ 103، 104).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 307).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 124).

(5)

"فتح الباري"(12/ 178).

(6)

"الهداية"(1/ 360).

ص: 548

قوله عليه الصلاة والسلام: "من بلغ حدًا في غير حد فهو من المعتدين"، وإذا تعذّر تبليغه حدًا، فأبو حنيفة ومحمد نظرَا إلى أدنى الحد، وهو حد العبد في القذف، فصرفاه إليه، وذلك أربعون فنقصا منه سوطًا، وأبو يوسف اعتبر أقل الحد في الأحرار، إذ الأصل هو الحرية، ثم نقص سوطًا في رواية عنه، وهو قول زفر، وهو القياس، وفي هذه الرواية نقص خمسة، وهو مأثور عن علي فقلده، انتهى.

فعلم منه أن محمدًا في هذه المسألة مع أبي حنيفة لا كما تقدم عن القسطلاني، وحكى العيني

(1)

عن الطحاوي أنه قال: لا يجوز اعتبار التعزير بالحدود؛ لأنهم لم يختلفوا في أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام فيخفف تارة ويشدد أخرى، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(2)

: والتعزير ليس فيه تقدير، بل هو مفوض إلى رأي القاضي وعليه مشايخنا؛ لأن المقصود منه الزجر، وأحوال الناس فيه مختلفة، قال ابن عابدين: أي: ليس في أنواعه تقدير، وهذا حاصل قوله قبله: ويكون بالضرب وبالحبس وبالصفع على العنق وفرك الأذن، انتهى.

(43 -‌

‌ باب من أظهر الفاحشة والتلطخ والتهمة بغير بينة)

قال الحافظ

(3)

: أي: ما حكمه؟ والمراد بإظهار الفاحشة أن يتعاطى ما يدلّ عليها عادةً من غير أن يثبت ذلك ببينة أو إقرار، وباللطخ الرمي بالشر يقال: لطخ فلان بكذا، أي: رمى بشر، وبالتهمة من يتهم بذلك من غير أن يتحقق فيه ولو عادة، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 124).

(2)

"رد المحتار"(7/ 106، 107).

(3)

"فتح الباري"(12/ 180).

ص: 549

قلت: والمراد أن الرجل لا يصير بهذا الإظهار مستحقًا للحد حتى تثبت فاحشته ببيّنة أو إقرار.

قال العلامة العيني

(1)

تحت قوله: "كانت تظهر في الإسلام السوء": قال المهلب: فيه أن الحد لا يجب على أحد إلا ببينة أو إقرار ولو كان متهمًا بالفاحشة، انتهى.

(44 -‌

‌ باب رمي المحصنات. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أي: قذفهن، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمزوّجات، بل حكم البكر كذلك بالإجماع، ثم قال: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء، واختلف في حكم قذف الأرقاء كما سأذكره في الباب الذي بعده، انتهى.

ذكر المصنف ههنا مسألة حد القذف، قال ابن قدامة

(3)

: القذف: هو الرمي بالزنا، وهو محرم بإجماع الأمة، والأصل في تحريمه الكتاب والسُّنَّة، أما الكتاب فذكر الآية المذكورة في الترجمة، وأما السُّنَّة فقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا السبع الموبقات" فذكر حديث الباب، وقال: متفق عليه، وقدر الحد ثمانون إذا كان القاذف حرًّا للآية والإجماع، رجلًا كان أو امرأة، ويشترط أن يكون بالغًا عاقلًا غير مكره، انتهى.

قال ابن رُشد في "البداية"

(4)

: اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى: {ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية [النور: 4]، واختلفوا في العبد، إلى آخر ما قال.

(45 -‌

‌ باب قذف العبيد)

أي: الأرقاء، عبّر بالعبيد اتباعًا للفظ الخبر، وحكم الأمة والعبد في ذلك سواء، والمراد بلفظ الترجمة الإضافة للمفعول بدليل ما تضمنه حديث

(1)

"عمدة القاري"(16/ 130).

(2)

"فتح الباري"(12/ 181).

(3)

"المغني"(12/ 383، 384).

(4)

"بداية المجتهد"(2/ 441).

ص: 550

الباب، ويحتمل إرادة الإضافة للفاعل، والحكم فيه أن على العبد إذا قذف نصف ما على الحر ذكرًا كان أو أنثى، وهذا قول الجمهور، وعن عمر بن عبد العزيز والزهري وطائفة يسيرة والأوزاعي وأهل الظاهر: حدّه ثمانون، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: والظاهر المطابق لما في حديث الباب هو الاحتمال الأول من الاحتمالين اللذين ذكرهما الحافظ، كما أشار إليه الحافظ أيضًا، وكون الإضافة للفاعل احتمال عقلي محض، وإليه أشار العلامة العيني تعقبًا على كلام الحافظ، وأيضًا قال العيني

(2)

: وقال بعضهم: عبّر بالعبيد اتباعًا للفظ الحديث، انتهى.

قلت: لفظ الحديث "مملوكه" وليس فيه اتباع من حيث اللفظ، انتهى.

ومسألة الباب وفاقية بين الأئمة الأربعة، ففي هامش "اللامع"

(3)

: أما إذا قذف عبدًا فلا حدَّ عليه عند الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، ففي "الأوجز"

(4)

عن "المغني"

(5)

: أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفًا، وشرائط الإحصان الذي يجب الحد بقذف صاحبه خمسة: العقل والحرية والإسلام والعفة عن الزنا وأن يكون كبيرًا يجامع مثله، وبه يقول جماعة العلماء، قديمًا وحديثًا، سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد، إلى آخر ما قال.

(46 -‌

‌ باب هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبًا عنه. . .) إلخ

هذه الترجمة بظاهرها مكررة بما سبق من "باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبًا عنه"، وقد اعترف ابن بطال باتحاد معنى الترجمتين كما تقدم هناك.

(1)

"فتح الباري"(12/ 185).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 132).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 164).

(4)

"أوجز المسالك"(15/ 354).

(5)

"المغني"(12/ 383).

ص: 551

وتقدم أيضًا ما قال الحافظ

(1)

من أن بينهما تغايرًا من جهة أن قوله في الأول: "غائبًا عنه" حال من المأمور وهو الذي يقيم الحد، وفي الآخر حال من الذي يقام عليه الحد، انتهى.

لكن فيه أن المذكور تحت الترجمتين حديث واحد، ويظهر من كلام القسطلاني

(2)

أنه فرّق بينهما بأن جعل الترجمة الأولى عامة حيث قال هناك: حال كون الغير أو المقام عليه الحد غائبًا عنه، وقال ههنا:"باب هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد" رجلًا وجب عليه حال كونه "غائبًا عنه" أي: عن الإمام بأن يقول له: اذهب إلى فلان الغائب فأقم عليه الحد، انتهى.

فجعل قوله: "غائبًا" حالًا عن المقام عليه الحد.

والظاهر عند هذا العبد الضعيف في الفرق بين الترجمتين من حيث إن الآمر ههنا الإمام بخلاف ما سبق، والاستدلال في الترجمة السابقة بأول الحديث وههنا بآخره، ثم رأيت "الفيض"

(3)

فإذا فيه: المقصود في تلك الترجمة بيان أن الإمام هل له ولاية على تولية غيره لإقامة الحد؟ وكان المقصود فيما سبق هو حال الغير، أي: هل للغير إقامة الحد عند غيبوبة الإمام إذا كان ولّاه عليها، ولذا لَفّ الفاعل ههنا، ولم يصرح أن الآمر من هو، وإن كان الآمر في الخارج هو الإمام، إلا أن الغرض فيه لم يكن إلا حال المأمور، بخلافه في تلك الترجمة، فإن المحط بيان حال الإمام، ولذا صرّح به، وقال: وهل يأمر الإمام، وحينئذٍ يختلف الجواب فيهما أيضًا، فجواب الترجمة السابقة أنه يجوز للغير إقامة الحد إذا كان الإمام أمره به، كما أقامه أنيس في قصة العسيف، وجواب تلك الترجمة أن للإمام ولايةً لتولية الغير عليها، كما ولّى النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الحد، انتهى.

ثم البراعة عندي في قوله: "فارجمها فرجمها"

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 160).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 291 - 317).

(3)

"فيض الباري"(6/ 373).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 191).

ص: 552

87 -

‌ كتاب الديات

قال الحافظ

(1)

: الديات بتخفيف التحتانية جمع دية مثل عدات وعدة، وأصلها ودية

(2)

بفتح الواو وسكون الدال تقول: ودى القتيل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي ما جعل في مقابلة النفس، وسمي دية تسمية بالمصدر، وفاؤها محذوفة، والهاء عوض.

وأورد البخاري تحت هذه الترجمة ما يتعلق بالقصاص؛ لأن كل ما يجب فيه القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل، وترجم غيره "كتاب القصاص"، وأدخل تحته الديات بناءً على أن القصاص هو الأصل في العمد، انتهى.

قلت: ويمكن أن يوجّه بأن الإمام البخاري ترجم بكتاب الديات والقصاص معًا، أما الأول فنصًّا، وأما الثاني فبإشارة الآية، فإن موجب القتل العمد القصاص فلا إشكال بالتراجم الآتية المتعلقة بالقصاص في هذا الكتاب.

قال العيني

(3)

: فإن قلت: ما وجه تصدير هذه الترجمة بهذه الآية؟ قلت: لأن فيها وعيدًا شديدًا عند القتل متعمدًا بغير حق، فإن من فعل هذا وصولح عليه بمال فتشمله الدية، انتهى.

قلت: وهذا على ما اختاره الشرَّاح، وأما ما اخترت كما تقدم من أن المصنف أشار بهذه الآية إلى مقابل الدية وهو القصاص، فلا يحتاج حينئذٍ

(1)

"فتح الباري"(12/ 188).

(2)

كذا في الأصل، والظاهر بدله:"ودى"، (ز).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 134).

ص: 553

إلى ذكر مناسبة الآية بالترجمة فإن الآية حينئذٍ كأنها جزء من الترجمة، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال القسطلاني

(1)

: والدية هي المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها، وهي مأخوذة من الودي، وهو دفع الدية، انتهى.

قلت: وههنا شيء آخر وهو الأرش، وفرّق الفقهاء بينهما ففي "الدر المختار"

(2)

: الدية في الشرع: اسم للمال الذي هو بدل للنفس، والأرش: اسم للواجب فيما دون النفس، انتهى.

قلت: فعلى هذا بين الدية والأرش تباين، وقال ابن عابدين: قوله: الدية بدل النفس، زاد الإتقاني: أو الطرف، انتهى. فعلى هذا بينهما عموم [و] خصوص مطلقًا.

وفي "البدائع"

(3)

: الجناية على الآدمي في الأصل أنواع ثلاثة: جناية على النفس مطلقًا، وجناية على ما دون النفس مطلقًا، وجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه، وقال أيضًا في موضع آخر

(4)

: فهذه الأنواع مختلفة الأحكام، منها: ما يجب فيه القصاص، ومنها: ما يجب فيه دية كاملة، ومنها: ما يجب فيه أرش مقدر، ومنها: ما يجب فيه أرش غير مقدر، وهو المسمى بالحكومة، وفيه أيضًا في موضع آخر

(5)

: والأصل فيه، أي: في وجوب الدية نص الكتاب العزيز وهو قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] والنص وإن ورد بلفظ الخطأ لكن غيره ملحق به.

وقال ابن قدامة في "المغني"

(6)

: الأصل في وجوب الدية الكتاب والسُّنَّة والإجماع، أما الكتاب فذكر الآية المذكورة، وأما السُّنَّة فروى

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 319).

(2)

"رد المحتار"(10/ 230).

(3)

"بدائع الصنائع"(6/ 272).

(4)

"بدائع الصنائع"(6/ 370).

(5)

"بدائع الصنائع"(6/ 308).

(6)

"المغني"(12/ 5).

ص: 554

أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن، فيه الفرائض والسنن والديات، وقال فيه:"وإن في النفس مائة من الإبل"، رواه النسائي في "سننه" ومالك في "موطئه"، قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة، انتهى.

ثم لا يخفى عليك مطابقة هذه الأحاديث بكتاب الديات، فأما أن يوجد بما يستفاد من كلام العيني من أن في هذه الأحاديث زجرًا ووعيدًا شديدًا لمن يبتلى بهذا الأمر العظيم، أعني قتل النفس بغير حق، فلعل ولي القاتل يصالح أولياء المقتول على مال وهو الدية.

قلت: ويمكن أن يقال: إن المذكور في هذه الأحاديث هو المؤاخذة الأخروية لمن قتل نفسًا بغير حق، ولما لم يكن الحديث الدال على وجوب الدية صريحًا من شرط المصنف، وهو حديث عمرو بن حزم المشار إليه سابقًا، والدية من المؤاخذة الدنيوية أشار بإيراد أحاديث النوع الأول من المؤاخذة إلى أحاديث النوع الثاني منه، فتأمل، ففيه إيثار الأخفى على الأجلى كما هو من دأب المصنف، ويمكن أن يقال: إن المقصود من الدية والقصاص كما قالوا: هو التشفي، أي: تشفي أولياء القتيل بأخذ الدية أو بأخذ القصاص، وهذا التشفي يحصل أيضًا بهذه الأحاديث المذكورة ههنا، فإن فيهما زجرًا وتوبيخًا لمن يخوض في هذه الجريمة.

(1 -‌

‌ باب قول الله عز وجل {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة:

32])

قال ابن عباس: من حرم قتلها، قال الحافظ

(1)

: وصله ابن أبي حاتم، ومضى بيانه في تفسير سورة المائدة، انتهى.

قلت: وتقدم هناك ما كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: لما كان

(1)

"فتح الباري"(12/ 192).

(2)

"لامع الدراري"(9/ 62، 63).

ص: 555

الإحياء صفة خاصة للرب تبارك وتعالى وجب حمله على المجاز، فاحتاج إلى بيان معناه.

وفي هامشه: قال الخازن: قال أهل المعاني: قوله: {أَحْيَاهَا} على المجاز؛ لأن المحيي هو الله تبارك وتعالى في الحقيقة، فيكون المعنى ومن نجاها من الهلاك، انتهى.

ووجّه الرازي في "التفسير الكبير" نسبة فعل الواحد إلى الناس جميعًا بثلاثة وجوه، وبسط ابن كثير في معانيها، انتهى.

(2 -‌

‌ باب قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:

178])

لم يذكر المصنف حديثًا في هذا الباب، والنسخ مختلفة كما سيأتي في الباب الآتي.

قال الحافظ

(1)

: وهذه الآية أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص، وهو قول الجمهور، وخالفهم الكوفيون فقالوا: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي، وتمسكوا بقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45].

وفي "البدائع"

(2)

: ولا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات، وهو سلامة الأعضاء، ولا أن يكون مثله في الشرف والفضيلة، فيقتل سليم الأطراف بمقطوع الأطراف والأشل، ويقتل العالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والعاقل بالمجنون، والبالغ بالصبي، والذكر بالأنثى، والحر بالعبد، والمسلم بالذمي الذي يؤدي الجزية، وتجري عليه أحكام الإسلام.

وقال الشافعي رحمه الله: كون المقتول مثل القاتل في شرف الإسلام،

(1)

"فتح الباري"(12/ 198).

(2)

"بدائع الصنائع"(6/ 278).

ص: 556

والحرية شرط في وجوب القصاص، ونقصان الكفر والرق يمنع من الوجوب، فلا يقتل المسلم بالذمي ولا الحر بالعبد؛ لأن المساواة شرط وجوب القصاص، ولا مساواة بين المسلم والكافر، ولنا عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله سبحانه وتعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله جلت عظمته:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] من غير فصل بين قتيل وقتيل، ونفس ونفس، ومظلوم ومظلوم، فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل، إلى آخر ما بسط في ذلك.

(3 -‌

‌ باب سؤال القاتل حتى يقر. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر، وبعده حديث أنس في قصة اليهودي والجارية، ووقع عند النسفي وغيره بحذف "باب"، وصنيع الأكثر أشبه، وقد صرّح الإسماعيلي بأن الترجمة الأولى بلا حديث، انتهى.

قلت: ووجوه عدم ذكر الحديث تحت الباب كثيرة شهيرة تقدم ذكرها مرارًا.

ثم قال العيني

(2)

في شرح ترجمة الباب: أي: هذا باب في بيان سؤال الإمام القاتل، يعني: من اتهم بالقتل ولم تقم عليه البينة، ويسأله حتى يقر، فيقيم عليه الحد، انتهى.

قلت: عجب من العيني أنه تعرض لشرح أجزاء الترجمة، ولم يتعرض لشرح قول المصنف في الترجمة:"والإقرار في الحدود"، وكذا لم يتعرض غيره من الشرَّاح لغرض الترجمة، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أنه نبَّه بذلك على الفرق بين القصاص والحدود بأن ينبغي للإمام التجسس في الأول دون الثاني، فإن الحدود تندرئ بالشبهات بخلاف الجنايات فلها

(1)

"فتح الباري"(12/ 198).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 145).

ص: 557

أحكام أخر، وأيضًا الحدود من حقوق الله تعالى، والقصاص والديات من حقوق العباد.

(4 -‌

‌ باب إذا قتل بحجر أو بعصًا)

قال القسطلاني

(1)

: أي: هل يقتل بما قتل به أو بالسيف.

وقال الحافظ

(2)

: كذا أطلق ولم يبتّ الحكم إشارةً إلى الاختلاف في ذلك، ولكن إيراده الحديث يشير إلى ترجيح قول الجمهور، فإن حديث الباب حجة للجمهور، وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث:"لا قود إلا بالسيف" إلى آخر ما ذكر.

قلت: لا شكَّ في أن الحديث المذكور في هذا الباب حجة للجمهور في هذه المسألة، لكن الأوجه عندي: أن المصنف لم يذكر هذه المسألة ههنا، بل الغرض الذي ذكره الشرَّاح ههنا هو عندي غرض الترجمة الآتية قريبًا، يعني: من قوله: "باب من أقاد بحجر"، وأما المقصود من هذه الترجمة فهي الإشارة إلى مسألة أخرى خلافية، وهي اختلافهم في أنواع القتل، فمذهب الإمام مالك أن القتل نوعان: قتل العمد، وقتل الخطأ، وشبه العمد ليس بشيء عنده، بل هو داخل في العمد، وقال الجمهور: على ثلاثة أنواع: العمد، وشبه العمد، والخطأ، والمصنف مال في هذه المسألة إلى مذهب مالك، ولذا ترجم بقوله:"باب إذا قتل بحجر أو بعصًا".

قال صاحب "الهداية"

(3)

: فالعمد: ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب، وشبه العمد عند أبي حنيفة: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، ولا ما أجري مجرى السلاح، وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول الشافعي: إذا ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة فهو عمد، وشبه العمد: أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبًا كالعصا الصغيرة، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 333).

(2)

"فتح الباري"(12/ 200).

(3)

"الهداية"(2/ 442، 443).

ص: 558

(5 -‌

‌ باب قول الله: {أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة:

45])

قال الحافظ

(1)

: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب لكن الحكم الذي دلّت عليه مستمر في شريعة الإسلام، فهو أصل في القصاص في قتل العمد، واستدل بقوله:{النَّفسَ بِالنَّفْسِ} على تساوي النفوس في القتل العمد، فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرًّا أو عبدًا، وتمسك به الحنفية، وادعوا أن آية المائدة المذكورة في الترجمة ناسخة لآية البقرة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، وقال الجمهور: آية البقرة مفسرة لآية المائدة، انتهى.

قوله: (المفارق لدينه التارك للجماعة. . .) إلخ، قال صاحب "الفيض"

(2)

: هل المفارقة للدين وترك الجماعة أمران، أو معناهما واحد؟ فهما رأيان، فإن كان الأول كان من موجبات القتل أربعًا، وإلا ثلاثًا، ثم إن موجبات القتل سواها بعد تنقيح المناط راجعة إلى هذه الأمور، فهي أصول ودعامة، وعن أحمد: يجوز قتل كل مبتدع، انتهى.

(6 -‌

‌ باب من أقاد بحجر)

أي: حكم بالقودِ بفتحتين، وهو المماثلة في القصاص، كذا في "الفتح"

(3)

.

قال العيني

(4)

: أقاد، أي: اقتص من القود، وهو القصاص، انتهى.

والعجب من الشرَّاح أنهم لم يتعرضوا لغرض الترجمة بل كلهم ساكتون، والأوجه عندي كما تقدم قبل باب أن غرض المصنف من هذه

(1)

"فتح الباري"(12/ 201 - 204).

(2)

"فيض الباري"(6/ 378).

(3)

"فتح الباري"(12/ 205).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 149).

ص: 559

الترجمة هو ما ذكروه في الترجمة السابقة "باب إذا قتل بحجر"، وظاهر ألفاظ الترجمتين يؤيد ما اخترته إذ بوّب ههنا بلفظ "من أقاد" بخلاف السابقة إذ بوّب بقوله:"من قتل".

والمسألة خلافية وهي أن من قتل أحدًا بغير سيف يستوفى القصاص بمثل ما قتل، فإن قتله بعصًا أو بحجر أو بالخنق أو بالتغريق قتل بمثله، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قود إلا بالسيف، وعن أحمد روايتان كالمذهبين، وقال صاحب "الهداية"

(1)

: ولا يستوفى القصاص إلا بالسيف، وقال الشافعي: يفعل به مثل ما فعل إن كان فعلًا مشروعًا فإن مات وإلا تحزّ رقبته؛ لأن مبنى القصاص على المساواة، إلى آخر ما ذكره، ومستدل الحنفية قوله عليه الصلاة والسلام:"لا قود إلا بالسيف" قال الزيلعي

(2)

: روي ذلك من حديث أبي بكرة وابن مسعود وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم، ثم بسط الكلام على تخريجها.

قال العلامة العيني

(3)

: واحتجوا بما رواه الطحاوي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف" وأخرجه أبو داود الطيالسي، ولفظ:"لا قود إلا بحديدة"، وأجابوا عن حديث الباب بأنه نسخ بنسخ المثلة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، ثم أجاب العيني عما أوردوا على هذا الحديث فارجع إليه لو شئت.

وفي "الفيض"

(4)

: واعلم أن القتل بالمثقل داخل في العمد عند الجمهور، ولا عمد عندنا إلا القتل بالمحدد، فإذن هو شبه العمد، وفيه الدية دون القصاص، فالحديث عندنا محمول على السياسة، على أن الطحاوي حمله على قطع الطريق، انتهى.

(1)

"الهداية"(2/ 445).

(2)

"نصب الراية"(4/ 341)، (رقم 7757).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 146).

(4)

"فيض الباري"(6/ 377).

ص: 560

(7 -‌

‌ باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)

قال الحافظ

(1)

: ترجم بلفظ الخبر، وظاهره حجة لمن قال: إن الاختيار في أخذ الدية أو الاقتصاص راجع إلى أولياء المقتول، ولا يشترط في ذلك رضى القاتل، انتهى.

قال العيني

(2)

: واختلف العلماء في أخذ الدية من قاتل للعمد، فروي عن ابن المسيب والحسن وعطاء: أن ولي المقتول بالخيار بين القصاص وأخذ الدية، وبه قال الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الثوري والكوفيون: ليس له إذا كان عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، وبه قال مالك في المشهور عنه.

قال الحافظ

(3)

: واستدل بالحديث على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي، وهو قول الجمهور، وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل، قال الطحاوي: والحجة لهم حديث أنس رضي الله عنه في قصة الربيع عمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كتاب الله القصاص" فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله:"فهو بخير النظرين" أي: ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية.

ثم قال الحافظ: واستدل بالآية على أن الواجب في قتل العمد القود والدية بدل منه، وقيل: الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشافعي أصحهما الأول، انتهى.

قلت: وعن مالك في هذه المسألة روايتان، ففي "الشرح الكبير"

(4)

للدردير: إن أتلف مكلف معصومًا بإيمان أو أمان كالقاتل من غير المستحق

(1)

"فتح الباري"(12/ 205).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 151).

(3)

"فتح الباري"(12/ 209).

(4)

"الشرح الكبير" للدردير (4/ 237 - 240).

ص: 561

فالقود عينًا، فليس للولي أن يلزم الدية للجاني جبرًا، وإنما له أن يعفو مجانًا أو يقتص، وجاز العفو على الدية أو أكثر أو أقل منها برضا الجاني، وقال أشهب: له التخيير بين القود والعفو على الدية جبرًا وهو ضعيف، قال الدسوقي: والمذكور أولًا هو مذهب ابن القاسم، انتهى.

قلت: وكذا عن أحمد فيه روايتان، ففي "الشرح الكبير"

(1)

في فروع الحنابلة: اختلفت الرواية عن أحمد في موجب العمد، فروي عنه أن موجبه القصاص عينًا، قالوا: ليس للأولياء إلا القتل، إلا أن يصطلحا على الدية برضا الجاني، والمشهور في مذهب أحمد أن الواجب أحد شيئين، إلى آخر ما قال.

(8 -‌

‌ باب من طلب دم امرئ بغير حق)

أي: بيان حكمه، قاله الحافظ

(2)

وغيره، والمراد بالحكم الحكم الأخروي، وأما الحكم الدنيوي: وهو القصاص فقد تقدم سابقًا.

قال العيني

(3)

والقسطلاني تبعًا للكرماني: قوله: "ليهريق دمه" فإن قلت: الإهراق هو المحظور المستحق لمثل هذا الوعيد لا مجرد الطلب، قلت: المراد الطلب المرتب عليه المطلوب أو ذكر الطلب ليلزم في الإهراق بالطريق الأولى.

(9 -‌

‌ باب العفو في الخطأ بعد الموت)

قال الحافظ

(4)

: أي: عفو الولي لا عفو المقتول؛ لأنه محال، ويحتمل أن يدخل، وإنما قيده بما بعد الموت؛ لأنه لا يظهر أثره إلا فيه،

(1)

"الشرح الكبير" لابن قدامة (9/ 414).

(2)

"فتح الباري"(12/ 210).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 153)، "إرشاد الساري"(14/ 343)، "شرح الكرماني"(24/ 14).

(4)

"فتح الباري"(12/ 211، 212).

ص: 562

إذ لو عفا المقتول ثم مات لم يظهر لعفوه أثر؛ لأنه لو عاش تبين أن لا شيء له يعفو عنه.

وقال ابن بطال

(1)

: أجمعوا على أن عفو الولي إنما يكون بعد موت المقتول، وأما قبل ذلك فالعفو للقتيل، خلافًا لأهل الظاهر، فإنهم أبطلوا عفوَ القتيل، وحجة الجمهور أن الولي لما قام مقام المقتول في طلب ما يستحقه فإذا جعل له العفو كان ذلك للأصيل أولى، وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة من مرسل قتادة: أن عروة بن مسعود لما دعا قومه إلى الإسلام فرمي بسهم فقتل، عفا عن قاتله قبل أن يموت، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عفوه، انتهى.

قال العيني

(2)

: مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: "غفر الله لكم" لأن معناه عفوت عنكم؛ لأن المسلمين كانوا قتلوا اليمان أبا حذيفة خطأً يوم أُحد، فعفا حذيفة عنهم بعد قتله، انتهى.

لكن فيه أن الحديث موقوف، وليس من دأب المصنف الاستدلال بالموقوف، ويمكن أن يجاب عنه أن في هذا الحديث زيادة أخرجها أبو إسحاق الفزاري في "سننه" وهي قوله:"فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عنده خيرًا ووداه من عنده".

قوله: (حتى لحقوا بالطائف) قال صاحب "الفيض"

(3)

: ولم يذكر الراوي هذا الحرف إلا ههنا، وأظنه اختلاطًا منه، فإن هزيمة الكفار يوم أُحد في الكرة الأولى، قد ذكرها الآخرون أيضًا، أما أنهم لحقوا بالطائف الذي بمراحل من أحد، فلم يذكره أحد إلا هذا الراوي فلينظر، انتهى.

قلت: لم يتعرض له الحافظ ولا غيره، ووجّهه والدي الماجد مولانا محمد يحيى نوّر الله مرقده في حاشية نسخته، وهذا لفظه: أي: انهزم

(1)

"شرح ابن بطال"(8/ 512).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 154).

(3)

"فيض الباري"(6/ 380).

ص: 563

من المشركين الذين قاتلوا في أُحد يوم فتح مكة إلى الطائف كالوحشي ونحوه، انتهى.

(10 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً} الآية [النساء:

92])

الظاهر أن المقصود بهذه الترجمة بيان حكم قتل الخطأ، وهو الدية، فإن المذكور في هذه الآية هو الدية، وأما القصاص فقد تقدم مستقلًا في باب مفرد، واختلف النسخ ههنا، ففي بعض النسخ ذكرت هذه الآية بتمامها إلى قوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .

قال القسطلاني

(1)

: وهذه الآية أصل في الديات، فذكر فيها ديتين وثلاث كفارات، ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام، والكفارة دون الدية في قتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم، وذكر الدية والكفارة في قتل الذمي في دار الإسلام، ولم يذكر المؤلف في هذا الباب حديثًا عند الأكثر، انتهى.

وفي هامش المصرية: لم يذكر في هذا الباب حديثًا اكتفاءً بالآية، أو لأنه لم يجد حديثًا على شرطه، انتهى.

(11 -‌

‌ باب إذا أقرّ بالقتل مرة قتل به)

قال العلامة القسطلاني

(2)

: وسقط لفظ "باب" للنسفي، وقال بعد قوله:" {خَطَأً} الآية، وإذا أقر. . ." إلخ، ثم ذكر الحديث كغيره، وحينئذٍ فيحتاج إلى مناسبة بين الآية والحديث، ولم تظهر أصلًا، فالصواب كما في "الفتح": إثبات الباب كما في رواية غير النسفي، ومطابقة الحديث للترجمة مأخوذة من إطلاق قوله: فجيئ باليهودي فاعترف، فإنه لم يذكر فيه عددًا، والأصل عدمه، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 345).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 345).

ص: 564

ولم يذكر المذاهب، والمسألة وفاقية بين الأئمة الأربعة، فيكفي في القتل الإقرار مرةً واحدةً عند الأئمة الأربعة، وما حكى الشرَّاح من خلاف بعض الكوفيين في اشتراطهم الإقرار مرّتين مذهب غير الأحناف، فأراد الإمام البخاري بهذا الباب الردَّ على من اشترط العدد فيه.

وفي "الدر المختار"

(1)

في بيان الفرق بين الحدود والقصاص: أن القصاص يثبت بإشارة الأخرس دون الحدود، انتهى.

وقال العيني

(2)

: قلت: اشتراط الكوفيين مرّتين في الإقرار قياس على اشتراط الأربعة في الزنا، ومطلق الاعتراف لا ينحصر على المرة، انتهى.

قلت: عجب من العلامة العيني أنه كيف أيّد قول الكوفيين، فإنه يشعر أنه مذهب الأحناف مع أنه ليس كذلك، فإن مذهب الأحناف في هذا كالجمهور، وقد تقدم أنه يثبت عندنا بالإشارة، أي: في الأخرس فكيف بصريح الإقرار فتأمّل، وهكذا ذكر الشيخ الكَنكَوهي رحمه الله في بعض تقاريره، والشيخ الأنور

(3)

في "فيض الباري"

(4)

مذهب الأحناف موافقًا للجمهور كما في هامش "اللامع"

(5)

.

(12 -‌

‌ باب قتل الرجل بالمرأة)

قال العلامة العيني

(6)

: وهو قول فقهاء عامة الأمصار وجماعة العلماء، وشذّ الحسن، ورواه عن عطاء، فقالا: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدوا نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل، وروي مثله عن الشعبي عن علي رضي الله عنه، وبه قال عثمان البتي، وحجة الجماعة حديث الباب، انتهى.

(1)

انظر: "رد المحتار"(6/ 4 - 5).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 156).

(3)

كذا في الأصل، والظاهر أن يكون:"والشيخ أنور".

(4)

"فيض الباري"(6/ 380).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 167، 168).

(6)

"عمدة القاري"(16/ 157).

ص: 565

(13 -‌

‌ باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات)

قال العيني

(1)

: والجراحات جمع جراحة، ووجوب القصاص في ذلك قول الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس من الجراحات؛ لأن المساواة معتبرة في النفس دون الأطراف، ألا ترى أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بيد شلاء، والنفس الصحيحة تؤخذ بالمريضة، انتهى.

وأفاد الشيخ الكَنكَوهي كما في هامش "اللامع" عن "تقرير الشيخ المكي": قوله: "في الجراحات" قلنا: قد اضطربت الروايات فيه، فرجحنا سقوط القصاص فيما دون النفس بالقياس، انتهى. والبسط في هامش "اللامع"، فارجع إليه لو اشتقت.

وفي "الهداية"

(2)

: ولا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس، ولا بين الحر والعبد، أي: فيما دون النفس، ولا بين العبدين، خلافًا للشافعي إلا في الحر يقطع طرف العبد، فإنه لا يجب القصاص فيه عنده أيضًا، انتهى.

وفي "الفيض"

(3)

: ولا قصاص عندنا بين المرأة والرجل في الأطراف والجراحات التي لا يمكن المساواة فيها، أما في النفس ونحو قلع السن ففيه ذلك، وخالفنا البخاري في قصاص الجراحات، ولنا أثر ابن مسعود في "كتاب الأم" يدل على ما قلنا، انتهى.

قوله: (وجرحت أخت الربيع. . .) إلخ، قال القسطلاني

(4)

: وهذا طرف من حديث أخرجه مسلم، قال أبو ذر: الصواب الربيع بنت النضر عمة أنس، وهو موافق لما في البقرة من وجه آخر عن أنس: أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 157).

(2)

"الهداية"(2/ 449).

(3)

"فيض الباري"(6/ 381).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 348).

ص: 566

وقال الحافظ

(1)

: والحديث المشار إليه في سورة البقرة مختصر من حديث طويل أخرجه البخاري في الصلح بتمامه، قال النووي

(2)

: قال العلماء: المعروف رواية البخاري، ويحتمل أن يكونا قصتين، انتهى.

وبسط النووي الكلام على هذا الاختلاف، وحكى عن العلماء ما تقدم في كلام الحافظ، لكن جزم النووي بأنهما قضيتان.

أقول: لا شكّ أن المعروف في روايات البخاري أنها الربيع، وفي رواية مسلم:"أنها أخت الربيع"، ومال شرَّاح البخاري إلى ترجيح رواية البخاري، وجزم النووي بأنهما قصتان: إحداهما لأخت الربيع والثانية للربيع، فتعليق البخاري هذا أيضًا يؤيد ما اختاره النووي من تعدد القصتين، ولعل النووي لم يطلع على هذا التعليق، وإلا لذكره، فإنه يؤيد ما اختاره، والله تعالى أعلم.

وههنا قول آخر حكاه الحافظ

(3)

عن ابن حزم إذ قال: وقد جزم ابن حزم بأنهما قضيتان صحيحتان وقعتا لامرأة واحدة، إحداهما أنها جرحت إنسانًا، فقضي عليها بالضمان، والأخرى أنها كسرت ثنية جارية فقضي عليها بالقصاص، انتهى.

ومطابقة الحديث بالترجمة بما ذكره الحافظ

(4)

بقوله: والمراد من الحديث هنا: "لا يبقى أحد منكم إلا لدّ"، فإن فيه إشارةً إلى مشروعية الاقتصاص من المرأة بما جنته على الرجل؛ لأن الذين لدّوه كانوا رجالًا ونساءً، وقد ورد التصريح في بعض طرقه بأنهم لدوا ميمونة وهي صائمة من أجل عموم الأمر كما مضى في الوفاة النبوية، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: قوله: "وجرحت أخت. . ." إلخ، ولم تثبت فيه

(1)

"فتح الباري"(12/ 215).

(2)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 178).

(3)

"فتح الباري"(12/ 215).

(4)

"فتح الباري"(12/ 215).

(5)

"فيض الباري"(6/ 382).

ص: 567

قدم الراوي - كما تقدم -، وحينئذٍ فلا حجة له فيه، فما دام لم ينفصل الأمر على جليته لا ينبغي له أن يتمسك به، وأما قوله:"لا يبقى أحد منكم إلا لد" فليس من باب القصاص الذي نحن فيه، وبالجملة لم يأت المصنف بما يثبت مدعاه، انتهى.

(14 -‌

‌ باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان)

قال الحافظ

(1)

: قوله: أو اقتص، أي: إذا وجب له على أحد قصاص في نفس أو طرف هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم؟ وهو المراد بالسلطان في الترجمة، قال ابن بطال

(2)

: اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون السلطان، قال: وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده كما تقدم، قال: وأما أخذ الحق فإنه يجوز عندهم أن يأخذ حقه من المال خاصة إذا جحده إياه ولا بينة عليه، انتهى. وهكذا في "العيني"

(3)

.

قلت: وقد تقدم في أبواب المظالم والقصاص، وترجم المصنف هناك بقوله:"باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه"، وهي المسألة المعروفة بمسألة الظفر، وتقدم هناك تفصيل الاختلاف، فارجع إليه لو شئت.

وقلت: وأما إذا فقأ رجل عين الناظر كما في حديث الباب، فسيأتي حكمه وبيان الخلاف فيه فيما سيأتي في ترجمة مستقلة بقوله:"باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه".

ثم قال العيني

(4)

: قال الكرماني

(5)

: فإن قلت: هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، فلا يدلّ على جواز ذلك لآحاد

(1)

"فتح الباري"(12/ 216).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 517).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 159).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 160).

(5)

"شرح الكرماني"(24/ 18).

ص: 568

الناس؟ قلت: حكم أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم عام متناول للأمة، إلا ما دل دليل على تخصيصه به، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(1)

تحت الترجمة: يريد أن القصاص مختص بالسلطان، إلا أن أولياء المقتول لو اقتصوا من القاتل بعد إقامة البينة لا يقتص منهم للقاتل، غير أنهم آثمون، انتهى.

(15 -‌

‌ باب إذا مات في الزحام أو قتل)

ولابن بطال زيادة "به" أي: بالزحام، قاله القسطلاني

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: لم يجزم المصنف بالحكم كما جزم به في الذي بعده لوجود الاختلاف في هذا الحكم، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

: وفي المسألة مذاهب، فقيل: تجب دية في بيت المال؛ لأنه مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت دية في بيت مال المسلمين، وقيل: تجب على جميع من حضر؛ لأنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم، وقال الشافعي: يقال لوليه: ادّع على من شئت واحلف، فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي، وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب، وقال مالك: دمه هدر؛ لأنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد، انتهى.

قلت: وحديث الباب قد تقدم في "باب العفو في الخطأ بعد الموت"، انتهى.

قال العيني

(5)

في شرح قوله: "أبي أبي" أي: قال حذيفة: هذا أبي أبي لا تقتلوه، ولم يسمعوا منه، فقتلوه ظانين أنه من المشركين فدعا لهم حذيفة.

(1)

"فيض الباري"(6/ 382).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 350).

(3)

"فتح الباري"(12/ 217).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 351).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 154، 155).

ص: 569

قال الكرماني: فدعا لهم وتصدق بديته على المسلمين، وقال الخطابي فيه: أن المسلم إذا قتل صاحبه خطأ عند اشتباك الحرب لازدحامات لا شيء عليه، وكذلك في جميع الازدحامات، إلا إذا فعله قاصدًا لهلاكه، انتهى.

قلت: وكذا الحكم عندنا الحنفية، ففي "الدر المختار"

(1)

: لا قود بقتل مسلم مسلمًا ظنه مشركًا بين الصفين لما مرّ أنه من الخطأ، بل القاتل عليه كفارة ودية، قالوا: هذا إذا اختلطوا، فإن كان في صف المشركين لا يجب شيء لسقوط عصمته، قال عليه الصلاة والسلام:"من كثر سواد قوم فهو منهم"، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: وإذا التقى الصفان من المسلمين، والمشركين، فقتل مسلم مسلمًا ظنَّ أنه مشرك فلا قود عليه، وعليه الكفارة؛ لأن هذا أحد نوعي الخطأ على ما بيّناه، والخطأ بنوعيه لا يوجب القود، ويوجب الكفارة، وكذا الدية على ما نطق به نص الكتاب، ولما اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية، انتهى.

(16 -‌

‌ باب إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له)

قال الإسماعيلي: قلت: ولا إذا قتلها عمدًا، يعني: أنه لا مفهوم لقوله: خطأ، والذي يظهر أن البخاري إنما قيّد بالخطأ لأنه محل الخلاف، قال ابن بطال: قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: تجب ديته على عاقلته، فإن عاش فهي له عليه، وإن مات فهي لورثته، وقال الجمهور: لا يجب في ذلك شيء، وقصة عامر هذه حجة لهم إذ لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في هذه القصة له شيئًا، ولو وجب لبيَّنها إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أجمعوا [على] أنه لو قطع طرفًا من أطرافه عمدًا أو خطأً لا يجب فيه شيء، انتهى

(3)

.

(1)

"رد المحتار"(10/ 178).

(2)

"الهداية"(2/ 447).

(3)

"فتح الباري"(12/ 218)، "شرح ابن بطال"(8/ 520).

ص: 570

وهكذا قال العيني

(1)

وفيه: قال الجمهور منهم ربيعة ومالك وأبو حنيفة والشافعي: لا شيء فيه.

(17 -‌

‌ باب إذا عضّ رجلًا فوقعت ثناياه)

أي: هل يلزمه فيه شيء أو لا؟ قاله الحافظ

(2)

. ثم قال في شرح الحديث: وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور، فقالوا: لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية؛ لأنه في حكم الصائل، واحتجوا أيضًا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحًا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، هكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض، وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك، إلى آخر ما ذكره الحافظ في تفصيل هذه المسألة والاختلاف فيها، فارجع إليه لو شئت

(3)

، وذكر العلامة العيني

(4)

مذهب الكوفيين في هذه المسألة كالجمهور.

(18 -‌

‌ باب السن بالسن)

قال الحافظ

(5)

: قال ابن بطال

(6)

: أجمعوا على قلع السن بالسن في العمد، واختلفوا في سائر عظام الجسد، فقال مالك: فيها القود، وذكر تفصيلًا في مذهب مالك، وقال الشافعي والحنفية: لا قصاص في العظم غير السن؛ لأن دون العظم حائلًا من جلد ولحم وعصب يتعذر معه المماثلة، إلى آخر ما في "الفتح".

قال القسطلاني

(7)

تحت حديث الباب: وهذا بخلاف غير السنّ من العظام لعدم الوثوق بالمماثلة فيها، وهذا مذهب الشافعية والحنفية،

(1)

"عمدة القاري"(16/ 162).

(2)

"فتح الباري"(12/ 219).

(3)

"فتح الباري"(12/ 222).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 163).

(5)

"فتح الباري"(12/ 224).

(6)

"شرح ابن بطال"(8/ 522).

(7)

"إرشاد الساري"(14/ 355).

ص: 571

وقال المالكية: بالقود في العظام، إلا ما كان مخوفًا، أو كان كالمأمومة والمنقلة والهاشمة ففيها الدية.

(19 -‌

‌ باب دية الأصابع)

أي: هل مستوية أو مختلفة؟ قاله الحافظ

(1)

. ثم قال تحت حديث الباب: قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، قلت: وبه قال جميع فقهاء الأمصار، وكان فيه خلاف قديم، فأخرج ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب عن عمر:"في الإبهام خمسة عشر، وفي السبّابة والوسطى عشرٌ عشرٌ، وفي البنصر تسع، وفي الخنصر ست"، وفي "جامع الثوري" عن عمر نحوه، وزاد: قال سعيد بن المسيب: "حتى وجد عمر في كتاب الديات لعمرو بن حزم: في كل أصبع عشر فرجع إليه"، انتهى

(2)

.

قال القسطلاني

(3)

: ولأبي داود والترمذي: "أصابع اليدين والرجلين سواء"، ولابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه:"الأصابع سواء كلهن فيه عشر عشر من الإبل" أي: فلا فضل لبعض الأصابع على بعض، وأصابع اليد والرجل سواء كما عليه أئمة الفتوى، انتهى.

(20 -‌

‌ باب إذا أصاب قوم من رجل. . .) إلخ

أي: إذا قتل أو جرح جماعة شخصًا واحدًا هل يجب القصاص على الجميع أو يتعين واحد ليقتص منه، ويؤخذ من الباقين الدية؟ فالمراد بالمعاقبة هنا المكافأة، انتهى من "الفتح"

(4)

.

وفي هامش النسخة المصرية تحت ترجمة الباب: وجواب الاستفهام

(1)

"فتح الباري"(12/ 225).

(2)

"فتح الباري"(12/ 226).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 355).

(4)

"فتح الباري"(12/ 227).

ص: 572

محذوف، أي: عوقبوا إن كانت الإصابة تقتضي حدًّا أو تعزيرًا، وقوصصوا إن كانت تقتضي مماثلة، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: قوله: "هل يعاقب" بفتح القاف مبنيًّا للمفعول، وفي رواية "يعاقبون" بلفظ الجمع، وفي أخرى "يعاقبوا" بحذف النون لغة ضعيفة، أي: يكافأ الذين أصابوه، ويجازون على فعلهم كما وقع في اللدود، "أو يقتص" بالبناء للمفعول، وقيل للفاعل فيهما "منهم كلهم" إذا قتلوه أو جرحوه أو يتعين واحد يقتص منه، ويؤخذ من الباقين الدية، والأول مذهب جمهور العلماء، وروي الثاني عن عبد الله بن الزبير ومعاذ، فلو قتله عشرة فله أن يقتل واحدًا منهم ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية، انتهى.

وفي "الهداية"

(2)

: وإذا قتل جماعة واحدًا عمدًا اقتص من جميعهم لقول عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم"، انتهى.

قال الكرماني

(3)

: فإن قلت: ما فائدة الجمع بين المعاقبة والاقتصاص؟ قلت: الغالب أن القصاص يستعمل في الذم والمعاقبة المكافأة والمجازاة، فيتناول اللد ونحوه، فلعل غرضه التعميم، ولهذا فسّرنا الإصابة بالتفجيع ليتناول الكل، انتهى.

وتوضيح المقام بحيث يتضح المرام أن المذكور في الترجمة هو أحد الشقين، أعني: الاقتصاص من الجميع، والشق الثاني غير مذكور ههنا، وهو ما ذكره الشرَّاح من أنه يتعين واحد منهم للاقتصاص، ويؤخذ الدية من الباقين فقول المصنف:"أو يقتص" ليس عديلًا لقوله: "يعاقب" كما يتوهم في بادئ الرأي، بل المجموع بيان لأحد الشقين.

ثم قال الكرماني: وإنما خص الاقتصاص بالذكر ردًا لمثل ما نقل عن

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 356).

(2)

"الهداية"(2/ 452).

(3)

"شرح الكرماني"(24/ 22).

ص: 573

ابن سيرين أنه قال في رجل يقتله رجلان: يقتل أحدهما وتؤخذ الدية من الآخر، وعن الشعبي: أنهما يدفعان إلى وليه، ويقتل من شاء منهما ويعفو عن الآخر، وعن الظاهرية: أنه لا قود بل الواجب الدية، انتهى.

قوله: (وقد أقاد أبو بكر من لطمة. . .) إلخ، سيأتي الكلام على تحقيق المسألة ومذاهب الأئمة في محله في "باب إذا لطم المسلم يهوديًا عند الغضب. . ." إلخ، في آخر هذا الكتاب.

(21 -‌

‌ باب القسامة)

قال العلامة العيني

(1)

: أي: هذا باب في بيان القسامة وأحكامها، والقسامة بفتح القاف وتخفيف السين مصدر أقسم قسمًا وقسامةً، وفي بعض النسخ:"كتاب القسامة" والصحيح أنها اسم للأيمان، وقال الأزهري: إنها اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال القاضي عياض

(3)

: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة والسلف، من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين، واختلفوا في صورة الأخذ به، وروي التوقف عن الأخذ به عن طائفة، فلم يرو القسامة ولا أثبتوا بها في الشرع حكمًا، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة وأبي قلابة وسالم بن عبد الله وإبراهيم بن علية، وإليه ينحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه، انتهى.

قال العيني

(4)

: في الحديث مشروعية القسامة في الدم، وهو أمر كان في الجاهلية، فأقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 170).

(2)

"فتح الباري"(12/ 235).

(3)

"الإكمال"(5/ 448).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 173).

ص: 574

قلت: وما قال القاضي عياض من أن الإمام البخاري لم يقل بالقسامة، كذا قال ابن المنيِّر كما سيأتي في كلام الحافظ، وهكذا قال الكرماني

(1)

: أي: أن ميل البخاري إلى عدم الأخذ بالقسامة، إذ قال في ذكر مذاهب الأئمة في المسألة: وأنكر البخاري بالكلية حكمها، وكذا طائفة أخرى كأبي قلابة ونحوه، قالوا: لا حكم لها ولا عمل بها، انتهى.

ومال القسطلاني

(2)

في أول "كتاب القسامة" تبعًا للقاضي على الظاهر إلى أن البخاري مال إلى عدم الأخذ بالقسامة، لكن حكى القسطلاني في آخر الباب ما سيأتي من كلام الحافظ الردّ على من قال: إن ميل البخاري إلى عدم الأخذ بحديث القسامة.

قال الحافظ

(3)

: نبَّه ابن المنيِّر

(4)

في الحاشية على النكتة في كون البخاري لم يورد في هذا الباب الطريق الدالة على تحليف المدعي، وهي مما خالفت فيه القسامة بقية الحقوق، فقال: مذهب البخاري تضعيف القسامة؛ فلهذا صدّر الباب بالأحاديث الدالة على أن اليمين في جانب المدعى عليه، وأورد طريق سعيد بن عبيد، وهو جار على القواعد، وإلزام المدعي البينة ليس من خصوصية القسامة في شيء، ثم ذكر حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في "كتاب الموادعة والجزية" فرارًا من أن يذكر ههنا فيغلط المستدل بها على اعتقاد البخاري، قال: وهذا الإخفاء مع صحة القصد ليس من قبيل كتمان العلم.

قال الحافظ: الذي يظهر لي أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي، بل يوافق الشافعي في أنه لا قود فيها، ويخالفه في أن الذي يحلف فيها هو المدعي، بل يرى أن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر، فيرد المختلف إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى

(1)

"شرح الكرماني"(24/ 24).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 363).

(3)

"فتح الباري"(12/ 239).

(4)

"المتواري"(ص 352).

ص: 575

عليه، فمن ثم أورد رواية سعيد بن عبيد في "باب القسامة"، وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر، وليس في شيء من ذلك تضعيف أصل القسامة، والله تعالى أعلم.

وهكذا قال العيني

(1)

: من أن البخاري ذهب إلى ترك القتل بالقسامة، لا إلى ترك القسامة رأسًا، وهذا هو الرأي عندي من أن البخاري لم ينكر القسامة برأسها كما قيل، وكذا عمر بن عبد العزيز كما تقدم من نقل كلام هؤلاء الجهابذة، وليت شعري كيف نسبوا إلى الإمام البخاري إنكار القسامة برأسها، وصنيعه في "صحيحه" يدلّ دلالةً واضحةً على أنه أنكر القود بالقسامة، فإنه ذكر فيه حديث أبي قلابة، وهو كما ترى لا يدلّ إلا على عدم القود بها.

وبسط الكلام في هذا المقام في هامش "اللامع"

(2)

أشد البسط.

ومحصل الكلام أن ههنا ثلاثة أمور:

الأول: ثبوت القسامة والأخذ بها، كما هو مسلك جمهور العلماء، ولم يخالفهم في ذلك الإمام البخاري كما تقدم مبسوطًا.

والثاني: أن بداءة الأيمان في القسامة على المدعى عليهم، كما هو مسلك الحنفية، واختاره البخاري كما تقدم في كلام الحافظ، ولذا صدّر الباب بقوله:"شاهداك أو يمينه".

وقال القسطلاني

(3)

تحت حديث الباب: وفي الحديث أن اليمين توجه أولًا على المدعى عليه لا على المدعي، كما في قصة نفر الأنصاريين، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(4)

: اعلم أن اليمين لا يتوجه عندنا في القسامة إلى المدعي، وكذا لا قصاص فيها على المدعى عليه، وأما فائدة الأيمان فتظهر في حق اكتشاف الحال، ووافقنا المصنف على ذلك، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 171).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 171 - 175).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 367).

(4)

"فيض الباري"(6/ 386).

ص: 576

والأمر الثالث: أن البخاري مال إلى ترك القود بالقسامة، قال العيني

(1)

تحت الحديث الأوّل من حديثي الباب: ذكر البخاري هذا الحديث مطابقًا لما قبله في عدم القود في القسامة، وأن الحكم فيها مقصور على البينة واليمين، انتهى.

وهكذا ذكر القسطلاني

(2)

تبعًا للعيني، والمسألة خلافية.

قال الحافظ

(3)

: واختلف القائلون بالقسامة في العمد هل يجب به القود أو الدية؟ فمذهب معظم الحجازيين إيجاب القود إذا كملت شروطها، وهو قول الزهري ومالك والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وداود، واختلف عن عمر بن عبد العزيز، انتهى.

وقال الكرماني: قال الشافعي وأبو حنيفة: تجب بها الدية لعدم العلم بشروط القصاص، وقال مالك وأحمد: يجب القصاص، انتهى.

قلت: ومذهب أحمد إيجاب القصاص بالقسامة في صورة العمد رواية واحدة، قال الموفق

(4)

: الأولياء إذا حلفوا استحقوا القود، وإذا كانت الدعوى عمدًا، وبه قال مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين، انتهى.

وكذا مذهب الإمام مالك إيجاب القصاص في صورة العمد، صرّح به مالك في "الموطأ" إذ قال مالك: فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم، وقتلوا من حلفوا عليه، ولا يقتل في القسامة إلا واحد، انتهى.

والمشهور من قولي الشافعي المنصور عند أتباعه إيجاب الدية لا القصاص، ولذا نقل عامة نقلة المذاهب مذهب الشافعي إيجاب الدية لا غير، ولذا أول النووي والخطابي وغيرهما من الشافعية قوله صلى الله عليه وسلم:"تستحقوا دم صاحبكم"، كذا في "الأوجز"

(5)

.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 172).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 367).

(3)

"فتح الباري"(12/ 235).

(4)

"المغني"(12/ 204).

(5)

"أوجز المسالك"(15/ 172).

ص: 577

ومذهب مالك وهكذا عندنا الحنفية تجب بالقسامة الدية لا القصاص، ففي "البدائع"

(1)

: هذا الذي ذكرنا حكم قتل نفس علم قاتلها، فأما حكم نفس لم يعلم قاتلها فوجوب القسامة والدية عند عامة العلماء رحمهم الله تعالى، وعند مالك رحمه الله وجوب القسامة والقصاص.

ثم ليعلم صورة القسامة مع ما فيه من خلاف الأئمة، فقال ابن قدامة

(2)

: إذا وجد قتيل في موضع، فادّعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة، ولم تكن بينهم عداوة ولا لوث، فهي كسائر الدعاوي، إن كانت لهم بينة حكم لهم بها، وإلا فالقول قول المنكر، وبهذا قال مالك والشافعي، فإن كان بينهم عداوة ولوث فادّعى أولياؤه على واحد، حلف الأولياء على قتاله خمسين يمينًا، واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدًا، فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبُرِّئَ، هذا ظاهر المذهب، وبه قال مالك والشافعي، وحكى أبو الخطاب روايةً أخرى عن أحمد أنهم يحلفون ويغرّمون الدية لقضية عمر، وهو قول أصحاب الرأي، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم"، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود، وأنه أدّاها من عنده، فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال، يعني: أدّى دية لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر، فأبى الأنصار أن يحلفوا، وقالو: كيف نقبل أيمان قوم كفار، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يُطَلَّ دمه، انتهى.

وأما عندنا الحنفية فعلى الأصل المتفق عليه من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ولا عبرة عندنا لحلف الأوليا، قال صاحب "الهداية"

(3)

: وإذا وجد القتيل في محلة، ولا يعلم من قتله، استحلف خمسون رجلًا منهم يتخيرهم الولي، بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلًا، فإذا

(1)

"بدائع الصنائع"(6/ 352).

(2)

"المغني"(12/ 189 - 221).

(3)

"الهداية"(2/ 497، 498).

ص: 578

حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية، وقال الشافعي: لا تجب الدية لقوله عليه الصلاة والسلام: "تبرئكم اليهود بأيمانها"، ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الدية والقسامة في حديث سهل، وقوله عليه الصلاة والسلام:"تبرئكم اليهود" محمول على الإبراء عن القصاص، ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف، انتهى مختصرًا.

قوله: (فدفعه إلى أخي المقتول. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: معناه أن عمر دفع المدعى عليه بعد تمام الأيمان إلى أخي المقتول، فقرنت يده إلى يده لئلا ينفلت، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ هو الحق الصواب، وهو المتعين من أن الضميرين في قوله:"يده بيده" يرجعان إلى القاتل وأخي المقتول، وهو ظاهر، والعجب من الشرَّاح قاطبةً أنهم زَلّت أقدامهم في شرح هذا الكلام إذ أرجعوا ضمير دفعه إلى الرجل الذي تم به الخمسون وفيه أوهام: الأوّل: أنه لا خصيصة لهذا الرجل من جملة خمسين رجلًا، والثاني: بقي التاسع والأربعون بدون القرين، والثالث: أنهم ارتكبوا المجاز في قوله: "انطلقنا والخمسون" بحمل خمسين على المجاز.

قال الكرماني

(2)

: فإن قلت: هم تسع وأربعون؟ قلت: مثل هذه الإطلاقات جائز من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، أو المراد الخمسون تقريبًا، انتهى.

والوجه الرابع: أنه يصح على هذا ما يأتي من قوله: "أفلت القرينان، فاتبعهما حجر فكسر رِجْلَ أخي المقتول" فإنه يصح على كلام الشيخ لا على كلام الشرَّاح؛ لأن القرينين على كلام الشرَّاح هو الرجل الذي جعلوه مكان الرجل الشامي، والثاني أخو المقتول، ولا وجه لبقاء هذا الرجل على كلامهم أنه كيف بقي من الهلاك؟ وقد هلك تسع وأربعون، وعلى كلام

(1)

"لامع الدراري"(10/ 181، 182).

(2)

"شرح الكرماني"(24/ 29).

ص: 579

الشيخ قُدِّس سرُّه هلك الخمسون الذين دخلوا الغار، وحلفوا كاذبين، وهلك أخو المقتول لكتمانه؛ ولذا تأخّر موته من الخمسين؛ لأن جريمته كانت غير جريمتهم، فتدبّر وتشكر، ويظهر من كلام صاحب "الفيض"

(1)

أن رأيه موافق في شرح هذا المقام لرأي الشيخ قُدِّس سرُّه.

(22 -‌

‌ باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له)

قال الحافظ

(2)

: كذا جزم بنفي الدية، وليس في خبره الذي ساقه تصريح بذلك، لكنّه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه على عادته.

قال القسطلاني

(3)

: واستدل بحديث الباب على جواز رمي من يتجسس، فلو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر، وقال المالكية بالقصاص، وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وهل يشترط الإنذار قبل الرمي؟ الأصح عند الشافعية لا، انتهى مختصرًا.

وفي هامش "اللامع"

(4)

: اختلفت نقلة المذاهب في بيان مسالك الأئمة، والتحقيق أنه هدر في أصح قولي الشافعي، وهو مذهب أحمد كما صرّح به في "الروض المربع"، وكذا في "زاد المعاد" لابن القيم، وأما عند الإمام مالك فقد حكى شرَّاح الحديث مذهبه القود مطلقًا، لكن الصواب في مسلكه ما قال الدردير المالكي: إن فيه القصاص في صورة العمد، والدية في الخطأ، وأما عندنا الحنفية فإن لم يمكن دفعه إلا بالفقأ فهو هدر، وإلا فالدية لا القصاص، فإن الحدود تندرئ بالشبهات، والحديث عندنا محمول على التغليظ والتشديد، صرّح به ابن عابدين وغيره، انتهى من هامش "اللامع"، والتفصيل فيه.

(1)

"فيض الباري"(6/ 393).

(2)

"فتح الباري"(12/ 243).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 372).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 183).

ص: 580

(23 -‌

‌ باب العاقلة)

بكسر القاف جمع عاقل، وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلًا تسميةً بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إبلًا، وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب وهم عصبة، وتحمل العاقلة الدية ثابت بالسُّنَّة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مخالف لظاهر قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، لكنه خصّ من عمومها ذلك لما فيه من المصلحة؛ لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله؛ لأن تتابع الخطأ منه لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

: العاقلة هم الذين يغرّمون الدية، وهم العصبات، وسمّاهم الفقهاء بكتاب المعاقل، والقياس فيه أن يكون كتاب العواقل، فإن المعاقل هي الديات، والمذكور في هذا الباب مسائل من تؤخذ منهم الدية، انتهى.

وبسط الكلام على العاقلة في "الأوجز"

(3)

، ومنه في هامش "اللامع"

(4)

، ففيه قال الموفق

(5)

: لا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات، وأن غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج، وكل من عدا العصبات ليسوا هم من العاقلة، واختلف في الآباء والبنين هل هم من العاقلة أو لا؟ وعن أحمد في ذلك روايتان، أحدهما: كل العصبة من العاقلة، يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، والقول الثاني: ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة، وهو قول الشافعي، قلت: وهذا كله إذا لم يكن الرجل من أهل الديوان، وإن كان من أهل الديوان

(1)

"فتح الباري"(12/ 246).

(2)

"فيض الباري"(6/ 395).

(3)

"أوجز المسالك"(14/ 594).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 184، 185).

(5)

"المغني"(12/ 39).

ص: 581

فالدية على أهل الديوان، وهذا عندنا، قال الموفق

(1)

: لا مدخل لأهل الديوان في المعاقلة، وبهذا قال الشافعي، واختلف قول المالكية في اعتبار الديوان وعدمه.

ثم اعلم أنه يردّ على ظاهر تبويب المصنف أنه لا يطابق الحديث بالترجمة، فإن ظاهر الباب بيان العاقلة من هم، وليس لها ذكر في الحديث، ولم يتعرض لذلك أحد من الشرَّاح.

قال العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان العاقلة، وهو جمع عاقل، وهو دافع الدية، ثم قال تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة في قوله: "العقل" وهو الدية.

وقال القسطلاني

(3)

في شرح الحديث: قوله: "العقل" أي: الدية، ومقاديرها وأصنافها، انتهى.

فعلى ظاهر كلام الشرَّاح لا مطابقة بين الحديث والترجمة، والأوجه عندي: أن غرض الإمام البخاري ليس بيان العاقلة، بل للغرض بيان إثبات تحمل العاقلة الدية، لأنه بظاهره يخالف قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، والمراد بالعقل في الحديث تحمل العقل، أشار إلى ذلك الكرماني

(4)

، إذ قال: أراد بالعقل ما تتحمله العاقلة، وذلك أن ظاهره يخالف الكتاب، وهو قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، انتهى. وعلى هذا المطابقة ظاهرة.

(24 -‌

‌ باب جنين المرأة)

الجنين وزن عظيم: حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيًّا فهو ولد، أو ميتًا فهو سقط، وقد يطلق عليه

(1)

"المغني"(12/ 42).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 181).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 373).

(4)

"شرح الكرماني"(24/ 32).

ص: 582

جنين، انتهى

(1)

.

قال العيني

(2)

: أي: هذا باب في بيان حكم جنين المرأة، انتهى.

والمراد واضح، أي: ماذا تجب في إملاصه وإسقاطه، وترجم الإمام أبو داود بقوله:"باب دية الجنين" وهو أوضح في المراد، ولم يذكر المصنف الحكم لظهوره من حديث الباب وهو الغرة، واختلف العلماء في مصداقها فقيل: العبد الأبيض أو الأمة البيضاء؛ لأن أصل الغرة بياض في الوجه، وقالت الأئمة الأربعة: هما يجزئان مطلقًا، وإن كانا أسودين، ولا يجزئ غيرهما.

قال ابن قدامة

(3)

: في جنين الحرة المسلمة غرة، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، فإن قيل: فقد روي في هذا الحديث: "أو فرس أو بغل" قلنا: هذا لا يثبت، رواه ابن يونس ووهم فيه، قاله أهل النقل، والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه:"عبد أو أمة"، وقال عروة وطاوس ومجاهد: الغرة عبد أو أمة أو فرس، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه، قال الشعبي: وإن كان الجنين مملوكًا ففيه عشر قيمة أمه سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرًا، وعشر قيمته إن كان أنثى.

ثم قال الموفق

(4)

: الغرة قيمتها نصف عشر الدية، وهي خمس من الإبل، وبه قال النخعي والشعبي وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. وفي "الهداية"

(5)

: وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا ميتًا ففيه غرة، وهي نصف عشر الدية، يعني: دية الرجل، وهذا في الذكر، وفي

(1)

"فتح الباري"(12/ 247).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 182).

(3)

"المغني"(12/ 60 - 65).

(4)

"المغني"(12/ 66).

(5)

"الهداية"(2/ 471، 472).

ص: 583

الأنثى عشر دية المرأة، وكل منهما خمس مائة درهم، والقياس أن لا يجب شيء؛ لأنه لم يتيقن بحياته، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق ووجه الاستحسان، ثم ذكر حديث الباب، ثم قال: وفي جنين الأمة إذا كان ذكرًا نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، وعشر قيمته لو كان أنثى، انتهى.

وهذا، أي: خمس مائة درهم عندنا، وعند الجمهور خمسون دينارًا أو ست مائة درهم، وذلك لأنهم اختلفوا في مقدار الدية من حيث الدراهم، فعند الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة مقدار اثنا عشر ألف درهم، وعند الحنفية عشرة آلاف درهم، والبسط في محله.

(25 -‌

‌ باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد. . .) إلخ

ولا يخفى أن الغرض من هذه الترجمة الجزء الثاني منه، وهو قوله:"إن العقل على الوالد. . ." إلخ، فلا تكرار بين الترجمتين على ما يتوهم في بادئ الرأي.

وفي "الفيض"

(1)

: يعني أن دية المجنية تستوفي من الوالد وعصبته، لا من ولد الجانية، وقد مرّ مني أن ولد الجانية إن كان من قوم أمها يعد من العصبات أيضًا، وإلا لا، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: قوله: لا على الولد إذا لم يكن من عصبتها؛ لأن العقل على العصبة دون ذوي الأرحام، ولذا لا يعقل الإِخوة من الأم، انتهى.

واستشكل مطابقة الحديث بالترجمة كما بسطه الحافظ

(3)

، والمختصر ما قاله القسطلاني

(4)

حيث قال: وليس في الحديث هنا إيجاب العقل على الوالد، فلا مطابقة، وأجيب بأنه ورد في بعض طرق القصة بلفظ الوالد كما جرت عادة المؤلف بمثل ذلك ليحضّ الطالب على البحث على جميع الطرق، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 396).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 377).

(3)

"فتح الباري"(12/ 252، 253).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 378).

ص: 584

(26 -‌

‌ باب من استعار عبدًا أو صبيًا. . .) إلخ

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح:"استعان" بدل "استعار"، قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر بالنون، وللنسفي والإسماعيلي:"استعار" بالراء.

قال الكرماني

(2)

: ومناسبة الباب للكتاب أنه لو هلك وجبت قيمة العبد أو دية الحر، انتهى.

وقال العيني

(3)

: ووجه ذكر هذا الباب في "كتاب الديات" هو أنه إذا هلك العبد في الاستعمال وجبت الدية، واختلفوا في دية الصبي، وفي "التوضيح"

(4)

: إن استعان حرًّا بالغًا متطوعًا أو بإجارة، وأصابه شيء فلا ضمان عليه عند الجميع، إن كان ذلك لا غرر فيه، وإنما يضمن من جنى أو تعدى، واختلف إذا استعمل عبدًا بالغًا في شيء فعطب، فقال ابن القاسم: إن استعمل عبدًا في بئر يحفرها ولم يؤذن له سيده في الإجارة، فهو ضامن إن عطب، وكذلك إذا بعثه إلى سفر بكتاب، وروى ابن وهب عن مالك: لا ضمان عليه سواء أذن له سيده في الإجارة أو لم يأذن، إلى آخر ما ذكر.

قال الحافظ

(5)

: قال ابن بطال: إنما اشترطت أم سلمة الحر؛ لأن جمهور العلماء يقولون: من استعان حرًّا لم يبلغ أو عبدًا بغير إذن مولاه فهلكا من ذلك العمل فهو ضامن لقيمة العبد، وأما دية الحر فهي على عاقلته، ثم ذكر الحافظ أقوالًا أخر في وجه هذا الاشتراط المذكور في الحديث، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(12/ 253).

(2)

"شرح الكرماني"(24/ 35).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 186).

(4)

"التوضيح"(31/ 472).

(5)

"فتح الباري"(12/ 253).

ص: 585

(27 -‌

‌ باب المعدن جبار)

قال الحافظ

(1)

رحمه الله تعالى: كذا ترجم ببعض الخبر، وأفرد بعضه بعضًا، وترجم في الزكاة البقية، وقد تقدم في "كتاب الشرب" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بتمامه، وبدأ فيه بالمعدن، وثنى بالبئر.

قال العيني

(2)

: جبار بضم الجيم وتخفيف الموحدة، أي: هدر لا شيء فيه، ومعنى "المعدن جبار" أن يحفر معدنًا في موات أو في ملكه فيهلك فيه الأجير أو غيره ممن يمرّ به فلا ضمان عليه في ذلك، وقوله:"والبئر جبار" يعني: إذا احتفر بئر للسبيل في ملك أو موات، فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها، ويقال: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك، تكون في البادية، فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، انتهى.

وهكذا في "الفتح"

(3)

، وزاد: وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان، فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك فضمنوا حافر البئر مطلقًا قياسًا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص، انتهى.

قلت: النقل عن الحنفية ليس بصحيح، فقال الإمام محمد في "موطئه"

(4)

تحت حديث الباب: وبهذا نأخذ، والبئر والمعدن، الرجل يستأجر

(5)

الرجل يحفر له بئرًا ومعدنًا، فيسقط عليه، فيقتله فذلك هدر، انتهى.

وفي "الهداية"

(6)

: ومن حفر بئرًا في طريق المسلمين أو وضع حجرًا

(1)

"فتح الباري"(12/ 254).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 187).

(3)

"فتح الباري"(12/ 255).

(4)

"التعليق الممجد"(3/ 29).

(5)

في الأصل: "يستأذن" وهو تصحيف.

(6)

"الهداية"(2/ 474، 475).

ص: 586

فتلف بذلك إنسان فديته على عاقلته، والمراد بالطريق الطريق في الأمصار دون الفيافي والصحارى؛ لأنه لا يمكن العدول عنه في الأمصار غالبًا دون الصحارى، انتهى.

قلت: فلعل هذه المسألة هو منشأ ما نقل عن الحنفية ابن بطال، وحاصل مذهبنا أنه لو حفر شخص بئرًا في الأمصار في غير ملكه، فتلف به إنسان فحينئذٍ تجب الدية عندنا، وأما لو حفر في الفيافي والصحارى فلا دية عليه كما تقدم، وكذا لو حفر في ملكه ولو في المصر لم يضمن كما في "الهداية" حيث قال: وكذا إن حفر في ملكه، يعني: كما إذا أمره الإمام فحفر في طريق المسلمين لم يضمن ما تلف به، كذلك إذا حفره في ملكه وإن لم يأذن له الإمام لم يضمن، انتهى من "الهداية" مع زيادة من هامشه.

وهذا الاختلاف في مسألة حفر البئر والمعدن، وأما مسألة جرح العجماء فسيأتي الخلاف فيه في الباب الآتي.

(28 -‌

‌ باب العجماء جبار)

قال الحافظ

(1)

: أفردها بترجمة لما فيها من التفاريع الزائدة عن البئر والمعدن، انتهى. ومسألة الباب خلافية.

قال العلامة العيني

(2)

: واحتج بحديث الباب أبو حنيفة رحمه الله تعالى على أنه لا ضمان فيما أتلفته البهائم مطلقًا سواء فيه الجرح وغيره، وسواء فيه الليل والنهار، وسواء كان معها أو لا، إلا أن يحملها الذي معها على الإتلاف، أو يقصده، فحينئذٍ يضمن لوجود التعدي منه، وهو قول داود وأهل الظاهر، وقال مالك والشافعي وأحمد: إن كان معها أحد من مالك أو مستأجر أو مستعير وغيرهم وجب عليه ضمان ما أتلفته، وحملوا الحديث على ما إذا لم يكن معها أحد، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"فتح الباري"(12/ 256).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 187، 188).

ص: 587

قلت: وما حكى العيني في مذهب الحنفية من قوله: سواء كان معها أو لا، مخالف لما في كتبنا، فإنهم صرّحوا بأن عدم الضمان عندنا فيما إذا لم يكن معها سائق ولا قائد، نعم لا فرق عندنا بين الليل والنهار كما قال به الجمهور، ففي "الهداية"

(1)

: الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها، أو كدمت، ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها، والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها، والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها، ثم قال: ولو انفلتت الدابة فأصابت مالًا أو آدميًا ليلًا أو نهارًا لا ضمان على صاحبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "جرح العجماء جبار" قال محمد رحمه الله: هي المنفلتة، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

عن "الشرح الكبير"

(3)

لابن قدامة: يضمن ما أفسدت من الزرع والشجر ليلًا، ولا يضمن ما أفسدت من ذلك نهارًا، إذا لم يكن يد أحد عليها، وهذا قول مالك والشافعي، وقال الليث: يضمن مالكها ما أفسدته ليلًا ونهارًا بأقلّ الأمرين من قيمتها وقدر ما أتلفته، وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه بحال لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار"، انتهى.

قلت: وقال الإمام مالك في "الموطأ"

(4)

: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل فالضمان على أهلها، قال صاحب "المحلى" نقلا عن "شرح السُّنَّة"

(5)

: لأن في العرف أن أصحاب الحوائط يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي بالليل، فمن خالف هذه العادة كان خارجًا عن رسوم الحفظ، وفيه أيضًا: قال أبو حنيفة: لا ضمان فيها إذا لم يكن المالك معها ليلًا ولا نهارًا لحديث "العجماء جبار"، انتهى.

(1)

"الهداية"(2/ 479، 480).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 186، 187).

(3)

"الشرح الكبير"(5/ 454).

(4)

"التعليق الممجد"(3/ 31).

(5)

"شرح السُّنَّة"(8/ 236).

ص: 588

(29 -‌

‌ باب إثم من قتل ذميًّا بغير جرم)

قال القسطلاني

(1)

: ذميًّا يهوديًّا أو نصرانيًا بغير حق.

وقال العيني

(2)

: "بغير جرم" أي: بغير موجب شرعي لقتله، ثم قال تحت حديث الباب: مطابقته بالترجمة غير ظاهرة؛ لأن الترجمة بالذمي وهو كتابي عقد معه عقد الجزية، وأجاب الكرماني بأن المعاهد أيضًا ذمي لاعتبار أن له ذمة المسلمين وفي عهدهم، فالذمي أعم من ذلك.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "بغير جرم" وقد بينت في الجزية حكمة هذا القيد، وأنه وإن لم يذكر في الخبر فقد عرف من قاعدة الشرع، والذمي منسوب إلى الذمة، وهو العهد، ومنه "ذمة المسلمين واحدة".

ثم قال الحافظ: ترجم بالذمي، وأورد الخبر في المعاهد، وترجم في الجزية بلفظ "من قتل معاهدًا" كما هو ظاهر الخبر، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم، وكأنه أشار بالترجمة إلى رواية مروان بن معاوية المذكورة - أي: في "الفتح" - فإن لفظه: "من قتل قتيلًا من أهل الذمة"، انتهى.

(30 -‌

‌ باب لا يقتل المسلم بالكافر)

قال الحافظ

(4)

: عقب هذه الترجمة بالتي قبلها للإشارة إلى أنه لا يلزم من الوعيد الشديد على قتل الذمي أن يقتص من المسلم إذا قتله عمدًا، وللإشارة إلى أن المسلم إذا كان لا يقتل بالكافر فليس له قتل كل كافر بل يحرم عليه قتل الذمي والمعاهد بغير استحقاق، انتهى.

قلت: وما ذكر الحافظ بقوله: إنه للإشارة إلى أنه لا يلزم من الوعيد. . . إلخ، مبني على مسلك الجمهور القائلين بأن المسلم لا يقتل

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 383).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 190).

(3)

"فتح الباري"(12/ 259).

(4)

"فتح الباري"(12/ 260).

ص: 589

بالذمي خلافًا للحنفية، كما سيأتي الاختلاف في ذلك، ثم قال

(1)

تحت حديث الباب: أما ترك قتل المسلم بالكافر فأخذ به الجمهور، وخالف الحنفية فقالوا: يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق، ولا يقتل بالمستأمن، وعن الشعبي والنخعي: يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي، واحتجّوا بما وقع عند أبي داود عن علي:"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده"، إلى آخر ما بسطه من وجه استدلال الفريقين.

قال القسطلاني

(2)

من قبل الحنفية في شرح هذا الحديث: أي: لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، قالوا: وهو من عطف الخاص على العام، فيقتضي تخصيصه؛ لأن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له والأعلى، فلا يبقى من يقتل به المعاهد إلا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي لتسويته بين المعطوف والمعطوف عليه، وقال الطحاوي: لو كانت فيه دلالة على نفي قتل المسلم بالذمي لكان وجه الكلام أن يقول: ولا ذي عهد في عهده، وإلا لكان لحنًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص، وصار التقدير لا يقتل مؤمن ولا ذمي ولا ذو عهد في عهده بكافر، وتعقب بأن الأصل عدم التقدير، والكلام مستقيم بغيره إذا جعلنا الجملة مستأنفة، انتهى.

قلت: قال الجمهور: معنى الحديث لا يقتل مسلم بكافر قصاصًا، ولا يقتل من له عهد ما دام في عهده باقيًا، فجعلوا قوله:"ولا ذو عهد" في جملة مستأنفة.

(31 -‌

‌ باب إذا لطم المسلم يهوديًا عند الغضب)

قال الحافظ

(3)

: أي: لم يجب عليه قصاص، كما لو كان من أهل الذمة، وكأنه رمز بذلك إلى أن المخالف يرى القصاص في اللطمة، فلما

(1)

"فتح الباري"(12/ 261).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 386).

(3)

"فتح الباري"(12/ 263).

ص: 590

لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للذي من المسلم دلّ على أنه لا يجري القصاص، لكن ليس كل الكوفيين يرى القصاص في اللطمة، فيختص الإيراد بمن يقول منهم بذلك.

قال العيني

(1)

: وفي "التوضيح"

(2)

: وهذه المسألة إجماعية لأن الكوفيين لا يرون القصاص في اللطمة ولا الأدب، إلا أن يجرحه ففيه الأرش، انتهى.

وفي "الدر المختار"

(3)

: قال في "المجتبى": ولا قود في جلد رأس وبدن، ولحم خد وبطن وظهر، ولا في لطمة ووكزة، انتهى.

وهذا تصريح بأنه لا قصاص عندنا في اللطمة، والظاهر أن وجهه أنه لا يتحقق المماثلة فيه، ففرق بين لطمة ولطمة ووكزة ووكزة.

وقد تقدم - في "باب إذا أصاب قوم من أجل. . ." إلخ - قول البخاري تعليقًا: وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي من لطمة إلخ.

قال الحافظ

(4)

في شرحه: قال ابن بطال

(5)

: جاء عن عثمان وخالد بن الوليد نحو قول أبي بكر، وهو قول الشعبي وطائفة من أهل الحديث، والمشهور عن مالك، وهو قول الأكثر: لا قود في اللطمة إلا إن جرحت ففيها حكومة، والسبب فيه تعذر المماثلة لافتراق لطمتي القوي والضعيف، فيجب التعزير بما يليق باللاطم، وقال ابن القيم: بالغ بعض المتأخرين، فنقل الإجماع على عدم القود في اللطمة والضرب، وإنما يجب التعزير، وذهل في ذلك، إلى آخر ما في "الفتح".

وفي "الفيض"

(6)

: ولا قصاص في اللطمة عندنا، نعم للقاضي أن يعزر بما شاء، ثم إنه حكم القضاء، أما الديانة فمن يدخل فيها، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 192).

(2)

"التوضيح"(31/ 497).

(3)

"رد المحتار"(10/ 243).

(4)

"فتح الباري"(12/ 229).

(5)

"شرح ابن بطال"(8/ 527).

(6)

"فيض الباري"(6/ 384).

ص: 591

قلت: والحافظ ابن القيم قد بسط الكلام على المسألة في "إعلام الموقعين"

(1)

في فصل مستقل، وفيه: قالت الحنفية والمالكية والشافعية ومتأخرو أصحاب أحمد: إنه لا قصاص في اللطمة والضربة، وإنما فيه التعزير، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع.

ثم رجح الحافظ ابن القيم أن فيه القصاص، وقال: وهو منصوص الإمام أحمد، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه "المترجم" له:"باب في القصاص من اللطمة والضربة": حدثني إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة؟ فقال: عليه القود من اللطمة والضربة، وبه قال أبو داود، وقال إبراهيم الجوزجاني: وبه أقول، ثم ذكر الروايات العديدة في تأييد القصاص، ثم قال: وهذا ظاهر القرآن وهو محض القياس، فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد، وقالوا: اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة، والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ثم ردّ على مسلك الجمهور أشد الردّ، فارجع إليه لو شئت.

وقد ظهر بذلك سخافة ما قال الشرَّاح في شرح ترجمة البخاري هذه من أن ليس كل الكوفيين يرى القصاص في اللطمة فيختص الإيراد بمن يقول منهم إلخ، ولم يدر الشرَّاح أن الحنفية قاطبةً لم يقولوا بالقصاص في اللطمة، والتحقيق أن هذا، أي: القصاص في اللطمة مذهب الإمام أحمد، وخالف فيه الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة.

قوله: (لا تخيروني. . .) إلخ، في هامش المصرية: أي: تخييرًا يوجب نقصًا، أو قال ذلك تواضعًا، أو قبل علمه بأنه أفضل، انتهى.

وهذا آخر "كتاب الديات"، وبراعة الاختتام عندي في قوله:"فإن الناس يصعقون يوم القيامة".

(1)

"إِعلام الموقعين"(3/ 68 - 72).

ص: 592

88 -

‌ كتاب استتابة المعاندين والمرتدين وقتالهم. . . إلخ

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "الفتح"

(1)

و"العيني": "كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله تعالى" إذ قال الحافظ: كذا في رواية الفربري، وسقط لفظ "كتاب" من رواية المستملي، وفي رواية القابسي بعد قوله:"وقتالهم": "وإِثم من أشرك. . ." إلخ، وحذف لفظ "باب"، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: لم يتعرض لغرض الترجمة أحد من الشرَّاح، والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري ترجم بلفظين: استتابة المرتدين وقتالهم، وأشار بذلك عندي إلى بداية الاستتابة قبل القتال، لكن مال ابن بطال إلى خلافه كما سيأتي، والمسألة خلافية شهيرة بسطت في "الأوجز"

(3)

، ففيه في قوله صلى الله عليه وسلم:"من غيَّر دينه فاضربوا عنقه" خمسة أبحاث.

الأول: في الاستتابة، وسيأتي مبسوطًا، البحث الثاني: إذا ثبت وجوب الاستتابة فاختلفوا في مدّته، الثالث: في قبول توبته، الرابع: هل تدخل فيه المرأة المرتدة أم لا؟ وسيأتي في البخاري في باب مفرد، الخامس: هل يختص هذا الحكم بالارتداد عن الإسلام أو يعم الانتقال من دين كفر إلى دين كفر آخر؟ أما الأول وهو مقصود البخاري عندي ففي "الأوجز": قوله: "من غيَّر دينه" الحديث أوّله بعضهم بأن المراد بعد الاستتابة، وقال بعضهم: إنه محمول على الزنديق، وأنه لا يستتاب، وعليه

(1)

"فتح الباري"(12/ 264، 265).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 188).

(3)

"أوجز المسالك"(14/ 28 - 34).

ص: 593

حمله الإمام مالك، وقال ابن بطال: اختلف في استتابة المرتد فقيل: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو قول الجمهور، وقيل: يجب قتله في الحال، وبه قال الحسن وأهل الظاهر، وعليه يدلّ تصرف البخاري، فإنه استظهر بالآيات للتي لا ذكر فيها للاستتابة، وبعموم قوله:"من بدَّل دينه".

قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة، فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، وفي "المحلى": قال النووي: أجمعوا على قتله، واختلفوا في استتابته، فقال الأئمة الأربعة والجمهور: إنه يستتاب، ونقل ابن القصار إجماع الصحابة عليه، وقال أبو يوسف وابن الماجشون وغيرهما: لا يستتاب.

قلت: المعروف عن المالكية وجوب الاستتابة، صرّح به الزرقاني في شرح "الموطأ" كما في "الأوجز". وعن الحنفية: استحبابها كما في "الهداية" وغيره. قال صاحب "الهداية"

(1)

: وعن الشافعي أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك، انتهى.

قال ابن الهمام

(2)

: الصحيح من قولي الشافعي أنه إن تاب في الحال وإلا قتل، انتهى.

قال ابن قدامة في "المغني": لا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثًا، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن أحمد رواية أخرى أنه لا تجب استتابته لكن تستحب، وهذا القول الثاني للشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدَّل دينه فاقتلوه"، ولم يذكر استتابته، ثم قال: وإذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام، روي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مالك وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: إن تاب في الحال وإلا قتل مكانه، وهذا أصح قوليه، انتهى.

(1)

"الهداية"(1/ 406).

(2)

"فتح القدير"(5/ 308).

ص: 594

ذكر المصنف ههنا أربعة أحاديث، قال العيني

(1)

: مطابقتها بالترجمة - أي: بقوله: "إثم من أشرك بالله. . ." إلخ - ظاهرة، وقال تحت حديث ابن مسعود الحديث الرابع: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "ومن أساء في الإسلام" أخذ بالأول والآخر، لأن منهم من قال: المراد بالإساءة في الإسلام الارتداد من الدين، فيدخل في قوله: في إثم من أشرك بالله، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: الآية الأولى، أي: قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] دالة على أنه لا إثم أعظم من الشرك، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فالمشرك أصل من وضع الشيء في غير موضعه؛ لأنه جعل لمن أخرجه من العدم إلى الوجود مساويًا، فنسب النعمة إلى غير المنعم بها.

وبسط الحافظ الكلام على تفسير الآية الثانية قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، ونقل عن الطيبي أنه قال: وأما معنى اللبس فلبس الإيمان بالظلم أن يصدق بوجود الله، ويخلط به عبادة غيره، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وعرف بذلك مناسبة ذكر هذه الآية في أبواب المرتد، وكذلك الآية التي صدر بها.

(2 -‌

‌ باب حكم المرتد والمرتدة)

أي: هل هما سواء أم لا؟.

قوله: (واستتابتهم)، قال القسطلاني

(4)

: كذا ذكره بعد الآثار

(1)

"عمدة القاري"(16/ 194 - 196).

(2)

"فتح الباري"(12/ 265).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 569).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 393)، وانظر:"فتح الباري"(12/ 268)، و"عمدة القاري"(16/ 197).

ص: 595

المذكورة، وقدم ذلك في رواية أبي ذر على ذكر الآثار، وللقابسي:"واستتابتهما" بالتثنية، وهو أوجه، ووجه الجمع قال في "فتح الباري": على إرادة الجنس، وتعقبه العيني. فقال: ليس بشيء بل هو على قول من يرى إطلاق الجمع على التثنية، وفي هامش النسخة المصرية: قوله: "واستتابتهم" أي: المرتد والمرتدة، وجرى في جمعهما على القول بأن أقل الجمع الاثنان، وهو مقدم في نسخة على ما قبله، وهو أنسب، انتهى.

قلت: ومسألة الباب خلافية شهيرة، وهو البحث الرابع من الأبحاث الخمسة المذكورة في الباب السابق، ففي "الأوجز"

(1)

: قوله صلى الله عليه وسلم: "من غيَّر دينه فاضربوا عنقه" يعم الرجال والنساء أم لا؟ مسألة خلافية.

قال الموفق

(2)

: لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل، ويروى ذلك عن أبي بكر وعلي وغيرهما من التابعين، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق، وروي عن علي وغيره من بعض التابعين أنها تسترق ولا تقتل؛ لأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم، وأعطى عليًا منهم امرأة، فولدت له محمد ابن الحنفية، وكالن هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعًا، وقال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس والضرب، ولا تقتل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتلوا امرأة"، ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالطارئ كالصبي، انتهى من هامش "اللامع"

(3)

.

وقال الحافظ في "الفتح"

(4)

: قال ابن المنذر: قال الجمهور: تقتل المرتدة، وقال علي: تسترق، وقال عمر بن عبد العزيز: تباع بأرض أخرى، وقال الثوري: تحبس ولا تقتل، وأسنده عن ابن عباس، وقال أبو حنيفة: تحبس الحرة ويؤمر مولى الأمة أن يجبرها، انتهى.

وقال القسطلاني

(5)

: روى أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن

(1)

"أوجز المسالك"(14/ 31).

(2)

"المغني"(12/ 264).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 189).

(4)

"فتح الباري"(12/ 268).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 393).

ص: 596

ابن عباس: "لا تقتلُ النِّساءُ إذا هُنّ ارتددن" أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: باب حكم المرتد والمرتدة: أثبت المدعى بالعمومات والإطلاقات، انتهى.

ففي "هامشه": أشار الشيخ بذلك إلى دفع ما يرد على الإمام البخاري من أنه ترجم بالجزئين المرتد والمرتدة، وليس في أحاديث الباب ذكر المرتدة، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قتل من أبى قبول الفرائض)

قال الحافظ

(2)

: أي: جواز قتل من امتنع من التزام الأحكام الواجبة والعمل بها، قال المهلب: من امتنع من قبول الفرائض نظر فإن أقرّ بوجوب الزكاة مثلًا أخذت منه قهرًا ولا يقتل، فإن أضاف إلى امتناعه نصب القتال قوتل إلى أن يرجع، قال مالك في "الموطأ": الأمر عندنا فيمن منع فريضةً من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقًّا عليهم جهاده، قال ابن بطال

(3)

: مراده إذا أقرّ بوجوبها لا خلاف في ذلك، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

: قوله: "وما نسبوا" ما مصدرية، أي: نسبتهم إلى الردة، وقال الكرماني وتبعه البرماوي:"ما" نافية.

وقال العيني: الأظهر أنها موصولة، والتقدير: وقتل الذين نسبوا إلى الردة، انتهى.

واختار الحافظ

(5)

كونها مصدرية، وفسّره بقوله: أي: ونسبتهم إلى

(1)

"لامع الدراري"(10/ 189).

(2)

"فتح الباري"(12/ 275، 276).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 577).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 399).

(5)

"فتح الباري"(12/ 276).

ص: 597

الردة، ثم قال: وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي أورده.

قال العيني

(1)

في شرح ترجمة الباب: وهذا مختلف فيه، فمن أبى أداء الزكاة وهو مقرّ بوجوبها، فإن كان بين ظهرانينا ولم يطلب حربًا ولا امتنع بالسيف، فإنها تؤخذ منه قهرًا، وتدفع للمساكين، ولا يقتل، وإنما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف ونصبوا الحرب للأمة، وأجمع العلماء على أن من نصب الحرب في منع فريضة أو منع حقًّا يجب عليه لآدمي وجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر.

وأما الصلاة فمذهب الجماعة أن من تركها جاحدًا فهو مرتد فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض، واختلفوا فيمن تركها تكاسلًا، إلى آخر ما ذكر من المذاهب، انتهى.

وقد ذكر الكلام مبسوطًا على شرح حديث الباب في مبدأ "كتاب الزكاة" من هامش "اللامع"

(2)

.

وتكلم الجصاص في "أحكام القرآن"

(3)

تحت قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} الآية [التوبة: 5]، على ما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مانعي الزكاة، وذكر فيه حكم تارك الصلاة والزكاة، والفرق بين من تركها فعلًا وأداءً، ومن تركهما جحدًا وإباءً، وغير ذلك من الأحكام، وقال: من ترك الصلاة عامدًا وأصرّ عليه، ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه، فحينئذٍ لا يجب تخليته إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة، فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما، انتهى.

وكلامه هذا صريح في أنه لا فرق عندنا بين مانع الصلاة ومانع الزكاة في هذا الحكم.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 202).

(2)

"لامع الدراري"(5/ 6 - 15).

(3)

"أحكام القرآن"(3/ 82، 83).

ص: 598

(4 -‌

‌ باب إذا عرض الذمي وغيره بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم

-)

فسّر القسطلاني

(1)

الذمي باليهودي والنصراني، ثم قال:"وغيره" أي: غير الذمي كالمعاهد ومن يظهر إسلامه، "وعرّض" بتشديد الراء، أي: كنّى، ولم يصرح، انتهى.

قال الحافظ

(2)

في ذكر مناسبة الحديث بالترجمة: واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسبّ، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح، ولم يرد التعريض المصطلح، وهو أن يستعمل لفظًا في حقيقته يلوخ به إلى معنى آخر يقصده.

وقال ابن المنيِّر

(3)

: حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى؛ لأن الجرح أشدّ من السبّ، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لم يبت الحكم، انتهى.

قال العيني

(4)

: والظاهر أن البخاري اختار مذهب الكوفيين، فإن عندهم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه فإن كان ذميًا عزر ولا يقتل، وهو قول الثوري، وقال أبو حنيفة: إن كان مسلمًا صار مرتدًا بذلك، وإن كان ذميًا لا ينتقض عهده، وقال الطحاوي: وقول اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السام عليك، لو كان مثل هذا الدعاء من مسلم لصار به مرتدًّا يقتل، ولم يقتل الشارع الفاعل به من اليهود؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبّه، انتهى.

قلت: وحاصل ما سيأتي من مجموع المذاهب الأئمة الأربعة في مسألة الباب أن الذمي المذكور يقتل عند الجمهور، ولذا أوّلوا عدم قتله صلى الله عليه وسلم اليهود بقولهم: السام عليك، بوجوه من التأويلات، كما في الشروح،

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 400).

(2)

"فتح الباري"(12/ 281).

(3)

"المتواري"(ص 354).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 203، 204).

ص: 599

ومن جملتها ما قالوا: إنه لم يوجد ههنا معنى السبّ والطعن، بل هو دعاء عليه بالموت، ولكن على هذا يشكل مطابقة الحديث بترجمة الباب كما لا يخفى، ولو قلنا: إنّ البخاري اختار في هذه المسألة مسلك الحنفية فلا يرد شيء من الإيراد على عدم تعرضه صلى الله عليه وسلم لهذا اليهودي ولا من حيث مطابقة الحديث بالترجمة فتدبر.

وأما مسألة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فخلافية بين العلماء.

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: اختلف العلماء فيمن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، وعن مالك في المسلم: هي ردة يستتاب منها، وعن الكوفيين: إن كان ذميًا عزر، وإن كان مسلمًا فهي ردة، انتهى.

قلت: وتحقيق مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة على ما في كتب فروعهم هكذا، أما مسلك الشافعية ففي "شرح الإقناع"

(3)

وحاشيته في ذكر أسباب الردة: أو كذب رسولًا أو نبيًا أو سبّه أو استخف به أو باسمه إلى أن قال: ومن ارتد عن دين الإسلام بشيء مما تقدم بيانه استتيب وجوبًا قبل قتله ثلاثة أيام، فإن تاب صحّ إسلامه وترك وإلا قتل، انتهى.

قلت: وهذا في المسلم، وأما في حق الذمي ففيه أيضًا في موضع آخر

(4)

: فلو خالفوا - الشرائط المذكورة - فطعنوا في دين الإسلام أو في القرآن أو ذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بقدره العظيم عزّروا، والأصح أنه إن شرط انتقاض العهد بذلك انتقض وإلا فلا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 281).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 580).

(3)

"شرح الإقناع"(2/ 247).

(4)

"شرح الإقناع"(2/ 265).

ص: 600

وكذا قال النووي في "المنهاج"

(1)

: الأصح أنه إن شرط انتقاض العهد بها انتقض وإلا فلا، انتهى.

وأما مذهب المالكية فكما تقدم عن ابن بطال في كلام الحافظ، وهكذا في كتب فروعهم ففي "الشرح الكبير"

(2)

: وإن سبّ مكلّف نبيًا، أو عرّض أو لعنه أو استخف بحقه قتل، ولم يستتب حدًا إن تاب وإلا قتل كفرًا إلا أن يسلم الكافر فلا يقتل، أي: أن الساب يقتل مطلقًا ما لم يكن كافرًا فيسلم؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله، انتهى.

وفيه أيضًا في موضع آخر

(3)

في بيان أهل الذمة: وينتقض عهده بقتال وبسبّ نبي بما لم يكفر به، أي: بما لا يقر عليه، وقتل إن لم يسلم، انتهى.

وأما مذهب الحنابلة ففي "الروض المربع"

(4)

: ولا تقبل في الدنيا توبة من سبّ الله تعالى، أو سبّ رسوله سبًّا صريحًا أو تنقصه، بل يقتل لكل حال، انتهى.

وقال في أحكام أهل الذمة: فإن ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء انتقض عهده وحل دمه وماله، وإن أسلم حرم قتله، انتهى.

وأما مذهب الحنفية فقد بسط الكلام عليه صاحب "الدر المختار" وشارحه ابن عابدين، ففي "الدر المختار"

(5)

: وكل مسلم ارتد فتوبته مقبولة إلا الكافر بسبّ نبي من الأنبياء، فإنه يقتل حدًّا ولا تقبل توبته مطلقًا، أي: سواء جاء تائبًا بنفسه أو شهد عليه بذلك.

وبسط الكلام على المسألة ابن عابدين أشدّ البسط، وقال: ورأيت في "كتاب الخراج" لأبي يوسف ما نصه: وأيما رجل مسلم سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 311).

(2)

"الشرح الكبير"(4/ 309، 310).

(3)

"الشرح الكبير"(2/ 204، 205).

(4)

"الروض المربع"(ص 562 - 573).

(5)

"رد المحتار"(6/ 370 - 373).

ص: 601

أو كذبه أو عابه أو تنقصه فقد كفر بالله تعالى، وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك المرأة، إلا أن أبا حنيفة قال: لا تقتل المرأة، وتجبر على الإسلام، انتهى.

وهذا في حق المسلم، وأما الذمي ففي "الدر المختار"

(1)

في باب الجزية: ولا ينتقض عهده بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عابدين: أي: إذا لم يعلن، فلو أعلن بشتمه أو اعتاده قتل، ولو امرأة، وبه يفتى اليوم، وهذا إن لم يشترط انتقاضه به، أما إذا شرط انتقض به، انتهى.

قال في موضع آخر

(2)

في بيان أسباب الرد: والحاصل: أنه لا شك ولا شبهة في كفر شاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي استباحة قتله، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة، وإنما الخلاف في قبول توبته إذا أسلم، فعندنا - وهو المشهور عند الشافعية - القبول، وعند المالكية والحنابلة عدمه، بناءً على أن قتله حدًا أو لا؟ انتهى.

قلت: وهذا الذي ذكره ابن عابدين من مذاهب الأئمة الأربعة موافق لما تقدم من كتبهم، وأما مذاهبهم في حق الذمي فحاصل ما تقدم من كتبهم أنه ينتقض به عهده عند المالكية والحنابلة مطلقًا فيقتل عندهما، وأما عند الشافعية والحنفية فإن شرط انتقاض العهد به انتقض وإلا فلا، ففي ما إذا انتقض عهدهم عندنا الحنفية التعزير كما في "الدر المختار"، وعند الشافعي يخير الإمام في المن والفداء والرق والقتل، كما في "شرح الإقناع"، وقد أفرد بعض العلماء هذه المسألة بالتصنيف، فقد صنف الشيخ تقي الدين السبكي كتابًا باسم "السيف المسلول على من سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم"، وسبقه في ذلك شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحنبلي برسالة مستقلة سماها "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم".

(1)

"رد المحتار"(6/ 344).

(2)

"رد المحتار"(6/ 378).

ص: 602

(5 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(1)

: كذا للأكثر بغير ترجمة، وحذفه ابن بطال، فصار حديث ابن مسعود المذكور فيه من جملة الباب الذي قبله، واعترض بأنه إنما ورد في قوم كفار أهل حرب والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر على الأذى منهم، فلذلك امتثل أمر ربه.

قال الحافظ: فهذا يقتضي ترجيح صنيع الأكثر من جعله في ترجمة مستقلة، لكن تقدم التنبيه على أن مثل ذلك وقع كالفصل من الباب الذي قبله، فلا بد له من تعلق به في الجملة، والذي يظهر أنه أشار بإيراده إلى ترجيح القول بأن ترك قتل اليهود لمصلحة التأليف؛ لأنه إذا لم يؤخذ الذي ضربه حتى جرحه بالدعاء عليه ليهلك بل صبر على أذاه، وزاد: فدعا له، فلأن يصبر على الأذى بالقول أولى، ويؤخذ منه ترك القتل بالتعريض بطريق الأولى، انتهى.

(6 -‌

‌ باب قتال الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم. . .) إلخ

وبسط الحافظ

(2)

الكلام على تعريف الخوارج، وذكر شيئًا من معتقداتهم فارجع إليه لو شئت، وقال أيضًا: قال الغزالي في "الوسيط" تبعًا لغيره: في حكم الخوارج وجهان: أحدهما: أنه كحكم أهل الردة، والثاني: أنه كحكم أهل البغي، ورجّح الرافعي الأول، وليس الذي قاله مطردًا في كل خارجي فإنهم على قسمين، إلى آخر ما ذكر.

ولم أجد في "الفتح" ههنا الكلام على شرح ترجمة الإمام البخاري وتوضيح مراده، نعم تعرض لذلك العلامة القسطلاني

(3)

إذ قال: قال

(1)

"فتح الباري"(12/ 282).

(2)

"فتح الباري"(12/ 283 - 286).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 408، 409).

ص: 603

ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين، واستنبط ذلك من ألفاظ الحديث فارجع إليه.

ثم قال: وفي الحديث أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق والإعذار إليهم، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة بالآية المذكورة فيها، واستدل به لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاري في الترجمة حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، واستدل القاضي أبو بكر ابن العربي لتكفيرهم بقوله في الحديث:"يمرقون من الإسلام"، وبقوله:"أولئك هم شرار الخلق".

وقال الشيخ تقي الدين السبكي في "فتاويه": احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاج صحيح، وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السُّنَّة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليه بالكفر والشرك.

وقال القاضي عياض: كادت هذه المسألة أن تكون أشد إشكالًا عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق أبا المعالي عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيمة في الدين، وقال:"وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: لم يصرّح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالًا لا تؤدّي إلى الكفر"، وقال الغزالي في "كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة": الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيل، فإن استباحة دماء المسلمين المصلين والمقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد، انتهى من "القسطلاني".

ص: 604

وفي "الفيض"

(1)

: وكان مالك يفتي بكفر الخوارج، والملحدون: هم الذين يؤوّلون في ضرورات الدين لإجراء أهوائهم، انتهى.

وفي هامش المصرية: الخوارج هم الذين خرجوا عن الدين وعلى علي بن أبي طالب في قصته مع معاوية، وقوله:"والملحدين" أي: المائلين عن الحق إلى الباطل، وقوله:"بعد إقامة الحجة عليهم" أي: بإظهار بطلان دلائلهم، انتهى.

ثم لا يخفى عليك ما اشتهر في كتب فقهنا أن من كان فيه تسع وتسعون وجهًا من الكفر ووجه من الإسلام أنه لا يحكم عليه بالكفر تكلم عليه صاحب "الفيض"

(2)

وبين ما هو المراد به، فارجع إليه لو شئت.

(7 -‌

‌ باب من ترك قتال الخوارج للتألف وإلا ينفر الناس عنه)

قد تقدم من كلام القسطلاني أن ميل الإمام البخاري كما هو مقتضى صنيعه إلى كفر الخوارج، كما نقل عن مالك أيضًا، وقد تقدم ولما كان يرد على هذا عدم قتاله صلى الله عليه وسلم برأس الخوارج المذكور في حديث الباب أشار إلى تأويله وتوجيهه لئلا يخالف مختاره، ثم رأيت "الفيض"

(3)

فإنه أيضًا أشار إلى ذلك، إذ قال: أراد البخاري التنبيه على بيان التوجيه لعدم قتل ذي الخويصرة رأس الخوارج، فذكر له تأويلًا، وهذا الباب مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز العمل به لغيرهم، انتهى.

وقال العيني

(4)

: قال المهلب: التألف إنما كان في أول الإسلام إذ كانت الحاجة ماسة إليه لدفع مضرتهم، فأما اليوم فقد أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف إلا أن ينزل بالناس جميعهم حاجة لذلك فلإمام الوقت

(1)

"فيض الباري"(6/ 404).

(2)

"فيض الباري"(6/ 401، 402).

(3)

"فيض الباري"(6/ 406).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 211).

ص: 605

ذلك، وقال ابن بطال: لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة، وشقّ عصاها، وأما ذو الخويصرة فإنما ترك الشارع قتله؛ لأنه عذره لجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لن تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا ترجم بلفظ الخبر، وسيأتي شرحه في "كتاب الفتن"، والمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية، والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح، وقيل: المراد اعتقاد كل منهما أنه على الحق، انتهى.

وهكذا قال العلامة العيني

(2)

، واقتصر العلامة القسطلاني

(3)

في تفسير الدعوة على المعنى الأخير.

قال العيني

(4)

: قال الداودي: هاتان الفئتان هما - إن شاء الله - أصحاب الجمل، زعم علي بن أبي طالب أن طلحة والزبير بايعاه، فتعلق بذلك، وزعم طلحة والزبير أن الأشتر النخعي أكرههما على المشي إلى علي رضي الله تعالى عنه وعنهم، وقد جاء في الكتاب والسُّنَّة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، وقال الله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} الآية [الحجرات: 9]، انتهى.

وأما تعلق هذه الترجمة بكتاب المرتدين فلم يتعرض له العيني والقسطلاني، وتعرض له الحافظ

(5)

إذ قال: وأورده هنا للإشارة إلى ما وقع في بعض طرقه كما عند الطبري، وزاد في آخره: "فبينما هم كذلك إذ مرقت

(1)

"فتح الباري"(12/ 303).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 213).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 413).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 213، 214).

(5)

"فتح الباري"(12/ 303).

ص: 606

مارقة يقتلها أولى الطائفتين بالحق" فبذلك تظهر مناسبته لما قبله، والله أعلم، انتهى.

(9 -‌

‌ باب ما جاء في المتأولين)

في هامش المصرية عن "شيخ الإسلام"

(1)

: أي: بيان ما جاء من الأخبار في حق المتأولين، ولا خلاف أن المتأول معذور بتأويله إن كان تأويله سائغًا، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف عمر على فعله كما سيأتي، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: ومما ينبغي أن يعلم أن التأويل إنما يقبل في غير ضروريات الدين، وأما فيها فلا يسمع، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى رسالتنا "إكفار الملحدين في شيء من ضروريات الدين"، انتهى.

وقال الحافظ

(3)

: تقدم في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" من "كتاب الأدب"، وفي الباب الذي يليه "من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا" وبيان المراد بذلك، والحاصل أن من أكفر المسلم نظر، فإن كان بغير تأويل استحق الذم، وربّما كان هو الكافر، وإن كان بتأويل نظر إن كان غير سائغ استحق الذم أيضًا، فلا يصل إلى الكفر بل يبين له وجه خطئه ويزجر بما يليق به، ولا يلتحق بالأول عند الجمهور، وإن كان بتأويل سائغ لم يستحق الذم بل تقام عليه الحجة حتى يرجع إلى الصواب، قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله، وزاد [العيني

(4)

]: ألا يرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تلبيبه بردائه على ما يجيء الآن في حديثه، وعزره في ذلك لصحة مراد عمر واجتهاده، وكذلك يجيء في بقية أحاديث الباب، انتهى.

وبراعة الاختتام في قوله: "دعني فلأضرب عنقه"، وأيضًا في قوله:"فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة".

(1)

"تحفة الباري"(6/ 380).

(2)

فيض الباري" (6/ 408).

(3)

"فتح الباري"(12/ 304).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 214).

ص: 607

89 -

‌ كتاب الإكراه

ومناسبة هذا الكتاب بما قبله ما قال الحافظ

(1)

: ولما كان المرتد قد لا يكفر إذا كان مكرهًا، قال:"كتاب الإكراه" وكان المكره قد يضمر في نفسه حيلةً دافعةً، فذكر الحيل ما يحل منها وما يحرم، انتهى.

وقد تقدم الكلام على مناسبة الترتيب بين الكتب والأبواب في مقدمة "اللامع"

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: الإكراه هو إلزام الغير بما لا يريده، وشروط الإكراه أربعة: الأول: أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار، الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك، الثالث: أن يكون ما هدده به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتكم غدًا لا يعد مكرهًا، ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرت العادة بأنه لا يخلف، الرابع: أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره، إلى آخر ما بسط.

وفي "الدر المختار"

(4)

: والإكراه نوعان: تام وهو الملجئ بتلف نفس أو عضو أو ضرب مبرح، وإلا فناقص وهو غير الملجئ، وشرطه أربعة أمور، إلى آخر ما بسط.

وبسط الكلام على أنواعه وفروعه في "البدائع"

(5)

و"أصول البزدوي"

(6)

، ففيه: الإكراه ثلاثة أنواع: نوع: يعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو الملجئ، ونوع: يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ،

(1)

مقدمة "فتح الباري"(ص 474).

(2)

" لامع الدراري"(1/ 282).

(3)

"فتح الباري"(12/ 311).

(4)

"رد المحتار"(9/ 177، 178).

(5)

"بدائع الصنائع"(6/ 184).

(6)

"أصول البزدوي"(ص 357).

ص: 608

ونوع آخر: لا يعدم الرضا وهو أن يهتم بحبس أبيه أو ولده، ثم قال: والإكراه بجملته لا ينافي أهلية، ولا يوجب وضع الخطاب بحال لأن المكره مبتلى، والابتلاء يحقق الخطاب، إلى أن قال: فثبت بهذه الجملة أن الإكراه لا يصلح لإبطال حكم شيء من الأقوال والأفعال جملة إلا بدليل غيره على مثال فعل الطائع، انتهى.

وقال الكرماني

(1)

: والإكراه الإلزام على خلاف المراد، وهو يختلف باختلاف المكره والمكره عليه والمكره به، انتهى.

ثم إن الإمام البخاري رحمه الله ورضي عنه - قد شدّد الكلام على الإمام الهمام أبي حنيفة في هذا الكتاب، وكذا في "كتاب الحيل" كما سترى، وسيأتي بقية الكلام عليه في محله في "باب إذا أكره حتى وهب عبدًا. . ." إلخ.

(1 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:

106])

هكذا في النسخة الهندية التي بأيدينا بإثبات لفظ الباب قبل الآية، وليس في شيء من نسخ الشروح الأربعة ههنا لفظة "باب"، ولم يتعرضوا له أيضًا.

قال القسطلاني

(2)

: قال ابن جرير: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن عادوا فعد" ورواه البيهقي بأبسط منها، وفيه: أنه سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان قال: "إن عادوا فعد" وفي ذلك أنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ،

(1)

"شرح الكرماني"(24/ 61).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 422، 423).

ص: 609

ومن ثم اتفق على أنه يجوز أن يواطئ المكره على الكفر إبقاءً لمهجته، والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله.

وعند ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة رضي الله عنهم أنه أسرته الروم، فجاؤا به إلى ملكهم، فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت، فقال: إذًا أقتلك قال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر - وفي رواية ببقرة - من نحاس، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه، وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله، وأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله، وروي أنه قبّل رأسه وأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقال: فقبّل رأسه، انتهى من "القسطلاني"، وهكذا في التفسير لابن كثير

(1)

.

وقال الحافظ

(2)

: والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، ثم ذكر عدة روايات، فارجع إليه لو شئت.

(1‌

‌ م - باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر)

قال الحافظ

(3)

: تقدمت الإشارة إلى ذلك في الباب الذي قبله، وأن

(1)

"تفسير ابن كثير"(8/ 360) ط: مؤسسة قرطبة.

(2)

"فتح الباري"(12/ 312).

(3)

"فتح الباري"(12/ 316).

ص: 610

بلالًا كان ممن اختار الضرب والهوان على التلفظ بالكفر، وكذلك خباب المذكور في هذا الباب ومن ذكر معه، وأن والدي عمار ماتا تحت العذاب، ولما لم يكن ذلك على شرط الصحة اكتفى المصنف بما يدلّ عليه، انتهى.

وتقدم في الباب السابق عن القسطلاني أنهم اتفقوا على أنه يجوز له إِجراء كلمة الكفر، والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، وهكذا نقل الاتفاق على الجواز الحافظ ابن كثير في "تفسيره"، ويستفاد من كلام الحافظ في "الفتح" أن فيه بعض خلاف، فقد نقل عن ابن التِّين بأن العلماء متفقون على اختيار القتل على الكفر، وقال: ونقل عن المهلب: أن قومًا منعوا من ذلك، واحتجوا بقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، إلى آخر ما في "الفتح".

(2 -‌

‌ باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره)

قال الحافظ

(1)

: قال الخطابي: استدل البخاري بحديث الباب على جواز بيع المكره، والحديث ببيع المضطر أشبه، فإن المكره على البيع هو الذي يحمل على بيع الشيء شاء أو أبى، واليهود لو لم يبيعوا أرضهم لم يلزموا بذلك، ولكنّهم شحوا على أموالهم، فاختاروا بيعها، فصاروا كأنهم اضطروا إلى بيعها، كمن رهقه دين فاضطر إلى بيع ماله، فيكون جائزًا، ولو أكرهه عليه لم يجز، قلت: لم يقتصر البخاري في الترجمة على المكره، وإنما قال: بيع المكره ونحوه، فدخل في ترجمته المضطر، وكأنه أشار إلى الردّ على من لا يصحح بيع المضطر، انتهى من "الفتح".

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "ونحوه" فسّره العيني بالمضطر، ليعمّ الإكراه الفقهي وغيره؛ كالبيع في أيام القحط، فإن الناس يتبايعون فيها بالغبن الفاحش، ولا يسمى ذلك إكراهًا فقهيًا، فهو إذن بيع المضطر، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 317).

(2)

"فيض الباري"(6/ 411).

ص: 611

وهذا البحث متعلق بالجزء الأول من الترجمة أعني قوله: "المكره ونحوه"، وأما ما يتعلق بالجزء الثاني وهو قوله:"في الحق وغيره".

فقال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر

(2)

: ترجم بالحق وغيره ولم يذكر إلا الشق الأول، ويجاب بأن مراده بالحق الدين وبغيره ما عداه مما يكون بيعه لازمًا؛ لأن اليهود أكرهوا على بيع أموالهم لا لدين عليهم، انتهى.

كذا قال، ويرد عليه أنه على هذا ينعكس الإيراد لأنه يثبت على هذا الشق الثاني من الترجمة دون الأول، ثم قال الحافظ: قلت: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "وغيره" الدين، فيكون من الخاص بعد العام، وإذا صحّ البيع في الصورة المذكورة وهو سبب غير مالي فالبيع في الدين وهو سبب مالي أولى، انتهى. هذا ما قاله الشراح في شرح هذه الترجمة.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

مما يتعلق بالجزء الثاني من جزئي الترجمة حيث قال: إما أن يراد بالحق الحق المالي، أي: الدين ومثله، فالمعنى هذا بيان بيع المكره مملوكه في أداء حق الدائن وغيره من ذوي الحقوق، أو الحق ههنا هو الحق مقابل الباطل، أي: هذا بيان بيع المكره مملوكه فيما هو موافق للشريعة، ولا يكون باطلًا، والترجمة ثابتة بكلا معنييها بقوله: فمن وجده بماله فليبعه، فإن بيعهم هذا كان بحق، وأما إثبات الجزء الثاني من جزئي الترجمة فبقوله:"إنما الأرض لله ورسوله" فإنهم لو قصدوا بيع شيء من الأراضي كان بيعًا بغير الحق وفي الباطل، والله ولي التوفيق، انتهى.

ولله در الشيخ قُدِّس سرُّه فإنه قد استوفى حق الترجمة شرحًا وإيضاحًا بعبارة موجزة مفصحة، وهذا المعنى الثاني للحق اختاره صاحب "الفيض" أيضًا، وفيه

(4)

: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أكره اليهود على الجلاء، وكان على الحق

(1)

"فتح الباري"(12/ 317).

(2)

"المتواري"(ص 337).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 200، 201).

(4)

"فيض الباري"(6/ 411، 412).

ص: 612

في ذلك، ثم قال: وليس هذا إكراهًا فقهًا، فإنه تحقق لو كان النبي صلى الله عليه وسلم هدّدهم بقتل أنفسهم أو بقطع عضوهم، وإذ ليس، فليس، انتهى.

ثم مسألة الباب أعني بيع المكره خلافية، وقد تقدم عن الحافظ أن ميل المصنف إلى جوازه، واختلف الأئمة في ذلك كما في فروعهم، فمذهب الحنفية ما قال ابن عابدين

(1)

: قدمنا أن بيع المكره فاسد موقوف على إجازة البائع، وقول صاحب "الكنز": البيع مبادلة المال بالمال بالتراضي غير مرضي لأنه يخرج بيع المكره إلى آخر ما بسط، وفي "البدائع"

(2)

: لا يصح بيع المكره إذا باع مكرهًا، وسلم مكرهًا لعدم الرضا، فأما إذا باع مكرهًا، وسلم طائعًا، فالبيع صحيح، انتهى.

ومذهب الشافعية ما في "شرح الإقناع"

(3)

: ويشترط أيضًا عدم إكراه بغير حق، فلا يصح عقد مكره في ماله لغير حق لعدم رضاه، ويصح بحق كأن توجه عليه بيع ماله لوفاء دين، فأكرهه الحاكم عليه، انتهى.

وكذا عند الحنابلة بيع المكره باطل ففي "نيل المآرب"

(4)

: وشروطه سبعة: أحدها الرضاء به من المتبايعين، فلا يصح بيع المكره بغير حق كالذي يستولي على ملك رجل بلا حق فيطلبه، فيجحده إياه حتى يبيعه، أما إن أكره بحق كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه فبيعه صحيح، انتهى.

ومذهب المالكية كما في "مختصر الخليل"

(5)

وشرحه: لا إن أجبر عليه جبرًا حرامًا، وهو ما ليس بحق فيصح ولا يلزم، قال شارحه: وأما لو أجبر على البيع جبرًا حلالًا كان البيع لازمًا كجبره على بيع الدار بتوسعة المسجد أو الطريق أو لوفاء دين إلى آخر ما بسط، وفي

(1)

"رد المحتار"(7/ 18).

(2)

"بدائع الصنائع"(4/ 388، 389).

(3)

"شرح الإقناع"(2/ 5).

(4)

"نيل المآرب"(1/ 332، 333).

(5)

انظر: "الخرشي على مختصر سيدي خليل"(5/ 9).

ص: 613

"الميزان"

(1)

للشعراني: ومن ذلك قول الأئمة الثلاثة أنه لا يصحّ بيع المكره مع قول أبي حنيفة بصحته، انتهى.

قلت: والتحقيق أن بيع المكره باطل عند الجمهور، وأما عندنا الحنفية ففاسد موقوف على إجازة البائع، وهم لا يفرقون بين الباطل والفاسد بخلاف الحنفية، فعندنا فرق بين الباطل والفاسد كما تقرر في محله، وأفاد صاحب "الفيض"

(2)

أن بيع المكره موقوف عندنا بخلاف الطلاق؛ لأنه من الإسقاطات، والبيع من الإثباتات فيتوقف، انتهى.

وأما بيع المضطر كما أشار إليه المصنف بقوله: "ونحوه" فنقل شيخنا في "البذل"

(3)

عن "الدر المختار"

(4)

: أن بيع المضطر وشراءه فاسد، قال الشامي: هو أن يضطر الرجل إلى طعام أو شراب أو غيرها، ولا يبيعها البائع إلا بأكثر من ثمنها بكثير، وكذلك في الشراء منه، انتهى.

وفيه أيضًا عن الخطابي أن بيع المضطر جائز، أي: عند الشافعي لكنه مكروه بل ينبغي أن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة، انتهى.

(3 -‌

‌ باب لا يجوز نكاح المكره. . .) إلخ

قال الحافظ

(5)

: قال ابن بطال

(6)

: ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المكره، وأجازه الكوفيون، قالوا: فلو أكره رجل على تزويج امرأة بعشرة آلاف وكان صداق مثلها ألفًا صحّ النكاح، ولزمته الألف وبطل الزائد، قال: فلما أبطلوا الزائد بالإكراه كان أصل النكاح بالإكراه أيضًا باطلًا، انتهى.

فلو كان راضيًا بالنكاح وأكره على المهر كانت المسألة اتفاقية يصح العقد ويلزم المسمى بالدخول، انتهى.

(1)

"الميزان"(3/ 27).

(2)

"فيض الباري"(6/ 411).

(3)

"بذل المجهود"(11/ 75، 76).

(4)

"رد المحتار"(7/ 247).

(5)

"فتح الباري"(12/ 319).

(6)

"شرح ابن بطال"(8/ 299).

ص: 614

قال القسطلاني في الصورة المذكورة قبل ذلك: قال سحنون: وكما أبطلوا الزائد على الألف في الإكراه، فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه، قال: وقد أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، فلو كان راضيًا بالنكاح وأكره على المهر يصح العقد اتفاقًا، انتهى.

وفي "نور الأنوار"

(1)

في مبحث الأهلية بعد ذكر أقسام الإكراه: والإكراه بجملته لا ينافي الخطاب والأهلية لبقاء العقل والبلوغ الذي عليه مدار الخطاب والأهلية، ثم قال: فإن كان القول مما لا ينفسخ ولا يتوقف على الرضا لم يبطل بالكره كالطلاق والعتاق والنكاح والرجعة، فإن هذه التصرفات كلها لا تحتمل الفسخ ولا تتوقف على الرضا، إلى آخر ما بسط.

وما ذكر الشرَّاح من عدم جواز النكاح المكره عند الجمهور هو كذلك كما في كتب فروعهم، ففي "الروض المربع"

(2)

: الشرط الثاني رضاهما فلا يصحّ إن أكره أحدهما بغير حق كالبيع، انتهى.

وفي "كتاب الأنوار" في فقه الشافعية: وأن يكون مختارًا، فإن كان مكرهًا لبطل النكاح، انتهى.

ثم لا يذهب عليك أن مسألة الإكراه في النكاح غير مسألة ولاية الإجبار، فقد تقدم الكلام على ولاية الإجبار واختلاف العلماء فيها في "كتاب النكاح" فارجع إليه لو شئت، وقد نبَّه عليه صاحب "الفيض"

(3)

أيضًا حيث قال: والإكراه على النكاح بأن يهدّده بالنفس أو العضو، إلا أن يتكلم بالإيجاب أو القبول، وحينئذٍ حديث خنساء في غير محله، فإن أباها كان زوَّجها بعبارته، ولم يكن أكرهها على الإيجاب والقبول، وليست ولاية الإجبار من باب الإكراه في شيء، فإن معناها نفاذ القول عليها بدون رضاها، وليس معناها أن يضربها الأب أو الولي فيجبرها أن تُنكِحَ نفسها كما زعم، انتهى.

(1)

"نور الأنوار"(ص 311، 312).

(2)

"الروض المربع"(ص 440).

(3)

"فيض الباري"(6/ 412).

ص: 615

قلت: فلا مجال للمصنف، وكذا للجمهور أن يستدلوا بعدم جواز نكاح المكره بحديث خنساء كما فعله المصنف فتشكر.

(4 -‌

‌ باب إذا أكره حتى وهب عبدًا أو باعه لم يجز)

أي: ذلك البيع والهبة، والعبد باقٍ على ملكه، قوله:"وبه قال بعض الناس" قيل: الحنفية، "فإن نذر المشتري" بكسر الراء من المكره "فيه" في الذي اشتراه "نذرًا فهو" أي: البيع مع الإكراه "جائز" أي: ماض عليه، ويصح البيع و [كذا] الهبة "بزعمه" أي: عنده، "وكذلك إن دبّره" أي: دبّر العبد الذي اشتراه من المكره على بيعه فينعقد التدبير، قال في "الكواكب": غرض البخاري أن الحنفية تناقضوا، فإن بيع الإكراه إن كان ناقلًا للملك إلى المشتري فإنه يصحّ منه جميع التصرفات، ولا يختص بالنذر والتدبير، وإن قالوا: ليس بناقل فلا يصح النذر والتدبير أيضًا، وحاصله أنهم صححوا التدبير والنذر بدون الملك، وفيه تحكم وتخصيص بغير مخصص، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وأما مذهب البخاري فهو يقول بجواز كليهما أعني بيع المكره وما يترتب عليه من نذر أو تدبير، فمورد الإيراد هو الجزء الأول من الترجمة، أي: عدم جواز بيع المكره، فكأن المصنف أراد بالترجمة أنه كان ينبغي للحنفية أن يقولوا بجواز كلا الأمرين كما هو رأي المصنف، فلذا أورد تحت الترجمة ما يدلّ على جواز بيع المكره، ولم يورد للجزء الثاني من الترجمة حديثًا، وسيأتي الجواب قريبًا عن هذا الإيراد، وأما مطابقة الحديث لما قصده المؤلف من الترجمة فما ذكره العيني إذ قال

(2)

: قال الداودي ما حاصله: أنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة لأنه لا إكراه فيه، ثم قال: إلا أن يراد أنه صلى الله عليه وسلم باعه فكان كالمكره له على بيعه، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 432).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 231).

ص: 616

وأما الجواب عما أورده الإمام البخاري على الحنفية بقوله: "وبه قال بعض الناس. . ." إلخ، فأجاب عنه العيني

(1)

بأنه إن أراد ببعض الناس الحنفية فمذهبهم ليس كذلك، فإن مذهبهم أن شخصًا إذا أكره على بيع ماله أو هبته لشخص ونحو ذلك، فباع أو وهب، ثم زال الإكراه فهو بالخيار إن شاء أمضى هذه الأشياء، وإن شاء فسخها، انتهى.

وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي" عن القطب الكَنكَوهي: لما كان عدم الجواز عند الإمام البخاري بمعنى البطلان وعدم الانعقاد أورد عليهم بأنهم يقولون بعدم الجواز، ثم إن المشتري لو أعتقه أو دبّره فهو جائز، وهذا عجيب، قلنا: عدم الجواز عندنا قد يجيء بمعنى البطلان، وقد يجيء بمعنى الفساد، وهو الانعقاد مع لزوم الفسخ، وهو ههنا بمعنى الفساد، فإن بيع المكره عندنا فاسد وليس بباطل، والبيع الفاسد إذا انضم إليه القبض يفيد الملك، وإن كان ناقصًا قابلا للفسخ، فإذا تصرف فيه بما لا يمكن فسخه يتم الملك وينفذ التصرف، انتهى من هامش "اللامع"

(2)

.

قال العلامة السندي

(3)

تحت قول البخاري: وقال بعض الناس: حاصل كلام الحنفية أن بيع المكره منعقد إلا أنه بيع فاسد لتعلق حق العبد به، فيجب توقفه إلى إرضائه، إلا إذا تصرف فيه المشتري تصرفًا لا يقبل الفسخ، فحينئذٍ قد تعارض فيه حقان كل منهما للعبد، حق المشتري وحق البائع، وحق البائع يمكن استدراكه مع لزوم البيع بإلزام القيمة على المشتري، بخلاف حق المشتري، فلا يمكن استدراكه مع فسخ البيع مع أنه حق لا يقبل الفسخ، فصار اعتباره أرجح بخلاف ما إذا كان تصرفًا يقبل الفسخ، فيجب مراعاة حق البائع عندهم، وهذا الفرق منهم مبني على أن بيع المكره منعقد مع الفساد، وهم يقولون به، فالنزاع معهم في هذا الأصل، وبعد تمامه أو تسليمه، فالفرق مقارب غير بعيد نظرًا إلى القواعد، والله تعالى أعلم، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 230).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 204، 205).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 201).

ص: 617

ثم لا يخفى عليك ما ذكره صاحب "الفيض"

(1)

من أن الإمام البخاري شدّد الكلام في هذا الكتاب على الإمام أبي حنيفة، وكذا في "كتاب الحيل"، ووجه ذلك أن البخاري لم يتعلم فقه الحنفية حق التعلم، وإن نُقل عنه أنه رأى فقه الحنفية، لكن ما يترشح من كتابه هو أنه لم يحقق فقهنا، ولم يبلغه إلا شذرات منه، وهذا الذي دعاه إلى ما أتى عليه في هذا الباب، ولو درى ما الإكراه في فقهنا لما أورد علينا شيئًا، إلى آخر ما ذكر.

ثم المذكور في الترجمة مسألتان: بيع المكره، والثانية: هبة المكره، وتقدم تفصيل الخلاف في المسألة الأولى في بابه، وأما هبة المكره فهي لا يجوز عند الشافعية، ففي "الأنوار" من فروع الشافعية: وللهبة أركان: الأول العاقدان، وشروطهما كشروط البائع والمشتري، إلى آخر ما ذكره، ومن شروط صحة البيع عندهم الرضا وعدم الإكراه كما تقدم، وأما عندنا الحنفية ففي "الدر المختار"

(2)

: والأصل عندنا أن كل ما يصحّ مع الهزل يصحّ مع الإكراه؛ لأن ما يصح مع الهزل لا يحتمل الفسخ، وكل ما لا يحتمل الفسخ لا يؤثر فيه الإكراه، انتهى.

(5 -‌

‌ باب من الإكراه. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

رحمه الله: أي: من جملة ما ورد في كراهية الإكراه ما تضمنته الآية، وهو المذكور فيه عن ابن عباس في نزول قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} الآية [النساء: 19]، وقد تقدم شرحه في تفسير سورة النساء، انتهى.

وقال العلامة القسطلاني

(4)

: قال المهلب فيما نقله العيني رحمه الله: فائدة

(1)

"فيض الباري"(6/ 409).

(2)

"رد المحتار"(9/ 191، 192).

(3)

"فتح الباري"(12/ 320).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 434).

ص: 618

هذا الباب التعريف بأن كل من أمسك امرأته لأجل الإرث منها طمعًا أن تموت لا يحل له ذلك بنص القرآن، انتهى.

قوله: (كَرْهًا وكُرْهًا واحدٌ)، قال الحافظ

(1)

: أي: بفتح أوله وبضمه بمعنى واحد، وهذا قول الأكثر، وقيل: بالضم ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح ما أكرهك عليه غيرك، انتهى.

(6 -‌

‌ باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها. . .) إلخ

قوله: (غفور رحيم) أي: لهن، وقد قُرِئ في الشاذ:{فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لهن {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]، وهي قراءة ابن مسعود وغيره، ونسبت أيضًا لابن عباس، والمحفوظ عنه تفسيره بذلك، وكذا عن جماعة غيره، وجوز بعض المعربين أن يكون التقدير "لهم" أي: لمن وقع منه الإكراه، لكن إذا تاب، وضعف هذا القول كما في "الفتح"

(2)

.

وأما حكم مسألة الباب عند الفقهاء فما في "الأوجز"

(3)

عن ابن قدامة

(4)

: لا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم، منهم عمر رضي الله عنه والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، انتهى.

وقال العلامة العيني

(5)

تحت حديث الباب: ولم يذكر البخاري حكم إِكراه الرجل على الزنا، فذهب الجمهور إلى أنه لا حدّ عليه، وقال مالك وجماعة: عليه الحد لأنه لا تنتشر الآلة إلا بلذة، وسواء أكرهه سلطان أو غيره، وعن أبي حنيفة: لا يحد إن أكرهه سلطان، وخالفه أبو يوسف

(1)

"فتح الباري"(12/ 321).

(2)

"فتح الباري"(12/ 321).

(3)

"أوجز المسالك"(15/ 346).

(4)

"المغني"(12/ 347).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 233، 234).

ص: 619

ومحمد رحمهما الله تعالى، ومطابقة الحديث الثاني بالترجمة ظاهرة من حيث إنه كما لا ملامة عليها في الخلوة معه إكراهًا، فكذلك المستكرهة في الزنا لا حدّ عليها، قاله الكرماني وصاحب "التوضيح"

(1)

.

قال العيني: والأقرب أن يقال: وجه المطابقة من حيث إنه أكره إبراهيم عليه السلام على إرسالها إليه، انتهى.

قلت: ليس هذا بأقرب، بل هو أبعد؛ لأن الترجمة الاستكراه على الزنا اللَّهم إلا أن يقال: إن الإكراه على إبراهيم عليه السلام على إرسالها إليه إنما كان للزنا، وفي "تقرير المكي"

(2)

: قوله: "قام إليها" وفيه الترجمة لأنها لما خلت مع الجبار خلوة صحيحة ولم تأثم لكونها مكرهة، فكذلك المرأة المكرهة لا حد عليها، انتهى.

والحاصل: أن قيام الجبار إليها إنما كان لإرادة الزنا بالإكراه لكن الله عز وجل عصمها برحمته وفضله.

(7 -‌

‌ باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه)

وقد صرّح المصنف بجواب المسألة بقوله: "يذب عنه الظالم. . ." إلخ، والمسألة خلافية.

قال الحافظ:

(3)

قال ابن بطال: ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه، وقال الكوفيون: يحنث لأنه كان له أن يورِّيَ، فلما ترك التورية صار قاصدًا لليمين فيحنث، وأجاب الجمهور بأنه إذا أكره على اليمين فنيَّته مخالفة لقوله:"الأعمال بالنيات".

قوله: (فإن قاتل فلا قود عليه. . .) إلخ، قال ابن بطال: اختلفوا فيمن

(1)

انظر: "شرح الكرماني"(24/ 69)، و"التوضيح"(32/ 43).

(2)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 209).

(3)

"فتح الباري"(12/ 323).

ص: 620

قاتل عن رجل خشي عليه أن يقتل فقتل دونه، هل يجب على الآخر قصاص أو دية؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه شيء للحديث المذكور، ففيه "ولا يسلمه" وفي الحديث الذي بعده "انصر أخاك"، وبذلك قال عمر، وقالت طائفة: عليه القود، وهو قول الكوفيين، وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة من المالكية، وأجابوا عن الحديث بأن فيه الندب إلى النصر، وليس فيه الإذن بالقتل، انتهى من "الفتح".

قوله: (وإن قيل له: لتشربن الخمر إلى قوله: أو تحلّ عقدة) هذا ستة أشياء عديل واحد، وعديله الآخر قوله:"أو لنقتلن أباك أو أخاك"، وحاصله أنه أكره على هذه الأشياء وهدّده بقتل الأب، أو الأخ في الإسلام، فهو مكره عند المصنف، قلنا: إنه ليس بإكراه، ولكنه باب آخر، فإن حفظ دم امرئ مسلم واجب في كل أوان، انتهى من "فيض الباري"

(1)

.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

في شرح ترجمة الباب: لا شكّ في أن الرجل إذا تعرض للقتل إلا أن يثبت عند المكره كونه أبا لزيد أو أخًا له أو غير ذلك من القرابات والعلاقات، وجب على زيد أن يتقوّل بذلك صونًا لدمه، فأما إذا أكره عليه، وقيل: لتشربن الخمر أو لنقتلن أخاك، فإنه لم يسعه عندنا الإقدام على شرب الخمر، ووجه ذلك أن جواز أكل هذه المحرمات منوط بالاضطرار، ولا يتحقق بما ذكر، نعم يتحقق الاضطرار إذا أكره عليه بقتل نفسه، وأما إذا أكره بشيء من العقود المذكورة بعده بقوله:"لتبيعن هذا العبد" فقيل له: إما أن تبيع هذا أو لنقتلن أباك، فإنه يبيعه لأن الأموال وقاية للأنفس ومبذولة، فليس له أن يعرض المسلم على الهلاك وهو قريبه، نعم يكون له خيار الفسخ بعد زوال الإكراه لكونه لم يقدم على هذا العقد بكمال رضاه، وأما تفريقهم بين المحرم وغيره فلا يمكن الاعتراض بذلك عليهم؛ لأن مدار جواز الحرام إنما هو

(1)

"فيض الباري"(6/ 414، 415).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 209).

ص: 621

الاضطرار لا غير، ولا يتحقق الاضطرار بإخافته عن قتل الأجنبي، انتهى.

وبسط الكلام في توضيح هذا المقام في هامش "فيض الباري"

(1)

، وفيه بعد بسط الكلام: إذا علمت هذا فاعلم أن ملخص إيراد البخاري في هذا الباب أمران: الأول: تفريق الإمام الأعظم بين حكم الأقارب وبين الأجنبي المسلم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم"، والثاني: فرقه بين حكم شرب الخمر ونحو البيع، انتهى.

قوله: (ثم ناقض فقال: إن قيل له. . .) إلخ، قال العلامة القسطلاني في "شرحه"

(2)

: أي: فاستحسن بطلان البيع ونحوه بعد أن قال: يلزمه في القياس، ولا يجوز له القياس فيها، وأجاب العيني بأن المناقضة ممنوعة لأن المجتهد يجوز له أن يخالف قياس قوله بالاستحسان، والاستحسان حجة عند الحنفية، انتهى.

قال العلامة السندي

(3)

: مبنى كلامهم أن الإكراه في كل شيء على حسبه، وهذا شيء يشهد به بداهة العقل، فتخليص القاتل عن المعصية والمقتول عن القتل لا يكون إكراهًا لغيرهما على المعصية، فإذا قال قائل: اعص الله وإلا فأعصيه أنا، فلا ينبغي له أن يعصيه، ولا يعدّ ذلك إكراهًا له على المعصية، نعم يكون إكراها على نحو البيع والهبة إذا كان المقتول أبا ونحوه مثلًا؛ والحاصل: أنه لا ينبغي اعتبار كل أذى إكراهًا في كل شيء، فمثل الكفر لا يباح لخوف لطمة بيد، وترك الأولى يعذر فيه بذلك، وحيث اعتبرنا الفرق يتضح كلام الحنفية، والله تعالى أعلم، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(4)

عن "تقرير المكي": اعلم أن تحقق الإكراه في الجملة إنما هو في حق ذي رحم محرم، أما في حق الأجنبي فلا إكراه

(1)

"فيض الباري"(6/ 415).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 438).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 202).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 212).

ص: 622

أصلًا، فلو باع عبده في حق ذي رحم محرم ينعقد بيعه موقوفًا، - كما هو الحكم عندنا في بيع المكره - لتحقق الإكراه في الجملة، ولو باعه في حق أجنبي ينعقد بيعه لازمًا لعدم الإكراه، فلهذا قال البخاري:"وفرّقوا بين كل ذي رحم محرم وبين غيره من غير كتاب ولا سُنَّة"، قلنا: السُّنَّة موجودة وهي قوله عليه السلام: "الأقرب فالأقرب"، انتهى.

وفي "القسطلاني"

(1)

: وأجاب العيني بأن الاستحسان غير خارج عن الكتاب والسُّنَّة، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وأما السُّنَّة فقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المؤمنون حسنًا فهو حسن عند الله"، انتهى.

قوله: "وقال النبي عليه الصلاة والسلام. . ." إلخ، هذا استدلال من المصنف على عدم الفرق بين ذي رحم وغيره، قلنا: إطلاق الأخت ههنا بطريق المجاز لا بطريق عدم الفرق، انتهى من "تقرير المكي".

والحاصل عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري رحمه الله ذهب إلى تحقق الإكراه في تلك الأمور كلها، والحنفية فرّقوا بين شرب الخمر ونحوه، وبين العقود كالبيع والهبة، فلم يجوِّزوا النوع الأول مطلقًا سواء كان التهديد بقتل ذي رحم أو غيره؛ لأن هذه الأمور، أي: شرب الخمر ونحوه معصية بنفسها، فلا يجوز فعلها إلا إذا تحقق الإكراه والإلجاء، ولا يتحقق الإلجاء إلا بقتل نفسه، فهذا هو الجواب عن أحد الإيرادين، وأما النوع الثاني أعني البيع والهبة ونحوهما فقلنا بتحقق الإكراه فيهما في الجملة، أي: فيما إذا كان التهديد بقتل ذي الرحم لعدم وجود المعصية في هذه الأمور؛ لكونها مباحة في نفسها فينبغي له حينئذٍ أن يفعل وله الخيار بعد زوال الإكراه بحكم الاستحسان، كما هو حكم بيع المكره عندنا، وأما إذا كان التهديد بقتل الأجنبي فباع فلا يجوز له فسخ هذا البيع بعد زوال الإكراه، بل هو بيع بات لوجود الرضا، وذلك لأن الإكراه لا يتحقق بقتل

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 438).

ص: 623

الأجنبي، فليس له حكم بيع المكره، وهذا هو منشأ تفريقنا بين الأجنبي وغيره، فالإيراد الثاني من البخاري أيضًا ساقط، فتدبر.

ثم لا يخفى عليك أنهم يوردون على الإمام أبي حنيفة أنه يكثر من الاستحسان، وصار إكثاره من الاستحسان مثار طعن الذين ينتقصون قدره، وينجسون حظه من الفقه والتقى، فإنهم لم يجدوا في القياس ما يعتبر خروجًا على النصوص من كل الوجوه؛ لأنه حمل على النص، ووجدوا في الاستحسان ذلك إذا لم يقم على النص، ولقد قال صاحب "كشف الأسرار"

(1)

في تعليقه على باب الاستحسان الذي كتبه فخر الإسلام البزدوي ما نصه: اعلم أن بعض القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم في تركهم القياس بالاستحسان، وقال: حجج الشرع الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس، والاستحسان قسم خاص لم يعرف أحد من حملة الشرع سوى أبي حنيفة وأصحابه أنه من دلائل الشرع لم يقم عليه دليل، بل هو قول بالتشهي، فكان ترك القياس به تركًا للحجة لاتباع الهوى فكان باطلًا، وكل ذلك طعن من غير روية وقدح من غير وقوف على المراد، فأبو حنيفة أجلّ قدرًا وأشدّ ورعًا من أن يقول في الدين بالتشهي، أو يعمل بما استحسنه من غير دليل قام عليه شرعًا، فالشيخ رحمه الله عقد الباب لبيان المراد من هذا اللفظ والكشف عن حقيقته دفعًا لهذا الطعن، انتهى.

ولقد اختلف العلماء في عصر أبي حنيفة ومن بعده في الاستحسان، فمالك الذي عاصر أبا حنيفة كان يقول: الاستحسان تسعة أعشار العلم، وأما الشافعي رحمه الله الذي جاء من بعدهما فقد عقد فصلًا في كتاب "الأم"

(2)

سمّاه: كتاب إبطال الاستحسان، وساق الأدلة لإثبات بطلانه، ولقد اختلف الفقهاء في تعريف الاستحسان الذي كان يأخذ به أبو حنيفة وأصحابه، فعرّفه بعضهم بأنه العدول عن موجب القياس إلى قياس أقوى منه، وهذا

(1)

"كشف الأسرار"(4/ 3).

(2)

"الأم"(10/ 107).

ص: 624

تعريف غير جامع لكل أنواع الاستحسان، فمنها ما لا يكون العدول فيه إلى قياس بل إلى نص أو إلى الإجماع، وأحسن التعاريف هو ما قاله الحسن الكرخي: وهو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول، انتهى مقتبسًا من مقدمة "البدائع"

(1)

لناشره زكريا علي يوسف.

ثم براعة الاختتام في قوله: "يحجزه عن الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" كما ورد في الحديث.

* * *

(1)

"بدائع الصنائع"(1/ 22، 23).

ص: 625

90 -

‌ كتاب الحيل

قال العلامة العيني

(1)

: وهو جمع حيلة، وهي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي، انتهى.

وهكذا في "الفتح" و"القسطلاني"

(2)

، وفي هامش "اللامع"

(3)

: قال الجوهري: الحيلة اسم من الاحتيال، ذكره في فصل الياء، ثم قال: وهو من الواو، يقال: هو أحيل منك وأحول منك، أي: أكثر حيلة، وما أحيله لغة فيما أحوله، كذا في "العيني"، والمعروف بين العلماء أن الحيل كلها محرمة عند مالك وأحمد، وجائزة عند الحنفية والشافعية، وإلى الأول مالَ البخاري كما يدل عليه "كتاب الحيل" وأبوابه.

قال ابن قدامة

(4)

: الحيل كلها محرمة غير جائزة، وبه قال مالك، وأباح أبو حنيفة والشافعي بعضها، إلى آخر ما بسط، وقد أطال ابن القيم في "إعلام الموقعين"

(5)

الكلام على إبطال الحيل، وبحث فيه بحثًا طويلًا، ومع ذلك ذكر المقصد الرابع أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو رفع باطل، وقسمه على ثلاثة أقسام ثم بسطها، وذكر أمثلتها، وذكر صور الحيل فيها إلى أن قال: القسم الثاني: أن يكون الطريق مشروعةً، وما يفضي إليه مشروع، وقال أيضًا: ويدخل في هذا القسم التحيل إلى جلب المنافع وعلى دفع المضار، وقد ألهم الله تعالى ذلك لكل حيوان، فلأنواع الحيوانات من أنواع الحيل والمكر ما لا يهتدي إليه بنو آدم، وليس كلامنا وكلام السلف في ذم الحيل متناولًا لهذا القسم، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 238).

(2)

"فتح الباري"(12/ 326)، و"إرشاد الساري"(14/ 440).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 216).

(4)

"المغني"(6/ 116).

(5)

"إعلام الموقعين"(5/ 302 - 304).

ص: 626

وأنت خبير أن هذا منه تجويز بل تحريض على أخذ بعض الحيل، فلا يمكن أن يقال: الحيل كلها باطلة، والحنفية والشافعية أيضًا لم يقولوا بأن الحيل كلها مباحة، فقد قال الحافظ

(1)

: وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصّل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.

ولمن أجازها مطلقًا أو أبطلها مطلقًا أدلة كثيرة، فمن الأول قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} الآية [ص: 44]، وقد عمل به صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في "السنن"، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] إلى أن قال: ومن الثاني قصة أصحاب السبت، وحديث "حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلو ثمنها"، وحديث النهي عن النجش، وحديث لعن المحلل والمحلل له، والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم: هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحيل.

ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرًا وباطنًا في جميع الصور أو في بعضها، ومنهم من قال تنفذ ظاهرًا، لا باطنًا، ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه القرائن الحالية، وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية لكون أبي يوسف صنّف فيها كتابًا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: اعلم أن البخاري رحمه الله لم يفرّق بين جواز الحيلة ونفاذها، وكل ما كان يرد على القول بالجواز، أورده على القول بالنفاذ مع فرق جلي بين الأمرين، ثم أوضح صاحب "الفيض" هذا الكلام، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(12/ 326).

(2)

"فيض الباري"(6/ 417).

ص: 627

قلت: وترجم السرخسي رحمه الله في "المبسوط"

(1)

كتاب الحيل مستقلًا، وقال فيه: اختلف الناس في "كتاب الحيل" أنه من تصنيف محمد رحمه الله تعالى أم لا؟ كان أبو سليمان الجوزجاني ينكر ذلك، وأما أبو حفص رحمه الله تعالى كان يقول: هو من تصنيف محمد، وكان يروي عنه ذلك، وهو الأصح، فإن الحيل في الأحكام المخرجة عن الإمام جائزة عند جمهور العلماء، وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسُّنَّة، ثم بسط في دلائل جواز الحيل، ثم قال: فالحاصل: أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن، وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه، فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به، إلى آخر ما بسطه.

قال الراغب

(2)

: وأكثر استعمال الحيلة فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه حكمة، ولهذا قيل في وصف الله عز وجل:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] أي: الوصول في خفية من الناس، إلى: ما فيه حكمة، وعلى هذا النحو وصف بالمكر والكيد لا على وجه المذموم، تعالى الله عن القبيح، انتهى.

وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي"

(3)

عن الشيخ الكَنكَوهي: الحيلة جعل المباح وسيلةً لتحصيل المقصود، فإن كان لتحصيل حقه أو لإحياء حق مسلم أو لدفع الظلم عنه فجائز، وإن كان لإبطال حق مسلم أو لإلقائه في المهلكة فلا يجوز، انتهى.

وفي "مقدمة بدائع الصناع" لناشره الشيخ محمد زكريا علي يوسف تلخيصًا لكلام الشيخ أبي زهرة ما نصه: ولقد ادعى بعض الناس أن لأبي

(1)

"المبسوط"(30/ 198).

(2)

"مفردات ألفاظ القرآن"(ص 267).

(3)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 218، 219).

ص: 628

حنيفة كتابًا في الحيل، كان فيه يفتي الناس للتحلل من الأحكام الشرعية والقيود الفقهية، حتى لقد روي أن عبد الله بن المبارك قال:"من كان عنده "كتاب الحيل" لأبي حنيفة يستعمله أو يفتي به فقد بطل حجه وبانت منه امرأته"، ثم ردّ على هذا، وقال أيضًا: ويسقط دعوى التأليف أن عبد الله بن المبارك الذي يروون عنه هذا القول كان من تلاميذ أبي حنيفة الذين يقدرونه حق قدره، وأنه هو الذي بيّن آراء أبي حنيفة وقيمتها ومكانه من الفقه للأوزاعي بالشام، وإذا كان الأمر كذلك، فنسبته ذلك القول إليه غير صحيحة، وبذلك تنهار دعوى أن لأبي حنيفة كتابًا اسمه "كتاب الحيل"، نعم وجدنا أن لمحمد تلميذ الإمام أبي حنيفة كتابًا في "الحيل" يغلب على الظن أنه روى فيه ما كان يخرج به ذلك الإمام الأحكام تسهيلًا على الناس. حتى لا يكونوا في حرج، ثم حقق أن نسبة هذا الكتاب إلى محمد رحمه الله تعالى كيف هي، فإنه قد اختلف فيه أيضًا، فارجع إليه لو شئت.

(1 -‌

‌ باب في ترك الحيل)

قال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر: أدخل البخاري الترك في الترجمة لئلا يتوهم من الترجمة الأولى إجازة الحيل، إلى آخر ما ذكره.

قال الحافظ: قلت: وإنما أطلق أولًا للإشارة إلى أن من الحيل ما يشرع، فلا يترك مطلقًا.

قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها)، قال الحافظ: قوله: "في الأيمان وغيرها" من تفقه المصنف لا من الحديث، قال ابن المنيِّر: اتسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات، وحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، ثم قال: والاستدلال بهذا الحديث على سدّ الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 327).

ص: 629

وحمل الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

قول المصنف - في الترجمة: "في الأيمان" - على الإيمان المقابل للكفر إذ كتب: الإيمان بكسر الهمزة قدمه لكونه أصل العبادات، انتهى. وهو الأوجه عندي بقرينة الصلاة المذكورة في الباب الآتي، ويؤيده قوله:"وغيره" بضمير المذكر، ولما حمل الشرَّاح هذا اللفظ على أنه جمع يمين، أوّلوا قوله:"وغيره".

قال الحافظ

(2)

: وجعل الضمير مذكرًا على إرادة اليمين المستفاد من صيغة الجمع، انتهى.

لكن النسخ مختلفة ففي بعضها: "وغيرها" بضمير المؤنث وهو يؤيد ما اختاره الشرَّاح، والله تعالى أعلم بالصواب.

(2 -‌

‌ باب في الصلاة)

قال الحافظ

(3)

: أي: دخول الحيلة فيها، انتهى.

وقال العيني

(4)

نقلًا عن الكرماني: قالوا: مقصود البخاري الردّ على الحنفية حيث صحّحوا صلاة من أحدث في الجلسة الأخيرة، وقالوا: إن التحلل يحصل بكل ما يضاد الصلاة، فهم متحيلون في صحة الصلاة مع وجود الحدث، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(5)

: والحيلة تؤخذ من صورة المسألة بأن رجلًا حلف بطلاق امرأته فقال: امرأته كذا إذا سَلَّمَ من ظهر اليوم، أو إن سلَّم من فريضة ظهر اليوم، فاحتاج إلى أن لا تطلق امرأته، فإن الحيلة في مثل ذلك أن لا يخرج من صلاته بلفظ السلام بل يخرج بشيء مما سواه من الكلام والحدث وغير ذلك، وما ذكره من الرواية

(1)

"لامع الدراري"(10/ 218).

(2)

"فتح الباري"(12/ 327).

(3)

"فتح الباري"(12/ 329).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 239)، "شرح الكرماني"(24/ 74).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 219، 220).

ص: 630

لا يضرّنا شيئًا، فإنا لم نقل بجواز الصلاة من غير طهارة حتى يلزم علينا ما ألزم، وإنما قلنا ما قلنا بناءً على أن صلاته قد تمت بعد قعوده قدر التشهد، فما فعل من الإحداث أو التكلم لم يقع في خلال صلاته حتى يلزم أنه صلى وهو محدث، بل كان عين هذا الفعل خروجًا من حرمة الصلاة، وبما أجاب به الشيخ قُدِّس سرُّه أجاب القسطلاني

(1)

أيضًا من جانب الحنفية.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "لا يقبل الله صلاة. . ." إلخ، لعل غرضه منه الإيراد على القول بالبناء، قلت: أما القول بالبناء فهو رواية عن الشافعي في القديم، وله عندنا حجة، ثم الاستخلاف معتبر عند الإمام البخاري أيضًا، ويمكن أن يكون بين البناء والاستخلاف فرق عنده، فيقول بمنع البناء دونه، وراجع الهامش، انتهى.

(3 -‌

‌ باب في الزكاة)

أي: ترك الحيل في إسقاطها، قاله الحافظ

(3)

.

قال العيني

(4)

تحت الحديث الأول: مطابقته للترجمة ظاهرة، وقال بعد الحديث الثاني: وجه المطابقة بين الحديث والترجمة لا يتأتى إلا بتعسف، انتهى.

وقال القسطلاني

(5)

: ووجه إدخال هذا الحديث هنا أن المؤلف رحمه الله فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" أن من رام أن ينقص شيئًا من فرائض الله بحيلة يحتالها لا يفلح ولا يقوم له بذلك عند الله عذر، انتهى.

قوله: (وقال بعض الناس في عشرين ومائة بعير. . .) إلخ، قال القسطلاني

(6)

: وهذا يقتضي على اصطلاح المؤلف بإرادة الحنفية

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 442، 443).

(2)

"فيض الباري"(6/ 419).

(3)

"فتح الباري"(12/ 331).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 240، 241).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 444).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 445).

ص: 631

اختصاصهم بذلك، لكن الشافعية وغيره يقولون بذلك أيضًا، وأجيب بأن الشافعية وغيره وإن قالوا: لا زكاة عليه لا يقولون: لا شيء عليه؛ لأنهم يلومون على هذه النية، لكن قال البرماوي: إنما يلام إذا كان حرامًا، ولكن هو مكروه، وقال مالك: من فوّت من ماله شيئًا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول لقوله صلى الله عليه وسلم: "خشية الصدقة"، انتهى.

وفي "شرح المهذب"

(1)

: قال الشافعي والأصحاب: إذا باع فرارًا قبل انقضاء الحول فلا زكاة عندنا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وداود وغيرهم، وقال مالك وأحمد وإسحاق: إذا أتلف بعض النصاب قبل الحول أو باعه فرارًا لزمته الزكاة، انتهى.

قلت: وما قال القسطلاني من أن الحنفية لا يلومون من ارتكب هذه الحيلة بخلاف الشافعية فإنهم يلومون على هذه النية ليس كذلك، فنحن أيضًا نلومه

(2)

، قال صاحب "الفيض"

(3)

: أما كون تلك الحيل وبالًا ونكالًا لصاحبها فلا ننكره أيضًا، كما نقلناه عن أئمتنا، وأما أنها لا حكم لها وإن فعلها أحد ففيه نظر قوي، فإن من الناس من هو فاعلها لا محالة لسوء طباعه، فلا بدّ لنا أن نذكر لها أحكامًا ثبتت عندنا من قواعد الشرع مع قطع النظر عن حكمها عند الله تعالى من الإثم أو غيره، انتهى.

قوله: (وقال بعض الناس: في رجل له إبل. . .) إلخ، قلت: وهذه هي المسألة السابقة إلا أنه ذكر ههنا فباعها بإبل مثلها أو بغنم أو بدراهم، قوله: وهو يقول: إن زكى إبله قبل أن يحول الحول بيوم أو بسنة جازت عنه.

قال القسطلاني

(4)

: أي: فإذا كان التقديم على الحول مجزئًا فليكن

(1)

"المجموع شرح المهذب"(5/ 468).

(2)

في الأصل: "نلومونه" وهو خطأ.

(3)

"فيض الباري"(6/ 420).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 446).

ص: 632

التصرف فيها قبل الحول غير مسقط، وأجيب بأن أبا حنيفة لم يتناقض في ذلك؛ لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول، ويجعل من قدمها كمن قدم دينًا مؤجلًا قبل أن يحل، انتهى.

قال صاحب "الفيض"

(1)

: ههنا ثلاث إيرادات من المصنف على الحنفية بثلاث عبارات، والمآل واحد، فإن شئت قلت: إنها واحد، وإن شئت اعتبرتها ثلاثًا، ثم المصنف أضاف قيد الفرار والاحتيال تفخيمًا وتقبيحًا، فالإيراد الأول على صورة الإهلاك أو الهبة، وذلك هو الثاني، بيد أنه مفروض في البيع مع ذكر المناقضة، ولا فرق في الأول والثالث إلا بتغاير الصور، فإن الأول مفروض في عشرين ومائة بعير، والثالث في عشرين إبلًا، والنوع واحد، وبالجملة لم يقصد به المصنف إلا تكثير العدد لا غير، انتهى.

قوله: (استفتى سعد بن عبادة. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: لعله قصد بإيراد هذه الرواية أن دين الله أحقّ بالأداء، ولم يسقط النذر بالموت فكذلك لا تسقط الزكاة بهلاك، قلنا: لم يصر دينًا بعد حتى يكون أحقّ بالأداء، وأيضًا فإن الحيلة مأخوذة من صاحب الشرع فلا يضرنا خلاف أحد من أفراد الأمة إذا لم يخالف الكتاب ولا السُّنَّة، انتهى.

(4 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، هكذا في متون النسخ الهندية بدون الترجمة، وفي نسخة الحاشية:"باب الحيلة في النكاح"، وعلى هذا فالترجمة مكررة لأنه سيأتي قريبًا "باب في النكاح"، أما على كون الباب بلا ترجمة فيكون تعلقه بما سبق من أنه باب من أبواب الحيلة، لكن يرد عليه أيضًا أن الوارد فيه فروع

(1)

"فيض الباري"(6/ 420).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 226، 227).

ص: 633

النكاح، وسيأتي باب النكاح قريبًا، فكان ينبغي للمؤلف أن يذكر هذه الروايات فيه، وأما على نسخة الحاشية فكلا البابين متعلقان بالنكاح نصًّا.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الترجمتين من الأصل الثاني والعشرين من أصول التراجم، والغرض من الترجمة الأولى الحيلة في إسقاط المهر كما تدل عليه الروايات الواردة في الباب، والغرض من الترجمة الآتية بيان الحيلة في إثبات النكاح بشهادة الزور، كما جزم به الشرَّاح بهذا الغرض في الترجمة الآتية.

قال العلامة العيني

(1)

في الباب الأول: أي: هذا باب في بيان ترك الحيلة في النكاح، وقال بعد ذكر الحديث: لا مطابقة أصلًا بين الترجمة والحديث، حتى قيل: إن إدخال البخاري الشغار في باب الحيلة في النكاح مشكل؛ لأن القائل بالجواز يبطل الشغار ويوجب مهر المثل، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

: قال ابن المنيِّر: إدخال البخاري الشغار في باب الحيل مع أن القائل بالجواز يبطل الشغار ويوجب مهر المثل مشكل، ويمكن أن يقال: إنه أخذه مما نقل أن العرب كانت تأنف من التلفظ بالنكاح من جانب المرأة، فرجعوا إلى التلفظ بالشغار لوجود المساواة التي تدفع الأنفة، فمحا الشرع اسم الجاهلية، فلو صححنا النكاح بلفظ الشغار وأوجبنا مهر المثل أبقينا غرض الجاهلية بهذه الحيلة.

قال الحافظ: فيه نظر؛ لأن الذي نقله عن العرب لا أصل له؛ لأن الشغار في العرب بالنسبة إلى غيره قليل، وقضية ما ذكره أن تكون أنكحتهم كلها كانت شغارًا لوجود الأنفة في جميعهم، والذي يظهر لي أن الحيلة في الشغار تتصور في موسر أراد تزويج بنت فقير فامتنع أو اشتط في المهر فخدعه بأن قال له: زوجنيها وأنا أزوجك بنتي، فرغب الفقير في ذلك لسهولة ذلك عليه، فلما وقع العقد على ذلك وقيل له: إن العقد يصحّ ويلزم

(1)

"عمدة القاري"(16/ 243).

(2)

"فتح الباري"(12/ 334).

ص: 634

لكل منهما مهر المثل فإنه يندم إذ لا قدرة له على مهر المثل لبنت الموسر، وحصل للموسر مقصوده بالتزويج لسهولة مهر المثل عليه، فإذا أبطل الشغار من أصله بطلت هذه الحيل، انتهى.

قلت: وأما حكم الشغار ومذاهب الأئمة فيه فقد تقدم في محله من "كتاب النكاح"، وحاصله أنه منهي عنه بالإجماع، لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضي بطلان النكاح أم لا؟ فعند الشافعي يقتضي إبطاله، وهو رواية عن أحمد وإسحاق، وعن مالك يفسخ قبل الدخول وبعده، وفي رواية: قبله لا بعده، وقال جماعة: يصح بمهر المثل، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وإسحاق، وبه قال أبو ثور وابن جرير.

قوله: (وقال بعض الناس: إن احتال حتى تزوج على الشغار فهو جائز والشرط باطل) في هامش المصرية عن شيخ الإسلام

(1)

: قيل: هم الحنفية، لكن النكاح يصحّ بمهر المثل عندهم، والجمهور على أن النكاح أيضًا باطل لظاهر الحديث، انتهى.

قوله: (وقال بعضهم المتعة والشغار جائز. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: كأنه يشير إلى ما نقل عن زفر أنه أجاز النكاح الموقت وألغى الوقت لأنه شرط فاسد، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، وتعقبه العيني

(3)

بأن مذهب زفر ليس كذلك، بل عنده أن صورته أن يتزوج امرأةً إلى مدة معلومة، فالنكاح صحيح واشتراط المدة باطل، قال: وعند أبي حنيفة وصاحبيه: النكاح باطل، انتهى.

وفي "تقرير المكي"

(4)

في توضيح كلام المصنف: قوله: وقال في المتعة "النكاح فاسد" أي: باطل مع أنه لا فرق بين المتعة والشغار في النهي، فما وجه الفرق حيث أجزتم الشغار دون المتعة؟ قوله: "وقال

(1)

"تحفة الباري"(6/ 391).

(2)

"فتح الباري"(12/ 334).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 244).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 229، 230).

ص: 635

بعضهم. . ." إلخ، يعني: أنهم اختلط الأمر عليهم فاختلفوا فيما بينهم أيضًا، وفي تقريره الآخر: ظنّ البخاري أن الفساد ههنا ما هو مقابل للبطلان كما هو مذهبنا في البيع الفاسد والباطل مع أن المتعة ليست بفاسدة بهذا المعنى، بل هي باطلة، ولم يفهم أنه لا فرق عندنا بين الفاسد والباطل في النكاح، وقال بعضهم - وهو زفر رحمه الله: المتعة والشغار جائز، المراد بالمتعة النكاح الموقت، وإنما أجاز زفر النكاح الموقت قياسًا على الشغار، وإنما المنسوخ في النكاح المتعة فقط، وقال علماؤنا الثلاثة: النكاح الموقت باطل كالمتعة إذ لا فرق بينهما إلا في اللفظ، والاعتبار للمعاني لا للألفاظ، انتهى.

قوله: (وقال بعض الناس: إن احتال حتى تمتع فالنكاح فاسد. . .) إلخ، قال الكرماني

(1)

: فإن قلت: حيث قال بفساده فما معنى الاحتيال فيه؟ قلت: الفساد لا يوجب الفسخ لاحتمال إصلاحه بحذف الشرط منه كما قالوا في بيع الربا: لو حذف منه الزيادة صحّ البيع، أو المقصود منه القول الأخير، وهو القول بجوازه، انتهى.

وفي "الفيض"

(2)

: واعلم أن نكاح الشغار نافذ عندنا، وأما ورود النهي عنه فهو مسلم، إلا أنه ليس كل نهي يقتضي البطلان، وإنما القبح فيه من جهة خلو البضعين عن العوض، وقد قلنا بوجوب مهر المثل فيه، فانعدم المعنى، فلو فعله أحد نفذ ولزمه مهر المثل، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"اشترطي لهم الولاء"، فكذا يصح النكاح ويلغوا الشرط، وأما إيراده بجواز المتعة فلم يقل به منا أحد، غير أن زفر ذهب إلى تنفيذ النكاح الموقت، فإن لنفاذه صورة بإبطال الوقت، أما في المتعة فقد اتفقوا على بطلانها، انتهى.

(1)

"شرح الكرماني"(24/ 78، 79).

(2)

"فيض الباري"(6/ 421).

ص: 636

(5 -‌

‌ باب ما يكره من الاحتيال في البيوع)

قال القسطلاني

(1)

: ولم يذكر المؤلف في الباب حديثًا فيه البيع المترجم به فيحتمل أن يكون مما ترجم له، ولم يجد فيه حديثًا على شرطه فبيّض له، وعطف عليه "ولا يمنع فضل الماء" وذكر الحديث المتعلق به، انتهى.

قلت: وأصل هذا الجواب للكرماني حكاه عنه الحافظ

(2)

أيضًا، وأفاد الكرماني

(3)

أيضًا: فإن قلت: ما كيفية تعلقه بكتاب الحيل؟ قلت: هو إرادة صيانة الكلأ المباح لكل المشترك فيه، فتحيل بصيانة الماء ليلزم صيانته، قال الخطابي: هذا في الرجل يحفر البئر في الموات فيملكها بالإحياء، وبقرب البئر موات فيه كلأ ترعاه الماشية، فأمر صاحب البئر أن لا يمنع الماشية فضل الماء لئلا يكون مانعًا للكلأ؛ لأنهم إذا منعوا من الماء لا يبقى لهم مقام ثمة، انتهى.

(6 -‌

‌ باب ما يكره من التناجش)

قال الحافظ

(4)

: أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تناجشوا"، وقد تقدم شرحه مستوفي في "كتاب البيوع"، والمراد بالكراهة في الترجمة كراهة التحريم، انتهى.

قال الكرماني

(5)

: والتناجش أن يزيد في الثمن بلا رغبة فيه ليوقع الغير فيه، وأنه ضرب من التحيل في تكثير الثمن، انتهى.

(7 -‌

‌ باب ما ينهى عنه من الخداع في البيع)

قال القسطلاني

(6)

: الخداع بكسر الخاء المعجمة وتفتح، وقال في

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 450).

(2)

"فتح الباري"(12/ 335).

(3)

"شرح الكرماني"(24/ 79).

(4)

"فتح الباري"(12/ 336).

(5)

"شرح الكرماني"(24/ 79).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 451).

ص: 637

شرح الحديث: قوله: "فقل: لا خلابة" أي: لا خديعة في الدين؛ لأن الدين النصيحة، انتهى.

ثم اعلم أنه نقل الحافظ

(1)

ههنا كلام الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين"

(2)

بعد تهذيبه وتلخيصه ثم قال في آخره: وأطال في ذلك جدًا وهذا ملخصه، والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يجوزون العقود على ظاهرها ويقولون مع ذلك إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن إشكاله، والله تعالى أعلم.

(8 -‌

‌ باب ما ينهى من الاحتيال للولي في اليتيمة. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال

(4)

: وفي حديث الباب أنه لا يجوز للولي أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها، ولا أن يعطيها من العروض في صداقها ما لا يفي بقيمة صداق مثلها، انتهى.

(9 -‌

‌ باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت. . .) إلخ

قوله: (وقال بعض الناس. . .) إلخ، قال العيني: قوله: "أموالكم عليكم حرام" الحديث، هذان طريقان للحديثين المذكورين ذكرهما في معرض الاحتجاج، وليس فيهما ما يدلّ على دعواه، أما الأول فمعناه: أن أموالكم عليكم حرام إذا لم يوجد التراضي، وهنا قد وجد التراضي بأخذ المالك القيمة، وأما الثاني: فلا يقال في الغاصب في اللغة: إنه غادر؛ لأن الغدر ترك الوفاء، والغصب هو أخذ الشيء قهرًا وعدوانًا، وقول الغاصب: إنها ماتت كذب، ثم أخذ المالك القيمة رضا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 337).

(2)

"إعلام الموقعين"(5/ 232).

(3)

"فتح الباري"(12/ 337).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 319).

ص: 638

وفي هامش المصرية: قوله: "فتطيب للغاصب. . ." إلخ، أي: فتحل، والجمهور على خلاف ما ذكر فهو باطل، واستدل البخاري له بقوله:"قال النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، انتهى

(1)

.

(10 -‌

‌ باب)

بغير ترجمة، قال العيني

(2)

: كذا وقع في رواية الأكثرين، وقد مرّ أمثال هذا فيما مضى، وإنه كالفصل لما قبله، ثم قال تحت حديث الباب: لما كان هذا الباب غير مترجم وهو كالفصل يكون حديثه مضافًا إلى الباب الذي قبله، ووجه التطابق ظاهر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أخذ مال الغير إذا كان يعلم أنه في نفس الأمر للغير، وقال أيضًا: والحديث مضى في "المظالم" وفي "الشهادات"، وسيأتي في "الأحكام"، انتهى.

قلت: كأن المصنف أشار بهذا الباب إلى ردّ ما قال به الحنفية في نفاذ قضاء القاضي ظاهرًا وباطنًا، وهي مسألة خلافية معروفة، وأفاد صاحب "الفيض"

(3)

في الباب السابق: واعلم أن بناء إيراده على خلافية أخرى، وهي أن قضاء القاضي بشهادة الزور هل ينفذ ظاهرًا وباطنًا أم لا؟ وقد فصّلها في "المبسوط" بما لا مزيد عليه، وجملة الكلام أن في المسألة قيودًا وشروطًا، إلى آخر ما ذكر في "الفيض"، فارجع إليه لو شئت.

(11 -‌

‌ باب في النكاح)

تقدم الكلام على هذا الباب في "باب" بلا ترجمة، وتقدم هناك أن هذه الترجمة مكررة على بعض النسخ.

(1)

"تحفة الباري"(6/ 392).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 392).

(3)

"فيض الباري"(6/ 423).

ص: 639

(12 -‌

‌ باب ما يكره من احتيال المرأة مع الزوج والضرائر. . .) إلخ

قال صاحب "الفيض"

(1)

: أي: ما يقع بين الضرائر من الاختلافات والاحتيال فيها، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن التِّين: معنى الترجمة ظاهر، إلا أنه لم يبين ما نزل في ذلك، وهو قوله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1].

قال الحافظ: وقد ذكرت في التفسير الخلاف في المراد بذلك، وأن الذي في الصحيح هو العسل، وهو الذي وقع في قصة زينب بنت جحش، وقيل: في تحريم مارية، وأن الصحيح أنه نزل في كلا الأمرين، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: وحديث الباب سبق في "الأطعمة" و"الأشربة" و"الطب" و"الطلاق"، انتهى.

قال العيني

(4)

تحت حديث الباب: مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "والله لنحتالن له"، فإن قلت: كيف جاز على أزواجه صلى الله عليه وسلم الاحتيال؟ قلت: هذه من مقتضيات الطبيعة للنساء وقد عفي عنهن، قلت: وفيه أن الترجمة في كراهة الاحتيال لا في جوازه، فكيف المطابقة، وعندي أن المطابقة تحصل من مجموع ما وقع في هذه القصة وما ترتب عليه من نزول الآية وما فيها من نوع من العتاب.

(13 -‌

‌ باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون)

كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: وهو أن يعتل للخروج بأن له حاجة في البلد الفلاني ولا يكون في نفس الأمر كذلك، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 429).

(2)

"فتح الباري"(12/ 343).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 462).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 252).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 232).

ص: 640

وفي هامشه: قال الحافظ

(1)

: قال المهلب: يتصور التحيل في الفرار من الطاعون بأن يخرج في تجارة أو لزيارة مثلًا وهو ينوي بذلك الفرار من الطاعون، انتهى.

(14 -‌

‌ باب في الهبة والشفعة)

قال الحافظ

(2)

: أي: كيف تدخل الحيلة فيهما معًا ومنفردين، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

في شرح الترجمة: أي: ما يكره من الاحتيال "في" الرجوع عن "الهبة" والاحتيال في إسقاط "الشفعة، وقال بعض الناس" الإمام أبو حنيفة: "إن وهب" شخص "هبة ألف درهم أو أكثر حتى مكث" الشيء الموهوب "عنده" عند الموهوب له "سنين، واحتال" الواهب "في ذلك" بأن تواطأ مع الموهوب له أن لا يتصرف "ثم رجع الواهب فيها" أي: في الهبة "فلا زكاة على واحد منهما، فخالف" هذا القائل "الرسول" أي: ظاهر حديث الرسول "صلى الله عليه وسلم في الهبة" المتضمن للنهي عن العود فيها، "وأسقط الزكاة" بعد أن حال عليها الحول عند الموهوب له، ووجوب زكاتها عليه عند الجمهور، وأما الرجوع فلا يكون إلا في الهبة للولد.

واحتج البخاري رحمه الله تعالى بحديث الباب وظاهره كما قال النووي

(4)

: تحريم الرجوع في الهبة بعد القبض، وهو محمول على هبة الأجنبي لا ما وهبه لولده.

وقال العيني

(5)

: لم يقل أبو حنيفة هذه المسألة على هذه الصورة بل قال: إن للواهب أن يرجع في هبته إذا كان الموهوب له أجنبيًا وقد سلمها له لأنه قبل التسليم يجوز مطلقًا، واستدل لجواز الرجوع بحديث ابن عباس عند الطبراني مرفوعًا:"من وهب هبة فهو أحق بهبته ما لم يثب منها"،

(1)

"فتح الباري"(12/ 344).

(2)

"فتح الباري"(12/ 345).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 464).

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 73).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 255).

ص: 641

وحديث ابن عمر مرفوعًا عند الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، قال: ولم ينكر أبو حنيفة حديث العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، بل عمل بالحديثين معًا، فعمل بالأول في جواز الرجوع، وبالثاني في كراهة الرجوع، واستقباحه لا في حرمته، وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة، انتهى.

قوله: (فلا زكاة على واحد منهما. . .) إلخ، قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: إذا قبض الموهوب له هبة فهو مالك لها، فإذا حال عليها الحول عنده وجبت عليه الزكاة [فيها] عند الجميع، وأما الرجوع فلا يكون عند الجمهور إلا فيما يوهب للولد، فإن رجع فيها الأب بعد الحول وجبت فيها الزكاة على الابن، انتهى من "الفتح".

قلت: وأما مذهب الأحناف فهو ما حكاه البخاري من عدم وجوب الزكاة عليهما، ففي "الدر المختار"

(3)

: وتسقط الزكاة عن موهوب له في نصاب مرجوع فيه مطلقًا سواء رجع بقضاء أو غيره بعد الحول، وقيد به، أي: بقوله: عن موهوب له لأنه لا زكاة على الواهب اتفاقًا لعدم الملك وهي من الحيل، انتهى. ولذا أورد الإمام البخاري على الأحناف في هذه الحيلة.

ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري وإن كان قائلًا بشفعة الجوار كما قال به الحنفية كما تقدم في محله، فلا يتوهم أنه مخالف للحنفية في هذا الجزء أيضًا، وإنما الإيراد على تجويزنا الحيلة في إسقاطها، فتأمل.

وفي "الفيض"

(4)

: قوله: "قال أبو عبد الله: فخالف. . ." إلخ، ومحصله أن القبح في مذهب الحنفية من وجهين، الأول: من قولهم بجواز الرجوع في الهبة، والثاني: بحكمهم بسقوط الزكاة بالحيلة، وفيهما نظر،

(1)

"فتح الباري"(12/ 346).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 327).

(3)

"رد المحتار"(3/ 241).

(4)

"فيض الباري"(6/ 431).

ص: 642

أما الرجوع في الهبة فمكروه عندنا تحريمًا أو تنزيهًا ديانةً، وإن نفذ بالقضاء أو الرضاء، إلى أن قال بعد ذكر دليل الحنفية: ولا أرى أحدًا ينكر مقدمات الدليل فكيف بالنتيجة، انتهى.

قوله: (وقال بعض الناس: الشفعة للجوار. . .) إلخ، قال القسطلاني في "شرحه"

(1)

: أي: فناقض كلامه لأنه احتج في شفعة الجار بحديث "الجار أحق بسقبه"، ثم تحيل في إسقاطها بما يقتضي أن يكون غير الجار أحق بالشفعة من الجار، وليس فيه شيء من خلاف السُّنَّة، لكن المشهور عند الحنفية أن الحيلة المذكورة لأبي يوسف، وأما محمد بن الحسن فقال: يكره ذلك أشدّ الكراهة لما فيه من الضرر لا سيما إن كان بين المشتري والشفيع عداوة ويتضرر بمشاركته، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: وقال ابن بطال

(3)

: أصل هذه المسألة أن رجلًا أراد شراء دار، فخاف أن يأخذها جاره بالشفعة، فسأل أبا حنيفة: كيف الحيلة في إسقاط الشفعة؟ فقال له: اشتر منها سهمًا واحدًا مشاعًا من مائة سهم، فتصير شريكًا لمالكها، ثم اشتر منه الباقي فتصير أنت أحق بالشفعة من الجار؛ لأن الشريك في المشاع أحق من الجار، وإنما أمره بأن يشتري سهمًا من مائة سهم لعدم رغبة الجار في شراء السهم الواحد لحقارته وقلة انتفاعه به، قال: وهذا ليس فيه شيء من خلاف السُّنَّة، وإنما أراد البخاري إلزامهم التناقض؛ لأنهم احتجوا في شفعة الجار بحديث:"الجار أحق بسقبه"، ثم تحيلوا في إسقاطها بما يقتضي أن يكون غير الجار أحق بالشفعة من الجار، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية، فلا تحل الحيلة لإسقاط الشفعة عند مالك وأحمد، وتحل عند أبي حنيفة والشافعي، والبسط في "الأوجز"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 466).

(2)

"فتح الباري"(12/ 346).

(3)

"شرح ابن بطال"(12/ 328).

(4)

"أوجز المسالك"(13/ 532 - 534).

ص: 643

(15 -‌

‌ باب احتيال العامل ليهدى له)

قال العلامة القسطلاني

(1)

: أي: كراهة احتيال العامل الذي يتولى في مال وغيره، ثم قال تحت حديث الباب: قال المهلب: حيلة العامل ليهدى له تقع بأن يسامح بعض من عليه الحق، فلذلك قال:"هلا جلس في بيت أبيه وأمه لينظر هل يهدى له"، وقال في "فتح الباري": ومطابقة الحديث للترجمة من جهة [أن] تملكه ما أهدي إنما كان لعلة كونه عاملًا فاعتقد أن الذي أهدي له يستبد به دون أصحاب الحقوق التي عمل فيها، فبين له صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذلك إنما يكون حيث يتمحض الحق له، انتهى.

وقال الكرماني

(2)

: قالوا: احتيال العامل هو بأن ما أهدي له في عمالته يستأثر به ولا يضعه في بيت المال، وهدايا الأمراء والعمال هي من جملة حقوق المسلمين، انتهى.

قوله: (الجار أحق بسقبه) الحديث، قال الحافظ

(3)

: كذا وقع للأكثر هذا الحديث وما بعده متصلًا بباب احتيال العامل، وأظنه وقع هنا تقديم وتأخير، فإن الحديث وما بعده يتعلق بباب الهبة والشفعة، فلما جعلت الترجمة مشتركة جمع مسائلها، ومن ثم قال الكرماني

(4)

: إنه من تصرف النقلة، وقد وقع عند ابن بطال هنا "باب" بلا ترجمة، ثم ذكر الحديث وما بعده، ثم ذكر "باب احتيال العامل"، وعلى هذا فلا إشكال لأنه حينئذ كالفصل من الباب، ويحتمل أن يكون في الأصل بعد قصة ابن اللتبية "باب" بلا ترجمة، فسقطت الترجمة فقط أو بيض لها في الأصل، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 468 - 470).

(2)

"شرح الكرماني"(24/ 91).

(3)

"فتح الباري"(12/ 349).

(4)

"شرح الكرماني"(24/ 92).

ص: 644

قوله: (وقال بعض الناس: إذا اشترى دارًا بعشرين ألف درهم. . .) إلخ، قال العلامة القسطلاني

(1)

بعد تصوير صورة المسألة التي ذكرها البخاري: وهذا تناقض ظاهر؛ لأن الأمة مجمعة وأبو حنيفة معهم على أن البائع لا يردّ في الاستحقاق والردّ بالعيب إلا ما قبض، فكذلك الشفيع لا يشفع إلا بما نقد المشتري وما قبضه منه البائع لا بما عقد، وأشار إلى ذلك بقوله:"فأجاز" أبو حنيفة رحمه الله "هذا الخداع بين المسلمين" أي: الحيلة في إيقاع الشريك في الغبن الشديد إن أخذ بالشفعة، أو إبطال حقه بسبب الزيادة في الثمن باعتبار العقد لو تركها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بيع المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة"، وهذا الحديث قد سبق في أوائل "البيوع" في "باب إذا بين البائعان"، قال في "الفتح"

(2)

: وسنده حسن وله طرق إلى العداء، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه موصولًا، انتهى.

وأما البراعة فلم يتعرض لها الحافظ، وعند هذا العبد الضعيف فما تقدم من مقدمة "اللامع"

(3)

أنه في لفظ "ساوم" المشير إلى السام وهو الموت، وكذا في لفظ "البيت"، وقد أطلق في بعض الأحاديث على القبر، فتأمّل.

* * *

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 471).

(2)

"فتح الباري"(12/ 350).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 645

91 -

‌ كتاب التعبير

هكذا في النسخ الهندية وهكذا في نسخة الحافظين ابن حجر و"العيني" وكذا "الكرماني"، وفي نسخة "القسطلاني""باب التعبير" بدل كتاب.

قال العلامة القسطلاني

(1)

: أي: تفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها قاله الراغب، وقال البيضاوي: عبارة الرؤيا الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهو المجاوزة، انتهى.

وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات وأنكروا التشديد، وقيل: يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك، انتهى.

وقال الكرماني

(2)

: قالوا: الفصيح العبارة لا التعبير، وهي التفسير والإخبار بآخر ما يؤول إليه أمر الرؤيا، قيل: الرؤيا ما في المنام، والرؤية هي النظر بالعين، والرأي ما بالقلب، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: والتعبير خاص بتفسير الرؤيا، ثم قال: وأما الرؤيا فهي ما يراه الشخص في منامه وهي بوزن فُعلى، وقد تسهل الهمزة، قال الواحدي: هي في الأصل مصدر كاليسرى، فلما جعلت اسمًا لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء، وقال ابن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إلى آخر ما حقق، وذكر

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 473).

(2)

"شرح الكرماني"(24/ 94).

(3)

"فتح الباري"(12/ 352 - 354).

ص: 646

الأقوال في تحقيق الرؤيا، ثم قال: قال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا.

وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة؛ لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقواله: فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء، ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، ومن ينتمي إلى الفلسفة، [يقول:] إن صورة ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال: وهذا أشدّ فسادًا من الأول، لكونه تحكمًا لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها، قال: والصحيح ما عليه أهل السُّنَّة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علمًا على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يَسُرّ، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يَضُرُّ، والعلم عند الله تعالى.

ثم بعد ما بسط الحافظ الكلام في تحقيق الرؤيا قال: ثم جميع المرائي تنحصر على قسمين: الصادقة: وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم. والأضغاث: وهي لا تنذر بشيء، وهي أنواع: الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك، الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلًا ونحوه من المحال عقلًا، الثالث: أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، انتهى.

ص: 647

وفي هامش "اللامع"

(1)

: وقد بسط الكلام على الرؤيا لفظًا ولغةً وحقيقةً في "الأوجز" أشدّ البسط، وفيه أفاد شيخ مشايخنا الشاه ولي الله الدهلوي في "المسوى"

(2)

في قوله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان": فيه بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا، إنما الصحيح فيه ما كان من الله يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أمّ الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع، إلى آخر ما ذكر.

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في "تعطير الأنام": وقد قال بإبطال الرؤيا قوم من الملحدين يقولون: إن النائم يرى في منامه ما يغلب عليه من الطبائع الأربعة، وهذا الذي قالوه نوع من أنواع الرؤيا، وليست الرؤيا منحصرة في ذلك، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"، فارجع إليه لو شئت، وسيأتي في البخاري في "باب القيد في المنام" قول محمد بن سيرين قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله تعالى.

(1 -‌

‌ باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي. . .) إلخ

هذا من دأب الإمام البخاري رحمه الله من أنه طالما يذكر في مبدأ الكتاب ما يتعلق ببدء مشروعية الحكم تاريخًا، فأشار بهذه الترجمة إلى مبدأ الرؤيا المعتبرة عند الشرع.

قال الحافظ

(3)

: ثم ساق المصنف حديث عائشة في بدء الوحي، وقد ذكره في أول الصحيح، وقد شرحته هناك، ثم استدركت ما فات من شرحه

(1)

"لامع الدراري"(10/ 238، 239).

(2)

"المسوى"(2/ 387).

(3)

"فتح الباري"(12/ 354).

ص: 648

في تفسير {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره في الموضعين غالبًا، إلى آخر ما ذكر، فارجع إليه لو شئت.

(2 -‌

‌ باب رؤيا الصالحين)

قال الحافظ

(1)

: الإضافة إليه للفاعل لقوله في حديث الباب: "يراها الرجل الصالح"، وكأنه جمع إشارةً إلى أن المراد بالرجل الجنس، وقال في شرح الحديث: قال المهلب: المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم، قال ابن العربي: رؤيا المؤمن الصالح هي التي تنسب إلى أجزاء النبوة، ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها، قال: وعندي أن رؤيا الفاسق لا تعد في أجزاء النبوة، وقيل: تعد من أقصى الأجزاء، وأما رؤيا الكافر فلا تعد أصلًا، وأخرج مسلم

(2)

من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا"، ثم بسط الحافظ الكلام على شرح حديث الباب:"جزء من ستة وأربعين جزءًا" الحديث، وكذا على اختلاف ألفاظ الواردة فيه.

(3 -‌

‌ باب الرؤيا من الله)

قال الحافظ

(3)

: أي: مطلقًا، وإن قيدت في الحديث بالصالحة فهو بالنسبة إلى ما لا دخول للشيطان فيه، وأما ما له فيه دخل فنسبت إليه نسبة مجازية مع أن الكل بالنسبة إلى الخلق والتقدير من قبل الله تعالى، وإضافة الرؤيا إلى الله تعالى للتشريف، وظاهر قوله:"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان" أن التي تضاف إلى الله لا يقال لها: حلم، والتي تضاف للشيطان، لا يقال لها: رؤيا، وهو تصرف شرعي، وإلا فالكل يسمى رؤيا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 361، 362).

(2)

"صحيح مسلم"(رقم 2263).

(3)

"فتح الباري"(12/ 369).

ص: 649

قلت: وسيأتي التبويب بقوله: "باب الحلم من الشيطان" في هامش المصرية: قوله: "إذا رأى أحدكم رؤيا. . ." إلخ، يؤخذ منه مع ما يأتي في الباب الآتي أن آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة: حمد الله عليها والاستبشار بها وأن يحدث بها أي: من يحبه، وآداب الحلم أربعة: التعوذ بالله من شره ومن شر الشيطان، وأن يتفل عن شماله حين يستيقظ، وأن لا يحدث بها أحدًا، انتهى

(1)

.

(4 -‌

‌ باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة لفظ آخر أحاديث الباب، فكأنه حمل الرواية الأخرى بلفظ "رؤيا المؤمن" على هذه المقيدة، انتهى.

قلت: لعل المصنف أشار إلى ترجيح هذا اللفظ، فإن الروايات في العدد مختلفة كما بسطه الحافظان ابن حجر والعيني، وكذا بسط الحافظ الكلام على معنى كونه جزءًا من النبوة، وقال بعضهم: لا يعلم حقيقتها إلا من يعلم علم النبوة.

وقال الكرماني

(3)

عن الخطابي: قيل: مدة الوحي ثلاثة وعشرون سنة، وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة المشرفة ستة أشهر، وهي نصف سنة، وهذه جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء مدة زمان النبوة، وقال: معنى الحديث تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء يثبتونه، وكان جزءًا من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم، قال القاضي عياض: في بعض الروايات تسعة وأربعين، وفي بعضها سبعين، وفي بعضها خمسين، فقيل: هذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف حال الرائي، فللصالح مثلًا جزء من ستة وأربعين، وللفاسق جزء من سبعين، وما بينهما لمن بينهما، انتهى.

(1)

"تحفة الباري"(6/ 402).

(2)

"فتح الباري"(12/ 373).

(3)

"شرح الكرماني"(24/ 99، 100).

ص: 650

وفي "الفيض"

(1)

: وقد تصدّى العلماء على إحداث المناسبات في العدد المخصوص، فتصح في بعض دون بعض، ومن شاء الكلام فيها على طور الصوفية فليراجع له "الإبريز"، انتهى.

فإن قيل: إن الرؤيا التي أريها صلى الله عليه وسلم ستة أشهر كان ذلك قبل النبوة، فكيف صارت جزءًا منها؟ ويمكن الجواب عنه ما ذكره الكرماني

(2)

تحت شرح الحديث. فإن قلت: هل يقال لصاحب الرؤيا الصالحة: له شيء من النبوة؟ قلت: جزء النبوة ليس نبوة، إذ جزء الشيء غيره، أو لا هو ولا غيره، فلا نبوة له، انتهى.

قلت: وهو كذلك كما هو ظاهر، فإن تحقق الجزء من حيث أنه جزء وإن كان لا يمكن تحققه بدون الكل لكن يمكن تحققه في نفسه بدون لحاظ وصف الجزئية، فافهم.

وفي هامش النسخة المصرية

(3)

: قوله: "جزء من ستة وأربعين:. . ." إلخ، قال الكرماني: أي: في حق الأنبياء دون غيرهم، وقيل: معناه أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة؛ لأنها جزء باق من النبوة، انتهى.

ثم ليس في أول حديث الباب ما يطابق الترجمة، والجواب ما في هامش النسخة المصرية

(4)

إذ قال: وجه دخول هذا الحديث في هذا الباب الإشارة إلى أن الرؤيا إنما كانت جزءًا من أجزاء النبوة لكونها من الله تعالى بخلاف التي من الشيطان فإنها ليست من أجزاء النبوة، انتهى.

(5 -‌

‌ باب مبشرات)

كذا في النسخة "الهندية" مجردًا عن اللام، وفي نسخة الشروح:"المبشرات"، قال العلامة القسطلاني

(5)

: بكسر المعجمة المشددة جمع مبشرة. وقول الحافظ ابن حجر: وهي البشرى تعقبه صاحب "عمدة القاري"

(1)

"فيض الباري"(6/ 435).

(2)

"شرح الكرماني"(24/ 101).

(3)

انظر: "تحفة الباري"(6/ 401)، و"شرح الكرماني"(24/ 100).

(4)

انظر: "تحفة الباري"(6/ 403).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 490).

ص: 651

فقال: ليس كذلك؛ لأن البشرى اسم بمعنى البشارة، والمبشرة اسم فاعل للمؤنث من التبشير، وهي إدخال السرور والفرح على المبشر بفتح المعجمة، وعند الإمام أحمد

(1)

من حديث أبي الدرداء: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] قال: "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له"، انتهى.

(6 -‌

‌ باب رؤيا يوسف عليه السلام

-)

قال الحافظ

(2)

: كذا لهم، ووقع للنسفي:"يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن".

وقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} فساق إلى {سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ثم قال: "إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] ".

قوله: (وقوله تعالى: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [يوسف: 100]) إلخ، والمراد أن معنى قوله:{تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} أي: التي تقدم ذكرها وهي رؤية الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، فلما وصل أبواه وإخوته إلى مصر ودخلوا عليه وهو في مرتبة الملك وسجدوا له - وكان ذلك مباحًا في شريعتهم - فكان التأويل في الساجدين وكونها حقًا في السجود، وقيل: التأويل وقع أيضًا في السجود ولم يقع منهم السجود حقيقة، وإنما هو كناية عن الخضوع، والأول هو المعتمد، وقد أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن قتادة في قوله:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} قال: "كانت تحية من قبلكم، فأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة".

واختلف في المدة التي كانت بين الرؤيا وتفسيرها، فأخرج الطبري والحاكم والبيهقي في "الشعب" بسند صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:"كان بين رؤيا يوسف عليه السلام وعبارتها أربعون عامًا"، وذكر البيهقي له شاهدًا

(1)

"مسند أحمد"(5/ 315)، (رقم 22687).

(2)

"فتح الباري"(12/ 376، 377).

ص: 652

عن عبد الله بن شداد وزاد: "وإليها ينتهي أمد الرؤيا"، وعن الحسن البصري قال:"كانت مدة المفارقة بين يعقوب ويوسف ثمانين سنة"، وعن ابن مسعود:"تسعين سنة" وغير ذلك من الأقوال التي ذكرها الحافظ، وقال: والأول أقوى، والعلم عند الله، انتهى.

(7 -‌

‌ باب رؤيا إبراهيم عليه السلام. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كذا لأبي ذر، وسقط لفظ "باب" لغيره، ثم ذكر قصة رؤيا إبراهيم، وذكر فيه عدة روايات، فارجع إليه لو شئت، وقال في آخر الباب: هذه الترجمة والتي قبلها ليس في واحد منهما حديث مسند، بل اكتفى فيهما بالقرآن، ولهما نظائر، انتهى.

(8 -‌

‌ باب التواطؤ على الرؤيا)

أي: توافق جماعة على شيء واحد ولو اختلفت عباراتهم، قاله الحافظ

(2)

، ثم قال تحت حديث الباب: ويستفاد من الحديث أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الأخبار من جماعة، انتهى.

(9 -‌

‌ باب رؤيا أهل السجون والفساد)

قال الحافظ

(3)

: تقدمت الإشارة إلى أن الرؤيا الصحيحة وإن اختصت غالبًا بأهل الصلاح لكن قد تقع لغيرهم، قال أهل العلم بالتعبير: إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة فإنها تكون بشرى له بهدايته مثلًا إلى الإيمان أو التوبة أو إنذارًا من بقائه على الكفر أو الفسق، وقد يرى ما يدل

(1)

"فتح الباري"(12/ 377 - 379).

(2)

"فتح الباري"(12/ 379، 380).

(3)

"فتح الباري"(12/ 381).

ص: 653

على الرضا بما هو فيه ويكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر، نعوذ بالله من ذلك، انتهى.

وفي هامش النسخة المصرية

(1)

: قوله: {فَتَيَانِ} هما غلامان للملك أحدهما: خبَّازه، والآخر: ساقيه، واستدل به من قال: الرؤيا الصادقة تكون للكافر أيضًا لكن على معنى أن ما يبشر به يكون عن رضا الشيطان فينقص لذلك حظه.

(10 -‌

‌ باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام)

بسط الحافظ

(2)

الكلام على شرح حديث الباب وقال في آخره: والحاصل من الأجوبة ستة، أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، دل عليه قوله في الرواية الأخرى:"فكأنما رآني في اليقظة"، ثانيها: أن معناها: سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير. ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه. رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل. خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية. سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال.

ثم ذكر الحافظ معنيين آخرين زائدًا على تلك الستة نقلًا عن القرطبي، فارجع إليه لو شئت. ويمكن عندي في معناه أنه بشارة لتوفيق زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، واستنبطت هذا المعنى من حديث ابن عمر مرفوعًا:"من حجّ فزار قبري كان كمن زارني في حياتي"، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقال الحافظ

(3)

أيضًا في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتمثل الشيطان بي": وفي رواية: "لا يتمثل في صورتي"، وفي رواية:"إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي"، وفي رواية "فإن الشيطان لا يتكونني" قال الحافظ: والجميع

(1)

"تحفة الباري"(6/ 405).

(2)

"فتح الباري"(12/ 385).

(3)

"فتح الباري"(12/ 386).

ص: 654

راجع إلى معنى واحد، وقوله:"لا يستطيع" يشير إلى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أيّ صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من قال: لا بدّ أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة، والصواب التعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورتها الحقيقية في وقت ما سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره الشريف، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي.

وقال الحافظ

(1)

أيضًا في موضع آخر: قال النووي: قال عياض

(2)

: يحتمل أن يكون المراد من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل.

قال الحافظ: ظاهر قول عياض أنه يراه حقيقة في الحالين، لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية مما يحتاج إلى التعبير، قال ابن العربي: الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى ملخصًا من "الفتح".

وقال شيخنا الكَنكَوهي قُدِّس سرُّه كما في هامش "اللامع"

(3)

عن "الكوكب الدري"

(4)

: ذهب المتقدمون إلى أن ذلك حيث رآه في الحلية التي هي حلية آخر عمره صلى الله عليه وسلم، وقال الآخرون: بل كل حلية النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان حلية آخر عمره أو غير ذلك، وذهب المتأخرون - وهو الحق - إلى أن الرائي لما رآه صلى الله عليه وسلم في أي حلية كانت، وعلم بالقرائن أنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو هو لا غيره، سواء رآه على حليته المنقولة عنه أو لا، والاختلاف فيه حينئذٍ يرجع إلى اختلاف حال الرائي بحسب إيمانه ونياته وأموره الباطنية، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 384).

(2)

"الإكمال"(7/ 219).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 241).

(4)

"الكوكب الدري"(3/ 194 - 196).

ص: 655

قلت: قد اختلف في ذلك مشايخنا الدهلوية على ثلاثة أقوال: الأول: قول الشاه رفيع الدين قُدِّس سرُّه: أن من رآه صلى الله عليه وسلم على هيئته المعروفة بلا تغير أصلًا فهو مصداق الحديث، حتى إن لو في لحيته صلى الله عليه وسلم كانت عشرون شعرة بيضاء وهو رأى إحدى وعشرين مثلًا فلم يره صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أن الصحابة الذين حكوا رؤياهم النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الصحابة يسألونهم عن صفة رؤياهم، فإذا طابقت صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي رأوها صدقوا الرؤيا وإلا كذبوا، والثاني: قول شيخ المشايخ عبد العزيز نوّر الله مرقده: أن رؤيته صلى الله عليه وسلم في أيّ هيئة كانت كانت رؤيته صلى الله عليه وسلم في الواقع ونفس الأمر إذا شهد قلب الرائي في الرؤيا أنه صلى الله عليه وسلم، والقول الثالث: قول الشاه محمد إسحاق المهاجر المكي: أنه رؤيته صلى الله عليه وسلم إذا كانت في هيئة أتقياء زمانه، فهو رؤيا حق وإلا فلم يره صلى الله عليه وسلم، انتهى معرّبًا وملخصًا من كتاب "أرواح ثلاثة".

ثم إنه قد يختلج ههنا إشكال أشار إليه وإلى الجواب عنه الشيخ الكَنكَوهي في "اللامع"

(1)

حيث قال: ولعل الوجه في أن الشيطان لا يتكوّن بصورته صلى الله عليه وسلم، ويقدر على تخييل الرائي صورة الرب تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم رحمة محضة وهداية بحتة فلا يقدر الشيطان أن يتصور به؛ لكونه إضلالًا محضًا وغواية صرفة بخلاف الرب سبحانه، فإن ذاته تعالى قد اندمجت فيها جملة صفات الجلال والجمال، فمنه الهداية والرشاد، ومنه الإبعاد والإضلال، فلكل صفة من الصفات ومنها الإضلال انتسابًا إليه، فلم يكن بينهما غاية البعد كما كان ههنا، انتهى.

ثم ههنا اختلاف آخر وهو إمكان رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في الدنيا في اليقظة، وهو بحث طويل ذكرها الشيخ ابن حجر المكي في "الفتاوى الحديثية"

(2)

، وللسيوطي فيه رسالة "تنوير الحلك في رؤية النبي والملك"، وقد وقع لكثير من المشايخ كما ذكر بعضها الشعراني في "الميزان".

(1)

"لامع الدراري"(10/ 240 - 242).

(2)

"الفتاوى الحديثية"(ص 391).

ص: 656

وفي "البذل"

(1)

: وقد نصّ على وقوع ذلك كرامة الأولياء خلق من الأمة كحجة الإسلام الغزالي وابن العربي وعز الدين، انتهى، كذا في هامش "اللامع"

(2)

.

(11 -‌

‌ باب رؤيا الليل)

قال الحافظ

(3)

: أي: هل تساوي الرؤيا بالنهار أو تتفاوتان؟ وهل بين زمان كل منهما تفاوت؟ وكأنه يشير إلى حديث أبي سعيد: "أصدق الرؤيا بالأسحار" أخرجه أحمد مرفوعًا، وصحّح ابن حبان، وذكر نصر بن يعقوب الدينوري: أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلًا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق: أسرعها تأويلًا رؤيا القيلولة، انتهى.

(12 -‌

‌ باب الرؤيا بالنهار وقال ابن عون. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: هذا الأثر وصله القيرواني في "كتاب التعبير" له، قال القيرواني: ولا فرق في حكم العبارة بين رؤيا الليل والنهار، وكذا رؤيا النساء والرجال، وقال المهلب نحوه، وقد تقدم نحو ما نقل عن بعضهم في التفاوت، وقد يتفاوتان أيضًا في مراتب الصدق، انتهى.

وقال العلامة القسطلاني

(5)

: وقال أهل التعبير: إن رؤيا النهار بالعكس؛ لأن الأرواح لا تجول أصلًا والشمس في أعلى الفلك، وذلك أن قوتها تمنع من إظهار أمر الأرواح وتصرفها فيما تصرف فيه، وقيل: إن رؤيا النهار أقوى من رؤيا الليل وأتم في الحال؛ لأن النور سابق لكل ظلمة إلى أن قال: وأما الوقت الذي تكون الرؤيا فيه أصحّ والذي تكون فيه فاسدة، فقالوا: تكون صحيحة في أيام الربيع، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"بذل المجهود"(13/ 419).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 242).

(3)

"فتح الباري"(12/ 390).

(4)

"فتح الباري"(12/ 392).

(5)

"إرشاد الساري"(14/ 508).

ص: 657

(13 -‌

‌ باب رؤيا النساء)

قال الحافظ

(1)

: تقدم كلام القيرواني وغيره في ذلك، وذكر أيضًا أن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلًا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه، انتهى.

قلت: ولعل المصنف أشار إلى أن رؤيا المؤمنة الصالحة داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا المؤمن من الصالح جزء من أجزاء النبوة".

(14 -‌

‌ باب الحلم من الشيطان)

قال الحافظ

(2)

: هكذا ترجم لبعض ألفاظ الحديث، انتهى.

قلت: وقرينه ما تقدم قبل عدة أبواب بقوله: "باب الرؤيا من الله"، ولم يظهر لي وجه إيقاع الفصل بين البابين اللَّهم إلا أن يقال: إنه فعل كذلك لإيقاظ الناظرين حتى يتذكروا ما تقدم من قرينه.

(15 -‌

‌ باب اللبن)

أي: إذا رُئي في المنام بماذا يعبر؟ قال المهلب: اللبن يدلّ على الفطرة والسُّنَّة والقرآن والعلم، وذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم وحكمة، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضًا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، انتهى من "الفتح"

(3)

.

وذكر الحافظ

(4)

أيضًا من جملة فوائد الحديث مشروعية قصّ الكبير رؤياه على من دونه.

(1)

"فتح الباري"(12/ 392).

(2)

"فتح الباري"(12/ 393).

(3)

"فتح الباري"(12/ 393).

(4)

"فتح الباري"(12/ 394).

ص: 658

وقال القسطلاني

(1)

: رؤية اللبن في النوم تدلّ على السُّنَّة والفطرة، والعلم والقرآن؛ لأنه أوّل شيء يناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذي يفتق أمعاءه، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يشاكل العلم من العلم من هذا الوجه، انتهى.

(16 -‌

‌ باب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافيره)

قال الحافظ

(2)

: يعني في المنام، ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبله، انتهى.

ولم يتعرض هو ولا غيره من الشرَّاح لغرض الترجمة، فالترجمة بظاهرها من قبيل قليل الجدوى، ويمكن أن يقال: إن غرض المصنف في أمثال هذه المواضع استيعاب أجزاء الحديث بعقد الترجمة إيفاء لحقه واهتمامًا بشأنه، والله ولي التوفيق.

(17 -‌

‌ باب القميص في المنام)

وفي رواية الكشميهني: "القمص" بضمتين بالجمع، وكلاهما في الخبر، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(18 -‌

‌ باب جرِّ القميص في المنام)

تقدم وجه عقد الترجمة قبل باب، قال الحافظ

(4)

: قالوا: وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} الآية [الأعراف: 26]، والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالقميص، واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبّر بالدين، وأن طوله يدلّ على بقاء آثار

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 538).

(2)

"فتح الباري"(12/ 395).

(3)

"فتح الباري"(12/ 395).

(4)

"فتح الباري"(12/ 396).

ص: 659

صاحبه من بعده، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام ويذمّ في اليقظة شرعًا، أعني جرّ القميص لما ثبت من الوعيد في تطويله، ومثله ما سيأتي في "باب القيد"، وعكس هذا ما يذم في المنام ويحمد في اليقظة، انتهى.

(19 -‌

‌ باب الخضر في المنام)

قال الحافظ

(1)

: الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين جمع أخضر، وهو اللون المعروف في الثياب وغيرها، ووقع في رواية النسفي:"الخضرة" بسكون الضاد وفي آخره هاء تأنيث، قال القيرواني: الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضًا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك، انتهى.

(20 -‌

‌ باب كشف المرأة في المنام)

ذكر المصنف فيه وكذا في الباب الذي بعده حديث عائشة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لها في المنام قبل أن يتزوجها، قال ابن بطال

(2)

: رؤيا المرأة في المنام يختلف على وجوه: منها: أن يتزوج الرائي حقيقة بمن يراها أو شبهها، ومنها: أن يدل على حصول دنيا أو منزلة فيها أو سعة في الرزق، وهذا أصل عند المعبرين في ذلك، وأما ثياب الحرير فيدلّ اتخاذها للنساء في المنام على النكاح، وعلى العزاء وعلى الغناء وعلى زيادة في البدن، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(21 -‌

‌ باب الحرير في المنام)

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "الفتح":"ثياب الحرير في المنام"، وتقدم بعض ما يتعلق به في الباب السابق.

(1)

"فتح الباري"(12/ 397).

(2)

"شرح ابن بطال"(9/ 534).

(3)

"فتح الباري"(12/ 400).

ص: 660

(22 -‌

‌ باب المفاتيح في اليد)

أي: إذا رُؤيت في المنام، قال أهل التعبير: المفتاح مال وعز وسلطان، فمن رأى أنه فتح بابًا بمفتاح فإنه يظفر بحاجته بمعونة من له بأس، وإن رأى أن بيده مفاتيح فإنه يصيب سلطانًا عظيمًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(23 -‌

‌ باب التعليق بالعروة والحلقة)

قال الحافظ

(2)

: قال أهل التعبير: الحلقة والعروة المجهولة تدلّ لمن تمسك بها على قوته في دينه وإخلاصه فيه، انتهى.

(24 -‌

‌ باب عمود الفسطاط تحت وسادته)

العمود بفتح أوله معروف، ما ترفع به الأخبية من الخشب، ويطلق أيضًا على ما يرفع به البيوت من حجارة، والفسطاط بضم الفاء وقد تكسر، وفيه لغات تبلغ ثنتي عشرة، وهو الخيمة العظيمة.

قال الحافظ

(3)

: كذا للجميع ليس فيه حديث، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(4)

: ولم يذكر هنا حديثًا، ولعله أشار بهذه الترجمة إلى ما أخرجه يعقوب بن سفيان والطبراني والحاكم، وصحّحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتُمِل من تحت رأسي، فأتبعته بصري، فإذا هو قد عمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام".

قال الحافظ في "الفتح"

(5)

: لعل المصنف كتب الترجمة وبيّض للحديث فاخترمته المنية، ثم قال القسطلاني

(6)

: وللحديث طرق أخرى

(1)

"فتح الباري"(12/ 401).

(2)

"فتح الباري"(12/ 401).

(3)

"فتح الباري"(12/ 402).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 523).

(5)

"فتح الباري"(12/ 403).

(6)

"إرشاد الساري"(14/ 524).

ص: 661

يقوي بعضها بعضًا، وعمود الكتاب عمود الدين، قال المعبرون: من رأى في منامه عمودًا فإنه يعبر بالدين، وأما الفسطاط فمن رأى أنه ضرب عليه فسطاط فإنه ينال سلطانًا بقدره، أو يخاصم ملكًا فيظفر، انتهى.

قلت: بسط الحافظ رحمه الله تعالى الكلام على هذه الترجمة، وذكر فيه أقوال الشرَّاح كابن بطال والمهلب وغيرهما، ثم قال: والمعتمد أن البخاري أشار بهذه الترجمة فذكر ما تقدم من كلام القسطلاني، وكذا تكلم عليه شيخ مشايخنا الدهلوي في "تراجمه"

(1)

إذ قال: أشار بهذه الترجمة إلى حديث أخرجه أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فأتبعته بصري، فإذا هو قد عمد به إلى الشام" لعل تأويله استقرار الملك في الشام بعد انقضاء خلافة النبوة، والله أعلم، انتهى.

قلت: وحديث أبي الدرداء هذا ذكره الحافظ أيضًا، قال: وسنده صحيح كما قال الشيخ.

(25 -‌

‌ باب الاستبرق ودخول الجنة في المنام)

قال العيني

(2)

: الاستبرق هو الغليظ من الديباج، وهو فارسي معرب بزيادة القاف، وقد يعبر الحرير في المنام بالشرف في الدين والعلم؛ لأن الحرير من أشرف ملابس الدنيا، وكذلك العلم بالدين أشرف العلوم، قوله:"دخول الجنة. . ." إلخ، عطف على الاستبرق، أي: رؤية الدخول في الجنة في المنام، ورؤية دخول الجنة في المنام تدلّ على دخولها في اليقظة، ويعبر أيضًا بالدخول في الإسلام الذي هو سبب لدخول الجنة، ومطابقة الحديث للجزء الأول من الترجمة تؤخذ من قوله:"سرقة من حرير" فإن السرقة قطعة من حرير، والاستبرق أيضًا نوع من الحرير، انتهى مختصرًا.

(1)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 427).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 296).

ص: 662

(26 -‌

‌ باب القيد في المنام)

قال الحافظ

(1)

: أي: من رأى في المنام أنه مقيد ما يكون تعبيره؟ وظاهر إطلاق الخبر أنه ليعبّر بالثبات في الدين في جميع وجوهه، لكن أهل التعبير خصّوا ذلك بما إذا لم يكن هناك قرينة أخرى كما لو كان مسافرًا أو مريضًا فإنه يدلّ على أن سفره أو مرضه يطول، وكذا لو رأى في القيد صفة زائدة كمن رأى في رجله قيدًا من فضة فإنه يدل على أن يتزوج، وإن كان من صفر فإنه لأمر مكروه أو مال فات، إلى آخر ما ذكر.

(27 -‌

‌ باب العين الجارية في المنام)

قال المهلب: العين الجارية تحتمل وجوهًا، فإن كان ماؤها صافيًا عبرت بالعمل الصالح وإلا فلا، وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحي أو ميت قد أحدثه أو أجراه، وقال آخرون: عين الماء نعمة وبركة وخير، إلى آخر ما في "الفتح"

(2)

.

(28 -‌

‌ باب نزع الماء من البئر حتى يروى الناس)

بفتح الواو من الريّ، ثم مطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة.

(29 -‌

‌ باب نزع الذنوب والذنوبين. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث ابن عمر الذي قبله، وحديث أبي هريرة بمعناه، وفي الحديثين أنه من رأى أنه يستخرج من بئر ماءً أنه يلي ولايةً جليلةً، وتكون مدته بحسب ما استخرج قلة وكثرة، وقد تعبر البئر بالمرأة وما يخرج منها بالأولاد، وهذا الذي اعتمده أهل التعبير، ولم يعرجوا على الذي قبله، فهو الذي ينبغي أن يعول عليه، لكنه بحسب حال الذي ينزع الماء، والله أعلم، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 405).

(2)

"فتح الباري"(12/ 411).

(3)

"فتح الباري"(12/ 415).

ص: 663

(30 -‌

‌ باب الاستراحة في المنام)

قال أهل التعبير: إن كان المستريح مستلقيًا على قفاه فإنه يقوى أمره وتكون الدنيا تحت يده؛ لأن الأرض أقوى ما يستند إليه، بخلاف ما إذا كان منبطحًا، فإنه لا يدري ما وراءه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(31 -‌

‌ باب القصر في المنام)

قال أهل التعبير: القصر في المنام عمل صالح لأهل الدين، ولغيرهم حبس وضيق، وقد يفسر دخول القصر بالتزويج، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(32 -‌

‌ باب الوضوء في المنام)

قال أهل التعبير: رؤية الوضوء في المنام وسيلة إلى سلطان أو عمل، فإن أتمه في النوم حصل مراده في اليقظة، وإن تعذّر لعجز الماء مثلًا، أو توضّأ بما لا تجوز الصلاة به فلا، والوضوء للخائف أمانٌ، قاله الحافظ

(3)

.

(33 -‌

‌ باب الطواف بالكعبة في المنام)

هو يدل على الحج و [على] التزويج وعلى حصول أمر مطلوب من الإمام وعلى بر الوالدين وعلى خدمة عالم، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(34 -‌

‌ باب إذا أعطى فضله غيره في المنام)

تقدّم الكلام على رؤية اللبن في المنام في بابه.

(35 -‌

‌ باب الأمن وذهاب الروع في النوم)

الروع بفتح الراء الخوف، وأما الروع بضم الراء فهو النفس، قال أهل التعبير: من رأى أنه خائف من شيء أمن منه، ومن رأى أنه قد أمن

(1)

"فتح الباري"(12/ 415).

(2)

"فتح الباري"(12/ 416).

(3)

"فتح الباري"(12/ 417).

(4)

"فتح الباري"(12/ 417).

ص: 664

من شيء فإنه يخاف منه، ثم ذكر الحافظ

(1)

في فوائد الحديث نقلًا عن ابن بطال

(2)

: أن أصل التعبير من قبل الأنبياء، ولذلك تمنى ابن عمر أنه يرى رؤيا فيعبرها له الشارع ليكون ذلك عنده أصلًا، قال: وقد صرّح الأشعري بأن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم، قال ابن بطال: وهو كما قال، لكن الوارد عن الأنبياء في ذلك وإن كان أصلًا فلا يعم جميع المرائي، فلا بد للحاذق في هذا الفن أن يستدل بحسن نظره فيردّ ما لم ينص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم له بحكم النسبة الصحيحة فيجعل أصلًا يلحق به غيره كما يفعل الفقيه في فروع الفقه، انتهى.

(36 -‌

‌ باب الأخذ على اليمين في النوم)

قال الحافظ

(3)

: وفي رواية: "باليمين"، ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبل، ويؤخذ منه أن من أخذ في منامه إذا سار على يمينه يعبر له بأنه من أهل اليمين، انتهى.

(37 -‌

‌ باب القدح في النوم)

قال الحافظ

(4)

: القدح في النوم امرأة أو مال من جهة امرأة، وقدح الزجاج يدلّ على ظهور الأشياء الخفية، وقدح الذهب والفضة ثناء حسن، انتهى.

(38 -‌

‌ باب إذا طار الشيء في المنام)

وفي هامش النسخة المصرية

(5)

: جواب "إذا" محذوف، أي: يعبّر بحسب ما يليق به، انتهى.

وقال الحافظ

(6)

: قوله: "باب إذا طار الشيء. . ." إلخ، أي: الذي

(1)

"فتح الباري"(12/ 418، 419).

(2)

"شرح ابن بطال"(9/ 547).

(3)

"فتح الباري"(12/ 420).

(4)

"فتح الباري"(12/ 420).

(5)

"تحفة الباري"(6/ 419).

(6)

"فتح الباري"(12/ 420).

ص: 665

من شأنه أن يطير، قال أهل التعبير: من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء بغير تعريج ما له ضرر، فإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضًا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه، إلى آخر ما ذكر الحافظ.

(39 -‌

‌ باب إذا رأى بقرًا تنحر)

في هامش النسخة المصرية

(1)

: جواب "إذا" محذوف، أي: يعبّر بحسب ما يليق بها، فإن كانت سمينة فهي سنين رخاء، أو هزيلة فهي سنين قحط، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: كذا ترجم بقيد النحر، ولم يقع ذلك في الحديث الذي ذكره عن أبي موسى، وكأنّه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، ففي رواية لأحمد: حدثنا جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرًا تنحر" الحديث.

قال الحافظ: ولهذا الحديث سبب جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني ثم ذكره فارجع إليه لو شئت، وقد ذكر أهل التعبير للبقر في النوم وجوهًا أخرى: منها أن البقرة الواحدة تفسر بالزوجة والمرأة والخادم والأرض، إلى آخر ما ذكر.

(40 -‌

‌ باب النفخ في المنام)

قال أهل التعبير: النفخ يعبّر بالكلام، وقال ابن بطال

(3)

: يعبر بإزالة الشيء المنفوخ بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، ويدلّ على الكلام، وقد أهلك الله الكذابين المذكورين بكلامه صلى الله عليه وسلم وأمره بقتلهما، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(1)

"تحفة الباري"(6/ 419، 420).

(2)

"فتح الباري"(12/ 421، 422).

(3)

"شرح ابن بطال"(9/ 551).

(4)

"فتح الباري"(12/ 423).

ص: 666

(41 -‌

‌ باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة)

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "الفتح": من "كوة".

قال الحافظ

(1)

: واختلف في ضبط "كوة"، فوقع في رواية لأبي ذر بضم الكاف وتشديد الواو المفتوحة، ووقع للباقين بتخفيف الواو وسكونها بعدها راء، وهو المعتمد، والكورة: الناحية، انتهى.

ولم يتعرض الحافظ لوجه المطابقة.

قال العلامة القسطلاني:

(2)

ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: "خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ" لأن في رواية ابن أبي الزناد: "أخرجت من المدينة وأسكنت بالجحفة" بزيادة همزة مضمومة قبل خاء "أخرجت" بالبناء لما لم يسم فاعله، وهو الموافق للترجمة، وظاهر الترجمة أن فاعل الإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسبه إليه لأنه دعا به حيث قال:"اللَّهم حبِّب إلينا المدينة وانقل حماها إلى الجحفة"، انتهى.

(42 -‌

‌ باب المرأة السوداء)

يراها الشخص في المنام، قاله القسطلاني

(3)

.

قال العيني

(4)

: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، ولم يتعرضوا لتعبير المرأة السوداء سوى ما ذكر في الحديث.

(43 -‌

‌ باب المرأة الثائرة الرأس)

أي: في المنام، قال العيني

(5)

بعد ذكر حديث الباب: مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا الحديث هو الحديث الماضي غير أنه أخرجه عن ثلاث

(6)

شيوخ، فوضع لكل واحدة ترجمة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(12/ 425).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 549).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 550).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 313).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 314).

(6)

كذا الأصل وكذا في "العيني"، والظاهر أن يكون:"ثلاثة شيوخ".

ص: 667

قال القسطلاني

(1)

: وثوران الرأس كما قاله بعضهم مؤول بالحمى؛ لأنه تثير البدن بالاقشعرار، انتهى.

(44 -‌

‌ باب إذا رأى أنه هزَّ سيفًا في المنام)

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه طرفًا من حديث أبي موسى، وأورده في علامات النبوة بكماله، قال المهلب: هذه الرؤيا من ضرب المثل، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عبّر عن السيف بهم وبهزّه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفي الهزّة الأخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبّر به عن اجتماعهم والفتح عليهم، ولأهل التعبير في السيف تصرف على أوجه: منها أن من نالَ سيفًا فإنه ينال سلطانًا إما ولاية وإما وديعة وإما زوجة وإما ولدًا، إلى آخر ما بسط.

(45 -‌

‌ باب من كذب في حلمه)

أي: فهو مذموم، أو التقدير باب إثم من كذب إلخ.

وأشار بقوله: "كذب في حلمه" مع أن لفظ الحديث "تحلَّم" إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو ما أخرجه الترمذي من حديث علي رفعه:"من كذب في حلمه كلّف يوم القيامة عقد شعيرة"، قال الطبري: إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشدّ مفسدة منه؛ لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين، وإنما كان الكذب في المنام كذبًا على الله لحديث:"الرؤيا جزء من النبوة"، وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 551).

(2)

"فتح الباري"(12/ 427).

(3)

"فتح الباري"(12/ 428).

ص: 668

(46 -‌

‌ باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها)

قال القسطلاني

(1)

تحت شرح حديث الباب: قال الداودي: يريد ما كان من الشيطان، وأما ما كان من خير أو شر فهو واقع لا محالة، كرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم البقر والسيف، قال: وقوله: "ولا يذكرها لأحد" يدل على أنها إن ذكرت فربما أضرت، فإن قلت: قد مرّ أن الرؤيا قد تكون منذرة ومنبهة للمرء على استعداد البلاء قبل وقوعه رفقًا من الله بعباده لئلا يقع على غرة، فإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وأبعد لها من أذى البغتة، فما وجه كتمانها؟ أجيب بأنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة يسوء حاله؛ لأنه لم يأمن أن تفسر له بالمكروه، فيستعجل الهم ويتعذب بها، ويترقب وقوع المكروه فيسوء حاله، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها، ويجعل ذلك نصب عينيه إلى آخر ما ذكر.

(47 -‌

‌ باب من لم ير الرؤيا الأول عابر إذا لم يصب)

وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي": إشارة إلى ضعف ما روي "الرؤيا لأولى عابر"، قال الأستاذ: تأويله أن استقرار القلب على أحد الجانبين لأول عابر، انتهى.

وبسط الكلام على ذلك الحافظ في "الفتح"

(2)

ولخصه القسطلاني

(3)

إذ قال: قوله: "إذا لم يصب" أي: في العبارة إذ المدار على إصابة الصواب، فحديث "الرؤيا لأول عابر" المروي عن أنس مرفوعًا معناه: إذا كان العابر الأول عالمًا فعبّر وأصاب وجه التعبير وإلا فهي لمن أصاب بعده، لكن يعارضه حديث أبي رزين:"أن الرؤيا إذا عبرت وقعت" إلا أن يدعى تخصيص عبّرت بأن يكون عابرها عالمًا مصيبًا، انتهى من هامش "اللامع"

(4)

.

(1)

"إرشاد الساري"(14/ 556).

(2)

"فتح الباري"(12/ 432، 433).

(3)

"إرشاد الساري"(14/ 557).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 245، 246).

ص: 669

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

يعني: بذلك أن التعبير لا يضرّ شيئًا ولا ينفع في وقوعه ما هو مراد الرؤيا، سوى تأثيره في إيراث السرور أو الحزن، كما قررنا قبل ذلك في الترمذي وغيره، انتهى.

وفي هامشه: فقد أفاد في "الكوكب"

(2)

في "باب إذا رأى في المنام ما يكره": قوله: "فإنها لا تضره" أي: يذهب بذلك وساوسه، وإلا فالمقدور كائن لا محالة إن كان الذي رآه حقًّا مطابقًا للواقع، وغير المقدور غير واقع لا محالة، وقوله:"إلا لبيبًا أو حبيبًا" لأن الحبيب لمحبته إياك واللبيب للبه لا يقول إلا خيرًا فيسرك، وإن كان غير ذلك عبّر بما يضرك فيسوءك، انتهى.

قال الحافظ

(3)

بعد ذكر الروايات الواردة في هذا المعنى: أشار البخاري إلى تخصيص ذلك بما إذا كان العابر مصيبًا في تعبيره، وأخذه من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الباب:"أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا" فإنه يؤخذ منه أن الذي أخطأ فيه لو بيَّنه له لكان الذي بيَّنه له هو التعبير الصحيح ولا عبرة بالتعبير الأول، انتهى مختصرًا.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(4)

: ثم إيراد الرواية في هذا الباب وجهه ظاهر، حيث لم يقع الأمر كما عبّره أبو بكر، وكان أول من عبّر هذه الرؤيا إذ لو كان وقوعه حسب تأويله للزم أن يكون الذي انفصم له الحبل هو الواصل بعد وصله، مع أن الأمر ليس كذلك، بل الواصل بعد وصل الحبل والذي علا به غير الذي انقطع الحبل لأجله، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: واعلم أنهم اختلفوا في أن الرؤيا هل لها حقيقة مستقرة بأنفسها أو هي تابعة للتعبير كيفما عبرت؟ فذهب جماعة إلى الأول،

(1)

"لامع الدراري"(10/ 245، 246).

(2)

"الكوكب الدري"(3/ 196 - 198).

(3)

"فتح الباري"(12/ 432).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 246، 247).

(5)

"فيض الباري"(6/ 453).

ص: 670

ومنهم البخاري، وتمسك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا" فدلّ على أن الرؤيا لها حقيقة، حيث لم يدرك بعضها أبو بكر، وأخطأ فيها، ثم بتعبيره لم تتغير حقيقتها، وتمسك الأولون بما عند الترمذي:"الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر" قلت: واختار التوزيع، فبعض أنواعها ينقلب بالتعبير، وبعضها لا، إلى آخر ما ذكر.

(48 -‌

‌ باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح)

قال الحافظ

(1)

: فيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم [قال:] لا تقصص رؤياك على امرأة ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الردّ على من قال من أهل التعبير: إن المستحب أن يكون تعبير الرؤيا من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دالّ على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، إلى آخر ما ذكر.

ثم البراعة في قوله: "تجاوز الله عنهم" وهذا عند الحافظ

(2)

، وعندي رؤياه صلى الله عليه وسلم كلها من أولها إلى آخرها مشتملة على أحوال البرزخ وما بعده

(3)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(12/ 439).

(2)

"فتح الباري"(13/ 544).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 671

92 -

‌ كتاب الفتن

قال الحافظ رحمه الله

(1)

: الفتن جمع فتنة، قال الراغب

(2)

: أصل الفَتْن: إدخال الذهب في النار لتظهر جودَتُه من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، كقوله:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، وعلى الاختبار كقوله:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، وفيما يدفع فيه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالًا، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: وهي المحنة والعذاب والشدة وكل مكروه والإثم والفضيحة والفجور والمصيبة وغيرها من المكروهات، فإن كانت من الله تعالى فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذمّ الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 10]، انتهى.

وفي "الفيض:"

(4)

والفتنة ما يتميز بها المخلص من غير المخلص، وفي الحديث أن الأمة المحمدية تكثر فيها الفتن، ولم أزل أتفكر في مراده حتى تبين أن الأمم السابقة كان عذابهم الاستئصال، ولما قُدِّر بقاء تلك الأمة ولا بدَّ أن لا يزال يتميز الفاجر من الصالح قُدِّرَتْ فيها الفتن؛ لأنها هي التي يحصل بها التمييز، انتهى.

(1 -‌

‌ باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ} [الأنفال:

25])

الترجمة مشتملة على جزئين: أحدهما هذا، والثاني قوله:"وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن".

(1)

"فتح الباري"(13/ 3).

(2)

"المفردات"(ص 623).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 3).

(4)

"فيض الباري"(6/ 457).

ص: 672

قال الحافظ

(1)

بعد ذكر الجزء الأول: قلت: ورد فيه ما أخرجه أحمد والبزار من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: قلنا للزبير - يعني: في قصة الجمل -: يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل - يعني: عثمان - بالمدينة، ثم جئتم تطلبون بدمه - يعني: بالبصرة -؟ فقال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ، لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت. وأخرج أحمد بسند حسن من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة"، انتهى مختصرًا.

قوله: (وما كان النبي. . .) إلخ، يشير إلى ما تضمنه حديث الباب من الوعيد على التبديل والإحداث، فإن الفتن غالبًا إنما تنشأ عن ذلك، انتهى من "الفتح".

(2 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أمورًا تنكرونها

")

قال الحافظ

(2)

: هذا اللفظ بعد المتن المذكور في ثاني أحاديث الباب، وهي ستة أحاديث، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: وفي هذه الأحاديث حجة في ترك الخروج على أئمة الجور ولزوم السمع والطاعة لهم، وقد أجمع الفقهاء على أن الإمام المتغلب تلزم طاعته ما أقام الجماعات والجهاد إلا إذا وقع منه كفر صريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر، انتهى.

وقال الحافظ

(4)

تحت الحديث الخامس: وفيه: وأن لا ننازع الأمر أهله. نقل ابن التِّين عن الداودي [قال:] الذي عليه العلماء في أمراء

(1)

"فتح الباري"(13/ 4).

(2)

"فتح الباري"(13/ 6).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 9).

(4)

"فتح الباري"(13/ 8).

ص: 673

الجور، أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلًا، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هلاك أمتي على يدي أُغَيلَمة سفهاء

")

بسط الحافظ

(1)

الكلام على هذا الباب، وذكر الروايات الواردة في ذلك، ثم قال: وقد ذكره في الباب بدون قوله: "سفهاء"، وعند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة:"إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش"، ولم يقف عليه الكرماني فقال: لم يقع في الحديث الذي أورده بلفظ "سفهاء" فلعله بوّب به ليستدركه ولم يتفق له، أو أشار إلى أنه ثبت في الجملة لكنه ليس على شرطه، قلت: الثاني هو المعتمد، وقد أكثر البخاري من هذا، انتهى.

قلت: وهذا أصل معروف من أصول التراجم وهو الأصل الحادي والأربعون كما تقدم في المقدمة.

ثم قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: جاء المراد بالهلاك مبينًا في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رفعه: "أعوذ بالله من إمارة الصبيان" قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: "إن أطعتموهم هلكتم - أي: في دينكم - وإن عصيتموهم أهلكوكم" أي: في دنياكم، بإزهاق النفس أو بإذهاب المال أو بهما.

تنبيه: قال الحافظ

(4)

: يتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع

(1)

"فتح الباري"(13/ 9).

(2)

"فتح الباري"(13/ 10).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 10).

(4)

"فتح الباري"(13/ 11).

ص: 674

أن الظاهر أنهم من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجة عليهم لعلهم يتعظون، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك، انتهى.

قلت: وذكر بعض تلك الروايات الدميري في "حياة الحيوان"

(1)

في ذكر الوزغ، فارجع إليه لو شئت.

(4 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للعرب من شر قد اقترب

")

قال الحافظ

(2)

: إنما خصّ العرب بالذكر؛ لأنهم أوّل من دخل في الإسلام، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم، وذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث زينب بنت جحش، وهو مطابق للترجمة، قال ابن بطال

(3)

: أنذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقرب قيام الساعة كي يتوبوا قبل أن تهجم عليهم، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة، فإذا فتح من ردمهم ذلك القدر في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يزل الفتح يتسع على مر الأوقات، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: قوله: "من شر قد اقترب" أراد به الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين من وقعة عثمان رضي الله عنه وما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وخصّ العرب بالذكر، فذكر ما تقدم في كلام الحافظ.

وقال القاري في "المرقاة"

(5)

: وخص العرب بذلك لأنهم كانوا حينئذٍ معظم من أسلم، والأظهر أن المراد به ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه بقوله:"فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج" الحديث، والله أعلم.

(1)

"حياة الحيوان"(2/ 489).

(2)

"فتح الباري"(13/ 11 - 13).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 11).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 13).

(5)

"مرقاة المفاتيح"(9/ 287، 288).

ص: 675

قال الطيبي: أراد به الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين من وقعة عثمان رضي الله عنه، أو ما وقع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه، أقول: أراد به قضية يزيد مع الحسين رضي الله عنه، وهو في المعنى أقرب؛ لأن شره ظاهر عند كل أحد من العرب والعجم، وقال ابن الملك رحمه الله: قوله: "من شر" أي: من خروج جيش يقاتل العرب، وقيل: أراد به الفتن الواقعة في العرب أولها قتل عثمان واستمرت إلى الآن، انتهى.

وقال الحافظ في موضع آخر من "الفتح"

(1)

: قال القرطبي: ويحتمل أن يكون المراد بالشر ما أشار إليه في حديث أم سلمة: "ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا أنزل من الخزائن" فأشار بذلك إلى الفتوح التي فتحت بعده، فكثرت الأموال في أيديهم، فوقع التنافس الذي جرّ الفتن، وكذلك التنافس على الإمرة، فإن معظم ما أنكروه على عثمان تولية أقاربه من بني أمية وغيرهم، حتى أفضى ذلك إلى قتله، وترتب على قتله من القتال بين المسلمين ما اشتهر واستمر، انتهى.

(5 -‌

‌ باب ظهور الفتن)

وسيأتي في "باب قوله صلى الله عليه وسلم: الفتنة من قبل المشرق" أن ابتداء الفتن كان بسبب قتل عثمان.

قال الحافظ

(2)

ذيل شرح حديث الباب: وقد جاء عن أبي هريرة من طريق أخرى زيادة في الأمور المذكورة، فأخرج الطبراني في "الأوسط" من طريق سعيد بن جبير عنه رفعه:"لا تقوم الساعة حتى تظهر الفحش والبخل، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول، ويظهر التحوت" قالوا: يا رسول الله وما التحوت والوعول؟ قال: "الوعول: وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس ليس يعلم بهم".

قال ابن بطال: وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها

(1)

"فتح الباري"(13/ 107).

(2)

"فتح الباري"(13/ 15 - 17).

ص: 676

عيانًا، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح في القلوب، وعمت الفتن، وكثر القتل.

قال الحافظ: الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر. . .، إلى آخر ما ذكر الحافظ، ثم قال: والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاثمائة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض ويكثر بعضها في بعض.

قال ابن بطال: ليس في هذا الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله: "يتقارب الزمان"، ثم بسط الحافظ الكلام في شرحه، ولخصه القسطلاني

(1)

، وتقدم الكلام عليه في هامش "اللامع"

(2)

في أبواب الاستسقاء.

وقال الحافظ أيضًا: وأما قول ابن بطال: إن بقية الحديث لا تحتاج إلى تفسير فليس كما قال، فقد اختلف أيضًا في المراد بقوله:"ينقص العلم" ثم بسط الأقوال.

(6 -‌

‌ باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه)

قال ابن بطال

(3)

: هذا الخبر من أعلام النبوة من إخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي، وإنما يعلم بالوحي، انتهى.

وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 15).

(2)

"لامع الدراري"(4/ 179).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 14).

ص: 677

التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل: إن الشر اضمحلَّ في زمانه لما كان بعيدًا فضلًا عن أن يكون شرًّا من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم:"وخير القرون قرني" وهو في الصحيحين، وقوله:"أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" أخرجه مسلم، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قوله: (ربّ كاسية في الدنيا. . .) إلخ، قال الحافظ

(2)

: واختلف في المراد بقوله: "كاسية وعارية" على أوجه: أحدها: كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا، ثانيها: كاسية بالثياب لكنها شفافة لا تستر عورتها فتعاقب في الآخرة بالعري جزاء على ذلك، ثالثها: كاسية من نعم الله تعالى عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب، رابعها: كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية فتعاقب في الآخرة، خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها كما قال تعالى:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101].

وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، انتهى من "الفتح".

(1)

"فتح الباري"(13/ 21).

(2)

"فتح الباري"(13/ 23).

ص: 678

(7 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا

")

قال القسطلاني

(1)

: أي: لقتالنا معشر المسلمين بغير حق لما في ذلك من تخويف المسلمين وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل على المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة، ومن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق، فيحمل على البغاة ومن بدأ بالقتال ظالمًا، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض

")

قال الحافظ

(2)

رحمه الله: وفي الباب خمسة أحاديث، وترجم بلفظ ثالث، وتقدم بيان المراد به في أوائل "كتاب الديات"، وجملة الأقوال فيه ثمانية: أحدها: قول الخوارج أنه على ظاهره، ثانيها: هو في المستحلين، ثالثها: المعنى كفارًا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الدين، رابعها: تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضًا، خامسها: لابسين السلاح يقال: كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبًا، سادسها: كفارًا بنعمة الله تعالى، سابعها: المراد الزجر عن الفعل وليس ظاهره مرادا، ثامنها: لا يكفر بعضكم بعضًا، كأن يقول أحد الفريقين للآخر: يا كافر ويكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعًا وعاشرًا ذكرتهما في "كتاب الفتن"، كذا قال الحافظ في "كتاب الديات"، وقال ههنا في "كتاب الفتن": والتاسع: أن المراد ستر الحق، والكفر لغة الستر؛ لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله كأنه غطّى على حقه الثابت له عليه، والعاشر: أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر، انتهى مختصرًا.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 22، 23).

(2)

"فتح الباري"(12/ 194) و (13/ 27).

ص: 679

(9 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون فتنةٌ القاعد فيها خير. . .") إلخ

في هامش المصرية

(1)

: المراد بالخيرية أن يكون المفضل أقلّ شرًا من المفضل عليه إذ القاعد عن الفتنة أقل شرًا من القائم لها، والقائم لها أقل شرًا من الماشي لها، والماشي لها أقل شرًا من الساعي في إثارتها، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(2)

تحت حديث الباب: وفيه التحذير من الفتن وأن شرها يكون بحسب الدخول فيها، والمراد بالفتن جميعها، أو المراد ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل، وعلى الأول فقالت طائفة بلزوم البيوت، وقال آخرون بالتحول عن بلد الفتنة أصلًا، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إذا هجم عليه في شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وماله وأهله وهو معذور إن قتل أو قتل، انتهى.

وذكره الحافظ في "الفتح"

(3)

بشيء من البسط.

وذكر النووي فيه ثلاثة مذاهب وأجاد إذ قال في "شرح مسلم"

(4)

تحت حديث الباب: وهذا الحديث والأحاديث قبله وبعده مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة فقالت طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين، وإن دخلوا عليه بيته، وطلبوا قتله، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبي بكرة الصحابي وغيره، وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها، لكن إن قصد دفع عن نفسه، فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة

(1)

"تحفة الباري"(6/ 433).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 33).

(3)

"فتح الباري"(13/ 31).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 237).

ص: 680

علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن، والقيام معه لمقاتلة الباغين، كما قال تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الآية [الحجرات: 9]، وهذا هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون، والله أعلم، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء تلك الأحاديث على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، واتفق أهل السُّنَّة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفى الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، إلى آخر ما بسط.

(10 -‌

‌ باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلًا، وقيل: هو محمول على من استحل ذلك، انتهى.

(11 -‌

‌ باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة)

قال الحافظ

(3)

: المعنى ما الذي يفعل المسلم في حال الاختلاف من قبل أن يقع الإجماع على خليفة.

وبسط الحافظ الكلام على شرح الحديث فقال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل

(1)

"فتح الباري"(13/ 34).

(2)

"فتح الباري"(13/ 33).

(3)

"فتح الباري"(13/ 35 - 37).

ص: 681

الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، انتهى.

(12 -‌

‌ باب من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم)

أي: أهلهما، والمراد بالسواد الأشخاص، وقد جاء عن ابن مسعود مرفوعا:"من كثر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل به"، أخرجه أبو يعلى، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(13 -‌

‌ باب إذا بقي في حثالة من الناس)

قال الحافظ

(2)

: أي: ماذا يصنع؟ وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبري وصححّه ابن حبان من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبّك بين أصابعه" قال: فما تأمرني؟ قال: "عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم"، قال ابن بطال: أشار البخاري إلى هذا الحديث ولم يخرجه؛ لأن العلاء ليس من شرطه، فأدخل معناه في حديث حذيفة، انتهى.

(14 -‌

‌ باب التعرب في الفتنة)

أي: السكنى مع الأعراب، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر إليها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيًا، وكان إذ ذاك محرمًا إلى أن أذن له الشارع في ذلك، وقيده بالفتنة إشارةً إلى ما ورد من الإذن في ذلك عند حلول الفتن، كما في ثاني حديثي الباب، وقيل بمنعه في زمن الفتنة لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك، فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(13/ 37، 38).

(2)

"فتح الباري"(13/ 38، 39).

(3)

"فتح الباري"(13/ 41).

ص: 682

(15 -‌

‌ باب التعوذ من الفتن)

قال ابن بطال

(1)

: في مشروعية ذلك الردّ على من قال: سلوا الله الفتنة فإن فيها حصاد المنافقين، وزعم أنه ورد في حديث، وهو لا يثبت رفعه، بل الصحيح خلافه.

قال الحافظ: أخرجه أبو نعيم من حديث علي بلفظ: "لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان، فإنها تبير المنافقين"، وفي سنده ضعيف ومجهول، وقد تقدم في "الدعوات" عدة تراجم للتعوذ من عدة أشياء، قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم مشروعية ذلك لأمته، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(16 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الفتنة من قبل المشرق)

في هامش المصرية

(3)

: أي: تأتي من جهته؛ لأن أهله يومئذ أهل كفر، انتهى.

قال الحافظ

(4)

: وقد ذكرت في شرح حديث أسامة في أوائل "كتاب الفتن" وجه الجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى الفتن خلال بيوتكم"، وكان خطابه ذلك لأهل المدينة، انتهى.

وقال الحافظ

(5)

هناك: وإنما اختصت المدينة بذلك؛ لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبالصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان أشد أسبابه الطعن على أمرائه، ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق، وهي من جهة المشرق،

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 43).

(2)

"فتح الباري"(13/ 44).

(3)

"تحفة الباري"(6/ 438).

(4)

"فتح الباري"(13/ 46).

(5)

"فتح الباري"(13/ 13).

ص: 683

فلا منافاة بين حديث ال‌

‌باب

وبين حديث: "أن الفتنة من قبل المشرق"، انتهى.

قلت: وقد ورد في "سنن أبي داود"

(1)

في "باب خبر الجساسة" أن الدجال في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو ما هو مرتين، وأومأ بيده قبل المشرق.

(17 -‌

‌ باب الفتنة تموج كموج البحر. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(2)

: قيل: أشار به إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: في هذه الأمة خمس فتن، فذكر الأربعة، ثم فتنة تموج كموج البحر، وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم، أي: لا عقول لهم، انتهى، وهكذا في "الفتح"

(3)

.

(18 - باب)

بغير ترجمة، قال الحافظ

(4)

: كذا للجميع بغير ترجمة، وسقط لابن بطال، وذكر فيه ثلاثة أحاديث تتعلق بوقعة الجمل، وتعلقه بما قبله ظاهر، فإنها كانت أول وقعة تَقَاتَل فيه المسلمون، انتهى.

(19 -‌

‌ باب إذا أنزل الله بقوم عذابًا)

حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث، قاله الحافظ

(5)

.

وقال أيضًا: يقال: إذا أراد الله عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا لئلا يصاب الولدان الذين لم يجر عليهم القلم، وهذا ليس له أصل، وعموم حديث عائشة يردّه، وقد شوهدت السفينة ملآى

(1)

"سنن أبي داود"(رقم 4326).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 359).

(3)

"فتح الباري"(13/ 49).

(4)

"فتح الباري"(13/ 54).

(5)

"فتح الباري"(13/ 60).

ص: 684

من الرجال والنساء والأطفال تغرق فيهلكون جميعًا، ومثله الدار الكبيرة تحرق، والرفقة الكثيرة تخرج عليها قطاع الطريق فيهلكون جميعًا أو أكثرهم، والبلد من بلاد المسلمين يهجمها الكفار فيبذلون السيف في أهلها، وقد وقع ذلك من الخوارج قديمًا، ثم من القرامطة، ثم من التتر أخيرًا، والله المستعان، انتهى.

وقال أيضًا

(1)

: وجنح ابن أبي جمرة

(2)

إلى أن الذين يقع لهم ذلك بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقًا لا يرسل الله عليهم العذاب بل يدفع بهم العذاب، إلى آخر ما بسط.

ثم قال: ومقتضى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي، وما قدمناه قريبًا أشبه بظاهر الحديث، وإلى نحوه مال القاضي ابن العربي، انتهى.

(20 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: إن ابني هذا سيد. . .) إلخ

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخة "الفتح":"لسيد" بزيادة اللام.

قال الحافظ

(3)

: ولم أر في شيء من طرق المتن "لسيد" باللام كما وقع في هذه الترجمة، انتهى.

قوله: (بين فئتين من المسلمين) أي: طائفة الحسن وطائفة معاوية رضي الله عنهما، وفيه علم من أعلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد ترك الحسن الملك ورعًا ورغبة فيما عند الله، ولم يكن ذلك لعلة ولا لقلة ولا لذلة، بل صالح معاوية رعايةً للدين وتسكينًا للفتنة وحقن دماء المسلمين، روي أن أصحاب

(1)

"فتح الباري"(13/ 61).

(2)

"بهجة النفوس"(4/ 266).

(3)

"فتح الباري"(13/ 62).

ص: 685

الحسن قالوا له: يا عار المؤمنين! فقال رضي الله عنه: "العار خير من النار"، وفي الحديث أيضًا دلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب، انتهى من "القسطلاني"

(1)

.

وبسط الحافظ

(2)

الكلام على فوائد الحديث، وتقدمت هذه الترجمة بهذا اللفظ في "كتاب الصلح"، ولا يتوهم التكرار فإن ذكره هناك من حيث الصلح، وههنا لمناسبة الفتنة، إذ الصلح كان لدفع الفتنة.

(21 -‌

‌ باب إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه)

قال الحافظ

(3)

: ذكر فيه حديث ابن عمر: "ينصب لكل غادر لواء"، وفيه قصة لابن عمر في بيعة يزيد بن معاوية، وحديث أبي برزة في إنكاره على الذين يقاتلون على الملك من أجل الدنيا، وحديث حذيفة في المنافقين، ومطابقة الأخير للترجمة ظاهرة، ومطابقة الأول لها من جهة أن في القول في الغيبة بخلاف ما في الحضور نوع غدر، وسيأتي في "كتاب الأحكام" ترجمة ما يكره من ثناء السلطان فإذا خرج قال غير ذلك، وذكر فيه قول ابن عمر لمن سأله عن القول عند الأمراء بخلاف ما يقال بعد الخروج عنهم: كنا نعده نفاقًا، ومطابقة الثاني من جهة أن الذين عابهم أبو برزة كانوا يظهرون أنهم يقاتلون لأجل القيام بأمر الدين ونصر الحق، وكانوا في الباطن إنما يقاتلون لأجل الدنيا، انتهى.

قلت: وسيأتي معنى هذه الترجمة في "كتاب الأحكام" ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك، ويأتي الفرق هناك.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 65).

(2)

"فتح الباري"(13/ 67).

(3)

"فتح الباري"(13/ 69).

ص: 686

(22 -‌

‌ باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور)

بضم أوله وفتح ثالثه على البناء للمجهول من الغبطة، وهي تمني مثل حال المغبوط مع بقاء حاله، قاله الحافظ

(1)

..

وقال في شرح الحديث: قال ابن بطال: تغبط أهل القبور وتمني الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله، وظهور المعاصي والمنكر، انتهى.

وليس هذا عامًا في حق كل أحد، وإنما هو خاص بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة:"لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء".

ثم قال الحافظ: قال ابن عبد البر: ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا، وقال غيره: ليس بينهما معارضة لأن النهي صريح، وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار عما سيقع.

قلت: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: "وليس به الدين إنما هو البلاء" فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودًا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف.

(1)

"فتح الباري"(13/ 75).

ص: 687

قال النووي: لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف، منهم عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وغيرهما، إلى آخر ما بسط.

(23 -‌

‌ باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان)

قال الحافظ

(1)

ذيل شرح حديث الباب: قال ابن بطال

(2)

: هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ، ثم ذكر حديث:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق" الحديث، ثم بسط الحافظ الكلام على هذا فارجع إليه لو شئت.

ثم ذكر المصنف في الباب حديثين، ومطابقة الأول للترجمة ظاهرة، وأما مطابقة الثاني فقد قال الحافظ: قال الإسماعيلي: ليس هذا الحديث من ترجمة الباب في شيء، وذكر ابن بطال أن المهلب أجاب بأن وجهه: أن القحطاني إذا قام وليس من بيت النبوة ولا من قريش الذين جعل الله فيهم الخلافة، فهو من أكبر تغير الزمان وتبديل الأحكام، بأن يطاع في الدين من ليس أهلًا لذلك، انتهى.

وحاصله: أنه مطابق لصدر الترجمة وهو تغير الزمان، وتغيره أعم من أن يكون فيما يرجع إلى الفسق أو الكفر، فقصة القحطاني مطابقة للتغير بالفسق مثلًا، وقصة ذي الخلصة للتغير بالكفر، واستدل بقصة القحطاني على أن الخلافة يجوز أن تكون في غير قريش، إلى آخر ما في "الفتح"

(3)

.

(24 -‌

‌ باب خروج النار. . .) إلخ

أي: من أرض الحجاز، ذكر فيه ثلاثة أحاديث، والمراد بالأشراط

(1)

"فتح الباري"(13/ 76).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 60).

(3)

"فتح الباري"(13/ 78).

ص: 688

العلامات التي يعقبها قيام الساعة، وتقدم في "‌

‌باب

الحشر" من "كتاب الرقاق" صفة حشر النار لهم، قاله الحافظ

(1)

.

وقال أيضًا: قوله: "حتى تخرج نار. . ." إلخ، قال القرطبي في "التذكرة": قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة المنورة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم، عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج ومآذن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق، له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراق، واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر، وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رؤيت من مكة وجبال بصرى، قال النووي

(2)

: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام، انتهى.

ومطابقة الحديث الثالث بالترجمة يستفاد من كلام الحافظ

(3)

حيث قال: ولا مانع أن يكون ذلك عند خروج النار للمحشر، انتهى.

(25 - باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، لكن سقط من شرح ابن بطال، وذكر أحاديثه في الباب الذي قبله، وعلى الأول فهو كالفصل من الذي قبله، وتعلقه به من جهة الاحتمال أن ذلك يقع في الزمان الذي يستغني فيه

(1)

"فتح الباري"(13/ 79).

(2)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (9/ 256).

(3)

"فتح الباري"(13/ 81).

ص: 689

الناس عن المال، إما لاشتغال كل منهم بنفسه عند طروق الفتنة فلا يلوي على الأهل فضلًا عن المال، وذلك في زمن الدجال، وإما بحصول الأمن المفرط والعدل البالغ بحيث يستغني كل أحد بما عنده عما في يد غيره، وذلك في زمن المهدي وعيسى ابن مريم، وإما عند خروج النار التي تسوقهم إلى المحشر، فيعز حينئذ الظهر وتباع الحديقة بالبعير الواحد، ولا يلتفت أحد حينئذ إلى ما يثقله من المال، بل يقصد نجاة نفسه ومن يقدر عليه من ولده وأهله، وهذا أظهر الاحتمالات، وهو المناسب لصنيع البخاري، والعلم عند الله، ثم بسط الحافظ

(1)

الكلام على ثاني حديثي الباب.

(26 -‌

‌ باب ذكر الدجّال)

قال القسطلاني

(2)

: بتشديد الجيم فعال من أبنية المبالغة، أي: يكثر منه الكذب والتلبيس، وهو الذي يظهر في آخر الزمان يدعي الإلهية، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مخلوقاته كإحياء الميت الذي يقتله، وإمطار السماء وإنبات الأرض بأمره، ثم يعجزه الله بعد ذلك، فلا يقدر على شيء، ثم يقتله عيسى عليه السلام، وفتنته عظيمة جدًا تدهش العقول وتحير الألباب، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قال القرطبي في "التذكرة": اختلف في تسميته دجالًا على عشرة أقوال، ومما يحتاج إليه في أمر الدجال أصله، وهل هو ابن صياد وغيره؟ وعلى الثاني فهل هو كان موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه من الخوارق حتى تكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟

(1)

"فتح الباري"(13/ 82).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 83، 84).

(3)

"فتح الباري"(13/ 91، 92).

ص: 690

فأما الأول: فيأتي بيانه في "كتاب الاعتصام" في شرح حديث جابر أنه كان يحلف أن ابن صياد هو الدجال، وأما الثاني: فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي أخرجه مسلم أنه كان موجودًا في العهد النبوي وأنه محبوس في بعض الجزائر، وأما الثالث: ففي حديث النواس عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية، وأما سبب خروجه؟ فأخرج مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة أنه يخرج من غضبة يغضبها، وأما من أين يخرج؟ فمن قبل المشرق جزمًا، ثم جاء في رواية، أنه يخرج من خراسان، أخرج ذلك أحمد والحاكم من حديث أبي بكر، وفي أخرى: أنه يخرج من أصبهان، أخرجها مسلم، وأما صفته فمذكورة في أحاديث الباب.

وأما الذي يدعيه فإنه يخرج أولًا فيدعي الإيمان والصلاح ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الإلهية، كما أخرج الطبراني، وأما الذي يظهر على يده من الخوارق فيذكر ههنا.

وأما متى يهلك ومن يقتله؟ فإنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس فينزل عيسى فيقتله، أخرجه مسلم أيضًا، وفي حديث هشام بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال" أخرجه الحاكم، وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين من "الحلية" بسند حسن صحيح إليه قال: لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، فيحتمل أن يكون مرفوعًا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب، انتهى مختصرًا من "الفتح".

وحديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي عزاه الحافظ إلى مسلم، أخرجه أيضًا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه

(1)

كذا قال الدميري.

(1)

انظر: "صحيح مسلم"(2942)، و"سنن أبي داود"(4325)، و"سنن الترمذي"(2253)، و"سنن النسائي الكبرى"(4258)، و"سنن ابن ماجه"(4074).

ص: 691

(27 -‌

‌ باب لا يدخل الدجّال المدينة)

قال الحافظ

(1)

: أي: المدينة النبوية، ذكر فيه ثلاثة أحاديث، انتهى.

قلت: ليس في أحاديث الباب ذكر مكة.

قال الحافظ: وقد ورد من غير هذا الوجه عن أبي سعيد ما لعله يؤخذ منه ما لم يذكر، كما في رواية أبي نضرة عن أبي سعيد أنه يهودي وأنه لا يولد له، وأنه لا يدخل المدينة ولا مكة، أخرجه مسلم، انتهى.

وقد تقدمت هناك هذه الترجمة في فضائل المدينة من "كتاب الحج"، وورد في بعض الأحاديث هناك ذكر مكة فقد تقدم هناك من حديث أنس مرفوعًا:"ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" الحديث، ومع ذلك لم يعقد المصنف لذلك ترجمة ولم أر من تعرض له، فليتدبر.

(28 -‌

‌ باب يأجوج ومأجوج)

تقدم شيء من أحوالهم في "باب قصة يأجوج ومأجوج" من "كتاب الأنبياء"، ولا يتوهم التكرار فذكرهم هناك لكونهم من جملة الخلائق، وههنا لمناسبة فتنتهم كما لا يخفى، ونظائره في البخاري كثيرة.

ثم البراعة في قوله: "أنهلك وفينا الصالحون"، وأيضًا فتح ردم يأجوج ومأجوج مذكر لأهوال القيامة

(2)

.

* * *

(1)

"فتح الباري"(13/ 101).

(2)

"لامع الدراري"(1/ 119).

ص: 692

93 -

‌ كتاب الأحكام

قال الحافظ

(1)

: الأحكام جمع حكم، والمراد بيان آدابه وشروطه، وكذا الحاكم، ويتناول لفظ الحاكم الخليفة والقاضي، فذكر ما يتعلق بكل منهما، والحكم الشرعي عند الأصوليين خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، ومادة الحكم من الإحكام وهو الإتقان للشيء ومنعه من العيب، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: جمع حكم، وهو عند الأصوليين خطاب الله وهو كلامه النفسي الأزلي المسمى في الأزل خطابًا المتعلق بأفعال المكلفين، وهم البالغون العاقلون من حيث إنهم مكلفون، وخرج بفعل المكلفين خطاب الله تعالى المتعلق بذاته وصفاته، وذوات المكلفين والجمادات كمدلول {لَا إِلَهَ إلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47]، وإذا تقرر أن الحكم خطاب الله فلا حكم إلا لله خلافًا للمعتزلة القائلين بتحكيم العقل، انتهى.

قلت: وترجم في "الموطأ" بكتاب الأقضية.

وفي "الأوجز"

(3)

عن "الدر المختار"

(4)

: القضاء بالمد والقصر لغةً: الحكم، وقال الدردير

(5)

: هو لغة يطلق على معان، منها: الفراغ، ومنها: الأداء، ومنها الحكم، وهو المراد ههنا، والقاضي الحاكم.

وبسط في "الأوجز" الكلام على أبواب القضاء عن ابن رُشد

(6)

.

(1)

"فتح الباري"(13/ 111).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 99).

(3)

"أوجز المسالك"(13/ 545).

(4)

"رد المحتار"(8/ 24).

(5)

"الشرح الكبير"(4/ 129).

(6)

انظر: "بداية المجتهد"(2/ 459).

ص: 693

وفي "الفيض"

(1)

بعد ذكر معنى الحكم: ولا يدرى ماذا يريد به المحدثون، فإنهم يعقدون باب الأحكام، ثم يخرجون تحته جزئيات القضاء، انتهى.

كذا قال، ولكن لا إشكال فيه، فإنه قد تقدم عن "الدر المختار" أن الحكم والقضاء بمعنى، فإخراج المصنف تحته جزئيات القضاء ليس في غير محله.

(1 -‌

‌ باب قول الله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء:

59])

قال الحافظ

(2)

: في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافًا لمن قال: نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضًا الطبري، وتقدم في تفسيرها في سورة النساء بسط القول في ذلك، انتهى.

(2 -‌

‌ باب الأمراء من قريش)

ولفظ الترجمة لفظ حديث أخرجه أبو يعلى والطبراني، وفي لفظ للطبراني "الأئمة" بدل "الأمراء"، وله شاهد من حديث علي رفعه:"ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثًا" الحديث إلى آخر ما ذكر الحافظ من الروايات الواردة في ذلك.

ثم قال: ولما لم يكن شيء منها على شرط المصنف في الصحيح اقتصر على الترجمة، وأورد الذي صحّ على شرطه مما يؤدي معناه في الجملة.

وبسط الحافظ الكلام على مضمون حديث الباب كون الأمراء من قريش

(3)

.

(1)

"فيض الباري"(6/ 476).

(2)

"فتح الباري"(13/ 111).

(3)

"فتح الباري"(13/ 114).

ص: 694

قال القسطلاني

(1)

: قال النووي: في الحديث أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لغيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة ومن بعدهم، ومن خالف في ذلك من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة، قال ابن المنيِّر: وقد ظهر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك بطريق الشوكة لا ينكر أن الخلافة في قريش، وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم، انتهى.

ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض، إلى آخر ما ذكر القسطلاني.

قال الحافظ

(2)

بحثًا على المسألة: قال القرطبي

(3)

: هذا الحديث خبر عن المشروعية، أي: لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، انتهى.

وفي "الفيض"

(4)

: والمشهور في كتب الكلام أن القريشية شرط للخلافة الكبرى، وفي "الدر المختار" في "باب الإمامة": أن الإمامة على نحوين: إمامة صغرى، وإمامة كبرى، وتشترط القريشية في الكبرى، ولا يشترط كونه سيدًا، نعم في "مواهب الرحمن": أنها ليست بشرط عند إمامنا، إلى آخر ما ذكر.

(3 -‌

‌ باب أجر من قضى بالحكمة. . .) إلخ

سقط لفظ "أجر" من رواية أبي زيد المروزي، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الباب ما يدل عليه، فيمكن أن يؤخذ من لازم الإذن في تغبيط من قضى بالحكمة، فإنه يقتضي ثبوت الفضل فيه، وما ثبت فيه الفضل ترتب عليه الأجر، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 104).

(2)

"فتح الباري"(13/ 118).

(3)

"المفهم"(4/ 6).

(4)

"فيض الباري"(6/ 477).

(5)

"فتح الباري"(13/ 120).

ص: 695

(4 -‌

‌ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية)

إنما قيَّده بالإمام وإن كان في أحاديث الباب الأمر بالطاعة لكل أمير ولو لم يكن إمامًا؛ لأن محل الأمر بطاعة الأمير أن يكون مؤمرًا من قبل الإمام، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(5 -‌

‌ باب من لم يسأل الله الإمارة أعانه الله)

كذا في النسخ الهندية، وفي نسخ الشروح الثلاثة من "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني" والنسخة التي عليها حاشية السندي ففيها "باب من لم يسأل الإمارة" بدون زيادة لفظ الجلالة، ولم يتعرض لذلك الاختلاف أحد من الشرَّاح، وما في نسخ الشروح هو الأوجه.

قال الحافظ

(2)

تحت حديث الباب: ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه، فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك، وأن من حرص على ذلك لا يعان، ويعارضه في الظاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه:"من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار"، والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي، أو يحمل الطلب هنا على القصد، وهناك على التولية، قال المهلب: والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله، وقال ابن التِّين: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} الآية [يوسف: 55]، وقال سليمان {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35]، قال: ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء، انتهى.

وقال القاري في "المرقاة"

(3)

تحت شرح حديث الباب: الإمارة بكسر الهمزة، أي: لا تطلب الحكومة والولاية، لا من الخلق ولا من الخالق، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 122).

(2)

"فتح الباري"(13/ 124).

(3)

"مرقاة المفاتيح"(7/ 260).

ص: 696

(6 -‌

‌ باب من سأل الإمارة وكل إليها)

قال العلامة العيني

(1)

تحت حديث الباب: هذا طريق آخر في الحديث المذكور في الباب الذي قبله، وهو حديث واحد، غير أنه جعل له ترجمتين باعتبار اختلاف رواته، وباعتبار قسمته على شطرين، فجعل لكل شطر ترجمة، انتهى.

قلت: فعل ذلك لمزيد الاهتمام، ومثله في الكتاب كثير كما لا يخفى على الناظر.

(7 -‌

‌ باب ما يكره من الحرص على الإمارة)

أي: على تحصيلها، ووجه الكراهة مأخوذ مما سبق في الباب الذي قبله.

قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلًا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها، والله تعالى أعلم، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(8 -‌

‌ باب من استرعي رعية فلم ينصح)

قوله: (استرعي) بضم المثناة على البناء للمجهول، يعني: جعل راعيًا على رعية، وجواب من محذوف، اكتفى عن ذكره بما في حديث الباب، انتهى من "العيني"

(3)

.

قال الحافظ

(4)

: وقد أخرج الطبراني في "الكبير" من وجه آخر عن الحسن قال: لما قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرًا أمره علينا معاوية غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا شديدًا، إلى آخر ما في "الفتح".

(1)

"عمدة القاري"(16/ 394).

(2)

"فتح الباري"(13/ 125، 126).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 395).

(4)

"فتح الباري"(13/ 128).

ص: 697

(9 -‌

‌ باب من شاق شاق الله عليه)

في رواية النسفي: "من شق" بغير ألف، والمعنى من أدخل على الناس المشقة أدخل الله عليه المشقة، فهو من الجزاء بجنس العمل، قاله الحافظ

(1)

.

(10 -‌

‌ باب القضاء والفتيا في الطريق)

قال الحافظ

(2)

: كذا سوّى بينهما، والأثران المذكوران في الترجمة صريحان فيما يتعلق بالقضاء، والحديث المرفوع يؤخذ منه جواز الفتيا، فيلحق به الحكم، ونقل عن المهلب: الفتيا في الطريق وعلى الدابة ونحو ذلك من التواضع، فإن كانت لضعيف فهو محمود، وإن كانت لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه.

قلت: والمثال الثاني ليس بجيد، فقد يترتب على المسؤول من ذلك ضرر فيجيب ليأمن شره فيكون في هذه الحالة محمودًا.

قال: واختلف في القضاء سائرًا أو ماشيًا، فقال الأشهب: لا بأس به إذا لم يشغله عن الفهم، وقال سحنون: لا ينبغي، وقال ابن حبيب: لا بأس بما كان يسيرًا، وأما الابتداء بالنظر ونحوه فلا، قال ابن بطال

(3)

: وهو حسن، وقول أشهب أشبه بالدليل، وقال ابن التِّين: لا يجوز الحكم في الطريق فيما يكون غامضًا، كذا أطلق، والأشبه التفصيل، وقد تقدم في "كتاب العلم" ترجمة:"الفتيا على الدابة"، ووقع في حديث جابر الطويل في حجة الوداع عند مسلم:"وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ليراه الناس وليشرف لهم ليسألوه"، والأحاديث في سؤال الصحابة وهو سائر ماشيًا وراكبًا كثيرة، انتهى.

وفي "فيض الباري"

(4)

: قد مرَّ أن الفتيا والقضاء قد يختلفان في

(1)

"فتح الباري"(13/ 129).

(2)

"فتح الباري"(13/ 131، 132).

(3)

"شرح ابن بطال"(8/ 222).

(4)

"فيض الباري"(6/ 481).

ص: 698

الفقه، والظاهر من كلام المصنف أن لا فرق في القضاء والفتوى عنده، انتهى.

(11 -‌

‌ باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بوَّاب)

أي: راتب ليمنع الناس من الدخول عليه، قاله القسطلاني

(1)

.

قال الحافظ

(2)

: قال المهلب: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بواب راتب، يعني: فلا يردّ ما تقدم في المناقب من حديث أبي موسى أنه كان بوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على القف.

قال الكرماني

(3)

: معنى قوله: "لم يجد عليه بوابًا" أنه لم يكن له بواب راتب، أو في حجرته التي كانت مسكنًا له، أو لم يكن البواب بتعينه بل باشرا ذلك بأنفسهما، يعني: أبا موسى ورباحًا، قلت: والأول كاف، وفي الثاني نظر؛ لأنه إذا انتفى في الحجرة مع كونها مظنة الخلوة فانتفاؤه في غيرها أولى، إلى آخر ما ذكر الحافظ.

وقال القسطلاني

(4)

: واختلف في مشروعية الحجاب للحاكم، فقال إمامنا الشافعي: لا ينبغي اتخاذه له، وقال آخرون بالجواز، وقال آخرون: يستحب لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشرير، ويكره دوام الاحتجاب، وقد يحرم، ففي أبي داود والترمذي

(5)

بسند جيد مرفوعًا: "من ولاه الله من أمر الناس شيئًا، فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن حاجته يوم القيامة"، انتهى.

زاد الحافظ: ومنهم من قيَّد جوازه بغير وقت جلوسه للناس لفصل الأحكام، ومنهم من عمم الجواز، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 120).

(2)

"فتح الباري"(13/ 132، 133).

(3)

"شرح الكرماني"(24/ 202).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 121).

(5)

"سنن أبي داود"(2948)، و"سنن الترمذي"(1333).

ص: 699

(12 -‌

‌ باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه)

أي: الذي ولّاه من غير احتياج إلى استئذانه في خصوص ذلك، قاله الحافظ

(1)

.

وفي "الفيض"

(2)

: يعني أن القضاء بالقصاص لا يختص بالحاكم الأعلى، بل يقضي به من كان تحته من الحكام أيضًا، انتهى.

ويظهر من كلام الشرَّاح أن الغرض من الترجمة الردّ على من زعم أن الحدود لا يقيمها عمال البلاد إلا بعد مشاورة الإمام الذي ولّاهم، كما في "الفتح" وغيره.

قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال

(4)

: اختلف العلماء في هذا الباب، فذهب الكوفيون إلى أن القاضي حكمه حكم الوكيل لا يطلق يده إلا فيما أذن له فيه، وحكمه عند غيرهم حكم الوصي، له التصرف في كل شيء، ويطلق يده على النظر في جميع الأشياء إلا ما استثني، انتهى.

ونقل الطحاوي عنهم أن الحدود لا يقيمها إلا أمراء الأمصار، ولا يقيمها عامل السواد ولا نحوه، ونقل ابن القاسم: لا تقام الحدود في المياه بل تجلب إلى الأمصار، ولا يقام القصاص في القتل في مصر كلها إلا بالفسطاط، يعني: لكونها منزل متولي مصر، وقال أشهب: بل من فوّض له الوالي ذلك من عمال المياه جاز له أن يفعله، وعن الشافعي نحوه، قال ابن بطال: والحجة في الجواز حديث معاذ، فإنه قتل المرتد دون أن يرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى من "الفتح".

قلت: وحاصل المقام أنه يجوز عندنا الحنفية لأمير البلد إقامة الحد، صرّح به صاحب "البدائع"

(5)

إذ قال: وللإمام أن يستخلف على إقامة

(1)

"فتح الباري"(13/ 134).

(2)

"فيض الباري"(6/ 481).

(3)

"فتح الباري"(13/ 136).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 225).

(5)

"بدائع الصنائع"(5/ 525، 526).

ص: 700

الحدود لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه، فلو لم يجز الاستخلاف لتعطلت الحدود، ثم الاستخلاف نوعان: تنصيص وتولية، أما التنصيص فهو أن ينصّ على إقامة الحدود، فيجوز للخليفة إقامتها بلا شك، وأما التولية فعلى ضربين: عامة وخاصة، فالعامة هي أن يولي رجلًا ولاية عامة، مثل إمارة إقليم أو بلد عظيم، فيملك المولى إقامة الحدود وإن لم ينص عليها، والخاصة أن يولي رجلًا ولايةً خاصةً مثل جباية الخراج ونحو ذلك، فلا يملك إقامة الحدود؛ لأن هذه التولية لم تتناول إقامة الحدود، انتهى ملخصًا.

فحديث معاذ في قتل المرتد لا يخالف الحنفية؛ لأن أبا موسى ومعاذًا كانا أميرين على اليمن، وهو بلد عظيم، ولذا قال النووي في "شرح مسلم"

(1)

تحت حديث معاذ هذا: قال القاضي عياض: وفيه أن لأمراء الأمصار إقامة الحدود في القتل وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة إلى آخر ما قال.

وأما عمال السواد والمياه فيجوز لهم إقامة الحد عند الشافعي، ورواية عن مالك كما تقدم في كلام الحافظ، ولا يجوز لهم إقامة الحد عندنا الحنفية كما تقدم النقل بذلك عن الطحاوي، فاستدلال بعض شرَّاح البخاري مثل الحافظ وتبعه القسطلاني على أنه يجوز لعمال السواد إقامة الحدود، فهذا الاستدلال كما ترى ليس في محله، وأيضًا فإن حديث الباب في قتل المرتد، وأحكام المرتد يغاير أحكام الحدود، فإن قتل المرتد عندنا أيضًا غير مفوض إلى الإمام كما في "حاشية ابن عابدين" بخلاف إقامة حد الرجم فإنه مفوض إليه أو إلى نائبه، فتدبر وتشكر، فهذا غاية توضيح للمقام.

وفي الحديث الأول قد استشكلت مطابقة الحديث للترجمة، فأشار الكرماني إلى أنها تؤخذ من قوله:"دون الحاكم" لأن معناه "عند"، وهذا

(1)

"شرح صحيح مسلم"(6/ 449).

ص: 701

جيد إن ساعدته اللغة، وعلى هذا فكأن قيسًا كان من وظيفته أن يفعل ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بأمره، سواء كان خاصًا أم عامًا.

قال الكرماني

(1)

: ويحتمل أن تكون "دون" بمعنى "غير"، قال: وهو الذي يحتمله الحديث الثاني لا غير، قلت: فيلزم أن يكون استعمل في الترجمة "دون" في معنيين، انتهى.

وقال العلامة السندي

(2)

: ذكر فيه ثلاثة أحاديث، فالأول والثاني إما لمجرد نصب الإمام الحاكم؛ لأن ترجمة الباب تتوقف عليه، والثالث لإفادة حكم ذلك الحاكم بالقتل، أو الأوّلان لإفادة الترجمة أيضًا نظرًا إلى العادة حيث إن نصب الحاكم عادة لا يخلو عن حكمه بالقتل، والله أعلم، انتهى.

(13 -‌

‌ باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان)

وفي نسخة "الفتح": "القاضي" بدل "الحاكم".

قال الحافظ

(3)

: قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار، وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر، وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه:"لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريّان" قال الشافعي في "الأم": أكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب، ثم قال: لو خالفه فحكم في حال الغضب صحّ إن صادف الحق مع الكراهة، هذا

(1)

"شرح الكرماني"(24/ 203).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 236).

(3)

"فتح الباري"(13/ 137، 138).

ص: 702

قول الجمهور، وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه، انتهى مختصرًا، والبسط في "الفتح".

وفي "الفيض"

(1)

تحت ترجمة الباب: وقد ورد عنه النهي في الحديث، وأشار المصنف إلى تقسيم فيه، فإن ملك نفسه ولم يغلب عقله جاز له القضاء وإلا لا، انتهى.

(14 -‌

‌ باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أشار إلى قول أبي حنيفة ومن وافقه، أن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله تعالى كالحدود؛ لأنها مبنية على المسامحة، وله في حقوق الناس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لم يحكم، بخلاف ما علمه في ولايته، انتهى.

قلت: والمسألة خلافية ففي "الأوجز"

(3)

تحت حديث: "لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته" الحديث: قال الزرقاني

(4)

: تمسك به أحمد ومالك في المشهور عنه، أن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره صلى الله عليه وسلم أنه لا يحكم إلا بما سمع، ولم يقل على نحو ما علمت، وقال الشافعي وجماعة: يقضي بعلمه مطلقًا، وقال أبو حنيفة: في المال فقط دون الحدود وغيرها، وأجمعوا على أنه يجرح ويعدل بعلمه، انتهى.

وقال الموفق

(5)

: ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا في ما علمه قبل الولاية ولا بعدها، وهذا قول مالك، وعن أحمد رواية أخرى يجوز ذلك، وهو قول أبي ثور، وقال أبو حنيفة: ما كان

(1)

"فيض الباري"(6/ 482).

(2)

"فتح الباري"(13/ 139).

(3)

"أوجز المسالك"(13/ 553).

(4)

"شرح الزرقاني"(3/ 384).

(5)

"المغني"(14/ 31).

ص: 703

من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه، وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علم في ولايته حكم به، انتهى.

وهذا التفصيل في مسلك الحنفية إنما هو على قول الإمام، وأما عند صاحبيه فيجوز مطلقًا في حقوق العباد سواء علمه قبل القضاء أو بعده، كما في "الدر المختار"

(1)

وغيره، وأما قوله:"إذا لم يخف الظنون والتهمة" فقيد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لأن الذين منعوا ذلك مطلقًا اعتلوا بأنه غير معصوم، فيجوز أن تلحقه التهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوه، فجعل المصنف محل الجواز ما إذا لم يخف الحاكم الظنون والتهمة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(15 -‌

‌ باب الشهادة على الخط المختوم. . .) إلخ

مراده: هل تصح الشهادة على الخط بأنه خطّ فلان؟ وقيد بالمختوم؛ لأنه أقرب إلى عدم التزوير على الخط.

قوله: (وما يجوز من ذلك. . .) إلخ، يريد أن القول بذلك لا يكون على التعميم إثباتًا ونفيًا، بل لا يمنع ذلك مطلقًا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقًا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزًا بشروط.

قوله: (وكتاب الحاكم إلى عامله. . .) إلخ، يشير إلى الردّ على من أجاز الشهادة على الخط، ولم يجزها في كتاب القاضي وكتاب الحاكم، كذا في "الفتح"

(3)

، وفيه أيضًا: وجملة ما تضمنته هذه الترجمة بآثارها ثلاثة أحكام: الشهادة على الخط، وكتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الإقرار بما في الكتاب، وظاهر صنيع الإمام البخاري جواز جميع ذلك.

فأما الحكم الأول فقال ابن بطال

(4)

: اتفق العلماء على أن الشهادة لا تجوز للشاهد إذا رأى خطه إلا إذا تذكر تلك الشهادة، فإن كان

(1)

"رد المحتار"(8/ 157).

(2)

"فتح الباري"(13/ 139).

(3)

"فتح الباري"(13/ 141).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 230).

ص: 704

لا يحفظها فلا يشهد، فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا، وقد فعل مثله في أيام عثمان في قصة مذكورة في سبب قتله، وقد قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وأجاز مالك الشهادة على الخط، ونقل عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك، وقال الطحاوي: خالف مالكًا جميع الفقهاء، وعدّوا قوله شذوذًا؛ لأن الخط يشبه الخط.

وأما الحكم الثاني فقال ابن بطال

(1)

: اختلفوا في كتب القضاة، فذهب الجمهور إلى الجواز، واستثنى الحنفية الحدود، وهو قول الشافعي، والذي احتج به البخاري على الحنفية قوي؛ لأنه لم يصر مالًا إلا بعد ثبوت القتل، قال: وما ذكره عن القضاة من التابعين من إجازة ذلك، حجتهم فيه ظاهرة من الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الملوك ولم ينقل أنه أشهد أحدًا على كتابه، قال: ثم أجمع فقهاء الأمصار على ما ذهب إليه سوار وابن أبي ليلى من اشتراط الشهود لما دخل الناس من الفساد، فاحتيط للدماء والأموال.

وأما الحكم الثالث فقال ابن بطال

(2)

: اختلفوا إذا أشهد القاضي شاهدين على ما كتبه ولم يقرأه عليهما ولا عرفهما بما فيه، وقال مالك: يجوز ذلك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز ذلك، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(3)

، والبسط فيه.

وفي "الفيض"

(4)

: ثم اشتهر أن الخط غير معتبر عندنا؛ لأن الخط يشبه الخط، قلت: وذلك عندما يقع الجحود، وأما في البين فهو معتبر، كما أيّده الشامي في رسالة سمّاها "نشر العرف"، وحقق اعتباره إذا أمن من التزوير، واعتبروه في كتاب القاضي إلى القاضي أيضًا، انتهى.

(1)

"شرح ابن بطال"(8/ 232).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 232).

(3)

"فتح الباري"(13/ 144، 145).

(4)

"فيض الباري"(6/ 484).

ص: 705

وفي هامش النسخة "الهندية"

(1)

: قوله: "وقال بعض الناس. . ." إلخ، أراد به الحنفية، وليس غرضه من هذا إلا التشنيع عليهم، وحاصل غرض البخاري إثبات المناقضة فيما قاله الحنفية، فإنهم قالوا: كتاب القاضي جائز إلا في الحدود، ثم قالوا: إن كان القتل خطأ يجوز فيه؛ لأن قتل الخطأ في نفس الأمر لعدم القصاص فيه ملحق بسائر الأموال، والجواب أن يقال: لا نسلم أن الخطأ والعمد واحد فإن مقتضى العمد القصاص، ومقتضى الخطأ عدم القصاص ووجوب المال، وأي نسبة بين المال وبين القصاص، انتهى مختصرًا.

قوله: (يجيزون كتب القضاء بغير محضر من الشهود. . .) إلخ، قال صاحب "الفيض"

(2)

: وهذا غير مختار عندنا، بل لا بد من شهود الكتابة عندنا، انتهى.

(16 -‌

‌ باب متى يستوجب الرجل القضاء. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: أي: متى يستحق أن يكون قاضيًا، قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب "آداب القضاء" له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، قارئًا لكتاب الله، عالمًا بأكثر أحكامه، عالمًا بسنن رسول الله حافظًا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالمًا بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسُّنَّة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة بهم، ويكون حافظًا للسانه وبطنه وفرجه، فهمًا بكلام الخصوم، ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه

(1)

"حاشية صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 38).

(2)

"فيض الباري"(6/ 484).

(3)

"فتح الباري"(13/ 146).

ص: 706

ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم.

قال ابن العربي: واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيًا، والأصل قوله تعالى:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، واتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير، وحجة الجمهور الحديث الصحيح:"ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، انتهى.

وفي "حاشية البجيرمي"

(1)

من فروع الشافعية: ولا يجوز أن يلي القضاء إلا من استكمل فيه خمس عشرة خصلة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والعدالة، ومعرفة أحكام الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة الإجماع والاختلاف، ومعرفة طرق الاجتهاد، ومعرفة طرف من لسان العرب، ومعرفة تفسير كتاب الله تعالى، وأن يكون سميعًا، وبصيرًا، وأن يكون كاتبًا، والخامسة عشرة أن يكون متيقظًا، انتهى.

وفي "البدائع"

(2)

من فروع الحنفية: الصلاحية للقضاء لها شرائط: منها: العقل، ومنها: البلوغ، ومنها: الإسلام، ومنها: الحرية، ومنها: البصر، ومنها: النطق، ومنها: السلامة عن حد القذف؛ لأن القضاء من باب الولاية بل هو أعظم الولايات، وهؤلاء ليست لهم أهلية أدنى الولايات، وهي الشهادة، فلأن لا يكون لهم أهلية أعلاها أولى، وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة.

وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز بل شرط الندب والاستحباب، وعند

(1)

"حاشية البجيرمي"(4/ 379 - 380).

(2)

"بدائع الصنائع"(5/ 438، 439).

ص: 707

أصحاب الحديث كونه عالمًا بالحلال والحرام وسائر الأحكام مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك شرط جواز التقليد، كما قالوا في الإمام الأعظم، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء، فكذا في القاضي، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح، وكذا العدالة عندنا ليست بشرط الجواز لكنها شرط الكمال، انتهى مختصرًا.

قوله: (وقرأ {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ. . .} [المائدة: 44]) إلخ، قال صاحب "الفيض"

(1)

: ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن اليهود كانوا تفرقوا فرقتين: منهم من كان يعمل بالقياس، ويسمى بالربانيين، ومنهم من كان ينكره، ويقال لهم: الأحبار، وأبعد ابن حزم حيث شدد الكلام في القائسين ومن دان دينهم، انتهى.

(17 -‌

‌ باب رزق الحاكم والعاملين عليها. . .) إلخ

هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقال المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه كل عام، ويحتمل أن يكون قوله:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} عطفًا على الحاكم، أي: ورزق العاملين عليها، أي: على الحكومات، ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات، وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين بعد قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]، قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم؛ لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه، قال

(1)

"فيض الباري"(6/ 485).

ص: 708

المهلب: وجه الكراهة أنه محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، إلى آخر ما ذكر الحافظ

(1)

في شرائط الأخذ إذا كانت في مال بيت المال شبهة.

(18 -‌

‌ باب من قضى ولاعن في المسجد)

قال الحافظ

(2)

: الظرف يتعلق بالأمرين، فهو من تنازع الفعلين، ويحتمل أن يتعلق بـ "قضى" لدخول "لاعن" فيه، فإنه من عطف الخاص على العام، قال ابن بطال: استحب القضاء في المسجد طائفة، وقال مالك: هو الأمر القديم؛ لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب، قال: وبه قال أحمد وإسحاق، وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك، وقال الشافعي: أحب إليّ أن يقضى في غير المسجد لذلك، انتهى.

وفي "الهداية"

(3)

: ويجلس للحكم جلوسًا ظاهرًا في المسجد، كيلا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر، وقال الإمام الشافعي: يكره الجلوس في المسجد للقضاء إلى أن قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الخصومة في معتكفه، وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد، لفصل الخصومات، ولأن القضاء عبادة، إلى آخر ما ذكر.

قلت: وقد تقدم نحو هذا الباب في أبواب المساجد بلفظ "باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء"، ذكر صاحب "الفيض"

(4)

ههنا تحت ترجمة الباب: وافق أبا حنيفة في أن القضاء عبادة، فيصح في

(1)

"فتح الباري"(13/ 150).

(2)

"فتح الباري"(13/ 155، 156).

(3)

"الهداية"(2/ 103).

(4)

"فيض الباري"(6/ 487).

ص: 709

المسجد، فإن كان المدعى عليه ممن لا يجوز له الدخول في المسجد كالحائض يخرج إليه أو يرسل نائبه، وقال الشافعية: إنه ليس بعبادة فلا يقضى في المسجد، انتهى.

(19 -‌

‌ باب من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حدٍّ أمر أن يخرج. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: كأنه يشير بهذه الترجمة إلى من خصّ جواز الحكم في المسجد بما إذا لم يكن هناك شيء يتأذى به من في المسجد أو يقع به للمسجد نقص كالتلويث، انتهى.

وتعقب عليه العلامة العيني

(2)

فارجع إليه لو شئت، وقال تحت حديث الباب: قوله: "كنت فيمن رجمه بالمصلى. . ." إلخ، مطابقته للترجمة ظاهرة، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

تحت قوله: "اذهبوا به فارجموه. . ." إلخ، وإنما أمر بإخراجه من المسجد؛ لأن الرجم فيه يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره مما لا يناسب المسجد، فلا يلزم من تركه فيه ترك إقامة غيره من الحدود، فليتأمل مع الترجمة، ثم ذكر اختلاف العلماء في إقامة الحدود في المسجد.

قال الحافظ

(4)

تحت شرح حديث الباب: قال ابن بطال: ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وأجازه الشعبي وابن أبي ليلى، وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد، وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد، انتهى.

والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة

(1)

"فتح الباري"(13/ 157).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 418).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 145).

(4)

"فتح الباري"(13/ 157).

ص: 710

مرفوعًا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم" الحديث، وفيه:"وإقامة حدودكم" أخرجه البيهقي في "الخلافيات"، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة، وليس فيه ذكر الحدود، وسنده ضعيف، انتهى من "الفتح".

وفي "الفيض"

(1)

: قوله: "كنت فيمن رجمه بالمصلى. . ." إلخ، كتب بين السطور: أن مصلى الجنائز هو البقيع، قلت: وهو غلط بل البقيع غيره كما عرف، انتهى.

قلت: وهو كذلك فقد تقدم في "باب الرجم بالمصلى" قول القسطلاني

(2)

: أي: عند مصلى العيد والجنائز وهي من جهة بقيع الغرقد، انتهى.

(20 -‌

‌ باب موعظة الإمام للخصوم)

قال القسطلاني

(3)

: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، فينبغي للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذرهما من الظلم وطلب الباطل اقتداء به صلى الله عليه وسلم، انتهى.

(21 -‌

‌ باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء)

وفي "الفيض"

(4)

: يعني: إذا كانت عند القاضي شهادة في أمر لا يسع [له] أن يقضي بها بنفسه، ولكنه يؤديها بمحضر قاض آخر أو نائبه، ثم يحق بها ذلك القاضي، انتهى.

قال الحافظ

(5)

: أي: هل يقضي له على خصمه بعلمه ذلك أو يشهد له عند حاكم آخر؟ هكذا أورد الترجمة مستفهمًا بغير جزم لقوة الخلاف في المسألة، وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكم بعلمه فيها، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 488).

(2)

"إرشاد الساري"(14/ 264).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 147).

(4)

"فيض الباري"(6/ 489).

(5)

"فتح الباري"(13/ 159).

ص: 711

قلت: وقد تقدم مذاهب الأئمة في قضاء القاضي بعلمه قريبًا في "باب من رأى القاضي أن يحكم بعلمه. . ." إلخ، وقال الحافظ

(1)

: اتفقوا على أنه يقضي في قبول الشاهد وردّه بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية، ومحصل الآراء في هذه المسألة سبعة، إلى آخر ما ذكرها.

قوله: (قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر. . .) إلخ، بسط العلامة السندي

(2)

في شرح هذا الكلام وتوجيهه فارجع إليه لو شئت.

قوله: (ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشهد من حضره) في "الفيض"

(3)

: وهذه مسألة أخرى، وهي أنه لا يجب على القاضي أن يعيد جميع قصة المتخاصمين بين يدي الشاهدين، انتهى.

(22 -‌

‌ باب أمر الوالي إذا وجّه أميرين إلى موضع)

قال ابن بطال

(4)

وغيره: في الحديث الحضّ على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق، وفيه جواز نصب قاضيين في بلد واحد، فيقعد كل منهما في ناحية، وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشركهما فيما ولاهما، فكان ذلك أصلًا في تولية اثنين قاضيين مشتركين في الولاية، كذا جزم به، قال: وفيه نظر لأن محل ذلك فيما إذا نفذ حكم كل منهما فيه، لكن قال ابن المنيِّر: يحتمل أن يكون ولاهما ليشتركا في الحكم في كل واقعة، ويحتمل أن يستقل كل منهما بما يحكم به، ويحتمل أن يكون لكل منهما عمل يخصه، والله أعلم كيف كان.

وقال ابن التِّين: جاء في غير هذه الرواية أنه أقرّ كلًا منهما على مخلاف، والمخلاف الكورة، وكان اليمن مخلافين، قال الحافظ: وهو المعتمد، والرواية التي أشار إليها تقدمت في غزوة حنين باللفظ المذكور،

(1)

"فتح الباري"(13/ 161).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 239).

(3)

"فيض الباري"(6/ 489).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 247).

ص: 712

انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "منهاج الطالبين"

(2)

للإمام النووي: ولو نصب قاضيين في بلد وخصّ كلًا بمكانٍ أو زمان أو نوع جاز، وكذا إن لم يخصّ في الأصح إلا أن يشترط اجتماعهما على الحكم، انتهى.

(23 -‌

‌ باب إجابة الحاكم الدعوة)

الأصل فيه عموم الخبر وورد الوعيد في الترك، قال العلماء: لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا إن كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر، قال ابن بطال: عن مالك: لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة خاصةً، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحبّ إلينا لأنه أنزه، إلا أن يكون لأخٍ في الله أو خالص قرابة أو مودة، وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم، انتهى من "الفتح"

(3)

، وقد تقدمت المذاهب في إجابة الدعوة في الوليمة وغيره من "كتاب النكاح".

(24 -‌

‌ باب هدايا العمال)

قال الحافظ

(4)

: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وأبو عوانة بسنده عن أبي حميد رفعه: "هدايا العمال غلول"، ثم تكلم الحافظ على سند الحديث، وأثبت ضعفه، وقال: يقال: إنه اختصره إسماعيل بن عياش من حديث الباب، انتهى.

قال العيني

(5)

تحت حديث الباب: وفيه أن ما أهدي إلى العمال وخدمة السلطان بسبب السلطنة أنه لبيت المال، إلا أن الإمام إذا أباح له

(1)

"فتح الباري"(13/ 163).

(2)

"منهاج الطالبين"(ص 136).

(3)

"فتح الباري"(13/ 163، 164).

(4)

"فتح الباري"(13/ 164).

(5)

"عمدة القاري"(16/ 428).

ص: 713

قبول الهدية لنفسه فهو يطيب له، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:"قد علمت الذي دار عليك في مالك، وإني قد طيبت لك الهدية"، فقبلها معاذ وأتى بما أهدي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده قد توفي، فأخبر بذلك الصديق رضي الله عنه فأجازه، وقال ابن التِّين: هدايا العمال رشوة وليست بهدية، انتهى.

قلت: وفي "الدر المختار"

(1)

: "ويرد هديته" ولو تأذى المهدي بالردّ يعطيه مثل قيمتها، ولو تعذّر الرد لعدم معرفته أو بعد مكانه وضعها في بيت المال، ومن خصوصياته عليه الصلاة والسلام أن هداياه له، "تتارخانيه"، ومفاده أنه ليس للإمام قبول الهدية وإلا لم تكن خصوصيته، وفيها يجوز للإمام والمفتي والواعظ قبول الهدية لأنه إنما يهدى إلى العالم لعلمه بخلاف القاضي إلا من أربع السلطان والباشا وقريبه المحرم أو ممن جرت عادته بذلك بقدر عادته، انتهى.

(25 -‌

‌ باب استقضاء الموالي واستعمالهم)

أي: توليتهم القضاء "واستعمالهم" أي: على إمرة البلاد حربًا أو خراجًا أو صلاة، قاله الحافظ

(2)

.

وقال تحت شرح الحديث: ومناسبة الحديث للترجمة من جهة تقديم سالم - وهو مولى - على من ذكر من الأحرار في إمامة الصلاة، ومن كان رضى في أمر الدين فهو رضىً في أمور الدنيا، فيجوز أن يولى القضاء والإمرة على الحرب وعلى جباية الخراج، وأما الإمامة العظمى فمن شروط صحتها أن يكون الإمام قرشيًا، ويدخل في هذا ما أخرجه مسلم من طريق أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة فقال: من استعملت عليهم؟ فقال: ابن أبزى - يعني:

(1)

"رد المحتار"(8/ 48 - 51).

(2)

"فتح الباري"(13/ 168).

ص: 714

ابن عبد الرحمن - قال: استعملت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: إن نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين"، انتهى.

وفي "الفيض"

(1)

تحت الترجمة: يجوز للعبد أن يقضي في بعض الأمور، أما إذا عتق فالأمر ظاهر، انتهى.

(26 -‌

‌ باب العرفاء للناس)

جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، قال ابن بطال

(2)

: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه، فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه.

ثم قال الحافظ: وفيه أن الخبر الوارد في ذمّ العرفاء لا يمنع إقامة العرفاء؛ لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية، والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معديكرب رفعه:"العرافة حق، ولا بدّ للناس من عريف، والعرفاء في النار"، ولأحمد عن أبي هريرة رفعه:"ويل للأمراء، ويل للعرفاء"، انتهى مختصرًا من "الفتح"

(3)

.

(27 -‌

‌ باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك)

الإضافة فيه للمفعول، أي: من الثناء على السلطان بحضرته بقرينة قوله: "وإذا خرج - أي: من عنده - قال غير ذلك"، وقد تقدم معنى هذه الترجمة في أواخر "كتاب الفتن"، "إذا قال عند قوم شيئًا، ثم خرج فقال بخلافه"، وهذه أخصّ من تلك، ثم ذكر الحافظ تحت حديث: "إن شر

(1)

"فيض الباري"(6/ 490).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 249).

(3)

"فتح الباري"(13/ 169).

ص: 715

الناس ذو الوجهين": وتعرض ابن بطال

(1)

هنا لذكر ما يعارض ظاهره من قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذن عليه: "بئس أخو العشيرة" الحديث، وتكلم على الجمع بينهما، وحاصله أنه حيث ذمّه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره، انتهى

(2)

.

(28 -‌

‌ باب القضاء على الغائب)

قال الحافظ

(3)

: أي: في حقوق الآدميين دون حقوق الله بالاتفاق، حتى لو قامت البينة على غائب بسرقة مثلًا، حكم بالمال دون القطع، قال ابن بطال

(4)

: أجاز مالك والليث والشافعي وجماعة الحكم على الغائب، وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: لا يقضى على الغائب مطلقًا، وقال ابن قدامة: أجازه الأوزاعي وإسحاق وهو أحد الروايتين عن أحمد، والثانية المنع، ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة هند.

قال القسطلاني

(5)

: وقد استدل جمع من العلماء من أصحاب الشافعي وغيرهم بهذا الحديث على القضاء على الغائب.

قال النووي: ولا يصحّ هذا الاستدلال لأن هذه القصة كانت بمكة وأبو سفيان حاضر، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن البلد أو مستترًا لا يقدر عليه، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودًا، فلا يكون قضاء على الغائب، بل هو إفتاء، إلى آخر ما ذكر من توجيه استدلال المصنف في ذلك، فليرجع إليه لو شئت.

وفي مسألة القضاء على الغائب عند الحنفية تفصيل أشار إلى بعضه صاحب "الفيض"

(6)

أيضًا، فليراجع إلى كتب الفقه.

(1)

"شرح ابن بطال"(8/ 250).

(2)

"فتح الباري"(13/ 170، 171).

(3)

"فتح الباري"(13/ 171).

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 251).

(5)

"إرشاد الساري"(15/ 161).

(6)

"فيض الباري"(6/ 491).

ص: 716

(29 -‌

‌ باب من قضى له بحق أخيه)

قال الحافظ

(1)

: أي: خصمه فهي أخوة بالمعنى الأعم وهو الجنس؛ لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء، انتهى.

قلت: وفي حديث الباب مسألة خلافية شهيرة وهي نفاذ قضاء القاضي ظاهرًا وباطنًا.

قال الحافظ

(2)

: والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم بالشيء في الظاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه، ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلًا ولا نقلًا إلى آخر ما ذكر.

وفي هامش "اللامع"

(3)

: قال الزرقاني تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أقطع له قطعةً من النار": فيه دلالة قوية لمذهب الأئمة الثلاثة، والجمهور أن الحكم فيما باطن الأمر فيه بخلاف الظاهر لا يحل الحرام ولا عكسه، فإذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال فحكم به القاضي لظاهر العدالة لم يحل له ذلك المال، وقال أبو حنيفة بحل الحرام في العقود كنكاح وطلاق وبيع وشراء، فإذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها وأقامت شاهدي زور حل له وطؤها، انتهى.

وفي "المحلى": احتج له بعضهم بما جاء عن علي رضي الله عنه: أن رجلًا خطب امرأة فأبت فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور فزوجني أنت منه، فقال: شاهداك زوجاك، وأمضى عليهم النكاح، وتعقب بأنه لم يثبت، انتهى.

قلت: وحديث الباب ليس بواردٍ على الحنفية فإنه وارد في الأموال دون العقود والفسوخ، والحنفية قالوا: بنفاذه ظاهرًا وباطنًا في الإنشاءات والعقود، لا في الأملاك المرسلة، انتهى من هامش "اللامع" بزيادة.

(1)

"فتح الباري"(13/ 172، 173).

(2)

"فتح الباري"(13/ 174).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 230).

ص: 717

وبسط الحافظ الكلام على هذه المسألة ههنا وعلى دلائل الفريقين.

ثم ذكر المصنف في هذا الباب حديثين، فمطابقة الأول منهما بالترجمة ظاهرة، وأما مطابقة الحديث الثاني.

فقال العيني

(1)

: وجه إيراد هذا الحديث أن الحكم بحسب الظاهر، ولو كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم حكم في ابن وليدة زمعة بحسب الظاهر، وإن كان في نفس الأمر ليس من زمعة، ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد، فيدخل هذا في معنى الترجمة، وهكذا يوجد في كلام الحافظ

(2)

وتبعه القسطلاني

(3)

أيضًا.

وأما الشيخ قُدِّس سرُّه

(4)

فإنه وإن ذكر مطابقة الحديث بالترجمة على هذه الوتيرة

(5)

لكن بعكس ما قال الشراح حيث قال: ودلالة الرواية الثانية على الترجمة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قضى بالولد لأخي عتبة بحسب ما يظهر له من حجة - وهي مشابهته به - هي خلاف الواقع، لم يثبت نسب ولده منه بحسب نفس الأمر، ولم يكن ابنه في الواقع، فإن الولد للفراش لا غير، انتهى.

فللّه در الشيخ قُدِّس سرُّه، فإنه جعل حكمه صلى الله عليه وسلم بإلحاق الولد لزمعة موافقًا لما في نفس الأمر، ومطابقًا للواقع بخلاف الشرَّاح فإنهم جعلوا هذا الحكم موافقًا للظاهر دون الواقع، ففي صنيع الشيخ قُدِّس سرُّه من حسن التأدب ما ليس في صنيعهم.

(30 -‌

‌ باب الحكم في البئر ونحوها)

قال ابن المنيِّر: وجه دخول هذه الترجمة في القصة مع أنه لا فرق بين البئر والدار والعبد حتى ترجم على البئر وحدها، أنه أراد الردّ على من زعم

(1)

"عمدة القاري"(16/ 435).

(2)

"فتح الباري"(13/ 175).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 164).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 260).

(5)

وقع في الأصل: "الوطيرة" بالطاء وهو خطأ.

ص: 718

أن الماء لا يملك، فحقق بالترجمة أنه يملك لوقوع الحكم بين المتخاصمين فيها، انتهى.

وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يقتصر في الترجمة على البئر بل قال: "ونحوها"، والثاني: لو اقتصر لم يكن فيه حجة على من منع بيع الماء؛ لأنه يجوز بيع البئر ولا يدخل الماء، وليس في الخبر تصريح بالماء فكيف يصحّ الردّ، انتهى من "الفتح"

(1)

.

ولم يتعرض القسطلاني لغرض الترجمة، وأما العلامة العيني

(2)

فاقتصر على حكاية ما ذكره الحافظ.

(31 -‌

‌ باب القضاء في قليل المال وكثيره سواء. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: قال ابن المنيِّر: كأنه خشي غائلة التخصيص في الترجمة التي قبل هذه، فترجم بأن القضاء عام في كل شيء قلّ أو جلّ، ثم ذكر فيه حديث أم سلمة المذكور قبل بباب لقوله فيه:"فمن قضيت له بحق مسلم" فهو يتناول القليل والكثير، وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال: إن للقاضي أن يستنيب بعض من يريد في بعض الأمور دون بعض، بحسب قوة معرفته ونفاذ كلمته في ذلك، وهو منقول عن بعض المالكية، أو على من قال: لا يجب اليمين إلا في قدر معين من المال، ولا تجب في الشيء التافه، أو على من كان من القضاة لا يتعاطى الحكم في الشيء التافه، بل إذا رفع إليه ردّه إلى نائبه مثلًا قاله ابن المنيِّر، قال: وهو نوع من الكبر، والأول أليق بمراد البخاري، انتهى.

(32 -‌

‌ باب بيع الإمام على الناس أموالهم. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: قال ابن المنيِّر: أضاف البيع إلى الإمام ليشير إلى أن

(1)

"فتح الباري"(13/ 178).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 436).

(3)

"فتح الباري"(13/ 178، 179).

(4)

"فتح الباري"(13/ 179).

ص: 719

ذلك يقع في مال السفيه، أو في وفاء دين الغائب، أو من يمتنع أو غير ذلك، ليتحقق أن للإمام التصرف في عقود الأموال في الجملة، قال: وذكر في الترجمة الضياع، ولم يذكر إلا بيع العبد، فكأنه أشار إلى قياس العقار على الحيوان، قال المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفهًا في أموالهم، وأما من ليس بسفيه فلا يباع عليه شيء من ماله إلا في حق يكون عليه، يعني: إذا امتنع من أداء الحق، وهو كما قال، لكن قصة بيع المدبر ترد على هذا الحصر، انتهى مختصرًا.

(33 -‌

‌ باب من لم يكترث لطعن من لا يعلم في الأمراء)

كذا في النسخة "الهندية"، زاد في نسخ الشروح بعده لفظ:"حديثًا"، قال القسطلاني

(1)

: أي: حديثًا يعبأ به، فلو طعن بعلم اعتد به، وإن كان بأمر محتمل رجع إلى رأي الإمام، وسقط قوله:"حديثًا" لأبوي الوقت وذر والأصيلي.

قال الحافظ

(2)

: قوله: "لم يكترث" أي: لم يلتفت وزنه ومعناه، وهو افتعال من الكرث، وهو المشقة، ويستعمل نفيه في موضع عدم المبالاة، قال المهلب: معنى هذه الترجمة أن الطاعن إذا لم يعلم حال المطعون عليه فرماه بما ليس فيه لا يعبأ بذلك الطعن، ولا يعمل به، وأشار بقيد "من لم يعلم" إلى أن من طعن بعلم يعمل به، فلو طعن بأمر محتمل كان كذلك راجعًا إلى رأي الإمام، وعلى هذا يتنزل فعل عمر مع سعد حتى عزله مع براءته مما رماه به أهل الكوفة، إلى آخر ما في "الفتح"، وفيه

(3)

: قال ابن المنيِّر

(4)

: قطع النبي صلى الله عليه وسلم بسلامة العاقبة في إمرة أسامة، فلم يلتفت لطعن من طعن، وأما عمر فسلك سبيل الاحتياط لعدم قطعه بمثل ذلك، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 170).

(2)

"فتح الباري"(13/ 179، 180).

(3)

"فتح الباري"(13/ 180).

(4)

"المتواري"(ص 333).

ص: 720

(34 -‌

‌ باب الألدّ الخصم)

بفتح المعجمة وكسر الصاد المهملة، وقد تقدم بيان المراد به في "كتاب المظالم"، وفي تفسير سورة البقرة، وقوله:"وهو الدائم في الخصومة" من تفسير المصنف، ويحتمل أن يكون المراد الشديد الخصومة، فإن الخصم من صيغ المبالغة، فيحتمل الشدة ويحتمل الكثرة، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(35 -‌

‌ باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد)

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال: الإثم وإن كان ساقطًا عن المجتهد في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف، هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أو بيت المال، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

تحت حديث الباب: وإنما لم يعاقبه؛ لأنه كان مجتهدًا، واتفقوا على أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف ما عليه أهل العلم فحكمه مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد وأخطأ كما صنع خالد فالإثم ساقط والضمان لازم، فإن كان الحكم في قتل فالدية في بيت المال عند أبي حنيفة وأحمد، وعلى عاقلته عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد، انتهى.

وسيأتي في "كتاب الاعتصام""باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. . ." إلخ، وسيأتي الفرق بين الترجمتين هناك.

(1)

"فتح الباري"(13/ 180).

(2)

"فتح الباري"(13/ 182).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 173).

ص: 721

(36 -‌

‌ باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم)

قال ابن المنيِّر: فقه الترجمة التنبيه على جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم، ولا يعد ذلك تصحيفًا في الحكم، وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم، إما عند عظم الخطب وإما ليكشف ما لا يحاط به إلا بالمعاينة، ولا يعدّ ذلك تخصيصًا ولا تمييزًا ولا وهنًا، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(37 -‌

‌ باب ما يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلًا)

أي: كاتب الحكم وغيره، ذكر فيه حديث زيد بن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، والغرض منه قول أبي بكر لزيد: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، حكى ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث: أن العقل أصل الخلال المحمودة؛ لأنه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا لائتمانه ورفع التهمة عنه، قلت: وليس كما قال، فإن أبا بكر ذكر عقب الوصف المذكور: وقد كنت تكتب الوحي، إلى آخر ما ذكر الحافظ، وفي آخره: وإلا فمجرد قوله: "لا نتّهمك" مع قوله: "عاقل" لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة، فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة، انتهى من "الفتح"

(2)

.

(38 -‌

‌ باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه)

قوله: (عماله) بضم العين وتشديد الميم جمع عامل، وهو الوالي على بلد مثلًا لجمع خراجها أو زكاتها أو الصلاة بأهلها أو التأمير على جهاد عدوّها.

قوله: (القاضي إلى أمنائه) أي: الذين يقيمهم في ضبط أمور الناس، ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة، والغرض منه قوله فيه: فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم - أي: إلى أهل خيبر - به، أي: بالخبر الذي نقل إليه.

(1)

"فتح الباري"(13/ 183).

(2)

"فتح الباري"(13/ 183، 184).

ص: 722

قال ابن المنيِّر: ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نائبه، ولا إلى أمينه، وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم، لكن يؤخذ من مشروعية مكاتبة الخصوم والبناء على ذلك جواز مكاتبة النواب والكتاب في حق غيرهم بطريق الأولى، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(39 -‌

‌ باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلًا وحده للنظر في الأمور

؟)

قال الحافظ

(2)

: والغرض من الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: "واغد يا أنيس على امرأة هذا"، والحكمة في إيراده الترجمة بصيغة الاستفهام الإشارة إلى خلاف محمد بن الحسن، فإنه قال: لا يجوز للقاضي أن يقول: أقرّ عندي فلان بكذا الشيء يقضي به عليه من قتل أو مالٍ أو عتق أو طلاقٍ، حتى يشهد معه على ذلك غيره، وادّعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدًا عدلان يسمعان من يقر، ويشهدان على ذلك وينفذ الحكم بشهادتهما، انتهى.

وهكذا في "العيني"

(3)

وزاد: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أقرّ رجل عند القاضي بأي شيء كان وسعه أن يحكم به، وقال ابن القاسم على مذهب مالك: إن كان القاضي عدلًا وحكم به ينفذ، وبه قال الشافعي، انتهى.

(40 -‌

‌ باب ترجمة الحكام. . .) إلخ

قال العلامة العيني

(4)

: الترجمة تفسير الكلام بلسان غير لسانه، قوله:"وهل يجوز ترجمان واحد. . ." إلخ، إنما ذكره بلفظ الاستفهام لأجل الخلاف، فعند أبي حنيفة وأحمد يكتفي بواحد، واختاره البخاري

(1)

"فتح الباري"(13/ 184، 185).

(2)

"فتح الباري"(13/ 185).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 445).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 446).

ص: 723

وابن المنذر وآخرون، وقال الشافعي وأحمد في الأصح: إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم لا يقبل فيه إلا عدلان كالشهادة، وعن مالك: يكفي ترجمة ثقة مسلم مأمون، واثنان أحبّ إليّ، والمرأة تجزئ، ولا يقبل ترجمة كافر، ولا يترجم من لا يجوز شهادته، انتهى مختصرًا.

قوله: (وقال بعض الناس. . .) إلخ، قيل: أراد به الشافعي، وقيل: أراد به بعض الحنفية؛ لأن محمد بن الحسن قال بأنه لا بدّ من اثنين.

أما مطابقة الحديث بالترجمة فبسط الحافظ الكلام عليه إذ قال

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: لم يدخل البخاري حديث هرقل حجةً على جواز الترجمان المشترك

(3)

؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدلّ على أن الترجمان كان يجري عند الأمم مجرى الخبر لا مجرى الشهادة.

وقال ابن المنيِّر

(4)

: وجه الدليل من قصة هرقل من أن فعله لا يحتج به أن مثل هذا صواب من رأيه؛ لأن كثيرًا مما أورده في هذه القصة صواب موافق للحق، فموضع الدليل تصويب جملة الشريعة لهذا وأمثاله من رأيه وحسن تفطنه ومناسبة استدلاله وإن كان غلبت عليه الشقاوة، انتهى.

وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق بالنبوة والرسالة أنه كان مطلعًا على شرائع الأنبياء، فتحمل تصرفاته على وفق الشريعة التي كان متمسكًا بها، إلى آخر ما في "الفتح".

(41 -‌

‌ باب محاسبة الإمام عماله)

قال الحافظ

(5)

: ذكر فيه حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية، وقد تقدم في "باب هدايا العمال"، والمقصود هنا قوله:"فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه" أي على ما قبض وصرف، انتهى مختصرًا.

(1)

"فتح الباري"(13/ 187).

(2)

"شرح ابن بطال"(8/ 270).

(3)

"كذا في الأصل"، (ز).

(4)

"المتواري"(ص 334).

(5)

"فتح الباري"(13/ 189).

ص: 724

(42 -‌

‌ باب بطانة الإمام وأهل مشورته. . .) إلخ

بضم المعجمة وسكون الواو وفتح الراء: من يستشيره في أموره، وعطف "أهل مشورته" على البطانة من عطف الخاص على العام، وقد ذكرت حكم المشورة في "باب متى يستوجب الرجل القضاء"، وأخرج أبو داود في "المراسيل": أن رجلًا قال: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: "أن تشاور ذا لبّ ثم تطيعه"، انتهى من "الفتح"

(1)

.

ولعل الحافظ أشار بذلك إلى ما ذكره في الباب المذكور من بعض الآثار الواردة في استحباب الاستشارة، وتقدم بعض ذلك هنا.

(43 -‌

‌ باب كيف يبايع الإمام الناس)

برفع الإمام ونصب الناس، وفي نسخة بالعكس، كذا في هامش النسخة المصرية

(2)

.

قال الحافظ

(3)

: المراد بالكيفية الصيغ القولية لا الفعلية، بدليل ما ذكره فيه من الأحاديث الستة، وهي البيعة على السمع والطاعة وعلى الهجرة وعلى الجهاد وعلى الصبر وعلى عدم الفرار ولو وقع الموت، وعلى بيعة النساء وعلى الإسلام، وكل ذلك وقع عند البيعة بينهم فيه بالقول، انتهى.

(44 -‌

‌ باب من بايع مرتين)

أي: في حالة واحدة.

(45 -‌

‌ باب بيعة الأعراب)

أي: مبايعتهم على الإسلام والجهاد، قال ابن التِّين: إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته بأنه لا يعين على معصية؛ لأن البيعة في أول الأمر كانت

(1)

"فتح الباري"(13/ 190).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 474).

(3)

"فتح الباري"(13/ 194).

ص: 725

على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن فخروجه عصيان، وكانت الهجرة إلى المدينة فرضًا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، إلى آخر ما ذكره الحافظ

(1)

.

(46 -‌

‌ باب بيعة الصغير)

أي: هل تشرع أو لا؟ قال ابن المنيِّر

(2)

: الترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها فهو دال على عدم انعقاد بيعة الصغير، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قال العيني

(4)

: ولم يذكر الحكم فيه على عادته غالبًا، إما اكتفاءً بما بيّن في حديث الباب، وإما لمحل الخلاف فيه، فقال جماعة من العلماء: البيعة لا تلزم إلا من تلزمه عقود الإسلام كلها من البالغين، وقال بعض العلماء: إنها تلزم الأصاغر بمبايعة آبائهم، انتهى.

(47 -‌

‌ باب من بايع ثم استقال البيعة)

ذكر فيه حديث جابر في قصة الأعرابي، وقد تقدم شرحه قبل بباب، قاله الحافظ

(5)

.

قال العيني

(6)

: ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.

(48 -‌

‌ باب من بايع رجلًا لا يبايعه إلا للدنيا)

أي: ولا يقصد طاعة الله في مبايعة من يستحق الإمامة، قاله الحافظ

(7)

.

وقال تحت شرح الحديث: والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على

(1)

"فتح الباري"(13/ 200).

(2)

"المتواري"(ص 335).

(3)

"فتح الباري"(13/ 201).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 457).

(5)

"فتح الباري"(13/ 201).

(6)

"عمدة القاري"(16/ 458).

(7)

"فتح الباري"(13/ 201 - 203).

ص: 726

أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمن جعل مبايعته لمال يعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل فقد خسر خسرانًا مبينًا، ودخل في الوعيد المذكور، وحاق به إن لم يتجاوز الله عنه، وفيه أن كل عمل لا يقصد به وجه الله وأريد به عرض الدنيا فهو فاسد وصاحبه آثم، والله الموفق، انتهى.

(49 -‌

‌ باب بيعة النساء)

ذكر المصنف فيه أربعة أحاديث، ومطابقة تلك الأحاديث ما سوى الحديث الثاني ظاهر.

وأما الحديث الثاني فقال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر

(2)

: أدخل حديث عبادة في ترجمة بيعة النساء؛ لأنها وردت في القرآن في حق النساء، فعرفت بهن، ثم استعملت في الرجال، قال الحافظ: وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء، الحديث.

(50 -‌

‌ باب من نكث بيعة)

قال الحافظ

(3)

: في رواية الكشميهني "بيعته" بزيادة الضمير، وذكر فيه حديث جابر في قصة الأعرابي، وورد في الوعيد على نكث البيعة حديث ابن عمر:"لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له القتال"، وقد تقدم في أواخر "كتاب الفتن" وجاء نحوه عنه مرفوعًا بلفظ:"من أعطى بيعةً ثم نكثها لقي الله وليست معه يمينه" أخرجه الطبراني بسند جيد، وفيه حديث أبي هريرة رفعه:"الصلاة كفارة إلا من ثلاث: الشرك بالله ونكث الصفقة" الحديث، وفيه تفسير نكث الصفقة: أن تعطي رجلًا بيعتك ثم تقاتله، أخرجه أحمد، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 204).

(2)

"المتواري"(ص 336).

(3)

"فتح الباري"(13/ 205).

ص: 727

(51 -‌

‌‌

‌ باب

الاستخلاف)

أي: تعيين الخليفة عند موته خليفة بعده، أو يعين جماعة ليتخيروا منهم واحدًا.

قال النووي وغيره: أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره، وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد محصور أو غيره، وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل، وخالف بعضهم كالأصم وبعض الخوارج فقالوا: لا يجب نصب الخليفة، وخالف بعض المعتزلة فقالوا: يجب بالعقل لا بالشرع، وهما باطلان، إلى آخر ما ذكره الحافظ

(1)

.

(52 - باب)

بغير ترجمة، كذا للجميع بغير ترجمة، وسقط لفظ "باب" في بعض النسخ، وهو كالفصل من الذي قبله، وتعلقه به ظاهر، انتهى من "الفتح"

(2)

مختصرًا.

قوله: (يكون اثنا عشر أميرًا. . .) إلخ، بسط الكلام على شرح هذا الحديث مع ما له وما عليه في هامش "اللامع"

(3)

أشدّ البسط من كلام الشيخ الكَنكَوهي، ومن كلام الحافظ وغيره من الشرَّاح، فذكر اثني عشر قولًا في شرح هذا الحديث، فارجع إليه لو شئت.

(53 -‌

‌ باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت. . .) إلخ

قال الحافظ

(4)

: تقدمت هذه الترجمة والأثر المعلق فيها والحديث في "كتاب الإشخاص"، وقال فيه:"المعاصي" بدل "أهل الريب"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 206 - 208).

(2)

"فتح الباري"(13/ 211).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 260 - 267).

(4)

"فتح الباري"(13/ 215).

ص: 728

وقال العيني

(1)

: قوله: "بعد المعرفة" أي: بعد شهرتهم بذلك، يعني: لا يتجسس عليهم، وذلك الإخراج لأجل تأذي الجيران، ولأجل مجاهرتهم بالمعاصي، قال المهلب: إخراج أهل الريب والمعاصي من دورهم بعد المعرفة بهم واجب على الإمام، وإذا لم يعرفوا بأعيانهم فلا يلزم البحث عن أمرهم؛ لأنه من التجسس الذي نهى الله عنه، وقيل: ليس هذا الإخراج بواجب، فمن ثبت عليه ما يوجب الحد أقيم عليه، انتهى مختصرًا.

(54 -‌

‌ باب هل للإمام أن يمنع المجرمين. . .) إلخ

أي: هل يجوز للإمام أن يمنع المجرمين من الإجرام، وفي رواية أبي أحمد الجرجاني:"المجنونين"، والأول أولى؛ لأن المجنون لا يتحقق عصيانه.

قوله: (وأهل المعصية) من عطف العام على الخاص، قاله العينى

(2)

.

قلت: كذا في نسخة "العيني" التي بأيدينا، وفي نسخة "الفتح"

(3)

: أن في رواية أبي أحمد الجرجاني: "المحبوس" بدل "المجرمين"، قال الحافظ: وهو أوجه؛ لأن المحبوس قد لا يتحقق عصيانه، انتهى.

ثم البراعة عندي في حديث كعب في التخلف، فإنه كاف لبكاء الرجل من أحوال الآخرة

(4)

.

* * *

(1)

"عمدة القاري"(16/ 467).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 468).

(3)

"فتح الباري"(13/ 217).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 120).

ص: 729

94 -

‌ كتاب التمني

(1 -‌

‌ باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة)

كذا في النسخ الهندية، وهكذا في نسخة "الفتح"، وفي نسخة "العيني""كتاب التمني، باب من تمنى الشهادة".

قال الحافظ

(1)

في ذكر اختلاف النسخ: ولأبي نعيم عن الجرجاني: "كتاب التمني والأماني"، واقتصر الإسماعيلي على "باب ما جاء في تمني الشهادة"، والتمني تفعل من الأمنية والجمع أماني، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة، والا فهي مذمومة، وقد قيل: إن بين التمني والترجي عمومًا وخصوصًا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، انتهى.

وتقدم توجيه تمني الشهادة مع ما يشكل على ذلك في "باب تمني الشهادة" من "كتاب الجهاد".

وقال العلامة العيني

(2)

: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة من لفظ "وددت" إذ التمني أعمّ من أن يكون بحرف ليت وغيرها، انتهى.

قلت: وإنما ترجم الإمام البخاري بكتاب مستقل؛ لأنه قد ورد في القرآن العظيم والأحاديث النبوية الآيات والروايات المختلفة في التمني من الإباحة والندب والنهي، فذكر البخاري "كتاب التمني"، وأورد فيه الأبواب المختلفة في ذلك؛ ليرى الناظر مواقع النهي وغيره، وقد نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا، وظاهر أنه ليس على عمومه كما لا يخفى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 217).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 469).

ص: 730

(2 -‌

‌ باب تمني الخير)

قال الحافظ

(1)

: أشار بذلك إلى أن التمني المطلوب لا ينحصر في طلب الشهادة، انتهى. وهكذا في "العيني"

(2)

.

(3 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت

")

الترجمة جزء الحديث، والحديث مضى في الحج.

(4 -‌

‌ باب قوله صلى الله عليه وسلم: "اليت كذا وكذا

")

غرض الترجمة ظاهر من أنه ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.

(5 -‌

‌ باب تمني القرآن والعلم)

ذكر فيه حديث أبي هريرة، وهو ظاهر في تمني القرآن، وأضاف العلم إليه بطريق الإلحاق به في الحكم، قاله الحافظ

(3)

.

وفي هامش النسخة المصرية

(4)

: أي: قراءة القرآن وتحصيل العلم، انتهى.

(6 -‌

‌ باب ما يكره من التمني. . .) إلخ

قال ابن عطية: يجوز تمني ما لا يتعلق بالغير، أي: مما يباح، وعلى هذا فالنهي عن التمني مخصوص بما يكون داعية إلى الحسد والتباغض، وعلى هذا يحمل قول الشافعي: لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا، ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم، انتهى من "الفتح"

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(13/ 218).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 470).

(3)

"فتح الباري"(13/ 220).

(4)

"تحفة الباري"(6/ 483).

(5)

"فتح الباري"(13/ 220).

ص: 731

وفيه

(1)

أيضًا قال النووي: في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من فاقة أو محنة بعدو أو نحوه من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررًا أو فتنةً في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث، وقد فعله خلائق من السلف بذلك، وفيه: أن من خالف فلم يصبر على الضر وتمنى الموت لضر نزل به فليقل الدعاء المذكور: "اللَّهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي" الحديث.

قال الحافظ: ظاهر الحديث المنع مطلقًا، والاقتصار على الدعاء مطلقًا، لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني ليكون عونًا له على ترك التمني، انتهى.

وأورد الحافظ

(2)

ههنا على المطابقة حيث قال: ذكر فيه ثلاثة أحاديث كلها في الزجر عن تمني الموت، وفي مناسبة هذه الآية غموض، إلا إن كان أراد أن المكروه من التمني هو جنس ما دلت عليه الآية وما دل عليه الحديث إلى آخر ما ذكر.

قلت: والإيراد المذكور وارد لو جعلت الآية جزءًا للترجمة، وحاصل ما أجاب به الحافظ بجعل الآية مثبتةً للترجمة لا جزءًا منها، فالترجمة ما يكره من التمني، ثم بعد ذلك أشار الإمام البخاري إلى بعض أنواعه بالآية الكريمة وإلى بعض أنواعه بالروايات.

(7 -‌

‌ باب قول الرجل: لولا الله ما اهتدينا)

هكذا في النسخة "الهندية"، وكذا في نسخة "الفتح" و"العيني"، وقالا

(3)

: هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والسرخسي:"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 222).

(2)

"فتح الباري"(13/ 220).

(3)

"فتح الباري"(13/ 222)، و"عمدة القاري"(16/ 475).

ص: 732

(8 -‌

‌ باب كراهية تمني لقاء العدو)

قال الحافظ

(1)

: تقدم في أواخر الجهاد "باب لا تتمنوا لقاء العدو" وتقدم هناك توجيهه مع جواز تمني الشهادة، وطريق الجمع بينهما؛ لأن ظاهرهما التعارض؛ لأن تمني الشهادة محبوب، فكيف ينهى عن تمني لقاء العدو، وهو يفضي إلى المحبوب؟

وحاصل الجواب: أن حصول الشهادة أخصّ من اللقاء لإمكان تحصيل الشهادة مع نصرة الإسلام ودوام عزه بكسرة الكفار، واللقاء قد يفضي إلى عكس ذلك، فنهى عن تمنيه، ولا ينافي ذلك تمني الشهادة، أو لعل الكراهية مختصة بمن يثق بقوته ويعجب بنفسه ونحو ذلك، انتهى.

(10 -‌

‌ باب ما يجوز من الـ "لو". . .) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: يعني أن مطلق لفظ الـ "لو" وإن كانت للشرط غير منهي عنه، وإنما [المنهي] ما كان للتمني، وكان فيه إظهار ما لزجر أو جزع من التقدير، ودلالة الرواية على هذا المعنى لا يحتاج إلى كثير تفصيل وبيان، انتهى.

وفي هامشه: توضيح ذلك أنه ورد في بعض الروايات: "إياك واللو" فأراد البخاري بالترجمة جواز استعمال هذا اللفظ، كما أفاده الشيخ.

وبسط الحافظ في تخريج هذا الحديث: "إياك واللو، فإن اللو تفتح عمل الشيطان"، ذكره صاحب "المشكاة" برواية مسلم، وذكره الحافظ برواية مسلم والنسائي وابن ماجه والطحاوي وغيرها، إلى آخر ما في هامش "اللامع".

قال الحافظ

(3)

: وفي قوله: "ما يجوز من اللو" إشارة إلى أنها في

(1)

"فتح الباري"(13/ 224).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 269).

(3)

"فتح الباري"(13/ 227 و 230).

ص: 733

الأصل: لا يجوز إلا ما استثنى، وقال أيضًا: قال السبكي الكبير: مقصود البخاري بالترجمة وأحاديثها أن النطق بـ "لو" لا يكره على الإطلاق، وإنما يكره في شيء مخصوص يؤخذ ذلك من قوله:"من اللو"، فأشار إلى التبعيض، وورودها في الأحاديث الصحيحة، وقد بسط الحافظ الكلام على طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز، فارجع إليه لو شئت.

* * *

ص: 734

95 -

‌ كتاب أخبار الآحاد

(1 -‌

‌ باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. . .) إلخ

هكذا في النسخ الهندية، وليس في نسخ الشروح الثلاثة من "الفتح" و"العيني" و"القسطلاني" كتاب أخبار الآحاد، بل اقتصر فيها على الباب المذكور.

قال الحافظ

(1)

: هكذا عند الجميع بلفظ "باب" إلا في نسخة الصغاني فوقع فيها: "كتاب أخبار الآحاد" ثم قال: "باب ما جاء" إلى آخرها، فاقتضى أنه من جملة "كتاب الأحكام"، وهو واضح، وبه يظهر أن الأولى في التمني أن يقال: باب، لا كتاب، أو يؤخر عن هذا الباب، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

في آخر هذا الكتاب: وهذا آخر كتاب الأحكام وما بعده من التمني، وإجازة خبر الواحد، انتهى. وفيه إيماء إلى أن التمني وأخبار الآحاد ليسا بكتابين مستقلين.

ثم قال الحافظ

(3)

: والمراد "بالإجازة" جواز العمل به والقول بأنه حجة، و"بالواحد" هنا حقيقة الوحدة، وأما في اصطلاح الأصوليين فالمراد به ما لم يتواتر، وقصد الترجمة الردّ به على من يقول: إن الخبر لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد حتى يصير كالشهادة، ويلزم منه الردّ على من شرط أربعة أو أكثر، فقد نقل الأستاذ أبو منصور البغدادي أن بعضهم اشترط في قبول خبر الواحد أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سبعة عن سبعة، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 233).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 261).

(3)

"فتح الباري"(13/ 233، 234).

ص: 735

وكأن كل قائل منهم يرى أن العدد المذكور يفيد التواتر، أو يرى تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد ومتوسط بينهم، وفات الأستاذ ذكر من اشترط اثنين عن اثنين كالشهادة على الشهادة، وهو منقول عن بعض المعتزلة، ونسب إلى الحاكم، وأنه ادعى أنه شرط الشيخين، ولكنه غلط على الحاكم كما أوضحته في الكلام على علوم الحديث، انتهى.

وقال القسطلاني

(1)

: والمراد بالواحد هنا حقيقة الوحدة، وعند الأصوليين ما لم يتواتر، والتقييد بالصدق لا بدّ منه، فلا يحتج بالكذوب اتفاقًا، أما من لم يعرف حاله فثالثها يجوز إن اعتضد، انتهى.

وقال الحافظ

(2)

في "باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرةً" كما سيأتي في "كتاب الاعتصام": قال ابن بطال: أراد الردّ على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لم ينقل متواترًا، قال: وقولهم مردود، فقد انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: قوله: "والفرائض" قال الكرماني

(4)

: ليعلم إنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات، انتهى مختصرًا.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: قوله: "كتاب أخبار الآحاد" يعني: بذلك إثبات أن أخبار الآحاد بمعنى ما ليس بمتواتر مفيدة للعلم، وإن لم يبلغ حد الجزم، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(6)

: دخل المصنف في بعض مسائل الأصول، فذكر إجازة خبر الواحد، وحاصله أنه يفيد القطع إذا احتفّ بالقرائن كخبر

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 240).

(2)

"فتح الباري"(13/ 321).

(3)

"فتح الباري"(13/ 234).

(4)

"شرح الكرماني"(25/ 14).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 270).

(6)

"فيض الباري"(6/ 512).

ص: 736

الصحيحين، على الصحيح، بيد أنه يكون نظريًا، ونسب إلى أحمد أن أخبار الآحاد تفيد القطع مطلقًا، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: أراد بالترجمة أنه لا يشترط العدد في كل خبر، بل يكتفي بخبر الواحد في كثير من المواضع إذا كان عدلًا، ودلالة الروايات على هذا المدعى ظاهرة، حيث اكتفى في أكثرها بإخبار الواحد إذا كان عدلًا، وفي بعضها دلالة على قبول إخبار جماعة لم تبلغ حد التواتر، انتهى.

وفي هامشه: ثم لا يذهب عليك ما قال السندي

(2)

: فإن قلت: كيف يصح الاستدلال بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث على حجية خبر الآحاد مع أن كلها أخبار آحاد، والاحتجاج بها يتوقف على كون خبر الواحد حجة فهو مردود؟ فالجواب أنه أشار بإكثار الأخبار في هذا الباب إلى أن القدر المشترك متواتر، ولهذا أكثر، وإلا فدأبه في الأبواب الاقتصار على حديث أو حديثين، والله أعلم، انتهى.

يعني: الاستدلال ليس بخبر واحد بل بأخبار كثيرة وصلت إلى حد التواتر، فكأنه استدلّ على قبول خبر الواحد بخبر المتواتر معنى، انتهى.

قوله: (والأحكام) قال القسطلاني

(3)

: جمع حكم، وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث إنهم مكلفون، وهو من عطف العام على عام أخص منه؛ لأن الفرائض فرد من الأحكام، انتهى.

قوله: ({إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية) قال الحافظ

(4)

: وجه الدلالة منها يؤخذ من مفهومي الشرط والصفة؛ فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد، وهذا الدليل يورد للتقوي لا للاستقلال؛ لأن

(1)

"لامع الدراري"(10/ 271).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 252).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 240).

(4)

"فتح الباري"(13/ 234، 235).

ص: 737

المخالف قد لا يقول بالمفاهيم، واحتج الأئمة أيضًا بآيات أخرى وبالآحاديث المذكورة في الباب، واحتج من منع بأن ذلك لا يفيد إلا الظن، وأجيب بأن مجموعها يفيد القطع كالتواتر المعنوي، وقد شاع فاشيًا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول، واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] مع أنه كان رسولًا إلى الناس كافة، ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاهًا، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم وهو مسلك جيد، إلى آخر ما ذكر الحافظ من الدلائل وشبهات المخالفين إلى أن قال: وكل هذا مبسوط في أصول الفقه اكتفيت هنا بالإشارة إليه، وجملة ما ذكره المصنف هنا اثنان وعشرون حديثًا.

(2 -‌

‌ باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده)

قال الحافظ

(1)

: ذكر فيه حديث جابر، وهو الحديث الرابع عشر من إجازة خبر الواحد، انتهى.

(3 -‌

‌ باب قول الله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. . .} [الأحزاب: 53]) إلخ

قوله: (فإذا أذن له واحد جاز) وجه الاستدلال به أنه لم يقيده بعدد فصار الواحد من جملة ما يصدق عليه وجود الإذن، وهو متفق على العمل به عند الجمهور، ثم ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أبي موسى في الاستئذان، وهو الحديث الخامس عشر، والثاني: حديث عمر في قصة المشربة، وهو طرف من حديث طويل تقدم في تفسير سورة التحريم، وهو السادس عشر، وأراد البخاري أن صيغة {يُؤْذَنَ لَكُمْ} على البناء للمجهول

(1)

"فتح الباري"(13/ 239).

ص: 738

تصح للواحد فما فوقه، انتهى من "الفتح"

(1)

.

(4 -‌

‌ باب كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد)

قال الحافظ

(2)

: وقد سبق إلى ذلك أيضًا الشافعي فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد.

قال الحافظ: فأما أمراء السرايا فقد استوعبهم محمد بن سعد في الترجمة النبوية، وعقد لهم بابًا سماهم فيه على الترتيب، ثم ذكر الحافظ أسماء أمراء البلاد التي فتحت، وكذا ذكر بعض أمراء القرى، ثم قال: وأما رسله إلى الملوك فسمى منهم دحية وعبد الله بن حذافة، وهما في هذه الترجمة، وأخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الملوك، يعني: الذين كانوا في عصره، وقد استوعبهم محمد بن سعد أيضًا، انتهى.

ثم لا يذهب عليك أن هذه الترجمة بظاهرها مكررة؛ لأنه قد تقدم قريبًا في مبدأ "كتاب أخبار الآحاد" وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدًا بعد واحد، ويمكن التفصي عنه بأن الأولى ليست بترجمة مستأنفة بل هي جزء للترجمة، أو يقال: إن الترجمة الأولى مثبتة - بكسر الباء - لأصل الباب، وهو إجازة خبر الواحد، وهذه الترجمة مثبتة - بفتح الباء - كما بسطت ذلك في الأصل الستين من أصول التراجم من أن بعض التراجم يكون مثبتًا، انتهى.

ثم لا يخفى عليك أن القصة المذكورة في حديث الباب غير القصة المذكورة في ترجمة الباب، لا كما توهّم بعض الشرَّاح من اتحاد القصتين.

قال القسطلاني

(3)

: وقد قرأت في "تنقيح الزركشي" ما نصه: عن

(1)

"فتح الباري"(13/ 240).

(2)

"فتح الباري"(13/ 241، 242).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 256، 257).

ص: 739

ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى ثم قال، كذا وقع الحديث في الأمهات، ولم يذكر فيه دحية بعد قوله: بعث، والصواب إثباته، وقد ذكره البخاري معلقًا وهو الصواب، انتهى.

ونقله عنه صاحب "المصابيح" ساكتًا عليه، قال في "الفتح" بعد أن ذكره: فيه خبط، وكأنه توهم أن القصتين واحدة، وحمله على ذلك كونهما من رواية ابن عباس، والحق أن المبعوث لعظيم بصرى هو دحية، والمبعوث لعظيم البحرين عبد الله بن حذافة، وإن لم يسم في هذه الرواية، فقد سمي في غيرها، ولو لم يكن في الدليل على المغايرة بينهما إلا بعد ما بين بصرى والبحرين، فإن بينهما نحو شهر، وبصرى كانت في مملكة هرقل ملك الروم، والبحرين كانت في مملكة كسرى ملك الفرس، قال: وإنما نبهت على ذلك خشية أن يغتر به من ليس له اطلاع على ذلك، والله الموفق، انتهى.

(5 -‌

‌ باب وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب. . .) إلخ

الوصاة بالقصر بمعنى الوصية، والواو مفتوحة ويجوز كسرها، وقد تقدم بيان ذلك في أوائل "كتاب الوصايا"، وذكر فيه حديثين، والغرض من الحديث الثاني قوله في آخره:"احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم" فإن الأمر بذلك يتناول كل فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضّهم عليه، انتهى من "الفتح"

(1)

مختصرًا.

(6 -‌

‌ باب خبر المرأة الواحدة)

الترجمة بظاهرها مكررة؛ لأنها تقدم قريبًا في "كتاب أخبار الآحاد" كيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدًا بعد واحد، ويمكن التفصي عنه بأن الأولى ليست بترجمة مستأنفة بل هي جزء للترجمة السابقة، ويمكن أن

(1)

"فتح الباري"(13/ 243).

ص: 740

يقال: إن الترجمة الأولى مثبتة - بكسر الباء - لأصل الباب، وهو إجازة خبر الواحد، وهذه الترجمة الثانية مثبتة - بفتح الباء - وهو الأصل الستون من أصول التراجم، وفي "تقرير المكي"

(1)

: قوله: "واحدًا بعد واحد" ليس المراد به الإرسال على سبيل التعاقب، بل المراد إرسال الآحادي بالكثرة، سواء كان على سبيل الاستقلال أو على سبيل التعاقب.

قال الحافظ

(2)

: ذكر فيه حديث ابن عمرو، به وبما في البابين قبله تكمل الأحاديث اثنين وعشرين حديثًا، انتهى.

ثم البراعة في لفظ التوبة وأكل اللحم وهو مذبوح على أن قوله: سعد يذكر قوله عز اسمه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} الآية [هود: 105]، وقوله: سنة يذكر قوله عز اسمه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} الآية [الحج: 47]، وقال:{كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112]، وأيضًا الإمساك عن الأكل لكونه من شأن الموتى

(3)

.

* * *

(1)

"لامع الدراري"(10/ 273).

(2)

"فتح الباري"(13/ 243).

(3)

"لامع الدراري"(1/ 120).

ص: 741

96 -

‌ كتاب الاعتصام

هذا الكتاب عند هذا العبد الضعيف: آخر كتاب من هذا الصحيح، فإن الإمام البخاري رحمه الله بدأ كتابه ببدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختمه بكتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، فإنه الأصل في الدين والشريعة، وأما مبدؤه ومأخذه فهو الوحي، وما سيأتي من "كتاب الردّ على الجهمية" ليس بكتاب مستأنف عندي، فإنه بمنزلة التكملة لهذا الكتاب، فإن من عادة الإمام الهمام البخاري أن يذكر في الكتب الأضداد هذا، ولذا ذكر أبواب الكفر في "كتاب الإيمان"، وأبواب الجهل في "كتاب العلم"، وأبواب الدعاء لمنع المطر في "كتاب الاستسقاء"، وأمثاله، ولما كان أبواب البدعة من أضداد كتاب الاعتصام من الكتاب والسُّنَّة ذكرها بعده.

قال الحافظ

(1)

: "الاعتصام" افتعال من العصمة، والمراد امتثال قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} الآية [آل عمران: 103].

قال الكرماني

(2)

: المراد "بالكتاب" القرآن المتعبد بتلاوته، و"بالسُّنَّة" ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله، والسُّنَّة في أصل اللغة: الطريقة، وفي اصطلاح الأصوليين والمحدثين ما تقدم، وفي اصطلاح بعض الفقهاء ما يرادف المستحب، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(3)

.

وبسط الكلام فيه على تحقيق معنى السُّنَّة فارجع إليه لو شئت.

وقد تقدم في مقدمة "اللامع"

(4)

في بيان ذكر المناسبات بين الكتب

(1)

"فتح الباري"(13/ 245).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 28).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 274).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 283).

ص: 742

والأبواب ما قال الحافظ

(1)

: ولما كانت الأحكام كلها تحتاج إلى الكتاب والسُّنَّة، قال: الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، وذكر أحكام الاستنباط من الكتاب والسُّنَّة والاجتهاد وكراهية الاختلاف، وكان أصل العصمة أولًا وآخرًا هو توحيد الله تعالى، فختم بكتاب التوحيد، انتهى.

قلت: وما ذكره الحافظ في الغرض من هذا الكتاب قد سبق إلى ذلك الكرماني

(2)

إذ قال في آخر "كتاب الاعتصام": وهذا آخر ما قصد إيراده في الجامع من مسائل أصول الفقه، انتهى.

وأما المناسبة بين كتاب الاعتصام والردّ على الجهمية فيمكن أن يقال: لما كان الاستنباط من القرآن والسُّنَّة موجبًا للهداية مرةً والضلالة أخرى، فقد قال الله تعالى في الكتاب الحكيم:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] ترجم بكتاب الردّ على الجهمية احترازًا عن الاستنباط المضل، كذا في هامش "اللامع"

(3)

.

(1 -‌

‌ باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة)

هكذا في النسخ الهندية، وأما في نسخ الشروح فليس فيها هذا الباب، بل فيها "كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"، وذكر تحته أحاديث الباب.

قوله: (قال أبو عبد الله: وقع ههنا: "يغنيكم"، وإنما هو: "نَعشَكُمْ"، ينظر في أصل "كتاب الاعتصام") هذه العبارة موجودة في نسخ الشروح، وكذا على حاشية النسخة "الهندية".

قال الحافظ

(4)

: قوله: "ينظر. . ." إلخ، فيه إشارة إلى أنه صَنَّف "كتاب الاعتصام" مفردًا، وكتب منه هنا ما يليق بشرطه في هذا الكتاب، كما صنع في كتاب "الأدب المفرد"، فلما رأى هذه اللفظة مغايرة لما عنده أنه الصواب أحال على مراجعة ذلك الأصل، وكأنه كان في هذه الحالة

(1)

"مقدمة فتح الباري"(ص 473).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 90).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 309).

(4)

"فتح الباري"(13/ 246).

ص: 743

غائبًا عنه، فأمر بمراجعته وأن يصلح منه، وقد وقع له نحو هذا في تفسير {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3]، انتهى.

(1‌

‌ م - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم)

قال الحافظ

(1)

: يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعنى، وجزم غير الزهري بأن المراد "بجوامع الكلم" القرآن، بقرينة قوله:"بعثت"، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني، انتهى.

قوله: (ونصرت بالرعب. . .) إلخ، كتب في هامش النسخة المصرية عن العلامة السندي

(2)

: أي: على خلاف المعتاد من الرعب بسبب المال والمتاع والعبيد والأفراس كما عليه الأمراء، إذ معلوم أنه صلى الله عليه وسلم ربما يمضي عليه شهران ولم يوقد النار في بيته صلى الله عليه وسلم، والرعب مسيرة شهر على هذا الحال من خواصه صلى الله عليه وسلم، نعم كان منه نصيب لمن كان على حاله من خلفائه صلى الله عليه وسلم، انتهى.

ثم اعلم أن المصنف ذكر في الباب حديثين عن أبي هريرة، أحدهما بلفظ الترجمة، وثانيهما بقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات" الحديث، وتقدم أيضًا في فضائل القرآن ومرّ هناك الكلام على شرح هذا الحديث.

قال الحافظ

(3)

: قيل: يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن، وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله:"بعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن، ثم ذكر الحافظ أمثلة جوامع الكلم من الآيات والأحاديث النبوية، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(13/ 247).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 256).

(3)

"فتح الباري"(13/ 248).

ص: 744

(2 -‌

‌ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم

-)

أي: قبولها والعمل بما دلّت عليه، فأما أقواله صلى الله عليه وسلم فتشتمل على أمر ونهي وإخبار، وسيأتي حكم الأمر والنهي في باب مفرد، وأما أفعاله فتأتي أيضًا في باب مفرد قريبًا، قاله الحافظ

(1)

.

قوله: (كل أمتي. . .) إلخ، أفاد العلامة السندي

(2)

في هامش النسخة المصرية: لعل المراد بالأمة أمة الدعوة، والمراد بمن أبى من أبى الإيمان به، وهو المراد بالعصيان لا مطلق العصيان، والله تعالى أعلم، انتهى.

(3 -‌

‌ باب ما يكره من كثرة السؤال. . .) إلخ

وقوله تعالى: ({لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ. . .} [المائدة: 101]. . .) إلخ.

الغرض من هذه الترجمة الإشارة إلى مسألة خلافية، وهي هل ينبغي أن يسأل عن النوازل قبل وقوعها أم لا؟ وظاهر ميل البخاري إلى كراهة ذلك.

وقوله: (ومن تكلف ما لا يعنيه) كأنه بيان لقوله: "ما يكره من كثرة السؤال"، ونظير ذلك ما تقدم في "كتاب الطهارة" من "باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة"، وتقدم في "كتاب العلم""باب الرحلة في المسألة النازلة"، وجمهور العلماء على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها.

قال الحافظ

(3)

: واشتد إنكار جماعة من الفقهاء منهم أبو بكر بن العربي فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقًا بهذه الآية، وليس كذلك، قال الحافظ: وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي، ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب:"من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" إلى آخر ما بسطه.

وكذا بسط الكلام في "الأوجز"

(4)

على حديث النهي عن قبل، وقال:

(1)

"فتح الباري"(13/ 251).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 257).

(3)

"فتح الباري"(13/ 266).

(4)

"أوجز المسالك"(17/ 515 - 517).

ص: 745

وكثرة السؤال إلى آخر ما في هامش "اللامع"

(1)

.

(4 -‌

‌ باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم

-)

تقدمت الإشارة قبل باب إلى هذه الترجمة في كلام الحافظ، وظاهر كلامه في الترجمة المتقدمة أنها بمنزلة الكتاب للأبواب الآتية.

وعندي: يحتمل أن يكون الباب الأول لبيان سنن الهدى من الأقوال والأفعال وغيرهما، والمراد بهذا الباب سنن الزوائد من الأفعال العادية كما يدلّ عليه رواية الباب.

لكن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الغرض من الترجمتين مختلف جدًّا، فالغرض من الترجمة الأولى التأكيد والتحريض على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم عملًا بقوله له تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] ولقوله عزّ اسمه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وردًّا على الفرقة القرآنية القائلين بأنا لا نأخذ إلا بما في القرآن، وقد وردت في ذمهم الروايات الكثيرة، ذكر عدة منها صاحب "المشكاة" في "كتاب الاعتصام"، والغرض من هذا الباب الثاني الإشارة إلى اختلافهم في حكم أفعاله صلى الله عليه وسلم، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه.

قال العيني

(2)

: قال قوم: يجب اتباعه في فعله كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية به، قال ابن شريح وأبو سعيد الأصطخري، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، ويحتاج إلى القرينة، وبه قال أبو بكر بن أبي الطيب، وقال آخرون: للندب إذا ظهر وجه القربة، وقيل: لو لم يظهر، وقال آخرون: ما فعله إن كان بيانًا لمجمل حكمه حكم ذلك المجمل وجوبًا أو ندبًا أو إباحة، وقال الشافعي: إنه يدلّ على الندب، وقال مالك: يدلّ على الإباحة، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 276).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 516).

ص: 746

وهكذا في "الفتح"

(1)

بدون النسبة إلى قائليها، وعزا القول الثالث إلى الجمهور، إلى آخر ما في هامش "اللامع"

(2)

فارجع إليه لو شئت.

(5 -‌

‌ باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع)

قال الحافظ

(3)

: زاد غير أبي ذر: "في العلم" وهو يتعلق بالتنازع والتعمق معًا، كما أن قوله:"والغلو في الدين والبدع" يتناولهما.

وقوله: (لقول الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. . .} [النساء: 171]) إلخ، صدر الآية يتعلق بفروع الدين، وهي المعبر عنه في الترجمة بالعلم، وما بعده يتعلق بأصوله.

وقال أيضًا

(4)

ذيل شرح الأحاديث: قال ابن بطال

(5)

: في أحاديث الباب ما ترجم له من كراهية التنطع والتنازع لإشارته إلى ذمّ من استمر على الوصال بعد النهي، ولإشارة علي إلى ذمّ من غلا فيه، فادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصّه بأمور من علم الديانة دون غيره، وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذمّ من شدّد فيما ترخص فيه، وفي قصة بني تميم ذمّ التنازع المؤدي إلى التشاجر، ونسبة أحدهما الآخر إلى قصد مخالفته، فإن فيه إلثمارة إلى ذمّ كل حالة تؤول بصاحبها إلى افتراق الكلمة أو المعادات، وفي حديث عائشة إشارة إلى ذمّ التعسف في المعاني التي خشيتها من قيام أبي بكر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.

قوله: (إني أعلمهم بالله. . .) إلخ، في هامش النسخة المصرية عن شيخ الإسلام

(6)

: أشار به إلى القوة العلمية.

وقوله: (وأشدهم له خشية) أشار به إلى القوة العملية، أي: يتوهمون أن رغبتهم عما فعلته أفضل لهم عند الله تعالى، وليس كذلك إذ أنا أعلمهم بالأفضل وأولاهم بالعمل به، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 274).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 278، 279).

(3)

"فتح الباري"(13/ 278).

(4)

"فتح الباري"(13/ 280).

(5)

"شرح ابن بطال"(10/ 249).

(6)

"تحفة الباري"(6/ 505).

ص: 747

قوله: (تزعمان أن أبا بكر فيها كذا. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

الكلام على شرح هذا المقام، وردّ ما استدل به طائفة الشيعة على مخترعاتهم وتوهماتهم الفاسدة، فارجع إليه لو شئت، وقد ذكر الشيخ قُدِّس سرُّه توجيهًا نفيسًا لهذا الحديث.

وفي هامش النسخة المصرية

(2)

: قوله: "الظالم. . ." إلخ، إنما ساغ للعباس أن يقول ذلك لعلي لأنه كالوالد له، وللوالد ما ليس لغيره، أو هي كلمة لا يراد بها حقيقتها، انتهى.

(6 -‌

‌ باب إثم من آوى محدثًا)

قال القسطلاني

(3)

: أي: مبتدعًا أو ظالمًا.

قوله: (رواه علي. . .) إلخ، قال في "الفتح": تقدم موصولًا في الباب الذي قبله، قال في "عمدة القاري": ليس في الباب الذي قبله ما يطابق الترجمة، وإنما الذي يطابقها ما تقدم في "باب الجزية" في "باب إثم من عاهد ثم غدر" قال فيه:"فمن أحدث فيه حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله"، انتهى من "القسطلاني".

(7 -‌

‌ باب ما يذكر من ذمّ الرأي وتكلف القياس)

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: أراد المؤلف بذكر البابين هذا وما بعده أن كل قياس غير محمود، ولا كله مذموم، فأما قياس مجتهدي الأمة، أي: ما لا يخالف أصول الشرع وقواعد الدين وكان مستندًا إلى أهل

(1)

"لامع الدراري"(10/ 281 - 284).

(2)

"تحفة الباري"(6/ 505).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 306)، وانظر:"فتح الباري"(13/ 281)، و"عمدة القاري"(16/ 524).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 284، 285).

ص: 748

الأدلة، فهذا النوع من القياس محمود، والمذموم ما يخالف ذلك، ويلزم فيه تخصيص النص أو مخالفته أو ترك العمل به إلى غير ذلك مما هو معروف، انتهى.

وفي هامشه: وحاصله ما أفاده الشيخ أن الغرض من هذا الباب الردّ على من يزعم أن كل قياس صحيح محمود وإن لم يبن على أصل شرعي، والغرض من الباب الآتي وهو قوله:"باب من شبّه أصلًا معلومًا. . ." إلخ، الردّ على من زعم أن كل قياس باطل مذموم، فمن حكى عن الإمام البخاري أنه منكر للقياس بناءً ونظرًا على هذا الباب الأول فقط فلم يصب.

قال الحافظ

(1)

: قوله: "باب ما يذكر من ذمّ الرأي. . ." إلخ، أي: الفتوى بما يؤدّي إليه النظر، وهو يصدق على ما يوافق النصّ وعلى ما يخالفه، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه، وأشار بقوله:["من"] إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا يذم، وهو إذا لم يوجد النصّ من كتاب أو سُنَّة أو إجماع.

وقوله: (وتكلف القياس) أي: إذا لم يوجد الأمور الثلاثة، واحتاج إلى القياس، فلا يتكلفه بل يستعمله على أوضاعه، ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية، ويدخل في تكلف القياس ما إذا استعمله على أوضاعه مع وجود النصّ، ومما إذا وجد النص فخالفه، وتأول لمخالفته شيئًا بعيدًا، ويشتد الذمّ فيه لمن ينتصر لمن يقلده مع احتمال أن لا يكون الأول اطلع على النص، انتهى.

وهكذا في "العيني"

(2)

، وزاد: فإن قلت: روى البيهقي بسنده إلى عمر قال: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أغنتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا"، قلت: في صحته نظر، ولئن سلمنا فإنه أراد به الرأي مع وجود النص، انتهى. كذا في هامش "اللامع".

(1)

"فتح الباري"(13/ 282).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 525).

ص: 749

(8 -‌

‌ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أي: كان له إذا سئل عن الشيء الذي لم يوح إليه، فيه حالان: إما أن يقول: لا أدري، وإما أن يسكت حتى يأتيه بيان ذلك بالوحي، ولم يذكر لقوله:"لا أدري" دليلًا فإن كلًّا من الحديثين المعلق والموصول من أمثلة الشق الثاني، وأجاب بعض المتأخرين بأنه استغنى بعدم جوابه به، والذي يظهر أنه أشار بالترجمة إلى ما ورد في ذلك، ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك، وقد وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البقاع خير؟ قال: لا أدري، فأتاه جبرئيل فسأله فقال: لا أدري؟ فقال: سل ربك فانتفض جبرئيل انتفاضة" الحديث، أخرجه ابن حبان، وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا"؟ وهو عند الدارقطني والحاكم، فقد تقدم في شرح حديث عبادة من "كتاب العلم" الكلام عليه، انتهى مختصرًا.

قلت: ومثله ما أخرجه الإمام أبو داود

(2)

في "باب التخيير بين الأنبياء عليهم السلام" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتُبّعٌ لَعِينٌ هو أم لا؟ وما أدري أعزير نبي هو أم لا"؟ قال الشيخ في "البذل"

(3)

: وهذا قبل أن يوحى إليه في أمره، ثم أعلمه الله بعد ذلك أنه أسلم، فقد روى أحمد

(4)

من حديث سهل الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا تبعًا فإنه قد أسلم"، وقوله:"أعزير نبي هو أم لا؟ " لعله أعلم بعد ذلك أنه نبي، انتهى من "البذل".

وفي هامش "اللامع"

(5)

بعد ذكر أقاويل الشرَّاح في غرض الترجمة:

(1)

"فتح الباري"(13/ 290).

(2)

"سنن أبي داود"(4674).

(3)

"بذل المجهود"(13/ 84، 85).

(4)

"مسند أحمد"(5/ 340).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 286 - 288).

ص: 750

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن غرض المصنف بهذه الترجمة الإشارة إلى مسألة خلافية شهيرة، وهي هل كان للنبي صلى الله عليه وسلم حق الاجتهاد أم لا بدّ له من انتظار الوحي؟ ذكر الحافظ الإشارة إلى هذه المسألة في باب سيأتي بعد عدة أبواب من قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إذ قال: ويحتمل أن يكون مراده الإشارة إلى الخلافية المشهورة في أصول الفقه، وهي: هل كان له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام أم لا؟ انتهى.

والأوجه عندي: أن الإمام البخاري أشار إلى هذه المسألة بهذا الباب لا بالباب الآتي، ثم ذكر في هامش "اللامع" تفصيل الأقوال في هذه المسألة، وفيه: قال ابن رسلان في شرح أبي داود تحت حديث: "لولا أن أشقّ على أمتي. . ." إلخ: قد اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أربعة أقوال، ثالثها: كان له أن يجتهد في الحروب والآراء دون الأحكام، ورابعها: الوقف.

وقال النووي في حديث الغيلة: وفيه جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وبه قال جمهور أهل الأصول، وقيل: لا يجوز لتمكنه من الوحي، والصواب الأول.

وقال أيضًا: أما أمور الدنيا فاتفق العلماء على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها ووقوعه منه، وأما أمور الدين فقال أكثر العلماء بالجواز، وحكاه العيني عن الشافعي وأحمد وأبي يوسف، قال السرخسي في "المبسوط": وهو الصحيح عندنا؛ لأنه إذا جاز لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى، وقال جماعة: لا يجوز له لقدرته على اليقين، وحكاه الأبي عن الجبائي وابنه والإمامية، إلى آخر ما فيه، فارجع إليه لو شئت.

(9 -‌

‌ باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء)

قال المهلب: مراده أن العالم إذا كان يمكنه أن يحدِّث بالنصوص، لا يحدث بنظره ولا قياسه، انتهى.

ص: 751

قال الحافظ

(1)

: والمراد بالتمثيل القياس، وهو إثبات مثل حكم معلوم لآخر لاشتراكهما في علة الحكم، والرأي أعم.

قال الكرماني

(2)

: موضع الترجمة من الحديث قوله: "كان لها حجابًا من النار" فإنه أمر توقيفي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى، لا دخل للقياس والرأي فيه، انتهى.

قال السندي

(3)

: قوله: "ولا تمثيل" أي: ولا ردّ للمثل إلى مثله، وهو حقيقة القياس، ولهذا اشتهر هذا الاسم بين المناطقة في القياس، انتهى.

(10 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق

")

هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم عن ثوبان، وبعده:"لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، وله من حديث جابر مثله، لكن قال:"يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة".

قوله: (وهم أهل العلم) هو من كلام المصنف، وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال: سمعت محمد بن إسماعيل - هو البخاري - يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث، وعن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، انتهى من "الفتح"

(4)

.

(11 -‌

‌ باب قول الله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:

65])

ويردّ على ظاهر الترجمة أن محلها "كتاب الفتن".

والأوجه عندي: أن هذه الترجمة بمنزلة التكملة للباب السابق، فإن ظاهر قوله:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" أي: أن يكونوا

(1)

"فتح الباري"(13/ 293).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 57).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 263).

(4)

"فتح الباري"(13/ 293).

ص: 752

متفقين فيما بينهم، كما يدلّ عليه ظاهر سياق الترجمة الأولى، فنبَّه الإمام البخاري بعقد هذا الباب على أنهم مع ظهورهم على الحق وغلبتهم عليه لا يكونون متفقين فيما بينهم، فهو إشارة إلى اختلاف أهل الحق فيما بينهم؛ لأنه تعالى لم يستجب دعوته صلى الله عليه وسلم في عدم اختلاف الأمة ورفع تنازعهم.

وقال الحافظ

(1)

: وجه مناسبته لما قبله أن ظهور بعض الأمة على عدوهم دون بعض يقتضي أن بينهم اختلافًا حتى انفردت طائفة منهم بالوصف؛ لأن غلبة الطائفة المذكورة إن كانت على الكفار ثبت المدعى، وإن كانت على طائفة من هذه الأمة أيضًا فهو أظهر في ثبوت الاختلاف، فذكر بعده أصل وقوع الاختلاف، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن لا يقع فأعلمه الله تعالى أنه قضى بوقوعه، وأن كل ما قدّره لا سبيل إلى رفعه، قال ابن بطال: أجاب الله تعالى دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب، ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعًا، أي: فرقًا مختلفين، انتهى من هامش "اللامع"

(2)

بزيادة من "الفتح"

(3)

.

(12 -‌

‌ باب من شبّه أصلًا معلومًا بأصل مبين)

وبهذا الباب استدل من قال: إن الإمام البخاري قائل بالقياس والاجتهاد، وهو الأوجه عند هذا العبد الضعيف، ولهذا ردّ المشايخ قول من عزا إلى الإمام البخاري إنكار القياس والاجتهاد.

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: التشبيه والتمثيل هو القياس عند العرب، وقد احتج المزني بهذين الحديثين اللذين ذكرهما البخاري في الباب على من أنكر القياس، قال: وأول من أنكر القياس إبراهيم النظام، وتبعه بعض المعتزلة، وممن ينسب إلى الفقه داود بن علي، وما اتفق عليه الجماعة هو الحجة، فقد قاس الصحابة فمن بعدهم من التابعين، وفقها الأمصار، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 296)، و"شرح ابن بطال"(10/ 360).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 289).

(3)

"فتح الباري"(12/ 297).

(4)

"فتح الباري"(13/ 297).

(5)

"شرح ابن بطال"(10/ 361).

ص: 753

وقد صرّح الكرماني وغيره من "العيني" و"القسطلاني"

(1)

أن غرض هذا الباب إثبات القياس.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: عنى بالمعلوم ما أريد علمه واستنباطه، وبالمبين ما هو معلوم من قبل، وقوله:"بيَّن الله حكمها" أي: في الكتاب والسُّنَّة من قبل بيان حكم ذلك الأمر المطلوب علمه، انتهى.

وقال السندي في "حاشيته"

(3)

: قوله: "معلومًا" أي: مطلوبًا بالعلم والبيان للمخاطب، وقوله:"بأصل مبين" أي: قد بُيِّن للمخاطب من قبل، أو المراد بالمعلوم المعلوم للمتكلم المجيب، وكذا المبين والمطلوب تشبيه المجهول على المخاطب بالمعلوم عنده، مع أن كلًّا منهما معلوم عند المتكلم بدون هذا التشبيه، وإنما يشبه لتفهيم السائل المخاطب، والتوضيح عنده لا لإثبات الحكم كما يقول به أهل القياس، فهذا جواب عن أدلة مثبتي القياس بأن ما جاء من القياس كان للإيضاح والتفهيم، بعد أن كان الحكم ثابتًا في كل من الأصلين، ولم يكن لإثبات الحكم، والله تعالى أعلم، انتهى.

هذا ما أفاده العلامة السندي في الغرض من الترجمة، وأما غيره من أكثر الشرَّاح الحافظان والقسطلاني فقد تقدم أنهم صرّحوا بأن غرض المصنف بهذا الباب إثبات حجية القياس.

(13 -‌

‌ باب مما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله. . .) إلخ

كذا في النسخة "الهندية" و"الفتح"، وفي نسخة "العيني" و"القسطلاني":"القضاة". قال القسطلاني

(4)

: بصيغة الجمع، ولأبي ذر

(1)

"شرح الكرماني"(25/ 60)، و"عمدة القاري"(16/ 533)، و"إرشاد الساري"(15/ 320).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 290).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 264).

(4)

"إرشاد الساري"(14/ 321).

ص: 754

ولأبي الوقت: "القضاء" بفتح القاف والضاد والمد وإضافة الاجتهاد إليه، والمعنى الاجتهاد في الحكم، وفيه حذف تقديره اجتهاد متولي القضاء، والاجتهاد بذل الوسع للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب أو السُّنَّة، فإن عدمه رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده نظر هل يصحّ الحمل على بعض الأحكام المقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إلى آخر ما ذكر، وقال أيضًا: ذكر المصنف في هذا الباب حديثين: الأول للشق الأول، والثاني للثاني، انتهى.

(14 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم

")

قال ابن بطال

(3)

: أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من الناس.

قال الحافظ: قد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك، انتهى.

(15 -‌

‌ باب إثم من دعا إلى ضلالة. . .) إلخ

وهذا الباب عندي تكملة للباب السابق، قال المهلب: هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 299).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 363).

(3)

"فتح الباري"(13/ 301)، و"شرح ابن بطال"(10/ 366).

ص: 755

ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر، ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده، ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفيه أيضًا ورد فيما ترجم به حديثان بلفظ: وليسا على شرطه، واكتفى بما يؤدي معناهما، وهما ما ذكرهما من الآية والحديث، فأما حديث:"من دعا إلى ضلالة" فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، وأما حديث:"من سَنَّ سُنَّة سيئة" فأخرجه مسلم، وأخرجه الترمذي أيضًا من وجه آخر بلفظ:"من سن سُنَّة خير، ومن سن سُنَّة شر" انتهى مختصرًا من "الفتح".

(16 -‌

‌ باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحضّ على اتفاق أهل العلم. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال عن المهلب: غرض البخاري بهذا الباب وأحاديثه تفضيل المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحي ومهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وشرّف الله بقعتها بسكنى رسوله، وجعل فيها قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة.

قال الحافظ: وفضل المدينة ثابت لا يحتاج إلى إقامة دليل خاص، وقد تقدم من الأحاديث في فضلها في آخر الحج ما فيه شفاء، وإنما المراد هنا تقدم أهلها في العلم على غيرهم إلى آخر ما قال.

وما اختاره الحافظ في الغرض من الترجمة به جزم القسطلاني

(3)

إذ قال: ومراده من سياق أحاديث هذا الباب تقديم أهل المدينة في العلم على غيرهم في العصر النبوي، ثم بعده قبل تفرق الصحابة في الأمصار، ولا سبيل إلى التعميم كما لا يخفى، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 302).

(2)

"فتح الباري"(13/ 312).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 344).

ص: 756

وأما العلامة العيني

(1)

فإنه قد مالَ إلى رأي المهلب الذي سبق في كلام الحافظ، فإنه ذكر قول المهلب في الغرض من الترجمة، وسكت عليه، فكأنه رضي به.

ثم اعلم أنه يستفاد من كلام بعض الشرَّاح أن غرض المصنف بهذا الباب وأحاديثه بيان مسألة الإجماع، ففي "الفيض"

(2)

: "باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، شرع في بيان حجية الإجماع، لا سيما إجماع أهل الحرمين، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن هذا الباب ليس من باب الإجماع، بل يأتي مسألة الإجماع قريبًا في "باب قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .} " إلخ [البقرة: 143]، بل الغرض عندي من هذا الباب الإشارة إلى اختلافهم في وجوه ترجيح الروايات بعضها على بعض، وإليه يظهر ميل شيخ الهند مولانا محمود الحسن قُدِّس سرُّه رئيس المدرسين في دار العلوم بديوبند ففي تقريره كما حكاه مولانا مشتاق أحمد البنجابي: لما كان غرض المؤلف من هذا الكتاب بيان قواعد الشرع كيف نعلم؟ قال: اعتصموا بالكتاب والسُّنَّة، فهو الآن في هذا الباب يبين قاعدة كلية؛ لأن المسائل إذا تعارضت فينظر إلى اتفاق أهل العلم وإجماعهم، ثم بعد ذلك ينظر إلى عمل أهل الحرمين فيرجح ما اتفقوا عليه، انتهى.

قلت: قال الحازمي

(3)

في جملة وجوه الترجيح: الرابع عشر: أن يكون إسناد أحد الحديثين حجازيًا وإسناد الآخر عراقيًا أو شاميًا، سيما إذا كان الحديث مدني المخرج؛ لأنها دار الهجرة ومجمع المهاجرين والأنصار، والحديث إذا شاع عندهم وذاع وتلقوه بالقبول مَتُنَ وقوي، وكان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: كل حديث لا يوجد له أصل في حديث الحجازيين واهٍ، وإن تداولته الثقات، انتهى.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 539).

(2)

"فيض الباري"(6/ 534).

(3)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ"(ص 13).

ص: 757

وفي هامش "اللامع"

(1)

: وليس هذا من وجوه الترجيح عندنا الحنفية، كما تقدم من كلام العيني من قوله: وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنهم ليسوا حجة على غيرهم لا من طريق النقل ولا من طريق الاجتهاد، إلى آخر ما فيه.

قوله (وقد زيد فيه. . .) إلخ، أي: في الصاع في زمن عمر بن عبد العزيز حتى صار مدًا وثلث مد من الأمداد العمرية، والجملة حالية، قال شيخنا: ومناسبة الحديث للترجمة أن الصاع مما أجمع عليه أهل الحرمين بعد العهد النبوي واستمر، فلما زاد بنو أمية فيه لم يتركوا اعتبار الصاع النبوي فيما ورد فيه التقدير بالصاع من زكاة الفطر وغيرها، بل استمروا على اعتباره في ذلك، انتهى.

(17 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:

128])

قال ابن بطال

(2)

: دخول هذه الترجمة في "كتاب الاعتصام" من جهة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المذكورين لكونهم لم يذعنوا للإيمان ليعتصموا به من اللعنة، وأن معنى قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، انتهى.

ويحتمل أن يكون مراده الإشارة إلى الخلافية المشهورة في أصول الفقه، وهي: هل كان له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام أو لا؟ وقد تقدم بسط ذلك قبل ثمانية أبواب، انتهى من "الفتح"

(3)

.

قلت: وهذا الغرض الأخير قد تقدم عندي في الباب الذي أشار إليه الحافظ بقوله: قبل ثمانية أبواب، وهو "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل"، وقد تقدم البسط هناك.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 293).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 376).

(3)

"فتح الباري"(13/ 313).

ص: 758

(18 -‌

‌ باب قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. . .} [الكهف: 54]) إلخ

ووجه دخول هذه الترجمة عندي ههنا من حيث أنه أشار إلى أنه لا ينبغي للمرء أن يجادل في المجتهدات والمسائل الخلافية، بل ينبغي له التمسك والاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، ذكر المصنف في الباب حديثين: فالأول منهما مطابق للجزء الأول من الترجمة، والثاني للثاني.

قال العيني

(1)

تحت الحديث الثاني: مطابقته للجزء الثاني للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم بلغ اليهود ودعاهم إلى الإسلام فقالوا: بلَّغت، ولم يذعنوا لطاعته، فبالغ في تبليغهم وكرّره، وهذه مجادلة بالتي هي أحسن، انتهى.

وذكره الحافظ أيضًا في "الفتح"

(2)

وعزاه إلى المهلب.

(19 -‌

‌ باب قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .} [البقرة: 143]) إلخ

قد تقدم قريبًا في "باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحضّ على اتفاق أهل العلم. . ." إلخ، أن غرض الإمام البخاري بهذا الباب عند هذا العبد الضعيف: إثبات حجِّية الإجماع، وهكذا في تقرير شيخ الهند إذ قال: لعل غرض البخاري من هذا الباب بيان أن هذه الأمة مرحومة، وقولهم معتبر في الدنيا كما أن شهادتهم مقبولة في العقبى، وهذا إشارة إلى حجية الإجماع الذي هو أصل رابع في الدين، والله تعالى أعلم.

قلت: وبهذه الآية استدل أهل الأصول على حجية الإجماع كما قال الكرماني

(3)

.

وقال القسطلاني

(4)

: والاستدلال بالآية على أن الإجماع حجة؛

(1)

"عمدة القاري"(16/ 553).

(2)

"فتح الباري"(13/ 315).

(3)

"شرح الكرماني"(25/ 75).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 350).

ص: 759

لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله، انتهى.

وفي "نور الأنوار"

(1)

في بحث الإجماع: وحكمه في الأصل أن يثبت المراد به شرعًا على سبيل اليقين لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وصفهم بالوسطية وهي العدالة، فيكون إجماعهم حجة، وقد ضلّ بعض المعتزلة والروافض فقالوا: إن الإجماع ليس بحجة؛ لأن كل واحد منهم يحتمل أن يكون مخطأ فكذا الجميع، ولا يدرون قوة الحبل المؤلف من الشعرات وأمثاله، انتهى.

وأثبت الرازي في "تفسيره"

(2)

حجية الإجماع بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 110]، وذكر الحاكم في "المستدرك"

(3)

تسعة أحاديث في حجية الإجماع.

وقد بسط الشوكاني الكلام على الإجماع وإجماع أهل المدينة وغيرها في المقصد الثالث من "إرشاد الفحول"

(4)

، انتهى مختصرًا من هامش "اللامع"

(5)

.

(20 -‌

‌ باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. . .) إلخ

قال الحافظ

(6)

: في رواية الكشميهني: "العالم" بدل "العامل"، و"أو" للتنويع، وقد تقدم في "كتاب الأحكام" ترجمة إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود، وهي معقودة لمخالفة الإجماع، وهذه معقودة لمخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام، انتهى.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الترجمة الأولى من باب القضاء، يعني: مجرد قضاء القاضي لا يعتبر، بل هو مردود إلى حكم

(1)

"نور الأنوار"(ص 221).

(2)

"التفسير الكبير"(8/ 156).

(3)

"المستدرك"(1/ 113 - 120).

(4)

"إرشاد الفحول"(1/ 233 - 278).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 299).

(6)

"فتح الباري"(13/ 317).

ص: 760

الشرع، وأما هذه الترجمة الثانية فيه من باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة.

والحاصل: أن من اجتهد ثم علم أنه خلاف السُّنَّة فاجتهاده مردود، فقد قال الحافظ: قال ابن بطال

(1)

: مراده أن من حكم بغير السُّنَّة جهلًا أو غلطًا يجب عليه الرجوع إلى حكم السنة، وترك ما خالفها امتثالًا لأمر الله تعالى بإيجاب طاعة رسوله، وهذا هو نفس الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة.

ويمكن أن يقال: إنه أشار بهذه الترجمة الثانية إلى مسألة أصولية شهيرة، وهي: هل المجتهد يخطئ ويصيب أو كل مجتهد مصيب، وإلى هذا أشار صاحب "الفيض"

(2)

إذ قال: وعند الترمذي: أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، انتهى.

قال القسطلاني

(3)

: قال أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو يوسف ومحمد: المسألة التي لا قاطع فيها، كل مجتهد فيها مصيب، ثم قال بعد ما بسط الكلام على المسألة: وقال الجمهور - وهو الصحيح -: المصيب واحد، إلى آخر ما بسطه.

وقال النووي بحثًا على المسألة: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، والمذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه، انتهى.

وفي "نور الأنوار"

(4)

: المجتهد يخطئ ويصيب، والحق في موضع الخلاف واحد، ولكن لا يعلم ذلك الواحد باليقين، فلهذا قلنا بحقية المذاهب الأربعة، وهذا مما علم بأثر ابن مسعود في المفوضة، انتهى.

قال الحافظ

(5)

في شرح الحديث الآتي في الترجمة الآتية: قال المازري

(6)

: تمسّك به كل من الطائفتين من قال: إن الحق في طرفين،

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 380).

(2)

"فيض الباري"(6/ 536).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 354).

(4)

"نور الأنوار"(ص 246).

(5)

"فتح الباري"(13/ 320).

(6)

"المعلم"(2/ 266).

ص: 761

ومن قال: إن كل مجتهد مصيب، أما الأولى فلأنه لو كان كل مصيبًا لم يطلق على أحدهما الخطأ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة، وأما المصوبة فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم جعل له أجرًا، فلو كان لم يصب لم يؤجر، وأجابوا عن إطلاق الخطأ في الخبر على من ذهل عن النص أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه من القطعيات، انتهى.

وقال الكرماني

(1)

: المراد بالعامل: عامل الزكاة، وبالحاكم: القاضي، وقوله:"فأخطأ" أي: في أخذ واجب الزكاة أو في قضاء.

قال الحافظ

(2)

: وعلى تقدير ثبوت رواية الكشميهني فالمراد بالعالم: المفتي، أي: أخطأ في فتواه، وقال: وفي الترجمة نوع تعجرف، قلت: ليس فيها قلق إلا في اللفظ الذي بعد قوله: "فأخطأ"، فصار ظاهر التركيب ينافي المقصود؛ لأن من أخطأ خلاف الرسول لا يذم، بخلاف من أخطأ وفاقه، وليس ذلك المراد، وإنما تمّ الكلام عند قوله:"فأخطأ" وهو متعلق بقوله: اجتهد، وقوله:"خلاف الرسول" أي: فقال خلاف الرسول، وحذف "قال" يقع في الكلام كثيرًا فأي عجرفة في هذا، والشارح من شأنه أن يوجه كلام الأصل مهما أمكن، ويغتفر القدر اليسير من الخلل تارةً، ويحمله على الناسخ تارة، وكل ذلك في مقابلة الإحسان الكثير الباهر ولا سيما مثل هذا الكتاب، انتهى.

(21 -‌

‌ باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: يشير إلى أنه لا يلزم من ردّ حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم، كما تقدمت الإشارة إليه، قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالمًا بالاجتهاد،

(1)

"شرح الكرماني"(25/ 76).

(2)

"فتح الباري"(13/ 317، 318).

(3)

"فتح الباري"(13/ 318، 319).

ص: 762

وأما إذا لم يكن عالمًا فلا، ومال الخطابي إلى أن العالم إنما يؤجر إذا اجتهد فأصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، وكأنه يرى أن قوله:"وله أجر واحد" مجاز عن وضع الإثم، انتهى مختصرًا.

وفي هامش النسخة المصرية عن شيخ الإسلام

(1)

: مرّ حديث الباب في أواخر البيوع، وفيه دلالة على أن الحق عند الله واحد، وأن المجتهد يخطئ ويصيب، انتهى.

(22 -‌

‌ باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرةً)

قال الكرماني وتبعه العيني

(2)

: قوله: "ما كان يغيب. . ." إلخ، عطف على مقول القول و"ما" نافية أو على الحجة فما موصولة، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: و"ما" موصولة، وجوّز بعضهم أن تكون نافية، وأنها من بقية القول المذكور، وظاهر السياق يأباه، وهذه الترجمة معقودة لبيان أن كثيرًا من الأكابر من الصحابة كان يغيب عن بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعله من الأعمال التكليفية، فيستمرّ على ما كان اطلع عليه هو إما على المنسوخ لعدم اطلاعه على ناسخه، وإما على البراءة الأصلية، وإذا تقرّر ذلك قامت الحجة على من قدم عمل الصحابي الكبير على رواية غيره متمسكًا بأن ذلك الكبير لولا أن عنده ما هو أقوى من تلك الرواية لما خالفها.

وقال ابن بطال

(4)

: أراد الردّ على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا يجوز العمل

(1)

"تحفة الباري"(6/ 517).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 78)، و"عمدة القاري"(16/ 557).

(3)

"فتح الباري"(13/ 321).

(4)

"شرح ابن بطال"(10/ 384).

ص: 763

بما لم ينقل متواترًا قال: وقولهم مردود بما صحّ أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(1)

: قوله: "كانت ظاهرة" فيه ردّ على الباطنية حيث زعموا: أن المراد بالجنة والنار ليس ما يظهر من اسميها، بل هما عبارتان عن نعيم وعذاب معنويين، فردّ عليهم المصنف: أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كلها محمولة على ظاهرها، لا أن لها بواطن تخالف ظواهرها، انتهى.

ولا يبعد عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بذلك إلى مسألة أصولية خلافية، وهي مسألة وجوب تقليد الصحابي، قال صاحب "نور الأنوار"

(2)

: تقليد الصحابي واجب يترك به القياس، وقال الكرخي: لا يجب [تقليده] إلا فيما لا يدرك إلا بالقياس، وقال الشافعي: لا يقلد أحد منهم سواء كان مدركًا بالقياس أو لا؟ لأن الصحابة كان يخالف بعضهم بعضًا، وليس أحدهم أولى من الآخر فتعين البطلان، انتهى.

فلا يبعد عندي أن المصنف أشار إلى هذا الأخير بناءً على أن بعضهم لا يشهدون بموضع يشهده غيره، وطالما لا يعرفون المنسوخ من الناسخ.

(23 -‌

‌ باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة. . .) إلخ

كتب مولانا محمد حسن المكي في "تقريره" عن شيخه الكَنكَوهي

(3)

: قوله: "حجة" أي: في الدين كالقرآن، أما ترك النكير من غيره عليه الصلاة والسلام كالصحابة فليس بحجة في الدين، بل هو دليل على أن ذلك مذهبه، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 537).

(2)

"نور الأنوار"(ص 217).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 303).

ص: 764

قال الحافظ

(1)

: النكير المبالغة في الإنكار، وقد اتفقوا على أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار، فلا يقرّ على باطل، فمن ثم قال:"لا من غير الرسول" فإن سكوته لا يدلّ على الجواز.

وأشار ابن التِّين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتي، وأن الناس اختلفوا، فقالت طائفة: لا ينسب لساكت قول؛ لأنه في مهلة النظر، وقالت طائفة: إن قال المجتهد قولًا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة، وقيل: لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سُنَّة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص، واحتج من منع مطلقًا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية، فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفًا، وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سُنَّة، ومنهم من كان يسكت، فلا يكون سكوته دليلًا على الجواز لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم، فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابًا وإن لم يظهر له وجهه، انتهى.

وقال القسطلاني

(2)

: قوله: "حجة" لأنه لا يقر أحدًا على باطل سواء استبشر به مع ذلك أم لا، لكن دلالته مع الاستبشار أقوى، وقد تمسك الشافعي في القيافة واعتبارها في النسب بكلا الأمرين الاستبشار وعدم الإنكار في قصة المدلجي، وسواء كان المسكوت عنه ممن يغريه الإنكار أو لا، كافرًا كان أو منافقًا، والقول باستثناء من يزيده الإنكار إغراءً، حكاه ابن السمعاني عن المعتزلة بناء على أنه لا يجب إنكاره عليه للإغراء، قال: والأظهر أنه يجب إنكاره عليه ليزول توهم الإباحة والقول باستثناء ما إذا كان الفاعل كافرًا أو منافقًا قول إمام الحرمين بناءً على أن الكافر غير مكلف بالفروع، إلى آخر ما ذكر.

(1)

"فتح الباري"(13/ 323، 324).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 358).

ص: 765

وفي "نور الأنوار"

(1)

: ركن الإجماع نوعان: عزيمة: وهو التكلم منهم بما يوجب الاتفاق إن كان ذلك الشيء من باب القول، أو شروعهم في الفعل إن كان من بابه، ورخصة: وهو أن يتكلم أو يفعل البعض دون البعض، أي: يتفق بعضهم على قول أو فعل وسكت الباقون منهم، ويسمى هذا إجماعًا سكوتيًا، وهو مقبول عندنا، وفيه خلاف الشافعي، انتهى مختصرًا.

(24 -‌

‌ باب الأحكام التي تعرف بالدلائل. . .) إلخ

قال الكرماني

(2)

: قوله: "بالدلائل" أي: بالملازمات الشرعية أو العقلية، قال ابن الحاجب وغيره: الأدلة المتفق عليها خمسة: الكتاب والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، وذلك كما إذا علم ثبوت الملزوم شرعًا أو عقلًا علم ثبوت لازمه عقلًا أو شرعًا، وقوله:"كيف معنى الدلالة. . ." إلخ، ومعنى الدلالة هو كإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم أن الخاص وهو الحمير حكمه داخل تحت حكم العام، وهو {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الآية [الزلزلة: 7]، فإن من ربطها في سبيل الله فهو عامل للخير، يرى جزاءه خيرًا، ومن ربطها فخرًا ورياءً فهو عامل للشر جزاؤه شر، وأما تفسيرها فكتعليم عائشة رضي الله عنها للمرأة السائلة التوضوء بالفرصة، انتهى.

قال الحافظ

(3)

: الدلالة في عرف الشرع الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نصٌّ خاصٌّ داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم، فهذا معنى الدلالة، وأما "تفسيرها" فالمراد به تبيينها، وهو تعليم المأمور كيفية ما أمر به، وإلى ذلك الإشارة في ثاني أحاديث الباب، ويستفاد من الترجمة بيان الرأي المحمود، وهو ما يؤخذ مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله بطريق التنصيص وبطريق الإشارة، فيندرج في

(1)

"نور الأنوار"(ص 219).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 80).

(3)

"فتح الباري"(13/ 331).

ص: 766

ذلك الاستنباط، ويخرج الجمود على الظاهر المحض، انتهى.

وفي تقرير شيخ الهند نوَّر الله مرقده

(1)

: قوله: "باب الأحكام. . ." إلخ، هذا أيضًا قاعدة كلية من القواعد الشرعية؛ لأن الأعمال قد تعرف بالدلالة من الحديث، وقال مولانا سلمه الله تعالى: إن البخاري لم يكتف بذكر أن مدار الدين الوحي، بل حتى القواعد أيضًا، أثبتها من الأحاديث، ولله دره، انتهى.

وما يظهر لهذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري قد أشار في "كتاب الاعتصام" بتراجم عديدة إلى مسائل الأصول كما ترى، فهكذا أشار بهذه الترجمة إلى أمرين قد نبَّه عليهما أصحاب الأصول، الأول: ما قالوا: إن أصول الشرع أربعة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، وأشار إلى هذه الأربعة بقوله:"التي تعرف بالدلائل"، ولما كان الكلام على هذه الأربعة قد تقدم من مبدأ كتاب الاعتصام إلى ههنا، أشار إليها بقوله:"التي تعرف بالدلائل"، والأمر الثاني: هو ما ذكروه من تقسيم الاستدلال من الكتاب والسُّنَّة إلى أقسام عديدة معروفة عندهم من عبارة النص وإشارته ودلالته واقتضائه، فأشار إلى هذا الأمر الثاني بقوله:"وكيف معنى الدلالة. . ." إلخ.

(25 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. . .) إلخ

قال الحافظ

(2)

: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وغيره من حديث جابر: أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: "لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به،

(1)

"لامع الدراري"(10/ 305، 306).

(2)

"فتح الباري"(13/ 334).

ص: 767

والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني"، ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفًا، قال ابن بطال عن المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نصّ فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نصّ ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة.

وأما قوله تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] فالمراد به من آمن منهم، والنهي إنما هو عن سؤال من لم يؤمن منهم، ويحتمل أن يكون الأمر يختص بما يتعلق بالتوحيد والرسالة المحمدية وما أشبه ذلك، والنهي عما سوى ذلك، انتهى.

قلت: وقد تقدم مني أن الإمام البخاري طالما أشار في هذا الكتاب إلى المسائل الأصولية، فهكذا ههنا عندي أنه أشار إلى مسألة أخرى خلافية، وهي شرائع من قبلنا هل تلزمنا مطلقًا أو لا؟ ففي "نور الأنوار"

(1)

: قال بعضهم: تلزم علينا مطلقًا، وقال بعضهم: لا تلزمنا قط، والمختار أن شرائع من قبلنا تلزمنا إذا قصّ الله ورسوله من غير إنكار، وهذا أصل كبير لأبي حنيفة يتفرع عليه أكثر الأحكام الفقهية، فمثال ما لم ينكر علينا بعد نقل القصة قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فهذا كله باق علينا، ومثال ما أنكره علينا بعد القصة قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: 146]، ثم قال:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]، فعلم أنه لم يكن حرامًا علينا، إلى آخر ما قال.

وقال الحافظ ابن كثير

(2)

تحت قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} الآية [المائدة: 45]: وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن

(1)

"نور الأنوار"(ص 216).

(2)

"تفسير ابن كثير"(5/ 233، 234).

ص: 768

الجمهور، وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها: أن شرع إبراهيم حجة دون غيره، وصحح منها عدم الحجية، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالًا عن الشافعي وأكثر الأصحاب، ورجّح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا، فالله أعلم، انتهى.

(26 -‌

‌ باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريم إلا ما تعرف إباحته)

هكذا هذه الترجمة ههنا في النسخ الهندية، وقد اختلفت نسخ الشروح ههنا، ففي نسخة "العيني" و"القسطلاني" ههنا:"باب كراهية الخلاف".

قال القسطلاني

(1)

: وهذا الباب - أي: كراهية الخلاف - عند أبي ذر بعد "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريم" وقبل هذا الباب المذكور "باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الآية [الشورى: 38] "، انتهى.

قلت: وبهذا الترتيب الذي أشار إليه القسطلاني وقع في نسخة "الفتح"، ففيه ذكر أولًا "باب قول الله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} " وثانيًا "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، وثالثًا "باب كراهية الاختلاف".

قال الحافظ

(2)

: وقع في بعض النسخ في هذه الأبواب الثلاثة الأخيرة تقديم وتأخير، والخطب فيها سهل، انتهى.

قوله: (عن التحريم) هكذا بلفظ "عن" في النسخ الهندية، وهكذا في نسخة متن الكرماني، وفي هامش الهندية

(3)

عن "الخير الجاري": متعلق بمحذوف، أي: ينبئ عن التحريم، وفي نسخ الشروح الأربعة بلفظ "على" بدل "عن"، وعليها بنوا شروحهم إذ قالوا: أي: محمول على التحريم،

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 371).

(2)

"فتح الباري"(13/ 344).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 367).

ص: 769

والمعنى أن نهيه صلى الله عليه وسلم محمول على التحريم إلا ما يعرف كراهته بقرائن، وكذا أمره إيجاب إلا ما يعرف إباحته بالقرائن.

قال الحافظ

(1)

: وقد أنهى بعض الأصوليين صيغة الأمر إلى سبعة عشر وجهًا، والنهي إلى ثمانية أوجه، ونقل القاضي أبو بكر ابن الطيّب عن مالك والشافعي: أن الأمر عندهما على الإيجاب والنهي على التحريم حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، وقال ابن بطال

(2)

: هذا قول الجمهور، وقال كثير من الشافعية وغيرهم: الأمر على الندب، والنهي على الكراهة، حتى يقوم دليل الوجوب في الأمر، ودليل التحريم في النهي، وتوقف كثير منهم، انتهى.

وفي "نور الأنوار"

(3)

: موجب الأمر الوجوب عند العامة لا الندب، كما ذهب إليه البعض وهم أكثر المعتزلة، ويروى عن الشافعي في قول، ولا الإباحة كما ذهب إليه بعض، كما نقل عن بعض أصحاب مالك، إلى آخر ما ذكر.

(27 -‌

‌ باب كراهية الاختلاف)

قال الحافظ

(4)

: ولبعضهم الخلاف، أي: في الأحكام الشرعية أو أعم من ذلك، انتهى.

ثم لا يذهب عليك الفرق بين هذا الباب وبين ما تقدم من باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] فإنه أخص منه هذا، وكذا ما تقدم قبله من "باب قول الله:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} " [الأنعام: 65] فإن غرضه عندي خاص كما تقدم هناك.

(1)

"فتح الباري"(13/ 337).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 393).

(3)

"نور الأنوار"(ص 27).

(4)

"فتح الباري"(13/ 336).

ص: 770

(28 -‌

‌ باب قول الله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. . .} [الشورى: 38]) إلخ

قال الحافظ

(1)

: أما الآية الأولى فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي حاتم بسند قوي عن الحسن قال: "ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم"، وفي لفظ:"إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع"، وأما الآية الثانية فأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن الحسن أيضًا قال: قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده، وفي حديث أبي هريرة:"ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم"، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع.

وقد اختلف في متعلق المشاورة فقيل: في كل شيء ليس فيه نص، وقيل: في الأمر الدنيوي فقط، وقال الداودي: إنما كان يشاورهم في أمر الحرب مما ليس فيه حكم، قال: ومن زعم أنه كان يشاورهم في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمةً، وقال غيره: اللفظ وإن كان عامًّا لكن المراد به الخصوص للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام، قال الحافظ: وفي هذا الإطلاق نظر، فقد أخرج الترمذي وحسّنه وصحّحه ابن حبان من حديث علي قال:"لما نزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية [المجادلة: 13]، قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة"، ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام، انتهى.

وهذا آخر "كتاب الاعتصام" الذي هو آخر كتاب من هذا "الجامع الصحيح" كما تقدم في مبدأ الكتاب، أما براعة الاختتام فعند الحافظ في قوله:"سبحانك هذا بهتان عظيم" والتسبيح مشروع في الختام، فلذلك ختم

(1)

"فتح الباري"(13/ 340).

ص: 771

به "كتاب التوحيد"، والحمد لله بعد التسبيح آخر دعوى أهل الجنة، قال الله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وقد ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي وابن حبان وغيرهما عنه مرفوعًا:"من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك"، قاله الحافظ ابن حجر

(1)

.

وما ظهر لهذا العبد الفقير إلى رحمته تعالى أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى يذكر الرجل في آخر كل كتاب موته كما تقدم غير مرة، فهكذا ههنا في آخر "كتاب الاعتصام" تحصل هذه البراعة عندي من حديث قصة الإفك إذ في تمامه إشارات كثيرة مذكرة للموت تظهر بالتأمل لمن يعتبر.

* * *

(1)

"فتح الباري"(13/ 544).

ص: 772

97 -

‌ كتاب الرد على الجهميّة وغيرهم

يأتي قريبًا ذكر اختلاف النسخ، وقد تقدّم في مبدأ "كتاب الاعتصام" أن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن هذا الكتاب ليس بكتاب مستأنف بل هو بمنزلة التكملة لكتاب الاعتصام، فكن منه على ذكر، وفي هامش النسخة "الهندية"

(1)

عن الكرماني: لما فرغ البخاري من مسائل أصول الفقه شرع في مسائل أصول الكلام وما يتعلق بها، وبذلك ختم كتابه، فإن قلت: الأولى تقديم الكلاميات على سائر ما في الجامع؛ لأنها الأصل والأساس والكل متفرع عنه مبني عليه، فالوضع الطبيعي أن يقدم مسائل أصول الكلام على مسائل أصول الفقه، ثم هو على مسائل الفقه ونحوها من سائر العمليات، قلت: لعله من باب الترقي إرادةً لختم الكتاب بالأشرف وختامه مسك.

ثم إنه قدّم التوحيد على غيره؛ لأنه أصل الأصول، وهو معنى كلمة الشهادة التي هي شعائر الإسلام، إلى آخر ما ذكر من تقسيم الصفات إلى عدمية ووجودية وغير ذلك.

ثم اعلم أنه اختلفت النسخ ههنا ففي النسخ الهندية "كتاب الرد على الجهمية وغيرهم التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. . ." إلخ، وفي النسخ المصرية من المتون والشروح:"كتاب التوحيد، باب ما جاء. . ." إلخ.

قال الحافظ

(2)

: كذا للنسفي وحماد بن شاكر، وعليه اقتصر الأكثر عن الفربري، وزاد المستملي:"الردّ على الجهمية وغيرهم"، ووقع لابن بطال وابن التِّين:"كتاب رد الجهمية وغيرهم التوحيد" وضبطوا

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 386 - 387)، و"شرح الكرماني"(25/ 95).

(2)

"فتح الباري"(13/ 344).

ص: 773

التوحيد بالنصب على المفعولية، وظاهره معترض؛ لأن الجهمية وغيرهم من المبتدعة لم يردوا التوحيد، وإنما اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرة في ذلك، انتهى.

ثم قال الحافظ

(1)

: قال الكرماني

(2)

: "الجهمية" فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان، مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلًا، وهم الجبرية.

قال الحافظ: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصةً، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات، حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق.

وقد ذكر أبو منصور عبد القاهر في كتابه "الفرق بين الفرق": أن رؤوس المبتدعة أربعة إلى أن قال: والجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فِعْلَ لأحد غير الله تعالى، وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازًا، وزعم أن علم الله تعالى حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال: وأصفه بأنه خالق ومحي ومميت وموحد بفتح المهملة الثقيلة؛ لأن هذه الأوصاف خاصة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يسم الله متكلمًا.

قال البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد": بلغني أن جهمًا كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال: إني مضح بالجعد؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، وقتل جهم كان بعد ذلك بمدة، وأسند أبو القاسم اللالكائي في "كتاب السُّنَّة" له: أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان

(1)

"فتح الباري"(13/ 345).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 95).

ص: 774

في سنة ثمان وعشرين، وذكر ابن أبي حاتم أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة، ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال: قال عبد الله بن المبارك:

ولا أقول بقول الجهم إن له

قولًا يضارع قول الشرك أحيانًا

وعن ابن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ونستعظم أن نحكي قول جهم، وعن عبد الله بن شوذب قال: ترك جهم الصلاة أربعين يومًا على وجه الشك، وأخرج ابن أبي حاتم في "كتاب الردّ على الجهمية" من طريق خلف بن سليمان البلخي قال: كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحًا، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، انتهى.

وأيضًا نقل عنه أنه قال: إن أسماء الله تعالى مخلوقة؛ لأن الاسم غير المسمى، وقال: لو قلت: إن لله تسعة وتسعين اسمًا لعبدت تسعة وتسعين إلهًا، كما سيأتي في "باب إن لله مائة اسم. . ." إلخ.

قوله: (وغيرهم) قال الحافظ

(1)

: والمراد بقوله: "وغيرهم" القدرية، وأما الخوارج فتقدم ما يتعلق بهم في "كتاب الفتن"، وكذا الرافضة تقدم ما يتعلق بهم في "كتاب الأحكام"، وهؤلاء الفرق الأربع هم رؤوس البدعة، وقال أيضًا: قال ابن حزم في "كتاب الملل والنحل": فرق المقرين بملة الإسلام خمس: أهل السُّنَّة، ثم المعتزلة ومنهم القدرية، ثم المرجئة، ومنهم الجهمية والكرامية، ثم الرافضة ومنهم الشيعة، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والإباضية، ثم افترقوا فرقًا كثيرة إلى أن قال: وفي مقالاتهم ما يخالف أهل السُّنَّة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط، وليست العبادة من الإيمان، وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الوثن من غير تقية، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 344 - 346).

ص: 775

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: ثم إن المقصود بالردّ هنا ليس هو طائفة مخصوصة من أهل البدع، بل كل من أدّى إليه فكر المؤلف وقت ذكر الحديث، فكن على ذكر من ذلك، انتهى.

قوله: (التوحيد) كتب الشيخ في "اللامع"

(2)

: أي: هذا بيان التوحيد، فإن الكتاب لما كان وضعه للردّ عليهم وهم أنكروا صفاته تبارك وتعالى، وأثبتوا للخلق قوة الخلق دون الاكتساب فقط كما هو مسلك أهل السُّنَّة والجماعة، أراد أن يردّ على هؤلاء زعمهم الباطل، انتهى.

وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي": قوله: "التوحيد" بالنصب ظرف للردّ، معناه كتاب الرد عليهم في التوحيد، أي: في باب التوحيد بإثبات الصفات له تعالى التي أنكرها الجهمية، انتهى.

قلت: وعلى هذا لا يرد ما أورد الحافظ كما تقدم من قوله: "ظاهره معترض. . ." إلخ، فللَّه در الشيخ قُدِّس سرُّه، وأورد العلامة العيني

(3)

على قول الحافظ بقوله: لا اعتراض عليها فإن من الجهمية طائفة يردون التوحيد، انتهى.

وقال صاحب "الفيض"

(4)

: "التوحيد" بالنصب والرفع، أما النصب فبناء على أنه مفعول للردّ، أي: هذا كتاب في الرد على توحيدهم الذي اعتقدوه، وأما الرفع فلعطفه على كتاب الردّ، أي: الردّ عليه هو التوحيد، انتهى.

وقد تقدم في بيان اختلاف النسخ أن الواقع في أكثر النسخ من المتون والشروح بلفظ "كتاب التوحيد"، فقال صاحب "الخير الجاري" كما في "هامش النسخة الهندية"

(5)

: وعنوان الكتاب بالتوحيد بمنزلة عنوان

(1)

"لامع الدراري"(10/ 314).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 312، 313).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 575).

(4)

"فيض الباري"(6/ 545).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 386).

ص: 776

المتكلمين بالإلهيات، فكما يذكرون فيها مباحث الذات والصفات والنبوات وخلق الأعمال والحشر والميزان فكذا ذكر البخاري في هذا الكتاب المعنون بكتاب التوحيد الأمور المذكورة، وليكن هذا عندك أصلًا حتى لا تحتاج في كل مقام إلى تكلف مال إليه الشرَّاح، انتهى.

فائدة: وللإمام ابن أبي حاتم أيضًا تأليف باسم "كتاب الرد على الجهمية"، وقد أكثر الحافظ في الأخذ عنه في شرح التراجم الآتية.

(1 -‌

‌ باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله. . .) إلخ

قال القسطلاني

(1)

: وهو الشهادة بأن الله واحد، ومعنى أنه تعالى واحد كما قاله بعضهم نفي التقسيم لذاته، ونفي التشبيه عن حقه وصفاته، ونفي الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته، فلا تشبه ذاته الذوات ولا صفته الصفات، ولا فعل لغير حتى يكون شريكًا له في فعله أو عديلًا له، وهذا هو الذي تضمنته سورة الإخلاص من كونه واحدًا صمدًا إلى آخرها، فالحق سبحانه وتعالى مخالف لمخلوقاته كلها مخالفة مطلقة، انتهى.

قلت: وقد تقدم في شرح قوله: "التوحيد" بالنصب أن المقصود الردّ على توحيد المبتدعة لا ردّ التوحيد مطلقًا، ومن ههنا شرع المصنف في الردّ على تلك الفرق الباطلة المذكورة في صدر الكتاب، فابتدأ بإثبات التوحيد الذي يقول به أهل السُّنَّة والجماعة على رغم أنف هؤلاء الفرق الباطلة، وأيضًا يخطر ببالي في الغرض من الترجمة أن الإمام البخاري ترجم بذلك دفعًا لما يتوهم مما تقدم من لفظ الردّ على الجهمية التوحيد أنه أثبت في هذا الكتاب ردّ التوحيد - والعياذ بالله - فأتى بهذه الترجمة دفعًا لهذا الإيهام الموحش.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 381).

ص: 777

(2 - ‌

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:

110])

قال ابن بطال

(1)

: غرضه في هذا الباب إثبات الرحمة، وهي من صفات الذات، قال: والمراد برحمته إرادته نفع من سبق في علمه أنه ينفعه، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده فهي من صفات الفعل، وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم، وهو سبحانه وتعالى منزّه عن الوصف بذلك، فتتأول بما يليق به، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي"

(3)

: هذا شروع في إثبات الصفات له تعالى، وكان قبل هذا إثبات توحيد الذات، انتهى.

ثم إنه قد يشكل ههنا من أن مسألة الصفات من باب الاعتقاد، وقد أثبتها المصنف بأحاديث الباب، وهي من قبيل أخبار الآحاد التي لا تنتهض حجة في الاعتقاديات، وقد تعرض لهذا الإشكال والجواب عنه الحافظ قُدِّس سرُّه فأجاد حيث قال

(4)

: والذي يظهر من تصرف البخاري في "كتاب التوحيد" أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة، فيدخل كل حديث منها في باب، ويؤيده بآية من القرآن للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد، وأن من أنكرها خالف الكتاب والسُّنَّة جميعًا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في "كتاب الردّ على الجهمية" بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع، وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] {الرَّحْمَنُ عَلَى

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 403).

(2)

"فتح الباري"(13/ 358).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 314).

(4)

"فتح الباري"(13/ 359).

ص: 778

الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، ونحو ذلك، فلم يزل - أي: سلام بن مطيع - يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس، انتهى.

ثم إنه قد تقدم في كلام الحافظ في الغرض من الترجمة من قول ابن بطال، وهو إثبات الرحمة، ثم قال الحافظ

(1)

في آخر الباب: وكأن المصنف لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها عن ابن عباس: أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا: يا الله يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحدٍ وهو يدعوا إلهين، فنزلت، انتهى.

قلت: لعل الحافظ أراد بهذا أن المصنف أشار بهذه الآية بحسب شأن نزولها إلى إثبات التوحيد، فهذا غرض آخر غير ما تقدم عن ابن بطال، لكن روايات الباب تؤيد قول ابن بطال.

(3 -‌

‌ باب قول الله: (إني أنا الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات:

58])

كذا في النسخة "الهندية"، وهكذا في نسخة "القسطلاني" وفي نسخة "الفتح" والعيني بلفظ:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} .

قال الحافظ

(2)

: كذا لأبي ذر والأصيلي على وفق القراءة المشهورة، ووقع في رواية القابسي:"إني أنا الرزاق. . ." إلخ، وجزم به الصغاني، وزعم أن الذي وقع عند أبي ذر وغيره من تغييرهم لظنهم أنه خلاف القراءة، قال: وقد ثبت ذلك قراءة عن ابن مسعود، وقلت: ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه كذلك، كما أخرجه أحمد وأصحاب السنن.

قال ابن بطال

(3)

: تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى: صفة ذات،

(1)

"فتح الباري"(13/ 359).

(2)

"فتح الباري"(13/ 360).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 404).

ص: 779

وصفة فعل، فالرزق فعل من أفعاله تعالى، فهو من صفات فعله، والقوة من صفات الذات، وهي بمعنى القدرة، انتهى مختصرًا.

قلت: والأوجه عندي: أن الترجمة تتعلق بالأولى فقط، فإن صفة القوة سيأتي قريبًا في "باب قل هو القادر، إذ قالوا: إن القوة والقدرة واحد"، وعلى هذا فلا يلزم التكرار في الترجمة.

(4 -‌

‌ باب قول الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:

26])

فيه إثبات صفة العلم لله تعالى، والردّ على المعتزلة حيث قالوا: إنه عالم بلا علم، وأنكر الجهمية أيضًا كونه عالمًا.

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: في هذه الآيات إثبات علم الله تعالى، وهو من صفات ذاته، خلافًا لمن قال: إنه عالم بلا علم، ثم إذا ثبت أنّ علمه قديم وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته بدلالة هذه الآيات.

وبسط الحافظ ههنا الكلام على هذه المسألة وذكر شبهات المخالفين وتأويلاتهم الباطلة مع الردّ عليهم فارجع إليه لو شئت.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: ولا يخلو أكثر أحاديث الباب - أي: كتاب الردّ على الجهمية - من إثبات شيء من الصفات أو التقدير أو غير ذلك مما هو مفيد في الردّ على فرق أهل البدع، انتهى.

قلت: وهو كذلك فإن جميع أبواب هذا الكتاب تبلغ ثمانية وخمسين، وكلّها ردّ على أحد من أهل البدع أو إثبات لصفة من صفاته تبارك وتعالى، ثم ذكر في هامش "اللامع" الكلام على جميع هذه الأبواب بابًا بابًا بالإجمال، فارجع إليه لو شئت الكلام الجملي على هذه الأبواب.

(1)

"فتح الباري"(13/ 362).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 407).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 314).

ص: 780

(5 -‌

‌ باب قول الله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ. . .} [الحشر: 23]) إلخ

ذكر الشرَّاح أنّ الغرض منه إثبات أسمائه تعالى، وأشار بهذا اللفظ إلى ثلاث آيات من سورة الحشر، فإنها ختمت بقوله تعالى:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .

والأوجه عندي: أن الغرض إثباتُ اسم السلام، أنه اسم من أسمائه تعالى، كما في حديث الباب، وأما ذكر الأسماء فسيأتي في باب مستأنف "باب إن لله مائة اسم. . ." إلخ، والباب الذي بعده من "باب السؤال بأسماء الله تعالى. . ." إلخ، وهما الباب الثاني عشر، والثالث عشر.

(6 -‌

‌ باب قول الله: {مَلِكِ النَّاسِ. . .} ) إلخ

قال ابن بطال

(1)

: ووصفه بأنه {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى القدرة فيكون صفة ذات، وأن يكون بمعنى القهر والصرف عما يريدون فيكون صفة فعل، انتهى من "الفتح"

(2)

.

ومال الحافظ إلى أن الغرض من الترجمة إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأنه غير مخلوق حيث قال: والذي يظهر لي أنه أشار إلى ما قاله نعيم بن حماد الخزاعي، قال ابن أبي حاتم في "كتاب الرد على الجهمية": وجدت في كتاب نعيم بن حماد قال: يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] فلا يجيبه أحد فيردّ على نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم أفهذا مخلوق، انتهى.

وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أن الله يخلق كلامًا فيسمعه من شاء، بأن الوقت الذي يقول فيه:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لا يبقى حينئذ مخلوق حيًّا، فيجيب نفسه فيقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فثبت أنه يتكلم بذلك، وكلامه صفة من صفات ذاته فهو غير مخلوق، انتهى.

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 410).

(2)

"فتح الباري"(13/ 368).

ص: 781

(7 -‌

‌ باب قول الله {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} )

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: "العزيز" يتضمن العزة، والعزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولذلك صحت إضافة اسمه إليها، قال البيهقي: العزة تكون بمعنى القوة فترجع إلى معنى القدرة، ثم ذكر نحوًا مما ذكره ابن بطال، والذي يظهر أن مراد البخاري في الترجمة إثبات العزة لله ردًّا على من قال: إنه العزيز بلا عزة، انتهى.

(8 -‌

‌ باب قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ. . .} ) إلخ

المقصود بهذا إثبات اسمه تعالى الحق، وبسط الحافظ في "الفتح" في معنى الحق والمراد به، وقال

(3)

: كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية أن معنى قوله: {بِالْحَقِّ} أي: بكلمة الحق، وهو قوله تعالى:{كُنْ} ، ونقل ابن التِّين عن الداودي: أن الباء ههنا بمعنى اللام، أي: لأجل الحق إلى آخر ما بسطه.

وقال القسطلاني

(4)

: الحق في الأسماء الحسنى معناه الواجب الوجود بالبقاء الدائم والدوام المتوالي الجامع للخير والمجد، إلى آخر ما بسطه.

فالأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن غرض الإمام البخاري بهذه الترجمة إثبات اسمه تعالى الحق، ويكون الحجة في الحديث في قوله:"أنت الحق".

ثم لا يذهب عليك أن الإمام البخاري ترجم بالخلق في ثلاثة أبواب: الأول هذا، والثاني ما سيأتي من باب قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24]، وهو الباب الثامن عشر، والثالث "باب ما جاء في تخليق

(1)

"فتح الباري"(13/ 369).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 412).

(3)

"فتح الباري"(13/ 371).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 404).

ص: 782

السموات والأرض"، وهو الباب السابع والعشرون، ولا تكرار في هذه التراجم عندي لاختلاف المقاصد، وقد عرفت أن الغرض من الباب الذي نحن بصدده هو إثبات اسمه تعالى الحق، ويأتي الكلام على البابين الآتيين في محلهما، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

(9 -‌

‌ باب قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:

134])

والغرض من الترجمة إثبات صفتي السمع والبصر، وفي الحاشية عن العيني

(2)

: غرضه من هذا الباب الردّ على المعتزلة حيث قالوا: إنه سميع بلا سمع، وعلى من قال: معنى السميع العالم بالمسموعات لا غير.

قال البيهقي في "الأسماء والصفات"

(3)

: السميع من له السمع يدرك به المسموعات، والبصير من له البصر يدرك به المرئيات، انتهى مختصرًا.

وفي حاشية النسخة المصرية عن شيخ الإسلام

(4)

: غرضه الردّ على المعتزلة في قولهم: إنه يقال: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، لاستحالة سميع وبصير بلا سمع وبصر، انتهى.

قال الكرماني

(5)

: المقصود من هؤلاء الأحاديث إثبات صفتي السمع والبصر، وهما صفتان قديمتان من الصفات الذاتية، وعند حدوث المسموع والمبصر يقع التعلق، وأما المعتزلة فقالوا: إنه سميع يسمع كل مسموع، وبصير يبصر كل مبصر، فادّعوا أنهما صفتان حادثتان، وظواهر الآيات والأحاديث تردّ عليهم، وبالله التوفيق، انتهى.

ويشكل مطابقة حديث أبي بكر بالترجمة، قال العيني

(6)

تبعًا للكرماني

(7)

: مطابقته للترجمة من حيث إن بعض الذنوب مما يسمع،

(1)

"لامع الدراري"(10/ 315، 316).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 589).

(3)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 177).

(4)

"تحفة الباري"(6/ 531).

(5)

"شرح الكرماني"(25/ 109).

(6)

"عمدة القاري"(16/ 591).

(7)

"شرح الكرماني"(25/ 109).

ص: 783

وبعضها مما يبصر لم تقع مغفرته إلا بعد الإسماع والإبصار، وقال ابن بطال: مناسبته للترجمة من حيث إن دعاء أبي بكر بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الله تعالى سميع لدعائه ويجازيه عليه، وبما ذكر ردّ على من قال: حديث أبي بكر ليس مطابقًا للترجمة إذ ليس فيه ذكر صفتي السمع والبصر، انتهى.

(10 -‌

‌ باب قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ. . .} [الأنعام: 65]) إلخ

قال ابن بطال

(1)

: القدرة من صفات الذات، وقد تقدّم في باب قوله تعالى:"إني أنا الرزاق" أن القوة والقدرة بمعنى واحد، انتهى من "الفتح"

(2)

.

وهكذا قال العيني

(3)

: أن القوة والقدرة بمعنى واحد، انتهى.

قلت: وبذلك جزم البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات"

(4)

إذ ترجم "ما جاء في إثبات صفة القدرة وهي القوة"، انتهى.

وقد تقدم أن الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الغرض من الترجمة المذكورة سابقًا إثبات صفة الرزق لا القدرة، وعلى هذا فلا تكرار في الترجمة.

(11 -‌

‌ باب مقلب القلوب)

قال الحافظ

(5)

: ويستفاد منه أن إعراض القلب كالإرادة وغيرها بخلق الله تعالى، وهي من الصفات الفعلية، ومرجعها إلى القدرة، وقال أيضًا: وفيه حجة لمن أجاز تسمية الله تعالى بما ثبت في الخبر، ولو لم يتواتر، وجواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت، انتهى.

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 418).

(2)

"فتح الباري"(13/ 376).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 591).

(4)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 125).

(5)

"فتح الباري"(13/ 377).

ص: 784

(12 -‌

‌ باب أن لله مائة اسم إلا واحدًا. . .) إلخ

قال ابن أبي حاتم في "كتاب الردّ على الجهمية": ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا: إن أسماء الله تعالى مخلوقة؛ لأن الاسم غير المسمى، وادعوا أن الله كان، ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها ثم تسمى بها، قال: فقلنا لهم: إن الله قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقال:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس: 3]، فأخبر أنه المعبود، ودلّ كلامه على اسمه بما دلّ به على نفسه، فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقًا، ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهمًا قال: لو قلت: إن لله تسعةً وتسعين اسمًا لعبدت تسعة وتسعين إلهًا، قال: فقلنا لهم: إن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، والأسماء جمع، أقله ثلاثة، ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة وبين التسعة والتسعين.

قال الإمام أحمد في "كتاب السُّنَّة": قالت الجهمية لمن قال: إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته: قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره، فأجابوا بأنا نقول: إنه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصف إلا واحدًا بصفاته كما قال تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر، ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحدًا، ولله المثل الأعلى، انتهى من "الفتح"

(1)

.

والأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن الإمام البخاري أشار بهذا الباب إلى أن لفظ الله اسم ذات، والباقي أسماء صفات، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 378 و 13/ 381).

ص: 785

(13 -‌

‌ باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: مقصوده بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما تصح بالذات، وأما شبهة القدرية التي أوردوها على تعدد الأسماء، فالجواب عنها أن الاسم يطلق ويراد به المسمى، ويطلق ويراد به التسمية، وهو المراد بحديث الأسماء، انتهى.

وهكذا في "العيني"

(3)

وزاد: كون الاسم هو المسمى لا يتمشى إلا في الله تعالى، كما نبَّه عليه صاحب "التوضيح"

(4)

حيث قال: غرض البخاري أن يثبت أن الاسم هو المسمى في الله تعالى على ما ذهب إليه أهل السُّنَّة، انتهى.

وبسط الكلام على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في "فتاواه" أشدّ البسط، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، ويمكن أن يقال: إن الغرض بهذا الباب الردّ على من قال: إن أسماء الله تعالى مخلوقة وكلامه مخلوق كما نقل عن الجهمية، ووجه الردّ أنها لو كانت غيرها لما جازت الاستعاذة بها، كما قال البخاري في "كتاب خلق الأفعال"، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"

(5)

.

ثم لا يذهب عليك ما قاله الحافظ، وتبعه العيني

(6)

: ذكر في الباب تسعة أحاديث كلها بالتبرك باسم الله والسؤال به والاستعاذة، ويردّ على ظاهره أن التبرك باسمه تعالى ليس بمذكور في الترجمة، بل الترجمة بلفظ

(1)

"فتح الباري"(13/ 379).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 423).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 594).

(4)

"التوضيح"(33/ 239).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 318).

(6)

"فتح الباري"(13/ 380)، و"عمدة القاري"(16/ 594).

ص: 786

السؤال، اللَّهم إلا أن يقال: إن التبرك باسم الكريم دعاء وسؤال منه، وأيضًا يردّ عليه أن الاستعاذة لا يثبت نصًّا بشيء من الروايات إلا أن يقال: إن الاستعاذة يستأنس بحديث: "جنبنا الشيطان" الحديث.

(14 -‌

‌ باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله)

أي: ما يذكر في ذات الله ونعوته من تجويز إطلاق ذلك كأسمائه أو منعه لعدم ورود النص به، انتهى من "الفتح"

(1)

.

قلت: وما يظهر من الحديث الوارد فيه أن الغرض جواز إطلاق لفظ الذات على الله تعالى عزّ اسمه فإنه مختلف فيه.

وفي "الفتح"

(2)

: عن ابن برهان: إطلاق المتكلمين الذات في حق الله تعالى من جهلهم؛ لأن الذات تأنيث "ذو"، وهو جلت عظمته لا يصح له إلحاق تاء التأنيث، ولهذا امتنع أن يقال: علَّامة، وإن كان أعلم العالمين، وتعقب بأن الممتنع استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور لقوله تعالى:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بنفس الصدور، وبسط الحافظ الكلام على لفظ الذات لغةً واستعمالًا.

قوله: (وأسامي الله) جمع اسم، وتجمع أيضًا على أسماء، قال ابن بطال

(3)

: أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب: أحدها: يرجع إلى ذاته وهو الله، والثاني: يرجع إلى صفة قائمة به كالحي، والثالث: يرجع إلى فعله كالخالق، وطريق إثباتها السمع، والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات قائمة به، وصفات الفعل ثابتة له بالقدرة ووجود المفعول بإرادته جل وعلا، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 381).

(2)

"فتح الباري"(13/ 382).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 426).

ص: 787

وأفاد العزيز المولوي محمد يونس

(1)

في غرض هذه الترجمة: أنها متضمنة بثلاثة أجزاء فبالأول: وهو الذات أشار إلى إطلاق الذات ونحوه كنفس على الله تعالى، والثاني: النعوت وهو يشمل كل نعت لله تعالى، والثالث: الأسامي وهي غير النعوت، ثم ذكر البخاري بعد ذلك الأبواب العديدة تفصيل هذه الترجمة الجامعة.

(15 -‌

‌ باب قول الله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]) إلخ

الغرض منه إطلاق النفس على الله تعالى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: في هذه الآيات والأحاديث إثبات النفس لله تعالى.

وقال الكرماني

(4)

: ليس في حديث ابن مسعود هذا ذكر النفس، ولعله أقام استعمال أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما مقام الآخر، ثم قال: والظاهر أن هذا الحديث كان قبل هذا الباب، فنقله الناسخ إلى هذا الباب، انتهى.

قال الحافظ: وكل هذا غفلة عن مراد البخاري، فإن ذكر النفس ثابت في هذا الحديث، وإن كان لم يقع في هذا الطريق، لكنه أشار إلى ذلك كعادته، فقد أورده في تفسير سورة الأنعام والأعراف بزيادة، ولذلك مدح نفسه، انتهى.

وفي حاشية النسخة المصرية عن شيخ الإسلام

(5)

: قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: ذاته، فالإضافة بيانية، وفيه تقدير مضاف، أي: ويحذركم عقابه

(1)

هو الشيخ المحدث محمد يونس الجونفوري، من كبار المحدثين في الهند، ومن أرشد تلاميذ الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، وهو يشغل منصب "شيخ الحديث" في مدرسة مظاهر علوم بسهارنفور، الهند.

(2)

"فتح الباري"(13/ 384).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 427).

(4)

"شرح الكرماني"(25/ 119).

(5)

"تحفة الباري"(6/ 535).

ص: 788

وقيل: إطلاق النفس عليه تعالى ممنوع، وإنما ذكرت في الآية الثانية في كلامه للمشاكلة، وعليه فالمراد بالنفس في الأولى نفس عباد الله كما قيل به، انتهى.

وفي "القسطلاني"

(1)

: قال البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات"

(2)

: والنفس في كلام العرب على أوجه: منها الحقيقة كما يقولون: في نفس الأمر، وليس للأمر نفس منفوسة، ومنها الذات، وقد قيل في قوله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] أن معناه ما أكنه وأسره، ولا أعلم ما تسرّه عني، وقيل: ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة، وعورض بالآية التي في أول الباب إذ ليس فيها مقابلة، انتهى.

(16 -‌

‌ باب قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. . .} [القصص: 88]) إلخ

عندي: غرض الترجمة بيان جواز إطلاق الوجه على الله تبارك وتعالى.

قال الحافظ

(3)

: قال ابن بطال

(4)

: في هذه الآية والحديث دلالة على أن لله وجهًا، وهو من صفة ذاته، وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين، كما نقول: إنه عالم ولا نقول: إنه كالعلماء الذين نشاهدهم، انتهى.

وفي "القسطلاني"

(5)

: قال البيهقي: تكرر ذكر الوجه في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة وهو في بعضها صفة ذات، كقوله:"إلا برداء الكبرياء على وجهه"، وفي بعضها: من أجل كقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] وفي بعضها بمعنى الرضا كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] وليس المراد الجارحة جزمًا، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 426).

(2)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 274).

(3)

"فتح الباري"(13/ 388، 389).

(4)

"شرح ابن بطال"(10/ 431).

(5)

"إرشاد الساري"(15/ 430).

ص: 789

(17 -‌

‌ باب قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي. . .} [طه: 39]) إلخ

غرض الترجمة ظاهر، وهو إثبات العين لله عزّ اسمه.

قال الحافظ

(1)

: قال ابن المنيِّر

(2)

: وجه الاستدلال على إثبات العين لله من حديث الدجّال من قوله: "إن الله ليس بأعور" من جهة أن العور عرفًا عدم العين، وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها، وهو وجود العين، وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة، قال: ولأهل الكلام في هذه الصفات كالعين والوجه واليد ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صفات ذات أثبتها السمع، ولا يهتدي إليه العقل، والثاني: أن العين كناية عن صفة البصر، واليد كناية عن صفة القدرة، والوجه كناية عن صفة الوجود، والثالث: إمرارها على ما جاءت مفوضًا معناها إلى الله تعالى.

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي في "كتاب العقيدة" له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى.

قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح، وقال غيره: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره، إلى آخر ما في "الفتح".

وفيه أيضًا قال ابن بطال: احتجت المجسمة بهذا الحديث، وقالوا: في قوله: "وأشار بيده إلى عينه" دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتعقب باستحالة الجسمية عليه؛ لأن الجسم حادث وهو قديم، فدلّ على أن المراد نفي النقص عنه، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 390).

(2)

"المتواري"(ص 427).

ص: 790

(18 -‌

‌ باب قول الله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:

24])

قد تقدم في "باب قول الله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73] " أن الإمام البخاري ترجم بالخالق في ثلاثة مواضع، فهذا هو الباب الثاني.

والأوجه عندي: أن المقصود به هو إثبات صفة الخالق، كما يدل عليه حديث الباب، وفي "الفتح"

(1)

: قال الطيبي: قيل: إن الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم، ثم بسط في الفرق بينها، وفيه: قال ابن بطال: الخالق في هذا الباب يراد به المبدع المنشئ لأعيان المخلوقين، وهو معنى لا يشارك الله فيه أحد، قال: ولم يزل الله مسميًا نفسه خالقًا على معنى أنه سيخلق لاستحالة قدم الخلق، انتهى.

(19 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:

75])

غرض الترجمة إثبات اليدين له عزّ اسمه كما هو ظاهر.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: إثبات يدين لله تعالى، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين، خلافًا للمشبهة من المثبتة، وللجهمية من المعطلة، ويكفي في الردّ على من زعم أنهما بمعنى القدرة، أنهم أجمعوا على أن له قدرة واحدةً في قول المثبتة، ولا قدرة له في قول النفاة؛ لأنهم يقولون: إنه قادر لذاته، ويدلّ على أن اليدين ليستا بمعنى القدرة، أن في قوله تعالى لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] إشارة إلى المعنى الذي أوجب السجود، فلو كان اليد بمعنى القدرة لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق كل منهما به وهي قدرته، ولقال

(1)

"فتح الباري"(13/ 391 - 392).

(2)

"فتح الباري"(13/ 393 - 394).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 436).

ص: 791

إبليس: وأي فضيلة له علي وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] دلّ على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، إلى آخر ما بسط في "الفتح".

وفيه أيضًا: واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز، ثم ذكر تلك المعاني.

(20 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله. . .) إلخ

الأوجه عند هذا العبد الضعيف: أن المقصود من هذه الترجمة إثبات صفة الغيرة لله تعالى، وهو مصرحٌ في حديث الباب.

وفي "القسطلاني"

(1)

: قوله: "والله أغير مني. . ." إلخ، قال ابن دقيق العيد: المنزهون لله، إما ساكتون عن التأويل وإما مؤولون، والثاني يقول: المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأطلقت على سبيل المجاز، فالمراد الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها، انتهى.

وفي "تراجم شيخ المشايخ الدهلوي"

(2)

: كأن البخاري أشار إلى أن النفس والشخص والأحد وقع عندهم بمعنى واحد، انتهى.

حاصله: أنه أشار إلى أن غرض البخاري بالترجمة جواز إطلاق لفظ الشخص على الله تعالى، ولما كان يرد عليه أن الوارد في الحديث لفظ أحد دفعه بأنهما بمعنى واحد، وعامة الشرَّاح أيضًا ذهبوا إلى هذا.

قال الحافظ

(3)

: لم يفصح المصنف بإطلاق الشخص على الله تعالى، بل أورد ذلك على طريق الاحتمال، وقد جزم في الذي بعده بتسميته شيئًا لظهور ذلك فيما ذكره من الآيتين، انتهى.

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 443).

(2)

(ص 435).

(3)

"فتح الباري"(13/ 402).

ص: 792

وبسط الشرَّاح في الكلام على الرواية التي ورد فيها لفظ الشخص قبولًا وردًّا.

قال العيني

(1)

عن الخطابي: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز؛ لأن الشخص إنما يكون جسمًا مؤلفًا، وخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة، وأن تكون تصحيفًا من الراوي، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت منه المجسمة مع قولهم بأنه جسم كالأجسام كذا قال، والمنقول عنهم خلاف ذلك.

وقال الكرماني: لا حاجة لتخطئة الرواة الثقاة بل حكم ذلك حكم سائر المتشابهات، إما التفويض وإما التأويل، بأن يؤول بلازمه وهو العالي؛ لأن الشاخص عال مرتفع، أو هو من باب إطلاق الخاص وإرادة العام؛ كالشيء الذي هو منصوص به في الروايات، وقيل: معناه لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله، انتهى.

وقال القسطلاني

(4)

: قال في "المصابيح": هذا ظاهر، إذ ليس في هذا اللفظ ما يقتضي إطلاق الشخص على الله، وما هو إلا بمثابة قولك: لا رجل أشجع من الأسد، وهذا لا يدلّ على إطلاق الرجل على الأسد بوجه من الوجوه، فأي داع بعد ذلك إلى توهين الراوي في ذكر الشخص أنه تصحيف من قوله:"لا شيء أغير من الله" كما صنعه الخطابي، انتهى.

قلت: وعلى ما اخترت في الغرض من الترجمة لا يحتاج إلى شيء من هذه المباحث والإيرادات.

(1)

"عمدة القاري"(16/ 612).

(2)

"فتح الباري"(13/ 400، 401).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 442).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 444).

ص: 793

(21 -‌

‌ باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً. . .} [الأنعام: 19]) إلخ

قد أوضح المصنف غرضه بالترجمة، وهو إطلاق لفظ الشيء عليه عزّ اسمه، خلافًا للجهمية إذ منعوا إطلاق لفظ الشيء على الله تعالى، كما تقدم في أول "كتاب الردّ على الجهمية".

قال الحافظ

(1)

: وحكى ابن بطال

(2)

: أن في هذه الآيات والآثار ردًّا على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله شيء، كما صرّح به عبد الله الناشئ المتكلم وغيره، وردًا على من زعم أن المعدوم شيء، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

: قوله: "سمى الله تعالى نفسه شيئًا. . ." إلخ، إثباتًا لوجوده ونفيًا لعدمه وتكذيبًا للزنادقة والدهرية، وقال أيضًا: وهذا لأن الشيء اسم للموجود، ولا يطلق على المعدوم، والله تعالى موجود فيكون شيئًا، ولذا تقول: الله تعالى شيء لا كالأشياء، انتهى.

(22 -‌

‌ باب قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. . .} [هود: 7]) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: أراد بذلك إثبات العرش له ليثبت بذلك صفة له تعالى، وهو استقراره عليه واستواؤه، والاستيلاء والغلبة صفة له تبارك وتعالى، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في غرض الترجمة ظاهر، وفي حاشية النسخة "الهندية"

(5)

عن "الفتح" و"العيني": ذكر هاتين الآيتين تنبيهًا على فائدتين: الأولى من قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هي لدفع توهم من قال: إن العرش لم يزل مع الله تعالى، مستدلين من قوله:"كان الله ولم يكن شيء، وكان عرشه على الماء"، وهذا مذهب باطل، والإضافة

(1)

"فتح الباري"(13/ 403).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 445).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 445).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 341).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 462).

ص: 794

للتشريف كبيت الله، وسمّاه عرشه؛ لأنه مالكه وخالقه، والفائدة الثانية: من قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] لدفع توهم من قال من الفلاسفة: إن العرش هو الخالق والصانع، وقوله:{رَبُّ الْعَرْشِ} يبطل هذا القول الفاسد، فإنه يدلّ على أنه مربوب مخلوق، والمخلوق كيف يكون خالقًا، انتهى مختصرًا.

وقد بسط الحافظ

(1)

الكلام على معنى الاستواء، وذكر الأقاويل للفرق المختلفة، وأيضًا على أن الاستواء صفة فعل أو ذات، فارجع إليه.

(23 -‌

‌ باب قول الله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ. . .} [المعارج: 4]) إلخ

قال ابن بطال

(2)

: غرض البخاري في هذا الباب الردّ على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم، فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه، فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان، انتهى.

قال الحافظ: وخلط المجسمة بالجهمية من أعجب ما يسمع، انتهى.

وهكذا أفاد العيني

(3)

في غرض الترجمة من غير عزو إلى ابن بطال.

وفي هامش النسخة "الهندية" عن الكرماني

(4)

: هذا الباب كأنه من تتمة الباب المتقدم لأنهما متقاربان في المقصد، انتهى.

ولا يبعد عندي أن يقال: إن مقصود الترجمة إثبات اسم العلى لله تعالى، ثم رأيت "تقرير الشيخ المكي"

(5)

فكتب: المقصود من هذا الباب

(1)

"فتح الباري"(13/ 405 - 407).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 453)، و"فتح الباري"(13/ 416).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 625).

(4)

"شرح الكرماني"(25/ 137).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 342).

ص: 795

إثبات صفة العلو كما يدلّ عليه كلمة {تَعْرُجُ} و (تصعد) ونحوهما، والردّ على الجهمية من جهة أنهم أنكروا الصفات كلها، انتهى.

قال الحافظ

(1)

: وقد تمسّك بظواهر أحاديث الباب من زعم أن الحق سبحانه وتعالى في جهة العلو، وقد ذكرت معنى العلو في حقه جلّ وعلا في الباب الذي قبله، وقال

(2)

في الباب السابق: قال الكرماني: قوله: "في السماء" ظاهره غير مراد، إذ الله منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات، وبنحوها هذا أجاب غيره عن الألفاظ الواردة من الفوقية ونحوها، قال الراغب

(3)

: "فوق" يستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة والقهر، ثم ذكرها إلى أن قال: السادس: نحو قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، انتهى.

قوله: (كان يدعو بهن عند الكرب) كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(4)

: ودعاؤه عليه الصلاة والسلام، لا سيما عند الكرب أمارة عروجها إلى السماء، فإن الدعاء إذا لم تقبل ولم تعرج كانت لغوًا، وبذلك يثبت مناسبة الترجمة، انتهى.

وفي هامشه: ويمكن عندي أن يقال: إن هذا الدعاء ذكر وعمل صالح، والعمل الصالح يرفعه كما تقدم عن مجاهد في ترجمة الباب، انتهى.

قوله: (لا يجاوز حناجرهم) كتب الشيخ في "اللامع"

(5)

: فيه الترجمة حيث كان كناية عن عدم القبول على توجيه، انتهى وذكر في هامشه أقوال الشرَّاح في بيان المطابقة، فارجع إليه لو شئت.

(1)

"فتح الباري"(13/ 417).

(2)

"فتح الباري"(13/ 412).

(3)

"مفردات القرآن"(ص 648).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 342).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 342).

ص: 796

قوله: (مستقرها تحت العرش. . .) إلخ، كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: فكان عروجًا لها إليه، ولا ينكر ما في الشمس من روحانية، انتهى.

وفي هامشه: وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من وجه المطابقة وجيه جدًّا، وهو ظاهر لا خفاء فيه.

قال الحافظ

(2)

: [قال] ابن المنيِّر: جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس، فليس فيه إلا قوله:"رب العرش"، ومطابقته - والله أعلم - من جهة أنه نبَّه على بطلان قول من أثبت الجهة أخذًا من قوله:{ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] ففهم أن العلو الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء، والجهة التي يصدق عليها أنه عرش، كل منهما مخلوق مربوب محدث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقدمه يحيل وصفه بالتحيز فيها، والله أعلم، انتهى.

(24 -‌

‌ باب قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]) إلخ

غرض الترجمة ظاهر، وهو الردّ على من أنكر رؤيته تعالى يوم القيامة من أهل البدع، وفي "تقرير المكي"

(3)

: المقصود من هذا إثبات الرؤية.

قال الحافظ

(4)

: قال ابن بطال

(5)

: ذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة، ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، تمسّكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثًا وحالًّا في مكان، وأوّلوا قوله:{نَاضِرَةٌ} بمنتظرة، وهو خطأ؛ لأنه لا يتعدى بـ "إلى"، إلى آخر

(1)

"لامع الدراري"(10/ 343).

(2)

"فتح الباري"(13/ 418، 419).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 345).

(4)

"فتح الباري"(13/ 426).

(5)

"شرح ابن بطال"(10/ 460).

ص: 797

ما بسط الحافظ في دلائل أهل السُّنَّة في إثبات ذلك، وردّ ما تمسّك به المخالفون.

وبسط شيء من الكلام على ذلك في هامش "اللامع".

قوله: (شافعوها. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: معناه المنافقون، وإنما سموا بذلك لاختلاطهم وازدواجهم لهم في الدنيا وفي الآخرة أيضًا، ولو إلى مدة معلومة، والشفع الجمع والازدواج، وكلمة "أو" شك من الراوي، انتهى.

وقد أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في تفسير هذه الكلمة ولم يسبق إليه الشرَّاح، بل حملوا اللفظ على ظاهر معناه، حيث قالوا: قوله: "شافعوها. . ." إلخ، أصله شافعون، فسقطت النون للإضافة، أي: شافعو الأمة، قوله:"أو منافقوها" قال الحافظ ابن حجر:

(2)

والأول المعتمد، كذا قال القسطلاني

(3)

.

قوله: (فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون. . .) إلخ، قال القسطلاني

(4)

: قال الكرماني: فإن قلت: إنهم كانوا صادقين في عبادة عزير؟ قلت: كذبوا في كونه ابن الله، إلى آخر ما بسط.

وقال العلامة السندي

(5)

: الكذب راجع إلى النسبة الخبرية الضمنية التي تتضمنها النسبة التوصيفية في قوله: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] كما قرّروا أن النسب التوصيفية تتضمن النسب الإخبارية، ويمكن رجوعها إلى نسبة "نعبد" بالنظر إلى كون مفعوله ابن الله، والله أعلم، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 344).

(2)

"فتح الباري"(11/ 449).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 466).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 473)، و"شرح الكرماني"(25/ 146).

(5)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 283).

ص: 798

(25 -‌

‌ باب ما جاء في قول الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:

56])

غرض الترجمة ظاهر، وهو إثبات صفة الرحمة، ويشكل عليه التكرار بالباب الثاني من أبواب هذا الكتاب، وهو قوله:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]، وتقدم هناك أن الغرض منه إثبات صفة الرحمة.

والأوجه عندي في الجواب: أن لله تعالى صفتين: الرحمن والرحيم، وفرق بينهما بوجوه، فكرّر المصنف الترجمة إشارةً إلى اسمي الرحمن والرحيم، وأيضًا أشار بهذا التكرار إلى غلبة الرحمة مشعرًا إلى قوله عز اسمه:"إن رحمتي سبقت غضبي"، وأما الفرق بين كلمتي الرحمن والرحيم فهو مشهور كما ذكره عامة المفسرين.

(26 -‌

‌ باب قول الله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. . .} [فاطر: 41]) إلخ

الغرض منه عندي إثبات الأصابع لله تعالى؛ كالوجه واليد كما في حديث الباب، وفي حاشية النسخة "الهندية"

(1)

عن الإمام النووي: قوله: "على أصبع" فيه مذهبان: التأويل والإمساك عنه مع الإيمان بها، مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد، فعلى قول المتأولين يتأول الأصابع ههنا على الاقتدار، أي: خلقها مع عظمها بلا تعب، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال المهلب: الآية تقتضي أنهما ممسكتان بغير آلة، والحديث يقتضي أنهما ممسكتان بالأصبع، والجواب أن الإمساك بالأصبع محال؛ لأنه يفتقر إلى ممسك، وأجاب غيره بأن الإمساك في الآية يتعلق بالدنيا، وفي الحديث بيوم القيامة، انتهى.

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 538).

(2)

"فتح الباري"(13/ 438).

ص: 799

(27 -‌

‌ باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض. . .) إلخ

هذا هو الباب الثالث من الأبواب الثلاثة المتعلقة بالخلق التي تقدم ذكرها، والغرض من هذا الباب هو مسألة التكوين.

قال الحافظ

(1)

قوله: "وهو فعل الرب وأمره. . ." إلخ، المراد بالأمر هنا قوله:{كُنْ} والأمر يطلق بإزاء معان منها صيغة أفعل، ومنها الصفة والشأن، والأول المراد هنا.

قوله: (وهو الخالق المكون غير مخلوق) المكون بتشديد الواو المكسورة لم يرد في الأسماء الحسنى، ولكن ورد معناه "وهو المصور"، انتهى.

قال القسطلاني

(2)

: واختلف في التكوين هل هو صفة فعل قديمة أو حادثة؟ فقال أبو حنيفة وغيره من السلف: قديمة، وقال الأشعري في آخرين: حادثة؛ لئلا يلزم أن يكون المخلوق قديمًا، وأجاب الأول بأنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق، وأجاب الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق، كما لا يكون ضارب ولا مضروب فألزموه بحدوث صفات، فيلزم حلول الحوادث بالله تعالى، فأجاب بأن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئًا جديدًا، فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقًا ولا رازقًا، وكلام الله تعالى قديم، وقد ثبت فيه أنه الخالق الرازق، فانفصل بعض الأشعرية بأن إطلاق ذلك إنما هو بطريق المجاز، وليس المراد بعدم التسمية عدمها بطريق الحقيقة، ولم يرتض بعضهم هذا بل قال: هو قول منقول عن الأشعري نفسه أن الأسامي جارية مجرى الإعلام، والعلم ليس بحقيقة ولا مجاز في اللغة، وأما في الشرع فلفظ الخالق

(1)

"فتح الباري"(13/ 439).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 494).

ص: 800

والرازق صادق عليه تعالى بالحقيقة الشرعية، والبحث إنما هو فيها لا في الحقيقة اللغوية، فألزموه بتجويز إطلاق اسم الفاعل على من لم يقم به الفعل، فأجاب بأن الإطلاق هنا شرعي لا لغوي.

قال الحافظ ابن حجر

(1)

: وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة [القول] الأول، والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة وقوع حوادث لا أول لها، وبالله التوفيق.

وسقط لأبي ذر قوله: "هو المكون"، وسقط من بعض النسخ قوله:"وفعله"، قال الكرماني

(2)

: وهو أولى ليصح لفظ غير مخلوق، قال في "فتح الباري": سياق المؤلف يقتضي التفرقة بين الفعل وما ينشأ عن الفعل، فالأول من صفات الفاعل، والباري غير مخلوق، فصفاته غير مخلوقة، وأما مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله فهو مخلوق، ومن ثم عقبه بقوله:"وما كان بفعله وأمره. . ." إلخ.

وقال المصنف في كتابه "خلق أفعال العباد"

(3)

: واختلف الناس في الفاعل والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، وقالت الجبرية: كلها من الله تعالى، وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، ولذلك قالوا: كن مخلوق، وقال السلف: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة، ففعل الله صفة الله، والمفعول من سواه من المخلوقات، انتهى.

قلت: وعلم من ذلك الفرق بين هذه الترجمة وبين ما تقدم، كما سبق إليه الإشارة، وأن هذه الترجمة في هذا المعنى موافق لقول أبي حنيفة، كما جزم به الحافظ وتبعه القسطلاني، وأما ابن بطال فقال

(4)

: غرضه بيان أن جميع السماوات والأرض وما بينهما مخلوق؛ لقيام دلائل الحدوث عليها، ولقيام البرهان على أنه لا خالق غير الله، وبطلان قول من يقول: إن الطبائع

(1)

"فتح الباري"(13/ 440 و 439).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 161).

(3)

(ص 112).

(4)

"شرح ابن بطال"(10/ 475).

ص: 801

خالقة أو الأفلاك أو النور أو الظلمة أو العرش، وفسدت جميع هذه الأقاويل لقيام الدليل على حدوث ذلك كله، إلى آخر ما بسط.

وفي "تقرير المكي"

(1)

: قوله: "بابُ ما جاءَ في تخليق. . ." إلخ، تمت الصفات، وهذا إثبات أن العالم مخلوق، انتهى.

وذكر في هامش "اللامع" شيء من النقول من كلام الشيخ ابن تيمية فارجع إليه.

وفي "فيض الباري"

(2)

: اعلم أن المصنف أشار في تلك الترجمة إلى أمرين: الأول: إلى إثبات صفة التكوين، القائل بها علماؤنا الماتريدية، حتى صرّح به الحافظ مع أنه ممن لا يرجى منه أن يتكلم بكلمة يكون فيها نفع للحنفية، وأنكرها الأشاعرة، فالتفصيل: أن الصفات عند الأشاعرة سبع، والله تعالى مع صفاته السبع قديم إلى أن قال: وزاد الماتريدية على هذه السبع صفةً ثامنة سمّوها بالتكوين إلى آخر ما ذكر.

ثم قال: وأما الثاني: فهو تأسيس للجواب عما أورد عليه في مسألة كلام الباري تعالى، وهذه هي المسألة التي ابتلي بها البخاري، وقاسى فيها المصائب، فترجم أولًا ترجمةً طويلةً جامعةً كالباب، ثم ترجم تراجم أخرى في هذا المعنى كالفصول له، كما كان فعل في كتاب الإيمان حيث ترجم أولًا ترجمة مبسوطةً مفصلةً، ثم ترجم بعدها تراجم كالفصول لها إلى آخر ما ذكر شيئًا من الكلام على مسألة خلق القرآن.

(28 -‌

‌ باب قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:

171])

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(3)

: المراد إثبات الكلام له تعالى، لا مجموع ما هو مضمون الآية، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 323).

(2)

"فيض الباري"(6/ 572 - 577).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 353).

ص: 802

وفي هامشه: هذا الباب الباب الثامن والعشرون من أبواب "كتاب الردّ على الجهمية"، وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه ظاهر، فهذا أوّل باب في مسألة الكلام عند الشيخ قُدِّس سرُّه وهو الأوجه عند هذا العبد الضعيف، وهكذا في "تقرير مولانا محمد حسن المكي"، وعند العلامة العيني هو الباب الآتي، وأما عند الحافظ فهو الباب الثاني والثلاثون، ولذا بسط الحافظ فيه القول على مسألة الكلام أشدّ البسط.

(29 -‌

‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل:

40])

هكذا في النسخة "الهندية"، وكذا في نسخة "الفتح"، وأما في النسخ "العيني" و"القسطلاني":{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا. . .} [النحل: 40] إلخ.

قال الحافظ

(1)

بعد ذكر الاختلاف في النسخ: قال عياض: صواب التلاوة {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ. . .} إلخ، وكأنه أراد أن يترجم بالآية الأخرى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وسبق القلم إلى هذه.

قلت: وقع في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر: {إِنَّمَا قَوْلُنَا} على وفق التلاوة، فإن لم يكن من إصلاح من تأخر عنه وإلا فالقول ما قاله القاضي عياض.

ثم قال الحافظ بعد بيان مطابقة الأحاديث بالترجمة: قال ابن بطال

(2)

: غرضه الردّ على المعتزلة في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فتبين أن الأمر هو قوله تعالى للشيء:{كُنْ فَيَكُونُ} بأمره له، وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول: كن حقيقة، وأن الأمر غير الخلق لعطفه عليه بالواو، انتهى.

وسيأتي مزيد لهذا في "باب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} "[الصافات: 96]، انتهى من "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(13/ 443).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 476).

(3)

"فتح الباري"(13/ 444).

ص: 803

ونحوه ما قال العلامة العيني

(1)

بدون العزو إلى ابن بطال حيث قال: وغرض البخاري في هذا الباب الردّ على المعتزلة في قولهم: إن أمر الله الذي هو كلامه مخلوق، وأن وصفه تعالى نفسه بالأمر وبالقول في هذه الآية مجاز واتساع كما في "امتلأ الحوض" و"مال الحائط"، وهذا الذي قالوه فاسد؛ لأنه عدول عن ظاهر الآية، وحملها على حقيقتها إثبات كونه تعالى حيًّا، والحيُّ لا يستحيل أن يكون متكلمًا، انتهى.

(30 -‌

‌ باب قول الله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي. . .} [الكهف: 109]) إلخ

قال العلامة العيني

(2)

: ومعنى هذا الباب إثبات الكلام لله تعالى صفة لذاته ولم يزل متكلمًا، ولا يزال كمعنى الباب الذي قبله، وإن كان وصف الله كلامه بأنه كلمات فإنه شيء واحد لا يتجزأ ولا ينقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة تارة عربية وتارة سريانية وبجميع الألسنة التي أنزلها الله على أنبيائه، وجعلها عبارةً عن كلامه القديم الذي لا يشبه كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما تنفد البحار والأشجار وجميع المحدثات فكما لا يحاط بوصفه تعالى كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته، انتهى.

قال الكرماني

(3)

: المقصود من هذه الأبواب إثبات أن الله تعالى متكلم بالكلام، انتهى.

قلت: ومن عادة الإمام البخاري أنه طالما يترجم لإثبات أمر مهم بتراجم عديدة، كما تقدّم في مقدمة "اللامع"

(4)

في بيان أصول التراجم، وهو الأصل الثامن والعشرون، وله نظائر ذكرت هناك، ولما كانت مسألة

(1)

"عمدة القاري"(16/ 656).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 659).

(3)

"شرح الكرماني"(25/ 168).

(4)

"لامع الدراري"(1/ 330).

ص: 804

خلق القرآن من المسائل المهمة لا سيما في زمن الإمام البخاري كما اشتهر في كتب التواريخ أثبتها بأبواب عديدة.

(31 -‌

‌ باب في المشيئة والإرادة. . .) إلخ

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: غرض البخاري إثبات المشيئة والإرادة، وهما بمعنى واحد، وإرادته تعالى صفة من صفات ذاته، وزعم المعتزلة أنها صفة من صفات فعله وهو فاسد، انتهى.

وقد ترجم البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات"

(3)

: جماع أبواب إثبات صفة المشيئة والإرادة لله تعالى، وكلتاهما عبارتان عن معنى واحد، انتهى.

قال القسطلاني

(4)

: لا فرق بين المشيئة والإرادة إلا عند الكرامية حيث جعلوا المشيئة صفةً واحدةً أزليةً تتناول ما يشاء الله تعالى بها من حيث يحدث، والإرادة حادثة متعددة بعدد المرادات، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(5)

عن فتاوى الشيخ ابن تيمية: وقد جاءت الإرادة في كتاب الله تعالى على نوعين: أحدهما: الإرادة الدينية كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وغير ذلك من الآيات التي ذكرها ابن تيمية، والثاني: الإرادة الكونية، كما قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية [الأنعام: 125] وغيرها، قال: وهذا تقسيم شريف، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 449).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 477).

(3)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 138).

(4)

"إرشاد الساري"(15/ 506).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 327).

ص: 805

(32 -‌

‌ باب قوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. . .} [سبأ: 23]) إلخ

كتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(1)

: قصد بذلك إثبات المطلبين أن العبد كاسب لا كما توهّمت الجبرية أنه مجبور محض، لا دخل له في شيء مما يوجد من الأقوال والأفعال أو الحركات والسكنات، ودلالة الروايات على هذا المعنى ظاهرة، حيث ذكر في كل منها شيء من أفعال العباد، كما يظهر بأدنى تأمل، وأن الخالق تعالى متكلم بكلام قديم هو صفته، وما زعمه أهل الأهواء من أن معنى قوله تعالى حيث ورد، كما في قوله:{قَالَ رَبُّكُمْ} وغيره هو خلق القول والكلام في غيره، لا أنه تعالى متكلم بكلام قديم هو صفته باطل، واستدل على هذا المدعى بقوله:{قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] حيث نسب القول إلى الربّ تعالى، ولم يقل: ماذا خلق ربكم فيكم من الكلام مع أنه لو كان المعنى خلق القول فيهم، لما احتاجوا إلى السؤال عن غيرهم، فعلم أن تأويلهم هذا باطل، وأيضًا فإن المؤلّف يشير في هذا الباب إلى أن لله تعالى أفعالًا وأعمالًا، وذلك ليثبت به أن لله تعالى صفاتٍ قديمةً أيضًا، انتهى.

قلت: وعامة الشرَّاح على أن مقصود المصنف إثبات صفة الكلام كما سيأتي في كلام الشرَّاح، وهو المذكور في "تقرير مولانا محمد حسن المكي" عن الشيخ الكَنكَوهي، وأما على ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع" فليست الترجمة لإثبات صفة الكلام فقط، بل الترجمة عنده جامعة مشتملة على أمور وعدة أجزاء مذكورة في كلامه، وعلى هذا مطابقة أحاديث الباب للترجمة واضحة، وأما على ما اختاره الشرَّاح في الغرض من الترجمة، فمطابقة بعض الأحاديث للترجمة غير واضحة كما سيأتي.

وقد تقدم أن هذا أوَّلُ باب في مسألة الكلام عند الحافظ إذ قال

(2)

:

(1)

"لامع الدراري"(10/ 353، 354).

(2)

"فتح الباري"(13/ 454).

ص: 806

وهذا أوّل باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام، وهي طويلة الذيل، قد أكثر أئمة الفرق فيها القول، إلى آخر ما بسط الكلام على هذه المسألة.

وفي "تقرير المكي"

(1)

: قوله: {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. . .} إلخ، فثبت الكلام لله تعالى، وهو المطلوب في هذا الباب، بل أكثر هذه الأبواب في إثبات الكلام، ومقصوده من تكثير أحاديثه تكفير المعتزلة المنكرة لكلام الله تعالى بأن هذه الأحاديث لكثرتها بلغت حدّ التواتر، فمنكرها كافر، ومذهب المحدثين تكفير أهل الهوى كلهم، وإن كانوا من أهل القبلة، انتهى.

قلت: ومسألة تكفير أهل البدع من أهل القبلة وسيعة الذيل خلافية مبسوطة في محلها، فارجع إليه.

قال العلامة العيني

(2)

: غرض البخاري من ذكر هذه الآية بل من الباب كله بيان كلام الله القائم بذاته، ودليله أنه قال:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ولم يقل: ماذا خلق ربكم؟ وفيه ردٌّ للمعتزلة والخوارج والمرجئة والجهمية والنجارية؛ لأنهم قالوا: إنه متكلم، يعني: خالق الكلام في اللوح المحفوظ، وفي هذا ثلاثة أقوال: قول أهل الحق: أن القرآن غير مخلوق، وأنه كلامه تعالى قائم بذاته، لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يشبه شيئًا من كلام المخلوقين، والقول الثاني: ما ذكرنا عن هؤلاء المذكورين، والقول الثالث: أن الواجب فيه الوقف، فلا يقال: إنه مخلوق ولا غير مخلوق، انتهى.

قوله: (يتغنى بالقرآن. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: أورده ههنا لإثبات أن لله كلامًا هو القرآن، وأن لله أفعالًا منها الإذن، أي: الاستماع، وأن للعبد أفعالًا منها تغنيه بالقرآن وجهره به، فليس هو مجبورًا محضًا، لا يقدر على إتيان شيء من الأفعال ولو بكسب لها، انتهى.

قلت: أجاد الشيخ قُدِّس سرُّه في توجيه مطابقة الحديث بالترجمة،

(1)

"لامع الدراري"(10/ 354، 355).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 669).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 355).

ص: 807

وهو مبني على الغرض الذي اختاره الشيخ من الترجمة، ولا يتمشى هذا التوجيه على ما اختاره الشرَّاح، ولذا اختلفوا ههنا في ذكر المطابقة، فقد قال الكرماني

(1)

: اعلم أن البخاري فهم من الإذن القول لا الاستماع بدليل أنه أدخله في هذا الباب، انتهى.

وحكى العيني قول الكرماني هذا، ثم قال: فيه موضع التأمل وفهم القول منه بعيد، انتهى ملخصًا.

وفي "الفيض"

(2)

: قوله: "ما أذن الله لشيء. . ." إلخ، والإذن فيه بمعنى الاستماع، وكان في الترجمة بمعنى الإجازة إلا أن يقال: إن الله تعالى أجاز نبيه بالقراءة، فلما قرأ استمعها، فاستعمل الإذن في الاستماع بهذا الطريق، ثم إن اللغويين صرّحوا بكونه بمعنى الاستماع، وحينئذٍ لا حاجة إلى هذا التمحّل أيضًا، انتهى.

قلت: فلا مخلص من الإيراد إلا بالتوجيه الذي ذكره الشيخ قُدِّس سرُّه.

(33 -‌

‌ باب كلام الرب مع جبرئيل ونداء الله الملائكة. . .) إلخ

قال العيني

(3)

: فيه أيضًا إثبات كلام الله تعالى، انتهى. وهو ظاهر، وفي "تقرير مولانا محمد حسن المكي"

(4)

: "قوله: بشرني. . ." إلخ، فثبت الكلام، انتهى.

وقال الحافظ

(5)

: وفي مناسبته بالترجمة غموض، وكأنه من جهة أن جبريل إنما يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر يتلقاه عن ربه عز وجل، فكأن الله تعالى قال لجبريل: بشر، انتهى.

(1)

"شرح الكرماني"(25/ 181).

(2)

"فيض الباري"(6/ 586).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 673).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 328).

(5)

"فتح الباري"(13/ 462).

ص: 808

وفي "الفيض"

(1)

: شرع في صفة الكلام، وتراجمه فيه على نحوين: الأولى: في إثبات قدم كلام الله تعالى، والثانية: في إثبات حدوث فعله الوارد عليه، فاعلم أن الكلام إما كلام نفسي أو لفظي، والأول أقرّ به الأشعري، وأنكره الحافظ ابن تيمية، إلى آخر ما ذكر من التفصيل في ذلك.

وقال الحافظ

(2)

تحت الترجمة: ذكر فيه أثرًا وثلاثة أحاديث، في الحديث الأول: نداء الله جبرئيل، وفي الثاني: سؤال الله الملائكة على عكس ما وقع في الترجمة، وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، إلى آخر ما ذكر.

قلت: وما قاله الحافظ غير واضح، بل مطابقة الحديث بالترجمة ظاهرة كما جزم به العيني والقسطلاني

(3)

فتأمل.

(34 -‌

‌ باب قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ. . .} [النساء: 166]) إلخ

في هامش "اللامع"

(4)

: هو بمنزلة النصّ على أن القرآن منزل من السماء، فلو كان مخلوقًا بلفظ {كُنْ} فأيّ فاقة إلى إنزاله؟ وفي هامش "نور الأنوار"

(5)

: اعلم أن نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم عبارة عن وصوله إليه صلى الله عليه وسلم بواسطة ألفاظ دالة عليه بواسطة الملك، انتهى.

قال الحافظ

(6)

: قال ابن بطال

(7)

: المراد بالإنزال إفهام العباد معاني الفروض التي في القرآن وليس إنزاله له كإنزال الأجسام المخلوقة؛ لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق، قال الحافظ: والكلام الثاني متفق عليه بين أهل السنة سلفًا وخلفًا، وأما الأول فهو على طريقة أهل التأويل، والمنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق تلقّاه جبريل عن الله تعالى وبلغه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه صلى الله عليه وسلم إلى أمته، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 578).

(2)

"فتح الباري"(13/ 461).

(3)

"عمدة القاري"(16/ 673)، و"إرشاد الساري"(15/ 529).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 328).

(5)

"قمر الأقمار"(ص 7).

(6)

"فتح الباري"(13/ 463).

(7)

"شرح ابن بطال"(10/ 494).

ص: 809

(35 -‌

‌ باب قول الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح:

15])

قال الحافظ

(1)

: قال ابن بطال

(2)

: أراد بهذه الترجمة وأحاديثها ما أراد في الأبواب قبلها أن كلام الله تعالى صفة قائمة [به]، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال، والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله لا يختص بالقرآن، فإنه ليس نوعًا واحدًا، وأنه وإن كان غير مخلوق، وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم، وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه: يريد في هذا الباب إثبات نوع من الكلام له تعالى، وهو الذي ليس بوحي متلو، أي: الأحاديث القدسية، وأكثر ما ورد في هذا الباب لا يخلو عن ذلك، وأما ما ليس فيه من كلامه تعالى شيء، فإنه لا يخلو عن مناسبة ما بكلامه تعالى، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، انتهى.

وفي هامشه: وما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه من غرض الترجمة أنه إثبات الأحاديث القدسية، بذلك جزم غير واحد من الشرَّاح، ويشكل عند هذا العبد الضعيف أن: هذا الغرض سيأتي في باب مستقل هو الباب الخمسون "باب ذكر النبي ورواية عن ربه".

والأوجه عندي: أن الغرض من الترجمة مجرد إثبات كلامه تعالى، والإمام البخاري بالغ في إثباته بأبواب عديدة كثيرة مختلفة، إلى آخر ما في هامش "اللامع"

(3)

من "تقرير شيخ الهند" في توضيح الكلام النفسي واللفظي.

(1)

"فتح الباري"(13/ 467).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 498).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 356، 357).

ص: 810

(36 -‌

‌ باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم)

غرضه ظاهر، يعني: إثبات الكلام لله تعالى من وجوه مختلفة بمواضع شتى.

قال الحافظ

(1)

: ذكر فيه خمسة أحاديث، الأول: حديث أنس في الشفاعة أورده مختصرًا جدًّا ثم مطولًا، وقد مضى شرحه مستوفي في "كتاب الرقاق"، ثم قال في آخر الباب: - تنبيهان -: أحدهما: ليس في أحاديث الباب كلام الرب مع الأنبياء إلا في حديث أنس، وسائر أحاديث الباب في كلام الرب مع غير الأنبياء، وإذا ثبت كلامه مع غير الأنبياء فوقوعه للأنبياء بطريق الأولى، الثاني: تقدم في الحديث الأول ما يتعلق بالترجمة، وأما الثاني: فيختص بالركن الثاني من الترجمة، وهو قوله: وغيرهم، وأما سائرها فهو شامل للأنبياء ولغير الأنبياء على وفق الترجمة، انتهى.

وفي هامش "اللامع"

(2)

: ولا يذهب عليك أن في الحديث الأول من الباب حديث أنس اختصارًا مخلًا، قال القسطلاني

(3)

: قوله: "أدخل الجنة" بفتح الهمزة وكسر الخاء من الإدخال، وفي الرواية الآتية بعد هذه أن الله تعالى هو الذي يقول له ذلك، وهو المعروف في سائر الأخبار، قال الداودي: قوله: "ثم أقول" خلاف سائر الروايات، فإن فيها أن الله أمره أن يخرج، وتعقبه في "الفتح"

(4)

فقال: فيه نظر، والموجود عند أكثر الرواة، ثم أقول بالهمز، والذي يظن أن البخاري أشار إلى ما في بعض طرقه كعادته، وفي "مستخرج أبي نعيم" من طريق أبي عاصم عن أبي بكر بن عياش:"أشفع يوم القيامة فيقال لي: لك من في قلبه شعيرة، ولك من في قلبه خردلة، ولك من في قلبه شيء"، فهذا من كلام الرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

(1)

"فتح الباري"(13/ 475 و 477).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 358، 359).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 549).

(4)

"فتح الباري"(13/ 475).

ص: 811

ويمكن التوفيق بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم يسأل عن ذلك أولًا فيجاب إلى ذلك ثانيًا، فوقع في إحدى الروايتين ذكر السؤال، وفي البقية ذكر الإجابة، انتهى.

قلت: وعلى هذا فلا يرد ما حكى الحافظ عن ابن التِّين أن فيه كلام الأنبياء مع الرب ليس كلام الرب مع الأنبياء، انتهى.

قوله: (من قال: لا إله إلا الله) كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: فيه دلالة على أن هذا الرجل لم يكن في قلبه شيء من الخير، إذ لو كان له من الخير شيء في أي مرتبة كان لخرج فيمن أخرجوا من قبل، وإنما كان منه مجرد التكلم بهذه الكلمة الشريفة، ومن ههنا يعلم غاية فضل الله وكرمه بعباده والله غفور رحيم، انتهى.

وبسط في هامشه الكلام على مصداق هذا الرجل من كلام الشرَّاح وغيرهم أشد البسط، وفيه من "تقرير اللاهوري": المراد به من آمن بلسانه، ويتهلل، وليس في قلبه إنكار، لكن وليس في قلبه فهم التوحيد أو غيره أو الصلاة أو غيرها، كأناسي "ملك رجوارا في الهند"، وهذا المعنى ليس برأي بل يفهم من رواية ابن ماجه، انتهى.

(37 -‌

‌ باب قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:

164])

غرضه ظاهر، وهو إثبات الكلام لله تعالى، وهو الباب السابع والثلاثون من أبواب الرد على الجهمية.

قال الحافظ

(2)

: قال الأئمة: هذه الآية أقوى ما ورد في الردّ على المعتزلة، قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازًا، فإذا قال:"تكليمًا" وجب أن يكون كلامًا على الحقيقة التي تعقل، وأجمع السلف والخلف من أهل السُّنَّة وغيرهم على أن "كلم" ههنا

(1)

"لامع الدراري"(10/ 360).

(2)

"فتح الباري"(13/ 479).

ص: 812

من الكلام، ونقل الكشاف عن بدع بعض التفاسير أنه من الكلم بمعنى الجرح، وهو مردود بالإجماع المذكور، وأورد البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد": أن خالد بن عبد الله القسري قال: إني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، وتقدم في أول التوحيد - الرد على الجهمية - أن سلم بن أحوز قتل جهم بن صفوان؛ لأنه أنكر أن الله كلّم موسى تكليمًا، انتهى مختصرًا.

وقال القسطلاني

(1)

: قال القرطبي: تكليمًا مصدر معناه التأكيد، وهذا يدل على بطلان قول من يقول: خلق الله بنفسه كلامًا في شجرة يسمعه موسى بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلمًا، انتهى.

وترجم البيهقي في "كتاب الأسماء"

(2)

: "ما جاء في إثبات صفة التكليم والتكلم والقول" ثم بسط الروايات في ذلك.

قوله: (عن شريك بن عبد الله. . .) إلخ، كتب الشيخ في "اللامع"

(3)

: قد أنكر العلماء على شريك هذه الرواية، وذلك لما في هذه الرواية من مخالفة بالثقات في ستة مواضع أو سبعة، ولكل منها تأويل صحيح، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ في "الفتح"

(4)

: جزم ابن القيم في "الهدي" بأن في رواية شريك عشرة أوهام، انتهى.

وهكذا حكى صاحب "الفيض"

(5)

عن ابن الجوزي: أن فيه عشرة أوهام، أشدّها ما في آخر الحديث:"فاستيقظ"، ويتلوه في الشناعة قوله:"ودنا الجبار، رب العزة، فتدلى"، انتهى مختصرًا.

ثم قال الحافظ: ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك، ثم عدّها وبلغها إلى اثني

(1)

"إرشاد الساري"(15/ 558).

(2)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 187).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 363 - 375).

(4)

"فتح الباري"(13/ 486).

(5)

"فيض الباري"(6/ 599).

ص: 813

عشر وهمًا، وما ظهر لهذا العبد الضعيف بعد التتبع البليغ أنها تبلغ إلى أكثر من عشرين، ثم ذكر في هامش "اللامع" تفصيلها مع ما نقل من الأجوبة والتوجيهات، كما قال الشيخ من أن لكل منها تأويلًا صحيحًا فارجع إليه لو شئت.

قوله: (لقد راودت بني إسرائيل. . .) إلخ، استدل به على أنه فرضت عليهم صلاتان فقط، كما في "فتح الملهم"

(1)

برواية ابن مردويه، وصرّح به الحافظ ابن كثير في التفسير

(2)

وردّ السيوطي قول خمسين، وقال: لا أصل له كما حكاه الخفاجي على البيضاوي، ويؤيده أيضًا ما هو المعروف أن العشاء خصيصة لهذه الأمة، فلو فرضت عليهم خمسون لا بدّ أن يكون في وقت العشاء، أي: من غروب الشفق إلى الصبح أكثر من عشرين صلاة، وأيضًا المعروف أن الصلوات الخمسة خصيصة لهذه الأمة، وكانت الصلوات موزعة على الأمم السابقة كما في "البذل"

(3)

تحت شرح حديث إمامة جبريل، ويشكل على هذا كلّه ما ذكره المفسرون قاطبةً في قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] إن الصلوات المفروضة عليهم كانت خمسين صلاة كما في "الخازن" و"التفسير الكبير" للرازي "والتفسير" للبيضاوي ولأبي السعود وغيرهم من المفسرين، وحقق بعضهم أن القول الثاني، أي: كون الصلوات خمسين مأخوذ من التوراة المحرفة.

(38 -‌

‌ باب كلام الرب مع أهل الجنة)

غرض الترجمة كالتراجم السابقة ظاهر، وهو ما بصدده من إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى من وجوه متنوعة.

قال الحافظ

(4)

: ذكر فيه حديثين ظاهرين فيما ترجم له، انتهى.

(1)

"فتح الملهم"(2/ 255).

(2)

"تفسير ابن كثير"(5/ 7).

(3)

"بذل المجهود"(3/ 16).

(4)

"فتح الباري"(13/ 488).

ص: 814

(39 -‌

‌ باب ذكر الله بالأمر وذكر العباد بالدعاء. . .) إلخ

الأوجه عندي: أنه أشار إلى تفسير الآية مع إثبات ما هو بصدده، وهو إثبات كلامه تعالى.

وقال الحافظ

(1)

: لم يذكر المصنف في هذا الباب حديثًا مرفوعًا، ولعله بيض له فأدمجه النساخ كغيره، واللائق به الحديث القدسي:"من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" إلى آخر ما ذكره.

(40 -‌

‌ باب قول الله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. . .} [البقرة: 22]) إلخ

في "تقرير المكي"

(2)

ما نصه: تم تكفير المعتزلة، وهذا شروع في تكفير الجبرية والقدرية لإثبات الكسب للعباد والخلق لله تعالى على سبيل التواتر الذي منكره كافر، فهذه الأبواب إلى آخر الكتاب مثبتة للكسب، وبعضها مثبتة للخلق أيضًا، فافهم.

وهذا الباب كالختم على تكفير المعتزلة؛ لأنهم مشركون، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. . .} إلخ، وإنما قلنا: إنهم مشركون لأنهم لما نفوا الصفات جعلوا الله تعالى كالصنم، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، انتهى.

قال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه وتعالى، وكان المناسب ذكره في أوائل "كتاب التوحيد"، لكن ليس المقصود ههنا ذلك، بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادًا لله، وتضمن الردّ على الجهمية في قولهم:"لا قدرة للعبد أصلًا"، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين.

(1)

"فتح الباري"(13/ 490).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 330).

ص: 815

قال الحافظ: وقد أطنب البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد" في تقرير هذه المسألة، واستظهر بالآيات والأحاديث والآثار الواردة عن السلف فيه، وغرضه ههنا الردّ على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل "باب {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} " [القيامة: 16]، وباب {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] وغيرهما، وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، إلى آخر ما بسطه.

(41 -‌

‌ باب قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ. . .} [فصلت: 22]) إلخ

قال صاحب "التوضيح"

(1)

: غرض البخاري في الباب إثبات السمع لله تعالى، انتهى. كذا في هامش النسخة "الهندية".

قلت: وعلى هذا تكون الترجمة مكررة، فإن هذه الصفة قد تقدمت في الباب التاسع، ولذا ردّ عليه الحافظ

(2)

إذ حكى هذا الوجه عن ابن بطال، ثم قال: وقد تقدّم في أوائل التوحيد في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، والذي أقول: إن غرضه في هذا الباب إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء، انتهى.

وفي "تقرير شيخ الهند": أشار المؤلف في هذا الباب إلى ردّ فريق من أهل السُّنَّة أن الإرادة خلق العبد، ليس فيه دخل لله تبارك وتعالى، وإنما ألجأ إليه فريق منهم بما أورد عليهم؛ لأن العبد ليس له الاختيار، بل هو مجبور محض، فكيف العقاب والعذاب، انتهى.

وقال الكرماني

(3)

: قيل: المقصود من الباب إثبات علم الله تعالى والسمع، وإبطال القياس الفاسد في تشبيهه بالخلق من سماع الجهر وعدم

(1)

"التوضيح"(33/ 499).

(2)

"فتح الباري"(13/ 496).

(3)

"شرح الكرماني"(25/ 215).

ص: 816

سماع السر، وإثبات القياس الصحيح حيث شبّه السر بالجهر لعلة أن الكل بالنسبة إليه تعالى سواء، انتهى من هامش "اللامع"

(1)

.

(42 -‌

‌ باب قول الله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]. . .) إلخ

بسط الحافظان ابن حجر والعيني

(2)

في غرض المصنف بهذه الترجمة وأقوال العلماء في ذلك، وقالا: قال ابن بطال

(3)

: غرض البخاري الفرق بين وصف كلامه تعالى بأنه مخلوق، وبين وصفه بأنه محدث، فأبطل الأول، وأجاز الثاني، وقال: وهذا قول بعض المعتزلة وأهل الظاهر، وهو غلط.

وقال الكرماني

(4)

: الغالب أن البخاري لا يقصد ذلك ولا يرضى به، ولا بما نسبه إليه، إذ لا فرق بينهما عقلًا وعرفًا ونقلًا، وقال شارح "التراجم": مقصوده أن حدوث القرآن وإنزاله إنما هو بالنسبة إلينا، وكذا ما أحدث من أمر الصلاة فإنه بالنسبة إلى علمنا، انتهى.

وفي "تراجم الشاه ولي الله الدهلوي"

(5)

: قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وصف القرآن بالمحدثية لقرب العهد بالله، كما وصف الله تعالى بأنه كل يوم هو في شأن، وحدث الله لا يشبه حدث المخلوقين.

وقوله: (إن حدثه لا يشبه. . .) إلخ، أي: بحدوث الأحكام لا يتغير ذاته ولا صفاته الحقيقية، انتهى من هامش "اللامع"

(6)

.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 331).

(2)

"فتح الباري"(13/ 497)، و"عمدة القاري"(16/ 706).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 525).

(4)

"شرح الكرماني"(25/ 216).

(5)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 436).

(6)

"لامع الدراري"(10/ 332).

ص: 817

(43 -‌

‌ باب قول الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: يعني بذلك إثبات أن للمرء أفعالًا، وليس هو بمجبور محض، وأن لله تعالى أفعالًا، والروايات مصرحة بهذين المعنيين بحيث لا يفتقر إلى بيان، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه واضح، وفي "تراجم شيخ المشايخ الشاه ولي الله الدهلوي": باب قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ. . .} إلخ، فالقرآن يتحرك به شفتاه، وتأويله ذلك كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم، فكما أن الله تعالى بتحريك العبد لشفتيه لا يدخله الحدوث، فكذلك القرآن، انتهى.

وفي "تقرير شيخ الهند رحمه الله تعالى": أشار المؤلف بهذا الباب إلى أن حروف القرآن حادثة؛ لأن هذا التحريك بالقرآن هو فعل العبد، وما يلزم من التحريك هو الصوت، وما يظهر من الصوت هو الحرف، فظاهر أن الحرف يكون حادثًا أيضًا، ولم يصرح به لئلا يعترض عليه بكونه معتزليًا قائلًا بحدوث القرآن، ومع هذا اتهمه الناس بالاعتزال في خلق القرآن، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: قال ابن بطال

(3)

: غرضه في هذا الباب أن تحريك اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل له يؤجر عليه.

قال الحافظ: والذي يظهر أن مراد البخاري بهذين الحديثين الموصول والمعلق الردّ على من زعم أن قراءة القارئ قديمة، فأبان أن حركة لسان القارئ بالقرآن من فعل القارئ، بخلاف المقروء؛ فإنه كلام الله القديم، كما أن حركة لسان ذاكر الله حادثة من فعله، والمذكور وهو الله سبحانه وتعالى قديم، وإلى ذلك أشار بالتراجم التي تأتي بعد هذا، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 375).

(2)

"فتح الباري"(13/ 500).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 526).

ص: 818

وقال الكرماني

(1)

: والمقصود من الباب بيان كيفية تلقي النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى من جبريل، انتهى كله من هامش "اللامع".

(44 -‌

‌ باب قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. . .} [الملك: 13]) إلخ

قال الحافظ

(2)

: أشار بهذه الآية إلى أن القول أعمّ من أن يكون بالقرآن أو بغيره، فإن كان بالقرآن فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته فليس بمخلوق لقيام الدليل القاطع بذلك، وإن كان بغيره فهو مخلوق بدليل قوله تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] بعد قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] قال ابن بطال

(3)

: مراده بهذا الباب إثبات العلم لله صفة ذاتية لاستواء علمه بالجهر من القول والسر، إلى أن قال الحافظ: قال ابن المنيِّر: ظنّ الشارح أنه قصد بالترجمة إثبات العلم، وليس كما ظنّ، وإنما قَصَدَ البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته بمسألة اللفظ، فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر، ويستلزم أن تكون مخلوقةً، وقد قال البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد" بعد أن ذكر عدة أحاديث دالة على ذلك: فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءتهم ودراستهم وتعليمهم مختلفة بعضهم أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخفض وأغضّ وأخشع وأجهر وأخفى وأقصر وأمدّ وألين من بعض، انتهى.

قلت: وتعقب ابن المنيِّر كلام ابن بطال صحيح، وإلا لزم التكرار، فإن هذا الغرض أعني إثبات صفة العلم لله تعالى قد تقدّم في الباب الرابع من "باب قول الله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. . .} [الجن: 26] إلخ.

(1)

"شرح الكرماني"(25/ 217).

(2)

"فتح الباري"(13/ 501).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 528).

ص: 819

(45 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رجل آتاه الله. . .) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: هذا والباب الذي يليه معقودان لعين ما عقد له الباب المتقدم عليهما من أن لله تعالى أفعالًا في خلقه، وللعباد أفعالًا، فتفكر فيه، انتهى.

وفي هامشه: قال العيني تبعًا للكرماني

(2)

: غرضه من هذا الباب أن قول العباد وفعلهم منسوبان إليهم، وهو كالتعميم بعد التخصيص، بالنسبة إلى الباب المتقدم عليه، انتهى.

وفي "تراجم شيخ مشايخنا الدهلوي"

(3)

: قوله: "رجل آتاه القرآن. . ." إلخ، فالقرآن يؤتي الله العبد إياه، وهو متلو يقوم العبد به، انتهى.

وقال البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد" بعد ذكر هذا الحديث: فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله، انتهى.

قوله: ({وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22] إلخ) قال الحافظ

(4)

: أما الآية الأولى فالمراد منها اختلاف ألسنتكم؛ لأنها تشمل الكلام كلّه فتدخل القراءة، وأما الآية الثانية فعموم فعل الخير يتناول قراءة القرآن والذكر والدعاء وغير ذلك، فدل على أن القراءة فعل القارئ، ثم قال: قال: ابن المنيِّر

(5)

: دلّتْ أحاديث الباب الذي قبله على أن القراءة فعل القارئ، وأنها تسمى تغنيًا، وهذا هو الحق اعتقادًا لا إطلاقًا، حذرًا من الإيهام، وفرارًا من الابتداع بمخالفة السلف في الإطلاق، وقد ثبت عن البخاري أنه قال: من نقل عني أني قلت: "لفظي بالقرآن مخلوق" فقد

(1)

"لامع الدراري"(10/ 376، 377).

(2)

"عمدة القاري"(16/ 711)، و"شرح الكرماني"(25/ 220).

(3)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 442).

(4)

"فتح الباري"(13/ 502، 503).

(5)

"المتواري"(ص 536).

ص: 820

كذب، وإنما قلت: إن أفعال العباد مخلوقة، قال: وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها، انتهى.

(46 -‌

‌ باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .} [المائدة: 67]) إلخ

كتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: قد ذكرنا لما عقد هذا الباب، انتهى.

وفي هامشه: قال الحافظ

(2)

: وقد احتج الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لم يرد في شيء من القرآن ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدلّ على أنه مخلوق، ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال: لو كان ما يقول الجعد حقًّا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وسلك العلامة السندي ههنا في بيان غرض الترجمة مسلكًا آخر إذ قال

(3)

: أي: باب إثبات النبوة، فإن مباحث النبوات من جملة مسائل علم التوحيد، إلا أنه ترجم لغالب مسائل علم التوحيد بآية من الكتاب، ثم ذكر الحديث الموافق لها، ليعلم ثبوتها بالكتاب والسُّنَّة، وموافقة الكتاب والسُّنَّة عليها، إذ هذه المسائل هي مدار الدين، والمطلوب فيها اليقين، فللَّه دره ما أدقّ نظره، ثم ذكر في الباب من الآية والأحاديث بعض ما فيه لفظ الرسالة والرسول أو نحوه، وهذا اللفظ هو مدار الترجمة، والله تعالى أعلم.

وأما ذكره قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] فلتحقيق الكتاب الذي يتوسل به إلى تحقيق النبوة، ثم أشار بقوله: هذا الكتاب إلى أن ذلك واقع موقع هذا، وأيّده بقوله تعالى:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] فجيئ بقوله:

(1)

"لامع الدراري"(10/ 378).

(2)

"فتح الباري"(13/ 504).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 305).

ص: 821

{بِهِمْ} موضع بكم، مع أن الأول للغائب البعيد عن الحس، والثاني للحاضر القريب، انتهى.

وكتب الشيخ في "اللامع"

(1)

: ثم إن قوله: "وقال كعب بن مالك حين تخلف. . ." إلخ، حجة برأسها لا تعلق له بما تقدم ولا بما تأخر، وحاصل الاحتجاج [به] أن التخلف إنما كان فعل الكعب لا غير، وكذا قوله:{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] حجة، فإن الرؤية عمل الله وعمل المؤمنين، وأيضًا فإن العمل مضاف للمؤمنين، وليس إضافته إليهم إلا لصدوره منهم، وكذلك قوله:"وقالت عائشة" إلى قوله: "أحد. . ." إلخ، حجة أخرى، وكذلك قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] حجة، فإن الاتقاء فعلهم، ثم أخذ في تفسير الآية استطرادًا، فقال:"ذلك" ههنا بمعنى هذا، كما في الآية الأخرى، ثم أورد سندًا على هذا المعنى أن العرب تستعمل اللفظ موضع لفظ آخر، كما في قوله تعالى:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس 22]، وكذلك باقي ما ذكره ههنا حجج على ما ادّعاه، والله أعلم، انتهى.

وفي هامشه: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه في شرح كلام المصنف وتوضيح مرامه دقيق جدًّا، ثم ذكر في هامش "اللامع" توضيح كلام الشيخ قُدِّس سرُّه، وذكر فيه أيضًا ما ذكره الشرَّاح في شرح هذا المقام، فارجع إليه لو شئت.

(47 -‌

‌ باب قول الله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا. . .} [آل عمران: 93]) إلخ

مراده بهذه الترجمة أن يبين أن المراد بالتلاوة القراءة، وقد فسرت التلاوة بالعمل، والعمل من فعل العامل، وقال في "كتاب خلق أفعال

(1)

"لامع الدراري"(10/ 378 - 381).

ص: 822

العباد": ذكر صلى الله عليه وسلم أن بعضهم يزيد على بعض في القراءة وبعضهم ينقص، فهم يتفاضلون في التلاوة بالكثرة والقلة، وأما المتلو وهو القرآن فإنه ليس فيه زيادة ولا نقصان، ويقال: فلان حسن القراءة ورديء القراءة، ولا يقال: حسن القرآن ولا رديء القرآن، وإنما يسند إلى العباد القراءة لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الربّ، والقراءة فعل العبد، انتهى من "الفتح"

(1)

.

وفي "تراجم شيخ مشايخنا الدهلوي"

(2)

: قوله: "ثم أوتيتم القرآن فعملتم. . ." إلخ، فكلام الله تعالى معمول به متلو وهو عمل من الأعمال، انتهى.

وفي "تقرير شيخ الهند": أشار إلى أن التلاوة فعل العبد اللاحق بالقرآن، وهذا الفعل حادث، والقرآن قديم، والغرض أن القرآن ليس بحادث، وأثبته البخاري بأبواب كثيرة إلا أن ما هو فعل العبد وكسبه يكون حادثًا، قوله:"وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والصلاة عملًا. . ." إلخ، فيه إشارة خفية إلى ردِّ ما قالوا من أن هذه الثلاثة قديم، وإنما مناسبته بالباب بأنه أشار إلى أن الحمل في الآية بمعنى العمل، {لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي: لم يعملوا عليها فكأنه تفسير للآية، انتهى.

وقال العلامة السندي

(3)

: قوله: "يتلونه حق تلاوته: يتبعونه. . ." إلخ، الظاهر أنه فسّر "يتلون" بـ "يتبعون" على أنه من المتلو بمعنى التبع، لا من التلاوة بمعنى القراءة، ويحتمل أنه أخذ العمل من قوله: حق تلاوته، إذ لا يكون الإنسان مؤديًا للتلاوة حقها إلا إذا عمل بالمتلو كما ينبغي العمل به، والله أعلم، انتهى من هامش "اللامع"

(4)

مختصرًا.

(1)

"فتح الباري"(13/ 508).

(2)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 448).

(3)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 306).

(4)

"لامع الدراري"(10/ 333، 334).

ص: 823

قال الحافظ

(1)

في آخر الباب: قال ابن بطال

(2)

: معنى هذا الباب كالذي قبله أن كل ما ينشئه الإنسان مما يؤمر به من صلاة أو حج أو جهاد وسائر الشرائع عمل يجازى على فعله ويعاقب على تركه، انتهى.

وقال الحافظ: ليس غرض البخاري هنا بيان ما يتعلق بالوعيد، بل ما أشرت إليه قبل، ثم قال: وتشاغل ابن التِّين ببعض ما يتعلق بلفظ حديث ابن عمر إلى أن قال: وفي تشاغل من شرح هذا الكتاب بمثل هذا هنا إعراض عن مقصود المصنف ههنا، وحق الشارح بيان مقاصد المصنف تقريرًا وإنكارًا، وبالله المستعان، انتهى.

(48 -‌

‌ باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملًا. . .) إلخ

قال الحافظ

(3)

: كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، انتهى. وهكذا في "العيني"

(4)

وزاد: ولهذا قال: "وسمى" بالواو، انتهى.

قلت: وهو كذلك، وقد تقدم ذكر الصلاة في الباب السابق، وأعادها ههنا اهتمامًا، وتقدم ما في "تقرير شيخ الهند" في الصلاة في الباب السابق، انتهى من هامش "اللامع"

(5)

.

(49 -‌

‌ باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:

19])

قال الحافظ

(6)

: وقد تقدّم شرح الحديث في فرض الخمس، والغرض منه قوله فيه:"لما في قلوبهم من الجزع والهلع"، قال ابن بطال

(7)

: مراده في هذا الباب إثبات خلق الله للإنسان بأخلاقه من الهلع والصبر والمنع والإعطاء إلى آخر ما ذكر.

(1)

"فتح الباري"(13/ 510).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 535).

(3)

"فتح الباري"(13/ 510).

(4)

"عمدة القاري"(16/ 717).

(5)

"لامع الدراري"(10/ 334).

(6)

"فتح الباري"(13/ 511).

(7)

"شرح ابن بطال"(10/ 535).

ص: 824

قال الحافظ: قصد البخاري أن الصفات المذكورة بخلق الله تعالى في الإنسان، لا أن الإنسان يخلقها بفعله، انتهى مختصرًا، وهكذا قال العيني

(1)

.

(50 -‌

‌ باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه)

يحتمل أن تكون الجملة الأولى محذوفة المفعول، والتقدير: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، ويحتمل أن يكون ضمن الذكر معنى التحديث، فعدّاه بـ "عن" فيكون قوله:"عن ربه" متعلقًا بالذكر والرواية معًا، وقد ترجم هذا في "كتاب خلق أفعال العباد"

(2)

بلفظ: "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ويروي عن ربه"، وهو أوضح، وقد قال ابن بطال

(3)

: معنى هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم روى عن ربه السُّنَّة كما روى عنه القرآن، انتهى.

والذي يظهر أن مراده تصحيح ما ذهب إليه كما تقدّم التنبيه عليه في تفسير المراد بكلام الله سبحانه وتعالى، انتهى من "الفتح"

(4)

.

قلت: الظاهر أنه أشار بقوله كما تقدم إلى ما تقدم في "باب قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} " ردًّا على ابن بطال إذ قال: والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله لا يختص بالقرآن، فإنه ليس نوعًا واحدًا كما تقدم نقله عمن قاله، وأنه وإن كان غير مخلوق، وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده، انتهى

(5)

.

ثم يشكل في أحاديث الباب حديث عبد الله بن مغفل في الترجيع، فإنه لا مطابقة له بالترجمة على الظاهر.

قال الحافظ

(6)

: قال ابن بطال

(7)

: وجه دخول هذا الحديث في الباب

(1)

"عمدة القاري"(16/ 718).

(2)

(ص 85).

(3)

"شرح ابن بطال"(10/ 537).

(4)

"فتح الباري"(13/ 512).

(5)

انظر: "فتح الباري"(13/ 467).

(6)

"فتح الباري"(13/ 515).

(7)

"شرح ابن بطال"(10/ 537).

ص: 825

أنه صلى الله عليه وسلم كان أيضًا يروي القرآن عن ربه، وقال الكرماني

(1)

: الرواية عن الربّ أعمّ من أن تكون قرآنًا أو غيره، بدون الواسطة أو بالواسطة، وإن كان المتبادر هو ما كان بغير الواسطة، انتهى.

وفي "التراجم"

(2)

للشاه ولي الله الدهلوي: القراءة يدخل فيها الترجيع وهو من صفاتها، انتهى.

ولا يبعد عندي أن يقال: إن الإمام البخاري أشار بقراءة سورة الفتح إلى الروايات التي وردت في قصة الحديبية من رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، ويستنبط ذلك مما ذكره السيوطي في قصة بيعة الشجرة، وفيه:"ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبيعة" الحديث، انتهى من هامش "اللامع"

(3)

.

(51 -‌

‌ باب ما يجوز من تفسير التوراة. . .) إلخ

غرض الترجمة ظاهر، وهو أنه استدل بذلك على مطلوبه، وهو أن القراءة فعل القاري؛ لأن التفسير لا بدّ أن يكون من فعل المفسر.

قال الحافظ

(4)

: قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} الآية [آل عمران: 93]، وجه الدلالة أن التوراة بالعبرانية، وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية، فقضية ذلك الإذن في التعبير عنها بالعربية، انتهى.

وفي "الفيض"

(5)

: فالتوراة من الله تعالى وتفسيرها من أفعال العباد، وكذا الكتابة من أفعالهم، فهل يقول عاقل: إن التلاوة والكتابة وأمثالهما من صفاته تعالى، وإذن وجب الفرق بين الوارد والمَوْرِد، وفعل العبد

(1)

"شرح الكرماني"(25/ 231).

(2)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 451).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 335).

(4)

"فتح الباري"(13/ 516).

(5)

"فيض الباري"(6/ 609).

ص: 826

وصفة الله تعالى، ويقضي العجب مما نسب إلى الحنابلة من أن المكتوب ما بين الدفتين أيضًا قديم، انتهى.

(52 -‌

‌ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة)

الماهر الحاذق، والمراد به هنا جودة التلاوة مع حسن الحفظ، والمراد بالسفرة الكتبة جمع سافر، مثل كاتب وزنه ومعناه، وهم هنا الذين ينقلون من اللوح المحفوظ، فوصفوا بالكرام، أي: المكرمين عند الله تعالى، والبررة، أي: المطيعين المطهرين عن الذنوب، والمراد بالمهارة بالقرآن جودة الحفظ والتلاوة من غير تردد فيه؛ لكونه يسره الله تعالى عليه كما يسّره على الملائكة فكان مثلها في الحفظ والدرجة، قال ابن بطال

(1)

: لعل البخاري أشار بأحاديث هذا الباب إلى أن الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت به، والجهر به بصوت مطرب بحيث يلتذ سامعه، انتهى.

قال الحافظ

(2)

: والذي قصده البخاري إثبات كون التلاوة فعل العبد، فإنها يدخلها التزيين والتحسين والتطريب، وقد يقع بأضداد ذلك، وكل ذلك دال على المراد، وقد أشار إلى ذلك ابن المنيِّر، فقال

(3)

: ظنّ الشارح أن غرض البخاري جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك، وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالتحسين والترجيع والخفض والرفع ومقارنة الأحوال البشرية، كقول عائشة:"يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض"، فكل ذلك يحقق أن التلاوة فعل القارئ، وتتصف بما تتصف به الأفعال، وتتعلق بالظروف الزمانية والمكانية، انتهى.

وفي "تراجم الشاه ولي الله"

(4)

: قوله: "حسن الصوت بالقرآن يجهر به" فالقرآن مصوت به مجهور متلو بالألسن، انتهى.

(1)

"شرح ابن بطال"(10/ 542).

(2)

"فتح الباري"(13/ 518، 519).

(3)

"المتواري"(ص 537).

(4)

(ص 452).

ص: 827

وفي "تقرير المكي": قوله: الماهر فثبت الكسب، انتهى من "الفتح" وهامش "اللامع"

(1)

.

(53 -‌

‌ باب {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:

20])

قال الحافظ

(2)

: ومناسبة هذه الترجمة وحديثها للأبواب التي قبلها من جهة التفاوت في الكيفية، ومن جهة جواز نسبة القراءة للقارئ، انتهى.

وفي "التراجم"

(3)

للشاه ولي الله قُدِّس سرُّه، قوله:"كذلك أنزلت"، فالقراءة منسوبة إلى العباد مختلفة باختلافهم، انتهى.

(54 -‌

‌ باب قول الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} [القمر: 17]. . .) إلخ

مناسبة هذا الباب بما قبله من جهة الاشتراك في لفظ التيسير، قال ابن بطال

(4)

: تيسير القرآن تسهيله على لسان القاري حتى يسارع إلى قراءته، فربما سبق لسانه في القراءة، فيجاوز الحرف إلى ما بعده، ويحذف الكلمة حرصًا على ما بعدها.

قال الحافظ: وفي دخول هذا في المراد نظر كبير، انتهى من "الفتح"

(5)

.

قلت: وترجم عليه الإمام البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات"

(6)

: "باب الفرق بين التلاوة والمتلو" قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ. . .} إلخ، ثم قال بعد ذكر عدة آيات: فالقرآن الذي نتلوه كلام الله تعالى وهو متلو بألسنتنا على الحقيقة، مكتوب في مصاحفنا، محفوظ في صدورنا، مسموع بأسماعنا، غير حالٍّ في شيء منها، إذ هو من صفات ذاته غير بائن منه، وهو كما أن البارئ عز وجل معلوم بقلوبنا، مذكور بألسنتنا، مكتوب في

(1)

"لامع الدراري"(10/ 336).

(2)

"فتح الباري"(13/ 521).

(3)

(ص 454).

(4)

"شرح ابن بطال"(10/ 550).

(5)

"فتح الباري"(13/ 521).

(6)

"كتاب الأسماء والصفات"(ص 250).

ص: 828

كتبنا، معبود في مساجدنا، مسموع بأسماعنا غير حال في شيء منها، وأما قرائتنا وكتابتنا وحفظنا فهي من اكتسابنا، واكتسابنا مخلوقة لا شك فيه، انتهى.

قال الحافظ

(1)

نقلًا عن البيهقي: مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسُّنَّة أن القرآن كلام الله، وهو صفة من صفات ذاته، وأما التلاوة فهم على طريقتين: منهم من فرّق بين التلاوة والمتلو، ومنهم من أحَبَّ تركَ القول فيه، وأما ما نقل عن الإمام أحمد أنه سوّى بينهما فإنما أراد حسم المادة؛ لئلا يتدرع أحد إلى القول بخلق القرآن، انتهى.

(55 -‌

‌ باب قول الله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]) إلخ

وفي حاشية النسخة "الهندية"

(2)

عن "الخير الجاري": غرضه أن القرآن كان قبل النزول مسطورًا في اللوح، انتهى.

قلت: هو كما قال، ولذا ذكر المصنف تفاصيل الكتابة وغيرها، قال الحافظ

(3)

: قال البخاري في "خلق أفعال العباد" بعد أن ذكر هذه الآية والذي بعدها: قد ذكر الله أن القرآن يحفظ ويسطر، والقرآن الموعى في القلوب المسطور في المصاحف المتلو بالألسنة كلام الله ليس بمخلوق، وأما المداد والورق والجلد فإنه مخلوق، انتهى.

وقال

(4)

في "باب {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. . .} [البقرة: 22] " إلخ: ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال: الأول: قول المعتزلة أنه مخلوق. الثاني: قول الكلابية أنه قديم قائم بذات الرب، ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه. والثالث:

(1)

"فتح الباري"(13/ 492).

(2)

"صحيح البخاري بحاشية السهارنفوري"(14/ 723).

(3)

"فتح الباري"(13/ 522).

(4)

"فتح الباري"(13/ 493).

ص: 829

قول السالمية أنه حروف وأصوات قديمة الأعين، وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة. والرابع: قول الكرامية أنه محدث لا مخلوق. والخامس: أنه كلام الله غير مخلوق، إنه لم يزل يتكلم إذا شاء نصّ على ذلك أحمد في "كتاب الرد على الجهمية"، وافترق أصحابه فرقتين ذكرهما الحافظ، ثم قال: والذي استقرّ عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة، إلى آخر ما بسط.

قوله: (وليس أحد يزيل لفظ كتاب. . .) إلخ، هذا أحد القولين في تفسير الآية من أن التحريف وقع باعتبار المعنى فقط، ومال الجمهور إلى أن التحريف منهم وقع في الألفاظ أيضًا، كما بسط في الحاشية، وقال مولانا الشيخ أنور

(1)

: اعلم أن أقوال العلماء في وقوع التحريف ودلائلهم كلّها قد قضى عنه الوطر المحشيُّ فراجعه.

والذي ينبغي فيه النظر ههنا أنه كيف ساغ لابن عباس إنكار التحريف اللفظي، مع أن شاهد الوجود يخالفه، كيف! وقد نعى عليهم القرآن أنهم كانوا يكتبون بأيديهم، ثم يقولون:{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهل هذا إلا تحريف لفظي، ولعل مراده أنهم ما كانوا يحرفون قصدًا، ولكن سلفهم كانوا يكتبون مرادها كما فهموه، ثم كان خلفهم يُدخلونه في نفس التوراة، فكان التفسير يختلط بالتوراة من هذا الطريق، انتهى.

وكتب الشيخ قُدِّس سرُّه في "اللامع"

(2)

: قوله: "وليس أحد. . ." إلخ، يعني: أن تصرفهم إنما كان في بيان المعنى، وأما كلام الله تعالى فأكرم من أن يغيره أحد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، ولله الحمد على ما أولى، فنعم ما أولى ونعم المولى، وفق الله تعالى للإتمام سابع عشر جمادى الثانية من شهور 1313 هـ، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 612، 613).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 382 - 384).

ص: 830

قلت: وهذا آخر ما أفاده الشيخ القطب الكَنكَوهي نوَّر الله مرقده بتقرير البخاري المطبوع باسم "لامع الدراري"، وقد بقيت في البخاري ثلاثة أبواب، لم يتعرض لها الشيخ قُدِّس سرُّه لظهور مقاصدها مما أفاده من كتاب الرد إلى ههنا مرارًا من غرض الإمام البخاري من هذه التراجم، انتهى من هامش "اللامع". وقد ذكر الكلام فيه على هذه الأبواب إلى آخر الكتاب مبسوطًا ومفصلًا فارجع إليه.

(56 -‌

‌ باب قول الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:

96])

قال الحافظ

(1)

: ذكر ابن بطال

(2)

عن المهلب: أن غرض البخاري بهذه الترجمة إثبات أن أفعال العباد وأقوالهم مخلوقة لله تعالى، انتهى.

وقال القسطلاني

(3)

تبعًا للحافظ: قال الشمس الأصفهاني في تفسير قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} أي: عملكم، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأنها مكتسبة للعباد، حيث أثبت لهم عملًا، فأبطلت هذه الآية مذهب القدرية والجبرية معًا، انتهى.

وقال شيخ مشايخنا الدهلوي في "تراجمه"

(4)

تحت هذه الترجمة: أي: الله خالق أعمال العباد، والقراءة عمل من أعماله، ويردّ عليه "أحيوا ما خلقتم"، فإنه يدلّ على أن الخلق ينسب إلى العباد، والجواب أنهم منسوب إليهم بمعنى غير منسوب إليهم

(5)

بمعنى آخر، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنا حملتكم"، وقوله في الكهان:"ليسوا بشيء"، انتهى.

(1)

"فتح الباري"(13/ 528).

(2)

"شرح ابن بطال"(10/ 553).

(3)

"إرشاد الساري"(15/ 613).

(4)

"شرح تراجم أبواب البخاري"(ص 463).

(5)

كذا في الأصل، وهو تحريف كما هو ظاهر.

ص: 831

قوله: (فأمر لنا بخمس ذود. . .) إلخ، قال العلامة السندي

(1)

: هو بإضافة خمس إلى ذود، وذود جمع ناقة معنى، وإضافة اسم العدد إليه تفيد أن آحادها خمس، كل واحد من تلك الآحاد ناقة لا ذود، إلى آخر ما بسط في ضبط هذا اللفظ وإعرابه ومعناه، فارجع إليه لو شئت.

(57 -‌

‌ باب قراءة الفاجر والمنافق. . .) إلخ

غرض الترجمة ظاهر، وهو أن التفاوت في قراءتهم باعتبار أفعالهم، والمتلو واحد لا تفاوت فيه، ولا يبعد أيضًا أن يقال: إن الإمام البخاري أشار بالترجمة إلى الردّ على ما نقل عن محمد بن أسلم الطوسي، كما حكاه عنه الحافظ في موضع آخر، وتقدم مبسوطًا في مقدمة "اللامع" من أنه قال: الصوت من المصوت كلام الله، وهي عبارة رديئة لم يرد ظاهرها، وإنما أراد نفي كون المخلوق متلوًّا، وقد وقع ذلك لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، ثم رجع، وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة، ثم قال: إن قول من قال: إن الذي يسمع من القاري هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف، ولا قاله أحمد، ولا أئمة أصحابه، وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله: من قال: "لفظي بالقرآن مخلوق" فهو جهمي، فظنوا أنه سوّى بين اللفظ والصوت، ولم يُنْقل عن أحمد في الصوت ما نقل عنه في اللفظ، بل صرّح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ، إلى آخر ما تقدم في مقدمة "اللامع"

(2)

في بيان ردّ ما نقم على البخاري.

قوله: (فيقرقرها. . .) إلخ، اختلف في هذا الحديث في موضعين: الأول: في لفظ "يقرقر" بالقافين والرائين، كما في حديث الباب، وتقدم في "بدء الخلق" في "باب صفة إبليس وجنوده" بلفظ:"وتقرها" بقاف وشدة

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 309).

(2)

انظر: "لامع الدراري"(1/ 56، 57) و (10/ 389، 390).

ص: 832

راء، وتقدم البسط في هامش "اللامع" في هذا الاختلاف ومعناه، واختلفوا في معنى اللفظ الثاني على قولين: أحدهما "يقرها" أي: يصبها، تقول: قررت على رأسه دلوًا إذا صببته، والثاني:"يقرها" يصوتها، يقال: قرّ الطائر إذا صوّت وفسروا اللفظ الأول بقولهم: يقرقرها، أي: يرددها، يقال: قرقرت الدجاجة قرقرةً إذا رددت صوتها.

والموضع الثاني: اختلافهم في لفظ "الدجاجة" و"الزجاجة"، وبسط في هامش "اللامع" في "باب صفة إبليس" اختلاف المحدثين في تصحيح أحد اللفظين وتصحيفه، إلى آخر ما ذكر في هامش "اللامع"

(1)

في موضعين ههنا، وفي "بدء الخلق".

أما مناسبة الحديث بالترجمة فقال الحافظ

(2)

: تعرض له ابن بطال ولخصه الكرماني، وقال: لمشابهة الكاهن بالمنافق من جهة أنه لا ينتفع بالكلمة الصادقة لغلبة الكذب عليه ولفساد حاله، كما أن المنافق لا ينتفع بقراءته لفساد عقيدته، والذي يظهر لي من مراد البخاري أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن فتختلف تلاوتهما، والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة لم يقع فيه تخالف، وكذلك الكاهن في تلفظه بالكلمة من الوحي التي يخبره بها الجني مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك فتفاوتا، انتهى.

قوله: (لا يجاوز تراقيهم) بسط الكلام في شرحه وفيما يستفاد من هذا الحديث في هامش "اللامع"

(3)

، فليراجع.

(1)

انظر: "لامع الدراري"(10/ 291).

(2)

"فتح الباري"(13/ 536)، و"شرح ابن بطال"(10/ 557)، و"شرح الكرماني"(25/ 247).

(3)

"لامع الدراري"(10/ 392).

ص: 833

(58 -‌

‌ باب قول الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ. . .} [الأنبياء: 47]) إلخ

قال صاحب "الفيض"

(1)

: يريد أن أفعالنا متميزة من القرآن غاية التمييز حتى إن أفعالهم ينصب لها الميزان، وأما القرآن فمن يزعم أنه يوضع له الميزان، فافترقا من كل وجه، انتهى.

والظاهر أن هذا الباب ردّ على المعتزلة حيث أنكروا الميزان.

قال الحافظ

(2)

: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السُّنَّة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل، فخالفوا الكتاب والسُّنَّة؛ لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة؛ ليكونوا على أنفسهم شاهدين، وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، كما روي عن مجاهد، والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وأخرج اللالكائي في "السُّنَّة" عن سلمان: قال: "يوضع الميزان، وله كفتان، لو وضع في أحدهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعته"، وعن الحسن قال:"له لسان وكفتان"، انتهى مختصرًا.

وفي "شرح العقائد النسفية"

(3)

: الوزن حق، والميزان عبارة عما يعرف به مقادير الأعمال، والعقل قاصر عن إدراك كيفيته، وأنكرته المعتزلة، انتهى.

وفي هامشه: قالوا: المراد بالوزن في الآية العدل، وأن ميزان الألوان هو البصر، وميزان الأصوات هو السمع، وميزان المعقولات هو العقل، فلذا ذكر بلفظ الجمع، انتهى.

(1)

"فيض الباري"(6/ 616).

(2)

"فتح الباري"(13/ 538، 539).

(3)

"شرح العقائد النسفية"(ص 102).

ص: 834

وبسط الكلام على هذه المباحث صاحب "اليواقيت والجواهر"

(1)

في المبحث الثامن والستين في بيان أن الحوض والصراط والميزان حق، فارجع إليه لو شئت التفصيل.

قال الكرماني

(2)

: قال أهل السُّنَّة: الميزان جسم محسوس ذو لسان وكفتين، والله تعالى يجعل الأعمال والأقوال كالأعيان موزونة، أو توزن صحفها، وقيل: هو ميزان كميزان الشعر، وفائدته إظهار العدل، والمبالغة في الإنصاف والإلزام قطعًا لأعذار العباد، انتهى.

ثم اختلف في لفظ الموازين هل هو جمع موزون أو جمع ميزان، وعلى الثاني اختلف في وجه الجمع، وفي هامش "شرح العقائد"

(3)

: المشهور أن الميزان واحد، وأجيب عنه بأن الجمع للتعظيم، وقيل: لكل مكلف ميزان، والظاهر أن يعتبر تعدده باعتبار الأشخاص وإن اتحد ذاته، انتهى.

ومال العلامة الرازي في "التفسير الكبير"

(4)

إلى تعدد الميزان إذ قال: الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد لورود صيغة الجمع في الآيات، فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان آخر، انتهى.

قوله: (وإن أعمال بني آدم توزن) أشار بذلك الإمام البخاري إلى اختيار أحد القولين المشهورين في أن الموزون الأعمال أو الصحف، واختار المؤلف منهما القول الأول، كما صرّح به ههنا في الترجمة، واستدلّ عليه بالحديث الوارد في الباب، وههنا قول ثالث هو أن الموزون هو نفس الأشخاص العاملين، وعبارة الخازن

(5)

: ثم اختلف العلماء في

(1)

"اليواقيت والجواهر"(2/ 160).

(2)

"شرح الكرماني"(25/ 248، 249).

(3)

"شرح العقائد النسفية"(ص 102).

(4)

"التفسير الكبير"(14/ 23).

(5)

"تفسير الخازن"(2/ 211).

ص: 835

كيفية الوزن، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس رضي الله عنهما أن الأعمال تتصور صورًا، وتوضع تلك الصور في الميزان، فيخلق الله في تلك الصور ثقلًا وخفة، ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص، انتهى.

وحكى الحافظ

(1)

عن الطيبي: والحق عند أهل السُّنَّة أن الأعمال حينئذ تتجسد أو تجعل في أجسام، فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن، ورجّح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف، ونقل عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: توزن صحائف الأعمال، قال: فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيرتفع الإشكال، ويقويه حديث البطاقة، إلى آخر ما بسط في هامش "اللامع"

(2)

.

وقد اتفق لي زيارة نسخة خطية قديمة لصحيح البخاري التي قرأها شيخ شيوخنا المفتي إلهي بخش الكاندهلوي على شيخه الشاه عبد العزيز الدهلوي، فوجدت على "هامشه" بخط المفتي المذكور مما يتعلق بهذا الباب، وهذا نصه: قوله: "باب قول الله. . ." إلخ، هذا إشارة إلى أن الكلام داخل في الأعمال، وأنه يوزن كما يوزن الأعمال، ولذلك أورد حديث "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن"، وختم بهذا الحديث كما افتتح بحديث "الأعمال بالنيات" أي: كما ينبغي ابتداء الأعمال بالإخلاص، كذلك ينبغي "ختمها بالتسبيح والتحميد". انتهى.

قلت: ما أفاده الشيخ قُدِّس سرُّه لطيف جدًا، وهو أنه أشار بهذه العبارة الوجيزة إلى أن الغرض من الترجمة أمران: الأول: إثبات وزن الأعمال، وأنها توزن لا كما زعمت المعتزلة من أن المراد بالوزن العدل

(1)

"فتح الباري"(13/ 539).

(2)

"لامع الدراري"(10/ 394 - 397).

ص: 836

كما تقدم، والثاني: التنبيه على أن أقوال المرء وكلامه أيضًا داخلة في الأعمال، إذ القول عمل من الأعمال، فكما أنها توزن الأفعال، كذلك توزن الأقوال وما يتكلم به الإنسان، وحديث الباب صريح في الجزء الثاني حيث قال في حق كلمتان أنهما ثقيلتان في الميزان، وأما بقية الأعمال فيقاس على ذلك.

وفي هامش "اللامع"

(1)

: ثم اختلفوا في أنه هل يوزن الإيمان أم لا؟ وذكر السيوطي في "الحاوي" منظومًا بسيطًا في السؤال والجواب عن ذلك، وحاصل الجواب أن الحكيم الترمذي صرّح في "نوادره"، وعنه أخذ القرطبي في "تذكرته": أن الوزن يختص بالأعمال، والإيمان لا يوزن؛ لأنه لا بد للوزن من وجود ما يقابله، ومقابل الإيمان ليس إلا الكفر، والإيمان لا يجتمع مع الكفر أصلًا، فلا ضدّ له يوزن بمقابله، وأما ما ورد في حديث البطاقة فالمراد به ذكره هذه الكلمة بعد الإيمان، وهو من أعظم الحسنات، فتوزن مع الحسنات، انتهى.

قال العلامة القسطلاني

(2)

: ثم إن ظاهر قول البخاري: "وأن أعمال بني آدم وقولهم توزن" التعميم، وليس كذلك، بل خص منهم من يدخل الجنة بغير حساب وهم السبعون ألفًا، كما في البخاري، فإنه لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا، وإنما هي براءات مكتوبة كما قاله الغزالي، وكذلك من لا ذنب له إلا الكفر فقط ولم يعمل حسنة، فإنه يقع في النار من غير حساب ولا ميزان، انتهى.

وقال صاحب "الجمل"

(3)

: ولا يكون الوزن في حق كل أحد؛ لأن من لا حساب عليه لا يوزن له كالأنبياء والملائكة، والوزن يكون للمكلّفين من الجن والإنس، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(10/ 401، 402).

(2)

"إرشاد الساري"(15/ 630).

(3)

"الفتوحات الإلهية"(3/ 131).

ص: 837

وأما براعة الاختتام فقد تقدم في مقدمة "اللامع"

(1)

من كلام الحافظ حيث قال: والتسبيح مشروع في الختام، فلذلك ختم به "كتاب التوحيد"، والحمد لله بعد التسبيح آخر دعوى أهل الجنة، قال الله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي وابن حبان وغيرهما عنه مرفوعًا:"من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك" هذا ما قاله الحافظ ابن حجر

(2)

.

وأما براعة الاختتام على رأي هذا العبد الضعيف من أن المصنف رحمه الله يذكر الرجل وقارئ كتابه في آخر كل كتاب موته، فهذا ظاهر من هذا الباب، وذلك أن الغرض منه إثبات وزن الأعمال، والوزن إنما يكون يوم القيامة وبعد الممات.

قال الكرماني: ذكر هذا الباب ليس مقصودًا بالذات، بل هو لإرادة أن يكون آخر الكلام التسبيح والتحميد، كما أنه ذكر حديث الأعمال بالنيات في أول الكتاب لإرادة بيان إخلاصه فيه.

قال الحافظ

(3)

: كذا قال، والذي يظهر أنه قصد ختم كتابه بما دلّ على وزن الأعمال؛ لأنه آخر آثار التكليف، فإنه ليس بعد الوزن إلا الاستقرار في إحدى الدارين إلى أن يريد الله إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين، فيخرجون من النار بالشفاعة كما تقدم بيانه.

قال الكرماني

(4)

: وأشار أيضًا إلى أنه وضع كتابه قسطاسًا وميزانًا يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله تعالى عليه، وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه أوّلًا وآخرًا، تقبل الله تعالى منه وجزاه أفضل الجزاء، انتهى.

(1)

"لامع الدراري"(1/ 112).

(2)

"فتح الباري"(13/ 544).

(3)

"فتح الباري"(13/ 542).

(4)

"شرح الكرماني"(25/ 251).

ص: 838

وقال السندي

(1)

: "باب قول الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]. . ." إلخ، أي: باب أن الوزن حق، وهذا من مسائل التوحيد، وبه ختم "صحيحه" لأن الأعمال وزنها وثقلها وخفتها على حسب نية العامل لحديث "إنما الأعمال بالنيات"، ففي هذه المسائل إرشاد إلى حسن النية في الأعمال، كما في أول الكتاب إشارة إلى ذلك بإيراده حديث "إنما الأعمال بالنيات"، فصار من ذلك حسن الختام لما فيه من موافقة البداية النهاية، وفيه إشارة إلى المداومة على حسن النية بدايةً ونهايةً، وأيضًا أول العمل هو النية وآخره هو الوزن، وليس بعده إلا الجزاء، فأتى في موضع الكتاب الموضوع للعمل على ما عليه العمل في بدايته ونهايته، فأتى ببدايته وهي النية في بداية الكتاب، ونهايته وهو الوزن في نهاية الكتاب، فما أحسن نظره وأدقّ، انتهى.

وهذا آخر ما أردت ذكره في شرح تراجم "صحيح البخاري"، وبيان غرض المؤلف منها مما وجدت في شروح البخاري صريحًا أو استنباطًا أو كان مما ظهر لي خلا ما ذكره الشرَّاح، فإن كان ما بدا لي في تعيين غرض الإمام البخاري صحيحًا فمن الله تعالى وحسن توفيقه، وإن كان غير صحيح فمني، والإمام البخاري منه بريء.

وقد أمعن النظر في مسودات هذه التراجم وتوضيح إجمالها والمراجعة إلى الأصول، وذكر المآخذ الأعزان المكرمان ختني المولوي الحافظ محمد عاقل صدر المدرسين بمدرسة مظاهر علوم، والختن الآخر المولوي الحافظ محمد سلمان من أكابر المدرسين بالمدرسة المذكورة، جزاهما الله عني وعن سائر المستفيدين بهذه الأجزاء أحسن الجزاء، وبارك في علومهما، وأذاقهما شراب حبه.

وقد وقع فراغهما من هذا التبييض، والنظر الثاني يوم الخميس في

(1)

"صحيح البخاري بحاشية السندي"(4/ 311).

ص: 839

العشرين مضت من شهر رمضان سنة إحدى وأربع مائة بعد ألف، وقد كان بداية هذا العمل ضحى الأربعاء في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة تسعين وثلاث مائة وألف حذاء الأقدام العالية المباركة الشريفة في المسجد النبوي على صاحبه ألف ألف صلاة وتحية.

* * *

ص: 840