الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
وتشتمل على:
• الافتتاحية.
• أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
• خطة البحث.
• منهج البحث.
• شكر وتقدير.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الإله الواحد الأحد، ذي الجلال والإكرام، يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وهو الملك العزيز العلام، يدعو عباده إلى دار السلام، يهدي من يشاء بفضله سبل السلام، ويضل من يشاء بعدله، وهو عزيز ذو انتقام، شرع لنا الشريعة الحنِيْفِيَّة السَّمْحَاء، فنسخ بها الشرائع ما قبل الإسلام
(1)
، شريعةً أنزلها متدَرَّجة حسب ما كان يقتضيه واقع الحال والمقام، فحثت على كل يسر وطيب وكرم، وحسن خلق وحب ووئام، ورفعت الحرج والعسر، ونهت عن كل خبيث ومكروه وحرام. وأرسل إلينا أفضل رسله على ممرّ الليالي والأيام، فوضع به الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا بما ارتكبوه من الخطيئة والأثام. وأنزل إلينا أفضل كتبه مهيمناً على جميع الكتب، لا ينسخه أي دين، أو قانون، أو نظام.
فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه كل حين ووقت، وكلما شرقت شمس أو دجا الظَّلام. حمدَ عبدٍ مقرٍّ بجزيل العطاء والإفضال والإنعام.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، أفضل الرسل وخير الأنام، الذي محى الله به الكفر،
(1)
الإسلام وإن كان يطلق على الشرائع السماوية المسابقة، إلا أنه بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصبح لقبا للشريعة التي أنزلها الله عليه صلى الله عليه وسلم.
والشرك، والظلم، والظلمات، وغياهب الظَّلام، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين البررة الكرام، وعلى من اتبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم الحشر والقيام.
أما بعد:
فإن من أكبر نعم الله على الإنسان نعمة الإسلام، وقد أرسل الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لأمته هادياً وبشيراً، أرسله بالحنيفيَّة السّمحة، ليلها كنهارها، وأنزل عليه كتابه المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ليكون لهم نوراً وهدى، ليهتدوا به، وشفاء لما في الصدور.
وقد بين الله في كتابه المجيد، منزلة العلم وأهله، فقال سبحانه وتعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}
(1)
.
(2)
.
(3)
.
وقد خص سبحانه وتعالى من بين العلوم علم الفقه في الدين؛ حيث ندب عباده المؤمنين لينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، وأن
(1)
سورة الفاطر، الآية (28).
(2)
سورة الزمر، الآية (9).
(3)
سورة المجادلة، الآية (11).
ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، فقال:
(1)
.
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية التفقه في الدين بقوله: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»
(2)
.
حيث بين أن التفقه في الدين من أمارات إرادة الخير بالمرء.
ولما كان علم الفقه في دين الله بهذه المثابة المرموقة والدرجة الرفيعة كان من أولى ما اشتغل به المحققون، وأنفع ما استفرغ الوسع في تحصيله المحصلون، وأجدر ما بذل الجهد في إدراكه المجتهدون.
وقد عرف علماء الإسلام منزلة هذا العلم العظيم، واحتياج الناس إليه في كل الحالات؛ لما به من معرفة الحلال من الحرام، والتمييز بين الجائز والممنوع من الأحكام، فصرفوا في سبيل تحصيله الغالي والنفيس، واشتغلوا بدراسته وتدريسه وتأليف الكتب فيه، وبيان قواعده و ضوابطه، ليلاً ونهاراً، وجِيلاً بعد جِيل، فوصل إلينا من جهودهم الحميدة إنتاج علمي فقهي عظيم، امتاز بالبهاء والصفاء والدقة، شاملاً لجميع نواحي الحياة، وكافة المستويات،
(1)
سورة التوبة، الآية (122).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 21، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ح (71)، ومسلم في صحيحه 4/ 362، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، ح (1037)(98).
مستمداً من كتاب الله المحفوظ بحفظ الله، ومستمداً من السنة النبوية المطهرة، التي نطق بها أعلم الخلق، وأنصحهم، وأرحمهم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وَحْي يُوْحى.
وكان مما يُعرف به الحلال والحرام، ويميز به بين الجائز والممنوع من الأحكام، معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة؛ ولذلك اهتم به علماؤنا الأوائل، وسلفنا الأفاضل، فصنفوا فيه الكتب، وألفوا فيه المؤلفات. وقد كان تأليفهم فيه مشتملاً على نوعين؛ حيث ألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وبعضهم ألف في الناسخ والمنسوخ من السنة، كما أن بعضهم ألف في كلا النوعين تأليفاً مفرداً ومستقلاً.
ويدل كذلك على أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، أن أهل العلم كانوا لا يحلون لأحد أن يفتي أو يفسر القرآن، ما لم يعرف الناسخ والمنسوخ
(1)
.
ولما كان العلماء السابقون ألفوا وصنفوا في الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، ولم أجد من ألف وصنف في الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ- وإن كان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة يدل عليه ضمناً-
(2)
أردت أن
(1)
انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 28 - 29؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/ 40.
(2)
إلا أنه يوجد مسائل كثيرة، قد صرح فيها بالنسخ بعض أهل العلم في كتب الفقه وغيرها، وليس لها ذكر في الكتب المؤلفة في الناسخ والمنسوخ من القرآن، أو الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، و سيظهر هذا من خلال المسائل التي نقوم بدراستها.
أكتب في هذا الموضوع، مستعيناً بالله، وذلك لأهمية هذا الموضوع، ولما فيه من الفوائد التي يدل على بعضها بعض ما يذكر في أسباب اختياره.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره
اخترت أن يكون موضوع بحثي المقدم لنيل درجة العالمية العالية (الدكتواره)، بعنوان:(الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ، وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء، جمعاً ودراسة)، وذلك لأهمية هذا الموضوع، والأسباب الآتية:
أولاً: إن معرفة الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، من الأهمية بمكان؛ وذلك أن الشريعة الإسلامية، جاءت متَدَرِّجَة حسب المصلحة التي كانت تقتضيه الحال والوقائع، فكان من الضروري أن يوجد فيها الناسخ والمنسوخ تبعاً لاختلاف الأحوال والوقائع.
كما أن في وجود الناسخ والمنسوخ، في الشريعة الإسلامية، عند نزولها، حِكَماً بالغة، منها: معرفة وتمييز المؤمن من غيره؛ حيث إن المؤمن يُسَلِّمُ ويؤمن بأن كل ذلك من عند الله تعالى. أما الكافر والمنافق فيعترض، وينقلب على عقبيه، قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
(1)
.
(2)
.
كما أن في ذلك إظهار قدرة الله وأن له ملك السموات والأرض، وأنه هو المالك لكل شيء والقادر عليه، فله أن يقرر ويثبت ما يشاء، وينسخ ويزيل ويمحو ما يشاء، قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}
(3)
.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية يوجد فيها الناسخ والمنسوخ كان من اللازم على علمائها وفقهائها معرفة ناسخها ومنسوخها؛ حتى لا يعملوا أو يفتوا بالمنسوخ المتروك؛ ولذلك جاءت آثار عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم في أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ في الشريعة، حيث لم يجوزوا
(1)
سورة النحل، الآية (101، 102).
(2)
سورة البقرة، الآية (143).
(3)
سورة البقرة، الآية (106، 107).
الإفتاء إلا لمن يعرف الناسخ والمنسوخ
(1)
، ومن تلك الآثار:
أ-عن أبي عبد الرحمن السلمي
(2)
، قال: انتهى علي بن أبي طالب
(3)
رضي الله عنه إلى رجل يعظ الناس، فقال:(أعلمت الناسخ والمنسوخ؟) قال: لا. قال: (هلكت وأهلكت)
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد، فإذا رجل يخوّف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكّر الناس، فقال:(ليس برجل يذكر الناس، ولكنه يقول: أنا فلان بن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه، أتعرف الناسخ والمنسوخ؟) فقال: لا.
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 5 - 6؛ البرهان في علوم القرآن 2/ 29؛ الإتقان في علوم القرآن 2/ 40.
(2)
هو: عبد الله بن حبيب بن ربيعة- بالتصغير-أبو عبد الرحمن السلمي، الكوفي القاري. ثقة، روى عن: عمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، وغيرهم، وروى عنه: سعيد بن جبير، والنخعي، وغيرهما، وتوفي بعد السبعين. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 164؛ التقريب 1/ 485.
(3)
هو: علي بن أبي طالب-عبد مناف-بن عبد المطلب بن هاشم، أبو الحسن الهاشمي، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين، شهد بدراً والمشاهد إلا غزوة تبوك فقد خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبناه الحسن والحسين، وغيرهما، وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر، وقتل في رمضان سنة أربعين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 10؛ الإصابة 2/ 1294؛ تهذيب التهذيب 7/ 284.
(4)
أخرجه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 9، والحازمي في الاعتبار ص 48، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 150.
قال: (فاخرج من مسجدنا، ولا تذكّر فيه)
(1)
.
ب- عن حذيفة
(2)
رضي الله عنه أنه قال: (إنما يفتي الناسَ أحدُ ثلاثة: رجل علم ناسخ القرآن من منسوخه- قالوا: ومن ذاك؟ قال: عمر بن الخطاب
(3)
، قال: - وأمير لا يخاف، وأحمق متكلف)
(4)
.
ج-عن ابن عباس
(5)
رضي الله عنهما-أنه مرّ بقاص يقصّ، فركضه
(1)
أخرجه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 9، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 152.
(2)
هو: حذيفة بن اليمان بن جابر، العبسي، حليف بني عبد الأشهل، أسلم قبل بدر، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب سره، وروى عنه: جابر، وأبو الطفيل، وغيرهما. وتوفي سنة ست وثلاثين. انظر: الاصابة 1/ 362؛ تهذيب التهذيب 2/ 203.
(3)
هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، القرشي العدوي، أبوحفص، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، أسلم بعد أربعين رجلاً، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه: عثمان، وعلي، وغيرهما، وكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر، واستشهد يوم الأربعاء في شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. انظر: الاستيعاب 2/ 458؛ تذكرة الحفاظ 1/ 5؛ الإصابة 2/ 1307.
(4)
أخرجه الدارمي في سننه 1/ 73، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن- وفيه:(ورجل قاض لا يجد من القضاء بداً) _ص 10، والحازمي في الاعتبار ص 49، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 155.
(5)
هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عمر، والمسور بن مخرمة، وغيرهما، وكان يقال له حبر الأمة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين، وتوفي سنة ثمان وستين. انظر: الاصابة 2/ 1074؛ تهذيب التهذيب 5/ 246.
برجله، فقال:(تدري ما الناسخ من المنسوخ؟) قال: وما الناسخ من المنسوخ؟ قال: (وما تدري ما الناسخ من المنسوخ؟) قال: لا. قال: (هلكت وأهلكت)
(1)
.
وقد جعل ابن عباس-رضي الله عنهما معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه من الحكمة التي ذكر الله أنّ من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً، فقال في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
(2)
. قال: (المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، وحرامه، وحلاله، وأمثاله)
(3)
.
كما أن الفقهاء والمجتهدين راعوا هذه الأهمية فجعلوا من شروط الاجتهاد معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك، وذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ
(4)
.
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 50، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 155، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 159:(رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو راشد مولى بني عامر، ولم أر من ذكره).
(2)
سورة البقرة، الآية (269).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان 3/ 113، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 9، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 156.
(4)
انظر: البحر المحيط للزركشي 8/ 235؛ إرشاد الفحول للشوكاني 2/ 210.
قال يحيى بن أكثم
(1)
: (ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً، والعمل به لازم ديانة، والمنسوخ لا يُعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كل عالم علم ذلك؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمراً لم يوجبه الله، أو يضع عنهم فرضاً أوجبه الله)
(2)
.
وقال أبو محمد ابن حزم الظاهري
(3)
: (لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
(4)
. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}
(5)
. فكل ما أنزل الله
(1)
هو: يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن، التميمي المروزي، أبو محمد، القاضي. فقيه، صدوق، روى عن ابن المبارك، وجرير، وغيرهما، وروى عنه: الترمذي، وأبو حاتم، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائتين. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 160؛ التقريب 2/ 297؛ شذرات الذهب 2/ 101.
(2)
انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 28.
(3)
هو: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، القرطبي الظاهري، من شيوخه: يحيى بن مسعود، وأحمد بن محمد الجسور، ومن تلامذته: ابنه أبو رافع، و أبو عبد الله الحميدي، ومن مؤلفاته (المحلى بالآثار) وتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 184؛ شذرات الذهب 3/ 299.
(4)
سورة النساء، الآية (64).
(5)
سورة الأعراف، الآية (3).
تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل.
ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها؛ لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية مَّا أو حديث مَّا، وبين دعوى غيره النسخ في آية مَّا أو حديث مَّا، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى، وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه، فإذا قد صح ذلك وثبت، فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث، فإذا عدم شيء من تلك الوجوه، فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شيء من الآيات أو الأحاديث)
(1)
.
وقال القرطبي
(2)
: (معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتَّب عليه
(1)
الإحكام شرح أصول الأحكام 1/ 497.
(2)
هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله القرطبي، من شيوخه: أحمد بن عمر القرطبي صاحب "المفهم في شرح صحيح مسلم"، ومن مؤلفاته" الجامع لأحكام القرآن"، وتوفي سنة إحدى وسبعين وستمائة. انظر: الديباج المذهب لابن فرحون 2/ 308؛ شجرة النور الزكية ص 197.
من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام)
(1)
.
ومما يدل كذلك على أهمية هذا العلم وعظمة شأنه: أنه ليس كل أحد يُيَسّرُ له حصوله، أو يتمكن من تحصيله؛ إذ كثير من أهل العلم قد اعتبروا معرفة الناسخ والمنسوخ -وخاصة في السنة- من أصعب العلوم.
فقد قال الزهري
(2)
-وهو القائل: (لم يدون هذا العلم أحد قبلي تدويني) -: (أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه)
(3)
.
وقال الحازمي
(4)
: (هو علم جليل، ذو غور وغموض، دارت فيه الرؤوس، و
تاهت
(5)
في الكشف عن مكنونه النفوس، وقد توهم بعض من
(1)
الجامع لأحكام القرآن 2/ 61.
(2)
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، القرشي الزهري، الفقيه أبو بكر، المدني، متفق على جلالته، روى عن: ابن عمر، و أنس، وغيرهما، وروى عنه: عطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 326؛ تهذيب التهذيب 9/ 385.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 2/ 116، والحازمي في الاعتبار ص 44.
(4)
هو: محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمذاني، الحافظ أبو بكر، سمع من أبي الوقت السجزي، وغيره، و جمع وصنف، وبرع في فن الحديث، ومن أشهر مؤلفاته (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) وتوفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة. انظر: سير أعلام النبلاء 21/ 167؛ البداية والنهاية 12/ 357.
(5)
تاهت من تَيَهَ، وهو التحير، والضلال. انظر: مختار الصحاح ص 71؛ المصباح المنير ص 75.
لم يحظ من معرفة الآثار إلا بآثار، ولم يحصل من طرائق الأخبار إلا أخباراً، أن الخطب فيه جليل يسير، والمحصول منه قليل غير كثير.
ومن أمعن النظر في اختلاف الصحابة في الأحكام المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم اتضح له ما قلناه.) -ثم استشهد لقوله بقول الزهري السابق-
(1)
.
ثانياً: إن الفقهاء والمجتهدين-رحمهم الله تعالى-اختلفوا في مسائل كثيرة، وكان أحد أسباب اختلافهم، الاختلاف في الناسخ والمنسوخ
(2)
.
فجمع هذه المسائل، وتحقيق القول فيها، ودراستها دراسة علمية، يحقق فائدة عظيمة للباحث والقارئ؛ وذلك بأنه سيتمكّن من معرفة من قال بالنسخ في المسألة ممن لم يقل به، وما هو دليل كل واحد، وبالتالي سيتمكن من معرفة سبب اختلافهم، وهل المسألة منسوخة في الحقيقة أم لا.
كما أن في ذلك رفعاً للملامة عن من خالف بعض الأحاديث الصحيحة، وذلك ببيان أن مخالفته للحديث وعدم قوله به إنما حصل؛ لأنه اعتبر ذلك الحديث منسوخاً.
ثالثاً: يوجد بعض من تعصب للمذاهب، فردُّوا أحاديث صحيحة، بدعوى أنها منسوخة، من غير أن يعرفوا نسخها وناسخها. كما قال شيخ الإسلام
(3)
رحمه الله: (ونجد كثيراً من الناس ممن يخالف الحديث الصحيح
(1)
الاعتبار ص 44.
(2)
انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ص 33؛ الإيقاف على سبب الاختلاف للسندي ص 36.
(3)
هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، الحراني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس، سمع الحديث من ابن عبد الله الدائم، وغيره، وقل أن سمع شيئا إلا حفظه، وكان إماماً في التفسير عارفاً بالفقه، وباختلاف العلماء وعالماً بالأصول والفروع وسائر العلوم، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. انظر: البداية والنهاية 14/ 154؛ شذرات الذهب 6/ 80.
من أصحاب أبي حنيفة
(1)
، أو غيرهم يقول: هذا منسوخ. وقد اتخذوا هذا محنة كل حديث لا يوافق مذهبهم، يقولون: هو منسوخ، من غير أن يعلموا أنه منسوخ، ولا يثبت ما الذي نسخه، وكذلك كثير ممن يحتج بالعمل من أهل المدينة أصحاب مالك
(2)
، وغيرهم، يقولون: هذا منسوخ)
(3)
.
وإذا كان الأمر كذلك، فجمع هذه المسائل ودراستها دراسة علمية، أمر مهم جدا، حتى تتبين وتظهر المسائل المنسوخة حقيقة، من
(1)
هو: النعمان بن ثابت بن زوطى، أبو حنيفة الكوفي، مولى تيم الله بن ثعلبة، وقيل: إنه من أبناء فارس الأحرار، إمام فقيه مشهور، روى عن عطاء بن أبي رباح، وحماد بن سليمان، وغيرهما، وروى عنه: ابنه حماد، وأبو يوسف القاضي، وغيرهما، وثقه ابن معين، وضعفه النسائي من قبل حفظه، وتوفي سنة خمسين ومائة. انظر: الجواهر المضية 1/ 51 - 57؛ سير أعلام النبلاء 6/ 390؛ ميزان الاعتدال 5/ 390؛ التهذيب 10/ 401.
(2)
هو: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبد الله، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وروى عن نافع، والزهري، وغيرهما. وروى عنه الإمام الشافعي، وابن المبارك، وغيرهما، ومن مؤلفاته (الموطأ) وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 48؛ تهذيب التهذيب 10/ 5.
(3)
مجموع الفتاوى 21/ 150 - 151.
التي ادعي فيها النسخ وتكلف فيها تكلفات وتأويلات بعيدة، لرد الأحاديث الصحيحة، لمجرد التعصب المذهبي.
رابعاً: سيستفيد الباحث من الكتابة في هذا الموضوع فوائد كثيرة، من أهمها: دراسة أحاديث كثيرة، من ناحية التخريج، والحكم عليها، وما تدل عليه من ناسخ أو منسوخ.
خامساً: ولأن هذه المسائل الفقهية التي قيل فيها بالنسخ، متناثرة، ومتفرقة في الكتب الفقهية، وكتب فقه السنة، وشروح كتب الأحاديث، والكتب المؤلفة في الآثار، فأردت جمعها، ودراستها في مؤلف واحد؛ لتكون قريبة التناول سهلة المأخذ، لمن يريدها أو يحتاج إليها.
خطة البحث
تشتمل خطة البحث على: مقدمة، وتمهيد، وخمسة أبواب، وخاتمة، وفهارس علمية.
المقدمة: وتحتوي على: الافتتاحية، وأهمية الموضوع وأسباب اختياره، وخطة البحث، ومنهجه، وشكر وتقدير.
التمهيد: تعريف النسخ، والفرق بينه وبين التخصيص، وبينه وبين البداء، ومشروعيته، والحكمة من وقوعه، وشروطه، وفضيلة علم الناسخ والمنسوخ، وأنواع النسخ وأقسامه، وزمنه، وما يدخله النسخ وما لا يدخله، وطرق معرفته، وبعض من ألف فيه. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف النسخ، والفرق بينه وبين التخصيص، وبينه وبين البداء، و مشروعيته، والحكمة من وقوعه، وشروطه، وفضيلة علم الناسخ والمنسوخ. وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النسخ لغة وشرعاً.
المطلب الثاني: الفرق بين النسخ والتخصيص.
المطلب الثالث: الفرق بين النسخ والبداء.
المطلب الرابع: مشروعية النسخ.
المطلب الخامس: الحكمة من وقوع النسخ.
المطلب السادس: شروط النسخ.
المطلب السابع: فضيلة علم الناسخ والمنسوخ.
المبحث الثاني: أنواع النسخ وأقسامه، وزمنه، وما يدخله النسخ وما لا يدخله، وطرق معرفته، وبعض من ألف فيه. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أنواع النسخ وأقسامه. وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: أنواع النسخ في القرآن.
الفرع الثاني: أنواع نسخ القرآن والسنة.
الفرع الثالث: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي التكليفي.
الفرع الرابع: أنواع النسخ باعتبار البدل.
المطلب الثاني: زمن النسخ.
المطلب الثالث: ما يدخله النسخ وما لا يدخله.
المطلب الرابع: طرق معرفة النسخ.
المطلب الخامس: بعض من ألف في النسخ.
الباب الأول: الطهارة والصلاة، وفيه فصلان:
الفصل الأول: الطهارة. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المياه والأواني، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً.
المطلب الثاني: الانتباذ في الحنتم والدباء والمزفت، والنقير، والشرب منها.
المطلب الثالث: الانتفاع بجلود الميتة.
المطلب الرابع: سؤر الهرة.
المبحث الثاني: آداب قضاء الحاجة، والوضوء، ونواقضه، وفيه أحد عشر مطلباً:
المطلب الأول: البول قائماً.
المطلب الثاني: استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
المطلب الثالث: الوضوء بفضل وضوء المرأة.
المطلب الرابع: الوضوء بنبيذ التمر.
المطلب الخامس: الوضوء لكل صلاة.
المطلب السادس: ذكر الله تعالى بغير وضوء.
المطلب السابع: الوضوء للجنب إذا أراد النوم.
المطلب الثامن: الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع.
المطلب التاسع: الوضوء مما مست النار.
المطلب العاشر: الوضوء من مس الذكر.
المطلب الحادي عشر: الوضوء من مس المرأة.
المبحث الثالث: المسح، والتيمم، والغسل والاستحاضة، وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: المسح على الرجلين.
المطلب الثاني: المسح على الخفين.
المطلب الثالث: التوقيت في المسح على الخفين.
المطلب الرابع: مسح اليدين إلى المناكب في التيمم.
المطلب الخامس: الغسل إذا جامع ولم ينزل.
المطلب السادس: الغسل للجمعة.
المطلب السابع: الغسل من غسل الميت.
المطلب الثامن: غسل المستحاضة لكل صلاة، أو لتجمع به بين الصلاتين.
الفصل الثاني: الصلاة. وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: فرضية الصلاة، والأوقات، والأذان، والإقامة. وفيه اثنا عشر مطلباً:
المطلب الأول: عدد المفروض من الصلوات.
المطلب الثاني: ضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً.
المطلب الثالث: تفضيل الإسفار على التغليس في صلاة الفجر.
المطلب الرابع: تعجيل الظهر في شدة الحر.
المطلب الخامس: صلاة المغرب هل لها وقت واحد أو وقتان.
المطلب السادس: آخر وقت صلاة العشاء الآخرة.
المطلب السابع: صلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين.
المطلب الثامن: إدراك الصبح بإدراك الركعة قبل طلوع الشمس، والعصر بإدراك الركعة قبل غروبها.
المطلب التاسع: الصلاة عند انتصاف النهار.
المطلب العاشر: الصلاة بعد العصر.
المطلب الحادي عشر: أن يؤذن أحد ويقيم آخر.
المطلب الثاني عشر: إفراد الإقامة.
المبحث الثاني: طهارة ما يصلي فيه وعليه، واستقبال القبلة. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة.
المطلب الثاني: رش الماء على بول الكلب إذا بال في المسجد.
المطلب الثالث: بول ما يؤكل لحمه.
المطلب الرابع: الصلاة في المقبرة والحمام وأعطان الإبل وغير ذلك مما ورد النهي عن الصلاة فيها.
المطلب الخامس: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام.
المبحث الثالث: صفة الصلاة، وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح.
المطلب الثاني: الجهر بالتسمية في الصلاة.
المطلب الثالث: التطبيق في الركوع.
المطلب الرابع: القنوت في صلاة الفجر.
المطلب الخامس: الدعاء على آحاد الكفرة في القنوت.
المطلب السادس: القنوت بعد الركوع.
المطلب السابع: وضع اليدين قبل الركبتين عند السجود.
المطلب الثامن: الإقعاء في الصلاة.
المبحث الرابع: سجودا السهو، والتلاوة. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: عمد الكلام وسهوه في الصلاة.
المطلب الثاني: سجود السهو بعد السلام.
المطلب الثالث: السجدة في سورة النجم، والانشقاق، والعلق.
المبحث الخامس: صلاة التطوع، وما يكره في الصلاة أو يفسدها. وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: حكم قيام الليل.
المطلب الثاني: الوتر على الراحلة.
المطلب الثالث: النفخ في الصلاة.
المطلب الرابع: الالتفات في الصلاة.
المطلب الخامس: حمل الصبي في الصلاة.
المطلب السادس: قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة.
المطلب السابع: قتال المار بين يدي المصلي.
المطلب الثامن: الحكم إذا صلى وأمامه تصاوير.
المبحث السادس: صلاة الجماعة، وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: حكم صلاة الجماعة.
المطلب الثاني: موقف المأمومين إذا كانوا اثنين.
المطلب الثالث: حكم إذا صلى المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام.
المطلب الرابع: كيفية صلاة المأموم إذا صلى الإمام جالساً.
المطلب الخامس: القراءة خلف الإمام.
المطلب السادس: صلاة المفترض خلف المتنفل.
المطلب السابع: ما يعاد من الصلوات مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في رحله.
المبحث السابع: الجمعة، والعيدين. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خطبة الجمعة بعد الصلاة.
المطلب الثاني: تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب.
المطلب الثالث: خروج النساء إلى العيدين.
المبحث الثامن: قضاء الصلاة، وصلاة الخوف. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: من فاتته الصلاة فقضاها فهل يقضي معها من الغد مثلها.
المطلب الثاني: تأخير الصلاة عن وقتها عند الخوف.
المطلب الثالث: صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين.
المبحث التاسع: الجنائز. وفيه عشرة مطالب:
المطلب الأول: القيام للجنازة.
المطلب الثاني: جلوس من تبع جنازة قبل وضعها.
المطلب الثالث: الصلاة على الجنازة في المسجد.
المطلب الرابع: الزيادة على أربع تكبيرات في الجنازة.
المطلب الخامس: صلاة الجنازة على من مات وعليه دين.
المطلب السادس: صلاة الجنازة على من قتل نفسه.
المطلب السابع: الصلاة على المنافقين.
المطلب الثامن: الاستغفار لموتى المشركين.
المطلب التاسع: النياحة على الميت.
المطلب العاشر: زيارة القبور.
الباب الثاني: الزكاة، والصوم، والحج، وفيه فصلان.
الفصل الأول: الزكاة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: وجوب الزكاة، وزكاة بهيمة الأنعام. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حقوق المال سوى الزكاة.
المطلب الثاني: أخذ شطر مال مانع الزكاة.
المطلب الثالث: استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة.
المطلب الرابع: إخراج زكاة البقر بالغنم.
المبحث الثاني: زكاة الحبوب والثمار، وقسم الصدقات، وزكاة الفطر.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خرص الثمار.
المطلب الثاني: الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم.
المطلب الثالث: حكم صدقة الفطر.
الفصل الثاني: في الصوم، والحج وأحكام الحرمين، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الصوم. وفيه ثلاثة عشر مطلباً:
المطلب الأول: الحكم إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان.
المطلب الثاني: النية للصوم الواجب من النهار.
المطلب الثالث: الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء.
المطلب الرابع: السحور بعد طلوع الفجر الثاني.
المطلب الخامس: حكم صوم من أصبح وهو جنب.
المطلب السادس: تخيير مطيق الصيام بينه وبين الإطعام.
المطلب السابع: الفطر بالحجامة.
المطلب الثامن: الصوم في السفر.
المطلب التاسع: الفطر قبل صلاة العيد يوم عيد الفطر.
المطلب العاشر: قضاء الصوم عن الميت.
المطلب الحادي عشر: صوم يوم عاشوراء.
المطلب الثاني عشر: صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
المطلب الثالث عشر: صوم يوم السبت في غير الفريضة.
المبحث الثاني: الحج، وأحكام الحرمين. وفيه سبعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: إذا حج الأعرابي قبل الهجرة ثم هاجر فهل عليه حجة أخرى؟.
المطلب الثاني: إذا حج العبد قبل أن يعتق ثم عتق فهل عليه حجة أخرى؟.
المطلب الثالث: كون العقيق ميقات أهل المشرق.
المطلب الرابع: بقاء أثر الطيب بعد الإحرام.
المطلب الخامس: الاشتراط في الحج.
المطلب السادس: دخول المحرم من الأبواب.
المطلب السابع: دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد النسك.
المطلب الثامن: قطع الخفين لمن لم يجد النعلين.
المطلب التاسع: فسخ الحج إلى العمرة.
المطلب العاشر: رفع اليدين عند رؤية البيت.
المطلب الحادي عشر: الرمل بين الركنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة الأول.
المطلب الثاني عشر: من رمى جمرة العقبة ولم يطف بالبيت حتى أمسى، هل يعود محرماً؟
المطلب الثالث عشر: طواف الوداع على الحائض.
المطلب الرابع عشر: قتل الغراب.
المطلب الخامس عشر: استحلال الحرم بالقتال.
المطلب السادس عشر: أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع شجرها.
المطلب السابع عشر: الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها.
الباب الثالث: الأضاحي، والأيمان، والعقيقة، والصيد والذبائح، والهجرة والجهاد.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الأضاحي، والأيمان، والعقيقة، والصيد، والذبائح. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأضاحي، والأيمان، والعقيقة. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال.
المطلب الثاني: الحلف بغير الله.
المطلب الثالث: حكم العقيقة.
المطلب الرابع: تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة.
المبحث الثاني: الصيد والذبائح. وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: حكم الفرع والعتيرة.
المطلب الثاني: لحوم الخيل.
المطلب الثالث: لحوم الحمر الأهلية.
المطلب الرابع: كسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر.
المطلب الخامس: حصر المحرمات من المطعومات في: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله.
المطلب السادس: قتل الكلاب.
الفصل الثاني: الهجرة، والجهاد والسير. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الهجرة. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الهجرة من مكة إلى المدينة.
المطلب الثاني: تحول من أسلم من داره إلى دار المهاجرين.
المطلب الثالث: الهجرة من دار الكفر.
المبحث الثاني: الجهاد والسير. وفيه أربعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: الكف عن القتال.
المطلب الثاني: القتال في الأشهر الحرم.
المطلب الثالث: دعوة المشركين قبل قتالهم.
المطلب الرابع: قتل أولاد المشركين ونسائهم.
المطلب الخامس: ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين.
المطلب السادس: تحريق العدو وتعذيبه بالنار.
المطلب السابع: الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين.
المطلب الثامن: أخذ السلب من غير بينة.
المطلب التاسع: إعطاء النفل من الغنيمة.
المطلب العاشر: المن بأسرى الكفار ومفادتهم.
المطلب الحادي عشر: مبايعة النساء باليد.
المطلب الثاني عشر: حرق متاع الغال.
المطلب الثالث عشر: الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً.
المطلب الرابع عشر: سكنى الكفار بأرض الحجاز.
الباب الرابع: البيوع، والنكاح، وما يتعلق بهما. وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: البيوع، والمزارعة، والمساقات. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الخيار، والسلم، والربا، والعرايا، والعارية. وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: خيار المجلس.
المطلب الثاني: رد المصراة مع صاع من تمر.
المطلب الثالث: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
المطلب الرابع: استقراض الحيوان.
المطلب الخامس: حصر الربا في النسيئة.
المطلب السادس: بيع العرايا.
المطلب السابع: العارية.
المبحث الثاني: الرهن، والإجارة، والبيوع المنهي عنها. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الرهن يركب ويحلب بنفقته.
المطلب الثاني: كسب الحجام.
المطلب الثالث: بيع الحر في الدين.
المطلب الرابع: بيع الحاضر للباد.
المطلب الخامس: بيع الكلب.
المبحث الثالث: المزارعة، والمساقاة. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المزارعة.
المطلب الثاني: المساقاة.
المطلب الثالث: تلقيح النخل.
الفصل الثاني: الهبة، والهدية، والوصية، والفرائض، وأحكام الرقيق.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الهبة، والهدية، والوصايا، والفرائض. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: العمرى.
المطلب الثاني: قبول الهدية من المشركين.
المطلب الثالث: الوصية للوالدين والأقربين الوارثين.
المطلب الرابع: التوارث بالمعاقدة والحلف.
المبحث الثاني: أحكام الرقيق. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: عتق العبد إذا اسلم ومولاه كافر.
المطلب الثاني: بيع أمهات الأولاد.
الفصل الثالث: النكاح، والرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، والعدة.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النكاح، والرضاع. وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
المطلب الثاني: المرأة إذا نكحت نفسها بغير ولي.
المطلب الثالث: نكاح المتعة.
المطلب الرابع: حكم العزل.
المطلب الخامس: ضرب النساء.
المطلب السادس: مقدار الرضاع المحرم.
المطلب السابع: الحرمة برضاع الكبير.
المطلب الثامن: حضانة الكافرة للولد المسلم.
المبحث الثاني: الطلاق، والخلع، والظهار، والعدة. وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: حصر الطلاق بعدد.
المطلب الثاني: جعل الطلقات الثلاث واحدة.
المطلب الثالث: إذا أسلمت المرأة قبل زوجها.
المطلب الرابع: أخذ الفدية في الخلع.
المطلب الخامس: كون الظهار طلاقاً.
المطلب السادس: مدة حداد المرأة على الزوج.
السابع: متاع المتوفى عنها زوجها.
المطلب الثامن: مدة عدة المتوفى عنها زوجها.
المطلب التاسع: أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟.
الباب الخامس: الجنايات، والحدود، والتعزيرات، والقضاء، والشهادات، واللباس والطب، والآداب والمنثورات. وفيه فصلان:
الفصل الأول: الجنايات، والحدود، والتعزيرات، والقضاء، والشهادات.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الجنايات. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: قتل المسلم بالذمي.
المطلب الثاني: قتل السيد بعبده.
المطلب الثالث: حكم المثلة.
المطلب الرابع: القتل بمثل ما قتل.
المطلب الخامس: استيفاء القصاص قبل اندمال الجرح.
المبحث الثاني: الحدود، والتعزيرات. وفيه أربعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: حكم المرتد.
المطلب الثاني: حبس الزانيين وإيذائهما.
المطلب الثالث: التغريب في حد الزنا.
المطلب الرابع: جلد الزاني المحصن.
المطلب الخامس: إقامة الحد على الأمة التي لم تحصن إذا زنت.
المطلب السادس: إقامة الحد على من زنا بجارية امرأته.
المطلب السابع: إقامة حد الرجم على أهل الذمة.
المطلب الثامن: قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة.
المطلب التاسع: قطع جاحد العارية.
المطلب العاشر: قتل السارق بعد المرة الرابعة.
المطلب الحادي عشر: التعزير بالعقوبات المالية.
المطلب الثاني عشر: المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة.
المطلب الثالث عشر: الغرامة بالمثلين في سرقة الثمر المعلق.
المطلب الرابع عشر: الجلد فوق عشرة أسواط في غير الحدود.
المبحث الثالث: القضاء، والشهادات. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحكم بالقرعة.
المطلب الثاني: شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر.
الفصل الثاني: اللباس، والطب، والآداب، والمنثورات. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: اللباس. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: لبس الحرير والديباج في غير الحرب.
المطلب الثاني: تحلي النساء بالذهب.
المطلب الثالث: لبس خاتم الذهب للرجال.
المطلب الرابع: لبس الخاتم في اليمين.
المبحث الثاني: الطب. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكم الرقى.
المطلب الثاني: الاجتناب من المجذوم.
المطلب الثالث: حكم الكي.
المبحث الثالث: الآداب، والمنثورات. وفيه أربعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: القران بين التمرتين عند الأكل.
المطلب الثاني: الشرب قائماً.
المطلب الثالث: سدل الشعر.
المطلب الرابع: دخول الحمام للرجال.
المطلب الخامس: التكني بأبي القاسم.
المطلب سادس: سجدة التحية والإكرام للمخلوق.
المطلب السابع: ابتداء أهل الكفر بالسلام.
المطلب الثامن: حكم الضيافة.
المطلب التاسع: اللعب بالحراب في المسجد.
المطلب العاشر: حكم اتخاذ اللعب للبنات.
المطلب الحادي عشر: وضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره.
المطلب الثاني عشر: قتل حيات البيوت.
المطلب الثالث عشر: قول (ما شاء الله وشئت) أو (شاء فلان).
المطلب الرابع عشر: كتابة الأحاديث.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج.
الفهارس العلمية، وهي كالتالي:
1 -
فهرس الآيات القرآنية.
2 -
فهرس الأحاديث النبوية.
3 -
فهرس الآثار.
4 -
فهرس المصطلحات العلمية.
5 -
فهرس الكلمات الغريبة.
6 -
فهرس الأعلام المترجم لهم.
7 -
فهرس المصادر والمراجع.
8 -
فهرس الموضوعات.
منهج البحث
سأسير في إعداد هذا البحث -إن شاء الله تعالى- على المنهج التالي:
1 -
جمع المادة العلمية المتعلقة بالمسائل الفقهية التي قيل فيها بالنسخ، سواء كانت من المتفق على نسخها، أو من المختلف فيها، من المصادر الأصيلة.
2 -
يشمل الجمع الناسخ والمنسوخ، سواء كانا مما ورد ذكرهما في الكتاب، أو ورد ذكرهما في السنة، أو أحدهما في الكتاب، والآخر في السنة.
3 -
ذكر عنوان المسألة، ثم ذكر أسماء بعض من قال أو صرح بالنسخ في
المسألة، ثم بيان أثر النسخ في اختلاف الفقهاء فيها، ثم أدلة القول بالنسخ، ثم وجه الاستدلال منها على النسخ، ثم مناقشة وجه الاستدلال-إن وجدت-، ثم ذكر أقوال الفقهاء في المسألة، وأدلتهم، والمناقشة، مع ذكر القول الراجح وسبب رجحانه.
4 -
بيان أثر النسخ في اختلاف الفقهاء.
5 -
الاعتماد على المصادر الأصيلة في نقل الأقوال والمذاهب.
6 -
عزو الآيات القرآنية، بذكر اسم السورة، ورقم الآية، مع كتابتها حسب الرسم العثماني.
7 -
تخريج الأحاديث النبوية عند أول ذكر لها، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما، أو من أحدهما، وإن كان في غيرهما خرجته من مصدره، مع ذكر أقوال أهل العلم فيه من حيث الصحة والضعف.
ثم إن كان الحديث في السنن الأربعة أو أحدها فإني أبدأ بالتخريج منها، مبتدءاً بسنن أبي داود، ثم سنن الترمذي، ثم سنن النسائي، ثم سنن ابن ماجة، ثم أذكر بقية مصادر تخريج الحديث مرتبا ذلك على حسب سن الوفيات.
وإن لم يكن الحديث في السنن الأربعة أو أحدها فإني أرتب المصادر المخرج منها الحديث على حسب سن الوفيات، مع الإشارة في جميع ذلك إلى المصدر الذي أُخذ منه سياق الحديث إن لم يكن ذلك لفظ أول مصدر.
ثم قد أذكر حديثا واحدا بعدة ألفاظ وروايات؛ وذلك:
-إما لضعف بعض الروايات وعدم صراحة بعضها الأخر في الدلالة.
-وإما لأن كلها متكلم فيها، فإذا ذكرت جميع تلك الطرق والألفاظ صار لها بعض القوة.
-وإما لأن تلك الألفاظ والروايات قد يستدل منها على الاضطراب في الحديث، أو يدفع بها بعض الاعتراضات.
-وإما لأن تلك الروايات والألفاظ يختلف منها وجوه الاستدلال، فأذكر جميعها أو أكثرها حتى تتضح منها وجوه الاستدلال.
8 -
تخريج الآثار من مظانها عند أول ذكر لها.
9 -
شرح المصطلحات العلمية، والكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان.
10 -
ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في البحث، عند أول وروده.
11 -
وضع خاتمة في آخر الرسالة، أبين فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال دراسة الموضوع.
12 -
الالتزام بالقواعد الإملائية، وعلامات الترقيم، وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
13 -
وضع فهارس علمية في آخر الرسالة، كما هو موضح في الخطة.
شكر وتقدير
عملاً بقول الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
(1)
.
(1)
سورة إبراهيم، الآية (7).
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»
(1)
.
فإني أحمد الله سبحانه وتعالى، وأشكره على ما هداني للإسلام، ورزقني العقيدة الصحيحة، وعلى أن وفقني لإنهاء هذا البحث، وأعانني على إنجازه، ويسر ذلك لي بحوله وقوته، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد كما يحبه ويرضاه، ولا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
ثم أشكر أبويّ اللذين ربياني صغيرا، ووجهوني إلى طلب العلم منذ نعمومة أظفاري، فرحم الله المتوفى منهما، وبارك في عمر ما بقي منهما، وجازاهما عني خير ما يجازي الوالدين عن ولدهما، وأسكنهما فسيحة جناته.
كما أشكر إخوتي وأشقائي؛ حيث ساعدوني وواسوني بكل ما استطاعوا، فجزاهم الله عني خير الجزاء، وغفر لمن توفي منهم، وبارك في عمر الباقين.
ثم أتقدم بالشكر، والعرفان، لقادة هذه البلاد المباركة، دولة التوحيد، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وأخص بالشكر كلية الشريعة خصوصاً، والجامعة الإسلامية عموماً، و القائمين عليهما، على ما هيئوا من ينابيع العلم للطلاب، ووفروا لهم كل ما يحتاجونه من العون المعنوي
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 723، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف، ح (4811)، و نحوه الترمذي في سننه ص 445، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك، ح (1954)، والإمام أحمد في المسند 13/ 322. وصححه الترمذي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 445؛ صحيح الجامع الصغير وزياداته 2/ 1114؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح (416).
والمادي، كما قاموا ويقومون بتقديم جهود مباركة في نشر العلم، والعقيدة الصحيحة، والدعوة إليها في جميع أنحاء العالم، فأسأل الله العلي القدير أن يزيدها والقائمين عليها قوة وثباتا؛ لأداء رسالتها المباركة، لتبقى صرحاً شامخاً لنشر الدعوة الإسلامية، ورفع راية التوحيد.
كما أتقدم بالشكر والعرفان، وبالغ التقدير، لفضيلة شيخي المشرف على هذه الرسالة، فضيلة الأستاذ الدكتور: عبد العزيز بن مبروك الأحمدي-حفظه الله-الأستاذ بقسم الفقه في كلية الشريعة، بالجامعة الإسلامية، وعميد عمادة شئون الخريجين، الذي لمست فيه روح الإخلاص، والجهد في التوجيه و الإرشاد؛ حيث إنه لم يدخر وسعاً، ولم يأل جهداً في سبيل إنجاز هذا العمل الذي أخذ من وقته الثمين، فأشكره لإخلاصه، وسعيه، ونصحه، والإفادة بالتوجيهات العلمية، والملاحظات القيمة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يبارك في عمره وعلمه، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يعظم مثوبته في الدنيا والآخرة.
كما أتقدم بالشكر والعرفان لفضيلة كل من الشيخين الفاضلين: فضيلة الأستاذ الدكتور: فرج بن زهران الدمرداش، الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة أم القرى، بمكة المكرمة.
وفضيلة الأستاذ الدكتور: عبد السلام بن سالم السحيمي، الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
على ما تفضلا بقبول مناقشة هذه الرسالة، فجزاهما الله عني وعن
الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في علمهما وينفع بهما الإسلام والمسلمين، وأن يعظم مثوبتهما في الدنيا والآخرة.
كما لا يفوتُني أن أقدم بالشكر إلى كل من قدم لي عوناً، أو أسدى إليّ نصحاً، من الإخوة الزملاء، والأساتذة الأعزاء، سائلا المولى جل وعلا أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
هذا، وما بذلت من الوسع في إعداد هذه الرسالة هو جهد المقل، مع الاعتراف بالتقصير، وكل أملي أن يكون صوابه أكثر من خطئه، فما كان فيه من صواب فمن الله سبحانه وتعالى، فله الحمد أولاً، وآخراً، وما كان فيه غير ذلك فاستغفر الله منه، وأتوب إليه، وأسأله العفو عن الزلات والهفوات؛ إنه هو التواب الرحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التمهيد
في تعريف النسخ، والفرق بينه وبين التخصيص، وبينه وبين البداء، ومشروعيته، والحكمة من وقوعه، وشروطه، وفضيلة علم الناسخ والمنسوخ، وأنواع النسخ وأقسامه، وزمنه، وما يدخله النسخ وما لا يدخله، وطرق معرفته، وبعض من ألف فيه.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في تعريف النسخ، والفرق بينه وبين التخصيص، وبينه وبين البداء، و مشروعيته، والحكمة من وقوعه، وشروطه، وفضيلة علم الناسخ والمنسوخ.
وفيه سبعة مطالب.
المبحث الثاني: في أنواع النسخ وأقسامه، وزمنه، وما يدخله النسخ وما لا يدخله، وطرق معرفته، وبعض من ألف فيه.
وفيه خمسة مطالب.
المبحث الأول: في تعريف النسخ، والفرق بينه وبين التخصيص، وبينه وبين البداء، ومشروعيته، والحكمة من وقوعه، وشروطه، وفضيلة علم الناسخ والمنسوخ
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النسخ لغة وشرعاً.
المطلب الثاني: الفرق بين النسخ والتخصيص.
المطلب الثالث: الفرق بين النسخ والبداء.
المطلب الرابع: مشروعية النسخ.
المطلب الخامس: الحكمة من وقوع النسخ.
المطلب السادس: شروط النسخ.
المطلب السابع: فضيلة علم الناسخ والمنسوخ.
المطلب الأول: تعريف النسخ لغة وشرعاً
تعريف النسخ لغة
يطلق النسخ لغة على معنيين:
الأول: الإزالة التي يراد بها: الانعدام، والإبطال، والمحو.
الثاني: النقل، والتحويل والتبديل.
أما النسخ بمعنى الإزالة التي هي على وجه الإعدام والإبطال فعلى قسمين:
أحدهما: إزالة إلى بدل.
وهو أن يزيل شيء ويحل غيره محله.
ومن أمثلة ذلك:
أ-قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(1)
.
قال ابن جرير الطبري
(2)
: (يعني جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}
(1)
سورة البقرة، الآية (106).
(2)
هو: محمد بن جرير بن يزيد بن غالب، أبو جعفر الطبري البغدادي، أخذ عن: الزعفراني، والربيع المرادي، وغيرهما. وأخذ عنه الطبراني، وغيره. وكان إماما مجتهداً. ومن مؤلفاته (جامع البيان) في التفسير، وتوفي سنة عشر و ثلاثمائة. انظر: البداية والنهاية 11/ 142؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 100.
إلى غيره، فنُبدِّله ونُغيِّره. وذلك أن يحوّل الحلال حراماً والحرام حلالاً، والمباح محظوراً والمحظور مباحاً)
(1)
.
ب- قولهم: (نسخت الشمس الظل)، أي أذهبته وحلت محله.
ج-قولهم: (نسخ الشيب الشباب). وهو في نفس معنى سابقه.
الثاني: الإزالة إلى غير بدل.
وهو أن يُزيل شيء، من غير أن يحل شيء آخر محله.
ومن أمثلته:
أ-قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}
(2)
أي يذهبه ويبطله
(3)
.
ب-قولهم: (نسخت الريح الآثار). أي أبطلتها وأزالتها.
أما النسخ بمعني النقل، والتحويل والتبديل، فمن أمثلة ذلك:
أ-قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(4)
. والمراد نقله إلى الصحف.
قال ابن جرير: (يقول: إنا كنا نستكتب حفظتنا أعمالكم، فتثبتها في الكتاب، و تكتبها)
(5)
.
(1)
تفسير الطبري: جامع البيان 1/ 607. وانظر تفسير ابن كثير 1/ 142.
(2)
سورة الحج، الآية (52).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 3/ 224؛ فتح القدير للشوكاني 3/ 576.
(4)
سورة الجاثية، الآية (29).
(5)
جامع البيان 13/ 181.
ب-قولهم: (نسخت الكتاب). أو: (نسخت الكتاب ما فيه) فليس المراد إعدام ما فيه، بل تصوير مثل ما في الكتاب في محل آخر.
ج- قولهم: (نسخ ما في الخلية) أي حوّله إلى غيرها
(1)
.
(1)
انظر تعريف النسخ لغة مع الأقسام والأمثلة في:
أ-كتب اللغة: تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري 7/ 181 - 182؛ الصحاح للجوهري 1/ 433؛ مختار الصحاح للرازي ص 571؛ لسان العرب لابن منظور 14/ 121؛ المصباح المنير للفيومي ص 493؛ القاموس المحيط للفيروز أبادي ص 238؛ مجمع بحار الأنواع للفتني 4/ 713؛ تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي 7/ 355 - 356.
ب-الكتب المصنفة في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 11؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 6 - 7؛ الاعتبار للحازمي ص 51 - 52؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 127؛ رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار للجعبري ص 128؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 24. وانظر كذلك: البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 29؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/ 40.
ج-كتب الأصول: "أصول السرخسي 2/ 53؛ أصول فخر الإسلام البزدوي وشرحه كشف الأسرار للبخاري 3/ 297 - 301؛ مسلم الثبوت لمحب الله البهاري، وشرحه فواتح الرحموت لمحمد السهالوي 2/ 62"؛ مختصر ابن حاجب لابن حاجب مع شرحه رفع الحاجب للسبكي 4/ 26؛ شرح المعالم في أصول الفقه للتلمساني 2/ 33"؛ قواطع الأدلة للسمعاني 1/ 417؛ المستصفى للغزالي ص 86؛ الإحكام للآمدي 2/ 96 - 97"؛ روضة الناظر لابن قدامة 1/ 127 - 128؛ شرح مختصر الروضة للطوفي 2/ 251؛ شرح الكوكب المنير لابن النجار 3/ 525"؛ إرشاد الفحول للشوكاني 2/ 49.
وقد اختلف جماعة من أهل العلم من الأصوليين في اسم النسخ، هل هو حقيقة
(1)
في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر، على ثلاثة أقوال
(2)
:
الأول: إنه حقيقة فيهما، مشترك بينهما لفظا؛ لاستعماله فيهما
(3)
.
الثاني: إنه حقيقة في الإزالة، مجاز
(4)
في النقل
(5)
.
الثالث: إنه حقيقة في النقل، مجاز في الإزالة
(6)
.
تعريف النسخ شرعاً
النسخ نوعان: نسخ للشرائع
(7)
، ونسخ في الشريعة الإسلامية. وسأذكر-
(1)
الحقيقة هو: اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي. روضة الناظر 2/ 6. وانظر: المستصفى ص 186.
(2)
راجع المصادر من كتب الأصول في الحاشية ما قبل السابقة.
(3)
وممن قال بهذا: أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب، والغزالي. وذهب ابن المنير إلى أنه مشترك بينهما اشتراكاً معنويّاً. انظر: المستصفى للغزالي ص 86؛ الإحكام للآمدي 2/ 96؛ البحر المحيط 5/ 195؛ إرشاد الفحول 2/ 49.
(4)
المجاز هو: اللفظ المستعمل في غير موضوعه على وجه يصح. روضة الناظر 2/ 11. وانظر: المستصفى ص 186.
(5)
وهو قول أبي الحسين البصري، والرّازي، وحكاه الصفي الهندي عن الأكثرين. انظر: الإحكام للآمدي 2/ 96؛ المحصول للرازي وشرحه نفائس الأصول 3/ 211؛ البحر المحيط للزركشي 5/ 195.
(6)
وممن قال به القفال الشاشي. انظر: المحصول مع شرحه نفائس الأصول 3/ 211؛ البحر المحيط 5/ 195؛ إرشاد الفحول 2/ 49.
(7)
الشرائع جمع شريعة، وهي لغة تأتي بمعنى الطريقة العظيمة الواضحة، وبمعنى مورد الإبل على الماء الجاري. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 857؛ مختار الصحاح ص 294؛ المصباح المنير ص 254.
وفي الاصطلاح: ما شرع الله لعباده من الدين، على لسان رسول من الرسل. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 857؛ مختار الصحاح ص 294؛ المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي ص 27.
إن شاء الله تعالى- أولاً تعريف نسخ الشرائع، ثم بعض التعريفات الاصطلاحية للنسخ في الشريعة الإسلامية.
أولاً: تعريف نسخ الشرائع
نسخ الشرائع هو: ابتداء شريعة دلت على انتهاء السابقة
(1)
.
والمراد: أن الشريعة المتأخرة تنسخ الشريعة السابقة فيما يعارضها. وليس المراد أن الشريعة السابقة تُنسخ بكاملها بحيث لا يبقى منها شيء؛ وذلك لأنه قد يوجد أشياء مشتركة بين جميع الشرائع لا يمكن القول بنسخها كأصول العقائد والإيمانيات. كما أن الشريعة المتأخرة قد تُشرع فيها أحكام موافقة لسابقتها، وقد يوجد في السابقة أشياء لا يكون لها ذكر في الشريعة المتأخرة. فهذه الأمور لا يقال بأنها نُسخت بالشريعة المتأخرة
(2)
.
ثانياً: بعض التعريفات الاصطلاحية للنسخ في الشريعة الإسلامية
النسخ له إطلاقان: إطلاق عند السلف، وإطلاق عند المتأخرين، فهو في
(1)
انظر: رسوخ الأحبار ص 130.
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 59؛ روضة الناظر 1/ 134؛ البحر المحيط للزركشي 4/ 329؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 69؛ إرشاد الفحول 1/ 353.
اصطلاح السلف يختلف عن النسخ في اصطلاح المتأخرين؛ لأن النسخ عند السلف من الصحابة والتابعين، أعم من النسخ عند من بعدهم؛ حيث إنهم يطلقون النسخ على تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتفصيل المجمل، وإيضاح المبهم، ونحو ذلك، كما كانوا يطلقونه على النسخ بمعناه المعروف عند المتأخرين من الأصوليين وغيرهم بعد تحديد المصطلحات العلمية.
وقد صرح بهذا غير واحد من أهل العلم، منهم:
أ- شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله؛ حيث قال: (والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف-العام- كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق)
(1)
.
وقال أيضاً: (وفصل الخطاب أن لفظ النسخ مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك)
(2)
.
ب- ابن القيم
(3)
رحمه الله؛ حيث قال: (ومراد عامة السلف
(1)
مجموع الفتاوى 13/ 272.
(2)
مجموع الفتاوى 14/ 101.
(3)
هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب، الزرعي، أبو عبد الله، ابن قيم الجوزية، سمع من الشهاب النابلسي، ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية واستفاد منه كثيراً، وأخذ عنه ابن عبد الهادي، وغيره، من مؤلفاته:(زاد المعاد)، و توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. انظر: البداية والنهاية 14/ 267؛ الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 447.
بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة، وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر)
(1)
.
ج- أبو إسحاق الشاطبي
(2)
رحمه الله حيث قال: (وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على
تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 29.
(2)
هو: إبراهيم بن موسى أبو إسحاق الغرناطي، الشهير بالشاطبي، الفقيه، الأصولي، من شيوخه: أبو عبد الله البلنسي، وأخذ عنه: أبو بكر بن عاصم، وغيره، ومن مؤلفاته: ا"لموافقات في أصول الشريعة"، وتوفي سنة تسعين وسبع مائة. انظر: شجرة النور الزكية ص 231؛ الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/ 204.
المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخراً، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به، وهذا المعنى جار في تقييد المطلق؛ فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمول هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيِّدِه شيئاً، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. كذا العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم بجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ؛ ولأن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أُهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول. والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد)
(1)
.
فتبين مما سبق أن النسخ في اصطلاح السلف العام أعم منه في اصطلاح المتأخرين، وأن ما اصطلح عليه المتأخرون هو أحد إطلاقاته عندهم.
أما النسخ عند المتأخرين فقد تعددت تعريفاتهم له، والغرض منها كلها هو تصوير حقيقة النسخ في اصطلاح الشرع، وسأكتفي بذكر بعض منها، مع ذكر شيء من شرحها، دون التعرض لما يرد عليها من مآخذ وإيرادات والأجوبة عنها، وذلك خشية التطويل. وفيما يلي بعض هذه التعريفات:
(1)
الموافقات 2/ 76.
أ-النسخ، هو:(الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتاً به، مع تراخيه عنه)
(1)
.
شرح التعريف:
قوله: (الخطاب) قيد يقصد به تعميم كل خطاب ودليل، سواء كان من باب المنطوق أو غيره.
قوله: (الدال على ارتفاع الحكم) قيد به ليتناول الأمر، والنهي، والخبر، وجميع أنواع الحكم.
قوله: (بالخطاب المتقدم) قيد يخرج به إيجاب العبادات ابتداء، فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة، ولا يسمى نسخاً؛ لأنه لم يزل حكم خطاب.
قوله: (على وجه لولاه لكان ثابتاً) قيد يحترز به عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت، ثم ورد الخطاب عند تصرّم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول، فإنه لا يكون نسخاً لحكم الخطاب الأول.
قوله: (مع تراخيه عنه) قيد يحترز به عن الخطاب المتصل، كالاستثناء،
(1)
هذا هو تعريف القاضي الباقلاني، والصيرفي، وأبو إسحاق الشيرازي، والغزالي، وغيرهم، وذكر الحازمي أن المتأخرين أطبقوا عليه، وأنه حد صحيح. وقد أورد على التعريف بعض الاشكالات، لكن أجاب عنها الآمدي. انظر: قواطع الأدلة 1/ 417؛ المستصفى ص 86؛ الاعتبار للحازمي ص 52؛ الإحكام للآمدي 2/ 98 - 100؛ إرشاد الفحول 2/ 50.
والتقييد بالشرط والغاية، فإن ذلك لا يكون نسخاً، بل بياناً لمدة العبادة
(1)
.
ب-النسخ، هو:(أن يرد دليل شرعي، متراخياً عن دليل شرعي، مقتضياً خلاف حكمه)
(2)
.
شرح التعريف:
قوله: (دليل شرعي) يشمل الدليل من الكتاب، والسنة قولاً وفعلاً.
قوله: (متراخياً) خرج به التخصيص؛ لأنه لا يكون متراخياً.
قوله: (مقتضياً خلاف حكمه) أي يدافعه وينافيه، وخرج به مجرد المغايرة
(3)
.
ج- النسخ، هو:(رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه)
(4)
.
شرح التعريف:
قوله: (رفع) قيد خرج به ما ليس برفع، كالتخصيص، فإنه لا يرفع
(1)
انظر شرح التعريف المذكور في: المستصفى ص 86؛ الإحكام للآمدي 2/ 98، 99؛ إرشاد الفحول 2/ 51.
(2)
بهذا عرف النسخ جماعة ممن ألف في المصطلحات من الحنفية. انظر: التعريفات للجرجاني ص 240؛ كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد التهانوي 4/ 189؛ جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 3/ 246؛ التعريفات الفقهية ص 227.
(3)
انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 4/ 189.
(4)
عرفه بهذا الشوكاني، وذكر معنى ذلك: ابن الجاجب، وابن النجار الحنبلي، وقال:(هو قول الأكثر) انظر: إرشاد الفحول 2/ 52؛ مختصر ابن الحاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 26؛ شرح الكوكب المنير 3/ 526.
الحكم، وإنما يقصره
على بعض أفراده.
قوله: (حكم شرعي) قيد يخرج به ابتداء إيجاب العبادات في الشرع، فإنه يرفع حكم العقل ببراءة الذمة، وهو لا يقال له نسخ.
قوله: (بمثله) يراد به الحكم الشرعي، ويخرج به رفع الحكم الشرعي بدليل عقلي.
قوله: (مع تراخيه عنه) قيد يحترز به عن الخطاب المتصل، كالاستثناء، والتقييد بالشرط والغاية، فإن ذلك لا يكون نسخاً، بل بياناً لمدة العبادة
(1)
.
وهذا التعريف الأخير
(2)
، لعله يكون أولى من سابقيه؛ لكونه مختصراً، وأكثر جامعية.
لكن جميع هذه التعريفات المذكورة ينقصها عدم شمولها لجميع أنواع النسخ، لذلك بعد البحث والقراءة لتعريفات النسخ وأنواعه، يظهر لي أن الأولى أن يعرف النسخ اصطلاحاً بما يلي:
النسخ: رفع حكم دليل أحد الوحيين، أو لفظ دليل الوحي المتلُوّ، أو لفظه وحكمه معاً، بدليل من الوحيين، مع تراخيه عنه.
قوله: (رفع) هذا تعريف للنسخ على أنه فعل الشارع، وهذا التعبير أولى من التعريف بأنه الخطاب، أو اللفظ، أو الطريق؛ لأنه تعريف للنسخ
(1)
انظر شرح التعريف في: إرشاد الفحول 2/ 51 - 52؛ مناهل العرفان للزرقاني 2/ 191 - 192.
(2)
وهو تعريف الشوكاني.
بدليله.
وخرج بهذا القيد ما ليس برفع، كالتخصيص، فإنه لا يرفع الحكم، وإنما يقصره على بعض أفراده.
قوله: (حكم أحد الوحيين) هذا قيد مخرج لرفع حكم البراءة الأصلية، فهو لا يسمى نسخاً.
والمراد (بالوحيين) الكتاب والسنة، ويسمى الأول الوحي المتلو، والثاني الوحي غير المتلو.
قوله: (أو لفظ دليل الوحي المتلو) قيد التعريف به ليشمل نسخ لفظ التلاوة؛ لأن النسخ إما أن يكون للحكم، أو للفظ، أو لهما معاً.
قوله: (أو لفظه وحكمه معاً) قيد التعريف به ليشمل نسخ لفظ وحكم دليل الوحي المتلو معاً، لأن ذلك أحد أنواع نسخ القرآن.
قوله: (بدليل) يخرج به رفع الحكم بالموت أو الجنون، ونحوهما.
قوله: (من الوحيين) أي الكتاب والسنة، ويخرج به ما عداهما من الأدلة، كالإجماع
(1)
والقياس
(2)
، فلا ينسخ بهما.
(1)
الإجماع لغة: العزم، والاتفاق. انظر: المصباح المنير ص 98.
واصطلاحاً: اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين. انظر: روضة الناظر لابن قدامة 1/ 219؛ التعريفات للجرجاني ص 10.
(2)
القياس لغة: التقدير، يقال: قاس الشيء بغيره وعلى غيره أي قدره على مثاله. انظر: مختار الصحاح ص 489؛ القاموس المحيط ص 511.
واصطلاحاً: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة، أو نفيهما عنهما. انظر: المستصفى للغزالي ص 280؛ روضة الناظر 2/ 145.
قوله: (مع تراخيه عنه) قيد يحترز به عن الدليل المتصل، كالاستثناء، والتقييد بالشرط والغاية، فإن ذلك لا يكون نسخاً، بل بياناً لمدة العبادة.
فهذا التعريف لعله يكون أولى؛ لشموله لجميع أنواع النسخ ولكونه جامعاً مانعاً في نظري.
والله أعلم.
المطلب الثاني: الفرق بين النسخ والتخصيص
بين النسخ وبين التخصيص
(1)
علاقة تحتاج إلى بيان وإيضاح، يُفصل بينهما، ويحدد معالم كل منهما.
وإنما وقع هذا التشابه بينهما بسبب أن كلاً منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لغة
(2)
.
فالنسخ فيه ما يشبه تخصيص الحكم ببعض الأزمان، والتخصيص فيه ما يشبه رفع الحكم عن بعض الأعيان
(3)
.
وفيما يلي بيان لأهم وأظهر هذه الفروق التي يتميز بها كل منهما عن الآخر:
أولاً: أن التخصيص يُبيّن أن ما خرج عن العموم، لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
(1)
التخصيص من خصّ يخصّ خصّاً وخصوصاً وخصوصية، وهو لغة: الإفراد، يقال: خصّصه واختصّه إذا أفرده به دون غيره. والتخصيص ضد العموم. انظر: لسان العرب 4/ 109؛ المصباح المنير ص 146؛ القاموس المحيط ص 554.
والتخصيص اصطلاحاً: قصر العام على بعض منه، بدليل مستقل مقترن به. انظر: التعريفات للجرجاني ص 53؛ التعريفات الفقهية ص 54.
أو هو: قصر العام على بعض أفراده. انظر: مناهل العرفان للزرقاني 2/ 200.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 458؛ الإحكام للآمدي 2/ 104؛ روضة الناظر 1/ 132؛ البحر المحيط للزركشي 4/ 327؛ إرشاد الفحول 1/ 352.
(3)
انظر: مناهل العرفان للزرقاني 2/ 200.
والنسخ يُبيّن أن ما خرج لم يرد التكليف به، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه. فالذي يرفعه الناسخ كان قبل النسخ مقصوداً دخوله في معنى اللفظ وفي الحكم
(1)
.
ثانياً: أن النسخ لا بد فيه أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ ومتأخراً عنه، بخلاف التخصيص فإنه يجوز اقترانه
(2)
.
ثالثاً: أن النسخ لا يدخل الأخبار ولا يقع فيها، بل هو مختص بأحكام الشرع، أما التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها
(3)
.
رابعاً: أن النسخ لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، بخلاف التخصيص فإنه يكون بهما، وبأدلة العقل وبالقرائن
(4)
.
خامساً: أن النسخ يدخل في الشيء الواحد؛ كنسخ استقبال بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، بخلاف التخصيص فإنه لا يدخل إلا في عام له أفراد متعددة يخرج بعضها بالمخصص، ويبقى بعضها الآخر
(5)
.
(1)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 104؛ روضة الناظر 1/ 132؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 66.
(2)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 105؛ روضة الناظر 1/ 133؛ البحر المحيط 4/ 329؛ إرشاد الفحول
1/ 354؛ مذكرة أصول الفقه ص 66؛ مناهل العرفان 2/ 202.
(3)
انظر: روضة الناظر 1/ 133؛ البحر المحيط 4/ 329؛ إرشاد الفحول 1/ 354؛ مذكرة أصول الفقه ص 67.
(4)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. و انظر الإحكام للآمدي 2/ 105.
(5)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 104؛ روضة الناظر 1/ 133؛ إرشاد الفحول 1/ 353؛ مذكرة أصول الفقه ص 66؛ مناهل العرفان 2/ 201.
سادساً: أن الشريعة المتأخرة تنسخ الشريعة السابقة فيما يعارضها. ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى
(1)
.
سابعاً: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام
(2)
.
ثامناً: أن النسخ يرفع حكم العام والخاص، أما التخصيص فلا يدخل في غير العام
(3)
.
تاسعاً: أن النسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع، فالإجماع لا يكون ناسخاً، بخلاف التخصيص فإنه يجوز أن يكون بالإجماع
(4)
.
عاشراً: أن النسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان، والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال
(5)
والله أعلم.
(1)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 105؛ البحر المحيط 4/ 329؛ إرشاد الفحول 1/ 353.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(3)
انظر: إرشاد الفحول 1/ 354.
(4)
انظر: إرشاد الفحول 1/ 354.
(5)
انظر: المستصفى ص 89؛ البحر المحيط 4/ 328؛ إرشاد الفحول 1/ 352.
المطلب الثالث: الفرق بين النسخ والبداء
اجتمع رأي بعض اليهود
(1)
، والرافضة
(2)
، على دعوى: أن النسخ يستلزم البداء، فلزمهم التسوية بينهما في الجواز وعدمه، فقالت اليهود: لا يجوز النسخ؛ لأنه يستلزم البداء، وهو محال على الله تعالى
(3)
.
وقالت الرافضة: يجوز البداء على الله تعالى؛ لجواز النسخ
(4)
.
وكلا الزعمين كفر وضلال. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ولذلك يجب معرفة الفرق بين النسخ والبداء حتى يُرَدّ به على هذين الزعمين الباطلين.
وفيما يلي بيان ما يفرق به بينهما
لقد سبق تعريف النسخ.
(1)
سيأتي في مطلب: مشروعية النسخ، ذكر فرق اليهود فيها، ومن قال منهم أن النسخ يستلزم البداء.
(2)
الرافضة، قد تطلق على جميع الشيعة، وقد تطلق على طائفة منهم، ويسمون كذلك الإمامية، وإنما سموا رافضة؛ لرفضهم إمامة زيد بن علي. أو لرفضهم إمامة الشيخين أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما. انظر: مقلات الإسلاميين للأشعري 1/ 88، 89؛ الملل والنحل ص 155؛ فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها للدكتور غالب عواجي 1/ 138، 163، 165.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 8؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 109؛ البحر المحيط للزركشي 5/ 205؛ مناهل العرفان 2/ 198.
(4)
انظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 205؛ مناهل العرفان 2/ 198.
أما البداء، فهو يطلق في اللغة على معنيين:
أحدهما: الظهور بعد الخفاء، يقال: بدا الشيء، يبدو بدُوّاً، وبَدْواً، وبدَاءً، وبداءة، وبداً، أي ظهر
(1)
.
وقد جاء استعماله بهذا المعنى في آيات من كتاب الله تعالى، ومنها:
أ-قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}
(2)
.
قال ابن جرير: (وظهر لهم يومئذٍ من أمر الله وعذابه، الذي كان أعدّه لهم، ما لم يكونوا قبل ذلك يحتسبون أنه أعدّه لهم)
(3)
.
ب-قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
(4)
.
الثاني: نشأة رأي جديد لم يكن موجوداً من قبل. يقال: بدا له في الأمر بُدُوّاً، وبداء، وبداة، أي نشأ له فيه رأي
(5)
.
وقد جاء استعماله بهذا المعنى كذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}
(6)
.
(1)
انظر: مختار الصحاح ص 38؛ لسان العرب 1/ 347؛ المصباح المنير ص 44؛ القاموس المحيط ص 1136.
(2)
سورة الزمر، الآية (47).
(3)
جامع البيان 12/ 7454.
(4)
سورة الجاثية، الآية (33).
(5)
انظر: مختار الصحاح ص 38؛ القاموس المحيط ص 1136.
(6)
سورة يوسف، الآية (35).
قال ابن جرير: (وقيل: معنى قوله {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقاً، ورأوا أن يسجنوه)
(1)
.
وكلا المعنيين يستلزم سبق الجهل، وحدوث العلم، وكلاهما محال على الله سبحانه و تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، والعلم من صفاته اللازمة، وليس شيء منه بحادث
(2)
. ومن الأدلة عليه ما يلي:
1 -
(3)
.
2 -
(4)
.
3 -
قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
(1)
جامع البيان 7/ 4823.
(2)
انظر: النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد 1/ 21؛ مناهل العرفان للزرقاني 2/ 197.
(3)
سورة البقرة، الآية (29).
(4)
سورة الأنعام، الآية (59).
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}
(1)
.
4 -
(2)
.
5 -
(3)
.
ويمكن تلخيص الفروق بين النسخ والبداء فيما يلي:
أولاً: أن في البداء يأمر الآمر بالأمر، وهو لا يدري ما يؤول إليه الحال، فهو ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائماً بأمر حادث لا بعلم سابق. وفي النسخ يأمر الآمر بالأمر، وهو يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد. قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه، فهو حين الأمر قد علم أن لتكليف المكلف بالأمر غاية ينتهي الإيجاب إليه، ثم يرتفع بنسخه
(4)
.
ثانياً: (أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول،
(1)
سورة الرعد، الآيات (8 - 10).
(2)
سورة الحديد، الآية (22).
(3)
سورة الطلاق، الآية (12).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 483؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 116.
مثل أن يأمره بعمل يقصد به مطلوباً، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه)
(1)
.
ثالثاً: أن النسخ يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن له ملك السماوات والأرض فله أن يقرر ما يشاء، ويأمر بما يشاء، وينهى ويمحو ما يشاء؛ لأنه المالك والمليك، ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى النسخ ذكر بعده قدرته وملكه، قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}
(2)
.
أما البداء فإن صاحبه إنما يأمر بخلاف أمره الأول لمصلحة أخطأه وجهله في الأمر الأول، وليس تغييره للأمر الأول لملكه وقدرته المطلقة.
رابعاً: أن النسخ قد يكون لتمييز الخبيث من الطيب، والمنافق والمتردد من المؤمن الثابت، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما حول القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام قال عند ذلك:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}
(3)
.
وكذلك قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(1)
نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 117.
(2)
سورة البقرة، الآيتان (106، 107).
(3)
سورة البقرة، الآية (143).
بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
(1)
.
وليس في البداء شيء من هذه الحِكَم.
فتبين مما ذُكر أن بين النسخ والبداء فرقاً وبعداً كما بين المشرقين، وأن النسخ لا يستلزم البداء ألبتة، فإن النسخ فيه حِكَم كثيرة، وإظهار لقدرة الله تعالى وملكه المطلق، وليس في البداء شيء من ذلك، لذلك لا يوصف الله سبحانه وتعالى بالبداء؛ لأنه ليس بصفة كمال، بل صفة نقص، وأما النسخ فلا يستلزم منه النقص لذلك توصف أفعاله سبحانه وتعالى به.
والله أعلم.
(1)
سورة النحل، الآيتان (101، 102).
المطلب الرابع: مشروعية النسخ
لا خلاف في مشروعية النسخ وجوازه، عقلاً، ووقوعه شرعاً، وذلك في الشرائع التي شرعها الله تعالى لعباده، إلا ما روي عن بعض اليهود، وعن شرذمة من المسلمين، إنكارهم للنسخ.
أما اليهود فإنهم قد انقسموا في ذلك ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قالوا: لا يجوز النسخ عقلاً، ولا شرعاً؛ زاعمين أنه عين البداء، وهو لا يجوز على الله تعالى
(1)
.
القسم الثاني: قالوا: يجوز النسخ عقلاً، لا شرعاً، زاعمين أن موسى عليه السلام قال: إن شريعته لا تُنسخ من بعده
(2)
.
القسم الثالث: قالوا: يجوز النسخ شرعاً، لا عقلاً، ثم زعم بعضهم: أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس نبيّاً. وزعم بعضهم: أنه نبيّ لكنه لم يُبعث بنسخ شريعة موسى
(1)
القائلون بهذا القول فرقة يسمون (الشمعونية)، أو (الشمعنية). نسبة إلى شمعون بن يعقوب. انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 109؛ الإحكام للآمدي 2/ 106؛ أصول فخر الإسلام مع شرحه كشف الأسرار 3/ 302؛ تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السُّول لأبي زكريا يحيى الرهوني 3/ 375 - 376؛ شرح مختصر الروضة للطوفي 2/ 266؛ التحرير لابن الهمام، وشرحه تيسير التحريرلأمير بادشاه 3/ 181؛ شرح الكوكب المنير 3/ 533.
(2)
وهذه الفرقة تسمى (العنانية)، نسبة إلى عنان بن داود. راجع المصادر في الحاشية السابقة.
عليه السلام، ولا بعث إلى بني إسرائيل بل إلى العرب خاصة
(1)
.
ويُرد على هذه المزاعم بما يلي:
-أما القول بأن النسخ عين البداء، وأن ذلك لا يجوز على الله تعالى، فقد سبق في المطلب السابق تعريف البداء، والفرق بينه وبين النسخ، وهو يكفي في الرد على هذا الزعم.
كما يرد عليه: بأن النسخ قد وُجد في شريعة موسى عليه السلام، فكيف ينكرونه، ومن الأمثلة على ذلك:
أ-أنه ورد في التوراة أن الله تعالى أمر آدم عليه السلام: أن يزوج بناته من بنيه. وقد حرم ذلك في الشرائع من بعده، وتحريم الشيء بعد تحليله نسخ
(2)
.
ب-أن الاصطياد يوم السبت كان حلالاً لهم، ثم حرم عليهم
(3)
.
(1)
وهذه الفرقة تُسمى (العيسوية) نسبة إلى أبي عيسى الأصفهاني. راجع المصادر في الحاشية ما قبل السابقة.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 8؛ نواسخ القرآن 1/ 113؛ الإحكام للآمدي 2/ 108؛ التحرير مع شرحه تيسير التحرير 3/ 128؛ الإبهاج في شرح المنهاج لتاج الدين السبكي 2/ 229. وذكر الدكتور مصطفى زيد في كتابه: النسخ في القرآن 1/ 36، أن ذلك موجود في التوراة، في سفر التكوين، الأصحاح (4)، الآية (3).
(3)
ذكر الدكتور مصطفى زيد في كتابه: النسخ في القرآن 1/ 37، أن ذلك موجود في التوراة، في سفر الخروج، الأصحاح (16)، الآيتان:(25، 26). وانظر: نواسخ القرآن 1/ 113.
(1)
. وتحريم الشيء بعد تحليله نسخ
(2)
.
ج- أن الشحوم كانت مباحة، ثم حرم عليهم ببغيهم، قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
(3)
.
فهذا كذلك يدل على وجود النسخ في شريعة موسى عليه السلام
(4)
.
-أما الزعم بأن موسى عليه السلام قال بأن شريعته لا تُنسخ من بعده. فهو مما لا يصح عن موسى عليه السلام، ولا يوجد له ذكر في التوراة، بل هو كذب محض وضعه بعض الزنادقة عليه، ولو كان له
(1)
سورة النساء، الآية (160).
(2)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 113؛ شرح مختصر الروضة 2/ 268؛ النسخ في القرآن لدكتور مصطفي زيد 1/ 37.
(3)
سورة الأنعام، الآية (146).
(4)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 114.
أصل صحيح لاحتج به أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم لما
هاجر إلى المدينة، ودعاهم إلى الإسلام
(1)
.
أما ما يقال من وجود آيات أو آثار في شريعة موسى عليه السلام ممّا تدل على استمرار شريعته، فليس المراد به أن شريعته لا تُنسخ، بل المراد: ما لم يأت النبي المنتظر، فهو كمثل ما أمروا به من العمل في غير السبت، ثم تحريم العمل في السبت، وبمنزلة صيام وقت مّا، والمنع منه في وقت آخر
(2)
.
-أما الزعم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن نبياً، أو أنه لم يبعث إلى بني إسرائيل بل إلى العرب خاصة، فيرد عليه: بأن في التوراة والإنجيل ما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورآه اليهود عرفوه، واعترفوا أنه النبي الموعود
(3)
.
ولقد جاءت النصوص متواترة بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثُ إلى الناس عامة، وأن شريعته نسخت الشرائع ما قبلها، فمن لم يؤمن به وبما جاء به، فإنه لم يؤمن بالله، ولن يقبل الله منه ديناً سواه، ومن هذه النصوص:
1 -
قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
(1)
يقال: إن ابن الراوندي هو الذي لقنهم ذلك. انظر: قواطع الأدلة للسمعاني 1/ 422؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 114؛ أصول السرخسي 2/ 55؛ تحفة المسؤول 3/ 378؛ النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد 1/ 48.
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 485 - 486؛
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 770؛ السيرة النبوية لابن هشام 1/ 516 - 519؛ الإحكام لابن حزم 1/ 485؛ الملل والنحل ص 233؛ الرحيق المختوم ص 181 - 182.
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(1)
.
2 -
(2)
.
3 -
(3)
.
4 -
(4)
.
5 -
وعن جابر بن عبد الله
(5)
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يُعطهنّ أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر،
(1)
سورة آل عمران، الآية (85).
(2)
سورة الأعراف، الآية (158).
(3)
سورة الأحزاب، الآية (40).
(4)
سورة سبأ، الآية (28).
(5)
هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي السلمي الأنصاري، أبو عبد الله، أحد المكثرين للأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، والحسن البصري، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وسبعين-وقيل غير ذلك-. انظر: الإصابة 1/ 243؛ تهذيب التهذيب 2/ 38.
وجُعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أُمّتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة»
(1)
.
أما الشرذمة المنكرة للنسخ من المسلمين فمنهم أبو مسلم الأصفهاني
(2)
، وبعض الآخرين ممن تشيَّع له من قدامى ومُحْدثين
(3)
، لكنهم لم ينكروا نسخ الشرائع السابقة بشريعة الإسلام، بل أنكروا وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية
(4)
.
وهم قد أَوَّلُوا الآيات التي تدل على النسخ كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 72، كتاب التيمم، باب، ح (335)، ومسلم في صحيحه 3/ 327، كتاب المساجد، ح (521)(3).
(2)
هو: محمد بن بحر، أبو مسلم الأصفهاني، المعتزلي، كان عالماً بالتفسير، متكلماً جدلياً، وألف في الناسخ والمنسوخ، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. انظر: الوافي بالوفيات 2/ 244.
(3)
ومنهم: الدكتور عبد المتعال محمد الجبري، حيث ألف كتابين أحدهما في إنكار النسخ في القرآن الكريم، والثاني في إنكار النسخ في السنة النبوية، كما أنكر النسخ المفكر المعاصر محمد الغزالي، وغيره. انظر: مناهل العرفان 2/ 225؛ مقدمة تحقيق نواسخ القرآن 1/ 31؛ مقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، - تحقيق محمد بن صالح المديفر- ص 73 - 75.
(4)
انظر: كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3/ 302؛ قواطع الأدلة 1/ 419؛ إرشاد الفحول
2/ 52؛ النسخ في الشريعة كما أفهمه للدكتور عبد المتعال محمد الجبري ص 5، 43؛ مقدمة تحقيق نواسخ القرآن 1/ 31؛ مقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 73 - 75.
نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(1)
.
(2)
.
بأن المراد بها نسخ الشرائع السابقة بشريعة الإسلام
(3)
.
ومنعوا النسخ في الشريعة الإسلامية، بدليل أن النسخ إبطال، والله سبحانه وتعالى قال:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
(4)
.
فالآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبداً، ولو وقع النسخ في القرآن لأتاه الباطل؛ لأن النسخ فيه إبطال لحكم سابق
(5)
.
ويرد على زعمهم الباطل بما يلي:
أولاً: أن قولهم هذا مخالف للإجماع؛ حيث إن الأمة قبل أصحاب هذا القول أجمعت على جواز النسخ ووقوعه في الشريعة الإسلامية؛ فلذا ليس لهذا الزعم أي اعتبار
(6)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (106).
(2)
سورة النحل، الآية (101).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 71؛ النسخ في الشريعة كما أفهمه ص 5، 43.
(4)
سورة فصلت، الآية (42).
(5)
انظر: أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 952؛ مناهل العرفان 2/ 223.
(6)
انظر: أصول السرخسي 2/ 54؛ الإحكام للآمدي 2/ 108؛ أصول الفقه الإسلامي 2/ 951؛ مناهل العرفان 2/ 203.
ثانياً: أن تأويل الآيات التي تدل على النسخ في الشريعة الإسلامية بأن المراد بها نسخ الشرائع السابقة، بعيد جداً؛ ولم ينقل عن أحد من السلف تفسيره بذلك، بل المنقول عنهم أن المراد به نسخ آيات من القرآن بآيات أخرى منه، أو نسخ بعض أحكامه بأحكام أخر
(1)
.
ثالثاً: أن استدلالهم بأن النسخ إبطال والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيرد على استدلالهم ذلك بما يلي:
أ- أن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما نص عليه القرآن، والنسخ إبطال وليس بباطل، فالباطل ما خالف الحق، والنسخ حق، ومعنى الآية: أن عقائد القرآن موافقة للعقل، وأحكامه مسايرة للحكمة، وأخباره موافقة للواقع، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل، فلا يتطرق إليه الخطأ بأي حال
(2)
.
ب- أن الضمير في قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} عائد لمجموع القرآن، أي أن القرآن كله لا ينسخ، وهو مما لا خلاف فيه
(3)
.
ج- أن معنى الآية: أن القرآن الكريم لم يتقدمه من كتب الله ما
(1)
انظر: جامع البيان لابن جرير 1/ 607 - 6 - 8؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 71؛ الجامع لأحكام القرآن
2/ 61؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 142.
(2)
انظر: مناهل العرفان 2/ 224؛ أصول الفقه الإسلامي 2/ 952.
(3)
انظر: أصول الفقه الإسلامي 2/ 953.
يبطله، ولا يأتيه من بعد ما يبطله، وهذا لا ينافي أن يوجد في القرآن نفسه ما ينسخ بعضه بعضاً، فلا يتم الاستدلال من الآية على عدم جواز النسخ أو عدم وقوعه
(1)
.
رابعاً: أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، وثبت ذلك بأدلة كثيرة، فإنكاره إنكار للواقع، ومن أدلة وقوعه ومشروعيته ما يأتي ذكره.
الأدلة على مشروعية النسخ وجوازه:
أولاً: الأدلة الشرعية على مشروعية النسخ وجوازه، ووقوعه:
1 -
(2)
.
فهذه الآية نص في وقوع النسخ، وأن الله تعالى ينسخ الآيات فيُبدلها ويغيرها، فيحول
الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً
(3)
.
2 -
قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}
(4)
.
عن ابن عباس-رضي الله عنهما {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قال: (من
(1)
راجع المصدر في الحاشية السابقة.
(2)
سورة البقرة، الآية (106).
(3)
انظر: جامع البيان للطبري 1/ 607؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 119؛ شرح مختصر الروضة 2/ 269.
(4)
سورة الرعد، الآية (39).
القرآن، يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب: الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب)
(1)
.
3 -
(2)
.
عن مجاهد
(3)
: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} قال: نسخناها، بدلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها
(4)
.
فتبديل حكم الآية أو لفظها بغيره، هو النسخ
(5)
.
4 -
(6)
.
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره جامع البيان 8/ 5051، ونحوه ابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 122.
(2)
سورة النحل، الآية (101).
(3)
هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المخزومي مولاهم، المكي، شيخ القراء والمفسرين، ثقة إمام، روى عن: علي، وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: عطاء، وقتادة، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى أو اثنتان أو ثلاث ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 449؛ تهذيب التهذيب 10/ 37؛ تقريب التهذيب 2/ 159.
(4)
انظر: جامع البيان 8/ 5366.
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة 2/ 269.
(6)
سورة النساء، الآية (160).
وتحريم الشيء بعد تحليله هو حقيقة النسخ
(1)
.
5 -
الإجماع، فإنه لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ، ووقوعه
(2)
.
ثانياً: الأدلة العقلية على جواز النسخ.
العقل يُجَوِّزُ النسخ ولا يمنعه، يدل عليه ما يلي:
أ-لأن النسخ لا يلزم منه محال لذاته، وما لا يلزم منه محال لذاته يجوزه العقل ولا يمنعه
(3)
.
ب-ولأن الله سبحانه وتعالى له ملك السماوات والأرض، فله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، فهو يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وهو على كل شيء قدير
(4)
.
(1)
انظر: شرح مختصر الروضة 2/ 268.
(2)
وإن كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني أنكر وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية فإن الإجماع قد سبقه على جوازه ووقوعه؛ لذلك فإن إنكاره لا يقدح في الإجماع. كما أنه بذلك يكون منكراً لشيء معلوم من الدين بالضرورة. انظر: أصول السرخسي 2/ 54؛ أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 302 - 303؛ المستصفى ص 89؛ الإحكام للآمدي 2/ 106؛ تحفة المسؤول 3/ 375 - 376؛ البحر المحيط 5/ 208 - 209، 213؛ شرح مختصر الروضة 2/ 266 - 267؛ شرح الكوكب المنير 3/ 535؛ إرشاد الفحول 2/ 53.
(3)
انظر: رفع الحاجب عن مختصر ابن حاجب للسبكي 4/ 40؛ تحفة المسؤول 3/ 376؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 65.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 8؛ الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 228؛ تحفة المسؤول 3/ 376.
ج- ولأن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات، والأحوال، والأشخاص، فقد يكون الشيء مصلحة في وقت وحال، ولا يكون مصلحة في وقت آخر، وقد يكون مصلحة لشخص، ولا يكون مصلحة لشخص آخر، كشرب دواء في وقت دون وقت، ولشخص دون شخص آخر، وإذا كان الأمر كذلك فلا بُعد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع ذلك الحكم، وفي وقت تقتضي رفعه
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 420؛ نواسخ القرآن 1/ 112؛ مختصر ابن حاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 40؛ الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 228؛ تحفة المسؤول 3/ 376؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 65.
المطلب الخامس: الحكمة من وقوع النسخ
إن الله سبحانه وتعالى حكيم، فما شرعه لعباده لا يخلو عن حكمة بالغة، أو مصلحة ظاهرة، أو منفعة عاجلة أو آجلة، فالشريعة كلها (مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها)
(1)
.
ثم النسخ قد حصل للشريعة السابقة باللاحقة، ثم كلها بشريعة الإسلام، كما وجد النسخ في الشريعة الإسلامية؛ حيث نُسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض. وكل منهما لا يخلو من حكمة، وبيانه فيما يلي:
أولاً: الحكمة من نسخ الشريعة السابقة باللاحقة، ثم جميعها بشريعة الإسلام:
إن نسخ الشريعة السابقة باللاحقة، ثم جميعها بشريعة الإسلام مبني على حكم ومصالح عديدة، منها ما يلي:
أ- أن هذا الخلق طبع على الملالة من الشيء، فشرع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها
(2)
.
ب-الحفاظ على مصالح العباد؛ وذلك أنه إذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكم بحكم، وشريعة بشريعة، كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة
(3)
.
ج-بيان شرف نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه نُسخ بشريعته الشرائع السابقة، وشريعته لا
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 11.
(2)
انظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 214؛ إرشاد الفحول 2/ 54.
(3)
انظر: البحر المحيط 5/ 214؛ إرشاد الفحول 2/ 54.
ناسخ لها
(1)
.
د-بيان أن الشريعة الإسلامية أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وأنها تصلح للأفراد والمجتمعات بجميع أشكالها وألوانها، وتصلح لكل زمان ومكان، فكان بذلك ديناً عاماً خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
(2)
.
ثانياً: الحكمة من وجود النسخ في الشريعة الإسلامية
إن وجود النسخ في الشريعة الإسلامية، ونسخ بعض أحكامها ببعض، بُني على حكم، ومراعاة مصالح للمكلفين في كل وقت وحين، ومن تدبر في الناسخ والمنسوخ من الآيات والآثار ظهر له الشيء الكثير من حكم النسخ، ومنها ما يلي:
أ-حفظ مصالح العباد؛ وذلك أنه إذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكم بحكم، كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة
(3)
.
ب-التدرج في تشريع الأحكام حتى يكون ذلك موافقاً وملائماً لقدرات المكلفين، ومعيناً لهم على حسن الامتثال؛ وذلك أن الأمة في بدايتها كانت تعاني فترة انتقال شاق في ترك موروثاتها وعاداتها، فلو أخذوا بهذا الدين مرة واحدة لأدى ذلك إلى نقيض المقصود، ولم يدخل فيه إلا النزر اليسير،
(1)
انظر: البحر المحيط 5/ 214؛ إرشاد الفحول 2/ 54.
(2)
انظر: مناهل العرفان للزرقاني 2/ 210.
(3)
انظر: البحر المحيط 5/ 214؛ إرشاد الفحول 2/ 54.
فمن هنا جاءت الشريعة تمشي على مهل، متألّفة لهم، متلطِّفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويداً رويداً، فشرع لهم فيما بعد متدرجة بعض ما يخالف الأمور السابقة؛ وذلك لما استقر الإسلام في نفوسهم، وسهل عليهم الامتثال لأوامره والانزجار عن نواهيه
(1)
.
ج-رحمة الله تعالى بعباده والتخفيف عنهم، وذلك أن النسخ إما أن يكون إلى ما هو أشق، أو إلى ما هو أيسر، فإن كان إلى ما هو أشق فهو لزيادة المثوبة والأجر، وإن كان إلى ما هو أيسر، فهو للتخفيف ورفع الحرج، وفي كل ذلك رحمة من الله بعباده، وإسعادهم في الدنيا والآخرة
(2)
.
د-ابتلاء العباد واختبارهم ليميز الله المنافق من المؤمن، والخبيث من الطيب
(3)
.
(4)
.
وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا
(1)
انظر: مناهل العرفان 2/ 211؛ المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي ص 75 - 81؛ تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد علي السايس ص 32 - 34.
(2)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 106؛ البحر المحيط 5/ 215؛ إرشاد الفحول 2/ 54.
(3)
انظر: مناهل العرفان 2/ 212.
(4)
سورة البقرة، الآية (143).
إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
(1)
.
والله أعلم.
(1)
سورة النحل، الآيتان (101، 102).
المطلب السادس: شروط النسخ
قد ورد النسخ في الشريعة الإسلامية، ومعرفته أمر مُهِمُّ وضروري، ولمعرفته لا بد من معرفة شروطه
(1)
.
وأهم هذه الشروط ما يلي:
أولاً: أن يكون النسخ بدليل شرعي، فلا يكون ارتفاع الحكم بموت المكلف أو جنونه نسخاً، بل سقوط تكليف
(2)
.
ثانياً: أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً، أي ثبت بدليل الشرع ثم رفع، وبهذا يخرج ما كان ثابتاً بالعادة والبراءة الأصلية، فإن رفع ذلك لا يسمى نسخاً بل ابتداء شرع
(3)
.
ثالثاً: أن لا يكون الحكم السابق مقيداً بوقت، أما لو كان كذلك فلا
(1)
للشرط لغة معان، منها: العلامة، وإلزام الشيء والتزامه. انظر: مختار الصحاح ص 294؛ المصباح المنير ص 254؛ القاموس المحيط ص 605 - 606.
والشرط اصطلاحاً: هو ما لا يلزم من وجوده لذاته وجود ولا عدم، ولكنه يلزم من عدمه عدم المشروط. مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 40. وانظر: التعريفات للجرجاني ص 125؛ التعريفات الفقهية ص 121؛ أصول الفقه الإسلامي للزحيلي 1/ 99.
(2)
انظر: الاعتبار ص 53؛ البحر المحيط 5/ 216؛ إرشاد الفحول 2/ 55.
(3)
انظر: الاعتبار ص 53؛ نواسخ القرآن 1/ 137؛ البحر المحيط 5/ 216؛ إرشاد الفحول 2/ 55.
يكون انقضاء وقته الذي قُيّد به نسخاً له
(1)
.
ومثاله: النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، فلا يكون النهي عن النوافل في هذا الوقت المخصص ناسخاً لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التأقيت يمنع النسخ
(2)
.
رابعاً: أن يكون الحكم في الناسخ متناقضاً لحكم المنسوخ. بحيث لا يمكن العمل بهما جميعاً، فإن كان العمل بهما جميعاً ممكناً لم يكن أحدهما ناسخاً للآخر
(3)
.
خامساً: أن يكون الحكم المنسوخ متقدماً وثابتاً قبل ثبوت الحكم الناسخ، ويكون الحكم الناسخ متأخراً عنه، ويُعلم ذلك بطريقين:
أحدهما: أن يرد في النص ما يدل على تأخر أحد الحكمين على الآخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، كقوله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
(4)
.
وقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ
(1)
انظر: الاعتبار ص 53؛ البحر المحيط 5/ 217؛ إرشاد الفحول 2/ 55.
(2)
انظر: الاعتبار ص 53.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 135.
(4)
سورة البقرة، الآية (187).
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
(1)
.
الثاني: أن يعلم المتأخر عن المتقدم بطريق التاريخ، كأن يصرح الراوي أن هذا الحكم كان قبل هذا الحكم
(2)
.
سادساً: أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ، متراخياً عنه، فإن كان مقترناً ومتصلاً كالشرط والاستثناء، فإن ذلك لا يسمى نسخاً بل تخصيصاً
(3)
.
سابعاً: أن يكون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل الطريق الذي ثبت به المنسوخ أو أقوى منه، فإن كان أضعف منه ودونه، فإنه لا يجوز أن يكون ناسخاً للأقوى؛ لأن الضعيف لا يزيل القوي
(4)
.
ثامناً: أن يكون مما يصح ويجوز نسخه، فلا يدخل النسخ أصل التوحيد؛ لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال. وكذلك لا يدخل النسخ
(1)
سورة الأنفال، الآية (66).
(2)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 136؛ الاعتبار ص 56. وسيأتي تفصيل معرفة المتأخر من المتقدم في مطلب طرق معرفة النسخ في المبحث الثاني.
(3)
انظر: الاعتبار ص 53؛ البحر المحيط 5/ 216؛ إرشاد الفحول 2/ 55.
(4)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 137؛ البحر المحيط 5/ 217؛ إرشاد الفحول 2/ 55. وفيه خلاف سيأتي بيانه في مطلب أنواع النسخ وأقسامه في المبحث الثاني.
الأخبار وكل ما لا يكون إلا على
صفة واحدة
(1)
.
تاسعاً: أن يكون الناسخ والمنسوخ من الكتاب أو السنة، فلا يكون النسخ بغيرهما
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: البحر المحيط 5/ 217؛ إرشاد ا لفحول 2/ 55.
(2)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 137.
المطلب السابع: فضيلة علم الناسخ والمنسوخ
علم الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة علم مهم وضروري كما سبق ذكره في أهمية الموضوع وأسباب اختباره.
وأهميته يدل على فضيلته، كما يدل عليه الأمور التالية:
أولاً: أن معرفة الناسخ والمنسوخ من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
(1)
. قال: (المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، وحرامه، وحلاله، وأمثاله)
(2)
.
فدل هذا على فضيلة علم الناسخ والمنسوخ، وضرورة معرفته وتعلمه.
ثانياً: أنه روي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم عدم جواز الإفتاء إلا لمن عرف الناسخ والمنسوخ وعلمه، فعن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: انتهى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رجل يعظ الناس، فقال:(أعلمت الناسخ والمنسوخ؟) قال: لا. قال: (هلكت وأهلكت)
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد، فإذا رجل يخوّف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكّر الناس، فقال:(ليس برجل يذكر الناس، ولكنه يقول: أنا فلان بن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه، أتعرف الناسخ والمنسوخ؟) فقال: لا.
(1)
سورة البقرة، الآية (269).
(2)
سبق تخريجه في ص 8.
(3)
سبق تخريجه في ص 7.
قال: (فاخرج من مسجدنا، ولا تذكّر فيه)
(1)
.
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل علم ناسخ القرآن من منسوخه، قالوا: ومن ذاك؟ قال: عمر بن الخطاب، قال: وأمير لا يخاف، وأحمق متكلف)
(2)
.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه مرّ بقاص يقصّ، فركضه برجله، فقال:(تدري ما الناسخ من المنسوخ؟) قال: وما الناسخ من المنسوخ؟ قال: (وما تدري ما الناسخ من المنسوخ؟) قال: لا. قال: (هلكت وأهلكت)
(3)
.
ثالثاً: ومما يدل على فضله وضرورة معرفته كذلك: أن الفقهاء والمجتهدين جعلوا من شروط الاجتهاد معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، بحيث لا يخفى على المجتهد شيء من ذلك، وذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ
(4)
.
فدل كل هذا على فضلية علم الناسخ والمنسوخ، وضرورة تعلمه ومعرفته
(5)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 7.
(2)
سبق تخريجه في ص 7.
(3)
سبق تخريجه في ص 8.
(4)
انظر: البحر المحيط للزركشي 8/ 235؛ إرشاد الفحول للشوكاني 2/ 210.
(5)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 149 - 156.
المبحث الثاني
أنواع النسخ وأقسامه، وزمنه، وما يدخله النسخ وما لا يدخله، وطرق معرفته، وبعض من ألف فيه
. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أنواع النسخ وأقسامه.
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: أنواع النسخ في القرآن.
الفرع الثاني: أنواع نسخ القرآن والسنة.
الفرع الثالث: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي التكليفي.
الفرع الرابع: أنواع النسخ باعتبار البدل.
المطلب الثاني: زمن النسخ.
المطلب الثالث: ما يدخله النسخ وما لا يدخله.
المطلب الرابع: طرق معرفة النسخ.
المطلب الخامس: بعض من ألف في النسخ.
المطلب الأول: أنواع النسخ وأقسامه
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: أنواع النسخ في القرآن.
الفرع الثاني: أنواع نسخ القرآن والسنة.
الفرع الثالث: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي التكليفي.
الفرع الرابع: أنواع النسخ باعتبار البدل.
الفرع الأول: أنواع النسخ في القرآن
النسخ الواقع في القرآن على ثلاثة أنواع، وهي:
أولاً: ما نسخ تلاوته وحكمه معاً.
ومثاله ما روي عن عائشة
(1)
رضي الله عنها-قالت: (كان فيما أنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يُحرِّمْن». ثم نُسخن: بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يُقرأُ من القرآن)
(2)
.
فهذا مما نُسخ تلاوته وحكمه معاً
(3)
.
ومعنى قولها: (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأُ من القرآن) أن نسخها كان قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس لم يكن بلغهم نسخها إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقرؤونها ويجعلونها قرآناً، ثم بلغهم نسخها
(4)
.
(1)
هي: عائشة بنت عبد الله- أبي بكر الصديق-، التيمية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه النساء مطلقاً، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: عبد الله بن الزبير، وقاسم بن محمد، وغيرهما، وتوفيت سنة سبع وخمسين. انظر: سير أعلام النبلاء 2/ 135؛ الإصابة 4/ 2573.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 374، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، ح (1452)(24).
(3)
انظر: البرهان للزركشي 2/ 39؛ مناهل العرفان 2/ 232.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ البرهان للزركشي 2/ 39؛ الإتقان للسيوطي 2/ 42.
ثانياً: ما نسخ حكمه دون تلاوته
مثاله: قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}
(1)
.
فهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
(2)
.
فحكم الآية الأولى منسوخ بالآية الثانية، مع أن تلاوته باقية
(3)
.
ثالثاً: ما نسخ تلاوته دون حكمه
مثاله: ما روى ابن عباس-رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف)
(4)
.
(1)
سورة المجادلة، الآية (12).
(2)
سورة المجادلة، الآية (13).
(3)
انظر: مناهل العرفان 2/ 232.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1433، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، ح (6830)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 252، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى، ح (1691)(15).
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه قال: (وقد قرأتها: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده)
(1)
.
فهذه الآية لا وجود لها الآن في المصحف، وحكمها باق، فهي مما نسخ تلاوته، وبقي حكمه
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 435، كتاب الحدود، باب الرجم، ح (2553)، ومالك في الموطأ ص 629، ورجال مالك رجال الجماعة، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 435، وفي إرواء الغليل 8/ 4.
(2)
انظر: الإتقان 2/ 50؛ مناهل العرفان 2/ 233.
الفرع الثاني: أنواع نسخ القرآن والسنة
النسخ في الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن، وقد ترد به السنة. والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن، وقد ترد به السنة، فتكون الأقسام أربعة، وهي كالتالي:
أولاً: نسخ القرآن بالقرآن
وهو جائز وواقع بلا خلاف
(1)
(2)
.
ومن أمثلته كذلك بعض ما سبق في الفرع السابق.
ثانياً: نسخ القرآن بالسنة
وقد اختلف أهل العلم في هذا النوع في جوازه ووقوعه على قولين:
القول الأول: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة
وهو قول الإمام الشافعي
(3)
،
(1)
انظر: البرهان 2/ 32؛ إرشاد الفحول 2/ 67؛ مناهل العرفان 2/ 254.
(2)
سورة البقرة، الآية (106).
(3)
هو: محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع، القرشي، المطلبي، أبو عبد الله الشافعي، المكي نزيل مصر، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة خمسين ومائة وروى عن: مالك وابن عيينة، وغيرهما. وروى عنه: أحمد ابن حنبل، وأبو ثور، وغيرهما. وكان إماماً فقيهاً محدثاً، وتوفي سنة أربع ومائتين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 361؛ تهذيب التهذيب 9/ 23؛ شذرات الذهب 2/ 9.
وانظر قوله في: الرسالة ص 106؛ قواطع الأدلة 1/ 450؛ الإحكام للآمدي 2/ 138.
والمشهور عن الإمام أحمد
(1)
.
القول الثاني: يجوز نسخ القرآن بالسنة.
وهو قول الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
.
واستدل من قال بعدم الجواز بأدلة منها ما يلي:
(5)
.
فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى إذا نسخ آية فإنه يأتي بخير منها
(1)
هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي، أبو عبد الله، ثقة، فقيه، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة أربع وستين ومائة، وروى عن: الإمام الشافعي، وابن عيينة، وغيرهما، وروى عنه: الإمام البخاري، ويحيى بن معين، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 77؛ البداية والنهاية 10/ 249؛ تهذيب التهذيب 1/ 68.
وانظر قوله في: روضة الناظر 1/ 150؛ مجموع الفتاوى 17/ 195؛ المسودة في أصول الفقه ص 201؛ شرح الكوكب المنير 3/ 562.
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 67؛ أصول فخر الإسلام البزدوي مع كشف الأسرار للبخاري 3/ 335؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 93.
(3)
انظر: مختصر ابن الحاجب مع شرحه رفع الحاجب للسبكي 4/ 90؛ نفائس الأصول للقرافي 3/ 279؛ البحر المحيط 5/ 262؛ إرشاد الفحول 2/ 69.
(4)
انظر: المسودة ص 202؛ شرح الكوكب المنير 3/ 563.
(5)
سورة البقرة، الآية (106).
أو مثلها، والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله، فلا تكون ناسخةً له
(1)
.
واعترض عليه: بأن السنة كذلك من عند الله تعالى، والنسخ في الآية أعم من أن يكون في الأحكام أو في التلاوة، والخيرية والمثلية أعم من أن تكونا في المصلحة أو في الثواب، وعلى هذا فقد تكون السنة الناسخة خيراً من القرآن المنسوخ من هذه الناحية، وإن كان القرآن خيراً من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا
(2)
.
(3)
.
وهذه الآية كذلك تدل على أن الآية إذا بدلت يأتي بدلها آية، فيكون نسخ القرآن بالقرآن لا بغيره
(4)
.
واعترض عليه: بأنه سبحانه وتعالى لم يقل: أنه لا يبدل آية إلا مكان آية، بل إنه قال: إنه يبدل آية مكان آية، وليس فيه نفي أنه لا يبدل آية بغيرها
(5)
.
(1)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 108؛ الإتقان 2/ 40؛ مناهل العرفان 2/ 258.
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 75؛ الإتقان 2/ 40؛ مناهل العرفان 2/ 258.
(3)
سورة النحل، الآيتان (101، 102).
(4)
انظر: الرسالة ص 108؛ مناهل العرفان 2/ 257.
(5)
انظر: الإحكام شرح أصول الأحكام 1/ 521.
(1)
.
فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى فرض على نبيه اتباع ما يُوحى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه، وفي قوله:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} بيان أنه لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، فلا تكون السنة ناسخة له
(2)
.
واعترض عليه: بأن السنة كذلك وحي من عند الله تعالى، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(3)
.
وإذا كانت السنة وحياً من عند الله تعالى فنسخ القرآن بها نسخ من عند الله تعالى وليس من تلقاء نفس الرسول صلى الله عليه وسلم
(4)
.
د- ويدل عليه كذلك أن الصحابة-رضي الله عنهم والتابعين الذين
(1)
سورة يونس، الآية (15).
(2)
انظر: الرسالة ص 107؛ مناهل العرفان 2/ 257.
(3)
سورة النجم، الآيتان (3، 4).
(4)
انظر: أصول السرخسي 2/ 72؛ مناهل العرفان 2/ 257، 258.
أُخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ، إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بغير قرآن، والكتب المؤلفة في ناسخ القرآن ومنسوخه تتضمن هذا، فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن لوجب أن يذكروا ذلك كذلك
(1)
.
واعترض عليه: بأن إطلاق هذا القول على خلاف الواقع؛ حيث إن بعضاً ممن ألف في
ناسخ القرآن ومنسوخه، قد ذكرو في مؤلفاتهم نسخ بعض الآيات بالسنة
(2)
.
دليل من قال بجواز نسخ القرآن بالسنة
استدلوا بأدلة منها ما يلي:
أ- أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
(3)
.
نُسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث»
(4)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 17/ 197.
(2)
ومنهم أبو جعفر النحاس، والمكيّ القيسي، فقد ذكرا في الآية (145) من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى:{قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} الآية، أقوالاً منها قول من قال: إنها نسخت بالنهي عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 141؛ الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه للمكيّ القيسي ص 288.
(3)
سورة البقرة، الآية (180).
(4)
أخرجه من حديث أبي أمامة أبو داود في سننه ص 437، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، ح (2870) والترمذي في سننه ص 478، كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ح (2120)، وابن ماجة في سننه ص 461، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ح (2713)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 432. ثم أسند البيهقي إلى أحمد بن حنبل أنه قال:(إسماعيل بن عياش ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح) ثم قال البيهقي: (وكذلك قاله البخاري وجماعة من الحفاظ، وهذا الحديث إنما رواه إسماعيل عن شامي). وقال الترمذي في سننه ص 478: (حديث حسن صحيح)، وكذلك صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 87، ثم قال:(وقد جاء عن جماعة كثيرة من الصحابة، منهم أبو أمامة الباهلي، وعمرو بن خارجة، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم).
فالوصية للوالدين والأقربين كانت فرضاً بهذه الآية، ثم نسخ بالحديث المذكور
(1)
.
واعترض عليه: بأن الوصية للورثة نسخت بآيات المواريث، يدل عليه الحديث المذكور؛ حيث جاء فيه:«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه» ، وهذا الحق هو المذكور في آيات
المواريث
(2)
.
كما يدل عليه ما جاء عن ابن عباس-رضي الله عنهما أنه قال: (كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل
(1)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 338، 339؛ أصول السرخسي 2/ 69؛ مناهل العرفان 2/ 260.
(2)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي 3/ 339؛ مناهل العرفان 2/ 260.
للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع)
(1)
.
(2)
.
نُسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً. البكر بالبكر
(3)
جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب
(4)
جلد مائة والرجم»
(5)
.
فالإمساك في البيوت المذكور في الآية، نُسخ بالحديث المذكور، فجعل
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 556، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، برقم (2747).
(2)
سورة النساء، الآية (15).
(3)
البكر بالبكر، أي الرجل الذي لم يتزوج، بالمرأة التي لم تتزوج، ولم يوجد الدخول في النكاح الصحيح. طلبة الطلبة للنسفي ص 152.
والبكر: هي التي يكون واطئها مبتدءاً لها. التعريفات الفقهية ص 42.
(4)
الثيب هو الرجل المتزوج الداخل بالمرأة المنكوحة المدخول بها. طلبة الطلبة ص 153.
والثيبة: خلاف الباكرة، أي هي التي يكون واطئها راجعاً إليها. التعريفات الفقهية ص 42، 67.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه-من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه 6/ 249، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ح (1690)(12).
للبكر والباكرة الزانيين جلد مائة، وللثيب والثيبة الزانيين الرجم
(1)
.
واعترض عليه: بأن النسخ ثبت بالقرآن؛ حيث إن جلد الزاني ثابت بنص القرآن في قوله
تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(2)
.
وكذلك الرجم كان قد أنزل فيه قرآن يتلى، ثم نُسخ لفظه، وبقي حكمه وهو قوله:«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»
(3)
.
فلا يكون نسخ الآية بالسنة، بل بالقرآن
(4)
.
(5)
.
نُسخ بحديث ابن عباس-رضي الله عنها قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير»
(6)
.
(1)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 522؛ أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 342؛ أصول السرخسي 2/ 71؛ مناهل العرفان 2/ 261.
(2)
سورة النور، الآية (2).
(3)
سبق تخريجه في ص 66.
(4)
انظر: أصول السرخسي 2/ 71؛ مجموع الفتاوى 20/ 398؛ مناهل العرفان 2/ 261.
(5)
سورة الأنعام، الآية (145).
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 14، كتاب الصيد، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ح (1934)(16).
فالنهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ناسخ لهذه الآية فتكون السنة قد نسخت القرآن
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-أن الآية جواب لمن سأل عن أشياء بعينها، فوقع الجواب بخصوصها، أي أجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء، وليس المراد حصر جميع المحرمات فيما ذكر في الآية فقط
(2)
.
وعلى هذا فلا يكون للنسخ وجهاً في الآية، بل تكون محكمة، ويضم إليها بالسنة ما فيها
من محرم
(3)
.
ب- أن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها، فغير ما ذكر فيها مباح بالبراءة الأصلية، والأحاديث التي ذكر فيها محرمات غيرها، رفعت هذه البراءة، ورفعها لا يسمى نسخاً
(4)
.
وأجيب عن هذا: بأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/ 765؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 32؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7/ 103؛ تفسير ابن كثير 2/ 175؛ مختصر ابن حاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 82؛ إرشاد ا لفحول 2/ 70؛ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 2/ 187؛ مناهل العرفان 2/ 261.
(2)
انظر: جامع البيان 5/ 3608، 3609؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 21؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103.
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/ 765.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 175؛ مناهل العرفان 2/ 262.
الأربعة المذكورة فيها شرعاً، فتكون إباحة شرعية؛ لدلالة القرآن عليها، ورفع الإباحة الشرعية نسخ
(1)
.
هذا كان أظهر أدلة القولين، والذي يظهر-والله أعلم- أنه لا ما نع من نسخ القرآن بالسنة، لكن في وقوعه خلاف قوي. لكنه إذا أريد بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
. حصر المحرمات في الأربعة المذكورة، ونفي التحريم عمّا عداها، فإن الأظهر القول بنسخ هذا الحصر بالأحاديث التي جاء فيها ذكر محرمات كثيرة
(3)
والله أعلم.
ثالثاً: نسخ السنة بالسنة
نسخ السنة بالسنة أربعة أنواع:
1 -
نسخ سنة متواترة
(4)
بسنة متواترة.
(1)
انظر: أضواء البيان 2/ 187.
(2)
سورة الأنعام، الآية (145).
(3)
انظر: أضواء البيان 2/ 187.
(4)
السنة المتواترة أو الحديث المتواتر هو: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم. إرشاد الفحول 1/ 128.
أو هو: ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. تيسير مصطلح الحديث للطحان ص 18. وانظر: التعريفات ص 96.
2 -
نسخ سنة آحادِيَّة
(1)
بسنة متواترة.
3 -
نسخ سنة آحادِيّة بسنة آحادية.
4 -
نسخ سنة متواترة بسنة آحادِيّة.
أما الثلاثة الأول، وهي نسخ السنة المتواترة بالمتواترة، والآحادية بالمتواترة، والآحادية بالآحادية، فجائز بلا خلاف بين أهل العلم
(2)
.
واختلفوا في نسخ المتواترة بالسنة الآحادية على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، وأنه غير واقع.
وهو قول الجمهور
(3)
.
القول الثاني: أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، وأنه واقع.
وهو رواية عن الإمام أحمد، ويحتمله قول الإمام الشافعي، وقال به جماعة من أهل العلم، منهم ابن حزم
(4)
.
استدل أصحاب القول الأول: بأن المتواتر قطعي الثبوت، وخبر
(1)
سنة الآحاد، أو الخبر الواحد هو: ما يرويه الواحد أو الاثنان فصاعداً ما لم يبلغ التواتر. انظر: التعريفات ص 96؛ تيسير مصطلح الحديث ص 21.
(2)
انظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 259؛ إرشاد الفحول 2/ 67؛ مناهل العرفان 2/ 265.
(3)
انظر: التحرير لابن الهمام وشرحه تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 201؛ مختصر ابن الحاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 79؛ البحر المحيط 5/ 260؛ شرح الكوكب المنير 3/ 561؛ إرشاد الفحول 2/ 67.
(4)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 518؛ البحر المحيط 5/ 261؛ المسودة ص 206؛ شرح الكوكب المنير 3/ 561؛ إرشاد الفحول 2/ 67.
الواحد ظني، و القطعي لا يرتفع بالظني؛ لأن الشي لا يبطل أقوى منه
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- أنه لا تعارض بين خبرين مختلفي التاريخ لإمكان صدق كل منهما في وقته؛ إذ لا خلاف بين أهل العلم في عدم لزوم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن
اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتها
(2)
.
ب- بأنه مخالف للواقع، يدل عليه ما يذكر في أدلة القول الثاني.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
أ- عن عبد الله بن عمر
(3)
رضي الله عنهما-قال: (بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة» فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى
(1)
انظر: مختصر ابن الحاجب 4/ 79؛ تيسير التحرير 3/ 201؛ إرشاد الفحول 2/ 67؛ مناهل العرفان 2/ 265.
(2)
انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص 84.
(3)
هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن، هاجر وهو ابن عشر سنين، واستصغر يوم أحد، وشهد الخندق والمشاهد بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: جابر، وابن عباس، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وسبعين. انظر: الاستيعاب 2/ 341؛ الإصابة 2/ 1095؛ التهذيب 5/ 291.
الشام فاستداروا إلى الكعبة)
(1)
.
فأهل قباء قبلوا خبره، واستداروا وهم في صلاتهم، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهم، فدل ذلك على جواز نسخ الخبر المتواتر بالخبر الواحد، وعلى وقوعه
(2)
.
ب- عن أنس
(3)
رضي الله عنه قال: (ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحة
(4)
وفلاناً وفلاناً، إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: «حُرّمت الخمر» . قالوا:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 87، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ح (403)، ومسلم في صحيحه 3/ 333، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، ح (526)(13).
(2)
انظر: مختصر ابن الحاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 81، 82؛ إرشاد الفحول 2/ 67؛ مناهل العرفان 2/ 267.
(3)
هو: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه، وروى عنه: قتادة، والحسن، وغيرهما، وتوفي بالبصرة، وكان آخر من مات بها من الصحابة، وذلك سنة ثلاث وتسعين. انظر: البداية والنهاية 9/ 82؛ الإصابة 1/ 79؛ التهذيب 1/ 342.
(4)
هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، النجاري الأنصاري الخزرجي، أبو طلحة، مشهور بكنيته، شهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس بن مالك، وابن عباس، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وثلاثين، وقيل إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك. انظر: الإصابة 1/ 648؛ تهذيب التهذيب 3/ 360.
أهرِقْ هذه القلال
(1)
يا أنس. قال: فما سألوا عنها، ولا
راجعوها بعد خبر الرجل)
(2)
.
فهذا يدل على أن هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد وعملوا بمقتضاه، وهو يفيد نسخ إباحة الخمر عندهم، وقد كان ذلك معلوماً لهم بالتواتر
(3)
.
ج- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله لتبليغ الأحكام، وهم آحاد، وكانوا يبلغون الأحكام المبتدأة وناسخها
(4)
.
ويظهر-والله أعلم بالصواب- رجحان القول الثاني، وذلك لقوة أدلته.
رابعاً: نسخ السنة بالقرآن
اختلف أهل العلم في نسخ السنة بالقرآن على قولين:
القول الأول: يجوز نسخ السنة بالقرآن.
وهو قول جمهور أهل العلم
(5)
.
(1)
القِلال جمع قُلّة، وهي: الحُبُّ العظيم. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 486.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 957، كتاب التفسير، باب قوله:{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} ، ح (4617)، ومسلم في صحيحه 7/ 72، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، ح (1980)(4).
(3)
انظر: المسودة ص 206.
(4)
انظر: مختصر ابن الحاجب 4/ 81؛ إرشاد الفحول 2/ 68.
(5)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 335؛ أصول السرخسي 2/ 67؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 87؛ المستصفى ص 99؛ الإحكام للآمدي 3/ 135؛ البحر المحيط 5/ 272؛ روضة الناظر 1/ 149؛ المسودة ص 205؛ شرح الكوكب المنير 3/ 559؛ الإحكام لابن حزم 1/ 518؛ إرشاد الفحول 2/ 71.
القول الثاني: أن السنة لا ينسخها إلا سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة.
وهو قول الإمام الشافعي
(1)
.
دليل القول الأول
استدل أصحاب القول الأول-وهو جواز نسخ السنة بالقرآن- بورود ذلك في الشرع في غير موضع، منها ما يلي:
أ- أن التوجه إلى بيت المقدس عُرف بالسنة، ثم نُسخ ذلك بالقرآن
(2)
(3)
.
(1)
وذكر بعض أهل العلم أن للإمام الشافعي في المسألة قولان: أحدهما هذا، والثاني كقول الجمهور. انظر: الرسالة ص 108 - 110؛ قواطع الأدلة 1/ 456؛ الإحكام للآمدي 3/ 135؛ البحر المحيط 5/ 273.
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 77؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 87؛ الإحكام للآمدي 3/ 135؛ روضة الناظر 1/ 149؛ إرشاد الفحول 2/ 71.
(3)
سورة البقرة، الآية (144).
ومما يؤكد أن نسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، وقع بالكتاب:
1 -
عن البراء بن عازب
(1)
رضي الله عنهما-قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجّه نحو الكعبة)
(2)
.
2 -
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة» فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)
(3)
.
فقوله في الحديث الأول: (فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
(1)
هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي، الأوسي الأنصاري، صحابي ابن صحابي، أول مشاهده الخندق، وقيل أحد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن أبي ليلى، وأبو بردة، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وسبعين. انظر: الكاشف 1/ 98؛ التهذيب 1/ 388؛ التقريب 1/ 123.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 86، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ح (399)، ومسلم في صحيحه 3/ 333، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، ح (525)(11).
(3)
سبق تخريجه في ص 75.
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجّه نحو الكعبة)، وقوله في الحديث الثاني:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة). يدل على التوجه إلى الكعبة كان بأمر الله الذي أنزله في القرآن، وهو قوله:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
(1)
.
ب- أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة، ثم نُسخ ذلك بالقرآن
(2)
، وهو قوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
(3)
.
ج- أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً بالسنة، ثم نُسخ ذلك بفرض صوم رمضان
(4)
، في قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(5)
.
واستُدل للقول الثاني: بأن الله سبحانه وتعالى جعل السنة بياناً للكتاب، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
(1)
سورة البقرة، الآية (144).
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 77؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 87؛ الإحكام 3/ 136؛ روضة الناظر 1/ 149؛ إرشاد الفحول 2/ 72.
(3)
سورة البقرة، الآية (187).
(4)
انظر: مختصر ابن الحاجب 4/ 87؛ الإحكام 3/ 136؛ إرشاد الفحول 2/ 72.
(5)
سورة البقرة، الآية (185).
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
(1)
. فلو نُسخت السنة بالقرآن لخرجت السنة من كونها بياناً، ولاختلط البيان بالنسخ، لكن إذا انضم إلى السنة الأولى وإلى القرآن الذي أتى برفعه سنة أخرى تبين أن السنة الأولى منسوخة فقد زال ما يُخوف من اختلاط البيان بالنسخ
(2)
.
ولا شك أن القول الأول هو الأرجح والأقوى؛ لوقوع نسخ السنة بالقرآن في مسائل كثيرة، وعدم وجود دليل واضح يمنع من نسخ الكتاب للسنة
(3)
.
وكون السنة بياناً للقرآن لا يمنع أن تنسخ به؛ لأن بيانها بعد النسخ باق في الجملة، وذلك بالنسبة لما لم ينسخ منها
(4)
والله أعلم.
(1)
سورة النحل، الآية (44).
(2)
انظر: الرسالة ص 109 - 113؛ الإحكام 3/ 136؛ البحر المحيط 5/ 279.
(3)
انظر: الإحكام 3/ 136؛ البحر المحيط 5/ 279؛ مناهل العرفان 2/ 262.
(4)
انظر: مناهل العرفان 2/ 246.
الفرع الثالث: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي التكليفي
قسم أهل العلم
(1)
الحكم
(2)
الشرعي
(3)
الثابت لأفعال المكلفين
(4)
إلى أقسام خمسة، وهي:
أولاً: الفرض
(5)
والواجب
(6)
.
(1)
انظر: المستصفى للغزالي ص 52؛ روضة الناظر 1/ 64.
(2)
الحكم لغة: المنع، يقال: حكمت عليه بكذا: إذا منعته من خلافه. ومنه قيل للقضاء حكم؛ لأنه يمنع من غير المقضي. انظر: مختار الصحاح ص 130؛ المصباح المنير ص 127.
والحكم اصطلاحاً: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. مذكرة أصول الفقه ص 3.
(3)
الحكم الشرعي هو: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف. مذكرة أصول الفقه ص 4. وانظر: التعريفات للجرجاني ص 92؛ إرشاد الفحول للشوكاني 1/ 25.
(4)
المكلفين جمع مكلف، وهو: المسلم العاقل البالغ. التعريفات الفقهية ص 215.
والتكليف لغة: الأمر بما فيه مشقة. انظر: المصباح المنير ص 438؛ القاموس المحيط ص 765.
واصطلاحاً: إلزام الكلفة على المخاطب. التعريفات للجرجاني ص 65؛ التعريفات الفقهية ص 61.
وقيل: التكليف اصطلاحاً هو: طلب ما فيه مشقة. مذكرة أصول الفقه ص 5.
(5)
الفرض لغة: القطع، والحز، والتقدير، وما أوجبه الله تعالى على عباده. انظر: لسان العرب 10/ 230 - 231؛ المصباح المنير ص 381؛ القاموس المحيط ص 584.
أما الفرض اصطلاحاً: ففرق الحنفية بينه وبين الواجب-وهو رواية عن الإمام أحمد- فعرفوا الفرض بأنه: ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، ويكفر جاحده، ويعذب تاركه. التعريفات للجرجاني ص 165. وانظر: التعريفات الفقهية ص 163. روضة الناظر 1/ 65.
وعند الجمهور لا فرق عندهم بينه وبين الواجب فهو عندهم: ما توعد بالعقاب على تركه. روضة الناظر 1/ 64.
أو هو: ما أُمر به أمراً جازماً. مذكرة أصول الفقه ص 6.
(6)
الواجب من وجب، وهو لغة: السقوط، والثبوت، واللزوم. انظر: مختار الصحاح ص 625؛ المصباح المنير ص 531؛ القاموس المحيط ص 130.
أما الواجب اصطلاحاً، فقد سبق تعريفه عند الجمهور. أما عند الحنفية-وهو رواية عن الإمام أحمد- فهو: ما ثبت وجوبه بدليل فيه شبهة، لكونه ظني الدلالة أو ظني الثبوت. التعريفات الفقهية ص 235. وانظر: التعريفات للجرجاني ص 249؛ مذكرة أصول الفقه ص 6.
ثانياً: المندوب
(1)
.
ثالثاً: المباح
(2)
.
رابعاً: المكروه
(3)
.
(1)
المندوب من ندب، وهو لغة: الدعاء إلى الفعل. انظر: مختار الصحاح ص 573؛ المصباح المنير ص 488.
والمندوب اصطلاحاً هو: ما في فعله ثواب، ولا عقاب في تركه. روضة الناظر 1/ 79.
أو هو: ما أُمر به أمراً غير جازم. مذكرة أصول الفقه ص 12.
وقيل: المندوب: هو الفعل الذي يكون راجحاً على تركه في نظر الشارع، ويكون تركه جائزاً. التعريفات للجرجاني ص 231؛ التعريفات الفقهية ص 219.
(2)
المباح لغة: ضد المحظور، وباح الشيء: ظهر. انظر: مختار الصحاح ص 59؛ المصباح المنير ص 64.
والمباح اصطلاحاً هو: ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه. روضة الناظر 1/ 81.
وقيل هو: ما استوى طرفاه، يعني ما ليس بفعله ثواب ولا لتركه عقاب. التعريفات للجرجاني ص 196؛ التعريفات الفقهية ص 192.
(3)
المكروه اسم مفعول من كره، وهو لغة: ضد المحبوب. انظر: مختار الصحاح ص 500؛ المصباح المنير ص 433؛ القاموس المحيط ص 1127.
واصطلاحاً هو: ما ترجح تركه على فعله من غير وعيد فيه. البلبل في أصول الفقه للطوفي ص 36.
أو هو: ما نُهي عنه نهياً غير جازم. مذكرة أصول الفقه ص 17.
وقيل: المكروه هو: ما راجح الترك، فإن كان إلى الحرام أقرب تكون كراهته تحريمية، وإن كان إلى الحل أقرب تكون تنزيهية، ولا يعاقب على فعله. التعريفات للجرجاني ص 228.
خامساً: الحرام
(1)
.
وهذه الأقسام يقع نسخها على أوجه مختلفة، وتفصليها على النحو التالي:
القسم الأول: الفرض والواجب
وهذا القسم يقع نسخه على ثلاثة أوجه، وهي:
الوجه الأول: أن ينسخ من الوجوب إلى المنع.
مثاله: نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالمنع منه
(2)
.
الوجه الثاني: أن ينسخ من الوجوب إلى الاستحباب.
(1)
الحرام لغة: الممنوع، وضد الحلال. انظر: مختار الصحاح ص 116؛ المصباح المنير ص 116.
والحرام اصطلاحاً هو: ما ذُم فاعله شرعاً. البلبل في أصول الفقه ص 33.
أو هو: ما في تركه الثواب، وفي فعله العقاب. أو هو: ما نُهي عنه نهياً جازما. مذكرة أصول الفقه ص 18.
(2)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 128.
مثاله: نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة إلى الاستحباب
(1)
.
الوجه الثالث: أن ينسخ من الوجوب إلى الإباحة.
مثاله: نسخ وجوب الوضوء مما مست النار إلى الإباحة
(2)
.
القسم الثاني: المندوب والمستحب
وهذا القسم يقع نسخه كذلك على ثلاثة أوجه، وهي:
الوجه الأول: أن ينسخ من الندب والاستحباب إلى الوجوب.
مثاله: الصوم في رمضان، فإن صومه كان مستحباً، وكان جائزاً لمن افتدى أن يتركه ثم نُسخ ذلك بوجوب الصوم في رمضان في حق الصحيح المقيم
(3)
.
الوجه الثاني: أن ينسخ من الندب والاستحباب إلى التحريم.
مثاله: الإعراض والصفح عن المشركين واللطف بهم، فإن ذلك كان مستحباً ومندوباً في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بالأمر بقتالهم
(4)
.
الوجه الثالث: أن ينسخ من الاستحباب والندب إلى الإباحة
(5)
.
(1)
راجع المصدر السابق.
(2)
المصدر السابق. والمسألة مختلف فيها، وسيأتي تفصيلها في مبحث آداب الوضوء ونواقضه.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 129.
(4)
المصدر السابق. وسيأتي في مبحث الجهاد تفصيل القول في المسألة وأقوال أهل العلم فيها.
(5)
ذكر ابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 129، مثالاً لهذا القسم نقلاً عن شيخه ابن الزاغوني، فقال:(مثل نسخ استحباب الوصية للوالدين بالإباحة). وهذا غير صحيح؛ لأنه جاء النهي عن الوصية للورثة في الحديث الصحيح، وقد سبق ذكره.
القسم الثالث: المباح.
ويقع نسخه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن ينسخ من الإباحة إلى التحريم.
مثاله: أن الخمر كانت مباحة في أول الإسلام، ثم حرمت
(1)
.
الوجه الثاني: أن ينسخ من الإباحة إلى الكراهة.
مثاله: الالتفات في الصلاة، فإنه كان جائزاً ومباحاً، ثم نسخ فصار مكروهاً
(2)
.
الوجه الثالث: أن ينسخ من الإباحة إلى الوجوب.
مثاله: أن قتال المشركين كان قد نُهي عنه، ثم نُسخ ذلك بالإباحة، ثم نُسخ إباحة قتالهم بوجوبه، فصار المباح واجباً
(3)
.
القسم الرابع: المكروه.
ويقع نسخه على وجه واحد، وهو أن يُنسخ من الكراهة إلى الإباحة والجواز.
(1)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 511؛ نواسخ القرآن 1/ 129.
(2)
وهذا على قول بعض أهل العلم. انظر: الاعتبار للحازمي ص 204. وسيأتي تفصيل القول في المسألة في مبحث ما يكره في الصلاة أو يفسدها.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429.
مثاله: نسخ كراهة ذكر الله تعالى على غير وضوء إلى إباحة ذكره بغير وضوء
(1)
.
القسم الخامس: الحرام.
وهذا القسم يقع نسخه على وجهين:
الوجه الأول: أن ينسخ من التحريم إلى الاستحباب والندب.
مثاله: زيارة القبور، فإنها كانت قد نُهي عنها، ثم زار النبي صلى الله عليه وسلم القبور، وأمر بزيارتها، فصارت مستحبة
(2)
.
الوجه الثاني: أن ينسخ من التحريم إلى الإباحة.
مثاله: الأكل والشرب والجماع، فإنها كانت محرمة على الصائم بعد النوم في ليالي رمضان، ثم نسخ ذلك، فصار مباحاً
(3)
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 89؛ المحلى 1/ 100؛ بداية المجتهد 1/ 89. وسيأتي تفصيل القول في المسألة في مبحث آداب قضاء الحاجة، والوضوء ونواقضه.
(2)
انظر: الاعتبار ص 330. وسيأتي تفصيل القول فيها في مبحث الجنائز - إن شاء الله تعالى-.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 130.
الفرع الرابع: أنواع النسخ باعتبار البدل
النسخ قد يكون إلى بدل من حكم شرعي، وقد يكون إلى غير بدل من حكم شرعي؛ وذلك أن الحكم الشرعي الذي ينسخه الله، إما أن يُحلّ-سبحانه وتعالى محله حكماً آخر أولا. فإذا أحلّ محله حكماً آخر فذلك هو النسخ ببدل، وإذا لم يحلّ محله حكماً آخر، فذلك هو النسخ إلى غير بدل، وكلاهما جائز
(1)
.
أما النسخ إلى غير بدل فمن أمثلته:
أ- نسخ إيجاب الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غير بدل
(2)
.
ب-نسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي إلى غير بدل
(3)
.
ج- نسخ الإمساك عن الأكل بعد الإفطار في ليالي رمضان إلى غير بدل
(4)
.
أما النسخ إلى بدل فهو على ثلاثة أقسام:
(1)
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 81؛ إرشاد الفحول 2/ 58؛ مناهل العرفان 2/ 237.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429؛ البحر المحيط 5/ 236؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 81؛ إرشاد الفحول 2/ 58.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429؛ إرشاد الفحول 2/ 58.
(4)
انظر: البحر المحيط 5/ 236؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 82.
القسم الأول: أن ينسخ الحكم بمثله في التخفيف والتغليظ.
مثاله: نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة
(1)
(2)
.
القسم الثاني: أن ينسخ الحكم إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق.
مثاله: نسخ العدة حولاً كاملاً في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}
(3)
. بالعدة أربعة أشهر وعشراً، في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
(4)
. والعدة بأربعة أشهر وعشراً أخف من العدة حولاً كاملاً
(5)
.
القسم الثالث: أن ينسخ الحكم بما هو أغلظ منه، فيكون النسخ إلى
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 428؛ البحر المحيط 5/ 240؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
(2)
سورة البقرة، الآية (144).
(3)
سورة البقرة، الآية (240).
(4)
سورة البقرة، الآية (234).
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 428؛ البحر المحيط 5/ 240؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
بدل أثقل من الحكم المنسوخ.
وقد خالف في جواز هذا القسم بعض أهل الظاهر
(1)
، والجمهور على جوازه
(2)
، ويدل على ذلك وقوعه، ومن أمثلته ما يلي:
أ- أن الله سبحانه وتعالى وضع القتال في أول الإسلام، ثم نسخه بفرضه، فقال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(3)
.
والقتال أثقل وأغلظ من عدمه
(4)
.
ب- أنه سبحانه وتعالى نسخ الإمساك في البيوت في الزنى في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}
(5)
.
(1)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 506؛ قواطع الأدلة 1/ 428؛ البحر المحيط 5/ 240؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 83.
(3)
سورة البقرة، الآية (216).
(4)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429؛ البحر المحيط 5/ 240؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
(5)
سورة النساء، الآية (15).
بالجلد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
.
والجلد أثقل وأغلظ من الإمساك في البيوت
(2)
.
ج- أن الله سبحانه وتعالى نسخ التخيير بين الصوم والفدية في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(3)
. بفرضية الصوم في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(4)
. وانحتام الصوم أغلظ وأثقل من التخيير بينه وبين الفدية
(5)
.
والله أعلم.
(1)
سورة النور، الآية (2).
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429؛ البحر المحيط 5/ 240؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 83؛ مناهل العرفان 2/ 240.
(3)
سورة البقرة، الآية (184).
(4)
سورة البقرة، الآية (185).
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 83؛ إرشاد الفحول 2/ 60؛ مناهل العرفان 2/ 240.
المطلب الثاني: زمن النسخ
الدين الإسلامي دين شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده، ليس لأحد غيره أي اختيار في شرعه، فهو مالك السماوات والأرض يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فلما كان شرعه خالصًا به سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى، له وحده أن يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.
وهذا الدين إنما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو المبلغ لدينه، فيكون معرفته من طريقه، فما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو دين الله سبحانه وتعالى.
وهذا الدين إنما جاء ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحيين: المتلوُّ، وهو القرآن الكريم، وغير المتلُوِّ، وهو السنة.
فلما كان هذا الدين من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون النسخ فيه موقوفاً على زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحياته، ولا يكون النسخ إلا بالوحيين الكتاب والسنة.
وعليه فلا ينسخ بالإجماع، ولا بالقياس؛ وذلك:
-أما الإجماع:
أ- فلأنه لا يكون ولا يصح إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا لا اعتبار للإجماع في حياته وإذا كان الإجماع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون ناسخاً؛ لأن بموته صلى الله عليه وسلم انقطع زمن النسخ
(1)
.
(1)
انظر: أصول السرخسي 2/ 66؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 96؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 100؛ الإحكام للآمدي 2/ 145؛ البحر المحيط 5/ 284؛ روضة الناظر 1/ 153؛ شرح مختصر الروضة 2/ 330؛ نزهة الخاطر العاطر لابن بدران 1/ 153؛ إرشاد الفحول 2/ 74.
ب- ولأن الإجماع إما أن يكون له مستند من النص، أو لا يكون. فإن لم يكن له مستند من النص فهو خطأ، وإن كان له مستنداً من النص فالناسخ هو ذلك النص، لا الإجماع، وإن قيل إن الإجماع ناسخ فليس إلا بمعنى أنه يدل على الناسخ
(1)
.
والخلاصة: أن الإجماع لا يُنسخ به، لكنه قد يكون دليلاً على النسخ
(2)
.
- أما أن القياس لا يكون ناسخاً للكتاب والسنة
(3)
، فذلك:
أ- لأن القياس يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ النص
(4)
.
ب-ولأن القياس دليل محتمل، والنسخ إنما يكون بأمر مقطوع غير
(1)
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 98؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 100؛ الإحكام للآمدي 2/ 145؛ شرح مختصر الروضة 2/ 331؛ شرح الكوكب المنير 3/ 570.
(2)
انظر: المستصفى ص 101؛ الإحكام للآمدي 2/ 146؛ البحر المحيط 5/ 286؛ شرح الكوكب المنير
3/ 570.
(3)
وهذا هو قول جمهور أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، ونقل بعضهم الاتفاق على أنه لا ينسخ به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وفرق بعضهم بين القياس المنصوص على علته، فقال: هو كالنص ينسخ وينسخ به، بخلاف غيره فلا ينسخ به. انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 331 - 332؛ أصول السرخسي 2/ 66؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 101؛ المستصفى ص 101؛ البحر المحيط 5/ 289؛ روضة الناظر 1/ 154؛ المسودة في أصول الفقه ص 216 - 217؛ شرح الكوكب المنير 3/ 572؛ إرشاد ا لفحول 2/ 76.
(4)
انظر: البحر المحيط 5/ 289؛ شرح الكوكب المنير 3/ 572؛ إرشاد ا لفحول 2/ 76.
محتمل
(1)
.
ج-ولأن القياس إذا عارض نصاً فهو فاسد الوضع، فكيف يكون ناسخاً له
(2)
.
فتبين مما سبق أن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون بالوحيين الكتاب والسنة، لا بغيرهما.
ثم النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إما يكون بعد العلم بالمنسوخ والعمل به، وإما يكون بعد العلم به واعتقاد وجوبه، وقبل العمل به، وإما يكون قبل العلم به واعتقاد وجوبه. فتكون صور أوقات النسخ وزمنه على ثلاثة أضرب، وهي:
الضرب الأول: أن ينسخ الحكم بعد العلم والعمل به.
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: أصول السرخسي 2/ 66.
(2)
انظر: البحر المحيط 5/ 289؛ إرشاد الفحول 2/ 76.
وهذا النوع يجوز نسخه بلا خلاف، سواء عمل به كل الناس أو بعضهم
(1)
.
وذلك كنسخ استقبال بيت المقدس، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم
(2)
.
الضرب الثاني: أن ينسخ الحكم بعد العلم به واعتقاد وجوبه، وقبل العمل به، أو قبل
التمكن من العمل به.
وهذا النوع اختلف أهل العلم في جواز نسخه على قولين:
القول الأول: يجوز نسخه.
وهو قول جمهور أهل العلم
(3)
.
القول الثاني: لا يجوز نسخه قبل التمكن من العمل به.
وهو قول بعض الحنفية
(4)
، وبعض الشافعية
(5)
، وبعض الحنابلة
(6)
.
من أدلة القول الأول ما يلي:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخ ذلك بالفداء قبل فعله، قال تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
(7)
.
فدل هذا على جواز نسخ الحكم قبل العمل به وقبل التمكن منه
(8)
.
(1)
انظر: أصول السرخسي 2/ 63؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 48؛ قواطع الأدلة 1/ 430؛ البحر المحيط 5/ 219؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح الكوكب المنير 3/ 531؛ إرشاد الفحول 2/ 56.
(2)
انظر: البحر المحيط 5/ 219، 220؛ إرشاد الفحول 2/ 56.
(3)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 323؛ أصول السرخسي 2/ 63؛ مسلم الثبوت 2/ 71؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 48؛ الإحكام 2/ 152؛ البحر المحيط 5/ 223، 225، 226؛ روضة الناظر 1/ 136؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ إرشاد الفحول 2/ 57.
(4)
انظر: كشف الأسرار 3/ 323؛ التحرير وشرحه تيسير التحرير 2/ 216؛ فواتح الرحموت 2/ 72.
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 431؛ الإحكام 2/ 152؛ البحر المحيط 5/ 223.
(6)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح مختصر الروضة 2/ 281؛ إرشاد الفحول 2/ 57.
(7)
سورة الصافات، الآيات (103 - 107)
(8)
انظر: كشف الأسرار 3/ 327؛ روضة الناظر 1/ 137؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ص 204؛ مناهل العرفان 2/ 246.
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ليلة المعراج خمسين صلاة، ثم نسخ ذلك بخمس صلوات، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هنّ خمس وهنّ خمسون، لا يبدل القول لديَّ، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت: استحييت من ربّي» الحديث
(1)
.
ففي هذا الحديث نسخ خمسين صلاة بخمس، بعد العلم وقبل التمكين من العمل به، فدل على جواز النسخ بعد العلم بالحكم وقبل التمكن أوالعمل به
(2)
.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 77، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، ح (349)، ومسلم في صحيحه 2/ 270، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، ح (163)(263).
(2)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي 3/ 327؛ قواطع الأدلة 1/ 340؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح العقيدة الأصفهانية ص 204؛ شرح الكوكب المنير 3/ 531؛ مناهل العرفان 2/ 247.
أ- أن الشارع إذا أمر بشيء فإنه يقتضي أن يكون حسناً وفيه مصلحة، وإذا نهى عن شيء فإنه يقتضي أن يكون قبيحاً وفيه مفسدة. فإذا أمر بشيء ثم نهى عنه ونسخه قبل مجيء وقته وقبل التمكن منه فإنه يلزم منه اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في وقت واحد، وهو من المحال، ويصير بمعنى البداء وهو لا يجوز على الله تعالى
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
1 -
بأن هذا نوع من النسخ وليس من البداء في شيء، وقد سبق ما يفرق به بين النسخ والبداء، ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ كله بداء ولا فرق؛ لأن ما دخلوه في نسخ الشيء قبل أن يعمل به، راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به. ثم يقال: إن ما قلتم كان يصح أن لو كان المقصود من الأمر بالفعل الإتيان بالمأمور به فقط، لكن الأمر ليس كذلك، بل المقصود بالأمر يكون أحياناً الإتيان بالمأمور به، وأحياناً إنما يؤمر بالفعل لحكمة تنشأ من نفس الأمر، من الابتلاء، والانقياد، والعزيمة على الفعل، واعتقاد وجوبه، وهذا يجوز نسخه
قبل التمكن منه وقبل العمل به
(2)
.
(1)
انظر: أصول فخر الإسلام مع شرحه كشف الأسرار 3/ 325 - 326؛ أصول السرخسي 2/ 63؛ قواطع الأدلة 1/ 431؛ مناهل العرفان 2/ 249.
(2)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 512؛ أصول السرخسي 2/ 64 - 65؛ شرح العقيدة الأصفهانية ص 204.
2 -
أن عقد القلب على الحكم واعتقاد الحقيَّة فيه يصلح أن يكون مقصوداً منفصلاً عن الفعل، كما أن عزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل، وإذا كان الأمر كذلك فنسخ الحكم قبل التمكن منه لا يلزم منه اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في وقت واحد؛ لأنه لا يثبت حقيقة الحسن للفعل المأمور به بالتمكن من الفعل قبل وجوده؛ لأن الحسن صفة له فلا يتحقق قبل وجوده. ولا بد للنسخ من تحقق المأمور به ليكون الناسخ بياناً لانتهاء حسنه، ثم لما جاز النسخ بلا خلاف بعد التمكن من الفعل قبل حصول حقيقته، لا بد من أن يكون صحته مبنيةً على كون الاعتقاد مقصوداً بالأمر كالفعل، ليصلح الناسخ بياناً لانتهاء حسنه، إذ لم يصلح أن يكون بياناً لانتهاء حسن الفعل؛ لاستحالة انتهاء الشيء قبل وجوده
(1)
.
ب- ولأن الأمر لا بد له من فائدة، فإذا نسخ الحكم قبل التمكن منه سقطت فائدة الأمر، فيكون من العبث، وهو محال على الله تعالى
(2)
.
واعترض عليه: بأن الأمر في هذه الحالة لا يتجرد عن الفائدة، بل إن من فوائده وحكمته ابتلاء الله لعباده أيقبلونه أم لا، فيتميز به من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، والطيب من الخبيث، فالأمر بالفعل في هذه الحالة لحكمة
(1)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي وشرحه كشف الأسرار 3/ 328 - 329؛ أصول السرخسي 2/ 64 - 65.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 431؛ مناهل العرفان 2/ 247.
تنشأ من نفس الأمر دون المأمور به
(1)
.
الضرب الثالث: النسخ قبل العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه.
وهذا القسم لا يجوز نسخه على قول عامة أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أن مثل هذا لا يكون نسخاً
(2)
والله أعلم.
(1)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 513؛ شرح العقيدة الأصفهانية ص 204؛ مناهل العرفان 2/ 248.
(2)
وذهب بعض الشافعية إلى جوازه. انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع كشف الأسرار 3/ 323؛ أصول السرخسي 2/ 63؛ قواطع الأدلة 1/ 430؛ البحر المحيط 5/ 220 - 226؛ شرح الكوكب المنير 3/ 530؛ إرشاد الفحول 2/ 56 - 57.
المطلب الثالث: ما يدخله النسخ وما لا يدخله
الدين الإسلامي دين شامل لجميع نواحي الحياة، فهو يشمل:
-أمور الاعتقاد، من الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وغير ذلك من الأمور الاعتقادية والإيمانيات.
-الإخبار عمّا كان وما يكون، والوعد والوعيد.
-الأحكام العملية، من العبادات، والمعاملات.
والنسخ لا يدخل جميع هذه الأمور، فلذا من الضروري معرفة ما يدخله النسخ ويقع فيه وما لا يدخله.
وتفصيله على النحو الآتي:
أولاً: الأمور التي يقع فيها النسخ
يدخل النسخ ويقع في: الأمر، والنهي-ولو بلفظ الخبر- الدالان على الأحكام الشرعية العملية من العبادات والمعاملات
(1)
.
ثانياً: ما لا يقع فيه النسخ ولا يدخله
ذكر أهل العلم عدة أمور مما لا يدخله النسخ ولا يقع فيه، وفيما يلي بيان هذه الأمور-وإن كان بعضها اختلف فيها بعض الناس-:
أ- أصول الاعتقاد، من توحيد الله سبحانه وتعالى، وأسمائه وصفاته،
(1)
انظر: أصول السرخسي 2/ 54؛ التمهيد لابن عبد البر-مرتباً على الأبواب الفقهية للموطأ-10/ 291؛ الإحكام لابن حزم 1/ 486؛ البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 33؛ البحر المحيط 5/ 243؛ الإتقان للسيوطي 2/ 41؛ مناهل العرفان 2/ 228.
والإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وغير ذلك من الإيمانيات وأمور الاعتقاد.
وذلك لأن العقائد حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل، فلا يتعلق بها نسخ
(1)
.
ب- أصول العبادات، والمعاملات. وذلك لحاجة الخلق إليهما باستمرار؛ لتزكية النفوس وتطهيرها، ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق، والخلق فيما بينهم على أساسهما؛ لذلك فليس من الحكمة رفعها بالنسخ
(2)
.
ج- أمهات الأخلاق، أو الأخلاق العامة، كالبر بالوالدين، والصدق، والعدل، والحياء، وتحريم البغي والإثم، والكذب، ونحوها.
وذلك لأن الحكمة في تشريعها، ومصلحة الناس في التخلق بها، أمور لا تتأثر بمرور الزمن، ولا باختلاف الأشخاص والأمم؛ ولذلك كان دين الأنبياء فيها واحداً، ولم يتنوع فيها الشرائع، فدل ذلك على عدم وقوع النسخ فيها
(3)
.
(1)
انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/ 313؛ أصول السرخسي 2/ 59؛ قواطع الأدلة 1/ 423؛ البحر المحيط 5/ 217، 243؛ المسودة في أصول الفقه ص 196، 197؛ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام 6/ 521، 522؛ إرشاد الفحول 2/ 55؛ مناهل العرفان 2/ 228.
(2)
انظر: مناهل العرفان 2/ 229.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 423؛ الجواب الصحيح 5/ 341، 6/ 522؛ البحر المحيط 5/ 242؛ مناهل العرفان 2/ 229.
د-مدلولات الأخبار المحضة، كالأخبار عن القرون الماضية والأمم السابقة، والأخبار عمّا يكون في المستقبل، وغيرها. فلا يجوز دخول النسخ في شيء من أخبار الله تعالى، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وذلك؛ (لأن المخبر بشيء كان أو يكون، إذا رجع عن ذلك الخبر، لم يخل رجوعه عنه من: تكذيبه لنفسه، أو غلطه فيما أخبر به، أو نسيانه لذلك. وقد جلَّ الله عن ذلك، وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه)
(2)
.
فنسخ مدلولات الأخبار يؤدي إلى دخول الكذب في أحد خبري الناسخ والمنسوخ من أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو محال عقلاً ونقلاً. أما عقلاً؛ فلأن الكذب نقص، والنقص عليه تعالى محال
(3)
.
وأما نقلاً: فلقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}
(4)
.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}
(5)
.
هذا الكلام عن مدلولات الأخبار المحضة، أما نسخ لفظ الخبر دون
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 423؛ البحر المحيط 5/ 245؛ نواسخ القرآن 1/ 131؛ المسودة ص 196؛ الجواب الصحيح 6/ 521؛ إرشاد الفحول 2/ 62؛ مناهل العرفان 2/ 229.
(2)
التمهيد لابن عبد البر-مرتباً على الأبواب الفقهية للموطأ- 6/ 354. وانظر كذلك 10/ 291، ودرء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 8/ 381.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 424؛ مناهل العرفان 2/ 229.
(4)
سورة النساء، الآية (87).
(5)
سورة النساء، الآية (122).
مدلوله فيجوز بلا خلاف بين من قال بجواز النسخ، ولذلك صورتان:
إحداهما: أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط
(1)
، ومن أمثلته: ما روي عن أبي موسى الأشعري
(2)
رضي الله عنه أنه قال: (وإنا كنا نقرأ سورة، كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأُنسيتها. غير أنّي قد حفظت منها:{لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب} ، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأُنسيتها، غير أنّي حفظت منها:{يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتُسألون عنها يوم القيامة}
(3)
.
ثانيتهما: أن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به
(4)
.
كما أن الخبر إذا لم يكن محضاً بل بمعنى الأمر أو النهي فإنه يجوز
(1)
انظر: البحر المحيط 5/ 244؛ مناهل العرفان 2/ 229.
(2)
هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار، أبو موسى الأشعري، قدم مهاجراً على النبي صلى الله عليه وسلم زمن فتح خيبر، واستعمله مع معاذ على اليمن، ثم ولي لعمر رضي الله عنه الكوفة والبصرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه ابن المسيب، وطارق بن شهاب، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وأربعين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 23؛ الإصابة 2/ 1111.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 373، كتاب الزكاة، باب لو كان لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، ح (1050)(119).
(4)
انظر: البحر المحيط 5/ 244؛ المسودة في أصول الفقه ص 196؛ تحفة المسؤول للرهوني 3/ 400؛ مناهل العرفان 2/ 229.
نسخه كذلك بلا خلاف
(1)
.
وذلك؛ لأن الاعتبار للمعنى
(2)
.
فمثال الخبر بمعنى الأمر، قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
(3)
.
ومثال الخبر بمعنى النهي قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
(4)
. فإن معناه: لا تنكحوا مشركة ولا زانية، ولا تُنكحوهما، وذلك على بعض وجوه الاحتمالات
(5)
.
ومن الأدلة التي يُستدل بها على عدم دخول النسخ في الأمور السابقة ما يلي:
1 -
قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
(6)
.
2 -
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
(1)
انظر: البحر المحيط 5/ 247؛ نواسخ القرآن 1/ 131؛ مناهل العرفان 2/ 229.
(2)
انظر: البحر المحيط 5/ 247؛ مناهل العرفان 2/ 229.
(3)
سورة البقرة، الآية (228).
(4)
سورة النور، الآية (3).
(5)
انظر: مناهل العرفان 2/ 229.
(6)
سورة الأنبياء، الآية (25).
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}
(1)
.
3 -
قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(2)
.
4 -
(3)
.
5 -
(4)
.
6 -
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(5)
.
(1)
سورة الشورى، الآية (13).
(2)
سورة البقرة، الآية (183).
(3)
سورة الحج، الآية (27).
(4)
سورة المائدة، الآية (45).
(5)
سورة المؤمنون، الآية (51).
7 -
عن أبي هريرة
(1)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد»
(2)
.
فهذه بعض الأدلة التي تدل على عدم دخول النسخ في الأمور السابقة
(3)
.
والله أعلم.
(1)
أبو هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، وأشهر ما قيل فيه: أنه عبد الرحمن بن صخر، الدوسي، أسلم بعد الحديبية وقبل خيبر، وسكن الصفة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً، وروى عنه: ابن عمر، وأنس، وغيرهما وتوفي سنة سبع وخمسين. انظر: الاستيعاب 4/ 202؛ تهذيب التهذيب 12/ 237.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 709، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم} ، ح (3443)، ومسلم في صحيحه 7/ 454، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام، ح (2365)(145).
(3)
انظر: الجواب الصحيح 6/ 522؛ مناهل العرفان 2/ 230.
المطلب الرابع: طرق معرفة النسخ
إذا ورد دليلان شرعيان مختلفين في حكم شيء واحد، فإما أن يكون الجمع بينهما ممكناً أولا، فإن أمكن الجمع فإنه يُجمع بينها، ولا يُصار إلى النسخ؛ لأن في ادعاء النسخ إبطال العمل على أحد الدليلين، وإخراجه عن المعنى المفيد وهو على خلاف الأصل
(1)
.
أما إذا تحقق ورود دليلين شرعِيَّين متناقضين تناقضاً حقيقياً، بحيث لا يمكن الجمع بينهما على أي وجه من وجوه الجمع بين الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، فإنه يصار إلى اعتبار أحد الدليلين أو الحكمين ناسخاً والآخر منسوخاً؛ وذلك دفعاً للتناقض في كلام الشارع الحكيم
(2)
.
ثم لا بد لاعتبار أحد الدليلين ناسخاً والآخر منسوخاً من دليل صحيح يدل على أن أحدهما متأخر عن الآخر، فيكون السابق هو المنسوخ، واللاحق هو الناسخ
(3)
.
ولمعرفة الحكم المتأخر الناسخ من المتقدم المنسوخ طرق، بعضها متفق عليها أو الخلاف فيها قليل أو غير معتبر، وبعضها طرق مختلف فيها، وفيما يلي تفصيل كلتا الطريقتين:
(1)
انظر: الاعتبار ص 54؛ البحر المحيط 5/ 318؛ الواضح في أصول الفقه 4/ 319؛ مناهل العرفان 2/ 225.
(2)
انظر: الاعتبار ص 56؛ الجواب الصحيح 1/ 218؛ مناهل العرفان 2/ 225.
(3)
انظر: شرح الكوكب المنير 3/ 563؛ مناهل العرفان 2/ 225.
أولاً: طرق معرفة المتأخر الناسخ من المتقدم المنسوخ المتفق عليها أو التي الخلاف فيها قليل:
أولاً: أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما، ويشمل ذلك:
أ- أن يكون في اللفظ تصريح بما يدل على النسخ
(1)
.
مثاله:
1 -
قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
(2)
.
فإنه صريح في نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة
(3)
.
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً»
(4)
.
(1)
انظر: التحرير وشرحه تيسير التحرير 3/ 221؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 114؛ الاعتبار ص 56؛ إرشاد الفحول 2/ 84.
(2)
سورة الأنفال، الآية (66).
(3)
انظر: البحر المحيط 5/ 318؛ إرشاد الفحول 2/ 84.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه-من رواية بريدة رضي الله عنه 4/ 291، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، ح (977)(107).
فإنه صريح في نسخ النهي عن الأمور المذكورة
(1)
.
ب- أن يكون لفظ النص يتضمن التنبيه على النسخ
(2)
.
مثاله: نسخ الإمساك في البيوت المذكور في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}
(3)
. بحد الزنى المذكور في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(4)
.
فقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} تنبيه على عدم الاستدامة في الإمساك
(5)
.
ثانياً: إجماع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر
(6)
.
(1)
انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 114؛ الاعتبار ص 56؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 291.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 437؛ البحر المحيط 5/ 318.
(3)
سورة النساء، الآية (15).
(4)
سورة النور، الآية (2).
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 437؛ البحر المحيط 5/ 318.
(6)
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 114؛ قواطع الأدلة 1/ 438؛ الاعتبار ص 57؛ البحر المحيط 5/ 319؛ روضة الناظر 1/ 157؛ مجموع الفتاوى 28/ 112؛ شرح الكوكب المنير 3/ 565؛ إرشاد
الفحول 2/ 85.
مثاله: الإجماع على أن الزكاة نسخت سائر الحقوق المالية
(1)
.
فالإجماع يدل على تأخر الناسخ، وليس الإجماع هو الناسخ
(2)
.
ثالثاً: أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يصرح بتقدم أحد النصين على الآخر
(3)
.
مثاله:
1 -
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار»
(4)
.
2 -
عن علي رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 438؛ البحر المحيط 5/ 319؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مذكرة أصول الفقه ص 91.
(2)
انظر: البحر المحيط 5/ 319؛ مجموع الفتاوى 28/ 112؛ شرح الكوكب المنير 3/ 564.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439؛ الاعتبار ص 59؛ البحر المحيط 5/ 320؛ روضة الناظر 1/ 157؛ شرح الكوكب المنير 3/ 566؛ مناهل العرفان 2/ 226.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 34، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما مست النار، ح (192)، والنسائي في سننه ص 38، كتاب الطهارة باب ترك الوضوء مما غيرت النار، ح (185). وابن خزيمة في صحيحه 1/ 28، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 67، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 241، وابن عبد البر في التمهيد 2/ 126، وابن حزم في المحلى 1/ 226، وصححه النووي في المجموع 2/ 48، والشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 34، وصحيح سنن النسائي ص 38.
الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس»
(1)
.
رابعاً: أن ينقل ويثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم شيء، ثم يثبت عنه من فعله حكماً يخالف ما سبق من قوله
(2)
.
مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً. البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
(3)
.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم رجم المحصن ولم يجلده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه. فتنحّى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أبك جنون؟» قال: لا. قال: «فهل أحصنت؟» قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 57، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 488، وابن حبان في صحيحه ص 862، والحازمي في الاعتبار ص 311. وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 112، ولم يتكلم فيه بشيء. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 3/ 192 (وهو رواية للطحاوي وإسنادها جيد).
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 438؛ الاعتبار ص 56؛ البحر المحيط 5/ 318؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(3)
سبق تخريجه في ص 71.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1144، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، والجنون، ح (5271)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 253، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، ح (1691)(16).
وفي رواية: قال: لا. والله إنه قد زنى الأخر
(1)
. قال: «فرجمه»
(2)
.
فيكون فعله هذا وأمره بالرجم دون الجلد ناسخاً للجلد في قوله: «الثيب بالثيب جلد مائة» . لتأخره عنه
(3)
.
خامساً: أن يعلم بالتاريخ تقدم أحد الدليلين على الآخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم.
ويشمل هذا:
1 -
أن ينقل الراوي أن أحد الحكمين شرع بمكة قبل الهجرة، والآخر شرع بالمدينة.
2 -
أن ينقل الراوي أن هذه الآية مكية، وهذه مدنية.
3 -
أن ينقل الراوي أن هذه الآية نزلت قبل آية كذا
(4)
.
(1)
الأخر هو: الأبعد عن الخير، والأرذل، والأدنى. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 43؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 255.
(2)
هو من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه. وقد أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 255، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، ح (1692)(17).
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 438؛ البحر المحيط 5/ 318؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(4)
انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 115؛ شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص 122؛
قواطع الأدلة 1/ 439؛ الاعتبار ص 57؛ البحر المحيط 5/ 320؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مناهل العرفان 2/ 226.
ثانياً: طرق معرفة الناسخ والمنسوخ المختلف فيها:
أولاً: قول أحد الصحابة: هذا ناسخ، وهذا منسوخ.
فهذا عند الحنفية أحد طرق معرفة النسخ
(1)
، وهو كذلك رواية عن الإمام أحمد
(2)
. و ذلك:
أ- لأن تعيين العدل لناسخ لا يكون إلا عن علم بالتاريخ والتعارض
(3)
.
ب- أن النسخ لا يقع بالمحتمل، والصحابة أعلم بذلك، فثبت أنه لا يقول: إنه منسوخ إلا وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وليس هو عند الجمهور من طرق معرفة النسخ، ما لم يذكر دليل النسخ
(5)
، وذلك:
أ- لأن قوله هذا قد يكون عن اجتهاد، فيعتقد ما ليس بنسخ نسخاً،
(1)
انظر: التحرير مع شرحه تيسير التحرير 3/ 222؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 115.
(2)
انظر: الواضح في أصول الفقه 4/ 319؛ المسودة ص 230؛ شرح الكوكب المنير 3/ 568.
(3)
انظر: التحرير مع شرحه تيسير التحرير 3/ 222؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 115.
(4)
انظر: الواضح في أصول الفقه 4/ 320.
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439؛ المستصفى ص 102؛ البحر المحيط 5/ 321 - 322؛ الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 4/ 319؛ المسودة في أصول الفقه ص 230؛ شرح الكوكب المنير 3/ 567.
وبمثله لا يثبت النسخ
(1)
.
ب-ولأن أهل العلم مختلفون في أسباب النسخ، كالزيادة على النص، والتخصيص، فقد يعتبر ذلك نسخاً، وهو ليس منه
(2)
.
ثانياً: أن يكون الراوي لأحد النصين قد أسلم بعد موت الآخر.
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم صحة الاستدلال على النسخ برواية من أسلم بعد موت الراوي للنص الآخر؛ لأن تأخر إسلام راوي أحد الدليلين لا يدل على أن ما رواه ناسخ؛
لاحتمال أن يكون سمعه عن غيره ممن تقدم صحبته
(3)
.
وذهب آخرون إلى أن رواية من أسلم بعد موت الراوي للنص المعارض ناسخة له؛ لأن الظاهر أن تكون روايته متأخرة
(4)
.
ثالثاً: أن يكون أحد الراويين أسلم قبل الآخر.
فلا يكون رواية المتأخر إسلاماً ناسخاً لرواية المتقدم إسلاماً.
وهو قول جمهور أهل العلم
(5)
.
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439؛ البحر المحيط 5/ 321؛ شرح الكوكب المنير 3/ 568.
(2)
انظر: البحر المحيط 5/ 321؛ الواضح في أصول الفقه 4/ 320.
(3)
انظر: التحرير وشرحه تيسير التحرير 3/ 223؛ البحر المحيط 5/ 325؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ مناهل العرفان 2/ 227.
(4)
انظر: فواتح الرحموت 2/ 116؛ البحر المحيط 5/ 325؛ البلبل في أصول الفقه ص 102؛ مذكرة أصول الفقه ص 91.
(5)
انظر: التحرير وشرحه تيسير التحرير 3/ 223؛ مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 116؛ شرح مراقي السعود على أصول الفقه للجكني ص 122؛ المستصفى ص 103؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ تحفة المسؤول 3/ 409؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
وذلك: لأنه يجوز أن يكون سماع متقدم الإسلام بعد سماع متأخر الإسلام، كما يجوز أن
يكون من تأخر إسلامه تحمل الحديث قبل إسلامه
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن رواية المتأخر صحبة ناسخة لرواية المتقدم صحبة
(2)
.
(1)
انظر: فواتح الرحموت 2/ 116؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569.
(2)
ممن قال به: الأستاذ أبو منصور، وابن برهان، كما نقل عنهما الزركشي. وقد فرق ابن السمعاني، والرازي فقالا: إن انقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني، فيكون ما رواه الثاني ناسخاً لما رواه الأول، وإن لم ينقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني فلا يكون رواية الثاني ناسخاً لرواية المتقدم. وذهب ابن قدامة إلى اعتبار رواية متأخر الإسلام ناسخة لرواية متقدم الإسلام إذا كان متأخر الإسلام أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول الإسلام. وذهب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: إلى أن محل التقديم لخبر متأخر الإسلام عمن أسلم قبله فيما إذا مات الأول قبل صحبة الثاني النبي صلى الله عليه وسلم، أما إن عاش الأول حتى صحب الآخر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون حديث المتأخر ناسخاً لحديث متقدم الإسلام. انظر: قواطع الأدلة 1/ 440؛ المحصول مع شرحه نفائس الأصول 3/ 305؛ البحر المحيط 5/ 324، 325؛ روضة الناظر 1/ 157؛ مذكرة أصول الفقه ص 91.
هذا، وقد مثل ابن السمعاني لرواية من انقطع صحبته عند صحبة الثاني برواية طلق بن علي في عدم الوضوء من مس الذكر. كما مثل ابن قدامة لرواية من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول الإسلام برواية طلق بن علي. وتفريقه أي ابن السمعاني وإن كان له وجه إلا أن تمثيله برواية طلق بن علي-وكذلك تمثيل ابن قدامة به- غير صحيح؛ لأن طلقاً لم ينقطع صحبته، كما أنه ليس ممن لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول الإسلام. وهذا يتبين من غير رواية عنه من الأحاديث. وانظر تحقيقه في مسألة الوضوء من مس الذكر، في مبحث آداب الوضوء ونواقضه.
رابعاً: أن يكون أحد الراويين من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر.
فلا يُحكم بتأخر ما رواه الصغير على ما رواه الكبير؛ لاحتمال أن يكون الكبير سمع ما رواه بعد سماع رواية الصغير، كما أن ما رواه الصغير يحتمل أن يكون سمعه عمن تقدمت صحبته
(1)
.
خامساً: أن يكون أحد النصيين موافقاً للبراءة الأصلية دون الآخر.
إذا ورد نصان متعارضان، وأحدهما يوافق البراءة الأصلية والعادة، والآخر يخالفه، فإنه لا يكون ما يخالف البراءة الأصلية ناسخاً لما يوافقه، كما لا يكون ما يوافق البراءة ناسخا لما يخالفه.
وهذا هو قول جمهور أهل العلم
(2)
.
(1)
انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 115؛ المستصفى ص 103؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ مناهل العرفان 2/ 227.
(2)
انظر: التحرير لابن الهمام 3/ 223؛ مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 116؛ شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص 122؛ المستصفى ص 103؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ البحر المحيط 5/ 326؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مناهل العرفان 2/ 227.
وذلك: لاحتمال أن يكون ما يخالف البراءة الأصلية متقدماً على ما يوافقها
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن النص المخالف للبراءة الأصلية يكون ناسخاً للنص الموافق له
(2)
.
وذلك: لأن الانتقال من البراءة لاشتغال الذمة يقين، والعود إلى الإباحة ثانياً شك، فقدم ما يخالف الأصل؛ لأنه يقين
(3)
.
سادساً: كون أحد النصين قبل الآخر في المصحف.
إن كون أحد النصين قبل الآخر في المصحف ليس دليلاً على أن المتأخر يكون ناسخاً للمتقدم.
وهو قول جمهور أهل العلم
(4)
.
(1)
انظر: المستصفى ص 103؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ مناهل العرفان 2/ 227.
(2)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 498، 501؛ البحر المحيط 5/ 325؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(3)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 498، 501؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569.
(4)
انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 115؛ شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص 122؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ شرح الكوكب المنير 3/ 568؛ الإحكام لابن حزم 1/ 505؛ مناهل العرفان 2/ 227.
وذلك؛ لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول
(1)
.
وقيل: إن كون أحد النصين في المصحف بعد الآخر، يفيد التأخير؛ لأن الأصل موافقة الوضع للنزول
(2)
.
وهذا القول مخالف للواقع؛ لذلك فليس له أيّ اعتبار
(3)
.
سابعاً: إذا روى الصحابي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمل أو أفتى بخلاف ما رواه.
إذا روى أحد الصحابة-رضي الله عنهم-حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمل أو أفتى على خلافه، فليس عمله هذا عند جمهور أهل العلم دليلاً على نسخ روايته، وذلك؛ لأن عمله على خلاف روايته، له احتمالات عدة، وأن عمله ليس أولى من روايته
(4)
.
وذهب بعض الحنفية ومنهم الطحاوي
(5)
إلى أن ذلك يعتبر دليلاً على
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(2)
انظر: شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص 122.
(3)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 505.
(4)
انظر: المحلى 4/ 424؛ المجموع 6/ 271؛ التنبيه على مشكلات الهداية لابن أبي العز 1/ 365؛ فتح الباري 4/ 229؛ نيل الأوطار للشوكاني 1/ 34، 4/ 338.
(5)
هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي المصري، أبو جعفر الطحاوي، أخذ عن المزني، والقاضي
عبد الحميد الأزدي وغيرهما، وروى عنه الطبراني، وأحمد بن عبد الوارث، وغيرهما، وكان فقيهاً حافظاً، ومن مؤلفاته (شرح معاني الآثار) وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 808؛ البداية والنهاية 11/ 168؛ الجواهر المضية 1/ 271.
نسخ روايته؛ وذلك
لحسن الظن بالراوي؛ لأنه لا يعمل على خلاف روايته إلا وقد علم ما ينسخه وإلا يكون ذلك طعناً في عدالته
(1)
.
ثامناً: عمل أهل المدينة.
إذا ثبت حكم من أحكام الشريعة بدليل من الكتاب أو السنة، وكان عمل أهل المدينة على خلافه، فهل يكون عملهم هذا دليلاً على نسخه؟
جمهور أهل العلم على أن عمل أهل المدينة على خلاف حكم ليس دليلاً على نسخه؛ لأن عملهم أو اتفاقهم على حكم ليس بإجماع حتى يكون ذلك دليلاً على النسخ، وليس عملهم دليلاً آخر مما يُنسخ به
(2)
.
وذهب بعض المالكية إلى أن عمل أهل المدينة على خلاف حكم يدل على نسخه؛ لأن وجود علم أهل المدينة بخلاف حكم دليل على نسخه، وإلا لما خالفوه
(3)
والله أعلم.
(1)
وقد قرر هذا الطريق الطحاوي، وتبعه غير واحد من الحنفية، منهم: العيني، وابن الهمام، والملا علي القاري. وأشار إليه الحازمي ونسبه إلى الكوفيين. انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 23؛ شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار- 3/ 24؛ الاعتبار للحازمي ص 57؛ عمدة القاري للعيني 8/ 155؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 110؛ 2/ 359؛ اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 88؛ فتح باب العناية للملا علي القاري 1/ 103، 586.
(2)
انظر: أصول السرخسي 1/ 314؛ المستصفى ص 148؛ روضة الناظر 1/ 240.
(3)
وإلى هذا الطريق أشار شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 21/ 151؛ حيث قال: (وكذلك كثير ممن يحتج بالعمل من أهل المدينة-أصحاب مالك وغيرهم- يقولون: هذا منسوخ). كما أشار إليه أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات 2/ 49؛ حيث قال: (وقد سُئل-أي الإمام مالك-عن سجود القرآن الذي في المفصل، قيل له: أتسجد أنت فيه؟ فقال: لا، وقيل له: إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز، فقال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من حديث الناس، وأعظم من ذلك القرآن، يقول الله: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب .. } فالقرآن أعظم خطراً وفيه الناسخ والمنسوخ، فكيف بالأحاديث، وهذا مما لم يجتمع عليه". وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر؛ إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن شهاب أنه قال: "أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه"، وهذا صحيح، ولمّا أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر، والحمد لله). وانظر كذلك التمهيد لابن عبد البر 13/ 197.
المطلب الخامس: بعض من ألف في النسخ
إن موضوع معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة موضوع ذو أهمية عند أهل العلم، ولذلك فقد اهتم به السابقون واللاحقون، فألفوا فيه مؤلفات كثيرة، بدءاً من عصر التابعين، وحتى العصر الحاضر، سواء كانت في الناسخ والمنسوخ في القرآن، أم في السنة. وقد كان تأليفهم في الناسخ والمنسوخ على نوعين؛ حيث ألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وبعضهم ألف في
الناسخ والمنسوخ في السنة، كما أن بعضهم ألف في كلا النوعين تأليفاً مستقلاً بكل نوع.
ثم إن كتبهم التي ألفوها في الناسخ والمنسوخ، ليس كلها موجودة الآن، بل هي ما بين مفقود، ومخطوط، ومطبوع.
إلا أن أهل العلم من أهل التراجم وغيرهم، قد حفظوا ودونوا أسماء كثير من مؤلفات أهل العلم، ومنها أسماء الكتب المؤلفة في الناسخ والمنسوخ.
ثم المؤلفون في الناسخ والمنسوخ لا يخلو تأليفهم من أحد اتجاهين:
الاتجاه الأول: جواز النسخ ووقوعه في الكتاب والسنة، فيؤلف إما في ناسخ الكتاب ومنسوخه، فيذكر مشروعية النسخ، وأدلته، ويذكر الآيات التي قيل فيها بأنها ناسخة أو منسوخة.
وإما يؤلف في ناسخ الحديث ومنسوخه، فيذكر مشروعية النسخ وأدلته، والأحاديث التي قيل فيها بأنها ناسخة أو منسوخة.
الاتجاه الثاني: عدم جواز النسخ ووقوعه في الشريعة الإسلامية-وأصحابه قلة وشذوذ-، فيؤلف إما في عدم جواز النسخ ووقوعه في الكتاب، فيستدل لذلك، ويؤول الآيات الدالة على النسخ.
وإما يُؤلف في عدم جواز النسخ ووقوعه في السنة، فيستدل لذلك، ويؤول في الأحاديث التي قيل فيها بأنها ناسخة أو منسوخة.
لذلك فإني سأذكر أولاً أسماء بعض من ألف في الاتجاه الأول، ثم أسماء بعض من ألف في الاتجاه الثاني-مع أنهم قلة وشذوذ-.
أولاً: أسماء بعض من ألف في الاتجاه الأول، وهو جواز النسخ ووقوعه
في الكتاب والسنة.
إن من ألف في هذا الاتجاه إما يكون تأليفه في ناسخ القرآن ومنسوخه، وإما يكون في ناسخ الحديث ومنسوخه، فأذكر أولاً أسماء بعض من ألف في ناسخ القرآن ومنسوخه، ثم أسماء بعض من ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، مرتباً كل ذلك على حسب سن وفياتهم، وتفصيله على النحو الآتي:
أ- عرض أسماء بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم:
1 -
قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، السدوسي، أبو الخطاب البصري، الضرير، العلامة المفسر، المتوفى سنة (117 هـ.)
(1)
، له:(الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى)
(2)
.
2 -
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، القرشي الزهري، المتوفى سنة (124 هـ.)، يُوجد مؤلف يُنسب له بعنوان:(الناسخ والمنسوخ للزهري)
(3)
.
(1)
روى قتادة عن: عبد الله بن سرجس، وأنس بن مالك، وغيرهما، وروى عنه: مسعر، وأيوب، وغيرهما، وكان من الحفاظ ورأساً في العربية واللغة، وكان يرى القدر، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: سنة ثماني عشرة ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 122؛ البداية والنهاية 9/ 279؛ تهذيب التهذيب 8/ 306.
(2)
نسبه إليه الزركشي في البرهان 2/ 28، والدكتور مصطفى زيد، في كتابه النسخ في القرآن 1/ 295. وهو مطبوع بتحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت.
(3)
انظر: النسخ في القرآن 1/ 296، ومقدمة تحقيق ناسخ الحديث ومنسوخه للدكتورة كريمة بنت علي ص 39. وهو مطبوع بتحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. لكنه برواية الوليد بن محمد الموقري، وهو مجمع على تجريحه، لذلك يبقى الشك في نسبته إلى الزهري. انظر: النسخ في القرآن 1/ 296.
3 -
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، السُّدّي، أبو محمد الكوفي، القرشي مولاهم،
المتوفى سنة (127 هـ.)
(1)
، له كتاب:(الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
4 -
عطاء بن أبي مسلم- ميسرة- أبو عثمان الخراساني، المتوفى سنة (135 هـ.)
(3)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(4)
.
5 -
محمد بن السائب بن بشر بن عمرو، الكلبي، أبو النضر الكوفي، المتوفى سنة (146 هـ.)
(5)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(6)
.
6 -
مقاتل بن سليمان بن بشر، الأزديّ الخراساني، أبو الحسن البلخي،
(1)
وهو السدي الكبير، صدوق يهم، أخرج له مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، ورُمي بالتشيع، وروى عن: أنس، وابن عباس، وعكرمة، وغيرهم، وروى عنه: شعبة، والثوري، وأبو عوانة، وغيرهم. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 236؛ تهذيب التهذيب 1/ 283؛ التقريب 1/ 97.
(2)
انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 104.
(3)
وهو صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس، وروى عطاء عن: ابن المسيب، وعبد الله بن بريدة، وغيرهما، وروى عنه: ابن جريج، والأوزاعي، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 184؛ التقريب 1/ 676؛ طبقات المفسرين للداوودي 1/ 385.
(4)
ذكر له ذلك الداوودي في طبقات المفسرين 1/ 385.
(5)
وهو متهم بالكذب، ورُمي بالرفض، وروى عن: الشعبي، والأصبغ بن نباتة، وغيرهما، وروى عنه: الثوري، وابن المبارك، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 152؛ التقريب 2/ 78؛ طبقات المفسرين للداوودي 2/ 149.
(6)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 149.
المتوفى سنة (150 هـ.)
(1)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
7 -
الحسين بن واقد المروزي، أبو عبد الله القاضي، المتوفى سنة (159 هـ.)
(3)
، له
كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
8 -
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، العدوي مولاهم، المدني، المتوفى سنة (182 هـ.)
(5)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(6)
.
9 -
عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، أبو نصر، العجلي مولاهم، البصري، المتوفى
(1)
وقد كذبوه وهجروه، ورُمي بالتجسيم، وروى عن نافع، والزهري، وغيرهما، وروى عنه: حرميّ بن عمارة، وعلي بن الجعد، وغيرهما، انظر: ميزان الاعتدال 4/ 173؛ تهذيب التهذيب 10/ 251؛ التقريب 2/ 210؛ طبقات المفسرين 2/ 330.
(2)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، 312؛ والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 331.
(3)
وقيل: توفي سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ثقة له أوهام، وروى عن: عبد الله بن بريدة، وثابت البناني، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، وابن المبارك، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 336؛ التقريب 1/ 220؛ شذرات الذهب 1/ 241.
(4)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 53، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 164.
(5)
وهو ضعيف، وروى عن: أبيه، وابن المنكدر، وغيرهما، وروى عنه: ابن وهب، وعبد الرزاق، وغيرهما. انظر: الفهرست ص 374؛ تهذيب التهذيب 6/ 162؛ التقريب 1/ 570؛ طبقات المفسرين 1/ 271.
(6)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، 374، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 271.
سنة (204 هـ.)
(1)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
10 -
حَجَّاج بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد، المتوفى سنة (206 هـ.)
(3)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(4)
.
11 -
القاسم بن سلام بن عبد الله، البغدادي، أبو عبيد، المتوفى سنة (224 هـ.)
(5)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن)
(6)
.
(1)
وقيل توفي سنة ست ومائتين، وهو صدوق ربما أخطأ، وروى عن: سليمان التيمي، وحميد الطويل، و غيرهما، وروى عنه: أحمد، وابن معين، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 339؛ تهذيب التهذيب 6/ 393؛ التقريب 1/ 626.
(2)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 377، والدكتور مصطفى زيد في النسخ في القرآن 1/ 310.
(3)
وهو ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد، وروى عن: الليث، وشعبة، وغيرهما، وروى عنه: أحمد، وابن معين، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 190؛ التقريب 1/ 189؛ طبقات المفسرين 1/ 131.
(4)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 58، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 132.
(5)
وهو حافظ ثقة فاضل، روى عن: جرير بن عبد الحميد، وابن المبارك، وغيرهما، وروى عنه: عباس العنبري، وعباس الدوري، وغيرهما. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 490؛ تذكرة الحفاظ 2/ 417؛ تهذيب التهذيب 8/ 274؛ التقريب 2/ 19.
(6)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 113، والذهبي في تذكرة الحفاظ 2/ 418، والزركشي في البرهان 2/ 28. وهو مطبوع، وقد حققه محمد بن صالح المديفر، طبع مكتبة الرشد.
12 -
جعفر بن مبشر بن أحمد، أبو محمد الثقفي، المتوفى .......................
سنة (234 هـ.)
(1)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(2)
.
13 -
سريج بن يونس بن إبراهيم، أبو الحارث المروزي، البغدادي، المتوفى سنة (235 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
14 -
عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون، السلمي، أبو مروان الأندلسي، المتوفى سنة (238 هـ.)
(5)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(6)
.
15 -
أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، الشيباني المروزي، الإمام
(1)
وهو أحد رؤساء المعتزلة، وروى عن عبد العزيز بن بابان، وروى عنه عبيد الله بن محمد الترمذي. انظر: الفهرست ص 290؛ طبقات المفسرين 1/ 128.
(2)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، 291، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 128.
(3)
وهو ثقة عابد، وروى عن: هشيم، ووكيع، وغيرهما، وروى عنه: مسلم، وأبو زرعة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 399؛ التقريب 1/ 341؛ طبقات المفسرين 1/ 185.
(4)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 381، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 185.
(5)
وقيل: توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، وهو صدوق، ضعيف الحفظ، كثير الغلط، لكنه فقيه كبير، وروى عن: ابن الماجشون، وأصبغ بن فرج، وغيرهما، وروى عنه: بقية بن مخلد، ومحمد بن وضاح، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 537؛ تهذيب التهذيب 6/ 342؛ التقريب 1/ 614؛ الديباج المذهب 2/ 8 - 15؛ شجرة النور الزكية ص 74.
(6)
ذكر له ذلك ابن فرحون في الديباج المذهب 2/ 13، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 356.
أبو عبد الله، نزيل بغداد، المتوفى سنة (241 هـ.)، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(1)
.
16 -
سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير، الأزديّ، أبو داود السجستاني، المتوفى سنة (275 هـ.)
(2)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(3)
.
17 -
محمد بن إسماعيل بن يوسف، السُّلَّمِي، أبو إسماعيل الترمذيّ، المتوفى سنة (280 هـ.)
(4)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(5)
.
18 -
إبراهيم بن إسحاق، أبو إسحاق الحربي، البغدادي، المتوفى سنة (285 هـ.)
(6)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(7)
.
19 -
إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز، أبو مسلم الكجي،
(1)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 72.
(2)
وهو ثقة حافظ، وروى عن: أحمد ابن حنبل، وأبي سلمة التبوذكي، وغيرهما، وروى عنه: الترمذي، والنسائي، وغيرهما. وله كذلك كتاب (السنن). انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 591؛ تهذيب التهذيب 4/ 153؛ التقريب 1/ 382.
(3)
ذكر له ذلك الزركشي في البرهان 2/ 28، وابن حجر في تهذيب التهذيب 4/ 154.
(4)
وهو ثقة حافظ، وروى عن: أيوب، والحميدي، وغيرهما، وروى عنه: الترمذي، والنسائي، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 604؛ تهذيب التهذيب 9/ 50؛ التقريب 2/ 56؛ طبقات المفسرين 2/ 108.
(5)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 109.
(6)
وهو ثقة حافظ، وروى عن: أبي عبيد، ومسدد، وغيرهما، وروى عنه: ابن صاعد، وأبو بكر الشافعي، و غيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 584؛ طبقات المفسرين للداوودي 1/ 7.
(7)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 57، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 7.
البصري، المتوفى سنة (292 هـ.)
(1)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(2)
.
20 -
عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق، الأزدي، أبو بكر ابن أبي داود السجستاني، المتوفى سنة (316 هـ.)
(3)
. له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
21 -
الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله، البصري، أبو عبد الله الزبيري، المتوفى سنة (317 هـ.)
(5)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(6)
.
22 -
محمد بن أحمد بن حزم بن تمام، الأنصاري، أبو عبد الله الأندلسي، المتوفى قريباً من سنة (320 هـ.)
(7)
، له كتاب (الناسخ
(1)
وهو حافظ ووثقه غير واحد، وروى عن: أبي عاصم النبيل، والأصمعي، وغيرهما، وروى عنه: النجاد، وحبيب القزاز، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 620؛ طبقات المفسرين 1/ 13.
(2)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 13.
(3)
هو أحد الحفاظ، وقد تُكلم فيه، ووثقه الدارقطني، وروى عن: عيسى بن حماد، وابن السرح، وغيرهما، وروى عنه: الدارقطني، وأبو أحمد الحاكم، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 767 - 772؛ طبقات المفسرين 1/ 236.
(4)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59، 383، والذهبي في تذكرة الحفاظ 2/ 770، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 237.
(5)
هو أحد أئمة الشافعية، وأخذ عن روح بن قرة، ومحمد بن يحيى، وغيرهما. انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 39؛ طبقات المفسرين 1/ 182؛ طبقات ابن هداية الله ص 199.
(6)
ذكر ذلك له ابن النديم في الفهرست ص 59، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 182.
(7)
انظر: جذوة المقتبس للحميدي ص 39.
والمنسوخ في القرآن الكريم)
(1)
.
23 -
محمد بن عثمان بن مسبح، أبو بكر الشيباني المعروف بالجعد، المتوفى سنة (326 هـ.)
(2)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(3)
.
24 -
محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر ابن الأنباري، المتوفى سنة (328 هـ.)
(4)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(5)
.
25 -
أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله، أبو الحسين ابن المنادي البغدادي، المتوفى سنة (336 هـ.)
(6)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(7)
.
26 -
أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس، المرادي المصري، أبو جعفر
(1)
ذكر له ذلك الدكتور مصطفى زيد في النسخ في القرآن 1/ 324. وهو مطبوع، وقد حققه دكتور عبد الغفار سليمان البنداري، طبع دار الكتب العلمية.
(2)
وقيل في وفاته غير ذلك، وهو من أصحاب ابن كيسان. انظر: تاريخ بغداد 3/ 47؛ طبقات المفسرين 2/ 195؛ كشف الظنون 2/ 1920؛ هدية العارفين 2/ 29.
(3)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 60، والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 195.
(4)
وهو حافظ علامة، روى عن: الكديمي، وإسماعيل القاضي، وغيرهما، وروى عنه: أحمد بن نصر، و الدارقطني، وغيرهما. انظر: الفهرست ص 119؛ تذكرة الحفاظ 3/ 842؛ شذرات الذهب 2/ 315.
(5)
ذكر له ذلك الزركشي في البرهان 2/ 28، والسيوطي في الأتقان 2/ 40.
(6)
وهو ثقة، وروى عن: عباس الدوري، وأبي داود السجستاني، وغيرهما، وروى عنه: أبو عمر بن حيوة، ومحمد بن فارس، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 849؛ البداية والنهاية 11/ 208.
(7)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 1/ 183.
النحاس، المتوفى سنة (338 هـ.)
(1)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم)
(2)
.
27 -
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف، أبو محمد الأموي مولاهم، القرطبي، المتوفى
سنة (340 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
28 -
محمد بن عبد الله، أبو بكر البردعي، المتوفى سنة (350 هـ.)
(5)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن)
(6)
.
29 -
منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن، الكنزي البلوطي، أبو الحكم القرطبي، المتوفى سنة (355 هـ.)
(7)
، له كتاب (الناسخ
(1)
من شيوخه: النسائي، وأبو بكر ابن الأنباري. انظر: البداية والنهاية 11/ 210؛ شذرات الذهب 2/ 346.
(2)
ذكر له ذلك ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 211، والزركشي في البرهان 2/ 28. وهو مطبوع، طبعه المكتبة العصرية بيروت.
(3)
وكان بصيراً بالحديث ورجاله، وسمع: بقي بن مخلد، وابن أبي الدنيا، وغيرهما، وروى عنه: قاسم بن محمد، وعبد الله بن نصر، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 853 - 854؛ طبقات المفسرين للداوودي 2/ 35.
(4)
ذكر له ذلك الداوودي في طبقات المفسرين 2/ 36.
(5)
وهو خارجي معتزلي. انظر: الفهرست ص 390؛ طبقات المفسرين 2/ 177.
(6)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 390، والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 178.
(7)
وهو كان قاضي الجماعة بقرطبة، وسمع من عبيد الله بن يحيى الليثي. انظر: طبقات المفسرين 2/ 336؛ شذرات الذهب 3/ 17.
والمنسوخ)
(1)
.
30 -
الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد النحوي، السيرافي، المتوفى سنة (368 هـ.)
(2)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن)
(3)
.
31 -
محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة، أبو منصور الأزهري الهروي، المتوفى سنة (370 هـ.)
(4)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(5)
.
32 -
عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس، القرطبي، أبو المطرف، المتوفى سنة (402 هـ.)
(6)
، له كتاب ..........................................................
(الناسخ والمنسوخ)
(7)
.
(1)
ذكر له ذلك الداوودي في طبقات المفسرين 2/ 336، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 13/ 9.
(2)
وكان يعرف بالقاضي، ومن شيوخه: ابن مجاهد، وابن دريد. انظر: تاريخ بغداد 7/ 341؛ وفيات الأعيان 2/ 78؛ شذرات الذهب 3/ 65.
(3)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 59.
(4)
وهو اللغوي الإمام المشهور، صاحب تهذيب اللغة، وروى عن البغوي، ونفطويه، وغيرهما. انظر: وفيات الأعيان 4/ 334؛ شذرات الذهب 3/ 72؛ هدية العارفين 2/ 49.
(5)
ذكر له ذلك إسماعيل باشا في هدية العارفين 2/ 49.
(6)
وهو حافظ ثبت، قاضي الجماعة، روى عن: أبي عيسى الليثي، وأبي عبد الله بن مفرج، وغيرهما، وروى
عنه: أبو جعفر بن ميمون، وابن عبد البر، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1061؛ شذرات الذهب 3/ 163.
(7)
ذكر له ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ 3/ 1061، والداوودي في طبقات المفسرين 1/ 292.
33 -
هبة الله بن سلامة بن نصر، أبو القاسم البغدادي، الضرير، المتوفى سنة (410 هـ.)
(1)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل
(2)
.
34 -
عبد القاهر بن طاهر بن محمد، التميمي، أبو منصور البغدادي، المتوفى سنة (429 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
35 -
مكي بن أبي طالب-حموش- بن محمد بن مختار، أبو محمد القيسي القرطبي، المتوفى سنة (437 هـ.)
(5)
، له كتاب:(الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه).
(1)
من شيوخه: زيد بن أبي بلال، وأبو بكر القطيعي، وقرأ عليه أبو الحسن علي بن القاسم. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1050؛ طبقات المفسرين 2/ 348؛ شذرات الذهب 3/ 192.
(2)
ذكر له ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ 3/ 1050، والداوودي في طبقات المفسرين 2/ 349. وهو مطبوع، وقد حققه زهير الشاويش، ومحمد كنعان، وطبعه المكتب الإسلامي، بيروت.
(3)
سمع من أبي عمرو بن نجيد، وأبي أحمد بن عدي. وروى عنه: البيهقي، والقشيري، وغيرهما. انظر: طبقات المفسرين 1/ 332؛ كشف الظنون 2/ 1921.
(4)
ذكر له ذلك حاجي خلفية في كشف الظنون 2/ 1921.
(5)
ومن شيوخه: أبو الطيب بن عبد المنعم، وأبو محمد بن أبي زيد. انظر: وفيات الأعيان 5/ 274؛ طبقات المفسرين 2/ 337؛ شذرات الذهب 3/ 260؛ هدية العارفين 2/ 470.
وكتاب (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه)
(1)
.
36 -
على بن أحمد بن سعيد، ابن حزم الظاهري، أبو محمد، المتوفى سنة (456 هـ.)، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(2)
.
37 -
سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب، أبو الوليد الباجي، القرطبي، المتوفى سنة (474 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(4)
.
38 -
محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد، أبو عبد الله الصعيدي المصري، المتوفى سنة (520 هـ.)
(5)
، له كتاب (الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ)
(6)
.
(1)
نسبهما إليه ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان 5/ 276، والبغدادي في هدية العارفين 2/ 470. وانظر: البرهان للزركشي 2/ 28، وكشف الظنون لحاجي خليفة 2/ 1920.
(2)
ذكر له ذلك إسماعيل باشا في ذيل كشف الظنون 2/ 615، وانظر: معجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور علي شواخ إسحاق 4/ 243.
(3)
وروى عن: يونس بن عبد الله، ومكي بن أبي طالب، وغيرهما، وروى عنه: أبو بكر الخطيب، وابن عبد البر، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1178؛ طبقات المفسرين 1/ 208.
(4)
ولم يتمه، ذكر له ذلك الداوودي في طبقات المفسرين 1/ 210.
(5)
وروى عن: عبد العزيز الضراب، والقضاعي، وكريمة. انظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1271؛ شذرات الذهب 4/ 62؛ هدية العارفين 2/ 84؛ معجم المؤلفين 9/ 101.
(6)
ذكر له ذلك البغدادي في هدية العارفين 2/ 84، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 9/ 101.
39 -
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، القاضي أبو بكر ابن العربي الأشبيلي، المتوفى سنة (543 هـ.)
(1)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
40 -
أحمد بن عبد الصمد بن عبد الحق، أبو عبيدة الخزرجي، المتوفى سنة (582 هـ.)
(3)
، له كتاب (نَفَسُ الصَّباح في غريب القرآن وناسخه ومنسوخه)
(4)
.
41 -
عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي، القرشي التيمي البغدادي، أبو الفرج ابن الجوزي، المتوفى سنة (597 هـ.)
(5)
، له كتاب:
(1)
وقد سمع أباه، وخاله الحسن الهمذاني، وغيرهما، وأخذ عنه القاضي عياض، وابن بشكوال، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1295؛ شجرة النور الزكية ص 136؛ شذرات الذهب 4/ 141.
(2)
ذكر له ذلك الزركشي في البرهان 2/ 28، والداوودي في طبقات المفسرين 169. وهو مطبوع، وحققه رضي فرج الهمامي، طبع المكتبة العصرية بيروت.
(3)
روى عن: أبي بكر بن العربي، وأبي القاسم وراد، وغيرهما، وروى عنه: أبو الحسن بن عتيق، وأبو سليمان بن حوط الله، وغيرهما. انظر: الديباج المذهب 1/ 215؛ معجم المؤلفين 1/ 274.
(4)
ذكر له ذلك ابن فرحون في الديباج المذهب 1/ 215، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 1/ 274. وهو مطبوع، وحققه أستاذ محمد عز الدين المعيار، طبع وزارة الأوقاف بالمملكة المغربية.
(5)
وسمع من: علي بن عبد الواحد الدينوري، وابن الحصين، وغيرهما، وكان شيخ وقته وإمام عصره، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة. انظر: البداية والنهاية 13/ 28؛ كتاب الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 399؛
شذرات الذهب 4/ 329.
- (نواسخ القرآن)، ويسمى كذلك:(عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ)
(1)
.
- (المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
42 -
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسين، ويعرف بشعلة، أبو عبد الله، الموصلي، المتوفى سنة (656 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن)
(4)
.
43 -
محمد بن مطهر بن يحيى، الهاشمي الحسني، المتوفى سنة (728 هـ.)
(5)
، له كتاب (عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن)
(6)
.
44 -
هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله، المعروف بابن
(1)
ذكر له ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 417، وانظر: مقدمة تحقيق نواسخ القرآن 1/ 75 - 77.
(2)
ذكر له ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 417. وانظر: مقدمة تحقيق نواسخ القرآن 1/ 72.
(3)
وقرأ القرآن على علي بن عبد العزيز الأربلي، وبرع في الأدب والقرآن. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 256؛ شذرات الذهب 5/ 281؛ معجم المؤلفين 8/ 315.
(4)
ذكر له ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 256، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 8/ 315.
(5)
أحد أئمة زيدية اليمن. انظر: هدية العارفين 2/ 147؛ معجم المؤلفين 12/ 37.
(6)
ذكر له ذلك البغدادي في هدية العارفين 2/ 147، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 12/ 38.
البارزي، أبو القاسم الجهني الحموي، المتوفى سنة (738 هـ.)
(1)
، له مؤلف في الناسخ والمنسوخ في القرآن
(2)
.
45 -
يحيى بن عبد الله بن عبد الملك الواسطي، أبو زكريا، المتوفى سنة (738 هـ.)
(3)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ من القرآن)
(4)
.
46 -
محمد بن محمد بن محمد بن زنكي، المعروف بالصدر الشيعي، الإسفرايني العراقي، المتوفى سنة (747 هـ.)
(5)
، له .....................................................
كتاب (الناسخ والمنسوخ)
(6)
.
47 -
أحمد بن إسماعيل بن أبي بكر بن عمر، الإبشيطي المصري، المتوفى سنة (883 هـ.)
(7)
، له كتاب (ناسخ القرآن ومنسوخه)
(8)
.
48 -
إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن علي، أبو إسحاق المقدسي
(1)
وهو قاضي حماة، وسمع من والده، وجمال الدين بن مالك، وغيرهما، وأخذ عنه: البرزالي، والذهبي، وغيرهما. انظر: طبقات المفسرين 2/ 350؛ شذرات الذهب 6/ 119.
(2)
ذكر له ذلك الداوودي في طبقات المفسرين 2/ 350.
(3)
وهو أحد فقهاء الشافعية. انظر: هدية العارفين 2/ 526؛ معجم المؤلفين 13/ 208.
(4)
ذكر له ذلك البغدادي في هدية العارفين 2/ 526، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 13/ 208.
(5)
انظر: هدية العارفين 2/ 153؛ معجم المؤلفين 11/ 278.
(6)
ذكر له ذلك رضا كحالة في معجم المؤلفين 11/ 278.
(7)
انظر: شذرات الذهب 7/ 336؛ إيضاح المكنون 2/ 615.
(8)
ذكر له ذلك البغدادي في إيضاح المكنون 2/ 615.
المصري، المتوفى سنة (932 هـ.)
(1)
، له (كتاب في الآيات التي فيها الناسخ والمنسوخ)
(2)
.
49 -
مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد، الكرمي المقدسي، المتوفى سنة (1033 هـ.)
(3)
، له كتاب (قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن)
(4)
.
50 -
إبراهيم بن مصطفى حنيف الرومي القاضي، المتوفى (1189 هـ.)
(5)
، له كتاب (الراسخ في المنسوخ والناسخ)
(6)
.
هذه أعلام بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم.
وقد ألف فيه جمع من أهل العلم ممن جاء بعدهم مؤلفات مفيدة، ومنها:
أ- النسخ في القرآن الكريم
(7)
.
(1)
ومن شيوخه: الشمس بن عمران، وسراج الرومي. انظر: الضوء اللامع للسخاوي 1/ 134؛ البدر الطالع للشوكاني 1/ 26؛ معجم المؤلفين 1/ 88.
(2)
ذكر له ذلك رضا كحالة في معجم المؤلفين 1/ 88.
(3)
انظر: الأعلام للزركلي 7/ 203.
(4)
ذكر له ذلك الزركلي في الأعلام 7/ 203، وهو مطبوع، وحققه الدكتور محمد الرحيل غرابية، والدكتور محمد علي الزغول. طبع دار الفرقان عمان.
(5)
انظر: هدية العارفين 1/ 39؛ معجم المؤلفين 1/ 113.
(6)
ذكر له ذلك البغدادي في هدية العارفين 1/ 39، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 1/ 113.
(7)
للدكتور مصطفى زيد. وهو مطبوع.
ب- كتاب فتح المنان في نسخ القرآن
(1)
.
ج- نظرية النسخ في الشرائع السماوية
(2)
.
د- كتاب النسخ بين الإثبات والنفي
(3)
.
هـ- الآيات المنسوخة في القرآن الكريم
(4)
.
ب- عرض أسماء بعض من ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه:
1 -
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، القرشي الزهري، المتوفي سنة (124 هـ.)، فقد قيل: إنه أول من دون ناسخ الحديث ومنسوخه، وقد روي عنه قوله:(لم يُدون هذا العلم أحد قبلي تدويني)
(5)
.
2 -
أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، الشيباني المروزي، الإمام أبو عبد الله، نزيل بغداد، المتوفي سنة (241 هـ.)، له كتاب في الناسخ والمنسوخ في الحديث
(6)
.
3 -
أحمد بن محمد بن هانئ، الطائي، أبو بكر الأثرم، المتوفى سنة
(1)
للشيخ علي حسن العريض أحد علماء الأزهر، وقد طبع في مجلد واحد بمصر.
(2)
للدكتور شعبان محمد إسماعيل، وهو مطبوع في مطابع النجوى، القاهرة. انظر: مقدمة تحقيق نواسخ القرآن 1/ 30.
(3)
للدكتور محمد محمد فرغلي، وقد طبع في مجلد واحد، بمصر. انظر: المرجع السابق.
(4)
للدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين بن محمد مختار الشنقيطي. وهو مطبوع.
(5)
ذكره عنه الحازمي في الاعتبار ص 45. وانظر: مقدمة تحقيق كتاب رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار للجعبري، تحقيق الدكتور حسن محمد مقبول الأهدل ص 89.
(6)
ذكر له ذلك الكتاني في الرسالة المستطرفة ص 80.
(261 هـ.)
(1)
، له كتاب (ناسخ الحديث ومنسوخه)
(2)
.
4 -
سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير، الأزديّ، أبو داود السجستاني، المتوفي سنة (275 هـ.)، له كتاب في الناسخ والمنسوخ في الحديث
(3)
.
5 -
أحمد بن إسحاق بن بهلول بن حسان، التنوخي الأنباري، القاضي أبو جعفر، المتوفى
سنة (318 هـ.)
(4)
، له مؤلف في ناسخ الحديث ومنسوخه
(5)
.
6 -
محمد بن عثمان بن مسبح، أبو بكر الشيباني المعروف بالجعد، المتوفى سنة (326 هـ.)، له كتاب في ناسخ الحديث ومنسوخه
(6)
.
7 -
أحمد بن محمد بن سلامة، أبو جعفر الطحاوي، المتوفى سنة (321 هـ.)، له كتاب (الناسخ والمنسوخ) في الحديث
(7)
.
(1)
وهو ثقة فقيه، وروى عن الإمام أحمد وتفقه عليه، وعن عبيد الله بن محمد، وغيرهما، وروى عنه: النسائي، والبغوي، وغيرهما. انظر: طبقات الحنابلة 1/ 66؛ تذكرة الحفاظ 2/ 570؛ تهذيب التهذيب 1/ 71.
(2)
ذكر له ذلك ابن النديم في الفهرست ص 379. وهو مطبوع، وحققه عبد الله بن حمد المنصور.
(3)
ذكرله ذلك الكتاني في الرسالة المستطرفة ص 80.
(4)
وهو محدث وفقيه وأديب، وروى عن أبي كريب وطبقته. انظر: شذرات الذهب 2/ 276؛ كشف الظنون 2/ 1920؛ معجم المؤلفين 1/ 160.
(5)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(6)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(7)
ذكر له ذلك الزيلعي في نصب الراية 3/ 174.
8 -
أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس، المرادي المصري، أبو جعفر النحاس، المتوفى سنة (338 هـ.)، له كتاب في ناسخ الحديث ومنسوخه
(1)
.
9 -
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف، أبو محمد الأموي مولاهم، القرطبي، المتوفى سنة (340 هـ.)، له مؤلف في ناسخ الحديث ومنسوخه
(2)
.
10 -
عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد، ابن شاهين البغدادي، المتوفى سنة (385 هـ.)
(3)
، له كتاب (ناسخ الحديث ومنسوخه)
(4)
.
11 -
محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى، أبو عبد الله ابن منده، الأصبهاني، المتوفى سنة (395 هـ.)
(5)
، له مؤلف ......................................................
في الناسخ والمنسوخ في الحديث
(6)
.
12 -
هبة الله بن سلامة بن نصر، أبو القاسم البغدادي الضرير، المتوفى
(1)
ذكر له ذلك حاجي خلفية في كشف الظنون 2/ 1920.
(2)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(3)
الواعظ المفسر، حدث: عن الباغندي، وأبي بكر ابن أبي داود، وغيرهما، وأخذ عنه: الماليني، والبرقاني، وغيرهما، وكان ثقة أميناً، وجمع وألف. انظر: البداية والنهاية 11/ 295؛ شذرات الذهب 3/ 117.
(4)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920. وهو مطبوع، وحققه الدكتورة كريمة بنت علي. طبع دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
(5)
الإمام الحافظ محدث العصر، سمع أباه، ومحمد بن الحسن القطان، وغيرهما، وحدث عنه: أبو عبد الله الحاكم، وتمام الرازي، وغيرهما. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1031؛ شذرات الذهب 3/ 146.
(6)
ذكر له ذلك رضا كحالة في معجم المؤلفين 9/ 42. وانظر: مقدمة تحقيق ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 56.
سنة (410 هـ.)، له مؤلف في ناسخ الحديث ومنسوخه
(1)
.
13 -
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة، أبو القاسم القشيري النسابوري، المتوفى سنة (465 هـ.)
(2)
، له مؤلف في ناسخ الحديث ومنسوخه
(3)
.
14 -
محمد بن موسى بن عثمان بن حازم، أبو بكر الحازمي الهمذاني، المتوفى سنة (584 هـ.)، له كتاب (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار)
(4)
.
15 -
عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي، القرشي التيمي البغدادي، أبو الفرج ابن الجوزي، المتوفى سنة (597 هـ.)، له كتاب:
أ- (إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه)
(5)
.
ب- (أخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من
(1)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(2)
من شيوخه: أبو علي الدقاق، وأبو بكر بن محمد الطوسي. انظر: تاريخ بغداد 11/ 83؛ البداية والنهاية 12/ 117؛ شذرات الذهب 3/ 319 - 321.
(3)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(4)
ذكر له ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ 4/ 1364، وحاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920.
(5)
وهو مطبوع، وحققه الدكتور أحمد بن عبد الله الزهراني، طبع دار ابن حزم، بيروت.
الحديث)
(1)
.
16 -
أحمد بن محمد بن أحمد المظفر بن مختار، أبو حامد الرازي، المتوفى بعد سنة (631 هـ.)
(2)
، له كتاب (الناسخ والمنسوخ في الأحاديث)
(3)
.
17 -
إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل، أبو إسحاق الجعبري، المتوفى سنة (732 هـ.)
(4)
، له كتاب (رسوخ الأحبار بمنسوخ الأخبار)
(5)
.
ثانياً: عرض أسماء بعض من ألف في الاتجاه الثاني، وهو عدم جواز النسخ ووقوعه في الكتاب والسنة
لقد سبق أن من الناس من ينكر وقوع النسخ في الكتاب والسنة، ولذلك
(1)
وقد اختصره من كتابه السابق، وهو مطبوع، وحققه علي رضا عبد الله، طبع دار المأموم للتراث، بيروت.
(2)
عارف بالحديث والتفسير، سمع الحديث من أبي اليمن الكندي، وغيره. انظر: هدية العارفين 1/ 92؛ الأعلام للزركلي 1/ 212.
(3)
ذكر له ذلك الزركلي في الأعلام 1/ 218. وهو مطبوع، وحققه أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري. طبع الفاروق الحديثة للطباعة والنشر.
(4)
العلامة المقرئ الشافعي، من شيوخه: المنتخب التكريتي، ويوسف خليل. وروى عنه: السبكي، والذهبي، وغيرهما. انظر: البداية والنهاية 14/ 182؛ الوافي بالوفيات 6/ 73؛ الدرر الكامنة لابن حجر 1/ 10.
(5)
وهو مطبوع، وحققه الدكتور حسن محمد مقبول الأهدل، طبع مكتبة الثقافة، بيروت.
ألف بعضهم مؤلفات عديدة، بقصد إنكار النسخ، وبيان وجهات نظرهم. وقد أولوا الأدلة التي تدل على ثبوت النسخ من خلال مؤلفاتهم تلك، ومن هؤلاء:
1 -
محمد بن بحر، أبو مسلم الأصفهاني، المتوفى سنة (322 هـ.)، له مؤلفان في النسخ: أحدهما في الناسخ والمنسوخ في القرآن
(1)
. والثاني في ناسخ الحديث ومنسوخه
(2)
.
2 -
محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي، المتوفى سنة (381 هـ.)، له كتاب (الفسخ على من أجاز النسخ)
(3)
.
3 -
عبد المتعال محمد الجبرى
(4)
، له عدة مؤلفات في الناسخ والمنسوخ، منها:
(1)
ذكر غير واحد من أهل العلم أن لأبي مسلم مؤلفاً في الناسخ والمنسوخ في القرآن. انظر: إيضاح المكنون 2/ 615؛ معجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور علي شواخ إسحاق 4/ 245.
(2)
ذكر له ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1920، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 9/ 97.
(3)
انظر: مقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى للسدوسي، ص 16.
(4)
أحد المفكرين المعاصرين من علماء مصر. انظر: مقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، ص 74.
أ- النسخ في الشريعة كما أفهمه
(1)
.
ب- لا نسخ في السنة
(2)
والله أعلم.
(1)
وقد ذكر فيه تعريف النسخ، وأول الآيات التي تدل على النسخ، وأقر أنه لا يوجد ناسخ في القرآن الكريم. والكتاب مطبوع.
(2)
وذكر فيه بعض الأحاديث التي قيل فيها بالنسخ، وأَوَّلَهَا. والكتاب مطبوع، طبعته مكتبة وهبة، بالقاهرة.
الباب الأول الطهارة، والصلاة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الطهارة.
الفصل الثاني: الصلاة.
الفصل الأول: الطهارة
(1)
.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المياه والأواني.
المبحث الثاني: آداب قضاء الحاجة، والوضوء، ونواقضه.
المبحث الثالث: المسح، والتيمم، والغسل، والاستحاضة.
(1)
الطهارة لغة: هي مصدر (طهر) بضم الهاء نقيض النجاسة، والجمع أطهار.
وتأتي الطهارة في اللغة بمعنى: النظافة والنزاهة والنقاء من الدنس والنجس، والبراءة من العيوب وضد الحيض. انظر: مختار الصحاح ص 305؛ المصباح المنير ص 309؛ القاموس المحيط ص 389.
والطهارة اصطلاحا: خلو المحل عما هو مستقذر شرعا. الإنصاف للمرداوي-مع الشرح الكبير- 1/ 30.
وعرفت بأنها: رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما. انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 1/ 31.
المبحث الأول: المياه والأواني
.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً.
المطلب الثاني: الانتباذ في الحنتم والدباء والمزفت والنقير، والشرب منها.
المطلب الثالث: الانتفاع بجلود الميتة.
المطلب الرابع: سؤر الهرة.
المطلب الأول: غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً
ذهب بعض الحنفية ومنهم الطحاوي، إلى أن وجوب غسل الإناء من ولوغ
(1)
الكلب سبعاً منسوخ بالغسل ثلاثاً
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة؛ حيث إن بعض الحنفية لم يقولوا بالتسبيع لأنهم اعتبروا ما ورد في ذلك منسوخاً بما روي في الغسل ثلاثاً. والسبب الآخر للاختلاف في المسألة-وهو السبب الرئيس للاختلاف-هو اختلاف ما ورد في المسألة من الأحاديث والآثار
(3)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا»
(4)
.
(1)
الولوغ من: ولغ يلغ ولوغاً، يقال: ولغ الكلب في الإناء إذا شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه. انظر: تحرير الفاظ التنبيه ص 27؛ المصباح المنير ص 552؛ القاموس المحيط ص 710.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 23؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 110؛ اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 88؛ فتح باب العناية للملا علي القاري 1/ 103.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 178؛ المغني لابن قدامة/ 73؛ المجموع للنووي 2/ 597.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 42، كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا، ح (172) ومسلم في صحيحه 3/ 77، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، ح (279)(90).
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء: «أنه يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 65، وقال:(تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل، وهو متروك الحديث، وغيره يرويه عن إسماعيل بهذا الإسناد فاغسلوه سبعاً وهو الصواب). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 365، وقال:(هذا ضعيف بمرة، عبد الوهاب بن الضحاك متروك، وإسماعيل بن عياش لا يحتج به خاصة إذا روى عن أهل الحجاز، وقد رواه عبد الوهاب بن نجدة عن إسماعيل عن هشام عن أبي الزناد فاغسلوه سبع مرات كما رواه الثقات).
وقال النووي في المجموع 2/ 599: (إنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، لأن راويه عبد الوهاب مجمع على ضعفه وتركه، قال العقيلي والدارقطني: هو متروك الحديث، وهذه العبارة هي أشد العبارات توهيناً وجرحاً بإجماع أهل الجرح والتعديل، وقال البخاري في تاريخه: عنده عجائب، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان عبد الوهاب يكذب وحدث بأحاديث كثيرة موضوعة). وقال النووي عن إسماعيل بن عياش: (وأما إسماعيل بن عياش فمتفق على ضعفه في روايته عن الحجازيين واختلفوا في قبول روايته عن الشاميين، وقد روى هذا الحديث عن هشام بن عروة وهو حجازي فلا يحتج به).
وعبد الوهاب بن الضحاك: كذبه أبو حاتم، وقال البخاري: عنده عجائب. وقال أبو داود: كان يضع الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة، متروك. وقال العقيلي والدارقطني والبيهقي وابن حجر: متروك. وقال صالح بن محمد الحافظ: منكر الحديث عامة حديثه كذب. وقال الحاكم وأبو نعيم: روى أحاديث موضوعة. انظر: ميزان الإعتدال 2/ 679؛ تهذيب التهذيب 6/ 390؛ تقريب التهذيب 1/ 626.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات»
(1)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاهرقه ثم اغسله ثلاث مرات)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 776، عن الحسين بن على الكرابيسي ثنا إسحاق الأزرق ثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة به، ثم أخرجه عن عمرو بن شيبة ثنا إسحاق الأزرق بإسناده نحوه موقوفاً ثم قال:(و هذا لا يروي غير الكرابيسي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما ذكر في متنه من الإهراق والغسل ثلاث مرات، والكرابيسي له كتب مصنفة وذكر في كتبه أخباراً كثيرة ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من الحديث والذي حمل أحمد بن حنبل عليه من اللفظ بالقرآن فأما في الحديث فلم أر به بأساً).
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/ 333،:(هذا حديث لا يصح، لم يرفعه عن إسحاق غير الكرابيسي وهو ممن لا يحتج بحديثه وأصل هذا الحديث أنه موقوف).
و الكرابيسي هو الحسين بن على الكرابيسي قال عنه الذهبي: مقت الناس حسيناً لكونه تكلم في أحمد، و قال ابن حجر: صدوق فاضل تكلم فيه أحمد لمسألة اللفظ. انظر: ميزان الإعتدال 1/ 544؛ تقريب التهذيب 1/ 217.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 66، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 23، وذكر الزيلعي في نصب الراية 1/ 131، أنه قد صحح سنده الشيخ تقي الدين في الإمام. وقال ابن التركماني في الجوهرالنقي على سنن البيهقي 1/ 368:(رواه الدارقطني بسند صحيح).
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 367: (وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة في الثلاث، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات).
وقال في معرفة السنن والآثار 2/ 59: (لم يروه غير عبد الملك وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات) ثم قال في 2/ 61: (وحديثه هذا مختلف فيه فروي عنه من قول أبي هريرة، وروي عنه من فعله، فكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الثقات الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطاً برواية واحد قد عرف بمخالفة الحفاظ في بعض أحاديثه).
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بوجهين:
الوجه الأول: أن الراوي لحديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً أبو هريرة، وهو قد أفتى بالغسل ثلاثاً، فيدل ذلك على أنه علم الناسخ والمنسوخ فأفتى بالناسخ
(1)
.
قال الطحاوي: (فلما كان أبوهريرة قد رأى أن الثلاث يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به، فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى مثله وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته)
(2)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 23؛ اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 88؛ فتح القدير 1/ 110؛ فتح باب العناية 1/ 103.
(2)
شرح معاني الآثار 1/ 23.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: أن هذه الأحاديث المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه كلها متكلم فيها غير الحديث الأول، وذلك على النحو التالي:
-الحديث الثاني، ومما تكلم فيه:
1 -
أنه حديث ضعيف
(1)
فلا يصح التعلق به، ولا الاستدلال
(2)
.
2 -
أنه يحتمل أن يكون شكاً من الراوي فلا يبقى حجة
(3)
.
3 -
أن هذا حديث ضعيف فلا يعارض الحديث الصحيح
(4)
المتفق على صحته في الأمر بتسبيع الغسل
(5)
.
-الحديث الثالث، وتكلم فيه:
بأنه حديث مختلف في رفعه
(6)
ووقفه
(7)
على أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
الحديث الضعيف هو: كل حديث لم يجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن. علوم
الحديث لابن الصلاح ص 62؛ وانظر تقريب النواوي وشرحه تدريب الراوي للسيوطي 1/ 179.
(2)
انظر الكلام عليه عند تخريجه.
(3)
انظر: التعليقة الكبرى لأبي الطيب الطبري 2/ 154.
(4)
الحديث الصحيح هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا. انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 24؛، الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث لابن كثير ص 6.
(5)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 364.
(6)
الحديث المرفوع هو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. انظر: معرفة علوم الحديث ص 66؛ تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي 1/ 183.
(7)
الحديث الموقوف هو: ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم، ونحوها فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: معرفة علوم الحديث ص 67؛ تقريب النواوي وشرحه تدريب الراوي 1/ 184.
ولم يرفعه غير الكرابيسي
(1)
.
أما الآخرون فرووه بعضهم موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه من قوله، وبعضهم موقوفاً عليه من فعله
(2)
، فلا يعارض به الحديث الصحيح المرفوع المتفق على صحته في الأمر بتسبيع الغسل
(3)
.
-الحديث الرابع وهو الرواية الموقوفة علىأبي هريرة رضي الله عنه، وتكلم فيه:
بأن الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (ثلاث مرات) مختلف فيه فروي من فعل أبي هريرة رضي الله عنه وروي من قوله، كما أنه تفرد به عبد الملك
(4)
من
(1)
هو الحسين بن علي بن يزيد، أبو علي الكرابيسي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي وأحد رواة مذهبه القديم، تفقه على الإمام الشافعي وسمع من ابن إسحاق الأزرق وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق كثير، وكان صدوقاً فاضلاً، وتوفي سنة خمس وأربعين-وقيل ثمان وأربعين- ومائتين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 284؛ تقريب التهذيب 1/ 217؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 63.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 23؛ سنن الدارقطني 1/ 66؛ معرفة السنن والآثار للبيهقي 2/ 56.
(3)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 364.
(4)
هو: عبد الملك بن أبي سليمان -ميسرة-العزرمي أبو محمد، ويقال أبو سليمان، روى عن: أنس بن مالك، وعطاء، وغيرهما، وروى عنه: الثوري، وابن المبارك، وغيرهما، وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال الذهبي: أحد الثقات المشهورين تكلم فيه شعبة لتفرده عن عطاء بخبر الشفعة للجار، وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 656؛ تهذيب التهذيب 6/ 348؛ تقريب التهذيب 1/ 615.
بين أصحاب عطاء فرواه بلفظ (ثلاث مرات) والحفاظ الثقات رووه بلفظ (سبع مرات) وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات.
(1)
ثانياً: أن أبا هريرة رضي الله عنه كما روي عنه أنه قال بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً، فإنه روي عنه كذلك أنه قال بغسل الإناء من ولوغه سبعاً، روى ذلك عنه ابن المنذر
(2)
، وابن حزم وغيرهما مسندًا
(3)
، وذكر
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 367؛ ومعرفة السنن والآثار له 2/ 61.
(2)
هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النسا بوري، الحافظ العلامة الفقيه، سمع محمد بن الميمون، والربيع بن سليمان، وغيرهما، وممن روى عنه: أبو بكر ابن المقرئ، و محمد ابن يحيى، ومن مؤلفاته:(الأوسط) و (الإجماع)، وكان غاية في معرفة الاختلاف والدليل، وتوفي سنة ثمان عشرة و ثلاثمائة، وقيل غير ذلك. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 118؛ تذكرة الحفاظ 3/ 782؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 98.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 306؛ المحلى 1/ 122؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 367.
ابن عبد البر
(1)
أنه ممن روي ذلك عنه بالطرق الصحاح.
(2)
وإذا روي عنه هذا وذاك فإما أن نقول بتساقط ما روي عنه في ذلك للتعارض، ونرجع إلى ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بالطرق الصحاح المتفق على صحته، وهو غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً.
وإما نرجح بين ما روي عن أبي هريرة في ذلك، فنقول: قوله وفتواه الموافق لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطرق الصحاح أولى بالترجيح، بل هو المتعين؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا هو صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ثالثاً: أن ما ذكر من وجه استدلال للنسخ، احتمال والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(4)
.
رابعاً: ولأنه يمكن أن يكون لأبي هريرة عذراً في مخالفته للحديث،
(1)
هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، أبو عمر، النمري، القرطبي، حافظ المغرب، حدث عن: الخلف بن القاسم، وعبد الوارث بن سفيان، وغيرهما، وحدث عنه: أبو العباس الدولائي، وأبو علي الغساني، و غيرهما، وكان ثقة حجة صاحب سنة واتباع، وله مؤلفات كثيرة منها (التمهيد) وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1128؛ البداية والنهاية 12/ 114؛ شذرات الذهب 3/ 314.
(2)
انظر: التمهيد-المرتب على الأبواب الفقهية للموطأ- 2/ 206.
(3)
انظر: نيل الأوطار 1/ 107.
(4)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 365؛ فتح الباري 1/ 745.
إما أنه نسي ما رواه، أو أنه اعتقد ندبية السبع لا وجوبها، أو غير ذلك فلا يتعين النسخ، وإذا أمكن أن تكون المخالفة عن رأي واجتهاد، وهو مأجور مغفور، فالعبرة حينئذ لما روى لا لما رأى؛ فإن ما رواه ثابت عن قائل معصوم، وما روي عنه ثابت عن قائل غير معصوم
(1)
.
خامساً: أنه لو صح عن أبي هريرة رضي الله عنه خلاف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رواه من الصحابة غير أبي هريرة كابن عمر وعبد الله بن المغفل
(2)
رضي الله عنهم وهم لم ينقل عنهم مخالفة لما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، بل جاء عن بعضهم القول موافقًا لما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر رضي الله عنه
(4)
. فلا يكون مخالفة فتياه قادحة في مروي غيره
(5)
.
الوجه الثاني من وجهي النسخ: أن مع رواية السبع قرينة تدل على أنه كان في أول الأمر حين كان التشديد في أمر الكلاب، قالوا: (إن
(1)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 365؛ نيل الأوطار 1/ 34.
(2)
هو: عبد الله بن مغفل بن عبد نهم بن عفيف، المزني، أبو سعيد، شهد بيعة الشجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الحسن البصري، وثابت البناني، وغيرهما. وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقهوا الناس بالبصرة، وتوفي سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ستين. انظر: الإصابة 1/ 372؛ تهذيب التهذيب 1/ 39.
(3)
انظر المحلى 1/ 124. وسيأتي تخريج ما رواه ابن عمر رضي الله عنه في دليل القول الثالث، وما رواه عبد الله بن المغفل في دليل القول الخامس.
(4)
انظر قوله في مصنف ابن أبي شيبة 1/ 159.
(5)
انظر: نيل الأوطار 1/ 107.
رواية أبي هريرة في التثليث وكذلك فتياه بذلك تعارض روايته بالسبع فيقدم عليه؛ لأن مع حديث السبع دلالة التقدم للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أول الأمر حتى أمر بقتلها، والتشديد في سؤره يناسب كونه إذ ذاك، وقد ثبت نسخ ذلك فيتبعه حكم ما كان معه)
(1)
.
واعترض عليه: بأن الأمر بقتل الكلاب كان في أوائل الهجرة، أما الأمر بالغسل سبعًا فهو متأخر جدًا يدل عليه أمران:
1 -
أن الأمر بالغسل سبعاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والأمر به ثمانياً من رواية عبد الله ابن المغفل رضي الله عنه، وهما أسلما سنة سبع من الهجرة
(2)
.
2 -
أن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه ذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وسياق حديثه ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب، بل بعد أن رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، فثبت بذلك أن الأمر بالغسل سبعًا متأخر عن نسخ الأمر بقتلها.
(3)
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في عدد غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب على خمسة أقوال:
القول الأول: يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات.
(1)
انظر: فتح القدير 1/ 109؛ البحر الرائق 1/ 135؛ فتح باب العناية 1/ 103.
(2)
انظر: المحلى 1/ 125؛ فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 34.
(3)
انظر: المحلى 1/ 125؛ فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 34.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، ورواية عن أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
، وقول عطاء
(3)
، والزهري
(4)
.
القول الثاني: أنه يغسل الإناء من ولوغ الكلب بلا حد، بل حتى يغلب على الظن طهارته كسائر النجاسات.
وهو قول نسبه الطحاوي إلى الإمام أبي حنيفة، وأصحابه
(5)
، وقول
(1)
هذا ما قاله أكثر المتأخرين ممن صنف في الفقه الحنفي، حتى أن الكاساني أشار إلى أن من أصول أبي حنيفة إزالة النجاسة الحقيقية بالغسل في الأواني ثلاث مرات، أما الطحاوي فذكر أنه لا تحديد في ذلك، ونسبه إلى أئمة المذهب. انظر: مختصر الطحاوي ص 16؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 109؛ بدائع الصنائع 1/ 201؛ المحيط البرهاني لمحمود بن أحمد بن عبد العزيز البخاري 1/ 140؛ فتح القدير 1/ 109؛ اللباب للمنبجي 1/ 88؛ البحر الرائق 1/ 135؛ فتح باب العناية 1/ 103. ومع هذا فقد صرح غير واحد منهم باستحباب غسل الإناء من ولوغه سبعاً وكون إحداهن بالتراب. انظر: اللباب للمنبجي 1/ 88؛ البحر الرائق 1/ 135؛.
(2)
انظر قوله في: شرح معاني الآثار 1/ 23؛ سنن الدارقطني 1/ 66؛ الاستذكار 1/ 248.
(3)
هو: عطاء ابن أبي رباح -أسلم- القرشي مولاهم، أبو محمد المكي، ثقة فقيه، كثير الإرسال، روى عن: ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه: مجاهد، والزهري، والأوزاعي، وغيرهم، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة -وقيل غير ذلك-. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 367؛ تهذيب التهذيب 7/ 174.
(4)
انظر قولهما في: الأوسط 1/ 306؛ التمهيد 2/ 206؛ المجموع 2/ 597.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 22؛ مختصر الطحاوي ص 16؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 117.
سفيان الثوري
(1)
، والليث بن سعد
(2)
(3)
.
القول الثالث: أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا.
وهو قول للإمام مالك
(4)
، ومذهب الشافعية
(5)
، والصحيح من المذهب عند الحنابلة
(6)
.
(1)
هو: سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه، روى عن: الأعمش، والمنصور، وغيرهما. وروى عنه: شعبة، والأوزاعي، وغيرهما. وكان أمير المؤمنين في الحديث، وتوفي سنة إحدى وستين ومائة. انظر: معجم البلدان 4/ 254؛ تذكرة الحفاظ 1/ 203؛ تهذيب التهذيب 4/ 101.
(2)
هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث، المصري، روى عن نافع، والزهري، وغيرهما، وروى عنه: ابن المبارك، وابن وهب، وغيرهما، وكان فقيهاً حافظاً ثقة، عالم الديار المصرية وشيخها، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 224؛ تهذيب التهذيب 8/ 401.
(3)
انظر قولهما في: الأوسط 1/ 306؛ التمهيد 2/ 206؛ المجموع 2/ 597.
(4)
وهو قول مرجوح في المذهب. انظر: الأوسط 1/ 305؛ الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 178؛ شرح التلقين 1/ 232؛ عقد الجواهر 1/ 13؛ الذخيرة 1/ 181؛ مواهب الجليل 1/ 254.
(5)
انظر: الأم 1/ 45؛ مختصر المزني ص 16؛ التعليقة الكبرى 2/ 151؛ التعليقة للقاضي حسين 1/ 473؛ العزيز 1/ 66؛ المجموع 2/ 413.
(6)
وهو قول للإمام أحمد. انظر: الأوسط 1/ 305؛ المغني 1/ 73؛ الكافي 1/ 189؛ الشرح الكبير 2/ 280؛ الممتع 1/ 259؛ شرح الزركشي 1/ 50؛ الإنصاف-مع الشرح الكبير - 2/ 278.
وهو رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقول ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما وقول عروة بن الزبير
(1)
، وسعيد بن المسيب
(2)
، ................................
ومحمد بن سيرين
(3)
، وطاووس
(4)
، وعمرو بن دينار
(5)
، والأوزاعي
(6)
،
(1)
هو: عروة بن الزبير بن العوام القرشي، الأسدي، المدني، أبو عبد الله، تابعي جليل، روى عن أبي هريرة، و عائشة، وغيرهما. وحدث عنه: أبو الزناد، وابن المنكدر، وغيرهما، وكان ثقة، وتوفي سنة أربع و تسعين، وقيل غير ذلك. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 40؛ تذكرة الحفاظ 1/ 62؛ البداية والنهاية 9/ 91.
(2)
هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي أهيب، القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات والفقهاء السبعة وسيد التابعين، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وقيل لأربع مضين منها، وروى عن: عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، وسالم، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 217؛ تهذيب التهذيب 4/ 75.
(3)
هو: محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر، إمام وقته، روى عن: أبي هريرة، وأنس بن مالك، و غيرهما، وروى عنه: الشعبي، وابن عون، وغيرهما، وكان محدثاً فقيهاً ثقة، وتوفي سنة عشر ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 77؛ تهذيب التهذيب 9/ 184.
(4)
هو: طاووس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن، كان أحد الأئمة الأعلام، روى عن: عائشة، وابن عباس، وغيرهما، وروى عنه: ابنه عبد الله، والزهري، وغيرهما، وكان شيخ أهل اليمن، وكان كثير الحج، وتوفي بمكة قبل يوم التروية بيوم سنة ست ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 90؛ البداية والنهاية 9/ 210.
(5)
هو: عمرو بن دينار المكي، أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم، الحافظ، أحد الأعلام، ثقة، روى عن: ابن عباس، وجابر، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 113؛ تهذيب التهذيب 8/ 25.
(6)
هو عبد الرحمن بن عمرو ابن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، فقيه، ثقة إمام، روى عن: قتادة، ونافع، و غيرهما، وروى عنه: مالك، وشعبة، وغيرهما، وكان من فقهاء أهل الشام وقرائهم، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة -وقيل سبع وخمسين ومائة-. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 215؛ شذرات الذهب 1/ 241.
وأبي عبيد، وإسحاق بن راهوية
(1)
، وأبي ثور
(2)
، وداوود الظاهري
(3)
، وابن المنذر، وابن حزم
(4)
.
القول الرابع: أنه يستحب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً تعبداً ولا يجب ذلك.
(1)
هو إسحاق بن إبراهيم بن المخلد بن إبراهيم المعروف بابن راهوية، المروزي، ثقة حافظ، روى عن: ابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهما. وروى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 358؛ تهذيب التهذيب 1/ 197.
(2)
هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، البغدادي، حدث عن: ابن عيينة، والشافعي، وغيرهما، وروى عنه: أبو داود، وابن ماجة، وغيرهما، وكان ثقة فقيهاً، وتوفي سنة أربعين ومائتين. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 512؛ تقريب التهذيب 1/ 56؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 55.
(3)
هو: داود بن علي بن خلف بن سليمان الأصفهاني ثم البغدادي، إما م أهل الظاهر، تركوه، روى عن: سليمان بن حرب، و القعنبي، وغيرهما، وروى عنه: ابنه محمد الفقيه، و زكريا الساجي، وغيرهما، وتوفي سنة سبعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 13/ 97؛ ميزان الاعتدال 2/ 206؛ شذرات الذهب 2/ 158.
(4)
انظر أقوالهم في: مصنف عبد الرزاق 1/ 97؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 159؛ الأوسط 1/ 305؛ التمهيد 2/ 206؛ الاستذكار 1/ 247؛ المحلى 1/ 122؛ المجموع 2/ 597؛ نيل الأوطار 1/ 34.
وهو قول آخر للإمام مالك، وهو الراجح في المذهب عند المالكية، وهو الذي استقر عليه المذهب.
(1)
القول الخامس: أنه إذا ولغ الكلب في الإناء غُسل سبع مرات الثامنة بالتراب.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقول الحسن البصري
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا- بما يلي:
أولاً: ما سبق من الأحاديث والآثار في أدلة القول بالنسخ.
وقد سبق وجه الاستدلال منها، وما يعترض عليه.
ثانياً: وقياساً على سائر النجاسات، وذلك لأن البول والغائط وهما أغلظ النجاسات يطهر منها بالغسل ثلاث مرات، فكان أحرى أن يطهر
(1)
انظر: الاستذكار 1/ 247؛ شرح التلقين 1/ 232؛ عقد الجواهر 1/ 13؛ الذخيرة 1/ 181؛ جامع الأمهات ص 40؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 1/ 253؛ التاج والإكليل 1/ 253.
(2)
انظر: المغني 1/ 73؛ الكافي 1/ 189؛ الشرح الكبير 2/ 281؛ شرح الزركشي 1/ 151؛ الإنصاف 2/ 278.
(3)
هو: الحسن بن أبي الحسن-يسار-البصري، ثقة فقيه مشهور، كان يرسل كثيراً ويدلس، وروى عن: عثمان، و أبي بن كعب، وغيرهما، وروى عنه: أيوب، وقتادة، وغيرهما، وتوفي سنة عشر ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 563؛ تهذيب التهذيب 2/ 243.
وانظر قوله في: شرح معاني الآثار 1/ 23؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 117؛ المغني 1/ 73.
بما هو دون ذلك من النجاسات.
(1)
واعترض عليه: بأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار.
(2)
دليل القول الثاني
أما القول الثاني وهو أنه يغسل الإناء من ولوغ الكلب حتى يغلب على الظن طهارته من دون تحديد عدد في ذلك، فمن أدلته ما يلي:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء: «أنه يغسله ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا»
(3)
.
وجه الاستدلال منه: هو أنه خيره بين الثلاث والخمس والسبع، وهذا يدل على أنه علقه على غلبة الظن، ولو كان التسبيع واجباً لما خيره
(4)
.
وقد سبق ما يعترض به على هذا الدليل.
2 -
وقياساً على سائر النجاسات
(5)
.
وقد سبق ما يعترض به على هذا الدليل.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 22.
(2)
انظر: التعليقة الكبرى لأبي الطيب الطبري 2/ 156؛ فتح الباري 1/ 333؛ نيل الأوطار 1/ 34.
(3)
سبق تخريجه والكلام عليه في ص 124.
(4)
انظر: التعليقة الكبرى 2/ 152؛ البحر الرائق 1/ 135.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 22.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث وهو أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات»
(2)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»
(3)
.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات»
(4)
.
ثالثاً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لا أن الكلاب أمة
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 76، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، ح (279)(89).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 77، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، ح (279)(91).
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 82، كتاب الطهارة، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، ح (366). وصحح إسناده الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1/ 189.
من الأمم أمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم، ومن اقتنى كلباً لغير صيد ولا زرع ولا غنم آوى إليه كل يوم قيراط من الإثم مثل أحد، وإذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء
(1)
(2)
.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات»
(3)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث فيها الأمر بالغسل من ولوغ الكلب سبع مرات
(4)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث فيها اضطرابًا
(5)
؛ ففي رواية
(1)
البطحاء: هو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى، وبطحاء الوادي تراب لين مما جرته السيول. انظر: مختار الصحاح ص 48؛ لسان العرب 1/ 428.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 291: (رواه الطبراني في الأوسط من طريق الجارود عن إسرائيل والجارود لم أعرفه). ورواه الدارقطني في سننه 1/ 64، من قوله:(إذا ولغ الكلب في الإناء) إلى آخره، ثم قال:(الجارود هو ابن أبي يزيد متروك). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 40: (إسناده ضعيف فيه الجارود بن أبي يزيد وهو متروك).
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 292: (رواه الطبراني والبزار بنحوه، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد واختلف في الاحتجاج به). وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة: وثقه أحمد والعجلي، وضعفه النسائي وابن حجر، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 19؛ تهذيب التهذيب 1/ 95؛ التقريب 1/ 52.
(4)
انظر: المغني 1/ 73، 74؛ المجموع 2/ 413.
(5)
الحديث المضطرب هو: ما روي على أوجه مختلفة متساوية في القوة. تيسير مصطلح الحديث لمحمود الطحان ص 111؛ وانظر: معرفة علوم الحديث ص 122؛ وتقريب النواوي وشرحه 1/ 262.
(أولاهن بالتراب) وفي رواية (أخراهن) وفي رواية (إحداهن) وفي رواية (السابعة) وفي رواية (الثامنة) وهو عيب عظيم في هذا الباب، فيجب الاطراح لها
(1)
.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
أن الاضطراب لا يكون قادحاً إلا مع استواء الروايات وعدم إمكان الترجيح، والترجيح هنا ممكن، فإن رواية (أولاهن) أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضاً؛ لأن تتريب الآخرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه
(2)
.
2 -
أنه يرجح رواية (الثامنة) لأن الأخذ بها يستلزم الأخذ ببقية الروايات، دون العكس، ففيها زيادة، وهو مجمع على صحته، وزيادة الثقة مقبولة، ويتعين المصير إليها إذا لم تقع منافية
(3)
.
3 -
أنه لا يكون وجه لتعليل الخبر بالاضطراب إذا حمل اختلاف الروايات في محل التراب على التخيير وأن المراد حصول التراب في إحدى الغسلات
(4)
.
(1)
انظر: فتح باب العناية 1/ 103؛ سبل السلام 1/ 29.
(2)
انظر: سبل السلام للصنعاني 1/ 29؛ نيل الأوطار 1/ 37.
(3)
انظر: فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 37.
(4)
انظر: نيل الأوطار 1/ 37.
دليل القول الرابع
يستدل للقول الرابع وهو أنه يستحب غسل الإناء من ولوغ الكب سبعاً ولا يجب، بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا»
(1)
.
وجه الاستدلال منه: هو أن الأمر في قوله: (سبعًا) للاستحباب، أو للوجوب لكن هاهنا قرائن وأدلة صرفته عنه وهي الأدلة التي تدل على طهارة الكلب، ومنها قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
(2)
؛ حيث فيها الأمر بالأكل مما صاده الكلب من غير ذكر غسل أثر فمه، فلو كان الغسل واجبا لأمر به
(3)
.
واعترض عليه بما يلي
أن عدم التعرض للغسل في الآية لا يدل على عدم وجوب ذلك، بل المراد أكل الصيد بعد الغسل، بدليل:
1 -
عموم الأدلة الدالة على تطهير النجس
(4)
.
2 -
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغسل ما ولغ فيه الكلب
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 124.
(2)
سورة المائدة، الآية (4).
(3)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 178؛ المعونة 1/ 66؛ شرح التلقين للمازري 1/ 232؛ الذخيرة 1/ 181؛ مواهب الجليل 1/ 253، 254.
(4)
انظر: نيل الأوطار 1/ 35.
(5)
انظر: الشرح الكبير للمقدسي 2/ 279؛ مواهب الجليل 1/ 254.
والدليل على نجاسة أثر فم الكلب:
1 -
ما سبق في دليل القول الثالث من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» .
وجه الاستدلال منه: أنه لا يكون الطهور إلا في محل الطهارة، والطهارة تكون عن حدث أو نجس، وليس هنا حدث فتعين النجس
(1)
.
ويؤكد أن الغسل منه من أجل النجاسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله فإنه رجس ثم اشرب فيه وتوضأ)
(2)
.
2 -
ما سبق في دليل القول الثالث من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات» .
وجه الاستدلال منه: أن ما ولغ فيه الكلب لو كان طاهراً لم يأمرنا الشرع بإراقته؛ لأنه ضياع للمال وقد نهينا عن ضياعة المال
(3)
.
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 187؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 279.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 306، وقال ابن حجر في الفتح 1/ 332:(والتعليل بالتنجيس أقوي لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه).
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 187؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 279.
دليل القول الخامس
أما القول الخامس وهو أنه يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً والثامنة بالتراب فدليله:
حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب» ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب»
(1)
.
ووجه الاستدلال منه ظاهر؛ حيث فيه الأمر بالغسل سبعًا والثامنة بالتراب
(2)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، ويستحب غسله ثمانياً، وتكون الثامنة بالتراب؛ وذلك:
أما وجوب السبع فلصحة الروايات في ذلك بالاتفاق، فقد روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة، وابن عمر، وعلي ابن أبي طالب، وابن
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 77، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، ح (280)(93).
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 350.
عباس رضي الله عنهم.
أما رواية أبي هريرة فهي صحيحة بالاتفاق، ورواية ابن عمر صحيحة كذلك.
أما رواية علي ابن أبي طالب، وابن عباس ففي بعض رواتهما كلام، لكن معناهما ثابت من رواية أبي هريرة وابن عمر، وهما يعضدان رواية أبي هريرة وابن عمر.
وعلى هذا فيجمع بين هذه الروايات ورواية عبد الله بن المغفل بأن المراد: إغسلوه سبعًا واحدة منهن بالتراب مع الماء، فيكون التعفير بالتراب في إحداهن تطهير ثامن إلى السبع غسلات، ويكون التراب مع الماء بمنزلة الغسلتين
(1)
.
وبذلك يكون رواية عبد الله بن المغفل موافقة لرواية أبي هريرة وغيره في السبع، وهي كذلك صحيحة. فيكون مجموع ما روي في الغسل من ولوغ الكلب سبعاً مرفوعاً عن خمس من الصحابة.
أما استحباب الغسل ثمانياً إحداهن بالتراب؛ فلظاهر حديث عبد الله بن المغفل، حيث فيه التصريح بالثمانية، ويرجح هذه الرواية على روايات السبع، بأن الأخذ بها يستلزم الأخذ ببقية الروايات دون العكس، ففيها زيادة وهو مجمع على صحته، وزيادة الثقة يتعين المصير إليها إذا لم تقع منافية
(2)
.
(1)
انظر: المحلى 1/ 122؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 187؛ المجموع 2/ 600.
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 37.
ولولا الاحتمال الذي ذكر في الجمع بين هذه الرواية وروايات السبع لكان القول بوجوب الغسل ثمانيا أرجح.
ثانيا: أن القول بنسخ ما يدل على غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً قول ضعيف بل مردود، وذلك لما يلي:
1 -
أن ما استدلوا به لا يخلوا عن كلام إما في إسناده أو في رفعه، بخلاف ما روي في السبع فهي صحيحة وقوية.
2 -
أن ما استدلوا به مروي عن أبي هريرة فقط، إما مرفوعاً أو موقوفاً، أما روايات السبع فهي مروية عن أربعة أو خمسة من الصحابة كلها مرفوعة، ثم هي أصح من روايات الغسل ثلاثاً بالاتفاق.
3 -
أن وجه الاستدلال مما استدلوا به على النسخ غير ظاهر، وغير صحيح، لأن غاية ذلك أمران:
الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بالثلاث، وهو راوي السبع، وهو لا يخالف إلا إلى ما علم نسخه.
ويرد على هذا بما يلي:
1 -
أن أبا هريرة رضي الله عنه كما روي عنه أنه أفتى بالغسل ثلاثا فكذلك قد صح عنه أنه قال بالغسل سبعًا، وهذا أصح سندًا، وكذلك نظرًا؛ لموافقة فتياه لما رواه مرفوعًا.
(1)
2 -
أن أبا هريرة رضي الله عنه ليس وحده من روى الغسل سبعًا، بل قد
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 37.
روي ذلك عن ثلاثة أو أربعة من الصحابة غير أبي هريرة رضي الله عنه. وغير أبي هريرة رضي الله عنه لم يرو عن أحد منهم أنه خالف ما رواه، بل قد نقل عن بعضهم أنه أفتى وقال بالغسل سبعًا موافقًا لما رواه، فلماذا يترك قولهم ورواياتهم بفتيا أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاث؟ مع أن العكس صحيح بل لازم؛ لأنه لا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما ذا يؤخذ بفتيا أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاث، ويترك قوله وفتياه بالسبع موافقًا رأيه لما رواه؟ مع أن العكس صحيح بل لازم؛ لأن كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني مما بنوا عليه النسخ: أن التشديد كان في أمر الكلاب في أول الأمر؛ حيث أمر بقتلها فكان ذلك يناسب التشديد في سؤرها فكان الغسل من ولوغها سبعًا، فلما نسخ الأمر بقتلها خفف في سؤرها فجعل الغسل منه ثلاثا، ونسخ الغسل سبعاً.
ويرد على هذا: أن أبا هريرة وابن المغفل ممن روى السبع وهما أسلما سنة سبع من الهجرة، والأمر بقتل الكلاب كان في أوائل الهجرة، على أن في حديث ابن المغفل ما يدل على أن الأمر بالغسل سبعًا بعد نسخ الأمر بقتل الكلاب، وعلى هذا فلا يصح الاستدلال مما قالوه على النسخ
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المحلى 1/ 125؛ فتح الباري 1/ 332؛ نيل الأوطار 1/ 34.
المطلب الثاني الانتباذ في الحنتم والدباء والمزفت والنقير، والشرب منها
ذهب جمهور أهل العلم
(1)
، إلى أن النهي عن الانتباذ
(2)
في الأواني كالحنتم
(3)
والدباء
(4)
والمزفت
(5)
والنقير
(6)
، والشرب منها، قد نسخ، فيجوز الانتباذ والشرب في جميع الأواني مما قد جاء النهي عن الانتباذ فيها، وأن الحظر كان أول الأمر، ثم نسخ ذلك.
وممن قال به: الحنيفة
(7)
، والشافعية
(8)
، وهو كذلك مذهب
(1)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 519؛ رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار ص 519؛ فتح الباري 10/ 60.
(2)
الانتباذ من نبذ، وهو الإلقاء. انظر: مختار الصحاح ص 565، المصباح المنير ص 590.
(3)
الحنتم: هي الجرة الخضراء. انظر: مختار الصحاح ص 139، القاموس المحيط ص 991.
(4)
الدباء بالضم والتشديد والمد القرع، والواحدة دباءة. انظر: مختار الصحاح ص 174، القاموس المحيط ص 78.
(5)
المزفت من الزفت، وهو القير، وجرة مزفتة أي مطلية بالزفت، وقيل الزفت: القطران. انظر: مختار الصحاح ص 239، المصباح المنير ص 253، القاموس المحيط ص 140.
(6)
النقير: أصل خشبة تنقر وينبذ فيها. انظر: مختار الصحاح ص 594، المصباح المنير ص 621، القاموس المحيط ص 438.
(7)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 229؛ مختصر اختلاف العلماء 4/ 369؛ مختصر القدوري ص 204؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 10/ 106؛ العناية 10/ 106.
(8)
انظر: معالم السنن للحطابي-مع مختصر سنن أبي داود للمنذري- 5/ 273؛ الاستذكار 7/ 17؛ بحر المذهب للروياني 13/ 144؛ روضة الطالبين ص 1770؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 153؛ رسوخ الأحبار ص 519.
الحنابلة
(1)
، واختاره ابن حزم
(2)
.
وقد ظهر منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد الأسباب الرئيسية لاختلاف الفقهاء فيها؛ حيث أن من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته من الصحابة فمن بعدهم نهى عن الانتباذ في الأوعية، ومن اعتقد ثبوته وأنه ناسخ رخص في الانتباذ فيها، كما أن اختلاف ظواهر الآثار الواردة في المسألة سبب آخر لاختلافهم فيها
(3)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف» فقالت الأنصار: إنه لا بد لنا منها، قال:«فلا إذاً»
(4)
.
ثانياً: عن بريدة رضي الله عنه
(5)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن النبيذ
(1)
انظر: المغني 12/ 514؛ الشرح الكبير 26/ 439، 440؛ الممتع 5/ 704؛ الفروع 10/ 102؛ الإنصاف 26/ 439؛ كشاف القناع 9/ 3025.
(2)
انظر: المحلى 6/ 223.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 338.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1206، كتاب الأشربة، باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي، ح (5592).
(5)
هو: بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي، أبو عبد الله، أسلم قبل بدر، وشهد خيبر وفتح مكة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه ابنه عبد الله، والشعبي، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وستين. انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة 1/ 367؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 47؛ التهذيب 1/ 394.
إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا»
(1)
.
ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نهيتكم عن الظروف وإن الظروف- أو ظرفاً- لا يحل شيئاً ولا يحرمه وكل مسكر حرام»
(2)
.
رابعاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 88، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، ح (977)(63).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 88، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، ح (977)(64).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 89، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وأنه منسوخ، ح (977)(65).
ذكر النووي روايات بريدة الثلاثة في شرحه ثم قال: (قال القاضي: هذه الرواية الثانية فيها تغيير من بعض الرواة، وصوابه: كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فحذف لفظة إلا، التي للاستثناء، ولا بد منها، قال: والرواية الأولى فيها تغيير أيضاً، وصوابها: فاشربوا في الأوعية كلها، لأن الأسقية وظروف الأدم لم تزل مباحة مأذوناً فيها، وإنما نهى عن غيرها من الأوعية كما قال في الرواية الأولى: (كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء) فالحاصل أن صواب الروايتين: كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فانتبذوا واشربوا في كل وعاء، وما سوى هذا تغيير من الرواة، والله أعلم).
خامساً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(1)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية ألا وإن وعاءً لا يحرم شيئاً، كل مسكر حرام»
(2)
.
سادساً: عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن هذه الأوعية فاشربوا فيها، واجتنوا كل ما أسكر»
(3)
.
(1)
هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، أسلم بمكة قديمًا وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعله، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وروى عنه: ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين. انظر: سير أعلام النبلاء 1/ 461؛ الإصابة 2/ 1122؛ تهذيب التهذيب 6/ 36.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 571، كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، ح (3406). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 441:(حديث ابن مسعود حسن، أيوب مختلف فيه). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 571.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 85، وأحمد في المسند 7/ 342، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 228، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 540. وفيه فرقد السبخي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 29: (رواه أحمد وأبو يعلى وفيه فرقد السبخي وهو ضعيف). وفرقد السبخي هو: فرقد بن يعقوب السبخي، أبو يعقوب، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال البخاري: في حديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، وضعفه هو والدارقطني. وقال ابن حجر: صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ. انظر: ميزان الإعتدال 3/ 346، تقريب التهذيب 2/ 8.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 85، وأحمد في المسند 2/ 398، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 227، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 29:(رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه النابغة ذكره ابن أبي حاتم ولم يوثقه ولم يجرحه).
وربيعة بن النابغة قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 45، وكذلك في المغني في الضعفاء 1/ 350:(ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي في الأضحية لم يصح قاله البخاري).
وقال عنه ابن حجر في لسان الميزان 3/ 8: (ذكره ابن حبان في الثقات وذكره العقيلي في الضعفاء).
وكذلك في سند هذا الحديث علي بن زيد بن جدعان، وثقه يعقوب بن شيبة، وضعفه ابن عيينة ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والنسائي، وابن سعد، وغيرهم، وقال البخاري وأبو حاتم: لا يحتج به. ورماه غير واحد بالرفض. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 127، تهذيب التهذيب 7/ 274، تقريب التهذيب 1/ 694.
سابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكراً»
(1)
.
ثامناً: عن أبي بردة بن نيار الأنصاري رضي الله عنه
(2)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو عوانة في مسنده 5/ 27، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 228، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 539.
(2)
أبو بردة بن نيار اسمه هانئ بن نيار، -وقيل غير ذلك- حليف الأنصار، شهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه البراء بن عازب، وجابر، وبشير بن يسار وغيرهم، وتوفي سنة إحدى وأربعين وقيل بعدها. انظر: نهذيب التهذيب 12/ 360؛ تقريب التهذيب 2/ 18.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 84، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 4/ 228.
تاسعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما قفل وفد عبد القيس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل امرئ حسيب نفسه لينتبذ كل قوم فيما بدا لهم»
(1)
.
عاشراً: عن عبد الله بن المغفل المزني رضي الله عنه قال: أنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن نبيذ الجر، وأنا شهدته حين رخص فيه، قال:«واجتنبوا المسكر»
(2)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 229، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 65:(رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه شهر وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 27/ 359، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 229، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 65:(رواه أحمد ورجاله ثقات، وفي أبي جعفر الرازي كلام لا يضر، وهو ثقة، ورواه الطبراني في الكبير والاوسط).
تنبيه: في نسخة مسند الإمام أحمد المحققة السند فيه: (عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره) أما في شرح معاني الآثار للطحاوي فالسند فيه: (عن أبي العالية وغيره عن عبد الله) كما أن في نسخة أحمد لفظ: (حين رخص فيه قال: واجتنبوا المسكر) أما في شرح معاني الآثار ففيه: (وشهدته حين أمر بشربه وقال: اجتنبوا السكر).
-وأبو جعفر الرازي هو: عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان الرازي التيمي مولاهم، وثقه علي ابن المديني و يحيى بن معين وأبو حاتم وابن سعد والحاكم، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيراً، وقال عمرو بن علي: فيه ضعف وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. وقال الذهبي: صالح الحديث. وقال ابن حجر: صدوق سيئ الحفظ خصوصاً في مغيرة. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 319، تهذيب التهذيب 12/ 49، تقريب التهذيب 2/ 376.
حادي عشر: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الظروف ثم رخص فيها، نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ثم رخص فيها» ، وقال:«اشربوا فيما شئتم واجتنبوا كل مسكر»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث تدل على جواز الانتباذ في الأوعية كلها، ويستدل منها على نسخ النهي الوارد عن ذلك بوجهين:
الأول: أن هذه الأحاديث فيها التصريح بأن الأمر بجواز الانتباذ في الأوعية كلها كان بعد النهي عن الانتباذ فيها، فيكون ذلك ناسخاً للنهي السابق
(2)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 69: (رواه البزار وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف يكتب حديثه وبقية رجاله ثقات).
-ويزيد بن أبي زياد هو: يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي، قال عنه يحيى بن معين: ليس بالقوي ولا يحتج به، وقال ابن المبارك: ارم به. وقال أحمد: حديثه ليس بذاك، وقال الذهبي: أحد علماء الكوفة المشاهير على سوء حفظه. وقال ابن حجر: ضعيف وكان شيعياً. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 423، تقريب التهذيب 2/ 324.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 229؛ معالم السنن 5/ 273؛ الاعتبار للحازمي ص 519؛ رسوخ الأحبار ص 519؛ مجموع الفتاوى 28/ 338.
الثاني: أن بعض هذه الأحاديث فيه التصريح بأن النهي عن الانتباذ كان في بعض الظروف، ثم جاء الأمر بالجواز عاماً في الظروف كلها، فيكون ذلك ناسخاً للنهي السابق
(1)
.
واعترض عليه: بأن النهي كان ورد عن الظروف كلها، ثم نسخ منها ظروف الأدم، وما عداها باق على أصل الحظر، والدليل على ذلك:
1 -
عن عبد الله بن عمرو
(2)
رضي الله عنهما-قال: «لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس كل الناس يجد سقاءً فرخص لهم في الجرّ غير المزفت»
(3)
.
2 -
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما قال: «لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية قالوا: ليس كل الناس يجد، فأرخص لهم في الجر غير المزفت»
(4)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 521.
(2)
هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، القرشي، السهمي، أبو عبد الرحمن، أحد من هاجر هو وأبوه قبل الفتح، وكان صواماً، قواماً، تالياً لكتاب الله، وكان أبو هريرة يعترف له بالإكثار من العلم، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وروى عنه: ابن عمر، وأبو أمامة، وغيرهما، وتوفى سنة خمس وستين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 41؛ الإصابة 2/ 1101.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1206، كتاب الأشربة، باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي، ح (5593).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، و بيان أنه منسوخ، ح (2000)(66).
3 -
عن ابن عمر-رضي الله عنهما يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والدباء والمزفت، وقال: (انتبذوا في الأسقية»
(1)
.
فالنهي في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عمم الأوعية كلها، فشمل ذلك الأسقية وغيرها، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه فصل بين ما هو باق على أصل الحظر وما نسخ من ذلك
(2)
.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
بأنه لا يصح الاستدلال من حديث ابن عمر رضي الله عنه على ما قيل؛ لأنه قصر في الحديث ورواه مختصراً على ما سمعه، وغيره رواه أحسن سياقاً منه، وأتم من حديثه، وممن رواه أتم بريدة رضي الله عنه وفي روايته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً»
(3)
.
فعمم الجواز في الأوعية كلها سواء كانت من الأدم أو غيرها
(4)
.
2 -
أنه يحتمل أن النهي كان مطلقاً عن الظروف كلها ثم رخص لهم في ظروف الأدم فقط، ثم رخص لهم في الظروف كلها، وبذلك يمكن الجمع
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 86، كتاب الأشربه، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، و بيان أنه منسوخ، ح (1997)(55).
(2)
انظر: الاعتبار ص 521.
(3)
سبق تخريجه في ص 142.
(4)
انظر: الاعتبار ص 521.
بين الأحاديث كلها سيماً بين حديث ابن عمر وبريدة رضي الله عنهما
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقداختلف أهل العلم في حكم الانتباذ في الأوعية المذكورة والشرب منها على أربعة أقوال:
القول الأول: يجوز الانتباذ فيها، والشرب منها، وأن النهي عن الانتباذ فيها قد نسخ.
وهو مذهب الحنيفة
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول جمهور أهل العلم
(5)
.
القول الثاني: يكره الانتباذ في الدباء والمزفت، ويجوز فيما عداهما، وأن النهي الوارد في ذلك لم ينسخ.
وهو قول الإمام مالك، ومذهب المالكية
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 521، المنهاج للنووي 5/ 147.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 229؛ مختصر اختلاف العلماء 4/ 369؛ مختصر القدوري ص 204؛ الهداية 10/ 106؛ العناية 10/ 106.
(3)
انظر: معالم السنن للحطابي-مع مختصر سنن أبي داود للمنذري- 5/ 273؛ بحر المذهب للروياني 13/ 144؛ روضة الطالبين ص 1770؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 153؛ رسوخ الأحبار ص 519.
(4)
انظر: المغني 12/ 514؛ الشرح الكبير 26/ 439، 440؛ الممتع 5/ 704؛ الفروع 10/ 102؛ الإنصاف 26/ 439؛ كشاف القناع 9/ 3025.
(5)
انظر: الاعتبار ص 519؛ رسوخ الأحبار ص 519؛ فتح الباري 10/ 60.
(6)
انظر: المدونة 6/ 2850؛ الاستذكار 7/ 16؛ بداية المجتهد 2/ 918؛ عقد الجواهر 2/ 405.
القول الثالث: أنه يكره الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(1)
، وقول سفيان الثوري، وإسحاق بن راهوية
(2)
.
القول الرابع: أنه يحرم الانتباذ فيما صح النهي عن الانتباذ فيه من الدباء والحنتم والمزفت والنقير وغيرها.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(3)
. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري
(4)
، وابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم
(5)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول-وهو جواز الشرب والانتباذ في الحنتم والدباء والمزفت والنقير-بالأحاديث التي سبقت في دليل القول
(1)
انظر: المغني 12/ 515؛ الشرح الكبير 26/ 439؛ الممتع 5/ 705؛ الفروع 10/ 102؛ الإنصاف 26/ 440.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 4/ 317؛ الاستذكار 7/ 17؛ الاعتبار للحازمي ص 519.
(3)
انظر: الفروع 10/ 102؛ الإنصاف 26/ 440.
(4)
هو: سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، الخزرجي، المدني، أُستصغر يوم أحد، وشهد ما بعدها من المشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وجابر، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وسبعين، وقيل غيرها. انظر: الاستيعاب 2/ 47؛ تذكرة الحفاظ 1/ 44؛ الإصابة 1/ 714.
(5)
انظر: معالم السنن للخطابي 5/ 273؛ المحلى 6/ 224.
بالنسخ؛ حيث إنها تدل على جواز ذلك، وعلى نسخ النهي الوارد عنها، كما سبق ذكره.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يكره الانتباذ في الدباء والمزفت فقط- بما يلي:
أولاً: عن علي رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت»
(1)
.
ثانيا: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت أن ينبذ فيه»
(2)
.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت»
(3)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتبذوا في
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1206، كتاب الأشربة، باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي، ح (5594) ومسلم في صحيحه 7/ 82، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء، ح (1994)(34).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 80، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء، ح (1992)(30).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1206، كتاب الأشربة، باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي، ح (5595) ومسلم في صحيحه -واللفظ له- 7/ 82، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء، ح (1995)(35).
الدباء ولا في المزفت» ثم يقول أبو هريرة: (واجتنبوا الحناتم)
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث فيها النهي عن الانتباذ في الدباء والمزفت.
قالوا: والنهي عن الانتباذ في الدباء والمزفت غير منسوخ، بل إن عموم الرخصة مخصوص بذلك
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
1 -
أن الرخصة في الانتباذ في الأوعية متأخرة عن النهي عن الانتباذ في الدباء والمزفت، وغير ذلك، وهي عامة فيشمل الدباء والمزفت وغيرهما مما كان محظور الانتباذ فيه، ويدل على هذا الأحاديث المتقدمة في دليل القول بالنسخ
(3)
.
2 -
أن النهي ورد عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما في أحاديث صحيحة صريحة، فإما أن يقال بالنهي عن الانتباذ في كل ذلك، ولا يقال بالنسخ في شيء منها، وإما أن يقال بالنسخ في كل ذلك، وتخصيص الدباء والمزفت بالنهي فقط تخصيص بلا مخصص.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 81، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء، ح (1993).
(2)
انظر: التمهيد 10/ 295، 14/ 131؛ فتح الباري 10/ 60.
(3)
انظر: الاعتبار ص 519.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو أنه يكره الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت-بما يلي:
أولاً: الأحاديث المذكورة في أدلة القول الثاني؛ حيث جاء فيها النهي عن الانتباذ في الدباء والمزفت.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: «أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير، والحنتم المزادة المجبوبة، ولكن اشرب في سقائك وأوكه»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت»
(2)
.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الدباء
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 81، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ، ح (1993)(33).
قال النووي في المنهاج 5/ 139، في قوله:(والحنتم المزادة المجبوبة) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا: والحنتم المزادة المجبوبة، وكذا نقلة القاضي عن جماهير رواة مسلم ومعظم النسخ، قال: ووقع في بعض النسخ: والحنتم والمزادة المجبوبة. قال: وهذا هو الصواب والأولى تغيير ووهم. قال: وكذا ذكره النسائي: وعن الحنتم وعن المزادة المجبوبة. وفي سنن أبي داود: والحنتم والدباء والمزادة المجبوبة).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 83، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، ح (1995)(38).
والحنتم والنقير والمزفت»
(1)
.
خامساً: عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم-أنهما شهدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير»
(2)
.
سادسًا: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن المزفت وهو المقير، وعن النقير وهي النخلة تنسح نسحاً وتنقر نقراً، وأمر أن ينتبذ في الأسقية»
(3)
.
سابعًا: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والمزفت والنقير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد شيئاً ينبذ له فيه نُبذ له في تورمن حجارة»
(4)
.
ثامنًا: عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الدباء والحنتم والجر»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 84، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ، ح (1996)(44).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 85، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ، ح (1997)(46).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 87، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ، ح (1997)(57).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 87، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ، ح (1998)(60).
(5)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 64: (رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله ثقات).
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث جاء فيها النهي عن الانتباذ والشرب في هذه الأوعية.
وأصحاب هذا القول حملوا النهي الوارد في هذه الأحاديث على الكراهة
(1)
.
واعترض على هذا الاستدلال: بأن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية ثابت في أحاديث صحيحة ثابتة، لكن الرخصة وردت في الانتباذ في جميع الأوعية بعد ذلك، ويدل على ذلك الأحاديث المذكورة في دليل القول بالنسخ. وعلى هذا فتكون الأحاديث الواردة في النهي منسوخة بالأحاديث التي فيها الرخصة، وبناءً عليه فلا يصح منها الاستدلال على الكراهة ولا على التحريم
(2)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع بما سبق من الأحاديث في دليل القول الثاني والثالث.
وهؤلاء حملوا النهي الوارد في تلك الأحاديث على التحريم
(3)
.
ويقال في الاعتراض على استدلالهم ما قيل في الاعتراض على استدلال القول الثاني.
(1)
انظر: إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 348.
(2)
انظر: الاعتبارص 519؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 5/ 147.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 518.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أنه يجوز الانتباذ والشرب من الدباء والحنتم والنقير والمزفت، وغيرها من الأوعية التي جاء النهي عن الانتباذ فيها، وأن النهي الوارد في ذلك قد نسخ بالرخصة التي وردت بعد ذلك، وأن الأحاديث الواردة في الرخصة فيها أحاديث ثابتة صحيحة، تصرح وتنص على النسخ
(1)
.
قال الحازمي: (دلت الأحاديث الثابتة على أن النهي كان مطلقاً عن الظروف كلها ودل بعضها أيضاً على السبب الذي لأجله رخص فيها وأنهم شكوا إليه الحاجة إليها، فرخص لهم في ظروف الأدم لا غير، ثم إنهم شكوا إليه أن ليس كل أحد يجد سقاءً فرخص لهم في الظروف كلها، فيكون جمعاً بين الأحاديث كلها سيماً بين حديث بريدة من الوجه الذي سقناه وبين حديث ابن عمر)
(2)
.
وقال النووي
(3)
: (ومختصر القول فيه أنه كان الانتباذ في هذه الأوعية
(1)
انظر: الاعتبار ص 519.
(2)
الاعتبار ص 521.
(3)
هو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن، الحزامي الحوراني، محي الدين، أبو زكريا النووي، الفقيه الحافظ، تلمذ على خالد النابلسي وأبي إسحاق المرادي وغيرهما، وكان حافظاً للمذهب وقواعده، وأصوله وأقوال الصحابة والتابعين واختلاف العلماء، ومن مؤلفاته (الروضة) و (المجموع) -ولم يكمله-وتوفي سنة ست وسبعين وستمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1470؛ طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 153.
منهياً عنه في أول الإسلام خوفاً من أن يصير مسكراً فيها ولا نعلم به لكثافتها، فتتلف ماليته، وربما شربه الإنسان ظانا أنه لم يصر مسكراً، فيصير شارباً للمسكر، وكان العهد قريباً بإباحة المسكر، فلما طال الزمان واشتهر تحريم الخمر وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط أن لا تشربوا مسكراً، وهذا صريح)
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية وقال: «كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً»
(2)
فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء، منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته فنهى عن الانتباذ في الأوعية، ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص في الانتباذ في الأوعية)
(3)
.
والخلاصة: أن النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية كان في أول الإسلام، وكان ذلك بعد تحريم الخمر، وكأن النهي عن ذلك كان سداً للذريعة، فلما تمكن في نفوسهم تحريم الخمر، ولم يكن كل الناس يجد سقاءً رخص لهم -رفعاً للحرج- في الانتباذ والشرب في الأوعية كلها،
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 7/ 80.
(2)
هو بمعنى حديث علي رضي الله عنه وقد سبق تخريجه ص 143.
(3)
مجموع الفتاوى 28/ 338.
وبين لهم أن الظروف لا تحل شيئاً ولا تحرمه وأن المحرم هو المسكر، فثبت بذلك نسخ النهي عن الانتباذ في تلك الأوعية، وتحقق قاعدة رفع الحرج عن الأمة، وتقرر تحريم المسكر على ما كان عليه من قبل، وتحصيل ذلك ورسوخه عندهم كان هو الغاية في البداية والنهاية
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: معالم السنن للخطابي 5/ 273؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 538؛ الاعتبار للحازمي 2/ 293؛ المنهاج للنووي 7/ 80؛ فتح الباري 10/ 60.
المطلب الثالث: الانتفاع بجلود الميتة
ذهب بعض أهل الحديث وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن الأحاديث الواردة في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ قد نسخت بما ورد في النهي عن ذلك
(1)
.
وتبين منه أن أحد أسباب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة هو القول بالنسخ؛ حيث إن بعض من قال بعدم الانتفاع بجلود الميتة مطلقاً رأى أن الأحاديث الواردة في جواز ذلك منسوخة بحديث عبد الله بن عكيم
(2)
، وغيره الدال على منع الانتفاع بها. كما أن اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في المسألة سبب آخر لاختلافهم فيها
(3)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: حديث عبد الله بن عكيم، وقد روي بطرق وألفاظ مختلفة
(1)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 175؛ المغني 1/ 91؛ إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 81؛ الشرح الكبير 1/ 162؛ مجموع الفتاوى 21/ 91؛ شرح الزركشي 1/ 56، 57.
(2)
هو: عبد الله بن عكيم الجهني، أبو معبد الكوفي، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وقد سمع كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، وروى: عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما رضي الله عنهم، وروى عنه: عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهلال بن وزان، وغيرهما، وتوفي في ولاية الحجاج. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 5/ 39؛ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/ 121؛ تهذيب التهذيب 5/ 287.
(3)
انظر: الاعتبار ص 175؛ المغني 1/ 91؛ مجموع الفتاوى 21/ 91؛ رسوخ الأحبار ص 188.
منها ما يلي:
أ- عن عبد الله بن عكيم قال: قُرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: «أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب
(1)
ولا عصب
(2)
(3)
.
ب- عن عبد الله بن عُكَيْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
(4)
.
(1)
الإهاب مفرد (أُهُب) وهو الجلد، وقيل: هو الجلد قبل الدبغ، أما بعده فلا يسمى إهاباً. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 83؛ المصباح المنير ص 28؛ القاموس المحيط ص 57.
(2)
العصب -بفتحتين-جمعه أعصاب، وهي أطناب المفاصل التي تلائم بينها وتشدها. انظر: لسان العرب 9/ 230؛ المصباح المنير ص 413؛ القاموس المحيط ص 107.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 616، كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، ح (4127)، والنسائي في سننه ص 655، كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح (4251)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 65؛ والإمام أحمد في المسند 31/ 81؛ وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 283؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 468؛ وابن حبان في صحيحه 4/ 95؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 23. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 616، وإرواء الغليل 1/ 76.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 616، كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، ح (4128)، و الإمام أحمد في المسند 31/ 80، وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 183، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 468، وابن حبان في صحيحه 4/ 93، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 249، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 23، والحازمي في الاعتبار ص 176. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 616.
ج- عن عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
(1)
.
د-عن عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
(2)
.
هـ- عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة، قال: وأنا غلام شاب، قبل وفاته بشهر أو شهرين:«أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 403، كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس جلود الميتة إذا دبغت، ح (1729)، والنسائي في سننه ص 655، كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح (4251)، وابن ماجة في سننه ص 602، كتاب اللباس، باب من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، ح (3613)، والإمام أحمد في المسند 31/ 75، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 468، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 247. قال الترمذي:(هذا حديث حسن). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 403.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 655، كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح (4250)، والإمام أحمد في المسند 31/ 81، وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 283، والطبراني في المعجم الصغير 1/ 222، وابن حزم في المحلى 1/ 130، وقال:(هذا خبر صحيح).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 31/ 80، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 249.
و- عن عبد الله بن عكيم قال: حدثنا مشيخة لنا من جهينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم: «أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء»
(1)
.
ز- عن عبد الله بن عكيم قال: جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في أرض جهنة: «إني كنت رخصت لكم في إهاب الميتة وعصبها فلا تنتفعوا بعصب ولا إهاب»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 284، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 468، وابن حبان في صحيحه-واللفظ له-4/ 95، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 40. قال الشيخ الألباني عن إسناده في إرواء الغليل 1/ 78:(وهذا إسناد صحيح موصول عندي رجالهم كلهم معروفون ثقات رجال الصحيح، وأشياخ جهينة من الصحابة فلا يضر الجهل بأسمائهم كما هو ظاهر).
(2)
أخرجه ابن عدي في الكامل 5/ 49، وأخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 29، ولفظه (عن عبد الله بن عكيم قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في أرض جهينة: (إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب) وقال: (تفرد به فضالة بن المفضل عن أبيه). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 47: (رواه ابن عدي والطبراني من حديث شبيب بن سعيد عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه-فذكر الحديث ثم قال: -إسناده ثقات، وتابعه فضالة بن المفضل عند الطبراني في الأوسط).
وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 121: (رواه الطراني في معجمه الوسط -فذكر لفظ الطبراني ثم قال-وفي سنده فضالة بن المفضل بن فضالة المصري قال أبو حاتم: لم يكن بأهل أن نكتب عنه العلم).
وكذلك رواه الطبراني في الأوسط 9/ 148، ولفظه: عن عبد الله بن عكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 223: (وفيه عبيدة بن معتب وقد أجمعوا على ضعفه).
ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتفع من الميتة بعصب أو إهاب»
(1)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 282؛ وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 251. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 94: (وروى الحافظ الضياء في المختارة من حديث أبي عبد الله محمد بن مسلم-فذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا، ثم قال: -ذكر ابن أبي حاتم عياض بن يزيد الكلبي عن عبد الرحمن بن نباتة، وعنه يحيى بن صالح الوحاظي ولم يذكر جرحاً).
وفي سند هذا الحديث عياض بن يزيد قال عنه الذهبي في الميزان 3/ 308: (مجهول).
(2)
أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 282؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 469، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 251، وابن عدي في الكامل 4/ 197، وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 122:(رواه ابن وهب في مسنده عن زمعة بن صالح عن أبي الزبير عن جابر -فذكره ثم قال: -وزمعة فيه مقال).
وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 48: (وعن جابر رواه ابن وهب في مسنده عن زمعة بن صالح عن أبي الزبير عن جابر، وزمعة ضعيف، ورواه أبو بكر الشافعي في فوائده من طرق أخرى، قال الشيخ الموفق إسناده حسن).
وقد ذكر الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 7/ 369، أن حديث جابر صحيح لغيره شاهد لحديث ابن عكيم.
وفي سند هذا الحديث زمعة ابن صالح الجنيدي اليماني نزيل مكة، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود والنسائي، وقال البخاري: يخالف في حديثه تركه ابن مهدي أخيراً. وقال أبو زرعة: لين واهي الحديث. وروي عن يحيى بن معين أنه وثقه، وروي عنه أنه ضعفه، وقال مرة: صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أن حديثه صالح لا بأس به. وكذلك ضعفه ابن حجر. انظر: الكامل 4/ 202؛ ميزان الإعتدال 2/ 81؛ المغني في الضعفاء 1/ 369؛ تهذيب التهذيب 3/ 300؛ التقريب 1/ 315.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث على النسخ:
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة بعضها يدل بعمومه على تحريم الميتة، وبعضها فيه النهي عن الانتفاع من الميتة بشيء، وبعضها فيه النهي عن الانتفاع من الميتة بإهاب أو عصب.
ثم إن بعض هذه الأدلة يصرح بأن هذا النهي كان قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر، أو قبل موته بشهر أو شهرين، كما أن بعضها يصرح بأن هذا النهي كان بعد الرخصة في الانتفاع من أهب الميتة.
فثبت من هذا كله أن النهي من الانتفاع بجلود الميتة آخر شيء، وأن الرخصة في الانتفاع بها كان قبل النهي عن الانتفاع بها، فنسخت به؛ لأنه إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن هذه الأحاديث متكلم فيها، ومما تكلم فيها:
(1)
انظر: الاعتبار ص 177؛ إعلام العالم بعد رسوخه ص 81؛ المغني 1/ 91؛ مجموع الفتاوى 21/ 91.
أ-حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه، وتكلم فيه بما يلي:
1 -
إنه حديث مرسل
(1)
، وذلك لأن عبد الله بن عكيم لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لا يعرف له سماع صحيح، ولا يعرف حامل الكتاب من هو
(2)
.
وأجيب عنه: بأن عبد الله بن عكيم سمع كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم كلفظه، ولذلك كتب إلى ملوك الأطراف وإلى غيرهم، فلزمتهم الحجة وحصل له البلاغ، ولو لم يكن كذلك لكان لهم عذراً في ترك الإجابة؛ لجهلهم بحامل الكتاب وعدالته
(3)
.
وعلى تقدير أن عبد الله بن عكيم لم يسمع الكتاب بنفسه فلا يضر ذلك؛ لأنه قد حدثه بذلك أشياخ جهينة من الصحابة فلا يضر الجهل بأسمائهم
(4)
.
(1)
الحديث المرسل هو: أن يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. علوم الحديث لابن الصلاح 71؛ تقريب النواوي وشرحه تدريب الراوي 1/ 195.
وقيل: الحديث المرسل هو: ماسقط من آخر إسناده من بعد التابعي. انظر: تيسير مصطلع الحديث ص 70.
(2)
أما أنه لا يعرف له سماع صحيح فهو ما قال البخاري في التاريخ الكبير 5/ 39، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 5/ 121. وأما القول بأنه مرسل فهو قول الخطابي والبيهقي والنووي وبعض الآخرين. انظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي 1/ 248؛ المغني 1/ 91؛ المجموع 1/ 272؛ نصب الراية 1/ 121؛ التلخيص الحبير 1/ 47، 48؛ نيل الأوطار 1/ 64، 65.
(3)
انظر: المغني 1/ 91.
(4)
انظر: إرواء الغليل 1/ 78.
2 -
إنه مضطرب سنداً ومتناً:
أما الاضطراب في السند: فهو أنه تارة قال: عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة عن مشيخة من جهينة، وتارة عمن قرأ الكتاب
(1)
.
ولذلك روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه ترك هذا الحديث أو توقف فيه، لما رأى تزلزل الرواة فيه واضطرابهم في إسناده، وقد أعله بذلك غير واحد من أهل العلم
(2)
.
وأجيب عنه: بأن عبد الله بن عكيم سمع الكتاب يقرأ، وكذلك سمعه من مشائخ جهينة يقولون ذلك، فأدى مرة ما شاهد وأخرى ما سمع، من غير أن يكون في الخبر انقطاع أو اضطراب
(3)
.
وأما الاضطراب في المتن: فهو أنه رواه الأكثر من غير قيد، ومنهم من رواه بقيد (شهر) أو (شهرين) أو (أربعين يوما) أو (ثلاثة أيام)
(4)
.
وأجيب عنه: بأن من شرط الاضطراب تقابل الروايات المضطربة قوة وكثرة، وهذا غير موجود هنا، على أن الاضطراب ليس واقعاً في كل
(1)
انظر: المجموع 1/ 272؛ نصب الراية 1/ 121؛ التلخيص الحبير 1/ 48.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 403؛ الاعتبار 1/ 264؛ نصب الراية 1/ 121؛ التلخيص الحبير 1/ 47.
(3)
انظر: صحيح ابن حبان 4/ 96؛ فتح الباري 9/ 576.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 23؛ المجموع 1/ 272؛ نصب الراية 1/ 121؛ التلخيص الحبير 1/ 48.
الطرق، بل طريق حديث ابن عكيم عن أشياخ جهينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم:«أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء» لا اضطراب فيها، مع صحة إسنادها
(1)
.
ب-وتكلم في حديث ابن عمر رضي الله عنه بأن في سنده راو مجهول
(2)
.
ج-وتكلم في حديث جابر رضي الله عنه: بأن تلك الرواية مختصرة، وقد جاءت مفصلة يوضح المراد من قوله: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء) وأن المراد منه النهي عن الانتفاع بشحومها
(3)
.
والدليل على ذلك: عن جابر رضي الله عنه يقول: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه ناس من أهل البحر فقالوا: يا رسول الله إن لنا سفينة نعمل فيها في البحر، وقد رثت واحتاجت إلى الدهن، وقد وجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة فأردنا أن نأخذ من شحمها فندهن به سفينتنا وهي عود بحري في البحر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تنتفعوا من الميتة بشيء» . أو قال: «لا ينتفع من الميتة بشيء»
(4)
.
ثانياً: ويعترض على الاستدلال منها على النسخ: بأن العمدة فيما
(1)
انظر: إرواء الغليل 1/ 78، 79؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة 7/ 368.
(2)
راجع تخريجه في ص 156.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 469.
(4)
أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 282، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 469.
ذكر من وجه الاستدلال شيئان:
الأول: تقيد بعض الروايات بأن هذا النهي كان قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر أو شهرين، مما يدل على أنه كان آخر الأمرين.
الثاني: أن بعض الروايات ورد فيها لفظ: (رخصت لكم) مما يدل على أن النهي متأخر عن الرخصة فتكون منسوخة به.
فيعترض على الأول: بأنه يجوز أن تكون أحاديث الإباحة قبل موته صلى الله عليه وسلم بجمعة أو يومين، أويوم؛ لأنها مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بجمعة أو دون جمعة
(1)
.
ويعترض على الثاني: بأن لفظة: (كنت رخصت لكم) ليست في أكثر الروايات، ثم هذه الرواية مختلف في صحتها، ثم يحتمل أن يكون رخص في ذلك ثم نهى ثم رخص
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ، وأنها تطهر بذلك، وأن الأحاديث الواردة في ذلك محكمة غير منسوخة.
(1)
انظر: التمهيد 10/ 375؛ المجموع 1/ 273؛ إعلام العالم بعد رسوخه ص 81.
(2)
انظر: إعلام العالم بعد رسوخه ص 81؛ إرواء الغليل 1/ 79.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، وقول للإمام مالك، اختاره ابن وهب
(2)
من أصحابه، وقول مرجوح في مذهب المالكية
(3)
.
وهو كذلك مذهب الشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد، وهو قوله الأخير كما ذكره غير واحد من أهل العلم
(5)
، واختاره جماعة عن الحنابلة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية
(6)
.
وهو كذلك قول ابن مسعود، وروي ذلك عن عمر، وعائشة،
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 473؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 160؛ مختصر القدوري ص 13؛ بدائع الصنائع 1/ 243؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 92؛ المختار وشرحه الاختيار 1/ 16؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 317.
(2)
هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ، روى عن مالك والليث، وغيرهما، وروى عنه: عبد الرحمن بن مهدي، وعلي بن المديني، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة. انظر: الكاشف للذهبي 1/ 99؛ التهذيب 6/ 66؛ التقريب 1/ 545.
(3)
انظر: المعونة 1/ 464؛ الاستذكار 4/ 303 و 304؛ بداية المجتهد 1/ 155؛ عقد الجواهر 1/ 26.
(4)
انظر: الأم 1/ 57؛ مختصر المزني ص 7؛ البيان للعمراني 1/ 73؛ الوجيز للغزالي وشرحه العزيز 1/ 81؛ المجموع 1/ 270؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 82.
(5)
انظر: سنن الترمذي ص 403؛ الاعتبار ص 178؛ مجموع الفتاوى 21/ 91؛ التلخيص الحبير 1/ 47.
(6)
انظر: المغني 1/ 89؛ مجموع الفتاوى 21/ 91؛ الفتاوى الكبرى 1/ 49؛ الفروع 1/ 110؛ الإنصاف 1/ 162.
وابن عمر-رضي الله عنهم
(1)
.
وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، والشعبي
(2)
، وسالم بن عبد الله
(3)
، وإبراهيم النخعي
(4)
، وقتادة، والضحاك
(5)
، وسعيد بن جبير
(6)
، ويحيى بن سعيد الأنصاري
(7)
،
(1)
انظر: تهذيب الآثار 2/ 285؛ التمهيد 10/ 380؛ المحلى 1/ 130؛ الاعتبار ص 174.
(2)
هو: عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي، الشعبي، أبو عمرو، ثقة فقيه، روى عن: عمران بن الحصين، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما، وروى عنه: أبو حنيفة، والأعمش، وغيرهما، وولي قضاء الكوفة وأدرك خمسمائة من الصحابة، وتوفي سنة أربع ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 294؛ تذكرة الحفاظ 1/ 79؛ تهذيب التهذيب 5/ 260.
(3)
هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر، العدوى العمري، المدني، الفقيه، الحجة، أحد من جمع بين العلم والعمل، روى عن أبيه، وأبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: عمرو بن دينار، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة ست ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 88؛ البداية والنهاية 9/ 209.
(4)
هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي، الفقيه، ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، روى عن مسروق، و علقمة، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، ومنصور، وغيرهما، وتوفي سنة ست وتسعين. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 74؛ تهذيب التهذيب 1/ 160.
(5)
هو: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، ثقة، فقيه، روى عن الأوزاعي، و الثوري، وغيرهما، وروى عنه أحمد، وإسحاق، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، وقيل بعدها. انظر: التهذيب 4/ 415؛ التقريب 1/ 444.
(6)
هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي مولاهم، الكوفي، الحافظ الإمام، أبو محمد، ثقة فقيه، روى عن: ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وغيرهما، وقتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 321؛ تهذيب التهذيب 4/ 10؛ التقريب 1/ 348.
(7)
هو: يحيى بن سعيد بن قيس، الأنصاري، أبو سعيد المدني، القاضي، حدث عن: أنس بن مالك، وعبد الله بن عامر، وغيرهما. وروى عنه: شعبة، ومالك، وغيرهما، وكان فقيهاً حافظاً ثبتاً، وتوفي سنة ثلاث وأربعين ومائة- وقيل غير ذلك-. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 137؛ تهذيب التهذيب 11/ 193.
والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك
(1)
، وإسحاق بن راهويه، والحسن بن حي
(2)
، وعبيد الله بن الحسن العنبري
(3)
، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري، وابن حزم
(4)
.
قال ابن عبد البر: (والذي عليه أكثر أهل العلم من التابعين ومن بعدهم من أئمة الفتوى أن جلد الميتة دباغه طهور كامل له، تجوز
(1)
هو: عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن، الحنظلي مولاهم، المروزي الحافظ، العلامة الفقيه الزاهد. روى عن: الأعمش، وحمييد الطويل، وغيرهما، وروى عنه: عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وغيرهما، وتوفي سنة ثمانين ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 274؛ البداية والنهاية 10/ 160.
(2)
هو: الحسن بن صالح بن حي، الفقيه، ثقة عابد، رومي بالتشيع، وروى عن: أبي إسحاق، وعمرو بن دينار، وغيرهما، وروى عنه: ابن المبارك، و وكيع، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة -وقيل غير ذلك-. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 19؛ تهذيب التهذيب 2/ 161.
(3)
هو: عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري، البصري القاضي، روى عن: خالد الحذاء، وداود ابن أبي هند، وغيرهما، وروى عنه: ابن مهدي، ومعاذ بن معاذ العنبري، وغيرهما، وكان فقيهاً صدوقاً، لكن تُكلم في معتقده ببدعة، وتوفي سنة ثمان وستين ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 402؛ تهذيب التهذيب 7/ 7.
(4)
انظر: تهذيب الآثار للطبري 2/ 281، و 285 - 287؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 160؛ التمهيد 10/ 378؛ الاستذكار 4/ 303؛ المحلى 1/ 128 - 131؛ الاعتبار ص 174.
بذلك الصلاة عليه، والوضوء، والاستقاء، والبيع، وسائر وجوه الانتفاع، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والكوفيين، وقول الأوزاعي في جماعة أهل الشام، وقول الشافعي وأصحابه، وابن المبارك وإسحاق، وهو قول عبيد الله بن الحسن والبصريين، وقول داود والطبري، وقول جمهور أهل المدينة، إلا أن مالكاً كان يرخص في الانتفاع فيها بعد الدباغ، ولا يرى الصلاة فيها، ويكره بيعها وشراءها، وعلى ذلك أصحابه إلا ابن وهب فإنه يذهب إلى أن دباغ الإهاب طهور كامل له في الصلاة والوضوء والبيع وكل شيء)
(1)
.
القول الثاني: أن جلود الميتة نجسة ولا يعمل الدباغ في تطهيرها، لكن تستعمل في اليابسات لا المائعات عدا الماء، وأنه يكره الصلاة عليه وبيعه.
وهو قول الإمام مالك المشهور والمذهب عند المالكية
(2)
.
القول الثالث: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، إلا أنه يجوز استعماله في اليابسات بعد الدباغ، وكذلك بيعه.
وهذا هو القول المشهور عن الإمام أحمد، وهو مذهب الحنابلة
(3)
.
(1)
الاستذكار 4/ 303.
(2)
انظر: المعونة 1/ 463؛ الاستذكار 4/ 303؛ الكافي ص 19؛ بداية المجتهد 1/ 156؛ عقد الجواهر 1/ 26؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 1/ 143؛ التاج والإكليل 1/ 143.
(3)
انظر: إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 81؛ المغني 1/ 89 - 92؛ الشرح الكبير 1/ 161 - 164؛ الممتع 1/ 144؛ مجموع الفتاوى 21/ 91؛ شرح الزركشي 1/ 56؛ الإنصاف 1/ 161 - 164.
وروي القول بنجاسة جلود الميتة- وإن دبغت- عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، و عمران بن حصين
(1)
، وعائشة رضي الله عنهم
(2)
.
القول الرابع: أنه يجوز الانتفاع بجلد الميتة وإن لم يدبغ.
وهو قول الزهري، وروي عن الليث مثله
(3)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول -وهو أنه يجوز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ- بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تُصدق على مولاة لميمونة
(4)
-رضي
(1)
هو: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد، أسلم عام خيبر، و غزى عدة غزوات، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن سيرين، وأبو رجاء العطاردي، وغيرهما، وبعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة ليفقه أهلها، وتوفي سنة اثنتين وخمسين-وقيل: ثلاث وخمسين-. انظر: الإصابة 2/ 1370؛ تهذيب التهذيب 8/ 106.
(2)
انظر: المغني 1/ 89؛ الشرح الكبير 1/ 161؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 41؛ نيل الأوطار 1/ 61.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 370؛ الاستذكار 4/ 301؛ فتح الباري 9/ 575؛ نيل الأوطار 1/ 63.
(4)
هي: ميمونة بنت الحارث بن حزن، العامرية الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها سنة سبع، وكان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن عباس، وعبد الرحمن بن سائب، وغيرهما، وتوفيت سنة إحدى وخمسين -وقيل غير ذلك-. انظر: الإصابة 4/ 2639؛ تهذيب التهذيب 12/ 402.
الله عنها- بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فقالوا: إنها ميتة، فقال:«إنما حرم أكلها»
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»
(2)
.
ثالثاً: عن سودة
(3)
زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها
(4)
، ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صارت شنًّا
(5)
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 298، كتاب الزكاة، باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ح (1492)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 3/ 163، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح (363)(100).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 165، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح (366)(105).
(3)
هي: سودة بنت زمعة بن قيس العامرية، القرشية، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة بمكة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الله، وغيرهما، وتوفيت سنة خمس وخمسين. انظر: التهذيب 12/ 645؛ التقريب 2/ 377.
(4)
المسك هو الجلد، والجمع مسوك. انظر: المصباح المنير ص 573.
(5)
الشن والشنة: القربة الخلق، والجلد البالي، والجمع شنان. انظر: مختار الصحاح ص 306؛ المصباح المنير ص 324.
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1405، كتاب الأيمان، باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذا فشرب طلاء، ح (6686).
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة-تعني الشاة- قال: «فلولا أخذتم مسكها؟» فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما قال الله عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]. فإنكم أن تدبغوه فتنتفعوا به» فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها)
(1)
.
خامساً: عن عائشة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دبغت»
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 156، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 4/ 222، وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 268، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 471، وابن حبان في صحيحه 4/ 98، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 253، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 28. وصحح إسناده ابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 268، والنووي في المجموع 1/ 271.
(2)
أخرجه أبو داود في سننة ص 615، كتاب اللباس، باب في أهب الميتة، ح (4124)، والنسائي في سننه ص 655، كتاب الفرع والعتيرة، باب الرخصة في الاستمتاع بجلود الميتة إذا دبغت، ح (4254)، وابن ماجة في سننه ص 602، كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت، ح (3612، ومالك في الموطأ ص 397، وأحمد في المسند 40/ 504، والدارمي في سننه 2/ 118.
قال النووي في المجموع 1/ 271: (حديث حسن رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي وآخرون بأسانيد حسنة).
وفي سنده أم محمد بن عبد الرحمن، قال المنذري في مختصر سنن أبي داود 6/ 65:(وأم محمد بن عبد الرحمن لم تنسب ولم تسم).
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في هذا الحديث؟ قال: فيه أمه، من أمه؟ كأنه أنكره من أجل أمه. انظر: التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 70؛ نصب الراية 1/ 117.
وقال ابن حجر في التقريب 2/ 672: (أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مقبولة من الثالثة).
والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 615.
سادساً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة فقال: «دباغها طهورها»
(1)
.
سابعاً: عن سلمة بن المحبق
(2)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أتى على بيت فإذا قربة معلقة فسأل الماء فقالوا: إنها ميتة، فقال: «دباغها
(1)
أحرجه النسائي في سننه ص 654، كتاب الفرع والعتيرة، باب جلود الميتة، ح (4244)، والإمام أحمد في المسند 22/ 119، والدار قطني في سننه 1/ 44. وأخرج نحوه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار 2/ 277، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 47، وابن حبان في صحيحه 4/ 105، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 257. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 654.
(2)
هو: سلمة بن المحبق، وقيل: سلمة بن ربيعة بن المحبق، أبو سنان الهذلي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه سنان، وقبيصة بن حريث، وغيرهما. انظر: تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 233، الكاشف 1/ 308؛ التهذيب 4/ 142؛ التقريب 1/ 379.
طهورها»
(1)
.
ثامناً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سقاء فقيل له: إنه ميتة. قال: «دباغه يذهب خبثه، أو رجسه، أو نجسه»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 615، كتاب اللباس، باب في أهب الميتة، ح (4125)، والنسائي في سننه ص 654، كتاب الفرع والعتيرة، باب جلود الميتة، ح (4245)، والإمام أحمد في المسند 25/ 249 و 33/ 254، وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 278، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 471، والدارقطني في سننه 1/ 45، والحاكم في المستدرك 4/ 157، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 26، وابن حزم في المحلى 1/ 129. و صححه الحاكم والذهبي وابن حجر والشيخ الألباني. انظر: المستدرك للحاكم مع التلخيص للذهبي 4/ 157، التلخيص الحبير 1/ 49؛ صحيح سنن أبي داود ص 615؛ صحيح سنن النسائي ص 654.
وفي سنده جون بن قتادة، وقد اختلف في صحبته، قال الإمام أحمد: جون لا يعرف. وقال علي بن المديني: جون معروف ولم يرو عنه غير الحسن إلا أنه معروف. انظر: نصب الراية 1/ 118؛ التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 69.
وقال النووي في المجموع 1/ 271: (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح إلا أن جوناً اختلفوا فيه، قال أحمد بن حنبل هو مجهول، وقال ابن المديني هو معروف).
وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 49: (إسناده صحيح، وقال أحمد: الجون لا أعرفه. وقد عرفه غيره عرفه علي بن المديني، وروى عنه الحسن وقتادة، وصحح ابن سعد وابن حزم وغير واحد أن له صحبة).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 65، والطبري في تهذيب الآثار 2/ 274، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 60، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 255، والحاكم في المستدرك 1/ 265، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 26. وصححه الحاكم والبيهقي والذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص 1/ 265؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 26.
تاسعاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»
(1)
.
عاشراً: عن زيد بن ثابت
(2)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دباغ جلود الميتة طهورها»
(3)
.
حادي عشر: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أخذتم إهابها!» قالوا: إنها ميتة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطهرها الماء والقرظ
(4)
(5)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 48، وقال (إسناد صحيح).
(2)
هو: زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو خارجة الأنصاري الخزرجى النجاري، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ القرآن وأتقنه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو هريرة، وأبو سعيد، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وأربعين، وقيل غير ذلك. انظر: الاستيعاب 1/ 551؛ تذكرة الحفاظ 1/ 30؛ الإصابة 1/ 641.
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 48.
(4)
القرظ: ورق السلم، أو ثمر السنط يدبغ به، وقال البعض: القرظ حب يخرج في غُلف كالعدس من شجر العضاه، يدبغ به الأديم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 43؛ المصباح المنير ص 499؛ القاموس المحيط ص 628.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 615، كتاب اللباس، باب في أهب الميتة، ح (4126)، والنسائي في سننه ص 655، كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح (4248)، والإمام أحمد في المسند 44/ 414، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 471.
وأخرجه الدار قطني في سننه 1/ 41؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 31، عن ابن عباس بلفظ «أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها». قال الشيخ الألباني:(وإسناد الدارقطني والبيهقي على شرط الشيخين فالحديث صحيح على هذا الشاهد). انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 194، ح (2163) وصحيح سنن النسائي ص 654.
ثاني عشر: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا نصيب مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية فنقسمها وكلها ميتة»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأدلة جاءت متواترة في طهور جلد الميتة بالدباغ، وأنه يجوز الانتفاع بها بعد ذلك، وهي ظاهرة المعنى، كما أن بعضها يدل على أن رخصة الانتفاع بها كانت بعد تحريم الميتة، وأنه حكم مخصوص من جملة تحريم الميتة
(2)
.
وقد قال بعض من قال بهذا القول في الجواب عن الاعتراض على هذه الأدلة بحديث عبد الله بن عكيم وأنه متأخر: بأنه ليس مخالفاً لهذه الأدلة، وأنه يمكن الجمع بينه وبين هذه الأدلة؛ وذلك بحمل حديث عبد
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 22/ 383، وابن جرير في تهذيب الآثار 2/ 278، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 473، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 223:(رواه أحمد ورجاله موثقون).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 471؛ التمهيد 10// 371؛ المجموع 1/ 271؛ فتح الباري 9/ 575.
الله بن عكيم على ما قبل الدباغ، وحمل هذه الأدلة على ما بعد الدباغ؛ وذلك لأنه قد قال غير واحد من أهل اللغة: أن الإهاب هو الجلد قبل دباغه، ولا يسمى إهاباً بعده
(1)
.
وعلى تقدير أن الإهاب يطلق على الجلد قبل الدباغ وبعده- كما قاله بعض أهل اللغة-
(2)
فكذلك لا معارضة بينه وبين أدلة جواز الانتفاع بها؛ وذلك لأن حديث عبد الله بن عكيم عام
(3)
يشمل الجلد قبل الدباغ وبعده، وأدلة جواز الانتفاع به خاصة
(4)
بما بعد الدباغ، فتكون
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 469؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 258؛ المحلى 1/ 130؛ المجموع 1/ 272؛ التلخيص الحبير 1/ 48؛ فتح الباري 9/ 576؛ إرواء الغليل 1/ 79.
(2)
انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 83؛ المصباح المنير ص 28؛ القاموس المحيط ص 57؛ تاج العروس 2/ 40.
(3)
العام من العموم، وهو لغة الشمول، وخلاف الخصوص. انظر: مختار الصحاح ص 40؛ المصباح المنير ص 430.
والعام اصطلاحاً: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد. إرشاد الفحول للشوكاني 1/ 285. وانظر: قواطع الأدلة للسمعاني 1/ 154؛ روضة الناظر 2/ 76؛ مفتاح الوصول للتلمساني ص 59؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 201.
(4)
الخاص من الخصوص، وهو لغة ضد العموم. انظر: مختار الصحاح ص 155؛ المصباح المنير ص 171.
والخاص اصطلاحاً: تمييز بعض الجملة بالحكم. قواطع الأدلة 1/ 174، وانظر: مفتاح الوصول ص 59.
وقيل: هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص. إرشاد الفحول 1/ 352.
هذه الأدلة مخصصة لعمومه، والخاص مقدم على العام
(1)
.
وأما ما ورد في بعض طرق حديث عبد الله بن عكيم (إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب)
(2)
.
فهو بهذا اللفظ مخالف للطرق السابقة ذكرها، وهي أقوى وأصح وأكثر. ولعله بهذا اللفظ من تعبير بعض الرواة.
ثم هو بهذا اللفظ ضعيف فلا تقوم به الحجة
(3)
.
دليل القول الثاني، والقول الثالث
ويستدل للقول الثاني والثالث - وهو أنه لا يطهر جلد الميتة بالدباغ- بما يلي:
أولاً: الأحاديث السابقة في أدلة القول بالنسخ.
(1)
انظر: المجموع 1/ 272؛ نيل الأوطار 1/ 61. وانظر مسألة بناء العام على الخاص والخلاف فيها في: قواطع الأدلة للسمعاني 1/ 198؛ إرشاد الفحول 1/ 399؛ أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي 1/ 253.
(2)
سبق تخريجه في ص 156.
(3)
لأنه تفرد به فضالة بن المفضل بن فضالة، قال عنه أبو حاتم: لم يكن أهلا أن يروى عنه. وقال العقيلي: في حديثه نظر. وقيل: كان يشرب المسكر ويلعب بالشطرنج في المسجد. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 349، المغني في الضعفاء 1/ 189؛ نصب الراية 1/ 121؛ إرواء الغليل 1/ 79.
ثانياً: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
(1)
.
وجه الاستدلال منه: أن الله عز وجل حرم الميتة تحريماً عاماً لم يخص منها شيئاً بعد شيء، فكان ذلك واقعاً على الجلد واللحم جميعاً؛ لأن الجلد جزء منها، فلم يطهر بالدباغ كاللحم
(2)
.
واعترض عليه: بأنه قد ثبت بالسنة الصحيحة تخصيص الجلد بشرط الدباغ من جملة تحريم الميتة، والسنة هي المبينة عن الله مراده من مجملات خطابه، وإذا كان كذلك فلا يصح الاستدلال من عموم الآية على تحريم الانتفاع من جلود الميتة بعد الدبغ
(3)
.
ثالثاً: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}
(4)
.
فإنه قد روي أن نعلي موسى عليه السلام كانتا من جلد حمار ميت
(5)
.
واعترض عليه: بأن نعليه لم تكن من جلد مدبوغ
(6)
.
(1)
سورة المائدة، الآية (3).
(2)
انظر: المغني 1/ 91.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 373؛ المجموع 1/ 271.
(4)
سورة طه، الآية (12).
(5)
انظر: التمهيد 10/ 375.
(6)
انظر: التمهيد 10/ 376؛ أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1257؛ فتح القدير للشوكاني 3/ 445.
وعلى تقدير كونهما من جلد مدبوغ فهي شرع من قبلنا، وقد جاء شرعنا بخلاف ذلك
(1)
.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دبغت»
(2)
.
خامساً: ولأن الجلد جزء من الميتة فلم يطهر بالدباغ كاللحم
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
1 -
أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه
(4)
.
2 -
أن الدباغ في اللحم لا يتأتى، وليس فيه مصلحة له بل يمحقه، بخلاف الجلد، فإنه ينظفه ويطيبه ويصلبه
(5)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال منها: هو أن بعض هذه الأدلة تدل على تحريم الميتة ونجاستها بالموت، وجلدها جزء منها فلم يطهر بالدباغ كاللحم،
(1)
راجع أدلة القول الأول.
(2)
سبق تخريجه في أدلة القول الأول، وقد ذكره ابن عبد البر حجة لمالك فيما ذهب إليه. انظر: الاستذكار 4/ 304. وانظر: المعونة للقاضي عبد الوهاب 1/ 465.
(3)
انظر: المغني 1/ 91.
(4)
انظر: المجموع 1/ 273.
(5)
انظر: المجموع 1/ 273.
كما أن بعضها تدل على ضرب من الإباحة، وليس المراد منها الطهارة كما سبق، فلم يبق إلا نوع من الانتفاع، وخص ذلك في اليابس؛ لأنه لا يصل إليه بشيء من النجاسة، بخلاف الرطب
(1)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أولاً: أن الآية المستدل بها عامة، لكن الأحاديث الصحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت المراد من التحريم المذكور في الآية الكريمة، حيث قال:(إنما حرم أكلها)
(2)
.
كما جاءت أحاديث كثيرة تدل على طهارة جلد الميتة بعد الدباغ
(3)
.
وبهذه الأحاديث يكون الجلد بشرط الدباغ مخصوصاً من جملة تحريم الميتة
(4)
.
ثانياً: أن حديث «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» وحديث «أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت» كل منهما عام، فالأول يدل على عدم جواز الانتفاع من الميتة بشيء، والثاني يدل على جواز الانتفاع بجلودها
(1)
انظر: المعونة 1464؛ الاستذكار 4/ 304؛ المغني 1/ 92؛ الشرح الكبير 1/ 164.
(2)
سبق تخريجه في ص 163.
(3)
انظر أدلة أصحاب القول الثاني في هذه المسألة.
(4)
انظر: التمهيد 10/ 8/ 374، المجموع 1/ 271.
إذا دبغت من غير تخصيص بشيء دون شيء، فإما أن يقال بعموم الأول، وإما بعموم الثاني، والقول بجواز الانتفاع بها في شيء دون شيء لا يدل عليه أي منهما، بل هما يخالفانه، وإذاً فهو دعوى لا يطابقه الدليل، وتفصيل لا دليل عليه
(1)
.
دليل القول الرابع:
ويستدل للقول الرابع -وهو أنه يجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ- بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: «هلا استمتعتم بإهابها؟) قالوا: إنها ميتة. قال: (إنما حرم أكلها»
(2)
.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه يقول: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بعنزة ميتة فقال: «ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها»
(3)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن ميمونة-رضي الله عنها أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به»
(4)
.
(1)
انظر: الاستذكار 4/ 304؛ نيل الأوطار 1/ 62.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1195، كتاب الذبائح والصيد، باب جلود الميتة، ح (5531).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1195، كتاب الذبائح والصيد، باب جلود الميتة، ح (5532).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 164، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح (364)(103).
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بشاة لمولاة لميمونة فقال: «ألا انتفعتم بإهابها»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث تدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة مطلقاً، دبغت أم لا؛ وذلك لأنه ليس فيها ذكر الدباغ، فهي مطلقة، فيجوز الانتفاع بها ولو لم تدبغ
(2)
.
واعترض عليه: بأنه قد صح التقييد بالدباغ من طرق أخرى، وليس في تقصير من قصر عن ذكر الدباغ في هذه الأحاديث حجة على من ذكره، لأن من أثبت شيئاً هو حجة على من سكت عنه، كما أن من حفظ شيئاً حجة على من لم يحفظه
(3)
.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الانتفاع بجلود الميتة بشرط الدباغ
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 164، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح (365)(104).
(2)
انظر: الاستذكار 4/ 301؛ مجموع الفتاوى 21/ 94؛ فتح الباري 9/ 575؛ نيل الأوطار 1/ 63.
(3)
انظر: الاستذكار 4/ 302؛ فتح الباري 9/ 575؛ نيل الأوطار 1/ 63.
(4)
راجع أدلة القول الأول في هذه المسألة.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والعلم عند الله تعالى- أن الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو أنه يجوز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ وأنها تطهر بذلك. وأن الآثار الواردة في ذلك ثابتة صحيحة في الجملة محكمة غير منسوخة، وأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وحديث عبد الله بن عكيم بالطرق الأتية:
الطريقة الأولى: أن الإهاب هو الجلد قبل الدباغ فيحمل النهي على ذلك، أي لا ينتفع به ما دام إهاباً، ويحمل الأحاديث التي تدل على جواز الانتفاع به على ما بعد الدباغ، فيستعمل الإهاب بعد الدباغ ويحظر قبل ذلك.
وهذا مبني على القول بالفرق بين الإهاب والجلد، أي أن الإهاب هو الجلد قبل الدباغ، أما إذا دبغ فلا يسمى إهاباً، وإنما يسمى جلداً، أوقربة، أو شناً، وغير ذلك.
والقول بالفرق بينهما هو قول أكثر أهل اللغة
(1)
.
وبهذه الطريقة جمع بين هذه الأخبار غير واحد من أهل العلم.
(2)
قال ابن حزم بعد ذكر حديث عبد الله بن عكيم: (هذا خبر
(1)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 83، المغرب للمطرزي 1/ 50؛ مختار الصحاح ص 27؛ لسان العرب 1/ 252؛ المصباح المنير ص 28؛ القاموس المحيط ص 57؛ تاج العروس للزبيدي 2/ 40.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 468؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 259؛ الاستذكار 4/ 304؛ المحلى 1/ 130؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 23؛ المجموع 1/ 272.
صحيح ولا يخالف ما قبله، بل هو حق، لا يحل أن ينتفع من الميتة بإهاب إلا حتى يدبغ كما جاء في الأحاديث الأخر، إذ ضم أقواله عليه السلام بعضها لبعض فرض ولا يحل ضرب بعضها ببعض، لأنها كلها حق من عند الله عز وجل
(1)
.
وقال الحازمي: (فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيحات، ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهاباً وبعد الدباغ يسمى جلداً ولا يسمىإهاباً، وهذا معروف عند أهل اللغة، فيكون جمعاً بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد عن الأخبار)
(2)
.
الطريق الثاني: أن حديث عبد الله بن عكيم عام في النهي، والأحاديث الدالة على التطهير بالدباغ مخصصة للنهي بما قبل الدباغ، مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ، والخاص يقدم على العام، فيبني العام على الخاص
(3)
.
الطريق الثالث: أنه كان يباح أول الأمر الانتفاع بأهب الميتة دبغت أم لا، ثم جاء النهي عن الانتفاع بها قبل الدباغ، وبقي الأمر في المدبوغ على الرخصة السابقة، فالمنسوخ هو الانتفاع بالإهاب قبل الدباغ، أما بعد الدباغ فلا يشمله النهي، ولم يحرم ذلك قط، فلا يكون منسوخاً. وإذن فلا تعارض بين حديث عبد الله بن عكيم والأحاديث الدالة على
(1)
المحلى 1/ 130.
(2)
الاعتبار ص 178.
(3)
انظر: المجموع 1/ 272؛ نيل الأوطار 1/ 61.
الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت؛ لأن حديث عبد الله بن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال المدبوغ، وإنما فيه النهي عن استعمال ما لم يدبغ، وهذا ما يبينه ويوافقه الأحاديث الدالة على الانتفاع بها بعد الدباغ.
وهذا ما يدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله؛ حيث قال: (وتحقيق الجواب أن يقال: حديث ابن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال المدبوع. وأما الرخصة المتقدمة فقد قيل: إنها كانت للمدبوغ وغيره، ولهذا ذهب طائفة -منهم الزهري وغيره- إلى جواز استعمال جلود الميتة قبل الدباغ تمسكا بقوله المطلق في حديث ميمونة، وقوله:«إنما حرم من الميتة أكلها»
(1)
فإن هذا اللفظ يدل على التحريم، ثم لم يتناول الجلد. وقد رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ماتت فلانة، تعني الشاة. فقال:«فلو لا أخذتم مسكها؟» فقالت: آخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما قال {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} وإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به» فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها
(2)
.
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطاً في الحل. وإذا كان كذلك فتكون الرخصة
(1)
سبق تخريجه في ص 163.
(2)
سبق تخريجه في ص 164.
لجهينة في هذا، والنسخ عن هذا، فإن الله تعالى ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين: الأنعام والنحل. ثم في سورتين مدنيتين: البقرة والمائدة، والمائدة من آخر القرآن نزولاً كما روي:(المائدة آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها)
(1)
وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها. وحرم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء مثل: أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وإذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استندت إليها الرخصة المطلقة: فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدباغ ثبت بالنصوص المتأخرة، وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط، بل بين أن دباغه طهوره وذكاته، وهذا يبين أن لا يباح بدون الدباغ)
(2)
.
والله أعلم.
(1)
روى الحاكم في المستدرك 2/ 340 عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة 0 رضي الله عنها فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص.
(2)
مجموع الفتاوى 21/ 93 - 95.
المطلب الرابع: سؤر الهرة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن سؤر
(1)
الهر طاهر، وأن الآثار الدالة على نجاسة الهرة منسوخة بالآثار الدالة على طهارتها. ويظهر هذا من صنيع ابن شاهين في كتابه " ناسخ الحديث ومنسوخه"
(2)
، كما أشار إلى ذلك ابن الجوزي في كتابه " إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه"
(3)
.
وذكر الكاساني
(4)
: أن ماروي من الحديث - أي في طهارة الهرة-يحتمل أنه كان قبل تحريم السباع، ثم نسخ على مذهب الطحاوي
(5)
.
(1)
السؤر جمعه أسآر، وهو في اللغة بقية الشيء، وبقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض. انظر: المغرب 1/ 378؛ مختار الصحاح ص 247؛ المصباح المنير ص 299؛ القاموس المحيط ص 364.
والسؤر في اصطلاح الفقهاء: بقية طعام الحيوان وشرابه. شرح الزركشي 1/ 46.
(2)
ص 236.
(3)
ص 73.
(4)
هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، علاء الدين السمرقندي، تفقه على علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، ومن مؤلفاته:"بدائع الصنائع " وتوفي في رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة. انظر: الجواهر المضية للقرشي 4/ 25؛ تاج التراجم لابن قطلوبغا ص 327.
(5)
بدائع الصنائع 1/ 205.
وتبين منه أنه ليس للقول بالنسخ في هذه المسألة أي أثر في اختلاف الفقهاء فيها، وإنما سبب الاختلاف فيها هو اختلاف الأدلة الواردة فيها، كما سيظهر ذلك من عرض الأقوال والأدلة.
ويستدل لمن قال بنسخ ما ورد في نجاسة الهرة بما يلي:
أولاً: عن كبشة بنت كعب بن مالك
(1)
، -وكانت تحت ابن أبي قتادة-أن أبا قتادة
(2)
دخل، فسكبت له وضوءاً فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات
(3)
(4)
.
(1)
هي: كبشة بنت كعب بن مالك الأنصارية، زوج عبد الله بن أبي قتادة، قال ابن حبان: لها صحبة، وتبعه الزبير بن بكار، والمستغفري، وروى عن أبي قتادة، وروى عنها حميدة أم يحيى. انظر: الكاشف للذهبي 3/ 434؛ الإصابة 4/ 2619؛ التهذيب 12/ 397.
(2)
أبو قتادة: المشهور أن اسمه: الحارث بن ربعي بن بلدمة، السلمي، المدني، أبو قتادة، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس بن مالك، وجابر، وغيرهما، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وتوفي سنة أربع وخمسين على المشهور. انظر: الاستيعاب 4/ 161؛ تهذيب التهذيب 12/ 183.
(3)
أي أنها كخدم البيت، ومن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة الأمور. انظر: معالم السنن للخطابي 1/ 60.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 17، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، ح (75) والترمذي في سننه ص 33، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، ح (92)، والنسائي في سننه ص 19، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، ح (68)، وابن ماجة في سننه ص 82، كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، ح (367) والإمام مالك في الموطأ ص 50، والشافعي في الأم 1/ 47، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 36، وأحمد في المسند 37/ 272، والدارمي في سننه 1/ 204، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 19، والدارقطني في سننه 1/ 70، والحاكم في المستدرك 1/ 263، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 372، وفي الصغرى 1/ 140، وفي معرفة السنن والآثار 2/ 67، والبغوي في شرح السنة 2/ 69.
والحديث هذا صححه الترمذي في سننه ص 33، وقال:(وهو أحسن شيء في هذا الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك).
كما صححه الحاكم في المستدرك 1/ 263، وقال:(وهذا الحديث مما صححه مالك واحتج به في الموطأ ومع ذلك فإن له شاهداً بإسناد صحيح).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 59: (ورواه الدارقطني وقال: إسناد حسن ورواته ثقات معروفون).
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 41: (وصححه البخاري والترمذي والعقيلي، والدارقطني، وساق له في الإفراد طريقاً غير طريق إسحاق).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 1/ 35: (وصححه البخاري والعقيلي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني).
وكذلك صححه البغوي في شرح السنة 2/ 70، والبيهقي في معرفة السنن 2/ 67، والذهبي في تلخيص المستدرك 1/ 263، والشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 33.
وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 137: (قال الشيخ تقي الدين في الإمام: رواه ابن خزيمة وابن منده في صحيحيهما ولكن ابن مندة قال: وحميدة وخالتها كبشة لا يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث ومحلهما محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه، قال الشيخ: وإذا لم يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث فلعل طريق من صححه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتثبت).
وتعقب ابن حجر على قول ابن مندة فقال في التلخيص 1/ 42: (فأما قوله: إنهما لا يعرف لهما إلا هذا الحديث فمتعقب بأن لحميدة حديثاً آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة، وأما حالهما فحميدة روى عنها مع إسحاق ابنه يحيى وهو ثقة عند ابن معين، وأما كبشة فقيل: إنها صحابية، فإذا ثبت فلا يضر الجهل بحالها والله أعلم).
وفي رواية عنها قالت: دخل علي أبو قتادة فسأل الوضوء، فمرت به الهرة فأصغى الإناء إليها، فجعلتُ أنظر كأني أنكر ما يصنع، فقال: يا ابنة أخي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إنها ليست بنجسة؛ إنها من الطوافين والطوافات»
(1)
.
وأعل: بأن قوله في الحديث: (إنها ليست بنجس) من قول أبي قتادة؛ لما جاء في رواية لهذا الحديث وفيه: عن أبي قتادة أنها ليست بنجس، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي من الطوافين عليكم) فلم يضفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 373.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 19؛ شرح مشكل الآثار 1/ 248؛ التمهيد 2/ 88؛ التلخيص الحبير 1/ 43.
كما أن قوله: (ليست بنجس) يحتمل أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماستها الثياب لا في طهارة سؤرها
(1)
.
وأجيب عنه: بأنه اعتلال عليل لا معنى له؛ وذلك لأن الحديث من طريق الإمام مالك-وهو أصح الناس له نقلاً- فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس)
(2)
.
ويؤكد كون ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من قول أبي قتادة الروايات والأدلة الآتية، كما أن فيها دلالة على أن المراد بذلك طهارة سؤرها، لا في كونها في البيوت ومماستها الثياب
(3)
.
ثانياً: عن عبد الله بن أبي قتادة
(4)
عن أبيه أنه كان يتوضأ فمرت به هرة فأصغى إليها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليست بنجسة»
(5)
.
وفي رواية عنه قال: كان أبو قتادة يصغي الإناء للهر فيشرب ثم يتوضأ به، فقيل له في ذلك، فقال:«ما صنعت إلا ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع»
(6)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 19؛ شرح مشكل الآثار 1/ 248.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 88؛ التلخيص الحبير 1/ 43.
(3)
انظر: معرفة السنن والآثار 2/ 71.
(4)
هو: عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري السلمي، أبو إبراهيم، ثقة، روى عن أبيه وجابر، وروى عنه يحيى ابن أبي كثير، وزيد بن أسلم، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 2/ 106؛ التهذيب 5/ 318.
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 373، ونحوه الشافعي في الأم 1/ 47.
(6)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 373.
ثالثاً: عن أبي أسيد
(1)
، قال: إن أبا قتادة كان يصغي الإناء للهرة فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها، فقيل له: أتوضأ بفضلها؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم»
(2)
.
رابعاً: عن أم داود بن صالح
(3)
أن مولاتها أرسلتها بهريسة
(4)
إلى عائشة رضي الله عنها فوجدتها تصلي، فأشارت إليَّ أن ضعيها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت أكلت من حيث أكلت الهرة، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها»
(5)
.
(1)
هو: أبو أسيد -واسمه يزيد- البراد، روى عن معاذ بن عبد الله، وروى عنه ابنه أسيد وابن أبي ذئب. انظر: الكاشف 2/ 271؛ التهذيب 12/ 12؛ التقريب 1/ 103.
(2)
قال ابن حجر في التلخيص 1/ 41 - بعد ذكر الدارقطني-: (وساق له في الإفراد طريقاً غير طريق أبي إسحاق فروى من طريق الدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد عن أبيه أن أبا قتادة كان يصغي الإناء للهرة -) فذكره.
(3)
هي أم داود بن صالح بن دينار التمار المدني، قال الطحاوي: هي غير معروفة عند أهل العلم. انظر: شرح مشكل الآثار 1/ 245.
(4)
الهرس الدق، والهريسة: هي الحب المدقوق بالمهراس إذا طبخ. انظر: مختار الصحاح ص 611؛ المصباح المنير ص 637.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 17، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، ح (76) والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 245، والدارقطني في سننه 1/ 70 وقال:(رفعه الدراوردي عن داود بن صالح، ورواه عنه هشام بن عروة ووقفه على عائشة). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 374، ومعرفة السنن 2/ 69.
وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 42: (ورواه الدارقطني وقال: تفرد برفعه داود بن صالح، وكذا قال الطبراني والبزار وقال: لا يثبت).
وفي سنده أم داود، قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 245:(وليست من أهل الرواية التي يؤخذ مثل هذا عنها ولا هي معروفة عند أهل العلم).
خامساً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد قد أصابت منه الهرة قبل ذلك»
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس هو كبعض أهل البيت»
(2)
-يعني الهر-.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 82، كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، ح (368) والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 19، وشرح مشكل الآثار 1/ 244، والدارقطني في سننه 1/ 69، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 238، ولفظه (كنت أغتسل) بدل (أتوضأ).
وفي سنده حارثة بن أبي الرجال، وقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والطحاوي وابن حجر. وقال البخاري منكر الحديث. انظر: شرح مشكل الآثار 1/ 244؛ التهذيب 2/ 153، التقريب 1/ 180.
(2)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 54، والدارقطني في سننه 1/ 69، والحاكم في المستدرك 1/ 264، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 374، وصحح سنده الحاكم في المستدرك 1/ 264، والذهبي في التلخيص 1/ 263.
وفي سنده سليمان بن مسافع الحجبي، قال عنه الذهبي في الميزان 2/ 223:(سليمان بن مسافع الحجبي عن منصور بن صفية لا يعرف وأتى بخبر منكر). ورده ابن حجر في لسان الميزان 3/ 410 فقال: (قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وليس فيه نكارة كما زعم المصنف، أخرجه من رواية محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي المذكور وهو شيخ ابن أبي حاتم).
ملحوظة: صحح الذهبي سند هذا الحديث في التلخيص -كما سبق ذكره-مع أن فيه سليمان بن مسافع.
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 60: (وسليمان بن مسافع لا يعرف، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتابه، وقد ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء وروى هذا الحديث في ترجمته وقال: لا يتابع عليه. وروى ابن خزيمة هذا الحديث في صحيحه من طريقه).
وفي رواية أخرى عنها-رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرّ به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب ثم يتوضأ بفضلها»
(1)
.
سادساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 237، والدارقطني في سننه 1/ 67. وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري، قال عنه الدارقطني في سننه 1/ 67، وأبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني 1/ 66: (ضعيف). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 42: متفق على ضعفه.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 19، عن طريق أخرى بلفظ:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء للهر ويتوضأ بفضله). وفي سنده صالح بن حيان، وهو منكر الحديث قاله أبو الطيب محمد آبادي في التعليق المغني 1/ 67.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 221 بلفظ: (عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به الهر فيصغي له الإناء فيشرب منه فيتوضأ بفضله) قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجاله موثقون).
الإناء للسنور فيلغ فيه ثم يتوضأ من فضله»
(1)
.
سابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض بالمدينة يقال لها بطحان، فقال:«يا أنس اسكب لي وضوءاً» فسكبت له فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته أقبل إلى الإناء وقد أتى هر فولغ في الإناء فوقف له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة حتى شرب الهر، ثم توضأ، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الهر، فقال:«يا أنس إن الهر من متاع البيت لن يقذر شيئاً ولن ينجسه»
(2)
.
ويستدل من هذه الأدلة: بأنها تدل على طهارة الهرة وسؤرها
(3)
، ولعل بعض من قال بطهارة سؤرها يرى أن هذه الأدلة متأخرة وناسخة للأحاديث الواردة في غسل الإناء من ولوغ الهرة
(4)
.
ويعترض عليه: بأنه ليس في هذه الأدلة ما يدل على أنها متأخرة عن
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 239.
(2)
أخرجه الطبراني في معجمه الصغير 1/ 227. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 221: (رواه الطبراني في الصغير وفيه عمر بن حفص المكي وثقه ابن حبان، قال الذهبي: لا يدرى من هو). وانظر قول الذهبي فيه في الميزان 3/ 190.
(3)
انظر: الأم 1/ 44؛ الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 177؛ العزيز 1/ 35؛ المغني 1/ 70؛ الممتع 1/ 277.
(4)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 236 - 239؛ ناسخ الحديث لابن الجوزي ص 73.
الأدلة التي تدل على غسل الإناء من ولوغ الهرة حتى تكون ناسخة لها
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم سؤرالهرة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن سؤر الهرة مكروه، ويستحب أن لا يتوضأ به، فإن توضأ به أجزأه.
وهو قول أبي حنيفة، ومحمد
(2)
، ومذهب الحنفية
(3)
.
والقول بالكراهة رواية عن أبي هريرة، وابن عمر-رضي الله عنهما
(4)
.
وهو كذلك قول يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي ليلى
(5)
،
(1)
قال ابن الجوزي في ناسخ الحديث ص 73: (قلت: ومن أين لهم تاريخ أن هذا بعد هذا).
(2)
هو: محمد بن حسن بن فرقد الشيباني، صحب أبا حنيفة وعنه أخذ الفقه، ثم عن أبي يوسف، وروى عن مالك، وغيره. وروى عنه: أبو عبيد، وابن معين، وغيرهما. لينه النسائي وغيره من قبل حفظه. وهو الذي نشر علم أبي حنيفة بتصانيفه، وولي قضاء الرقة للرشيد ثم قضاء الري وبها توفي سنة تسع وثمانين ومائة. انظر: تاج التراجم ص 237؛ الجواهر المضية 3/ 122؛ الفوائد البهية ص 163؛ ميزان الاعتدال 4/ 433.
(3)
انظر: الأصل لمحمد 1/ 27؛ شرح معاني الآثار 1/ 21؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 119؛ مختصر القدوري ص 14؛ البدائع 1/ 204؛ المحيط البرهاني 1/ 138؛ اللباب للمنبجي 1/ 57؛ الاختيار 1/ 19.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 20؛ التمهيد 1/ 305؛ الاستذكار 1/ 205؛ المغني 1/ 70.
(5)
هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، أبو عبد الرحمن، قاضي الكوفة، صدوق سيئ الحفظ، روى عن: نافع، وأبي الزبير، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، ووكيع، وغيرهما، وكان فقيهاً، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 5/ 59؛ تهذيب التهذيب 9/ 260؛ تقريب التهذيب 2/ 105؛ شذرات الذهب 1/ 224.
ورواية عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسفيان الثوري
(1)
.
القول الثاني: أن سؤر الهر طاهر.
وهو قول أبي يوسف
(2)
من الحنفية
(3)
، ومذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
وبه قال من الصحابة: العباس بن عبد المطلب
(7)
، وعلى ابن أبي
(1)
انظر: الأوسط 1/ 299؛ التمهيد 2/ 89؛ الاستذكار 1/ 205؛ المغني 1/ 70.
(2)
هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد، أبو يوسف القاضي، وروى عن: الأعمش، وهمام بن عروة، و غيرهما. وروى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهما، وتفقه بأبي حنيفة ولازمه سبع عشرة سنة، ووثقه ابن معين، وتولى القضاء للمهدي ثم لابنيه، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 141؛ البداية والنهاية 1/ 162؛ شذرات الذهب 1/ 298.
(3)
انظر قوله في: شرح معاني الآثار 1/ 21؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 119؛ بدائع الصنائع 1/ 204.
(4)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 177، التمهيد 2/ 90؛ الاستذكار 1/ 203؛ عقد الجواهر 1/ 10.
(5)
انظر: الأم 1/ 44؛ مختصر المزني ص 17؛ التعليقة للقاضي حسين 1/ 478؛ العزيز 1/ 35؛ الروضة 1/ 143.
(6)
انظر: المغني 1/ 70؛ الممتع شرح المقنع 1/ 277؛ الشرح الكبير 2/ 358؛ الفروع 1/ 333؛ شرح الزركشي 1/ 48؛ الإنصاف 2/ 358؛ زاد المستقنع ص 9.
(7)
هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الفضل، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، وأسلم عام الفتح، وقيل: قبل ذلك. وهاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عبد الله، وعامر بن سعيد، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل بعد ذلك. انظر: البداية والنهاية 7/ 143 - 144؛ الإصابة 2/ 1000.
طالب، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة
(1)
، وأبو قتادة، والحسن
(2)
، والحسين
(3)
، وعمار بن ياسر
(4)
، وأبو أمامة
(5)
رضي الله عنهم. وهو كذلك رواية عن ابن عمر، وأبي هريرة-رضي الله عنهما
(6)
.
وهو
(1)
أم سلمة- أم المؤمنين-هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله، المخزومية القرشية، مشهورة بكنيتها ومعروفة باسمها، هاجرت الهجرتين، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع-وقيل: ثلاث-وتوفيت سنة اثنين وستين. انظر: الاستيعاب 4/ 421؛ الإصابة 4/ 2702؛ تقريب التهذيب 2/ 662.
(2)
هو: الحسن بن علي ابن أبي طالب الهاشمي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسناً، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن سيرين، وعكرمة، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وأربعين، وقيل غير ذلك. انظر: البداية والنهاية 8/ 30؛ التهذيب 2/ 270.
(3)
هو: الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه: الشعبي، وعكرمة، وغيرهما، وقتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. انظر: الإصابة 1/ 378؛ تهذيب التهذيب 2/ 313.
(4)
هو: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، أسلم قديماً وشهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وغيرهما، وقتل في وقعة صفين سنة سبع وثلاثين. انظر: البداية والنهاية 7/ 276؛ التهذيب 7/ 345؛ التقريب 1/ 708.
(5)
هو: صدى بن عجلان بن وهب، ويقال: ابن عمرو- أبو أمامة الباهلي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروىعنه: مكحول الشامي، ورجاء بن حيوة، وغيرهما، قال ابن عيينة:(هو آخر من مات من الصحابة بالشام) وتوفي سنة ست وثمانين -وقيل غير ذلك-. انظر: الإصابة 1/ 187؛ تهذيب التهذيب 4/ 384.
(6)
انظر أقوالهم في: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 37؛ الأوسط 1/ 301؛ التمهيد 2/ 89؛ الاستذكار 1/ 204.
كذلك قول علقمة
(1)
، وإبراهيم النخعي، ..............................
وعكرمة
(2)
، وعطاء بن يسار
(3)
، والليث ابن سعد، والأوزاعي، وأبي عبيد، وأبي ثور، و الحسن
(1)
هو: علقمة بن قيس بن عبد الله، أبو شبل النخعي، الكوفي، الفقيه، روى عن عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى
عنه: إبراهيم النخعي، والشعبي، وغيرهما، وكان من أنبل أصحاب ابن مسعود، وتوفي سنة اثنتين وستين- وقيل غير ذلك-. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 48؛ البداية والنهاية 8/ 191؛ تهذيب التهذيب 7/ 237.
(2)
هو: عكرمة البربري، أبو عبد الله المدني، مولي ابن عباس، ثقة ثبت، تُكلم فيه لرأيه لا لحفظه، فاتهم برأي الخوارج، وروى عن علي، وابن عباس، وغيرهما، وروى عنه إبراهيم النخعي والشعبي، وغيرهما، وتوفي سنة خمس ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 13؛ تهذيب التهذيب 7/ 228.
(3)
هو: عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني، مولى ميمونة رضي الله عنها روى عن: أبي هريرة وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه: حبيب ابن أبي ثابت، وعمرو بن دينار وغيرهما، وكان ثقة فاضلاً، وتوفي سنة أربع وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 77؛ التهذيب 7/ 188؛ التقريب 1/ 676.
بن صالح، وإسحاق بن راهوية، وابن المنذر. وهو رواية عن الحسن البصري، وسفيان الثوري
(1)
.
القول الثالث: أن سؤر الهر نجس، ويغسل الإناء منه سبعاً كما يغسل من الكلب.
وهو رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقول مجاهد، وطاوس
(2)
.
القول الرابع: أنه يراق ما ولغ فيه الهر، ويغسل الإناء منه مرة أو مرتين.
وهو قول عطاء ابن أبي رباح، ورواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسعيد بن الميسب، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، ويحيى بن سعيد الأنصاري
(3)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول- وهو أن سؤر الهرة مكروه- بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة
(1)
انظر أقوالهم في: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 37؛ الأوسط 1/ 301 - 303؛ شرح معاني الآثار 1/ 19؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 119؛ التمهيد 2/ 90؛ الاستذكار 1/ 203، 205.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 300؛ شرح معاني الآثار 1/ 20؛ سنن الدارقطني 1/ 69؛ التمهيد 2/ 89؛ الاستذكار 1/ 204؛ المغني 1/ 71.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 300؛ شرح مشكل الآثار 1/ 242؛ شرح معاني الآثار 1/ 21؛ التمهيد 2/ 89؛ الاستذكار 1/ 205.
غسل مرة»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين» -قرة شك-
(2)
.
فهذا الحديث يدل على نجاسة سؤر الهرة، كدلالته على نجاسة سؤر الكلب، وإن كان يخالفه فيما يطهر منهما، فجُعل في الكلب سبعاً، وفي الهر مرة
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-أن ذكر الهر في هذه الروايات مرفوعاً مدرج من بعض الرواة،
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 33، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب، ح (91)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 242، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 236، والدارقطني في سننه 1/ 68، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 375. وصححه الترمذي وقال:(وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ولم يذكر فيه (وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة) وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 33.
(2)
هو: قرة بن خالد السدوسي أبو خالد البصري، ثقة ضابط، وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 2/ 344؛ التقريب 2/ 29.
والحديث أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 19 - وصحح سنده وأنه متصل- وفي شرح مشكل الآثار 1/ 240، والدارقطني في سننه 1/ 64 - وقال: هذا صحيح-والحاكم في المستدرك 1/ 264 - وصححه، ووافقه الذهبي في التلخيص-والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 374.
(3)
انظر: شرح مشكل الآثار 1/ 242.
والصحيح وقفه، يدل على ذلك ويوضحه رواية نصر بن علي
(1)
الجهضمي، فإن فيها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب» ثم ذكر أبو هريرة الهر لا أدري قال: مرة أو مرتين.
(2)
.
قال نصر بن علي: وجدته في كتاب أبي
(3)
في موضع آخر عن قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الكلب مرفوعاً وفي الهر موقوفاً
(4)
.
(1)
هو: نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، روى عن: أبيه، ووكيع، وغيرهما، وروى عنه: البخاري ومسلم، وغيرهما، ووثقه غير واحد، وتوفي سنة خمسين ومائتين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 3/ 177؛ التهذيب 7/ 384؛ التقريب 2/ 243.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 265؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 374، وفي معرفة السنن 2/ 70.
(3)
هو: علي بن نصر بن على بن صهبان الجهضمي الأزدي، روى عن: هشام الدستوائي، وخالد بن قيس، و غيرهما، وروى عنه: ابنه نصر، ووكيع، وغيرهما، وكان ثقة، وتوفي سنة سبع وثمانين ومائة. انظر: التهذيب 7/ 329؛ التقريب 1/ 704.
(4)
انظر: المستدرك للحاكم 1/ 265؛ والسنن الكبرى للبيهقي 1/ 374، ومعرفة السنن له 2/ 70.
وقد ورد ذكر الهر موقوفاً على أبي هريرة في طريق كل من:
- المعتمر، وحماد بن زيد، ومعمر، كلهم عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة به.
- هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
- نصر بن علي عن أبيه، ومسلم بن إبراهيم كلاهما عن قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
وقد قال بوقفه كل من الدارقطني والحاكم والبيهقي، وصححه فقال:(والصحيح أنه في ولوغ الكلب مرفوع وفي ولوغ الهر موقوف). انظر: شرح معاني الآثار 1/ 20؛ سنن الدارقطني 1/ 68؛ المستدرك للحاكم 1/ 265؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 375؛ معرفة السنن 2/ 70؛ التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 62.
وأجيب عنه: بأن الحديث رواه غير واحد عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً، فهم زادوا الرفع، وزيادة الثقة مقبولة
(1)
.
وأن وقف من وقفه على أبي هريرة لا يضر؛ لأن محمد بن سيرين كان يفعل هذا في حديث أبي هريرة يوقفها عليه، فإذا سئل عنها رفعها، وكان يقول: كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار 1/ 243؛ الجوهر النقي لابن التركماني 1/ 376. وذكر الهرة مرفوعاً ورد في طريق كل من:
- معتمر بن سليمان وعبد الوارث كلاهما عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
- أبي عاصم الضحاك عن قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
- جعفر بن واقد عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.
قال ابن التركماني: هؤلاء أيضا جماعة وقد زادوا الرفع، وزيادة الثقة مقبولة على ما عرف.
انظر: سنن الترمذي ص 33؛ شرح معاني الآثار 1/ 19؛ المستدرك 1/ 246؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 375؛ الجوهر النقي 1/ 376.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 20؛ شرح مشكل الآثار 1/ 243؛ الجوهر النقي 1/ 376.
ب- أن الروايات عن أبي هريرة رضي الله عنه في ولوغ الهر مختلف فيها، فروي عنه أنه يغسل الإناء من ولوغ الهر مرة، وروي عنه: مرة أو مرتين، وروي عنه: سبع مرات، وروي عنه الرخصة في ذلك.
وبعض هذه الروايات مرفوعة، وبعضها موقوفة، وبعضها رويت مرة مرفوعة ومرة موقوفة، ولو كان عنده رواية صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختلف قوله فيها
(1)
.
وإذاً فالواجب الرجوع إلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة وسؤرها وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهر سبع»
(2)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 301؛ سنن الدارقطني 1/ 67؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 377؛ معرفة السنن والآثار 2/ 71.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 38؛ والإمام أحمد في المسند 15/ 442، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 253، والدارقطني في سننه 1/ 63 - وقال تفرد به عيسى بن المسيب عن أبي زرعة وهو صالح الحديث- وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 292، وقال:(هذا حديث صحيح ولم يخرجاه وعيسى المسيب تفرد به عن أبي زرعة إلا أنه صدوق ولم يجرح قط) وتعقبه الذهبي فقال في التلخيص: (قال أبو داود: ضعيف -يعني عيسى بن الميسيب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي). وقال الذهبي في الميزان 3/ 323: (عيسى بن المسيب البجلي الكوفي عن الشعبي وغيره، قال يحيى والنسائي والدارقطني: ضعيف، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ليس بالقوي، وتكلم فيه ابن حبان وغيره، وقال أبو داود: هو قاضي الكوفة ضعيف).
وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأخبار ويخطئ في الآثار ولا يعلمه حتى خرج عن حد الاحتجاج به.
وقال ابن حجر: وجازف الحاكم في مستدركه وأخرج حديثه فصححه وقال: لم يجرح قط.
انظر: تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة لابن حجر ص 358.
وجه الدلالة منه: أن الحديث يدل على أن الهر من السباع، ولحم كل ذي ناب من السباع منهي عنه ومحرم، وكان معقولاً أن ما ماس من الماء شيئاً كان لذلك الماء حكم ذلك الشيء في طهارته وفي نجاسته، فثبت بذلك كراهة سؤر الهر؛ لأنه ماس لحماً حراماً
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: بأنه حديث غير صحيح، فلا يصح التعلق به ولا الاستدلال منه
(2)
.
ثانياً: أن هذا الحديث فيه أن الهر سبع، وليس فيه ذكر حكم سؤره هل هو طاهر أو مكروه أو حرام، وقد ورد أحاديث تدل على أن سؤر السباع طاهر، ومنها ما يلي:
1 -
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها،
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 21؛ شرح مشكل الآثار 1/ 256.
(2)
انظر: تحقيق أحاديث التعليق لابن الجوزي-مع التنقيح لابن عبد الهادي- 1/ 61 - 62. وانظر تخريج الحديث وكلام أهل العلم على أحد رواته وهو عيسى بن المسيب.
فقال: «لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور»
(1)
.
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها، فقال:«لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور»
(2)
.
3 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: «نعم وبما أفضلت السباع كلها»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 104، كتاب الطهارة، باب الحياض، ح (519). وفي سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال ابن عدي: له أحاديث حسان وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وهو ممن يكتب حديثه. انظر: التنقيح 1/ 162.
وقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو داود والنسائي وأبو زرعة والطحاوي وابن سعد وغيرهم حتى قال ابن الجوزي: ضعيف بإجماعهم. وقال البخاري: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 1/ 120؛ تحقيق أحاديث التعليق لابن الجوزي 1/ 49؛ ميزان الاعتدال 2/ 564؛ زوائد ابن ماجة للبوصيري ص 107؛ التهذيب 6/ 162 - 163.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 31. وفي سنده كذلك عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد سبق الكلام عليه في الرواية السابقة.
(3)
أخرجه الإمام الشافعي في الأم 1/ 46، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 378، ومعرفة السنن والآثار 2/ 65، والبغوي في شرح السنة 2/ 71.
وفي سنده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال الإمام االشافعي: كان قدرياً، وكان ثقة في الحديث. وقال ابن عقدة: نظرت في حديث إبراهيم بن أبي يحيى وليس هو بمنكر الحديث. وقال ابن عدي: هو كما قال ابن عقدة، قد نظرت أنا الكثير في حديثه فلم أجد له حديثاً منكراً إلا عن شيوخ يحتملون، وقد حدث عنه الثوري وابن جريج والكبار. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 58 - 59.
وقال الإمام مالك: لم يكن ثقة في الحديث ولا في دينه. وكذبه ابن القطان وابن معين وعلي بن المديني. وقال الإمام أحمد: تركوا حديثه قدري معتزلي، يروي أحاديث ليس لها أصل. وقال البخاري: تركه ابن المبارك والناس. وقال النسائي والدارقطني وابن حجر: متروك. وكذلك ضعفه الدارقطني. انظر: سنن الدارقطني 1/ 62؛ السنن الكبرى 1/ 378؛ تحقيق أحاديث التعليق 1/ 50، ميزان الاعتدال 1/ 57 - 58؛ التقريب 1/ 65.
كما أن في سنده حصين والد داود بن الحصين الأموي مولاهم، روى عن جابر وأبي رافع، قال البخاري: حديثه ليس بالقائم، وكذا قال أبو حاتم وزاد: ضعيف. وتركه ابن حبان. وقال الذهبي: هو متماسك، وقال ابن حجر: لين الحديث. انظر: التنقيح 1/ 50؛ ميزان الاعتدال 1/ 555؛ تهذيب التهذيب 2/ 354؛ التقريب 1/ 224.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: «وبما أفضلت السباع»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 62، والبيهقي في معرفة السنن 2/ 66. وفي سنده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد بن حنبل والعجلي، وقال يحيى بن معين: صالح يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: هو صالح في باب الرواية ويكتب حديثه مع ضعفه. وقال ابن معين مرة: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث. وكذلك قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني وابن حجر: ضعيف. وقال الدارقطني مرة: متروك. انظر: سنن الدارقطني 1/ 62؛ التنقيح 1/ 50؛ ميزان الاعتدال 1/ 19؛ التهذيب 1/ 95؛ التقريب 1/ 52.
كما أن في سنده الحصين والد داود بن الحصين، وقد سبق الكلام عليه في الرواية السابقة.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني بما سبق في أدلة القول بالنسخ
ووجه الاستدلال منها: هو أنها تدل على طهارة الهرة وسؤرها
(1)
.
دليل القول الثالث:
ويستدل للقول الثالث- وهو أن سؤر الهر نجس ويغسل الإناء منه سبعاً كما يغسل من الكلب- بما يلي:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب»
(2)
.
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في السنور إذا ولغ في الإناء، قال:
(1)
انظر: الأم 1/ 44؛ الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 177؛ العزيز 1/ 35؛ المغني 1/ 70؛ الممتع 1/ 277.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 68، وقال:(لا يثبت هذا مرفوعاً، والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه) ثم ساقه من طريق المحاملي موقوفاً على أبي هريرة.
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 376: (وروي عن روح بن الفرج عن ابن عفير مرفوعاً وليس بشيء).
(يغسل سبع مرات)
(1)
.
3 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب)
(2)
.
فهذه الأدلة تدل على أن سؤر الهر نجس، ويغسل الإناء منه كما يغسل من الكلب
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
1 -
أنه لا يصح شيئ من ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
2 -
أما الموقوف على أبي هريرة فهو من فتياه، وقد اختلف عنه في ذلك -كما سبق ذلك- ثم هو قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو حجة عليه في ذلك، وهو: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهر من متاع البيت»
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 37، والدارقطني في سننه 1/ 68، وقال: (موقوف ولا يثبت وليث سيء
الحفظ).
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 20، والدارقطني في سننه 1/ 68، وقال:(هذا موقوف ولا يثبت عن أبي هريرة، ويحيى بن أيوب في بعض أحاديثه اضطراب) وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 376، وقال:(هكذا رواه ابن عفير موقوفاً، وروي عن روح بن الفرج عن ابن عفير مرفوعاً وليس بشيء).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 20؛ التمهيد 2/ 89؛ المغني 1/ 71.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 20؛ سنن الدارقطني 1/ 68؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 376.
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 377. وفي سنده حفص بن عمر العدني، قال أبو حاتم: لين الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه غير محفوظ، وأخاف أن يكون ضعيفاً كما ذكره النسائي. انظر: الجوهر النقي 1/ 377.
كما أن في سنده الحكم بن أبان، قال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 377:(الحكم هذا وثقه جماعة وقال ابن المبارك: ارم به).
على أنه محجوج بما تقدم من حديث أبي قتادة وعائشة وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
دليل القول الرابع:
ويستدل للقول الرابع- وهو أنه يراق ما ولغ فيه الهر ويغسل الإناء منه مرة أو مرتين- بما يلي:
أولاً: حديث أبي هريرة مرفوعاً، وفيه:«وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة»
(2)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين» - قرة شك-
(3)
.
ووجه الدلالة من الروايتين ظاهر؛ حيث أن فيهما ذكر الغسل من ولوغ الهرة مرة أو مرتين.
وقد سبق الكلام على هذين الروايتين، وما يعترض به على وجه
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 376. وانظر الأحاديث في طهارة سؤر الهر في أدلة القول بالنسخ.
(2)
سبق تخريجه في ص 183.
(3)
سبق تخريجه في ص 184.
الاستدلال منهما، في دليل القول بالنسخ.
الراجح:
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أن الراجح هو القول الثاني، وهو طهارة سؤر الهرة، وذلك: لكثرة ما استدلوا به، وقوته، وصراحته، وصحته بالنسبة إلى أدلة الأقوال الأخرى.
أما أدلة الأقوال الأخرى التي تدل على غسل الإناء من ولوغ الهر فهي كلها تدور على أبي هريرة رضي الله عنه، وقد اختلف عليه في ذلك، فروي عنه مرفوعاً، وروي عنه موقوفاً، وروي عنه: مرة، وروي عنه: مرة أو مرتين. وروي عنه: سبع مرات. وروي عنه: كما يغسل من الكلب. وري عنه الرخصة في ذلك
(1)
.
وأصح هذه الرويات مرفوعاً رواية الغسل مرة، ثم هي مختلف فيها بين الرفع والوقف، وبين إدراجها من بعض الرواة، ووهمهم في ذلك، ولو كان عنده في ذلك رواية صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختلف قوله فيها
(2)
.
ثم هذه الروايات عن أبي هريرة رضي الله عنه في غسل الإناء من ولوغ الهرة معارضة بما روى من الرخصة في ذلك، فقد روي عنه حديثان مرفوعان
(1)
انظر: الأوسط 1/ 301؛ سنن الدارقطني 1/ 67، السنن الكبرى 1/ 377؛ معرفة السنن والآثار 2/ 71.
(2)
انظر: معرفة السنن والآثار 2/ 71.
يدلان على عدم غسل الإناء من ولوغ الهرة، وهما:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهر من متاع البيت»
(1)
.
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها، فقال:«لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور»
(2)
.
والحديثان في إسنادهما كلام على بعض الرواة
(3)
إلا أنه إذا انضم إليهما حديث جابر وأبي سعيد الخدري في سؤر السباع أخذت قوة، وفي معناه حديث أبي قتادة، وقد صححه غير واحد من الأئمة
(4)
.
وبهذا كله يتبين ترجيح القول بطهارة سؤر الهر.
ثانياً: أن ادعاء نسخ ما ورد في نجاسة الهر وسؤره، غير صحيح لوجهين:
الأول: أنه قد سبق أن الروايات في ذلك مختلف في صحتها وضعفها، ورفعها ووقفها على أبي هريرة رضي الله عنه، والنسخ إنما يكون لحكم شرعي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 189.
(2)
سبق تخريجه في ص 187.
(3)
راجع تخريجهما في ص 187، 189.
(4)
انظر: معرفة السنن والآثار 2/ 66.
الثاني: أنه على تقدير صحة ورفع ما ورد في نجاسة الهر وسؤره، فليس هناك دليل يدل على أن ما ورد في طهارته متأخرة عن ذلك، كما أنه لا دليل على عكس ذلك، حتى يكون أحد الدليلين ناسخا للآخر، لذلك لا يصح القول في المسألة بالنسخ.
والله أعلم.
المبحث الثاني:
آداب قضاء الحاجة، والوضوء، ونواقضه
وفيه أحد عشر مطلباً:
المطلب الأول: البول قائماً.
المطلب الثاني: استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
المطلب الثالث: الوضوء بفضل وضوء المرأة.
المطلب الرابع: الوضوء بنبيذ التمر.
المطلب الخامس: الوضوء لكل صلاة.
المطلب السادس: ذكر الله تعالى بغير وضوء.
المطلب السابع: الوضوء للجنب إذا أراد النوم.
المطلب الثامن: الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع.
المطلب التاسع: الوضوء مما مست النار.
المطلب العاشر: الوضوء من مس الذكر.
المطلب الحادي عشر: الوضوء من مس المرأة.
المطلب الأول: البول قائماً
ذهب أبو عوانة
(1)
إلى أن البول قائماً منسوخ من فعله صلى الله عليه وسلم
(2)
؛ لذلك يكون البول قائماً من غير عذر مكروهاً.
وقد ظهر منه أنه ليس للقول بالنسخ في هذه المسألة أثر بارز في اختلاف الفقهاء فيها، إلا أنه أحد أسباب الاختلاف عند من قال به؛ حيث أنه رأى ما ورد في البول قائماً منسوخاً بما ورد في النهي عن ذلك
(3)
.
ومع هذا فإن أصل سبب الاختلاف في المسألة هو اختلاف الأحاديث الواردة فيها، كما سيتبين ذلك من خلال دراسة الأدلة في
(1)
هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم النسابوري الإسفراييني، أبو عوانة، الإمام الحافظ، صاحب المسند الصحيح الذي خرجه على صحيح مسلم، وسمع من يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهما، وحدث عنه: أحمد بن علي الرازي، وأبو أحمد بن عدي، وغيرهما، وتوفي سنة ست عشرة وثلاث مائة. انظر: سير أعلام النبلاء 14/ 417؛ البداية والنهاية 11/ 154.
(2)
انظر: مسند أبي عوانة 1/ 169، فتح الباري 1/ 394، عمدة القاري 3/ 135. وقال ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 165، 167 - بعد ذكر حديث البول قائماً، ثم ذكر ما يدل على النهي عن ذلك-: (وهذا الحديث يوجب نسخ الأول- ثم ذكر اختلاف الصحابة والتابعين في البول قائماً، ثم قال: - وإذا كان الأمر هكذا في اختلاف الصحابة والتابعين على هذا الحديث وجب التوقف عن الإطلاق عن نسخه الأول؛ لأن هؤلاء أعرف بما نسخ من الحديث وما لم ينسخ ممن تأخر).
(3)
انظر: مسند أبي عوانة 1/ 169؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 165.
المسألة.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة- رضي الله عنها قالت: «من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً»
(1)
.
وفي رواية عنها رضي الله عنها قالت: «ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً منذ أنُزل عليه القرآن»
(2)
.
ثانياً: عن شريح
(3)
، قال سمعت عائشة-رضي الله عنها-تقسم بالله
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 14، أبواب الطهارة، باب النهي عن البول قائماً، ح (12)، والنسائي في سننه ص 13، كتاب الطهارة، باب البول في البيت جالساً، ح (29)، وابن ماجة في سننه ص 72، كتاب الطهارة، باب في البول قاعداً، ح (307)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 116، والإمام أحمد في المسند 41/ 495، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 267، وابن حبان في صحيحه 4/ 278.
والحديث قال عنه الترمذي في سننه ص 14: (حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح). وقال النووي في المجموع 2/ 98: (وإسناده جيد وهو حديث حسن). وصححه الشيخ الألباني وقال: (وسنده صحيح على شرط مسلم) انظر: إرواء الغليل 1/ 95؛ صحيح سنن الترمذي ص 14.
(2)
أخرجه أبو عوانة في مسنده 1/ 169، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 267، والحاكم في المستدرك 1/ 290، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 165. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي في التلخيص 1/ 290.
(3)
هو: شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي والمذحجي، أبو المقدام الكوفي، ثقة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وروى عن: عمر، وعلي، وغيرهما، وروى عنه: ابنه المقدام، والشعبي، وغيرهما، وقتل سنة ثمان وسبعين. انظر: تاريخ خليفة بن خياط ص 277؛ تهذيب التهذيب 4/ 301؛ التقريب 1/ 416.
«مارأى أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً منذ أُنزل عليه الفرقان»
(1)
.
ثالثاً: عبد الرحمن بن حسنة
(2)
رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كهيئة الدرقة
(3)
فوضعها ثم جلس خلفها فبال إليها، فقال بعض القوم: انظروا يبول كما تبول المرأة، فسمعه فقال:«أوما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل، كانوا إذا أصابهم شيء من البول قرضوه بالمقاريض فنهاهم صاحبهم فعذب في قبره»
(4)
.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 295، و البيهقي في السنن الكبرى 1/ 165. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي في التلخيص فقال: (على شرطهما).
(2)
هو: عبد الرحمن بن حسنة - قيل: هو أخو شرحبيل بن حسنة- صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه زيد بن وهب. انظر: الكاشف 2/ 144؛ التهذيب 6/ 149؛ التقريب 1/ 566.
(3)
الدرقة: الحجفة، والترس إذا كان من جلود ليس فيها خشب ولا عقب يقال له حجفة ودرقة. انظر: مختار الصحاح ص 109، 178؛ القاموس المحيط ص 794.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 9، كتاب الطهارة، باب الإستبراء من البول، ح (22)، والنسائي في سننه -واللفظ له- ص 14، كتاب الطهارة، باب البول إلى السترة يستتر بها، ح (30)، وابن ماجة في سننه ص 79، كتاب الطهارة، باب التشديد في البول، ح (346)، والحاكم في المستدرك 1/ 294، و البيهقي في السنن الكبرى 1/ 164. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 392: (وهو
حديث صحيح صححه الدارقطني وغيره).
رابعاً: عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من الجفاء
(1)
: أن يبول الرجل وهو قائم، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده»
(2)
.
(1)
الجفاء يطلق على: البعد، وترك الصلة والبر، وغلظ الطبع. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 274؛ مختار الصحاح ص 93؛ مجمع بحار الأنوار 1/ 365.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 86: (رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح) وقال العيني في عمدة القاري 3/ 135: (رواه البزار بسند صحيح).
وهو في مجمع البحرين في زوائد المعجمين 2/ 181، عن طريق سعيد بن عبيد الله الثقفي ثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ثلاث من الجفاء: مسح الرجل التراب عن وجهه قبل فراغه من صلاته، ونفخه في الصلاة التراب لموضع وجهه، وأن يبول وهو قائم). وقال البخاري في التاريخ الكبير 3/ 495 - في ترجمة سعيد بن عبيد الله الثقفي-: (وقال نصر بن علي: ثنا سعيد بن عبيد الله عن ابن بريدة عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من الجفاء: بول قائم، ومسح جبهته قبل أن ينصرف من الصلاة، والنفخ في الصلاة، وأن يسمع المنادي ثم لا يتشهد مثل ما يتشهد) ثم قال في 3/ 496: (وقال سعيد بن محمد: ثنا عبد الواحد بن واصل، قال: ثنا سعيد بن عبيد الله قال: نا ابن بريدة قال: حدثنا أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التشهد، وقال نصر: ثنا عبد الأعلى عن الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود نحوه).
وذكر الترمذي في سننه ص 14، أن حديث بريدة غير محفوظ. وتعقبه العيني في عمدة القاري 3/ 135 فقال:(فيه نظر؛ لأن البزار أخرجه بسند صحيح).
وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 197: بعد قوله أن البخاري في التاريخ الكبير-فذكره ثم قال-: (ورواه البزار بتمامه نحوه من طريق عبد الله بن داود، ثنا سعيد بن عبيد الله به) ثم ذكر قول الهيثمي ثم قال في 1/ 98: (ورواه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى من طريق البزار ثم قال: (لا أعلم في هذا الحديث أكثر من قول الترمذي: حديث بريدة غير محفوظ. وقال أبو بكر البزار: لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد ابن عبيد الله ولم يقل في سعيد شيئاً، وسعيد هذا بصري ثقة مشهور ذكره أبو محمد ابن أبي حاتم).
ثم قال الشيخ الألباني: (قلت: وقول الترمذي الذي نقله عبد الحق ذكره قبيل أثر ابن مسعود هذا ولم يسق الحديث، وهو في ذلك تبع لشيخه البخاري، فقد قال البيهقي بعد أن علق الحديث من هذا الوجه: (قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون فيه) قلت: وجه الاضطراب المذكور: أن قتادة والجريري روياه عن ابن بريدة عن ابن مسعود موقوفاً كما تقدم، وخالفهما سعيد بن عبيد الله الثقفي فقال: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً كما رأيت. ولولا أن الثقفي هذا فيه بعض الضعف لحكمنا على حديثه بالصحة كما فعل العيني في شرح صحيح البخاري (3/ 135) ولكن قال الدارقطني فيه: (ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها وغيره يوقفها) ولذلك أورده الذهبي في الميزان. وقال الحافظ فيه: (صدوق ربما وهم).
قلت: فمثله لا يحتمل ما خالف فيه غيره ممن هو أوثق منه وأكثر كما هو الحال في هذا الحديث، والله أعلم) انتهي كلامه.
وسعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية الثقفي هذا، وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو زرعة، وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ليس بالقوي، يحدث بأحاديث يسندها وغيره بوقفها. وقال ابن حجر: صدوق ربما وهم. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 150؛ التهذيب 4/ 54؛ التقريب 1/ 359.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من الجفاء: يبول الرجل قائماً، أو يكثر مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو يسمع المؤذن يؤذن فلا يقول مثل ما يقول، أو يصلي بسبيل من يقطع صلاته»
(1)
.
سادساً: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: (أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن عدي في الكامل 8/ 437، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 406. قال البيهقي:(قال أبو أحمد: أحاديثه- أي هارون بن هارون- عن الأعرج وغيره مما لا يتابعه الثقات عليه، قال أبو أحمد: ثنا الجنيدي، ثنا البخاري قال: هارون بن هارون لا يتابع في حديثه، يروي عن الأعرج، يقال: هو أخو محرز التيمي المدني. قال الشيخ: وقد روي من أوجه كلها ضعيفة).
وهارون بن هارون بن عبد الله قال عنه البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به. وقال الذهبي: ضعفوه. انظر: الكامل لابن عدي 8/ 436؛ ميزان الاعتدال 4/ 287؛ المغني في الضعفاء 2/ 471.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 405، وقال:(وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود، ورواه سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جبير بن حية عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه إلا أنه قال: والنفخ في الصلاة بدل المرور، ولم يقل أربع. قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون فيه).
وذكره الترمذي في سننه ص 14 معلقاً فقال: (وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم).
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 116: (حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن المسيب بن رافع قال:
قال عبد الله: من الجفاء أن يبول قائماً). وفي سنده عاصم بن بهدلة، قال عنه ابن حجر في التقريب 1/ 456:(صدوق له أوهام، حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون) كما أن في سنده المسيب بن رافع الأسدي وهو ثقة إلا أنه لم يلق ابن مسعود ولم يسمع منه، فروايته عنه مرسلة، قاله أبو حاتم وأبو زرعة. انظر: التهذيب 10/ 140؛ التقريب 2/ 184.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 409، عن وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة قال:(كان يقال: أربع من الجفاء: أن تمسح جبهتك قبل أن تنصرف، أو تبول قائماً، أو تسمع المنادى ثم لا تجيبه، أو تنفخ في سجودك).
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط 1/ 336، عن بريدة عن ابن مسعود أنه كان يقول:(أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً). وقال الحاكم في المستدرك 1/ 290: (وعن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائئم).
وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 97، -بعد ذكر رواية البيهقي-:(قلت: فهو عنه صحيح موقوفاً. وقد رواه كهمس عن ابن بريدة قال: (كان يقال: من الجفاء أن ينفخ الرجل في صلاته) رواه ابن أبي شيبة 2/ 41/ 2) بسند صحيح عنه).
سابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول قائماً»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 72، كتاب الطهارة، باب في البول قاعداً، ح (309)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 164، وابن عدي في الكامل 7/ 94، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 166.
وفي سنده عدي بن الفضل، قال البيهقي والبوصيري وغير واحد: ضعيف. وقال ابن معين وأبو حاتم: متروك الحديث. وقال يحيى: لا يكتب حديثه. انظر: السنن الكبرى 1/ 165؛ ميزان الاعتدال 3/ 62؛ المغني في الضعفاء 2/ 54؛ زوائد ابن ماجة ص 74.
ثامناً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يبول الرجل قائماً»
(1)
.
تاسعاً: عن عمر رضي الله عنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: «يا عمر لا تبل قائماً» فما بلت قائماً بعد
(2)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 165. وفي سنده السري بن سهل- السري بن عاصم بن سهل- وهاه ابن عدي وقال: يسرق الحديث. وكذبه ابن خراش. انظر: الكامل 4/ 540؛ ميزان الاعتدال 2/ 117.
(2)
ذكره الترمذي في سننه ص 14، معلقاً، أبواب الطهارة، باب النهي عن البول قائماً. وأخرجه ابن ماجة في سننه-واللفظ له- ص 72، كتاب الطهارة، باب في البول قاعداً، ح (308)، والحاكم في المستدرك 1/ 295، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 165.
وفي سنده عبد الكريم بن أبي المخارق، قال عنه الترمذي في سننه ص 14:(وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم ابن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني، وتكلم فيه).
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 165: (وعبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف).
وقال أيوب ويحيى: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل: قد ضربت على حديثه، هو شبه المتروك. وقال النسائي والدارقطني: متروك. وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في ضعفه إلا أن منهم من يقبله في غير الأحكام خاصة ولا يحتج به وكان مؤدب كُتّاب، حسن السمت. وقال الذهبي: وقد أخرج له البخاري تعليقاً، و مسلم متابعة، وهذا يدل على أنه ليس بمطرح. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 646.
وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 74: (عبد الكريم مجمع على تضعيفه، وقد تفرد بهذا الخبر).
عاشراً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبل قائماً»
(1)
.
حادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه
(2)
(3)
.
وجه الاستدلال منها على النسخ
ويستدل منها على النسخ: بأن من قال بذلك لعله رأى أن أحاديث
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه 4/ 272، وقال:(أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر).
(2)
المأبض: باطن الركبة. انظر: القاموس المحيط ص 573.
(3)
أخرجه الخطابي في معالم السنن 1/ 29، والحاكم في المستدرك 1/ 291، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 164. قال الحاكم:(هذا حديث صحيح تفرد به حماد بن غسان، ورواته كلهم ثقات) وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال: (حماد ضعفه الدارقطني) -ونحوه قوله في الميزان 1/ 599، والمغني في الضعفاء 1/ 288 - .
وقال ابن حجر في الفتح 1/ 392: (لو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي).
النهي عن البول قائماً متأخرة؛ وذلك لأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام البول قائماً، وكان ذلك مما لا تستنكره العرب قبل الإسلام، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان من عادته البول عن قعود، وثبت عنه التشديد في التنزه والإستبراء من البول، وروي عنه مع ذلك ما يدل على النهي عن البول قائماً وأنه من الجفاء.
فقد يُستدل من هذا كله على أن البول قائماً من فعله صلى الله عليه وسلم منسوخ بما روي عنه من النهي
عن ذلك، وبما ثبت من عادته في البول قاعداً
(1)
.
واعترض عليه: بأنه ليس في هذه الأدلة ما يدل على تأخرها على أدلة جواز البول قائماً، وحديث عائشة رضي الله عنها-في ذلك مستند إلى علمها، وقد يجوز أن يبول صلى الله عليه وسلم جالساً في وقت، ويبول قائماً في وقت آخر. فعائشة رضي الله عنها أخبرت بما كانت تراه في البيوت يبول قاعداً، وغيرها أخبر ما عاين من بوله قائماً، وعائشة لم تكن معه في ذلك الوقت، فكل منهم أخبر بما شاهده
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم البول قائما من غير عذر على
(1)
انظر: مسند أبي عوانة 1/ 169؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 167؛ ناسخ الحديث لابن الجوزي ص 63؛ فتح الباري 1/ 392، 394.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 267؛ صحيح ابن حبان 4/ 278؛ فتح الباري 1/ 394؛ عمدة القاري 3/ 135.
قولين:
القول الأول: أن البول قائما من غير عذر مكروه.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة
(3)
.
وروي ذلك عن ابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، والحسين بن علي، وهو رواية عن عمر، وابنه عبد الله رضي الله عنهم
(4)
.
وهو كذلك قول سعيد بن جبير، وإبراهيم بن سعد
(5)
، ورواية عن الشعبي، والحسن
البصري
(6)
.
القول الثاني: أنه لا يكره البول قائماً، ولو من غير عذر.
(1)
انظر: البحر الرائق 1/ 422؛ فتح باب العناية 1/ 173؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 483؛ التعليق على إعلاء السنن للتقي العثماني 1/ 440.
(2)
انظر: المهذب 1/ 107؛ التهذيب 1/ 283؛ الروضة 1/ 178؛ المجموع 2/ 100؛ مغني المحتاج 1/ 42.
(3)
انظر: المغني 1/ 223؛ الفروع 1/ 135؛ الإنصاف 1/ 201.
(4)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 116؛ الأوسط 1/ 335؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 166؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 507؛ المجموع 2/ 100؛ عمدة القاري للعيني 3/ 135.
(5)
هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري أبو إسحاق المدني، ثقة، روى عن أبيه، وعن الزهري، وغيرهما، وروى عنه: الليث، وشعبة، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 1/ 37؛ التهذيب 1/ 110.
(6)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 116؛ الأوسط 1/ 335؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 166؛ المجموع 2/ 100؛ عمدة القاري 3/ 135.
وهو مذهب المالكية
(1)
، وقول للإمام أحمد، والصحيح من مذهب الحنابلة
(2)
.
وممن روي عنه أنه بال قائماً، أو كان يرى ذلك، من الصحابة: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وسهل بن سعد
(3)
، وأنس بن مالك، وسعد بن عبادة
(4)
. وهو رواية عن عمر، وابنه عبد الله رضي الله عنهم
(5)
.
(1)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 167؛ عقد الجواهر 1/ 38؛ الذخيرة 1/ 203؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 385؛ شرح الزرقاني على الموطأ 1/ 131؛ مواهب الجليل 1/ 386؛ حاشية الدسوقي 1/ 104.
(2)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 167؛ الفروع 1/ 135؛ الإنصاف 1/ 201؛ الإقناع 1/ 26؛ منار السبيل 1/ 19.
(3)
هو: سهل بن سعد بن مالك الأنصاري، الساعدي، أبو العباس، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمره خمس عشرة سنة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الزهري وأبو حازم وغيرهما، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وتوفي سنة إحدى وتسعين-وقيل غير ذلك-. انظر: الاستيعاب 2/ 95؛ الإصابة 2/ 88.
(4)
هو: سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج، أبو ثابت، شهد العقبة وغيرها من المشاهد، واختلف في شهوده بدراً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وغيرهما، ومات بحوران من أرض الشام سنة خمسة عشرة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 212؛ التهذيب 3/ 414.
(5)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 115، 116؛ الأوسط 1/ 333؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 166، 167؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 507؛ المجموع 2/ 100؛ فتح الباري 1/ 394؛ عمدة القاري للعيني 3/ 135.
ومن التابعين فمن بعدهم: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن
(1)
، وخارجة بن ....................................
زيد
(2)
، ويزيد بن الأصم
(3)
، وأبو الشعثاء
(4)
، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وسماك بن حرب
(5)
، والثوري، وابن المنذر. وهو رواية عن
(1)
هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: اسمه كنيته، كان ثقة وأحد الفقهاء السبعة، وروى عن أبي هريرة، وعائشة، وغيرهما، وروى عنه: عمر بن عبد العزيز، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 3/ 276؛
التهذيب 12/ 28.
(2)
هو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري، أبو زيد المدني، أحد الفقهاء السبعة، روى عن: أبيه، وعن أسامة بن زيد، وغيرهما، وروى عنه: ابنه سليمان، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة مائة. انظر: الكاشف 1/ 200؛ التهذيب 3/ 69.
(3)
هو: يزيد بن الأصم بن عبيد بن معاوية العامري، أبو عوف البكائي، روى عن: خالته ميمونة، وعن أبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، وراشد بن كيسان، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث ومائة. انظر: الكاشف 3/ 240؛ التهذيب 11/ 271.
(4)
هو: جابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء البصري، ثقة فقيه، روى عن: ابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، وروى عنه: قتادة، وعمرو بن دينار، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وتسعين-وقيل غير ذلك-. انظر: التهذيب 2/ 35؛ شذرات الذهب 1/ 101.
(5)
هو: سماك-بكسر أوله وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد الذهلي، أبو المغيرة الكوفي، روى عن جابر ابن سمرة، وأنس بن مالك، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، والثوري، وغيرهما، وقال: أدركت ثمانين صحابياً، وهو ثقة ساء حفظه، وقواه جماعة وضعفه البعض، وتوفي سنة ثلاث وعشرين ومائة. انظر: الكاشف 1/ 322؛ التهذيب 4/ 210؛ التقريب 1/ 394.
الشعبي، والحسن البصري
(1)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول - وهو كراهة البول قائما من غير عذر-بما سبق من الأحاديث في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها: أن تلك الأدلة بعضها يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان من عادته البول قاعداً. وبعضها يدل على النهي عن البول قائماً، وبعضها يدل على السبب الذي بال صلى الله عليه وسلم من أجله قائماً.
فيثبت من هذا كله أن البول قائماً من غير عذر مكروه كراهة تنزيه وأدب
(2)
.
واعترض على هذا الاستدلال: بأنه قد ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول قاعداً، وكان هذا عادته الغالبة، لكن الأدلة الدالة على النهي عن البول قائماً، وكذلك الدليل الذي فيه ذكر سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائماً وأنه كان من
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 115، 116؛ الأوسط 1/ 333؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 166، 167؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 507؛ المجموع 2/ 100؛ فتح الباري 1/ 394؛ عمدة القاري للعيني 3/ 135.
(2)
انظر: صحيح ابن حبان 4/ 271؛ المستدرك للحاكم 1/ 290؛ التهذيب للبغوي 1/ 283؛ ناسخ الحديث
لابن الجوزي ص 63؛ المجموع 2/ 98؛ عمدة القاري 3/ 135؛ فتح باب العناية للقاري 1/ 173.
جرح بمأبضه، أدلة كلها ضعيفة، فلا تقوم بها حجة، ولا تعارض الأدلة الثابتة الصحيحة الدالة على جواز البول قائماً
(1)
.
وأجيب عنه: بأن الأدلة الدالة على النهي عن البول قائماً تعضد بعضها البعض، وهي بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، وأن كلها ليست ضعيفة، بل من أهل العلم من صحح بعضها، فهي قابلة للاستدلال بها على كراهة البول قائما من غير عذر
(2)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 336؛ شرح معاني الآثار 4/ 267، 268؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 506؛ فتح الباري 1/ 392، 394.
قال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 506: (وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت).
وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 394 في شرح حديث حذيفة رضي الله عنه في البول قائماً: (وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش والله أعلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء).
(2)
فرواية بريدة مرفوعاً: (ثلاث من الجفاء) قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 86: (رجاله رجال الصحيح). وقال العيني في عمدة القاري 3/ 135: (رواه البزار بسند صحيح).
ورواية عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه: (أربع من الجفاء) هو في معنى حديث بريدة، وقد قال عنه الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 97:(فهو عنه صحيح موقوفاً).
وحديث أبي هريرة مرفوعاً: (أربع من الجفاء) وإن كان ضعيفاً إلا أنه يصلح أن يكون شاهداً لحديث بريدة وابن مسعود. كما أن رواية عبد الله بن بريدة: (كان يقال أربع من الجفاء) يؤكد ما سبق ذكره، وهو صحيح كذلك.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز البول قائماً من غير كراهة- بما يلي:
أولاً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم سُباطة
(1)
قوم فبال قائماً، ثم دعا بماء فجئته
بماء فتوضأ»
(2)
.
ثانياً: عن المغيرة بن شعبة
(3)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتى سباطة قوم فبال قائماً»
(4)
.
(1)
السُباطة: الكُناسة. انظر: مختار الصحاح ص 249؛ المصباح المنير ص 264.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 51، كتاب الوضوء، باب البول قائماً وقاعداً، ح (224)، ومسلم في صحيحه 3/ 62، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (273)(73).
(3)
هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو عيسى أو أبو عبد الله، أسلم عام الخندق وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه المسور بن مخرمة، ومسروق، وغيرهما، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق، وكان من دهاة العرب، ولاه معاوية رضي الله عنه على الكوفة فلم يزل أميرها حتى توفي سنة خمسين على المشهور. انظر: البداية والنهاية 8/ 43؛ الإصابة 3/ 452.
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 71، كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول قائماً، ح (306)، والإمام أحمد في المسند 30/ 83، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 36، والطبراني في المعجم الكبير 20/ 405، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 163، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 163. قال الترمذي في سننه ص 14 - بعد ذكر رواية حذيفة-:(وروى حماد بن أبي سليمان وعاصم بن بهدلة عن أبي ائل عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي وائل عن حذيفة أصح).
وقال الدارقطني في العلل الواردة في الأحاديث النبوية 7/ 75: (يرويه عاصم بن أبي النجود وحماد بن أبي سليمان عن أبي وائل عن المغيرة بن شعبة، ووهما فيه على أبي وائل، ورواه الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب).
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 163، بعد تخريج الحديث:(كذا رواه عاصم بن بهدلة وحماد بن أبي سليمان عن أبي وائل عن المغيرة، والصحيح ما روى منصور والأعمش عن أبي وائل عن حذيفة، كذا قاله أبو عيسى الترمذي وجماعة من الحفاظ).
وقال ابن حجر في الفتح 1/ 392: (وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح، يعني من حديثه عن المغيرة وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معاً، لكن من حيث الترجيح رواية الأعمش ومنصور لاتفاقهما أصح من رواية عاصم وحماد لكونهما في حفظهما مقال). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 71.
ثالثاً: عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه بال قائماً، وقال:«قد رأيت من هو خير مني فعله»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث جاء فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بال
(1)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 36، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 211:(رواه الطبراني في الأوسط وفيه إبراهيم بن حماد بن أبي حازم ولم أر من ذكره).
قائماً وهو دليل الجواز مطلقاً
(1)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: أن الراجح هو القول الأول، وهو أن البول قائماً مكروه كراهة تنزيه، وأنه خلاف الأولى، وذلك لما يلي:
أ-لأن من عادته صلى الله عليه وسلم الغالبة وأكثر أحواله البول عن قعود، ويدل على ذلك حديث عائشة وعبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنهما وقد سبق ذكرهما
(2)
.
ب-ولأنه إذا ثبت تعارض بين مبيح وحاظر، يقدم الحاظر على المبيح
(3)
.
ج-ولأنه اختلف في السبب الذي بال من أجله صلى الله عليه وسلم قائماً على أقوال، منها:
1 -
أنه بال قائماً من أجل عدم إمكان القعود؛ وذلك لأنه أتى سباطة
(1)
انظر: الأوسط 1/ 338؛ شرح معاني الآثار 4/ 267؛ فتح الباري 1/ 394؛ عمدة القاري 3/ 135.
(2)
راجع تخريج حديث عائشة، وعبد الرحمن بن حسنة الذين مرّ ذكرهما في المسألة وانظر: زاد المعاد 1/ 171؛ فتح الباري 1/ 394؛ نيل الأوطار 1/ 88؛ تحقيق إعلاء السنن للتقي العثماني 1/ 439.
(3)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 470؛ منهاج الوصول للبيضاوي وشرحه نهاية السول للأسنوي 3/ 240؛ مناهج العقول للبدخشي 3/ 240؛ إرشاد الفحول 2/ 270؛ أصول الفقه الإسلامي 2/ 1192.
قوم، وهي المزبلة، فأراد أن يبول فلم يتهيأ له البول عن قعود؛ لأن المرء إذا قعد يبول على شيء مرتفع عنه ربما تفشى البول فرجع إليه، فمن أجل عدم إمكانه من القعود بال صلى الله عليه وسلم قائماً
(1)
.
2 -
أنه بال قائماً من أجل جرح بمأبضه، وهو باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن لأجله من
القعود، ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(إنما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً لجرح كان بمأبضه)
(2)
.
3 -
رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً، فلعله صلى الله عليه وسلم كان به إذا ذاك وجع الصلب فبال قائماً
(3)
.
4 -
أنه إنما فعل ذلك لبيان الجواز
(4)
.
(1)
هذا ما قاله ابن حبان في صحيحه 4/ 274، ونحوه كلام ابن القيم في زاد المعاد 1/ 172، حيث قال:(والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبعداً من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة، وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة فلو بال فيها الرجل قاعداً لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائماً والله أعلم)، وانظر كذلك: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 164؛ والمجموع للنووي 2/ 99.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 394: (ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي) وقد سبق أن الحاكم صححه. وانظر كذلك: السنن الكبرى 1/ 164؛ المجموع 2/ 99.
(3)
انظر: السنن الكبرى 1/ 164؛ المجموع 2/ 99؛ فتح الباري 1/ 394.
(4)
انظر: الأوسط 1/ 338؛ شرح معاني الآثار 4/ 267؛ المجموع 2/ 99؛ فتح الباري 1/ 394.
والخلاصة: أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه بال قائماً، وثبت عنه من فعله أنه كان يبول قاعداً، وكان ذلك عادته الغالبة، وروي عنه من قوله ما يدل على النهي عن البول قائماً، ثم ما روي عنه من البول قائماً من فعله يحتمل أن يكون لعذر، ويحتمل أن يكون لغير عذر بل للتشريع وبيان الجواز، وإذا احتمل بوله صلى الله عليه وسلم قائماً بين كونه عن عذر، وبين كونه عن غير عذر، دل ذلك على أنه خلاف الأولى، فكان تركه أولى
(1)
.
ثانياً: أنه لا يصح ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على جواز البول قائماً؛ وذلك لما يلي:
أ-أنه لا يوجد دليل يدل على تأخر أحاديث المنع من ذلك على أحاديث الإباحة، حتى تكون ناسخة لها، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ، على ما يخالفه
(2)
.
ب-أنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل ما ورد في النهي على الكراهة وخلاف الأولى، وبحمل ما يعارضه على الجواز، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً فإنه لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها
(3)
والله أعلم.
(1)
وبنحو هذا أفتى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية حيث قالت: (لا يحرم تبول الإنسان قائماً، لكنه يسن له أن يتبول قاعداً) فتاوى اللجنة الدائمة 5/ 106.
(2)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 136؛ الاعتبار ص 56.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 135؛ الاعتبار ص 495؛ فتح الباري 4/ 397.
المطلب الثاني: استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة
ذهب بعض أهل العلم، منهم عروة بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن
(1)
، وداود الظاهري إلى: أن النهي الوارد عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، قد نُسخ بالأحاديث الدالة على جواز ذلك؛ لذالك يجوز استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط، سواء كان ذلك في الصحراء أو البنيان
(2)
.
وذهب ابن حزم إلى عكس ذلك، فقال: إن ما ورد في إباحة الاستقبال أو الاستدبار بعضها لا يصح، وبعضها منسوخ بالأحاديث الواردة في النهي، وأن النهي بعد الإباحة
(3)
.
وتبين منه أن أحد أسباب الاختلاف في هذه المسألة هو القول بالنسخ؛
(1)
هو: ربيعة بن أبي عبد الرحمن-فروخ-التيمي مولاهم المدني، الفقيه، أبو عثمان، المعروف بربيعة الرأي، روى عن أنس بن مالك، وابن المسيب، وغيرهما. وروى عنه: سفيان، ومالك، وغيرهما. وكان إماماً حافظاً فقيهاً، وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة-وقيل غير ذلك-. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 157؛ تهذيب التهذيب 3/ 230.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 326؛ شرح معاني الآثار 4/ 235؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 174؛ التمهيد 4/ 385، 386؛ الاستذكار 2/ 433؛ الحاوي 1/ 151؛ الاعتبار للحازمي ص 134؛ المغني 1/ 220؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497؛ المجموع 2/ 95، 97؛ نيل الأوطار 1/ 77، 78، 82.
(3)
انظر المحلى 1/ 191 - 192.
حيث إن أصحاب القول الأول قالوا بإباحة الاستقبال والاستدبار مطلقاً لمّا رأوا أن الأحاديث الدالة على النهي منسوخة بالأحاديث الدالة على الجواز. كما أن اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما ورد في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة بما يلي:
أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة
(2)
لبعض حاجتي «فرأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام»
(3)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة
(1)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 134؛ المغني 1/ 220؛ المجموع 2/ 97؛ نيل الأوطار 1/ 77، 78، 82.
(2)
هي: حفصة بنت عمر بن الخطاب، العدوية، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبل ذلك تحت خنيس بن حذافة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: أخوها عبد الله، وابنها حمزة، وغيرهما، وتوفيت سنة إحدى وأربعين، وقيل غير ذلك. انظر: الاستيعاب 4/ 268؛ الإصابة 4/ 273.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 38؛ كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت، ح (148)، ومسلم في صحيحه 3/ 56، كتاب الطهارة، باب آداب قضاء الحاجة، ح (266)(62).
ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 7، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (13)، والترمذي في سننه ص 14، أبواب الطهارة، باب ما جاء من الرخصة في ذلك، ح (9)، وابن ماجة في سننه ص 75، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري، ح (325)، والإمام أحمد في المسند 23/ 157 - ولفظه:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة) -، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 34، وابن الجارود في المنتقى ص 26، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 170، والدارقطني في سننه 1/ 59، والحاكم في المستدرك 1/ 257، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 150، والحازمي في الاعتبار 1/ 208.
والحديث قال عنه الترمذي في سننه ص 14: (حديث حسن غريب). وقال الدارقطني في سننه عن رجال سنده 1/ 59: (كلهم ثقات). وقال الحاكم في المستدرك 1/ 257: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في التلخيص فقال: (على شرط مسلم).
وقال ابن عبد البر في التمهيد 4/ 387: (وليس حديث جابر بصحيح عنه فيعرج عليه، لأن أبان بن صالح الذي يرويه ضعيف). وقال النووي في المجموع 2/ 96: (حديث حسن).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 9: (رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وهو من رواية محمد بن إسحاق وقال البخاري: هذا حديث حسن صحيح).
وقال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 1/ 22: (وأما الحديث فإنه انفرد به محمد بن إسحاق، وليس هو ممن يحتج به في الأحكام فكيف أن يعارض بحديثه الأحاديث الصحاح أو ينسخ به السنن الثابتة؟ مع أن التأويل في حديثه ممكن والمخرج منه معرض) ثم قال: (وهو-لو صح-حكاية فعل لا عموم لها، ولا يعلم هل كان في فضاء أو بنيان؟ وهل كان لعذر: من ضيق مكان ونحوه، أو اختياراً؟ فكيف يقدم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع).
وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 104: (وصححه البخاري فيما نقل عنه الترمذي وحسنه هو والبزار، وصححه أيضاً ابن السكن، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بأبان بن صالح، ووهم في ذلك فإنه ثقة باتفاق، وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 14.
وأبان بن صالح هذا هو: أبان بن صالح بن عمير، القرشي مولاهم. وثقه يحيى بن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة وأبو زرعة وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: وثقه الأئمة، ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه، وكذلك قال بعد ذكر قول ابن عبد البر وابن حزم فيه:(وهذا غفلة منهما وخطأ تواردا عليه، فلم يضعف أبان هذا أحد قبلهما، ويكفي فيه قول ابن معين ومن تقدم معه). انظر: التهذيب 1/ 86؛ التقريب 1/ 51.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال: «أراهم قد فعلوها، استقبلوا بِمَقْعَدَتِي القبلةَ»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 75، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري، ح (324)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 140، -ولفظه:(عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بخلائه فحول قبل القبلة لما بلغه أن الناس كرهوا ذلك)، وفي رواية ثانية عنده:(عن عائشة قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوماً يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقبلوا بمقاعدكم إلى القبلة) -، والإمام أحمد في مسنده 41/ 140، وفي 42/ 329، -ولفظه فيه:(فقال عراك حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول الناس في ذلك أمر بمقعدته فاستقبل بها القبلة) - والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 234، والدارقطني في سننه 1/ 59، 60، -وقال بعد ذكر عدة روايات:(وهذا أضبط إسناد، وزاد فيه خالد ابن أبي الصلت، وهو الصواب).
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 150، -وقال:(تابعه حماد بن سلمة عن خالد الحذاء في إقامة إسناده، ورواه عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن رجل عن عراك عن عائشة، ورواه أبو عوانة وغيره عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة).
قال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497: (وإسناده حسن)، وقال في المجموع 2/ 93:(وإسناده حسن، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 91: (وقال أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن. سماه مرسلاً؛ لان عراكاً لم يسمع من عائشة. وقد روى أحمد والدارقطني في بعض طرق هذا الحديث أن عراكاً قال: حدثتني عائشة. وهذا يدل على سماعه منها، ويقوي ذلك أن مسلماً أخرج في صحيحه: حدثنا عراك عن عائشة، والمراسيل والمنقطعات ليست من شروط الصحيح).
وقال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 1/ 22: (هذا حديث لا يصح، وإنما هو موقوف على عائشة، حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري. وقال بعض الحفاظ: هذا حديث لا يصح، وله علة لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة المعانون عليها، وذلك أن خالد بن أبي الصلت لم يحفظ متنه، ولا أقام إسناده، خالفه فيه الثقة الثبت صاحب عراك بن مالك المختص به، الضابط لحديثه: جعفر بن ربيعة الفقيه، فرواه عن عراك عن عروة عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك. فبين أن الحديث لعراك عن عروة ولم يرفعه ولا يجاوز به عائشة. وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك. مع صحة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهرتها بخلاف ذلك) ثم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال أن هذا الحديث مرسل، وأنكر أن يكون عراك بن مالك سمع من عائشة.
وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 76: (قلت ذكر المزي عن البخاري أنه قال: وهذا الذي علل به البخاري الخبر ليس بقادح، فالإسناد الأول حسن رجاله ثقات معروفون، وقد أخطأ من قال: إن خالد بن أبي الصلت مجهول).
وفي رواية عنها-رضي الله عنها: (أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة لحاجته بعد النهي)
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي
(2)
قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة» وأنا أول من حدث الناس بذلك
(3)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 171، من طريق عراك عن عائشة.
(2)
هو: عبد الله بن الحارث بن جزء-بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة- الزبيدي- بضم الزاي- أبو الحارث، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عبيد الله بن المغيرة، وعمرو بن جابر، وغيرهما، وسكن مصر، وهو آخر من مات بها من الصحابة، وتوفي سنة ست وثمانين، وقيل في غيرها. انظر: التهذيب 5/ 159؛ التقريب 1/ 484؛ شذرات الذهب 1/ 97.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 29/ 248، عن طريق يحيى بن إسحاق قال: حدثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن المغيرة، قال: أخبرني عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيد، فذكره. وأخرجه في 29/ 245، عن طريق حسن قال: حدثنا ابن لهيعة، ثنا سليمان بن زياد الحضرمي أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول:(نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول أحدنا مستقبل القبلة) فهذه الرواية مخالفة للرواية السابقة، وموافقة لما روي عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من غير طريق ابن لهيعة كما سيأتي تخريجه في أدلة القول الثاني.
وعبد الله بن لهيعة هو: عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن، قاضي مصر، ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: أمره مضطرب، يكتب حديثه للاعتبار. وعن الإمام أحمد أنه قال: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟. وقال: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة. وقال أيضاً: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب لاعتبر به، ويقوي بعضه بعضاً.
وقال ابن حجر: صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 475 - 478؛ التهذيب 5/ 331 - 334؛ التقريب 1/ 526.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 210 - بعد ذكر حديث عبد الله بن الحارث-: (قلت: روى له ابن ماجة أنه أول من سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، وهذا يدل على النسخ، رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف).
خامساً: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة بعد النهي لغائط أو بول»
(1)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 211: (رواه الطبراني في الكبير وفيه جعفر بن الزبير وقد أجمعوا على ضفه).
وجعفر بن الزبير كذبه شعبة، وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وقال الإمام أحمد: أضرب على حديث جعفر. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 406؛ التهذيب 2/ 82.
ويستدل منها على النسخ: بأن الإباحة وردت بعد النهي، وحديث جابر رضي الله عنه صريح في ذلك؛ حيث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبلها بعد النهي، وأن هذا الاستقبال كان قبل أن يقبض بعام، مما يدل على أنه كان آخر الأمرين.
كما أن بعض ألفاظ حديث عائشة-رضي الله عنها يدل على ذلك
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، أما إذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى النسخ، بل يجب الجمع بينها، والعمل بجميعها، وهنا أمكن الجمع بين الأحاديث، وذلك بحمل الأحاديث الواردة في النهي على الفضاء، وبحمل ما ورد في الجواز على البناء
(2)
.
دليل من قال بنسخ ما يدل على جواز الاستقبال والاستدبار
أولاً: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيتم الغائط
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 235؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 174؛ الاعتبار للحازمي ص 136؛ المغني 1/ 220؛ نيل الأوطار 1/ 78، 80، 82.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 236؛ التمهيد 4/ 383؛ الحاوي 1/ 153؛ الاعتبار ص 136؛ المغني 1/ 221؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497؛ المجموع 2/ 97.
فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» قال أبو أيوب:(فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بُنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى)
(1)
.
ثانياً: عن سلمان
(2)
رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل «لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم»
(3)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 85، كتاب الصلاة، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام، ح (394)، ومسلم في صحيحه 3/ 51، كتاب الطهارة، باب آداب قضاء الحاجة، ح (264)(95).
(2)
هو: سلمان الفارسي أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رامهرمز، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول مشاهده الخندق، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس وابن عباس، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك. انظر: التهذيب 4/ 124؛ شذرات الذهب 1/ 44.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 50، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ح (262)(57).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 53، كتاب الطهارة، باب آداب قضاء الحاجة، ح (265)(60).
رابعاً: عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: أنا أول من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة» وأنا أول من حدث الناس بذلك
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الأحاديث الدالة على الجواز موافقة لما كان عليه الناس قبل النهي فيكون حكمها منسوخاً بأحاديث النهي
(2)
.
واعترض عليه: بأن أدلة من قال بنسخ ما يدل على نهي الاستقبال والاستدبار محتملة لما قاله؛ حيث فيها ما يدل على تاخرها، أما أدلة من قال بنسخ ما يدل على جواز الاستقبال والاستدبار فليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عما يدل على الجواز، ومجرد كون الحكم موافقا لما كان عليه الناس قبل الإسلام ثم ثبوت النهي عن ذلك الحكم، فهذا لا يعد من الناسخ والمنسوخ، وعلى تقدير أنه يقال له ذلك فيحتمل أنه صار هذا الناسخ منسوخاً
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 73، كتاب الطهارة، باب النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط، ح (317)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 139، وأحمد في المسند 29/ 242، 253، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 232، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 168.
وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 75: (وهذا الإسناد صحيح، وقد حكم بصحته ابن حبان والحاكم والدارقطني وأبو ذر الهروي، وغيرهم، ولا أعرف له علة).
(2)
انظر: المحلى 1/ 192.
بعد ما كان
ناسخاً؛ لأن مع ما يدل على الجواز ما يدل على تأخره
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول أوغائط، لا في الصحراء ولا في البنيان.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد اختارها بعض الحنابلة
(3)
. وقول ابن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري
(4)
، وسراقة بن مالك
(5)
، وأبي هريرة-رضي الله عنهم
(6)
.
وهو كذلك قول مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، والثوري،
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 235؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 174؛ الاعتبار 1/ 206؛ المغني 1/ 220؛ نيل الأوطار 1/ 78، 80، 82.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 233؛ الإختيار 1/ 37؛ اللباب للمنبجي 1/ 96؛ الدر المختار 1/ 480؛ حاشية ابن عابدين 1/ 480، 481.
(3)
انظر: المغني 1/ 221؛ الكافي 1/ 109؛ الشرح الكبير 1/ 205؛ الممتع 1/ 154؛ الفروع 1/ 125؛ الإنصاف 1/ 204.
(4)
هو: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بداراً والمشاهد كلها، ونزل عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة شهراً حتى بنى المسجد، وورى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وعروة، وغيرهما، وتوفي سنة خمسين، وقيل بعدها. انظر: التهذيب 3/ 83؛ شذرات الذهب 1/ 57.
(5)
هو: سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك المدلجي، أبو سفيان، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورى عنه: جابر، وابن عباس، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وعشرين، وقيل بعدها. انظر: التهذيب 3/ 397؛ التقريب 1/ 340؛ شذرات الذهب 1/ 35.
(6)
انظر: المحلى 1/ 190؛ المجموع 2/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 77.
والأوزاعي، وأبي ثور
(1)
.
القول الثاني: لا يجوز استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء، ويجوز ذلك في البنيان.
وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
وهو كذلك قول العباس بن عبد المطلب وابن عمر-رضي الله عنهم والشعبي، وابن المبارك، وإسحاق بن راهوية، وابن المنذر، والطحاوي
(5)
.
القول الثالث: لا يجوز استقبال القبلة ببول أوغائط، سواء كان في
(1)
انظر: الأوسط 1/ 325؛ الاستذكار 2/ 431؛ المحلى 1/ 179، 190؛ الحاوي 1/ 151؛ الاعتبارص 136؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497؛ المجموع 2/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 77.
(2)
انظر: الإشراف 1/ 136؛ بداية المجتهد 1/ 172؛ عقد الجواهر 1/ 38؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 403؛ مواهب الجليل 1/ 404.
(3)
انظر: مختصر المزني ص 10؛ الحاوي 1/ 151؛ التعليقة للقاضي حسين 1/ 308؛ التهذيب للبغوي 1/ 289؛ المجموع 2/ 95؛ العزيز 1/ 136؛ الغرر البهية لزكريا الأنصاري 1/ 319.
(4)
وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: المغني 1/ 221؛ عمدة الفقه لابن قدامة ص 8؛ الشرح الكبير 1/ 205؛ الفروع 1/ 125؛ تصحيح الفروع 1/ 125؛ الإنصاف 1/ 203؛ زاد المستقنع ص 6؛ منار السبيل 1/ 20.
(5)
انظر: الأوسط 1/ 327؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ المحلى 1/ 190؛ التمهيد 4/ 384؛ الاستذكار 2/ 431؛ الحاوي 1/ 151؛ المغني 1/ 221؛ المجموع 2/ 95؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497.
الصحراء أو البناء، ويجوز الاستدبار فيهما.
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة
(1)
، وعن الإمام أحمد
(2)
.
القول الرابع: يجوز استقبال القبلة واستدبارها مطلقاً.
وهو قول عروة، وربيعة بن عبد الرحمن، وداود الظاهري
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جوازالاستقبال والاستدبار مطلقاً- بما استدل به لقول من قال بنسخ ما يدل على جواز الاستقبال والاستدبار.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأحاديث جاءت مطلقة غير مقيدة، ولا مفرقة بين بناء أو صحراء، دالة بعمومها على تحريم الاستقبال والاستدبار ببول أو غائط
(4)
.
ويعترض عليه: بأن هذه الأدلة عامة ومطلقة، لكن وردت أحاديث غيرها، تقيد مطلق هذه الأحاديث، وتخصصها بالأبنية، والقول بها أولى؛ لأن
(1)
انظر: الاختيار 1/ 37؛ اللباب للمنبجي 1/ 97؛ حاشية ابن عابدين 1/ 480.
(2)
انظر: المغني 1/ 222؛ الشرح الكبير 1/ 204؛ الفروع 1/ 125؛ الإنصاف 1/ 205.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 326؛ شرح معاني الآثار 4/ 235؛ التمهيد 4/ 385، 386؛ الاستذكار 2/ 433؛ الحاوي 1/ 151؛ الاعتبار للحازمي ص 134؛ المغني 1/ 220؛ المجموع 2/ 95، 97.
(4)
انظر: الأوسط 1/ 325؛ المحلى 1/ 192؛ الاعتبار 1/ 206؛ المغني 1/ 221؛ نيل الأوطار 1/ 78؛ حاشية ابن
عابدين 1/ 480.
العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحراء، ويجوز في البنيان- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث أبي أيوب، وسلمان الفارسي، وأبي هريرة، وعبد الله بن الحارث-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على حرمة الاستقبال و الاستدبار في الصحراء
(2)
.
ثانياً: ما سبق في دليل قول من قال بنسخ النهي عن الاستقبال ولاستدبار من حديث ابن عمر، وجابر، وعائشة-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على جواز الاستقبال والاستدبار في البناء
(3)
.
ثالثاً: عن مروان الأصفر
(4)
قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل
(1)
انظر: الأوسط 1/ 328؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ المجموع 2/ 97؛ فتح الباري 1/ 296؛ نيل الأوطار 1/ 78.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 327؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ الحاوي 1/ 153؛ الاعتبار 1/ 211؛ المجموع 2/ 96.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 327؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ الحاوي 1/ 153؛ الاعتبار ص 136؛ المجموع 2/ 96.
(4)
هو: مروان الأصفر أبو خليفة البصري، قيل اسم أبيه: خاقان، وقيل: سالم، ثقة، روى عن: ابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: خالد الحذاء، وشعبة، وغيرهما. انظر: التهذيب 10/ 90؛ التقريب 2/ 172.
القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى، «إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أن الأحاديث التي ذكرت في أدلة قول من قال بنسخ ما يدل على جواز الاستقبال والاستدبار تدل على عدم جواز الاستقبال والاستدبار مطلقاً، وأن الأحاديث التي ذكرت في أدلة قول من قال بنسخ النهي عن الاستقبال ولاستدبار تدل بعضها على جواز الاستقبال والاستدبار في البناء، وبعضها على الجواز مطلقاً.
فيُحمل ما ورد في النهي مطلقاً على الصحراء، وما ورد في الجواز
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 7، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، ح (11)، والدارقطني في سننه 1/ 58 وقال:(هذا صحيح كلهم ثقات) - وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 172، والحاكم في المستدرك 1/ 256، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 149. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري)، ووافقه الذهبي. وحسنه الحازمي في الاعتبار ص 173، والشيخ الألباني في الإرواء 1/ 100. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 298:(وسنده لا بأس به).
وفي سنده الحسن بن ذكوان، أبو سلمة البصري، ضعفه يحيى بن معين، وأبو حاتم. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد ابن عدي: يروي أحاديث لا يرويها غيره، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الإمام أحمد: أحاديثه أباطيل. وقال الذهبي: صالح الحديث. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وكان يدلس. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 489؛ التهذيب 2/ 254؛ القريب 1/ 204.
على البناء؛ جمعاً بين الأحاديث كلها، ويؤكد ذلك حديث ابن عمر؛ حيث بين أن النهي إنما هو في الفضاء، أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أنه لا يحل الاستقبال لا في الصحراء ولا في البناء، ويجوز الاستدبار فيهما- بما يلي:
أما عدم جواز الاستقبال مطلقاً:
أ- حديث سلمان رضي الله عنه وفيه: (أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول)
(2)
.
ب- حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وفيه:«لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة»
(3)
.
وأما جواز الاستدبار مطلقاً: فلحديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر الكعبة مستقبل الشام»
(4)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 327؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ معالم السنن 1/ 20؛ التمهيد 4/ 387؛ المغني 1/ 222؛ المجموع 2/ 96؛ الشرح الكبير لعبد الرحمن المقدسي 1/ 206؛ فتح الباري 1/ 296.
(2)
سبق تخريجه في ص 211.
(3)
سبق تخريجه في ص 211.
(4)
سبق تخريجه في ص 207.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إن حديث سلمان، وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهما يدلان على عدم جواز الاستقبال، وحديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على جواز الاستدبار؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر الكعبة
(1)
.
واعتُرض عليه: بأنه جاءت أحاديث صحيحة مصرحة بالنهي عن الاستقبال والاستدبار فيتعين الأخذ بذلك
(2)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع -وهو جواز الاستقبال والاستدبار مطلقاً- بالأدلة التي سبقت في دليل القول بنسخ ما يدل على عدم جواز الاستقبال والاستدبار.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته، وهو مستدبر القبلة.
وحديث جابر رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة بالبول.
وحديث عائشة-رضي الله عنها يدل على إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من كره أن يستقبل القبلة بفرجه، وأنه أمر أن يحول مقعدته مستقبل القبلة.
فدل ذلك على جواز الاستقبال والاستدبار مطلقاً
(3)
.
(1)
انظر: الحاوي 1/ 153؛ المغني 1/ 222؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497؛ نيل الأوطار 1/ 78.
(2)
انظر: المجموع 2/ 97؛ نيل الأوطار 1/ 78.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 326؛ الحاوي 1/ 152؛ المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 497؛ فتح الباري 1/ 296؛ نيل الأوطار 1/ 78، 80، 82.
واعترض عليه بما يلي:
أ- أن حديث ابن عمر وعائشة-رضي الله عنهما-لا يتم منهما الاستدلال على الجواز
مطلقاً؛ لأن ذلك كان في البنيان والبيوت، فلا يتم الاستدلال منهما على العموم
(1)
.
ب-أما حديث جابر رضي الله عنه فيقال: بأن في الاحتجاج به نظرا؛ لأنها حكاية فعل لا عموم لها، ثم يحتمل أن يكون ذلك لعذر، ويحتمل أن يكون في بنيان، ويحتمل أن يكون في صحراء، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، ثم حمله على البنيان أولى؛ ليُجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها
(2)
.
الراجح:
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والعلم عند الله تعالى- أنه يستحب للشخص أن يجتنب استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط مطلقاً؛ وذلك عملاً بإطلاق الأحاديث الدالة على النهي مطلقاً، وخروجاً من خلاف العلماء.
ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء، ويباح في البناء؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في الاستقبال والاستدبار ثلاثة أصناف:
(1)
انظر: الاستذكار 2/ 433، 434؛ الحاوي 1/ 153؛ المجموع 2/ 96.
(2)
انظر: المغني 1/ 221؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 497؛ المجموع 2/ 96؛ التهذيب لابن القيم 1/ 22؛ التلخيص الحبير 1/ 104؛ فتح الباري 1/ 296؛ نيل الأوطار 1/ 82.
أ- صنف يدل على النهي مطلقاً، وهي أحاديث قولية صريحة صحيحة، وهي كثيرة منها ما ذكر في أدلة قول من قال بنسخ ما يدل على جواز الاستقبال والاستدبار.
ب- صنف يدل على إباحة الاستقبال والاستدبار في البناء، وهي أحاديث قولية وفعلية، وهي صحيحة في الجملة.
فالقولية: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء) وحديث عائشة رضي الله عنها: «استقبلوا بمقعدتي القبلة» .
ومن الفعلية: حديث ابن عمر رضي الله عنه: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام» .
ج-صنف يدل على جواز الاستقبال، منها: حديث جابر رضي الله عنه وقد صححه وحسنه جمع من أهل العلم، وهو حديث فعلي، ولخلوه عن قيد البناء أو الفضاء يحتمل الأمرين.
ولمكان اختلاف هذه الأحاديث في الظاهر اختلف أهل العلم في تأويلها:
- فذهب بعض منهم مذهب الترجيح، وأخذوا بالأحاديث الدالة على النهي مطلقاً، ورجحوها على غيرها؛ لقوتها، وكثرتها، وصحتها بلا خلاف، وأن النهي مقدم على الإباحة، وهم أصحاب القول الأول
(1)
.
(1)
راجع القول الثاني وأدلته، وانظر: التهذيب لابن القيم 1/ 22؛ فتح الباري 1/ 296.
ولكن يلزم من قولهم إلغاء العمل بالصنف الثاني والثالث من الأحاديث، والعمل بجميع الأدلة أولى من إلغاء بعضها
(1)
.
-وذهب بعضهم مذهب النسخ، فأباحوا الاستقبال والاستدبار مطلقاً، وأخذوا بحديث ابن عمر، وجابر، وعائشة-رضي الله عنهم، وجعلوها ناسخة للأحاديث الدالة على النهي مطلقاً، وهم أصحاب القول الأول من قولي النسخ
(2)
.
ولكن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وهو لم يتعذر هنا
(3)
.
-وذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عمر رضي الله عنه: (إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) فهم فرقوا بين الفضاء والبناء، فحرموا الاستقبال والاستدبار ببول أو غائط في الفضاء، وحملوا أحاديث النهي على ذلك.
وأجازوا الاستقبال والاستدبار مطلقاً في البناء، وحملوا الأحاديث الدالة على الجواز على ذلك، وقالوا: إن الأحاديث الدالة على الجواز مخصصة للنهي العام، أو مستثناة من ذلك. وهم أصحاب القول الثاني، وكان هذا القول
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 296.
(2)
راجع القول الأول وأدلته.
(3)
انظر: المجموع 2/ 97.
راجحاً؛ لأن فيه الجمع بين الأحاديث وإعمال للأدلة كلها. وإذا كان يمكن العمل بجميع الأدلة فهو أولى من إلغاء بعضها، كما أنه لا يصار إلى النسخ ما لم يتعذر الجمع، وهاهنا حصل الجمع فكان القول به أولى من القول بالنسخ
(1)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 327، 328؛ شرح معاني الآثار 4/ 236؛ التمهيد 4/ 387؛ المجموع 2/ 96، 97؛ فتح الباري 1/ 296.
والله أعلم.
المطلب الثالث: الوُضُوء بفضل وَضُوء المرأة
ذهب بعض أهل العلم، منهم البغوي
(1)
من الشافعية
(2)
، وابن العربي من المالكية
(3)
، والعيني
(4)
من الحنفية
(5)
إلى أن الأحاديث الواردة في النهي عن الوضوء بفضل
(6)
طهور المرأة منسوخة بالأحاديث الدالة على الجواز، وأن
(1)
هو: الحسين بن مسعود بن محمد، محي السنة، أبو محمد البغوي، الحافظ الفقيه، تفقه على القاضي حسين وحدث عنه وعن غيره، وكان إماماً في التفسير والحديث والفقه ورعاً زاهداً، وألف المؤلفات الكثيرة منها (التهذيب) و (شرح السنة)، وتوفي سنة ست عشرة وخمسمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 4/ 1257؛ البداية والنهاية 12/ 210؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 281.
(2)
انظر: شرح السنة 2/ 28.
(3)
ونحوه قول المباركفوري. انظر: عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي 1/ 82؛ تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 1/ 152.
(4)
هو: محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد الحنفي، المعروف بالعيني، فقيه أصولي، أخذ عن يوسف بن موسى الملطي، وغيره، وولي قضاء قضاة الحنفية بالديار المصرية، وألف مؤلفات عديدة، منها: عمدة القاري، وتوفي بالقاهرة سنة خمس وخمسين وثمانمائة. انظر: شذرات الذهب 7/ 286؛ حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1/ 270؛ معجم المؤلفين 3/ 797.
(5)
انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 3/ 196. وكذلك نقل ابن عابدين في حاشيته 1/ 234 القول بالنسخ عن صاحب كتاب غرر الأفكار شرح درر البحار الحنفي. كما صرح علي بن زكريا المنبجي الحنفي في كتابه اللباب 1/ 56، بأن حديث النهي متقدم على حديث الجواز.
(6)
الفضل والفضلة: البقية من الشيء، يقال: أفضل فلان من الطعام وغيره، إذا ترك منه شيئاً. والفضل: الزيادة، وضد النقص. انظر: المغرب 2/ 142؛ لسان العرب 10/ 280، 281؛ المعجم الوسيط ص 693.
وفضل الوضوء: هو ما يبقى في الإناء بعد الفراغ من الوضوء، ويطلق كذلك على الماء الذي سال من أعضاء الوضوء. انظر: مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار للفتني 4/ 154، 155.
الجواز آخر الأمرين.
وذهب ابن حزم إلى العكس من ذلك؛ حيث ذهب إلى أن حكم الأحاديث الدالة على جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت به منسوخ بالأحاديث الدالة على النهي من ذلك، وأن الجواز كان قبل النهي
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ في هذه المسألة أحد أسباب اختلاف أهل العلم فيها، إلا أن الأحاديث الواردة في المسألة هي السبب الأصلي لاختلافهم فيها
(2)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة بما يلي:
أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول لله صلى الله عليه وسلم جميعاً»
(3)
.
(1)
انظر: المحلى 1/ 206.
(2)
انظر: بداية المجتهد 1/ 66، شرح السنة 2/ 28؛ عارضة الأحوذي 1/ 82؛ عمدة القاري 3/ 196؛ حاشية ابن عابدين 1/ 234.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 46، كتاب الوضوء، باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة، ح (193).
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها-قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أخبرتني ميمونة-رضي الله عنها «أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد من الجنابة»
(2)
.
رابعاً: عن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: «كانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان في الإناء الواحد»
(3)
.
خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 58، كتاب الغسل، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر؟ ح (261)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-3/ 124، كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد، ح (321)(45).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 57، كتاب الغسل، باب الغسل بالصاع ونحوه، ح (253)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-3/ 124، كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل و المرأة في إناء واحد، ح (322)(47).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 69، كتاب الحيض، باب النوم مع الحائض وفي ثيابها، ح (322)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-3/ 125، كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد، ح (324)(49).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 125، كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد، ح (323) (48). وأُعل هذا الحديث بأن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده حيث قال:(أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني) فذكره.
قال ابن حزم في المحلى 1/ 206: (فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده)
وقال ابن حجر في الفتح 1/ 359: (وأما حديث ميمونة فأخرجه مسلم لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: (وعلمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني فذكر الحديث، وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد، لكن راويها غير ضابط وقد خولف).
سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة
(1)
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها-أو يغتسل-فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الماء لا يجنب»
(2)
.
(1)
الجفنة: القصعة، وجمعه جفان. انظر: مختار الصحاح ص 93؛ القاموس المحيط ص 1069.
(2)
أخرجه من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: أبو داود في سننه ص 16، كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، ح (68)، والترمذي في سننه ص 26، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (65)، وابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، ح (370)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 38، وابن حبان في صحيحه 4/ 73، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 291.
وأخرجه من طريق سفيان عن سماك بن حرب: النسائي في سننه -ولفظه: عن ابن عباس أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت من الجنابة فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها فذكرت ذلك له فقال: «إن الماء لا ينجسه شيء» ص 59، كتاب المياه، ح (325)، وابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، ح (371)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 109، والإمام أحمد في المسند 4/ 13، 343، والدارمي في سننه 1/ 203، وابن المنذر في الأوسط 1/ 296، وابن الجارود في المنتقى ص 33، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 58، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 26، وابن حبان في صحيحه 4/ 48، والحاكم في المستدرك 1/ 262، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 291.
وأخرجه من طريق شعبة عن سماك: الحاكم في المستدرك 1/ 262.
وأخرجه من طريق يزيد بن عطاء عن سماك: الدارمي في سننه 1/ 203.
والحديث هذا في كل طرقه سماك بن حرب، وقد تُكلم فيه: قال الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن المديني: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح وليس من المثبتين، ومن سمع منه قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه مستقيم، والذي قاله ابن المبارك، إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخرة. وقال ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث. وقال ابن معين: ثقة، قال: وكان شعبة يضعفه. وقال العجلي: جائز الحديث، كان الثوري يضعفه قليلاً. وقال النسائي: كان ربما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال ابن عبد الهادي: سماك بن حرب احتج به مسلم في صحيحه واستشهد به البخاري في الجامع الصحيح. وقال الذهبي: صدوق صالح، من أوعية العلم، مشهور. وكذا قال: قد احتج مسلم به في روايته عن جابر بن سمرة والنعمان بن بشير وجماعة، و حدث عنه شعبة وزائدة وأبو عوانة والناس. وقال ابن حجر: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخرة فكان ربما تلقن. انظر: التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 36؛ ميزان الاعتدال 2/ 232 - 234؛ التهذيب 4/ 210 - 211؛ التقريب 1/ 394.
وهذا الحديث قال فيه الإمام أحمد: أتقيه لحال سماك ليس أحد يرويه غيره، وقال: هذا فيه اختلاف شديد بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه، وقال: أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا خلت المرأة بالماء فلا يتوضأ منه. انظر: التنقيح 1/ 36.
وقال ابن حزم في المحلى 1/ 206: هذا الحديث لا يصح، لأنه من رواية سماك بن حرب وهو يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وغيره، وهذه جرحة ظاهرة).
وصححه الترمذي في سننه ص 26، والحاكم في المستدرك 1/ 262، ووافقه الذهبي في التلخيص.
وقال ابن عبد البر في التمهيد 1/ 312: (رواه جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، منهم: شعبة والثوري إلا أن جُل أصحاب شعبة يروونه عن سماك عن عكرمة مرسلاً، ووصله عنه محمد بن بكر، وقد وصله جماعة عن سماك، منهم الثوري وحسبك بالثوري حفظاً وإتقاناً، -ثم ذكر الحديث عن طريق ابن أبي شيبة ثم قال: -وهكذا رواه أبو الأحوص وشريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً، وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه، والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على اسناده).
وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 360: (وقد أعل قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشائخه إلا صحيح حديثهم).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 118: (قلت: إسناده صحيح وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، ووافقه الذهبي، والنووي وابن حجر) ثم ذكر سند الحديث ثم قال: (وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح، إلا أن سماكاً وهو ابن حرب وإن كان من رجال مسلم فقد تكلم فيه من قبل حفظه لا سيماً في روايته عن عكرمة فقالوا: إنه مضطرب فيها. والذي يتخلص عندي فيه من مجموع كلامهم أنه حسن الحديث في غير هذا الإسناد، صحيح الحديث برواية سفيان وشعبة مطلقاً-إلى أن قال: -فإذا اتفق أبو الأحوص وسفيان في إسناد الحديث عنه عن عكرمة عن ابن عباس كان دليلاً على صحته، وهذا الحديث من هذا القبيل، فإنه رواه سفيان أيضاً كما سيأتي وتابعه شعبة أيضاً).
وحديث ابن عباس هذا وكذلك روايته عن ميمونة-وهو الحديث الآتي بعد هذا- يؤكد صحة حديثه الذي خرجه مسلم من طريق عمرو بن دينار؛ لأنهما بمعناه، كما أن حديثه ذاك يعضد صحة هذا الحديث والحدث الآتي بعد هذا، والله أعلم.
سابعاً: عن ميمونة-رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُتوضأ بفضل غسلها من الجنابة»
(1)
.
ثامناً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة»
(2)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 278: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح). وقد بحثت عن هذا الحديث في المسند في مسند ميمونة فلم أجده فيه، وبحثت في الفتح الرباني -ترتيب مسند الإمام أحمد -للبنا، فلم أجده فيه كذلك، ولعله في نسخة أخرى للمسندوالله أعلم.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، ح (372)، والإمام أحمد في المسند 44/ 386، والدارقطني في سننه 1/ 52. وقال:(اختلف في هذا الحديث على سماك، لم يقل فيه عن ميمونة غير شريك). وأخرجه في 1/ 53، -ولفظه:(عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة) وكذلك أخرجه البغوي في شرح السنة 2/ 27. وقال النووي في المجموع 2/ 220: (وحديث ميمونة صحيح أيضاً).
والكلام على هذا الحديث كالكلام على السابق؛ لأن كليهما من رواية سماك عن عكرمة.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت من جفنة ففضلت فضلة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل منها فقلت: إني قد اغتسلت منها، فقال:«إن الماء ليس عليه جنابة، أو لا ينجسه شيء» ، فاغتسل منه
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كنت جنباً) عند إرادته صلى الله عليه وسلم التطهر من فضلها، يشعر بعلمها بأن المرأة إذا استعملت ماءً وبقي منه شيء، أنه لا يجوز للرجل استعماله، فيدل ذلك على أن النهي كان متقدماً، ولذلك قالت هذا القول، فيكون حديث الجواز متأخراً وناسخاً لحديث النهي
(2)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، وهنا يمكن الجمع بين الأحاديث؛ وذلك بحمل ما ورد في النهي على التنزيه وخلاف
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 44/ 386.
(2)
انظر: عارضة الأحوذي لابن العربي 1/ 82؛ اللباب للمنبجي 1/ 56؛ حاشية ابن عابدين 1/ 234؛ تحفة الأحوذي 1/ 152.
الأولى بدليل أحاديث الجواز
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت به بما يلي:
أولاً: عن الحكم بن عمرو
(2)
-وهو الأقرع- أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة»
(3)
.
(1)
انظر: معالم السنن 1/ 80؛ المجموع 2/ 222؛ فتح الباري 1/ 360؛ حاشية ابن عابدين 1/ 234؛ تحفة الأحوذي 1/ 152؛ الشرح الممتع لابن عثيمين 1/ 46.
(2)
هو: الحكم بن عمرو بن مجدع الغفاري، ويقال له: الحكم بن الأقرع، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو الشعثاء والحسن البصري، وغيرهما، ونزل البصرة، ومات بمرو سنة خمسين، وقيل غيرها. انظر: الكاشف 1/ 183؛ التهذيب 2/ 392؛ التقريب 1/ 233.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 18، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، ح (82)، والترمذي في سننه ص 26، كتاب الطهارة، باب كراهية فضل طهور المرأة، ح (64) - وقال:(هذا حديث حسن) - والنسائي في سننه ص 61، كتاب المياه، باب النهي عن فضل وضوء المرأة، ح (343)، وابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، ح (373)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 38، والإمام أحمد في المسند 29/ 406، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 24، وابن حبان في صحيحه 4/ 71، والطبراني في المعجم الكبير 3/ 235، والدارقطني في سننه 1/ 53 - ولفظه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة، أو قال: شرابها) ثم قال: (قال شعبة: وأخبرني سليمان التيمي قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة) وأبو حاجب اسمه سوادة بن عاصم، واختلف عنه، فرواه عمران بن جرير وغزوان بن حجير السدوسي عنه موقوفاً من قول الحكم غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 295، 296، وقال بعد ذكر طرق حديث الحكم:(وبلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: ليس بصحيح، يعني حديث أبي حاجب عن الحكم بن عمرو) ثم ذكر قول الدارقطني فيه بالوقف، ثم رواه عن الحكم موقوفاً عليه أنه كان ينهى عن ذلك.
وقال الخطابي في معالم السنن 1/ 80: (وإسناد خبر عائشة أجود من إسناد خبر النهي، وقال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح، والصحيح في هذا الباب حديث عبد الله بن سرجس، وهو موقوف ومن
رفعه فقد أخطأ).
وقال ابن قدامة في المغني 1/ 283: (قال الخطابي: قال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح، والصحيح في هذا خبر عبد الله بن سرجس، وهو موقوف، ومن رفعه فقد أخطأ. قلنا: قد رواه أحمد واحتج به وهذا يقدم على التضعيف؛ لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح خفي على من ضعفه).
وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 6: (وأما الحديث الذي جاء بالنهي وهو حديث الحكم بن عمرو فأجاب العلماء منه بأجوبة: أحدها: أنه ضعيف، ضعفه أئمة الحديث، منهم البخاري وغيره).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 33: (وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: يضطربون فيه عن شعبة، وليس هو في كتاب غندر، وبعضهم يقول: عن فضل سؤر المرأة، وبعضهم يقول: فضل وضوء المرأة، فلا يتفقون عليه. وسواد بن عاصم وثقه يحيى بن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ) وقال في ص 35: (فقد قال البخاري: لا أدري حديث سوادة عن الحكم يصح) ثم قال: (أما قول البخاري فظن لم يذكر عليه دليلاً).
وقال ابن حجر في فتح الباري 1: 359: (أما حديث الحكم بن عمرو فأخرجه أصحاب السنن، وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال: اتفاق الحفاظ على تضعيفه).
وقال العيني في عمدة القاري 3/ 86: (فأما حديث الحكم الغفاري فقال جماعة من أهل الحديث: إن هذا الحديث لا يصح، وأشار الخطابي أيضاً إلى عدم صحته، وقال ابن منده: لا يثبت من جهة السند، ورجحه ابن ماجة على حديث ابن سرجس، وصححه ابن حبان وأبو محمد الفاسي، والقول قول من صححه لا من ضعفه؛ لأنه مسند ظاهر السلامة).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 141: (قلت: إسناده صحيح وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي) ثم ذكر سنده ثم قال: (وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، غير أبي حاجب، واسمه سوادة بن عاصم، وهو ثقة بلا خلاف) وقال في ص 143: (وصرح الترمذي في العلل عن البخاري أنه قال عن هذا الحديث: (ليس بصحيح) قلت: وهذا من الإمام جرح مبهم، فلا يقبل، ولعل سوادة لم تثبت عنده عدالته أو لقاؤه للحكم، فقد ثبت ذلك عند غيره) ثم ذكر أن البيهقي روى من طرق موقوفاً عليه ثم قال:(وهذا ليس بعلة فقد رفعه ثقتان وهي زيادة يجب قبولها ولا يجوز هدرها).
ثانياً: عن حميد الحميري
(1)
قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل
(1)
هو: حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري، ثقة فقيه، روى عن أبي بكرة، وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه:
ابن سيرين، وأبو التياح، وغيرهما. انظر: الكاشف 1/ 193؛ التهذيب 3/ 41؛ التقريب 1/ 245.
أو يغتسل الرجل بفضل
المرأة، وليغترفا جميعاً»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 18، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، ح (81)، والنسائي في سننه ص 45، كتاب الطهارة، ح (238)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 106، والإمام أحمد في المسند 28/ 224، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 24، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 294، وقال:(وهذا الحديث رواته ثقات إلا أن حميداً لم يسم الصحابي الذي حدثه فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله، وداود بن عبد الله الأودي لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى).
وقال النووي في المجموع 2/ 222: (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 34: (وهذا الحديث ليس بمرسل، وجهالة الصحابي لا تضر، وقيل إن هذا الرجل الذي لم يسم: عبد الله بن سرجس، وقيل: عبد الله بن مغفل، وقيل: الحكم بن عمرو الغفاري.
وقد تكلم على هذا الحديث ابن حزم بكلام أخطأ فيه، ورد عليه ابن مفوز وابن القطان، وغيرهما، وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث).
وقال ابن حجر في الفتح 1/ 359: (رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره) وقال في بلوغ المرام-مع سبل السلام-1/ 26: (إسناده صحيح).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 141: (إسناده صحيح) وقال في 1/ 57: (قلت: إسناده صحيح، وكذا قال النووي والعسقلاني والعراقي) ثم ذكر سنده ثم قال: (وهذا سند صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير داود بن عبد الله الأودي وهو ثقة باتفاق النقاد).
ثالثاً: عن عبد الله بن سرجس
(1)
رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة، والمرأةُ بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً»
(2)
.
(1)
هو: عبد الله بن سرجس المزني، البصري، حليف بني مخزوم، صحابي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عاصم الأحول وقتادة، وغيرهما. انظر: الكاشف 2/ 81؛ التهذيب 5/ 207؛ التقريب 1/ 496.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، ح (374) -وقال:(قال أبو عبد الله ابن ماجة: الصحيح هو الأول، والثاني وهم) ويريد بالأول حديث الحكم بن عمرو-، والدارقطني في سننه 1/ 117 - وقال:(خالفه شعبة) ثم روى عن طريق شعبة عن عبد الله بن سرجس أنه قال: (تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره، ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها) وقال: (وهذا موقوف صحيح، وهو أولى بالصواب).
وأخرجه ابن حزم في المحلى 1/ 205، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 297، ثم قال: (وهكذا رواه معلى بن
أسد عن عبد العزيز بن المختار وخالفه شعبة عن عاصم) ثم ذكر طريق شعبة عن عبد الله بن سرجس موقوفاً عليه كما ذكره الدارقطني ثم قال: (قال علي: هذا موقوف وهو أولى بالصواب. قال الشيخ: وبلغني عن أبي عيسى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: حديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح هو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ).
وكذلك روى ابن المنذر في الأوسط 1/ 291 - 292 عن عبد الله بن سرجس موقوفاً عليه نحو ما ذكره الدارقطني والبيهقي.
وقال العيني في عمدة القاري 3/ 86: (أما حديث عبد الله بن سرجس فروي مرفوعاً وموقوفاً عليه، وقال البيهقي الموقوف أولى بالصواب، وقد قال البخاري: أخطأ من رفعه. قلت: الحكم للرفع لأنه زاد -إلى أن قال: -فلا يعارض المرفوع. وصححه ابن حزم مرفوعاً، وتوقف ابن القطان من تصحيحه لأنه لم يره إلا في كتاب الدارقطني).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 144: (إسناده صحيح على شرطهما، وليس عند البيهقي الشطر الثاني منه (والمرأة بفضل الرجل) وكذا رواه ابن حزم وجعل ذلك حجة في النهي عن استعمال الرجل فضل المرأة لا العكس، وهذه الروايات ترد عليه، لكن عذره أنه لم يقف عليها، وقد أعل هذا الحديث -حديث عاصم- بما أعل به سابقه، وهو أن شعبة عن عاصم موقوفاً، وقال الدارقطني والبيهقي أنه أولى بالصواب. والجواب ما سبق) يعني به ما سبق في حديث الحكم بن عمرو من أن الوقف ليس بعلة وأن الرفع زيادة يجب قبولها.
رابعاً: عن ميمونة رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوضأ بفضل غسلها من الجنابة»
(1)
.
خامساً: عن علي رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 83، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك، ح (375). قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجة ص 85:(هذا إسناد ضعيف لضعف الحارث الأعور، كذبه ابن المديني وغيره).
والحارث هذا هو: الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور، كذبه الشعبي وعلي بن المديني. وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وروي نحوه عن ابن معين. وروي عنه أنه قال: ثقة. قال عثمان الدارمي: ليس يتابع يحيى على هذا. وقال ابن حبان: كان الحارث غاليا في التشيع واهياً في الحديث. وقال أحمد بن صالح المصري: الحارث الأعور ثقة، وقال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. وقال الذهبي: والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب، فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته وأما في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم. وقال ابن حجر: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف وليس له عند النسائي سوي حديثين. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 437؛ التهذيب 2/ 134 - 135؛ التقريب 1/ 175.
ويستدل منها على النسخ: بان حكم الأحاديث الدالة على جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت به كان قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يتوضأ الرجل أو يغتسل بفضل طهور المرأة فيكون ذلك منسوخًا بالأحاديث الدالة على النهي من ذلك
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على تأخرها عن الأحاديث الدالة على الجواز، فكيف يقال أنها الناسخة لها؟ فهذا مجرد دعوى لا دليل عليه، ثم يمكن الجمع بين هذه الأحاديث كما سبق ذكره، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار مع ذلك إلى النسخ
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
(1)
المحلى 1/ 206.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
وقد اختلف أهل العلم في تطهركل من الرجل والمرأة بفضل طهور الآخرعلى خمسة أقوال:
القول الأول: يجوز أن يتطهر كل من الرجل والمرأة بفضل طهورصاحبه، سواء خلت به المرأة أم لا.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة
(4)
.
وروي ذلك عن ابن عباس، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهما.
وقال به إبراهيم النخعي، وعكرمة، وعطاء، وسفيان الثوري، وابن المنذر
(5)
.
(1)
انظر: الموطأ لمحمد بن الحسن ص 40؛ شرح معاني الآثار 1/ 26؛ المبسوط 1/ 61؛ اللباب للمنبجي 1/ 55؛ عمد القاري للعيني 3/ 85، 196؛ حاشية ابن عابدين 1/ 234؛ إعلاء السنن 1/ 128.
(2)
انظر: المدونة 1/ 14؛ الاستذكار 1/ 209؛ عارضة الأحوذي لابن العربي 1/ 82؛ بداية المجتهد 1/ 65؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 72؛ مواهب الجليل 1/ 72.
(3)
انظر: الأم 1/ 56؛ مختصر المزني ص 13؛ المهذب 1/ 123؛ الحاوي 1/ 231؛ التعليقة للقاضي حسين 1/ 385، 386؛ العزيز 1/ 187؛ المجموع 2/ 220.
(4)
انظر: المغني 1/ 283؛ الشرح الكبير 1/ 84؛ الممتع 1/ 130؛ شرح الزركشي 1/ 147؛ الاختيارات
الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 3؛ الإنصاف 1/ 85.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 106، 107؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 38؛ سنن الترمذي ص 26؛ الأوسط 1/ 294؛ التمهيد 1/ 320؛ الاستذكار 1/ 210؛ المجموع 2/ 220؛ المغني 1/ 283؛ فتح الباري 1/ 359.
القول الثاني: لا يجوز للرجل أن يتطهر بفضل طهور المرأة إذا خلت به، ويجوز لها ولغيرها التطهر به، وبفضل طهور الرجل مطلقاً.
وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، والمذهب عند الحنابلة
(1)
.
وروي ذلك عن عبد الله بن سرجس، والحكم بن عمرو الغفاري، وأم المؤمنين جويرية بنت الحارث
(2)
، وأم سلمة-رضي الله عنهم
(3)
.
وبه قال غنيم بن قيس
(4)
، والحسن البصري، وإسحاق بن راهوية، وداود الظاهري
(5)
.
(1)
انظر: المغني 1/ 282؛ الشرح الكبير 1/ 83؛ الممتع 1/ 129؛ شرح الزركشي 1/ 147؛ الإنصاف 1/ 85؛ زاد المستقنع ص 5؛ منار السبيل 1/ 9.
(2)
هي: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، وتزوجها، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، و روى عنها: مجاهد، وكريب، وغيرهما، وتوفيت سنة خمسين، وقيل في غيرها. انظر: الكاشف 3/ 422؛ التهذيب 12/ 358.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 107؛ مصف ابن أبي شيبة 1/ 38؛ الأوسط 1/ 292؛ المحلى 1/ 205؛ المغني 1/ 283؛ التهذيب لابن القيم 1/ 82؛ نيل الأوطار 1/ 26.
(4)
هو: غنيم بن قيس المازني الكعبي أبو العنبر البصري، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ورى عن سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وغيرهما، وروى عنه: سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وغيرهما، وكان ثقة، وتوفي سنة تسعين. انظر: الكاشف 2/ 323؛ التهذيب 8/ 218؛ التقريب 2/ 5.
(5)
انظر: مصنف أبي شيبة 1/ 39؛ الأوسط 1/ 292، 293؛ المحلى 1/ 204؛ المجموع 2/ 221؛ نيل الأوطار 1/ 26.
القول الثالث: لا يجوز تطهر كل منهما بفضل طهور الآخر، ولو شرعا معاً ومن إناء واحد.
وروي هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
.
القول الرابع: أنه يكره للرجل أن يتطهر بفضل طهور المرأة مطلقاً، ويجوز للمرأة أن تتطهر بفضل طهور الرجل.
وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن الحسن البصري
(2)
.
القول الخامس: أنه يجوز أن يتطهر كل منهما بفضل طهور صاحبه ما لم يكن الرجل جنباً، والمرأة جنباَ أو حائضاً.
روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه، والشعبي، والأوزاعي، وروي عن عطاء مثله
(3)
.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 41؛ الأوسط 1/ 291؛ التمهيد 1/ 320؛ بداية المجتهد 1/ 66؛ عمدة القاري 3/ 85. وروي عنه أنه قال: (لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من الإناء الواحد) انظر: الأوسط 1/ 294، وفي مصنف ابن أبي شيبة 1/ 38، أنه قال حين سئل عن سؤر طهور المرأة يتطهر منه: (إن كنا لننقر حول قصعتنا نغتسل منه كلانا). وقال ابن حجر في الفتح 1/ 359: (ونقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر؛ لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهي عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم).
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 105؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 39؛ الأوسط 1/ 292؛ المجموع 2/ 220؛ فتح الباري 1/ 359؛ عمدة القاري 3/ 85.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 107، 110؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 38؛ الأوسط 1/ 294؛ فتح الباري 1/ 359.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو جواز تطهر كل منهما بفضل طهور صاحبه مطلقاً- بالأدلة السابقة في قول من قال بنسخ الأحاديث الدالة على عدم جواز تطهر كل من الرجل والمرأة بفضل طهور الآخر.
ووجه الاستدلال منها: هو أن حديث ابن عمر، وعائشة، وميمونة، وأم سلمة-رضي الله عنهم-يدل على جواز وضوء واغتسال الرجل والمرأة جميعاً ومن إناء واحد، كما يدل على جواز التطهر بفضل طهور المرأة والرجل؛ لأن المرأة والرجل إذا اغترفا جميعاً من إناء واحد في الوضوء فكل منهما قد توضأ بفضل صاحبه
(1)
.
أما حديثا ابن عباس رضي الله عنه وكذلك حديثه عن ميمونة رضي الله عنها فهي صريحة في الدلالة على جواز التطهر بفضل طهور المرأة
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت به- بالأدلة السابقة في قول من قال بنسخ الأحاديث
(1)
انظر: الأوسط 1/ 294، 296؛ صحيح ابن حبان 4/ 75؛ التمهيد 1/ 320؛ الاستذكار 1/ 209؛
المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 5؛ المجموع 2/ 221؛ عمدة القاري 3/ 85.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 296؛ فتح الباري 1/ 359، 360؛ تحفة الأحوذي 1/ 152؛ الشرح الممتع لابن عثيمين 1/ 44، 46.
الدالة على جواز أن يتطهر الرجل بفضل ما خلت به المرأة.
ووجه الاستدلال منها: هو أن تلك الأحاديث تدل على عدم جواز أن يتطهر الرجل بفضل طهور المرأة
(1)
.
وخصص بالخلوة؛ لقول عبد الله بن سرجس: (لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، فإذا خلت به فلا تقربه)
(2)
.
واعترض عليه: بأنه هذه الأدلة كما جاء فيها النهي من أن يتطهر الرجل بفضل طهور المرأة، كذلك جاء في بعضها النهي من أن تتطهر المرأة بفضل الرجل، وهي أدلة مطلقة، فكيف يستدل منها على عدم جواز ذلك للرجل، ولا يستدل منها على عدم جواز ذلك للمرأة، مع أن الأدلة في ذلك غير مفرقة بين الرجل والمرأة
(3)
.
وأجيب عنه: بأنه عام دخله التخصيص بالإجماع
(4)
.
(1)
انظر: المحلى 1/ 204؛ المغني 1/ 282؛ الشرح الكبير 1/ 83؛ شرح الزركشي 1/ 147؛ شرح العمدة لابن تيمية 1/ 77.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 107. وانظر: الكافي 1/ 137؛ الشرح الكبير 1/ 84؛ منار السبيل 1/ 9.
(3)
انظر: التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 35؛ الشرح الممتع لابن عثيمين 1/ 44.
(4)
قال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 35: (قلنا: هذا عام دخله التخصيص بالإجماع أو بدليل). أما الدليل على
ذلك فلم أجده، وأما الإجماع على ذلك، فقد صرح النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 5، فقال:(وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فجائز بالإجماع أيضاً). وقال ابن حجر في الفتح 1/ 359: (ونقل النووي أيضاً الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضاً فقد أثبت الخلاف فيه الطحاوي).
وقال الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله في الشرح الممتع 1/ 44 بعد ذكر حديث النهي: (ومن غرائب العلم أنهم استدلوا به على أن الرجل لا يتوضأ بفضل المرأة، ولم يستدلوا به على أن المرأة لا تتوضأ بفضل الرجل) إلى أن قال: (فما دام الدليل واحداً والحكم واحداً، والحديث مقسماً تقسيماً فما بالنا نأخذ بقسم ولا نأخذ بالقسم الثاني، مع العلم بأن القسم الثاني قد ورد في السنة ما يدل على جوازه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل ميمونة، ولم يرد في القسم الأول ما يدل على جواز أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وهذا غريبة ثانية).
دليل القول الثالث:
ويستدل للقول الثالث-وهو عدم جواز تطهر الرجل والمرأة بفضل صاحبه ولو من إناء واحد- بما يلي:
أولاً: حديث الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة»
(1)
.
ثانياً: حديث حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 224.
(2)
سبق تخريجه في ص 226. وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريقين: أحدهما: عن طريق أحمد بن يونس، وليس فيه (وليغترفا جميعاً). والثاني من طريق مسدد، وفيه هذه الزيادة (وليغترفا جميعاً) ويتم الاستدلال منه بدون هذه الزيادة، ولكن الحديث من طرق أخرى غير هذين الطريقين يؤكد صحة هذه الزيادة، وقد سبق ذلك في تخريج الحديث.
ووجه الاستدلال منهما هو: أن الحديثين بمجموعهما يدلان على أنه لا يجوز لكل واحد منهما التطهر بفضل صاحبه، والمرأة والرجل إذا تطهرا معاً فكل منهما متطهر ومتوضئ بفضل صاحبه، فلا يجوز ذلك كذلك
(1)
.
واعترض عليه: بأنه ثبت في أحاديث صحيحة وكثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهله كانوا يتطهرون من إناء واحد، وهي أقوى مخرجاً وأصرح دلالة، وهي حجة على من خالفها، ولعل
من خالفها يكون أنها لم تبلغه
(2)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو كراهة أن يتطهر الرجل بفضل طهور المرأة مطلقاً، وجواز عكس ذلك- بحديث الحكم بن عمرو الغفاري، وحميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث عبد الله بن سرجس، وقد سبق ذكرها.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأحاديث صريحة في النهي من أن
(1)
انظر: التمهيد 1/ 320؛ الاستذكار 1/ 209؛ بداية المجتهد 1/ 66، 67.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 296؛ التمهيد 1/ 320؛ بداية المجتهد 1/ 67؛ فتح الباري 1/ 359؛ عمدة القاري 3/ 196.
يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، وهي مطلقة، فتشمل ذلك ما خلت به وما لم تخل به
(1)
.
ويعترض على وجه الاستدلال هذا ما اعتُرض به على وجه استدلال القول الثاني.
دليل القول الخامس
ويستدل للقول الخامس-وهو جواز تطهر كل منهما بفضل صاحبه ما لم يكن جنباً أو حائضاً- بما يلي:
أولاً: عن ميمونة-رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوضأ بفضل غسلها من الجنابة»
(2)
.
ثانياً: حديث الحكم بن عمرو، وعبد الله بن سرجس، وحميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سبق ذكرها.
وأصحاب هذا القول ذهبوا إلى أن النهي في هذه الأحاديث عن فضل طهور المرأة إنما هو إذا كانت جنباً أو حائضاً، بدليل حديث ميمونة هذا؛ حيث فيه النهي من التطهر بفضل غسلها من الجنابة
(3)
.
ويعترض عليه: بأن حديث الحكم بن عمرو، وعبد الله بن سرجس،
(1)
انظر: الأوسط 1/ 292؛ بداية المجتهد 1/ 67؛ فتح الباري 1/ 359؛ نيل الأوطار 1/ 26.
(2)
سبق تخريجه في ص 223.
(3)
انظر: معالم السنن 1/ 80.
وحديث حميد بن
عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أي ذكر للحيض أو الجنابة، وإنما فيها النهي عن التطهر بفضل وضوء المرأة مطلقاً، وهي أكثر وأقوى، فكان القول بإطلاقها أولى؛ لأن القول به يشمل ما إذا كانت حائضاً أو جنباً بخلاف العكس.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والعلم عند الله تعالى- أن الراجح هو القول الأول، وهو جواز تطهر كل من الرجل والمرأة بفضل طهور صاحبه مطلقاً؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في هذه المسألة ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهله كانوا يتطهرون من إناء واحد، وأن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الصنف فيه أحاديث كثيرة، صحيحة بلا خلاف، وقد قال به أكثر أهل العلم، بل ليس فيه إلا خلافًا شاذاً لا اعتبار له، وهذه الأحاديث حجة عليه
(1)
.
الصنف الثاني: أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، وجاء في بعضها كذلك نهي المرأة أن تتوضأ بفضل طهور
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 5؛ المجموع 2/ 220؛ فتح الباري 1/ 359؛ عمدة القاري 3/ 85.
الرجل.
وهي أحاديث قولية، وقد تكلم عليها بعض أهل العلم من حيث الصحة وعدم ذلك في البعض، ومن حيث الرفع والوقف في البعض الآخر، لكن الظاهر سلامتها وصحتها ورفعها في الجملة، وهي تقوي بعضها البعض، وتؤكد صحتها
(1)
.
الصنف الثالث: أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ أو اغتسل بفضل امرأة من أزواجه.
وهي أحاديث فعلية، وقد ذكر في بعضها العلة التي من أجلها توضأ النبي صلى الله عليه وسلم أو اغتسل بفضلها، وهي:«إن الماء لا يجنب» أو «إن الماء لا ينجسه شيء» .
وهذه الأحاديث قد تكلم عليها بعض أهل العلم، إلا أن أكثرهم على صحتها، وهي
تقوي بعضها البعض
(2)
.
والصنف الثاني والثالث من هذه الأحاديث بينهما تعارض في الظاهر، لذلك اختلف أهل العلم في تأويلها:
فذهب غير أصحاب القول الأول إلى الأخذ بالصنف الثاني من
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 359؛ عمدة القاري 3/ 86؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 141 - 144.
(2)
راجع تخريج هذه الأحاديث. وانظر: صحيح سنن أبي داود 1/ 118.
الأحاديث- مع اختلافهم في وجه الاستدلال منها-، ورجحوها على الصنف الثالث، إما لضعفها واضطرابها عند البعض، أو لأنها مبيحة وما خالفها حاظرة، والحاظر مقدم على المبيح
(1)
.
أما أصحاب القول الأول فذهبوا إلى الأخذ بالصنف الثالث من الأحاديث، ورجحوها على الصنف الثاني، وذلك:
أ- لأنها والصنف الأول من الأحاديث متفقة في المدلول عند البعض؛ لأن المتطهرين معاً كل منهما متطهر بفضل صاحبه
(2)
.
وإذا أضيف الصنف الأول إلى الصنف الثالث فلا شك أنها أقوى وأولى بالتقدم.
ب- ولأن الصنف الثالث فيها ما يدل على أنها الناسخة للصنف الثاني؛ وذلك لأن ميمونة رضي الله عنها-روت النهي عن التطهر بفضل طهور المرأة، وروي عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ أو اغتسل بفضل غسلها من الجنابة، وكان في روايتها هذا، ورواية ابن عباس رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(إني كنت جنباً) فدل هذا وروايتها في النهي على أن النهي متقدم، ثم اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الماء دليل على نسخ النهي المتقدم
(3)
.
(1)
راجع تخريج حديثا ابن عباس وكلام أهل العلم عليهما. وانظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 78.
(2)
راجع وجه استدلال القول الأول من هذه الأحاديث في ص 230.
(3)
راجع المصادر في وجه الاستدلال منها على النسخ في ص 223.
وذهب بعض من قال بالقول الأول والصنف الثالث من الأحاديث إلى الجمع بين هذا الصنف والصنف الثاني من الأحاديث؛ وذلك بحمل النهي الوارد في الصنف الثاني على كراهة التنزيه وخلاف الأولى بدليل أحاديث الجواز، وحمل الصنف الثالث من الأحاديث على الجواز المطلق، ولا تنافي بين الجواز وخلاف الأولى وكراهة التنزيه
(1)
.
فيكون القول الأول راجحاً لهذا الوجه؛ لأنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث فهو أولى من ترك بعضها، كما أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة، وهنا حصل الجمع بينها
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب» أو «إن الماء لا ينجسه شيء» ثم تطهره واغتساله من ذلك الماء يحتمل أمرين:
الأول: نسخ النهي السابق عن استعمال فضل وضوء المرأة؛ وذلك لأن قوله هذا وفعله متأخر عن النهي السابق.
الثاني: أن النهي السابق لم يكن للتحريم، بل للتنزيه؛ فيكون قوله صلى الله عليه وسلم لميمونة رضي الله عنها:(إن الماء لا ينجسه شيء) بياناً للنهي السابق، وأنه لم يكن للتحريم بل للتنزيه؛ لأن الماء لا ينجسه شيء، وما دام الماء طاهراً فيجوز التطهر به.
والله أعلم.
(1)
انظر: معالم السنن 1/ 80؛ المجموع 2/ 222؛ فتح الباري 1/ 360؛ حاشية ابن عابدين 1/ 234؛ تحفة الأحوذي 1/ 152؛ الشرح الممتع لابن عثيمين 1/ 46.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495؛ فتح الباري 4/ 397.
المطلب الرابع: الوضوء بنبيذ التمر
ذهب الإمام أبو حنيفة و بعض الحنفية إلى أن خبر الوضوء بالنبيذ
(1)
قد نُسخ بآية التيمم
(2)
.
وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية على تقدير صحته
(3)
، ونحوه قول الحافظ ابن حجر العسقلاني
(4)
.
(1)
النبيذ: من نبذ، وهو لغة الإلقاء والطرح. والنبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، يقال: نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذاً. انظر: لسان العرب 14/ 17؛ المصباح المنير ص 590؛ القاموس المحيط ص 306؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 666.
(2)
ففي كتاب الأصل لحمد بن الحسن 1/ 75 (وروى نوح الجامع عنه أنه رجع عن هذا وقال: يتيمم ولا يتوضأ به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة، ونزلت آية التيمم بالمدينة) وفي المحيط البرهاني 1/ 154: (وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة-رحمه الله أن التوضؤ بنبيذ التمر منسوخ فيتيمم ولا يتوضأ). وفي الفتاوي التتارخانية 1/ 224: (وفي الجامع الصغير للعتابي: روى نوح عن أبي حنيفة-رحمه الله أن الوضوء بنبيذ التمر منسوخ). وقال ابن الهمام في فتح القدير 1/ 119: (فوجب تصحيح الرواية الموافقة لقول أبي يوسف؛ لأن آية التيمم ناسخة له لتأخرها إذ هي مدنية، وعلى هذا مشى جماعة من المتاخرين). وقال ابن نجيم في البحر الرائق 1/ 145: (وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بآية التيمم لتأخرها إذ هي مدنية، وعلى هذا مشى جماعة من المتأخرين).
(3)
قال شيخ الإسلام في شرح العمدة 1/ 61: (ثم هو منسوخ بآية المائدة التي فرض فيها التيمم عند عدم الماء، فإن قصة الجن كانت بمكة في أول الإسلام).
(4)
هو: أحمد بن علي بن محمد بن علي، الكناني العسقلاني المصري، إمام الحفاظ في زمانه، لازم شيخه أبا الفضل العراقي وسمع منه ومن السراج البلقيني، وغيرهما، وله مؤلفات مفيدة منها (فتح الباري) وتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة. انظر: ذيل طبقات الحفاظ ص 380؛ شذرات الذهب 7/ 270.
وانظر قوله في فتح الباري 1/ 422.
وقد ظهر منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب الاختلاف فيها؛ وذلك لأن الإمام أبا حنيفة- رحمه الله-رجع عن القول بالوضوء بالنبيذ لما رأى أن خبر النبيذ نُسخ بآية التيمم؛ لتأخرها، ولكن السبب الأصلي للاختلاف في هذه المسألة هو خبر الوضوء بالنبيذ، ومدى ثبوته وعدمه
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
(2)
.
ثانياً: عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال:«يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟» فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد
(3)
فإنه يكفيك»
(4)
.
(1)
انظر: الأصل 1/ 75؛ المحيط البرهاني 1/ 154؛ الفتاوى التتارخانية 1/ 224؛ البحر الرائق 1/ 145؛
شرح العمدة 1/ 61؛ فتح الباري 1/ 422.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
(3)
الصعيد: يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض تراباً كان أو غيره. انظر: مختار الصحاح ص 318؛ المصباح المنير ص 339؛ القاموس المحيط ص 266.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 76، كتاب التيمم، باب، ح (348)، ومسلم في صحيحه 3/ 491، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (682)(312).
ثالثاً: عن أبي ذر
(1)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير»
(2)
.
رابعاً: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد روي بطرق وألفاظ منها ما يلي:
(1)
هو: جندب بن جنادة بن سكن، أبو ذر الغفاري، أحد السابقين الأولين، كان رأساً في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروىعنه: أنس، وابن عباس، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 17؛ الإصابة 4/ 62.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 59، كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، ح (332)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 40، كتاب الطهارة، باب التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، ح (124)، والنسائي في سننه ص 58، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، ح (322)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 238، والإمام أحمد في المسند 35/ 298، وابن المنذر في الأوسط 1/ 257، والدارقطني في سننه 1/ 186، والحاكم في المستدرك 1/ 284، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 327. قال الترمذي (حديث حسن صحيح). وقال الحاكم:(حديث صحيح)، ووافقه الذهبي. وقال النووي في المجموع 1/ 140:(حديث صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 40.
أ- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: «ما في إداوتك
(1)
؟» قال نبيذ، قال:«تمرة طيبة وماء طهور»
(2)
.
(1)
الإداوة بالكسر: المطهرة، وجمعها الأداوى. انظر: مختار الصحاح ص 9؛ المصباح المنير ص 9.
(2)
أخرجه من طريق شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود: أبو داود في سننه ص 18، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (84)، والترمذي في سننه ص 32، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (88) -وزاد:(قال: فتوضأ منه) -، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 182.
وأخرجه من طريق سفيان عن أبي فزارة به: ابن ماجة في سننه ص 84، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (384)، والإمام أحمد في المسند 7/ 324، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 14.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 179، من طريق الثوري وإسرائيل عن أبي فزارة العبسي به، والإمام أحمد في المسند 6/ 360، من طريق إسرائيل عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود به. ولفظه عند أحمد: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة لقي الجن فقال: «أمعك ماء؟» فقلت: لا، فقال:«ما هذا في الإداوة؟» قلت: نبيذ، قال:«أرنيها، تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها ثم صلى بنا» .
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 32، من طريق وكيع بن الجراح عن أبيه عن أبي فزارة عن أبي يزيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود به.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند 7/ 390، من طريق أبي عميس عتبة بن عبد الله عن أبي فزارة به مطولاً.
وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل:
أحدها: التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان أو غيره، قال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 41:(قال أحمد بن حنبل: (أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول) ثم قال: فإن قيل: أبو فزارة اسمه راشد بن كيسان، أخرج عنه مسلم، وكذا الدارقطني: أبو فزراة في حديث النبيذ اسمه راشد بن كيسان.
فجوابه من وجهين: إحداهما: أنهما اثنان، فالمجهول هو الذي في هذا الحديث، ودليل هذا قول أحمد: أبو فزارة في حديث ابن مسعود مجهول، فاعلم أنه غير المعروف. والثاني: أن معرفة اسمه لا تخرجه عن الجهالة).
وأجيب: بأنه راشد بن كيسان، وهو ثقة معروف، روى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. أما أبو فزارة المجهول فليس له رواية في أي من الكتب الستة. انظر: التنقيح 1/ 42؛ التقريب 1/ 289، 2/ 452.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 42: (أبو فزارة في الحديث الأول هو راشد بن كيسان بلا خلاف، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وروى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة-إلى أن قال: -ووثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صالح. وقال الدارقطني: ثقة كيس، ولم أر له في كتب أهل النقل ذكرا بسوء في دين أو خرمة). وقال في 1/ 43: (وقال ابن عدي: بعد أن روى هذا الحديث: أبو فزارة مشهور الحديث اسمه راشد بن كيسان. وما ذكره المؤلف من الإمام أحمد أن أبا فزارة مجهول ليس بثابت عنه، والظاهر أن الراوي غلط، وإن قول أحمد إنما هو في أبي زيد).
وعلى تقدير أن أبا فزارة هذا ليس هو راشد بن كيسان، فيقال: قد روى عنه سفيان الثوري وإسرائيل، وشريك، وجراح -أبو وكيع بن الجراح- وغيرهم، كما سبق ذلك في تخريج الحديث، وعلى هذا فيرتفع عنه الجهالة؛ لأن الجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعداً. انظر: نصب الراية 1/ 138.
العلة الثانية: جهالة أبي زيد المخزومي مولى عمرو بن حريث الذي يروي عن ابن مسعود:
قال الترمذي في سننه ص 32: (وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث، لا تعرف له رواية غير هذا الحديث).
وقال البخاري: (أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف القرآن). وقال أبو زرعة: (حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح وأبو زيد رجل مجهول). وقال أبو حاتم: (لم يلق أبو زيد عبد الله). وقال ابن حبان: (أبو زيد شيخ يروى عن ابن مسعود ليس يدرى من هو، ولا يعرف أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإحماع والقياس استحق مجانبة ما رواه).
وقال غير واحد من أهل العلم: أن أبا زيد مجهول، حتى قال ابن عبد البر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول، وحديثه منكر. انظر: التنقيح 1/ 43؛ نصب الراية 1/ 138؛ ميزان الاعتدال 4/ 526؛ التهذيب 12/ 91، 92، التقريب 2/ 403.
ومع هذا فقد ذكر ابن العربي في عارضة الأحوذي 1/ 128، أن أبا زيد هذا روى عنه راشد بن كيسان وأبو روق.
وقد سبق أن الجهالة تزول برواية اثنين فصاعداً. وانظر: اللباب للمنبجي 1/ 53؛ البناية للعيني 1/ 469.
لكن الحديث هذا ضعفه غير واحد من أهل العلم: قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي: لا يصح. وقال ابن المنذر: ليس بثابت. وقال ابن عبد البر: منكر. وقال ابن عبد الهادي: وحكى بعضهم الإجماع على ضعفه. انظر: التنقيح 1/ 43؛ نصب الراية 1/ 138؛ التهذيب 12/ 91، 92.
وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 127: (ضعيف باتفاق المحدثين) وقال في المجموع 1/ 141: (ضعيف بإجماع المحدثين). وقال ابن حجر في الفتح 1/ 422: (وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه).
العلة الثالثة: إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن: ففي صحيح مسلم 2/ 127، من كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، ح (450) (150) عن علقمة قال: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا،
…
) ثم في الحديث الذي بعده: (عن علقمة عن عبد الله قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووددت أني كنت معه).
لكن جاءت روايات كثيرة ومن غير طريق واحد عن ابن مسعود تفيد شهوده مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، ومن ذلك:
ما رواه الإمام أحمد في المسند 6/ 332، من طريق عمرو البكالي عن عبد الله بن مسعود، قال عمرو: إن عبد الله قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانطلقنا حتى أتيت مكان كذا وكذا، فخط لي خِطَّة فقال:«كن بين ظهري هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت» الحديث. ورجاله ثقات، إلا أن عمروا البكالي لم يعرف بالسماع من ابن مسعود، وقد اختلف في صحبته، قال ابن حجر في تعجيل المنفعة ص 347: (عمرو البكالي بكسر الموحدة وتخفيف الكاف يكنى أبا عثمان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن ابن مسعود أيضاً، روى عنه أبو عبد الله الهجيمي ومعدان بن أبي طلحة، قال البخاري: له صحبة، وذكره في الصحابة خليفة وابن البرقي وغيرهما- إلى أن قال: -وقد سمى ابن السكن أباه عبد الله-إلى أن قال: -قلت: وفي مسند البزار حديث صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 264 - بعد ذكر هذا الحديث-: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير عمرو البكالي، وذكره العجلي في ثقات التابعين وابن حبان وغيره في الصحابة).
ومنها: ما رواه الترمذي في سننه ص 439، كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده، عن طريق جعفر بن ميمون التميمي، عن ابن مسعود قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطاً ثم قال: «لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك» قال: ثم مضي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورة ولا قشراً وينتهون إليّ ثم لا يجاوزون الخط، ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
) الحديث. قال الترمذي: (حديث حسن صحيح) وكذلك قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (حسن صحيح).
وفي سنده جعفر بن ميمون التميمي: قال أحمد: ليس بقوي في الحديث، وكذلك قال: أخشى أن يكون ضعيفاً، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال مرة: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الحاكم: هو من ثقات البصريين. وذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 418؛ التهذيب 2/ 98؛ التقريب 1/ 164.
ومنها: ما رواه الحاكم في المستدرك 2/ 547، من طريق أبي عثمان ابن سنة الخزاعي أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل) فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته
…
» الحديث. وكذلك أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان 11/ 299، و أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة 2/ 473، والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 230، والمزي في تهذيب الكمال 34/ 67، كلهم عن طريق الزهري عن أبي عثمان بن سنة به.
قال الحاكم: وقد روي حديث تداوله الأئمة الثقات عن رجل مجهول عن عبد ا لله بن مسعود أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فذكره. وقال الذهبي في التلخيص:(هو صحيح عند جماعة).
وفي سنده أبو عثمان بن سنة، قال الذهبي في الميزان 4/ 549:(أبو عثمان بن سنة الخزاعي عن ابن مسعود في ليلة الجن ما أعرف روى عنه غير الزهري). وقال ابن حجر: مقبول ووهم من زعم أن له صحبة، وقال: روى عن ابن مسعود وعلي ابن أبي طالب، وروى عنه الزهري. انظر: تهذيب التهذيب 12/ 154؛ التقريب 2/ 434.
ومنها: ما قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 143: (طريق آخر رواه الطحاوي في كتابه: حدثنا يحيى بن عثمان ثنا أصبغ بن الفرج وموسى بن هارون البردي، قالا: ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن مسعود قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز فخط خطاً وأدخلني فيه، وقال لي: «لا تبرح حتى أرجع إليك» ثم أبطأ فما جاء حتى السحر، وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء، فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إلى الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هو أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي» قال الطحاوي: ما علمنا لأهل الكوفة حديثاً يثبت أن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن مما يقبل مثله إلا هذا).
ويظهر من تتبع طرق حديث شهود ابن مسعود ليلة الجن أن الأحاديث في ذلك نوعان: نوع ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. ونوع فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. والتي ليس فيها ذكر الوضوء بالنبيذ أقوى بالنسبة إلى التي فيها ذكر الوضوء بالنبيذ. كما أن النوعين بمجموعهما يعضد بعضها البعض، ويؤيد أن لها أصلاً؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بينها وبين ما روي عن ابن مسعود من طرق صحيحة أنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وذهبوا إلى الجمع بينهما بما يلي:
1 -
أن ابن مسعود كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن إلا أنه لم يكن معه حال مخاطبته الجن، فيحمل ما روي أنه لم يكن معه ليلة الجن على حال المخاطبة.
2 -
أن معنى ما ورد عن ابن مسعود أنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منا، معناه: أنه لم يكن معه أحد منا غيري. وهذا مصرح به في رواية الحاكم.
3 -
أن ليلة الجن تكررت فلم يكن ابن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعضها، وكان شهد في بعضها.
لكن ذكر الوضوء بالنبيذ ورد في التي تدل على أنها كانت بمكة وقبل الهجرة، فيكون آية التيمم بعده. انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني 2/ 471؛ دلائل النبوة للبيهقي 2/ 230؛ نصب الراية 1/ 139؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 167 - 169؛ البناية شرح الهداية للعيني 1/ 471.
والطريق الأولى لحديث ابن مسعود وما ذكر بعدها وكذلك الطرق التالية، كلها مما تفيد شهوده ليلة الجن.
ب- عن ابن مسعود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن خط حوله، فكان يجيء أحدهم مثل سواد النخل وقال لي:«لا تبرح مكانك» فأقرأهم كتاب الله عز وجل. فلما رأى الزط، قال: كأنهم هؤلاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أمعك ماء؟»
قلت: لا، قال:«أمعك نبيذ؟» قلت: نعم، فتوضأ به)
(1)
.
ج- عن عبد الله بن مسعود أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أمعك ماء؟» قال: معي نبيذ في إداوة، فقال:«أصبب علي» فتوضأ. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن مسعود، شراب وطهور»
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 7/ 367، - من طريق علي بن زيد-، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 95، والدارقطني في سننه 1/ 77، بالسند المذكور، ثم قال الدارقطني:(علي بن زيد ضعيف وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة). قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 141: (قال الشيخ تقي الدين في (الإمام): وهذا الطريق أقرب من طريق أبي فزارة، وإن كان طريق أبي فزارة أشهر، فإن علي بن زيد وإن ضعف فقد ذكر بالصدق، قال: وقول الدارقطني: وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه فإن أبا رافع الصائغ جاهلي إسلامي، قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب:(هو مشهور من علماء التابعين) وقال في الاستيعاب: (لم ير النبي صلى الله عليه وسلم فهو من كبار التابعين اسمه نفيع كان أصله من المدينة ثم انتقل إلى البصرة، روى عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود -إلى أن قال: -عظم روايته عن عمر وأبي هريرة ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه من جميع الصحابة، اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/ 323، - من طريق ابن لهيعة-وكذلك الدارقطني في سننه 1/ 76، ثم قال:(ابن لهيعة لا يحتج بحديثه)، ثم رواه كذلك من طريق ابن لهيعة نحو لفظ أحمد ثم قال:(تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف في الحديث). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 43: (وأما ابن لهيعة فقد قال أحمد: من مثله بمصر في كثرة حديثه وضبطه، وقال مسلم: تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. وقال أبو زرعة: كان لا يضبط وليس بحجة. وقال ابن معين: ليس بذلك القوي. وقال النسائي: ليس بثقة). وقال ابن حجر في التقريب 1/ 526: (صدوق من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون).
وقال أبو الطيب في التعليق المغني على الدارقطني 1/ 76: (قوله عن ابن عباس عن ابن مسعود أخرجه ابن ماجة من هذه الطريقة مسنداً إلى ابن عباس ولفظه: عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود الحديث، لكن الطبراني في معجمه جعله من مسند ابن مسعود، وكذلك البزار في مسنده، ولفظهما بالإسناد المذكور: عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ وقال: (ماء طهور) قال البزار: هذا لا يثبت؛ لأن ابن لهيعة كانت كتبه قد احترقت، وبقي يقرأ من كتب غيره فصار في أحاديثه مناكير، وهذا منها، انتهى).
د- عن ابن مسعود يقول: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فأتاهم فقرأ عليهم القرآن، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليل:«أمعك ماء يا ابن مسعود؟» قلت: لا، والله يا رسول الله إلا إداوة فيها نبيذ فقال رسول الله:«تمرة طيبة وماء طهور» فتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
هـ- عن ابن مسعود قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذ معك إداوة من ماء ثم انطلق وأنا معه» ، فذكر حديثه ليلة الجن فلما أفرغت عليه من الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: يا رسول الله أخطأت بالنبيذ فقال: «تمرة حلوة
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 77، - من طريق الحسين بن عبيد الله- ثم قال:(الحسين بن عبيد الله هذا يضع الحديث على الثقات).
وماء عذب»
(1)
.
و-عن عبد الله بن مسعود يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بوضوء، فجئته بإداوة فإذا فيها نبيذ، فتوضأ رسول الله»
(2)
.
ز- عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمعك ماء؟) قلت: لا، إلا نبيذ في إداوة، قال:(تمرة طيبة وماء طهور) فتوضأ»
(3)
.
ح- عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «هل معك من وَضوء للصلاة؟»
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 78، - من طريق الحسن بن قتيبة- ثم قال: تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس عن أبي إسحاق. والحسن بن قتيبة ومحمد بن عيسى ضعيفان).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 78، - من طريق فلان بن غيلان الثقفي- ثم قال: الرجل الثقفي الذي رواه عن ابن مسعود مجهول، قيل اسمه: عمرو، وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان). وأخرجه الطبري في جامع البيان 11/ 298، عن طريق يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود: حدثت أنك كنت مع رسول الله ليلة وفد الجن، قال: أجل
…
) وقال الزيلعي في نصب الرابة 1/ 142: (ورواه أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طريق الطبراني بسنده إلى معاوية عن عمرو بن غيلان).
(3)
قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 143: (طريق آخر رواه ابن عدي في الكامل من حديث أبي عبد الله الشقري عن شريك القاضي، عن أبي زائدة عن ابن مسعود فذكره، ثم قال: وهذا الإسناد شوشه أبو عبد الله الشقري عن شريك، فلا أدري من قبله أم من قبل شريك، فإن جماعة كالثوري وإسرائيل وعمرو بن أبي قيس وغيرهم رووه عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود، وهذه الرواية الصحيحة، وأبو زيد رجل مجهول، والحديث ضعيف به انتهى كلامه).
قلت: معي إداوة فيها نبيذ، قال:«تمرة طيبة وماء طهور» قال: (أصبب علي»
(1)
.
خامساً: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعودليلة الجن: «معك ماء؟» قال: لا، إلا نبيذ في سطيحة
(2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمرة طيبة وماء طهور، صب عليّ» قال: فصببت عليه فتوضأ به)
(3)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة 2/ 471، عن طريق الواقدي قال: حدثني عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس عن أبيه قال: قدم نفر من الجن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى نزلوا بأعلى مكة -إلى أن قال: -قال عمران بن أبي أنس: خرج حتى إذا كان بالحجون خط له رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: (قف هاهنا حتى أرجع- فذكره، وفيه الواقدي: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي، قال: أحمد بن حنبل: هو كذاب. وقال البخاري وأبو حاتم: متروك، وقال أبو حاتم أيضاً والنسائي وإسحاق بن راهوية: يضع الحديث. وقال الدارقطني: فيه ضعف، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وقال الذهبي: أحد أوعية العلم على ضعفه، وقال ابن حجر: متروك مع سعة علمه. ووثقه جماعة منهم: محمد بن إسحاق الصغاني، ويزيد بن هارون وأبو عبيد. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 662 - 665؛ التقريب 2/ 117.
(2)
السطيحة: بكسر الطاء، المزادة. انظر: مختار الصحاح ص 262؛ المصباح المنير ص 276.
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 85، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (385)، والدارقطني في سننه 1/ 76. وفي سنده ابن لهيعة، وقد سبق الكلام عليه في الطريق الثالث لرواية ابن مسعود.
سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الخبر الذي ذُكر فيه الوضوء بالنبيذ متقدم؛ لأن قصة الجن كانت بمكة في أول الإسلام، فيكون منسوخاً بآية المائدة التي فُرض فيها التيمم؛ لتأخرها إذ هي مدنية بلا خلاف، كما أن
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 75، وقال:(ووهم فيه المسيب بن واضح في موضعين: في ذكر ابن عباس، وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف فيه على المسيب) ثم ذكره موقوفاً من طريق المسيب ثم قال: (والمحفوظ أنه من قول عكرمة غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى ابن عباس والمسيب ضعيف). ثم ذكر في 1/ 76، من طريق عبد الباقي بن قانع، نا السري بن سهل الجنديسابوري، نا عبد الله بن رشيد، نا أبو عبيدة مجاعة عن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد النبيذ فليتوضأ به) ثم قال: أبان هو ابن أبي عياش متروك الحديث، مجاعة ضعيف، والمحفوظ أنه من رأي عكرمة غير مرفوع). وكذلك أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 19، حديث ابن عباس من طريق المسيب بن واضح ثم قال:(فهذا حديث مختلف فيه على المسيب بن واضح، وهو واهم فيه في موضعين: في ذكر ابن عباس وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ أنه قول عكرمة غيرمرفوع، هكذا رواه هقل بن الزياد والوليد بن مسلم عن الأوزاعي، -إلى أن قال: -ورواه عبد الله بن محرر عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس من قول ابن عباس، وعبد الله بن المحرر متروك. وروي بإسناد ضعيف عن أبان بن أبي عياش عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً، وأبان متروك). وقال النووي في المجموع 1/ 142: (وأما حديث ابن عباس والآثار عنه وعن علي وغيرهما فكلها ضعيفة واهية).
الأحاديث التي فيها ذكر التيمم عند عدم الماء كانت بعد الهجرة
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الوضوء بنبيذ التمر- غير المسكر- على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر مسكرًا أو غير مسكر، وإذا لم يجد الشخص الماء المطلق يتيمم، ولا يجزيه غير ذلك.
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة- قيل هي قوله الأخير الذي استقر عليه قوله، وأنه رجع عن غير ذلك
(2)
.
وبه قال أبو يوسف وزفر
(3)
من أصحابه، واختاره الطحاوي، ورجحه المحققون من
علماء الأحناف
(4)
.
(1)
انظر: الأصل 1/ 75؛ المبسوط 1/ 88؛ شرح العمدة 1/ 61؛ فتح القدير 1/ 119؛ البحر الرائق 1/ 145.
(2)
انظر: الأصل 1/ 75؛ المبسوط 1/ 88؛ البدائع 1/ 95؛ المحيط البرهاني 1/ 144؛ فتح القدير 1/ 120؛ اللباب للمنبجي 1/ 54.
(3)
هو: زفر بن الهذيل بن قيس العنبري البصري، صاحب أبي حنيفة، أحد الفقهاء والعباد، صدوق، وثقه ابن المعين، وقال عنه أبو حنيفة:(هو أقيس أصحابي) وتولى قضاء البصرة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة. انظر:
الفهرست ص 343؛ الجواهر المضية 2/ 207؛ ميزان الاعتدال 2/ 261.
(4)
انظر: الأصل 1/ 75؛ الأوسط 1/ 255؛ شرح معاني الآثار 1/ 95، 96؛ مختصر الطحاوي ص 15؛ المبسوط 1/ 88؛ فتح القدير 1/ 119؛ البحر الرائق 1/ 144؛ الدر المختار 1/ 292، 298؛ حاشية ابن عابدين 1/ 292.
وهو كذلك مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
وبه قال عطاء ابن أبي رباح، وأبو العالية
(4)
، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود الظاهري، وابن المنذر وابن حزم.
وهو رواية عن الحسن البصري، وسفيان الثوري
(5)
.
القول الثاني: أنه يجوز الوضوء بنبيذ التمر عند عدم الماء.
(1)
انظر: المدونة 1/ 4؛ الأوسط 1/ 252؛ المعونة 1/ 94؛ الكافي ص 15؛ بداية المجتهد 1/ 68.
(2)
انظر: مختصر المزني ص 7؛ الأوسط 1/ 253؛ المهذب 1/ 41؛ التعليقة للقاضي حسين 1/ 203؛ المجموع 1/ 139.
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية إسحاق 1/ 315؛ مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 1/ 22؛ الأوسط 1/ 253؛ الإرشاد لابن أبي موسى ص 20؛ المغني 1/ 18؛ الكافي 1/ 12؛ الفروع 1/ 56.
(4)
هو: رفيع-بالتصغير-بن مهران أبوا العالية الرياحي مولاهم، البصري، ثقة، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وروى عن علي وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: خالد الحذاء، وقتادة، وغيرهما، وتوفي سنة تسعين، وقيل بعد ذلك. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 54؛ التهذيب 3/ 253 - 254؛ التقريب 1/ 303.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 179؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 32؛ الأوسط 1/ 253، 254؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 129؛ المحلى 1/ 195؛ بداية المجتهد 1/ 68؛ المجموع 1/ 139، 140؛ فتح الباري 1/ 421، 422.
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة
(1)
، وقول عكرمة، والأوزاعي، وإسحاق بن راهوية، ورواية عن الحسن البصري، وسفيان الثوري
(2)
.
وروي ذلك عن علي
(3)
، وابن عباس
(4)
رضي الله عنهما-لكنه لا يصح
(5)
.
(1)
انظر: الأصل 1/ 75؛ مختصر الطحاوي ص 15؛ المبسوط 1/ 88؛ الهداية 1/ 118؛ فتح القدير 1/ 120؛ البحر الرائق 1/ 144.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 32؛ سنن الترمذي ص 32؛ مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية 1/ 316؛ الأوسط 1/ 254، 255؛ المغني 1/ 18؛ المجموع 1/ 140؛ فتح الباري 1/ 421، 422.
(3)
رواه عنه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 32، وابن المنذر في الأوسط 1/ 255، والدارقطني في سننه 1/ 79، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 19، وفي سنده الحارث الأعور، وهو ضعيف، وقد سبق الكلام عليه في المطلب السابق في الكلام على ما رواه عن علي في الوضوء بفضل وضوء المرأة. وانظر كذلك السنن الكبرى للبيهقي 1/ 19، والتعليق المغني على سنن الدارقطني 1/ 79. وكذلك أخرجه الدارقطني من طريق وكيع عن أبي ليلى الخراساني، وابن حزم في المحلى 1/ 197 من طريق عبد الله بن ميسرة. وعبد الله بن ميسرة هو ابن أبي ليلى ويقال له أبو إسحاق الكوفي، وهو متروك، وضعفه يحيى بن معين والنسائي وابن حجر. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 19؛ ميزان الاعتدال 1/ 511؛ التهذيب 6/ 45؛ التقريب 1/ 539.
(4)
رواه عنه الدارقطني في سننه 1/ 76، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 19، وفي سنده عبد الله بن المحرر، وهو متروك الحديث، قاله الدارقطني والبيهقي.
(5)
قال ابن المنذر في الأوسط 1/ 254: (وقد روينا عن علي بإسناد لا يثبت أنه كان لا يرى بأساً بالوضوء بالنبيذ). وقال النووي في المجموع 1/ 142: (وأما حديث ابن عباس والآثار عنه، وعن علي وغيرهما فكلها ضعيفة واهية). وقال ابن حجر في الفتح 1/ 422: (وروي عن علي وابن عباس ولم يصح عنهما).
القول الثالث: أنه إذا لم يجد الماء يتوضأ بالنبيذ، ويجب مع ذلك أن يتيمم.
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة، وقول محمد بن الحسن من أصحابه
(1)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جواز الوضوء بالنبيذ، ومن لم يجد الماء تيمم- بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ غير حديثي ابن مسعود، وابن عباس-رضي الله عنهما.
ووجه الاستدلال منها هو: أن الآية الكريمة فيها دلالة ظاهرة بأن الله تعالى افترض الطهارة بالماء، وبالصعيد لمن لم يجد الماء، فنقل الحكم من الماء المطلق عند عدمه إلى التراب، وإذاً فليس يجوز طهارة إلا بالماء، أو الصعيد إذا لم يجد الماء. وجاء حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالدلالة على ذلك، فمن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به
(2)
.
ويدل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه؛ حيث إن الرجل لما قال:
(1)
انظر: الأصل 1/ 75؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 129؛ المبسوط 1/ 88؛ المحيط البرهاني 1/ 154؛ فتح القدير 1/ 120.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 257؛ بدائع الصنائع 1/ 95؛ المغني 1/ 19؛ المجموع 1/ 140.
(أصابتني جنابة ولا ماء) قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» . فلو كانت الطهارة تجزئ بغير الماء لقال له: اطلب نبيذ كذا، أو شراب كذا، فدل ظاهرالكتاب والسنة أن الوضوء لا يجزئ إلا بالماء، ومن لم يجد تيمم بالصعيد
(1)
.
دليل القول الثاني:
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما.
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إنها تدل على جواز الوضوء بالنبيذ، وإلا لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم به
(2)
.
واعترض عليه: بأن الكتاب والسنة الصحيحة يدلان على أن من لم يجد الماء يتيمم، وواجد النبيذ غير واجد للماء؛ لأن اسم الماء لا يقع على ما غلب عليه غير الماء حتى تزول عنه جميع صفات الماء
(3)
.
أما ما ورد في الوضوء بالنبيذ ففي ثبوته وصحته نظر؛ حيث إن جماعة
(1)
انظر: الأوسط 1/ 257.
(2)
انظر: الأوسط 1/ 256؛ شرح معاني الآثار 1/ 95؛ المبسوط 1/ 88؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 39؛ المجموع 1/ 140؛ فتح الباري 1/ 422.
(3)
انظر: المحلى 1/ 195؛ المهذب 1/ 41؛ بدائع الصنائع 1/ 95؛ المغني 1/ 19؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1/ 292.
من المحدثين ضعفوه حتى حكى بعضهم الاتفاق على ذلك
(1)
.
وأما القول بأن النبيذ ماء شرعاً لحديث: (وماء طهور) فأطلق عليه أنه ماء
(2)
.
فيقال: قد سبق أن ما ورد في ذلك فهو ضعيف فلا تقوم به حجة.
وعلى تقدير صحته فيقال:
1 -
إن المراد بذلك: ماء نبذت فيه تمرات يابسة، ليعذب، ولم تغير له وصفاً؛ بدليل أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تمرة طيبة وماء طهور» فوصف شيئين ليس النبيذ واحداً منهما
(3)
.
2 -
أنه إن صح فمنسوخ بآية التيمم؛ لأن ذلك كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة بلا خلاف
(4)
.
دليل القول الثالث:
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب الجمع بين الوضوء بالنبيذ وبين التيمم- بأدلة القول الأول، وأدلة القول الثاني.
ووجه الاستدلال منهما هو: أن أدلة القول الأول توجب التيمم، وأدلة
(1)
راجع تخريج هذه الأحاديث، وانظر: المجموع 1/ 141؛ فتح الباري 1/ 422.
(2)
انظر: المبسوط 1/ 88.
(3)
انظر: المجموع 1/ 141؛ شرح العمدة 1/ 61؛ فتح الباري 1/ 422.
(4)
انظر: الأصل 1/ 75؛ الهداية 1/ 118؛ شرح العمدة 1/ 61؛ فتح القدير 1/ 119؛ فتح الباري 1/ 422.
القول الثاني توجب الوضوء بالنبيذ، فيجمع بينهما احتياطاً، ولا يقال بالنسخ؛ لعدم معرفة التاريخ
(1)
.
واعترض عليه: بأن آية التيمم صريحة في التيمم عند عدم الماء، وخبر النبيذ ضعيف فلا يقوم به حجة، وعلى تقدير صحته فلا خلاف في أن ذلك كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة فكيف يقال بعدم معرفة المتأخر منهما؟
(2)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي- والعلم عند الله تعالى- أن الراجح هو القول الأول، وهو أن من لم يجد الماء يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ؛ وذلك:
1 -
لأن ظاهر الكتاب والسنة يدل على أن الوضوء لا يجزئ إلا بالماء، ومن لم يجده تيمم بالصعيد الطيب
(3)
.
2 -
ولأن ما ورد في الوضوء بالنبيذ كل طرقها فيها
(1)
انظر: المبسوط 1/ 88؛ الهداية 1/ 119؛ العناية 1/ 199.
(2)
انظر: الأصل 1/ 75؛ الهداية 1/ 118؛ شرح العمدة 1/ 61؛ فتح القدير 1/ 119؛ فتح الباري 1/ 422. وقال ابن الهمام في فتح القدير 1/ 119: (قوله: (والحديث مشهور) نظر فيه، إذا المشهور ما كان أحاداً في الأصل ثم تواتر عند المتأخرين، وليس هذا كذلك، بل تكلم فيه كثير من المتأخرين، وإن لم يصح كلامه فوجب تصحيح الرواية الموافقة لقول أبي يوسف؛ لأن آية التيمم ناسخة له؛ لتأخرها إذ هي مدنية وعلى هذا مشى جماعة من المتأخرين).
(3)
انظر: الأوسط 1/ 257.
كلام، إما لضعف راو فيها، أو لجهالته، ولذلك جزم غير واحد من أهل العلم من المحدثين والفقهاء بضعف كل ما ورد فيه
(1)
.
3 -
إن صح خبر الوضوء بالنبيذ فيكون منسوخاً بآية التيمم؛ لأن ذلك كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة بلا خلاف، فتكون ناسخة له
(2)
.
والله أعلم.
(1)
راجع طرق هذه الأحاديث والكلام عليها في دليل القول بالنسخ. وانظر: الأوسط 1/ 256؛ شرح معاني الآثار 1/ 95؛ مختصر سنن أبي داود للمنذري 1/ 82؛ المجموع 1/ 141؛ فتح الباري 1/ 422؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 119.
(2)
انظر: الأصل 1/ 75؛ الهداية 1/ 118؛ شرح العمدة 1/ 61؛ فتح القدير 1/ 119؛ فتح الباري 1/ 422.
والأحاديث التي ذكر فيها قدوم وفد الجن والوضوء بالنبيذ فيها صراحة بأنها كانت بمكة، وقد ذكر أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة 2/ 470 - 473، عن طريق الواقدي -وهو متروك-أنه قدم عليه الجن الحجون-شعب بمكة-في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة، وأنهم كانوا ثلاثمائة، وكان ذلك بعد ما انصرف من استمع منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نصيبين من بطن نخلة، فجاؤوا إلى قومهم منذرين، فخرجوا وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما ذكر البيهقي في دلائل النبوة 2/ 231 - 232، عن طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون، فخط علي خطاً .. ) ثم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه قرأ عليهم -أي الجن-بشعب يقال له: الحجون). فهذا كله يدل على أن ذلك كان بمكة قبل الهجرةوالله أعلم.
المطلب الخامس: الوضوء لكل صلاة
أجمع أهل العلم على وجوب الوضوء لمن قام إلى الصلاة وهو على غير وضوء إذا وجد السبيل إليه
(1)
.
وذهب أبو عوانة
(2)
، وابن شاهين
(3)
، والحازمي
(4)
، إلى أن وجوب الوضوء لكل صلاة قد نسخ، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه
(5)
.
وقد تبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف الفقهاء فيها؛ وذلك لأن من قال بالنسخ في هذه المسألة رأى أن الأدلة الدالة على الوضوء لكل صلاة قد نسخت بالأحاديث الدالة على جواز الصلوات بوضوء واحد، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو الأحاديث الواردة في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لكل صلاة، والأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلوات بوضوء
(1)
انظر: الأوسط 1/ 107؛ التمهيد 1/ 277.
(2)
انظر: مسند أبي عوانة 1/ 198.
(3)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 179.
(4)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 169، 170. وقال ابن كثير في تفيسره 2/ 21:(وقد قيل: إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجباً في ابتداء الإسلام ثم نسخ). وقال الشوكاني في نيل الأوطار 1/ 204: (وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ). وانظر: شرح معاني الآثار 1/ 43؛ فتح الباري 1280؛ عمد القاري 3/ 113.
(5)
قال ابن عبد البر في التمهيد 1/ 277: (وقال ابن عمر: هذا أمر من الله لنبيه والمؤمنين، ثم نسخ بالتخفيف).
واحد في مواطن كثيرة، وكذلك الخلاف في تأويل آية الوضوء، وهل المعنيُّ بها كل قائم إلى الصلاة مطلقاً أم المراد بها المحدثون فقط
(1)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة» قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: (يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث)
(2)
.
ثانياً: عن سويد بن النعمان
(3)
رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء
(4)
صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما صلى دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا وشربنا، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ»
(5)
.
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 54 - 58؛ جامع البيان 6/ 110 - 114؛ شرح معاني الآثار 1/ 41 - 44؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 78 - 81؛ المجموع 1/ 495، 496؛ مجموع الفتاوى 21/ 367 - 377؛ فتح الباري 1/ 280.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 50، كتاب الوضوء، باب الوضوء من غير حدث، ح (214).
(3)
هو: سويد بن النعمان بن مالك الأوسي الأنصاري، صحابي، شهد أحداً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه بشير بن يسار. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 254؛ التقريب 1/ 405.
(4)
الصهباء: موضع على روحة من خيبر في جنوبها، وهو اليوم جبل (عطورة) يشرف على بلدة (الشُريف). انظر: معجم البلدان 3/ 211؛ أطلس الحديث النبوي ص 240.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 50، كتاب الوضوء، باب الوضوء من غير حدث، ح (215).
ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال:«عمداً صنعته يا عمر»
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 72، كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، ح (277)(86).
(2)
هو: عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب الأنصاري، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه قيس بن سعد، وابن أبي مليكة، وغيرهما، وقتل في وقعة الحرة سنة ثلاث وستين. انظر: تاريخ خليفة ص 238؛ التهذيب 5/ 172.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 12، كتاب الطهارة، باب السواك، ح (48)، والإمام أحمد في المسند 36/ 291 - واللفظ له- والإمام البخاري في التاريخ الكبير 5/ 67، ولفظه:(عن عبد الله بن حنظلة قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر) وفي ص 68 بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء ثم ترك بعد).
وأخرجه بنحو لفظ أحمد ابن خزيمة في صحيحه 1/ 11، وابن جرير في تفسيره 6/ 113، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 43، والجصاص في أحكام القرآن 2/ 415، والحاكم في المستدرك 1/ 258، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 61. قال الحاكم:(حديث صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 1/ 40: (في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار، وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بحديثه). وقال ابن كثير في تفسيره 2/ 22، بعد ذكر الحديث عن طريق الإمام أحمد:(وأياً ما كان فهو إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع عن محمد بن يحيى بن حبان فزال محذور التدليس). وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 377: (أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة).
خامساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقربت له شاة مصلية
(1)
، قال: فأكل وأكلنا، ثم حانت الظهر فتوضأ وصلى، ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل، ثم حانت العصر فصلى ولم يتوضأ»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها على النسخ هو: أن بعض هذه الأحاديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، وبعضها فيه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بوضوء واحد أكثر من فريضة، وبعضها فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أُمر بالوضوء لكل صلاة، ثم وُضع عنه الوضوء إلا من حدث، فثبت من ذلك كله أن الوضوء لكل صلاة كان أولاً، ثم نُسخ بوضع ذلك إلا من حدث، ويشهد له كذلك حديث بريدة؛ حيث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلوات يوم فتح مكة
(1)
مصلية أي مشوية، يقال: صليت اللحم إذا شويته. انظر: مختار الصحاح ص 323؛ المصباح المنير ص 346.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 42. وقال النووي في المجموع 1/ 496: (رواه الطحاوي بإسناد صحيح على شرط مسلم).
بوضوء واحد، مما يدل على تأخر جواز أكثر من صلاة بوضوء واحد
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الوضوء لكل صلاة على قولين:
القول الأول: لا يجب الوضوء لكل صلاة إذا كان الشخص على وضوء، بل يجوز أن يُّصلي الصلوات بوضوء واحد.
وهو قول أصحاب المذاهب الأربعة
(2)
، وجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين، وحكى بعض أهل العلم أنه مجمع عليه
(3)
.
القول الثاني: أنه يجب الوضوء لكل صلاة، ولو كان الشخص على وضوء.
قال به طائفة من العلماء، ونُقل عن عكرمة وابن سيرين
(4)
.
(1)
انظر: تفسير الطبري جامع البيان 6/ 113؛ شرح معاني الآثار 1/ 43؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 179؛ الاعتبار للحازمي ص 170؛ تفسير ابن كثير 2/ 21؛ فتح الباري 1/ 280.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 44؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 416؛ التمهيد 1/ 279؛ الاستذكار 1/ 194؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 515؛ المجموع 1/ 495؛ المغني 1/ 197؛ مجموع الفتاوى 21/ 373.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 57 - 58؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 34؛ الأوسط 1/ 109؛ شرح معاني الآثار 1/ 44؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 179؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 416؛ التمهيد 1/ 277 - 279؛ المجموع 1/ 495؛ المغني 1/ 197؛ مجموع الفتاوى 21/ 371.
(4)
انظر: مصنف عبدالرزاق 1/ 57، 58؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 35؛ شرح معاني الآثار 1/ 41؛ تفسير القرطبي 6/ 78؛ المجموع 1/ 495؛ مجموع الفتاوى 21/ 370؛ فتح الباري 1/ 378؛ نيل الأوطار 1/ 204.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول- وهو جواز صلوات عديدة بوضوء واحد- بالأدلة التي سبقت في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأحاديث بعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أكثر من صلاة واحدة بوضوء واحد، وبعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أصحابه على ذلك، فثبت بذلك كله أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة إلا إذا كان الشخص محدثاً
(1)
.
دليل القول الثاني:
ويستدل للقول الثاني -وهو وجوب الوضوء لكل صلاة - بما يلي:
(2)
.
فهذه الآية عامة، وهي بإطلاقها تشمل من كان متطهراً ومن كان غير
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 42؛ التمهيد 1/ 277، 278؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 515؛ المجموع 1/ 496؛ المغني 1/ 197؛ مجموع الفتاوى 21/ 373.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
متطهر، فيجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة ولو كان على وضوء
(1)
.
ويعترض عليه: بأن معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله، وبتقريره أصحابه على ذلك
(2)
.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة»
(3)
.
ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يتوضأ لكل صلاة»
(4)
.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فقدم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة»
(5)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث بعضها يدل على
(1)
انظر: جامع البيان 6/ 112؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 78؛ المجموع 1/ 495؛ مجموع الفتاوى 21/ 370؛ فتح الباري 1/ 280.
(2)
انظر: تفسير الطبري 6/ 110؛ المجموع 1/ 496؛ مجموع الفتاوى 21/ 371.
(3)
سبق تخريجه في أدلة القول الأول ص 252.
(4)
أخرجه الطحاوي في شرح معانى الآثار 1/ 41.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 568، كتاب الأطعمة، باب غسل اليدين عند الطعام، ح (3760)، والترمذي في سننه ص 425، كتاب الأطعمة، باب ترك الوضوء قبل الطعام، ح (1847)، والنسائي في سننه ص 30، كتاب الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة، ح (133)، والإمام أحمد في المسند 4/ 335، و 5/ 372؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 70، والجصاص في أحكام القرآن 2/ 415. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 425.
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، وبعضها يدل على أنه أُمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، فثبت من ذلك كله وجوب الوضوء لكل صلاة
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث أنس وبريدة رضي الله عنهما فيهما بيان غالب أحواله صلى الله عليه وسلم، بدليل حديث سويد بن النعمان وحديث بريدة-وقد سبقا في دليل القول بالنسخ-، ثم قول أنس رضي الله عنه (يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث) يدل على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهو مما يدل على عدم وجوب الوضوء لكل صلاة.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنه فالاستدلال منه كالاستدلال من الآية الكريمة، وقد سبق أن المراد بذلك إذا كان محدثاً، بدليل الأحاديث الأخرى، وبتقرير النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات عديدة ما لم يحدثوا. وعلى تقدير أن الأمر فيه يعم المحدثين والمتوضئين فيكون منسوخاً بحديث عبد الله بن حنظلة؛ حيث يدل على وضع الوضوء إلا من حدث
(2)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي -والعلم عند الله تعالى- أن الراجح هو القول الأول، وهو جواز صلوات عديدة بوضوء
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 41؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 175، 179؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 415؛ تفسير ابن كثير 2/ 22.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 43، 45؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 415؛ التمهيد 1/ 279؛ تفسير القرطبي 6/ 81؛ المجموع 1/ 496؛ فتح الباري 1/ 280.
واحد، وعدم وجوب الوضوء إلا من الحدث؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، تحتمل الوجوب، وتحتمل الندب والاستحباب، وحملها على الاستحباب أولى؛ بدلالة الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلوات عديدة بوضوء واحد، وبذلك يُجمع بين هذه الأحاديث كلها، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، فيكون وضوءه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة للاستحباب، وفعله صلوات عديدة بوضوء واحد لبيان الجواز، ويكون مجموع الفعلين بياناً لمراد الآية
(1)
.
ثانياً: أن الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إن حملت على الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلوات بوضوء واحد، كحديث سويد بن النعمان، وحديث بريدة، وعبد الله بن حنظلة-رضي الله عنهم؛ حيث أنها متأخرة، ثم حديث عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه صريح في ذلك؛ حيث ذكر فيه وضع الوضوء بعد الأمر به إلا من حدث
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: تفسير الطبري 6/ 114؛ شرح معاني الآثار 1/ 42؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 416؛ التمهيد 1/ 279؛ تفسير ابن كثير 2/ 21، 22؛ فتح الباري 1/ 378.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 43؛ الاعتبار ص 170؛ تفسير ابن كثير 2/ 21، 22؛ فتح الباري 1/ 280.
المطلب السادس: ذكر الله تعالى بغير وضوء
لا خلاف في استحباب الطهارة لذكر الله تعالى
(1)
.
وذهب الطحاوي، وابن حزم إلى نسخ الأحاديث الدالة على كراهة ذكر الله تعالى على غير وضوء بالأحاديث الدالة على جواز ذلك
(2)
.
وقد تبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف أهل العلم فيها، وذلك لأن بعض أهل العلم ممن قال بجواز ذكر الله تعالى بغير وضوء صار إلى قوله هذا لما رأى أن الأحاديث الدالة على الكراهة وعدم جواز ذكر الله بغير وضوء منسوخة بالأحاديث الدالة على جواز ذكر الله تعالى بغير وضوء.
ولكن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في المسألة في جوازها وكراهتها
(3)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله
(1)
انظر: المحلى 1/ 100؛ الهداية وشرحه العناية 1/ 251، 252؛ منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 1/ 211؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 283.
(2)
ونسبه ابن رشد إلى الجمهور. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 89، 90؛ المحلى 1/ 100؛ بداية المجتهد 1/ 89.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 85، 87، 90؛ المحلى 1/ 101؛ بداية المجتهد 1/ 88، 89؛ نيل الأوطار 1/ 211.
تعالى على كل أحيانه»
(1)
.
ثانياً: عن عبادة بن الصامت
(2)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ
(3)
من الليل فقال: لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، و سبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته»
(4)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة عليك بليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 177، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، ح (373)(117).
(2)
هو: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد المدني، أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: جابر، وأبو أمامة، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وثلاثين، وقيل بعدها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 294؛ التهذيب 1/ 599؛ التقريب 1/ 47.
(3)
تعارَّ أي هب من نومه، واستيقظ. انظر: لسان العرب 2/ 35؛ مجمع بحار الأنوار 1/ 266.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 227، كتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى، ح (1154).
كسلان»
(1)
.
رابعاً: عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 224، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل، ح (1142)، ومسلم في صحيحه 4/ 97، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الحث على صلاة الوقت وإن قلت، ح (776)(207).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 39، كتاب الطهارة، باب الجنب يقرأ القرآن، ح (229)، والترمذي في سننه -واللفظ له- ص 47، كتاب الطهارة، باب في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً، ح (146)، والنسائي في سننه ص 49، كتاب الطهارة، باب حجب الجنب عن قراءة القرآن، ح (265) و (266)، وابن ماجة في سننه ص 116، كتاب الطهارة، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، ح (594)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 99، والإمام أحمد في المسند 2/ 61، 70، 204، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 104، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 87، والدارقطني في سننه 1/ 119، والحاكم في المستدرك 1/ 253، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 143. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال الحاكم: (حديث صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 139: (وصححه الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه) ثم قال: (وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي في الخلاصة: خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 241: (ضعيف). ثم ذكر كلام الأئمة في عبد الله بن سلمة أحد رواة الحديث ثم قال في 2/ 242: (وخالف هؤلاء الأئمة آخرون، فقال الترمذي: (حديث حسن صحيح) وقال الحاكم (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وصححه ابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر، وتوسط في (الفتح) فقال:(رواه صحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان وضعف بعضهم أحد رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة) هذا رأي الحافظ في الحديث ولا نوافقه عليه).
خامساً: عن علقمة بن الفغواء
(1)
(2)
.
سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنه يقول: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط، وأُتي بطعام فقيل له: ألا توضأ؟ فقال: «لِمَ، أَ أُصلى فأتوضأ؟»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الأحاديث الدالة على جواز ذكر الله
(1)
هو علقمة بن الفغواء - بفاء مفتوحة ومعجمة ساكنة- ويقال: ابن أبي الفغواء- بن عبيد بن عمرو، الخزاعي دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الله. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 391؛ الإصابة 2/ 1291؛ رجال تفسير الطبري جرحا وتعديلا ص 397.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 88، والطبري في جامع البيان 4/ 2902. وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف. قال ابن كثير في تفسيره 2/ 22:(وهو حديث غريب جداً، وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 179، كتاب الحيض، باب جواز أكل المحدث الطعام وأنه لا كراهة في ذلك، ح (374)(119).
تعالى بغير وضوء متأخرة عن الأحاديث التي تدل على كراهة ذكر الله تعالى بغير وضوء، فتكون منسوخة بها، ويدل على تأخرها ما يلي:
أولاً: حديث علقمة رضي الله عنه فإنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول آية الوضوء إذا كان محدثاً لا يكلم ولا يرد السلام، حتى نسخ الله عز وجل ذلك بهذه الآية، فأوجب الطهارة على من أراد الصلاة خاصة
(1)
.
ثانياً: أن ابن عباس وابن عمر-رضي الله عنهما-رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد السلام في حال الحدث، ثم ثبت عنهما أنهما كانا يقرآن القرآن وهما على غير وضوء.
فعن سعيد بن جبير قال: (كان ابن عباس وابن عمر يقرأان القرآن وهما على غير وضوء)
(2)
.
فهذا يدل على أنهما ما فعلا ذلك إلا وقد ثبت النسخ عندهما
(3)
.
ثالثاً: أن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على إباحة ذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل الوضوء، وهي فضيلة، والفضائل لا تنسخ؛ لأنها من نعم الله على عباده، فدل ذلك على تأخر حديث عبادة رضي الله عنه على الأحاديث الدالة على كراهة ذكر الله تعالى بغير
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 88، 89.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 1/ 338، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 99، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 1/ 89.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 89.
وضوء، فتكون منسوخة به
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في جواز ذكر الله تعالى على غير وضوء على قولين:
القول الأول: أنه يجوز ذكر الله تعالى على غير وضوء.
وهو قول الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وروي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وسلمان الفارسي رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، وإبراهيم
(1)
انظر: المحلى 1/ 101.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 86، 87، 90؛ البدائع 1/ 141؛ الهداية 1/ 251؛ المحيط البرهاني 1/ 79؛ العناية شرح الهداية للبابرتي 1/ 252؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 283.
(3)
انظر: بداية المجتهد 1/ 88؛ جامع الأمهات ص 62؛ مواهب الجليل 1/ 342؛ التاج والإكليل 1/ 342.
(4)
انظر: الأم 1/ 117؛ العزيز 1/ 185؛ روضة الطالبين 1/ 197؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 53.
(5)
انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق 2/ 344؛ المغني 1/ 200؛ الشرح الكبير 2/ 110؛ الفروع 1/ 261؛ الإنصاف 2/ 111.
النخعي، وسعيد بن جبير، وابن سيرين
(1)
.
وقال النووي: أجمع المسلمون على ذلك
(2)
.
القول الثاني: أنه لا يجوز ذكر الله تعالى على غير وضوء.
وذهب إلى ذلك قوم من أهل العلم
(3)
.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول-وهو جواز ذكر الله تعالى على غير وضوء- بالأدلة التي سبقت في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها:
أما وجه الاستدلال من حديث عائشة-رضي الله عنها فلأنه يشمل ما إذا كان طاهراً وما إذا كان محدثاً؛ لأنه من جملة الأحيان
(4)
.
وأما حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما-فهما يدلان صراحة على إباحة ذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل الوضوء
(5)
.
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 335 - 341؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 98، 99؛ شرح معاني الآثار 1/ 87.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 53.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 85؛ بداية المجتهد 1/ 88.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 53؛ نيل الأوطار 1/ 211.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 87؛ المحلى 1/ 101.
وأما حديث علي رضي الله عنه فهو يدل على جواز قراءة القرآن على غير وضوء، والقرآن أفضل الذكر
(1)
.
أما حديث علقمة بن الفغواء وابن عباس رضي الله عنهما فهما يدلان على أن الوضوء إنما يراد للصلاة خاصة
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم جواز ذكر الله تعالى على غير وضوء- بما يلي:
أولاً: عن أبي جهيم
(3)
رضي الله عنه قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو ................
بئر جمل
(4)
فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»
(5)
.
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 104؛ نيل الأوطار 1/ 211.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 89، 91؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 55.
(3)
هو: أبو جهيم- بالتصغير- عبد الله بن الحارث بن الصمة بن عمر الأنصاري، وقيل اسمه: الحارث بن الصمة،
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: بشير بن سعيد الحضرمي، ومسلم بن سعيد، وعبد الله بن يسار، وغيرهم. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 156؛ الإصابة 4/ 2186؛ تهذيب التهذيب 12/ 53.
(4)
بئر جمل هو اسم موضع بالمدينة. انظر: معجم البلدان 1/ 239؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 50.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 72، كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، ح (337)، ومسلم في صحيحه 3/ 174، كتاب الحيض، باب التيمم، ح (369)(114).
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً مرَّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلم فلم يرد عليه»
(1)
.
ثالثاً: عن المهاجر بن قنفذ
(2)
رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال:«إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر» أو قال: «على طهارة»
(3)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه، فلما فرغ ضرب بكفيه الأرض فتيمم ثم رد عليه
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 175، كتاب الحيض، باب التيمم، ح (370)(115).
(2)
هو: المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي القرشي، أسلم قديماً، وقيل: يوم الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو ساسان حضين بن المنذر الرقاشي، ولاه عثمان رضي الله عنه شرطته، وتوفي بالبصرة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 98؛ الإصابة 3/ 1895؛ تهذيب التهذيب 10/ 287.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 8، كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول، ح (17)، والنسائي في سننه ص 15، كتاب الطهارة، باب رد السلام بعد الوضوء، ح (38) وابن ماجة في سننه-ولفظه:(قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام فلما فرغ من وضوئه قال: (إنه لم يمنعني من أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء) سنن ابن ماجة ص 79، كتاب الطهارة، باب الرجل يسلم عليه وهو يبول، ح (350)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 85. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1/ 92:(وصححه الحاكم والذهبي والنووي).
السلام»
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إن منها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ذكر الله تعالى إلا على طهر. ومنها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام حتى تيمم ثم رد السلام، فثبت من ذلك عدم جواز ذكر الله تعالى إلا على طهر
(2)
.
ويعترض عليه: بأنه يمكن حمل هذه الأحاديث على الاستحباب بدليل أحاديث الجواز، وجمعاً بين الأدلة كلها. كما أن أدلة الجواز تحتمل كونها ناسخة لها، لما معها ما يدل على تأخرها
(3)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أنه يجوز ذكر الله تعالى بغير وضوء، وذلك:
أ- لورود أحاديث كثيرة صحيحة، تدل على جواز ذكر الله تعالى بغير
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 80، كتاب الطهارة، باب الرجل يسلم عليه وهو يبول، ح (351). قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجة ص 82:(هذا إسناد ضعيف لضعف مسلمة بن علي. قال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال الحاكم: يروي عن الأوزاعي والزبيدي المنكرات والموضوعات).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 85، بداية المجتهد 1/ 89؛ نيل الأوطار 1/ 211.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 88، 89؛ المحلى 1/ 100؛ منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 1/ 211.
وضوء
(1)
.
وقد نقل النووي إجماع الأمة على ذلك
(2)
.
ب-ولأن القول به فيه يسر على عباد الله، وتيسير لتكثيرهم من ذكر الله وتلاوة كتابه، وكلا الأمرين مرغب فيه شرعاً، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(3)
.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
(4)
.
ثانياً: إن القول بأن الأحاديث الدالة على كراهة ذكر الله بغير وضوء منسوخة بالأحاديث الدالة على الجواز، له وجه؛ لأن حديث علقمة بن الفغواء يدل على ذلك، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن حديث ابن عباس يؤيده، وهما بمجموعهما يدلان على أن الوضوء إنما يلزم للصلاة خاصة لا للذكر والطعام وما شابههما
(5)
.
والله أعلم.
(1)
راجع بعض هذه الأحاديث في دليل القول بالنسخ. وانظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 54.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 54.
(3)
سورة البقرة، الآية (185).
(4)
سورة الأحزاب الآية (41، 42).
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 89، 91؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 55.
المطلب السابع: الوضوء للجنب إذا أراد النوم
أجمع أهل العلم على أنه يجوز للجنب أن ينام قبل الاغتسال
(1)
.
وذهب الطحاوي إلى أن الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد النوم منسوخ؛ لذلك لا بأس أن ينام الجنب قبل أن يتوضأ
(2)
.
وقد تبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب الاختلاف عند بعض الفقهاء، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو تعارض الأحاديث الواردة في ذلك، وهل الأمر الوارد فيها للاستحباب والندب، أم للوجوب؟ وسيتبين ذلك مما يأتي من أدلة الأقوال ووجه الاستدلال منها.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماءً، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل»
(3)
.
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ فتح الباري 1/ 471.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 128؛ عمدة القاري 3/ 244؛ حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 55.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 39، كتاب الطهارة، باب في الجنب يؤخر الغسل، ح (228)، والترمذي في سننه ص 39، كتاب الطهارة، باب في الجنب ينام قبل أن يغتسل، ح (118)، وابن ماجة في سننه ص 114، كتاب الطهارة، باب في الجنب ينام كهيئته لا يمس ماء، ح (581 - 583)، ومحمد بن الحسن في الموطأ ص 46، وفي كتاب الآثار 1/ 80، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 281، والإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 41/ 275، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 125، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 311.
وقد تكلم أهل العلم في هذا الحديث فقال أبو داود في سننه بعد ذكر الحديث نقلا عن يزيد بن هارون: (هذا الحديث وهم يعني حديث أبي إسحاق).
وقال الترمذي بعد روايته للحديث: (وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق).
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 125: (وقالوا هذا الحديث غلط لأنه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه) ثم ذكره من طريق زهير عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة وفيه: (وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة) ثم قال: (فهذا الأسود بن يزيد قد أبان في حديثه كما ذكرناه بطوله أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة).
وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 311: (قال أبو عمر: يقولون إن الخطأ فيه من قبل أبي إسحاق؛ لأن إبراهيم النخعي روى عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وزاد فيه الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة إذا أراد أن يأكل أوينام.
وقد روى هذا الحديث عن أبي إسحاق جماعة بمعنى واحد منهم: شعبة والأعمش، والثوري، وإسماعيل بن أبي خالد، وشريك، وإسرائيل، وزهير بن معاوية، وأحسنهم له سياقة إسرائيل، وزهير، وشعبة؛ لأنهم ساقوه بتمامه، وأما غيرهم فاختصروه، وممن اختصره الأعمش، والثوري، وشريك، وإسماعيل، قالوا كلهم عن أبي إسحاق، عن الأسود عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام-وهو جنب-ولا يمس ماء، وفي رواية شريك قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بعض نسائه ثم يضجع ضجعة، قال: فقلت: من قبل أن يتوضأ، قالت: نعم، وقد تأول بعضهم في حديث شريك هذا أنها الهجعة التي كانت له قبل الفجر يستريح فيها من نصبه بالليل.
وأما حديث إسرائيل، وشعبة: فحدثنا أحمد بن فتح، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا على بن عبد العزيز، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن الأسود قال: سألت عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل: فقالت: كان ينام أول الليل ويقوم آخر الليل، فيصلي ما قضي له، فإذا صلى صلاته مال إلى فراشه فإن كان له حاجة إلى أهله أتى أهله ثم نام كهيئته لم يمس ماء، حتى إذا سمع المنادي الأول قالت: وثب وما قالت: قام، فإن كان جنباً أفاض عليه لماء، وما قالت: اغتسل، وإن لم يكن جنباً، توضأ وضوءه للصلاة، ثم يصلي ركعتين ثم يخرج إلى المسجد). ثم ذكره عن طريق شعبة ثم عن طريق زهير.
وقال الإمام أحمد: إنه ليس بصحيح، وقال أحمد بن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث، وقال ابن حجر:(وعلى تقدير صحته فيحمل على أن المراد: لا يمس ماء للغسل، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند أحمد بلفظ: (كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح ولا يمس ماءً) أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز، وبهذا جمع ابن قتيبة في اختلاف الحديث، ويؤيده ما رواه هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة مثل رواية أبي إسحاق عن الأسود. انظر: التلخيص الحبير 1/ 140 - 141.
وصححه الدارقطني فقال: (يشبه أن يكون الخبران صحيحين). انظر: التلخيص الحبير 1/ 140.
وكذلك صححه البيهقي فقال في السنن الكبرى 1/ 311: (قال الشيخ: وحديث أبي إسحاق السبيعي صحيح من جهة الرواية، وذلك لأن أبا إسحاق بين سماعه من الأسود في رواية زهير بن معاوية عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه وكان ثقة فلا وجه لرده).
كما صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 39.
ويؤيد صحته رواية عبد الملك عن عطاء عن عائشة-مثل رواية أبي إسحاق- فإنه يعتبر متابعاً صحيحاً له كما أشار إليه ابن حجر في كلامه السابقوالله أعلم.
ثانياً: عن عمر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: «نعم، ويتوضأ إن شاء»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط وأُوتي بطعام فقيل له: ألا توضأ؟ فقال: «لِمَ، أ أصلي فأتوضأ؟»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على نفي الوضوء عن الجنب إذا أراد النوم، ووضوءه صلى الله عليه وسلم عند النوم كان لينام على ذكر؛ لأن ذكر الله تعالى على غير طهارة كان مكروهاً، ثم نسخ ذلك، فأبيح للجنب ذكر الله تعالى، فارتفع المعنى الذي كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ له، فصار وضوء الجنب إذا أراد النوم منسوخاً بذلك.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 302، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 106، وابن حبان في صحيحه- واللفظ له- ص 424.
(2)
سبق تخريجه في ص 260.
ويدل على النسخ أيضاً: أن ابن عمر رضي الله عنه روى حديث الوضوء للجنب إذا أراد النوم ثم رُوي عنه أنه قال: (إذا أجنب الرجل وأراد أن يأكل أو يشرب أو ينام غسل كفيه ومضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه وغسل فرجه ولم يغسل قدميه)
(1)
.
كما روي عنه أنه كان: (إذا أراد أن يفعل شيئاً من ذلك توضأ وضوءه للصلاة ما خلا رجليه)
(2)
.
وهذا وضوء غير تام، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في ذلك بوضوء تام، فلا يكون
هذا إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده
(3)
.
واعترض عليه: بأن ما ذكر احتمال، ولا يثبت النسخ بالاحتمال، كما أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا لم يمكن الجمع بين الأحاديث، وهنا الجمع بينها ممكن، وذلك بحمل ما ورد في ترك الوضوء على بيان الجواز، وحمل ما ورد فيها الوضوء على الاستحباب
(4)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 128. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 407: (وإسناده صحيح).
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 68، وعبد الرزاق في المصنف-واللفظ له - 1/ 279، والإمام أحمد في المسند 8/ 524، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 309. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 406:(وإسناده صحيح على شرط الشيخين).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 128، الاستذكار 1/ 324، عمدة القاري 3/ 244.
(4)
انظر: التمهيد 2/ 314؛ إعلام العالم بعد رسوخه ص 154؛ المجموع 2/ 125؛ فتح الباري 1/ 493.
أما قول ابن عمر رضي الله عنه وفعله فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أولى من قوله وفعله، ثم إن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر وتفتي بالوضوء للجنب إذا أراد النوم، فلما ذا لا يؤخذ بقولها وفتياها الموافق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله؟
(1)
.
على أن ابن عمر رضي الله عنه لم يترك الوضوء كلياً، بل المروي عنه أنه لم يغسل رجليه، وغسل الرجلين جزء من الوضوء وليس هو الوضوء فقط، فعلى القائل بنسخ الوضوء للجنب إذا أراد النوم بفعل ابن عمر وقوله أن يقول بنسخ غسل الرجلين في الوضوء للجنب إذا أراد النوم لا بنسخ الوضوء كله؛ لأن فعل ابن عمر رضي الله عنه وقوله لا يدل على ذلك.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم وضوء الجنب إذا أراد النوم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الأفضل أن لا ينام الجنب قبل الوضوء، فإن نام قبل الوضوء فلا بأس به.
وهو قول الحنفية
(2)
، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب، وسفيان
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 278؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 62؛ شرح معاني الآثار 1/ 126.
(2)
انظر: الأصل 1/ 53؛ الموطأ لمحمد ص 46؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 174؛ المبسوط 1/ 77، 78؛ بدائع الصنائع 1/ 151؛ شرح مسند أبي حنفية للملا علي القاري ص 47؛ حاشية الطحطاوي ص 55.
الثوري
(1)
.
القول الثاني: أنه يستحب للجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ وضوءه للصلاة، وأنه يكره تركه.
وهو قول المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
وروي نحو ذلك عن علي، وشداد بن أوس
(5)
، وأبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة
(6)
رضي الله عنهم.
وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وعطاء، وابن سيرين،
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 63؛ الأوسط 2/ 90؛ الاستذكار 1/ 323.
(2)
انظر: الأوسط 2/ 88؛ التمهيد 2/ 307؛ الاستذكار 1/ 323؛ بداية المجتهد 1/ 86؛ جامع الأمهات ص 62؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 1/ 461، 462؛ التاج والإكليل 1/ 461، 462.
(3)
انظر: الأوسط 2/ 88؛ العزيز 1/ 187؛ الروضة ص 39؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ المجموع 2/ 124، 127.
(4)
انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق 2/ 343؛ المغني 1/ 303؛ الشرح الكبير 2/ 152؛ الممتع 1/ 238؛ الفروع 1/ 269؛ الإنصاف 2/ 152، 153؛ منتهى الإرادات 1/ 25.
(5)
هو: شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو يعلى المدني، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو الأشعث الصنعاني، ومحمود بن الربيع، وغيرهما، وتوفي بالشام قبل الستين، وقيل بعدها. انظر: التهذيب 4/ 286؛ التقريب 1/ 413.
(6)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 62، 63؛ الأوسط 2/ 88.
والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وابن حزم
(1)
.
القول الثالث: أنه يجب على الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وهو قول ابن حبيب من المالكية
(2)
، وقول بعض الظاهرية، منهم داود الظاهري
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول - وهو أنه لا بأس للجنب إذا أراد النوم ألا يتوضأ، وإن كان هو الأفضل- بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث عائشة-رضي الله عنها ظاهر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصيب من أهله ثم ينام قبل أن يمس ماءاً.
وأما حديث عمر رضي الله عنه ففيه أن الجنب إذا أراد النوم يتوضأ إن شاء، فيدل على أنه لا
بأس إذا لم يتوضأ.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 62، 63؛ الأوسط 2/ 88؛ التمهيد 2/ 307؛ المحلى 1/ 100.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ مواهب الجليل 1/ 462؛ نيل الأوطار 1/ 214.
(3)
انظر: الاستذكار 1/ 323؛ بداية المجتهد 1/ 86؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ نيل الأوطار 1/ 214.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فيدل على أن الوضوء إنما يراد للصلاة، ففيه نفي الوضوء عن الجنب إذا أراد النوم
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أنه يستحب للجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ وضوءه للصلاة ويكره تركه- بما يلي:
أولاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم إذا توضأ»
(2)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تصيبه الجنابة من الليل؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضأ واغسل ذكرك ثم نم»
(3)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة»
(4)
.
(1)
انظر: الموطأ لمحمد ص 46؛ شرح معاني الآثار 1/ 125، 128؛ المبسوط 1/ 77؛ بدائع الصنائع 1/ 151.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح (289)، ومسلم في صحيحه 3/ 106، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح (306)(23).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح (290).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح (288)، ومسلم في صحيحه 3/ 105، كتاب الحيض، باب جوازنوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح (305)(21).
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ إذا أراد النوم وهو جنب، وأنه أمر بذلك، إلا أنها حملت على الاستحباب لا على الوجوب للأحاديث الدالة على جواز ترك الوضوء للجنب إذا أراد النوم
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم- بأدلة القول
الثاني.
ووجه الاستدلال منها: أن فيها الأمر بالوضوء، وهو للوجوب
(2)
.
واعترض عليه: بأن الأمر فيها ليس للوجوب، بل للندب؛ بدليل الأحاديث الدالة على جواز الترك
(3)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو استحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم؛ وذلك لأنه يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى
(1)
انظر: التمهيد 2/ 314؛ إعلام العالم لابن الجوزي ص 154؛ المغني 1/ 304؛ المجموع 2/ 125؛ فتح الباري 1/ 493.
(2)
انظر: بداية المجتهد 1/ 86؛ فتح الباري 1/ 493.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 314؛ المحلى 1/ 101؛ بداية المجتهد 1/ 87؛ فتح الباري 1/ 493.
النسخ
(1)
.
ولأن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخة لبعضها، ثم الأحاديث الدالة على الوضوء للجنب إذا أراد النوم أقوى وأصح مما يخالفها؛ لخلوها عن أي كلام فيها، بخلاف ما يخالفها، فكيف يقال بنسخها بما لا يقاومها؟
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المجموع 2/ 125؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 154؛ الممتع 1/ 238؛ التلخيص الحبير 1/ 141؛ فتح الباري 1/ 493.
(2)
لأن الأحاديث الدالة على الوضوء للجنب هي مما خرجه الشيخان أو أحدهما، بخلاف ما يخالفها.
المطلب الثامن: الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع
أجمع أهل العلم على أنه يجوز للجنب أن يعود إلى الجماع قبل الاغتسال
(1)
.
وذهب الطحاوي إلى أن الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع قد نُسخ؛ لذلك لا بأس للجنب إن يعود إلى الجماع وإن لم يتوضأ
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف عند بعض الفقهاء، لكن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف ظواهر الآثار الواردة في المسألة، والاختلاف في مفهومها، أي هل هي للوجوب أو الندب والاستحباب. وسيتبين ذلك من خلال ذكر الأدلة ووجه الاستدلال منها
(3)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل»
(4)
.
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ فتح الباري 1/ 471.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 128، 129؛ عمدة القاري 3/ 244؛ حاشية الطحطاوي ص 55.
(3)
راجع الأدلة الآتية ووجه الاستدلال منها. وانظر: بداية المجتهد 1/ 87.
(4)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 127. وذكره ابن حجر في الفتح 1/ 471، واستدل به على عدم وجوب الوضوء ولم يتكلم فيه بشيء.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند 41/ 293، ولفظه:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء) وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي وهو سيئ الحفظ، وقد سبق في المطلب السابق بلفظ:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل) وسبق الكلام عليه هناك.
ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ فإنه أنشط للعود»
(1)
.
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة»
(2)
..
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد)
(3)
.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط وأتي
(1)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 110، وابن حبان في صحيحه-وللفظ له-ص 423، والحاكم في المستدرك 1/ 254، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 314. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين). وذكره ابن حجر في الفتح 1/ 471، ولم يتكلم فيه بشيء.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 59، كتاب الغسل، باب إذا جامع ثم عاد، ح (268)، ومسلم في صحيحه 3/ 108، كتاب الحيض، باب نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح (309)(28).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 108، كتاب الحيض، باب نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح (309)(28).
بطعام فقيل له: ألا توضأ؟ فقال: «لِمَ أ أصلي فأتوضأ؟»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على جواز ترك الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود للجماع، فيجوز أن يكون الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد أن يعود في حال ما كان الجنب لا يستطيع ذكر الله تعالى حتى يتوضأ فأُمر بالوضوء ليُسمّي عند جماعه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رخص لهم أن يتكلموا بذكر الله وهو جنب فارتفع ذلك، فيكون الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود منسوخاً بذلك، ويدل عليه حديث عائشة-رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجامع ثم يعود ولا يتوضأ. فهذا ناسخ للأمر بالوضوء عند المعاودة إلى الجماع
(2)
.
ويعترض عليه: بأن نسخ الوضوء للجنب إذا أراد العود للجماع بنسخ الذِّكْرِ على غير طهارة احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
كما أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأحاديث، وهنا الجمع بينها ممكن، وذلك بحمل ما ورد في ترك الوضوء على الجواز، وما ورد في الأمر به على الاستحباب والندب
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
(1)
سبق تخريجه في ص 260.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 129؛ حاشية الطحطاوي ص 55.
(3)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 109؛ المغني 1/ 305؛ المجموع 2/ 125؛ الممتع 1/ 239؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 154؛ فتح الباري 1/ 471.
وقد اختلف أهل العلم في الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا بأس للجنب أن يعود إلى الجماع قبل الوضوء، لكن الأفضل له أن يتوضأ قبل أن يعود.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، ونحوه قول المالكية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وروي نحو ذلك عن الحسن، وابن سيرين
(4)
.
القول الثاني: أنه يستحب للجنب إذا أراد العود إلى الجماع أن يتوضأ وضوءه للصلاة، ويكره تركه.
وهو قول الشافعية
(5)
، ونحوه قول عند الحنابلة
(6)
.
(1)
انظر: الأصل 1/ 53؛ الموطأ لمحمد ص 46؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 174؛ المبسوط 1/ 77، 78؛ بدائع الصنائع 1/ 151؛ شرح مسند أبي حنيفة ص 47؛ حاشية ابن عابدين 1/ 285؛ حاشية الطحطاوي ص 55.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 307؛ الاستذكار 1/ 323؛ بداية المجتهد 1/ 87؛ جامع الأمهات ص 62؛ التاج والإكليل 1/ 461.
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق 2/ 351؛ المغني 1/ 303؛ الممتع 1/ 239؛ الشرح الكبير 2/ 152؛ الفروع 1/ 269؛ الإنصاف 2/ 154.
(4)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 79.
(5)
انظر: العزيز 1/ 187؛ روضة الطالبين ص 39؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ المجموع 2/ 124.
(6)
انظر: الإنصاف 2/ 154.
القول الثالث: أن الجنب إذا أراد العود إلى الجماع يجب عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وهو قول بعض الظاهرية، منهم ابن حزم
(1)
.
وروي الأمر بالوضوء عن عمر، وابن عمر-رضي الله عنهما وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وعطاء
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا بأس للجنب إذا أراد العود إلى الجماع أن لا يتوضأ بين ذلك إلا أنه مستحب- بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث عائشة-رضي الله عنها صريح في ذلك؛ حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود ولا يتوضأ
(3)
.
وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فلأنه ذُكر فيه أن الوضوء أنشط للعود، فدل أن الأمر للإرشاد أو الندب، لا للوجوب
(4)
.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فليس فيه ذكر الوضوء فلعله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء لبيان
(1)
انظر: المحلى 1/ 102؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ فتح الباري 1/ 471.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 79؛ المحلى 1/ 102.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 127؛ فتح الباري 1/ 471.
(4)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 109؛ صحيح ابن حبان ص 423؛ فتح الباري 1/ 471.
الجواز
(1)
.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فيدل على أن الوضوء إنما يراد للصلاة فقط
(2)
.
دليل القول الثاني:
ويستدل للقول الثاني-وهو استحباب الوضوء للجنب إذا أراد العود للجماع ويكره تركه - بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ»
(3)
.
ووجه الاستدلال منه ظاهر؛ حيث فيه الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد العود، لكن حمل على الاستحباب دون الوجوب بدليل أحاديث الجواز
(4)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود- بدليل القول الثاني.
(1)
انظر: الأوسط 2/ 95؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ البدر المنير لابن الملقن 2/ 572؛ فتح الباري 1/ 490.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 128.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 108، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح (308)(27).
(4)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 109، 110؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 546؛ المجموع 2/ 125؛ نيل الأوطار 1/ 216.
ووجه الاستدلال منه: أن فيه الأمر بالوضوء، وهو للوجوب
(1)
.
ويعترض عليه: بأن الأمر في هذا الحديث ليس للوجوب بدليل الرواية الثانية له وغيره من أحاديث الجواز
(2)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود للجماع، ولا بأس بتركه، وذلك لأنه يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ
(3)
.
كما أن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخة لبعضها.
والله أعلم.
(1)
انظر: المحلى 1/ 102؛ فتح ا لباري 1/ 471.
(2)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 109، 110؛ المجموع 2/ 125؛ نيل الأوطار 1/ 216.
(3)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 109، 110؛ الاعتبار ص 495؛ المجموع 2/ 125؛ المغني 1/ 305؛ الممتع 1/ 239.
المطلب التاسع: الوضوء مما مست النار
اختلف أهل العلم في الوضوء مما مست النار على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الوضوء مما مست النار مطلقًا منسوخ، فلا يجب الوضوء منه، ولا ينقض الوضوء به، وأن ترك الوضوء مما غيرت النار آخر الأمرين
(1)
.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
.
وممن قال بعدم الوضوء منه أو روي عنه ذلك: أبو بكر الصديق
(5)
، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان
(6)
، وعلى بن أبي طالب، وعبد الله
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 69، التمهيد 2/ 116 - 129، الاعتبار ص 157.
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 39؛ الأوسط 1/ 223؛ شرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 70؛ المبسوط 1/ 83؛ بدائع الصنائع 1/ 138، الاعتبار للحازمي ص 157.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 223، التمهيد 2/ 127، الاستذكار 1/ 219، الاعتبار ص 157؛ جامع الأمهات ص 58؛ عقد الجواهر 1/ 42، مواهب الجليل 1/ 438.
(4)
انظر: مختصر المزني ص 12، الأوسط 1/ 223، التعليقة الكبرى 1/ 728، المهذب 1/ 101؛ الاعتبار ص 157؛ المجموع 2/ 48.
(5)
هو: عبد الله بن أبي قحافة-عثمان- بن عامر بن عمرو، القرشي، التيمي، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أفضل الأمة، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه الأكبر، سبق إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها، واستقر خليفة بعده صلى الله عليه وسلم وروى عنه صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عمر، وعثمان، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث عشرة من الهجرة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 2؛ الإصابة 2/ 241.
(6)
هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، الأموي القرشي، ذي النورين، وأمير المؤمنين، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بابنتيه-رقية وأم كلثوم- وبشره بالجنة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وغيرهما، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وقتل سنة خمس وثلاثين. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 8؛ الإصابة 2/ 462.
بن مسعود، وأبو الدرداء
(1)
، و المغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن عباس، وعامر بن ربيعة
(2)
، وأبي بن كعب
(3)
، رضي الله عنهم.
وروي ذلك عن سويد بن غفلة
(4)
، وعطاء، وطاووس، ومجاهد.
(1)
هو: عويمر بن زيد، وقيل: عويمر بن عبد الله، ويقال، ابن ثعلبة، الأنصاري الخزرجي الإمام الرباني، أسلم يوم بدر، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه بلال، وأبو أمامة، وغيرهما، وتوفي في خلافة عثمان-وقيل بعده-. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 24؛ تهذيب التهذيب 8/ 150.
(2)
هو: عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي، العدوي، حليف آل الخطاب، شهد بدراً والمشاهدكلها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الله، وابن عمر، وغيرهما، ومات قبل عثمان رضي الله عنه. انظر: الكاشف 2/ 49؛ التهذيب 5/ 58؛ التقريب 1/ 460.
(3)
هو: أبي بن كعب بن قيس الأنصاري النجاري، أبو المنذر، سيد القراء، كان من أصحاب العقبة الثانية، و شهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو أيوب، وابن عباس، وغيرهما. وتوفي سنة ثلاثين-وقيل غير ذلك-. انظر: الاستيعاب 1/ 47؛ الإصابة 1/ 19.
(4)
هو: سويد بن غفلة بن عوسجة، أبو أمية الجعفي، الكوفي، قدم المدينة يوم دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن: أبي بكر، وعمر، وغيرهما، وروى عنه: سلمة بن كهيل، وإبراهيم النخعي، وغيرهما، وتوفي سنة ثمانين، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 1/ 329؛ التهذيب 4/ 252؛ التقريب 404.
وبه قال عبيدة السلماني
(1)
، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد
(2)
، وسفيان الثوري، وابن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والحسن بن حي، وأبو عبيد، وداود بن علي، وابن جرير الطبري
(3)
.
القول الثاني: أن المنسوخ هو الوضوء مما مست النار، غير لحم الإبل، لذلك يجب الوضوء من لحوم الإبل خاصة دون ما سواه مما مسته النار.
وهو قول الإمام أحمد، ومذهب الحنابلة
(4)
.
(1)
هو: عبيدة بن عمرو، وقيل: عبيدة بن قيس بن عمرو، السلماني المرادي، أبو عمر، الكوفي، ثقة، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن: علي، وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: إبراهيم النخعي، وابن سيرين، و غيرهما، وتوفي سنة اثنتين وسبعين، وقيل غيرها. انظر: الكاشف 2/ 212؛ التهذيب 7/ 75؛ التقريب 1/ 649.
(2)
هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، كان ثقة عالماً فقيهاً إماماً، روى عن عائشة و ابن عباس، وغيرهما، وروى عنه الشعبي، ونافع، وغيرهما، وتوفي سنة ست ومائة- وقيل غير ذلك-. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 290؛ شذرات الذهب 1/ 135.
(3)
انظر أقوالهم في: مصنف عبد الرزاق 1/ 165 - 171؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 50 - 53؛ الأوسط 1/ 141، 219، التمهيد 2/ 127، الاستذكار 1/ 219، الاعتبار ص 157؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 39؛ المجموع 2/ 48، نيل الأوطار 1/ 200.
(4)
انظر: الأوسط 1/ 140؛ المغني 1/ 250؛ الشرح الكبير 2/ 53؛ شرح الزركشي 1/ 122؛ الفروع
1/ 233؛ الإنصاف 1/ 53.
وممن قال بالوضوء من لحوم الإبل: جابر بن سمرة
(1)
رضي الله عنه، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي
(2)
، وأبو خيثمة زهير بن حرب
(3)
، وإسحاق بن راهوية، ويحيى بن يحيى النسابوري
(4)
، وأبوثور. واختاره ابن المنذر، وابن خزيمة
(5)
، وابن حزم،
(1)
هو: جابر بن سمرة بن جنادة السوائي، صحابي ابن صحابي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو إسحاق، وسماك بن حرب، وغيرهما، ونزل الكوفة ومات بها سنة سبعين. انظر: الكاشف 1/ 121؛ التهذيب 2/ 35.
(2)
هو: محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر، المطلبي مولاهم، المدني، صدوق يدلس، وروى عن عطاء، والزهري، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، والثوري، وغيرهما، ومات سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 3/ 18؛ التهذيب 9/ 33؛ التقريب 2/ 54.
(3)
هو: زهير بن حرب بن شداد الحرشي، أبو خيثمة النسائي، ثقة، روى عن جرير، وهيثم، وغيرهما، وروى عنه: البخاري، ومسلم، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. انظر: الكاشف 1/ 255؛ التهذيب 3/ 303؛ التقريب 1/ 315.
(4)
هو: يحيى بن يحيى بن قيس بن حارثة الغساني، أبو عثمان الشامي، ثقة، روى عن سعيد بن المسيب، وعروة، وغيرهما، وروى عنه هشام، وابن عيينة، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 3/ 238؛ التهذيب 11/ 260؛ التقريب 2/ 318.
(5)
هو: محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، أبو بكر السلمي النسا بوري، شيخ الإسلام، سمع علي بن حجر، ومحمود بن غيلان، وغيرهما، وحدث عنه الإمام البخاري ومسلم، وغيرهما، ومن مؤلفاته (صحيح ابن خزيمة) وتوفي سنة إحدى عشر وثلاثمائة. انظر: تذكرةالحفاظ 2/ 720؛ البداية والنهاية 11/ 145.
والبيهقي
(1)
، والنووي.
(2)
القول الثالث: أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار، لذلك يجب الوضوء مما مست النار مطلقاً، وينقض الوضوء به.
وهو قول الزهري، وروي نحوه عن أبي هريرة، وعائشة-رضي الله عنهما
(3)
.
وممن روي عنه الوضوء من ذلك أو الأمر به: زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وأبو موسى الأشعري، وأبو أيوب، وأبو مسعود
(4)
، وأبو عزة
(5)
،
(1)
هو: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي، أبو بكر البيهقي، الإمام الحافظ، أخذ عن محمد بن الحسين العلوي، وأبي عبد الله الحاكم، وغيرهما، وحدث عنه عبيد الله بن محمد، وأبو القاسم الشحامي، وغيرهما، وقد جمع بين علم الحديث والفقه، ومن مؤلفاته (السنن الكبرى) وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 1132؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 220.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 50؛ الأوسط 1/ 138، 139، 140، التمهيد 2/ 129، الاستذكار 1/ 219؛ المغني 1/ 250، المجموع 2/ 49.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 116، 117، 119؛ الاستذكار 1/ 217؛ الاعتبار ص 260؛ فتح الباري 1/ 391.
(4)
هو: عقبة بن عمرو بن ثعلبة، الخزرجي الأنصاري، أبو مسعود البدري، شهد العقبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو وائل، وعلقمة، وغيرهما، وقال البخاري ومسلم وأبو عبيد: إنه شهد بدراً. وتوفي سنة أربعين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 2/ 238؛ التهذيب 7/ 214؛ التقريب 1/ 682.
(5)
أبو عزة- بفتح المهملة وتشديد الزاي-يسار الهذلي، يقال اسم أبيه عبد الله، وقيل: نمير بن عامر بن فهم، صحابي مشهور بكنيته، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو قلابة الجرمي، وغيره. انظر: الكاشف 3/ 253؛ التهذيب 11/ 327؛ التقريب 2/ 335.
وعائشة، وأم حبيبة
(1)
، رضي الله عنهم.
واختلف فيه عن أبي طلحة الأنصاري، وابن عمر، وأنس بن مالك-رضي الله عنهم.
وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابنه عبد الملك
(2)
، و محمد بن المنكدر
(3)
، وعمر بن عبد العزيز
(4)
، وعروة
(1)
هي: رملة بنت أبي سفيان حرب بن صخر بن أمية، أم حبيبة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت قديماً، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست، وقيل سبع، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: معاوية، وعروة، وغيرهما، وتوفيت بعد سنة أربعين، وقيل غيرها. انظر: الكاشف 3/ 426؛ التهذيب 12/ 369؛ التقريب 2/ 641.
(2)
هو: عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، المخزومي المدني، ثقة، روى عن أبيه، وخارجة بن زيد، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، وابن جريج، وغيرهما، وتوفي في أول خلافة هشام. انظر: الكاشف 2/ 183؛ التهذيب 6/ 339؛ التقريب 1/ 613.
(3)
هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير، التيمي المدني، ثقة، روى عن عائشة، وأبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، ومالك، وغيرهما، وتوفي سنة مائة وثلاث وثلاثين، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 3/ 88؛ التقريب 2/ 137.
(4)
هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو حفص الأموي، القرشي، حدث عن عبد الله بن جعفر، و أنس، وغيرهما. وروى عنه: الزهري، وأيوب، وغيرهما، وكان إماماً عادلاً، وحكماً مقسطاً، بويع له بالخلافة سنة تسع وتسعين، وتوفي سنة إحدى ومائة. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 118؛ البداية والنهاية 9/ 172.
بن الزبير، ومعمر بن راشد
(1)
، و
أبو قلابة الجرمي
(2)
، وأبو مجلز
(3)
، ويحيى بن يعمر
(4)
، وأبو ميسرة
(5)
، والحسن البصري
(6)
.
القول الرابع: أنه لا ينقض الوضوء بما مسته النار مطلقًا، ولا يحب
(1)
هو: معمر بن راشد، أبو عروة الأزدي مولاهم، عالم اليمن، ثقة، روى عن الزهري، وهمام، وغيرهما،
وروى عنه: ابن المبارك، وأيوب، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وخمسين ومائة. انظر: الكاشف 3/ 145؛ التهذيب 10/ 220؛ التقريب 2/ 202.
(2)
هو: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، أبو قلابة الجرمي، من أئمة التابعين، روى عن أنس بن مالك، وأبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: قتادة، وأيوب، وغيرهما، وتوفي سنة أربع ومائة، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 2/ 79؛ التقريب 1/ 494.
(3)
هو: لاحق بن حميد بن سعيد، ويقال: شعبة بن خالد بن كثير بن حبيش، السدوسي، أبو مجلز البصري، من ثقات التابعين إلا أنه يدلس، روى عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وغيرهما، وروى عنه قتادة، وسليمان التيمي، وغيرهما، وتوفي سنة مائة أو إحدى ومائة، -وقيل غير ذلك-. انظر: ميزان الاعتدال 6/ 30؛ تهذيب التهذيب 11/ 151.
(4)
هو: يحيى بن يعمر-بفتح التحتانية والميم، بينهما مهملة ساكنة- البصري، قاضي مرو، ثقة، روى عن علي، وعائشة، وغيرهما، وروى عنه: عكرمة، وعطاء الخراساني، وغيرهما. انظر: الكاشف 3/ 239؛ التهذيب 11/ 264؛ التقريب 2/ 319.
(5)
هو: عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني، ثقة، روى عن عمر، وعلي، وغيرهما، وروى عنه: مسروق، وأبو إسحاق، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وستين. انظر: الكاشف 2/ 286؛ التهذيب 8/ 40؛ التقريب 1/ 737.
(6)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 172 - 174؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 53 - 54؛ الأوسط 1/ 213 - 215، التمهيد لابن عبد البر 2/ 116؛ والاستذكار 1/ 216؛ المحلى 1/ 226؛ الاعتبار للحازمي ص 157؛ المجموع للنووي 2/ 49، نيل الأوطار 1/ 200.
الوضوء منه ولكنه يستحب.
وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله وهو كذلك اختيار الخطابي
(2)
.
وقد تبين مما سبق أن القول بالنسخ أحد الأسباب الرئيسية لاختلاف الفقهاء في هذه المسألة، كما أن تعارض الأحاديث الواردة في المسألة هو السبب الأصلي الآخر لاختلافهم فيها.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو ترك الوضوء مما مست النار مطلقًا وأن الوضوء منه قد نُسخ- بأدلة منها ما يلي:
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 25/ 239؛ الفروع 1/ 232؛ الإنصاف 1/ 55؛ الاختيارات الفقهية ص 16. ونُقل عن شيخ الإسلام أنه يقول بوجوب الوضوء من لحم الإبل. قال البعلي في الاختيارات الفقهية: (ولعله آخر فتواه). أما المرداوي فقد نسب إليه القول بالاستحباب مطلقاً، وسيجيء نص شيخ الإسلام في أدلة القول الرابع، حيث صرح بأنه أعدل الأقوال، لكنه في مواضع أخرى من فتاواه دافع بشدة عن القول الثالث.
(2)
هو: حمد بن محمد بن إبراهيم، أبو سليمان البستي المعروف بالخطابي، كان أحد أوعية العلم في زمانه حافظاً
فقيهاً، تفقه على ابن أبي هريرة، والقفال، وغيرهما، ومن مؤلفاته (معالم السنن) وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 156؛ شذرات الذهب 3/ 127.
وانظر قوله في: معالم السنن 1/ 140. وراجع كذلك فتح الباري 1/ 391.
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ»
(1)
.
ثانياً: عن عمرو بن أمية الضمري
(2)
(أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ)
(3)
.
ثالثاً: عن ميمونة-رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ).
(4)
رابعاً: عن أبي رافع
(5)
رضي الله عنه قال: (أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 49، كتاب الوضوء باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ح (207)، ومسلم في صحيحه 2/ 36، كتاب الحيض باب الوضوء مما مست النار، ح (354)(91).
(2)
هو: عمرو بن أمية بن خويلد أبو أمية الضمري، أول مشاهده بئر معونة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الشعبي، وأبو قلابة، وغيرهما، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الكاشف 2/ 280؛ التهذيب 8/ 6.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 49، كتاب الوضوء باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ح (208)، ومسلم في صحيحه 2/ 36، كتاب الحيض باب الوضوء مما مست النار، ح (355)(92).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 49، كتاب الوضوء باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ح (210)، ومسلم في صحيحه 2/ 37، كتاب الحيض باب الوضوء مما مست النار، ح (356).
(5)
هو: أبو رافع القبطي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل اسمه إبراهيم، وقيل أسلم، وقيل غير ذلك. شهد أحداً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: سليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهما. انظر: الكاشف 3/ 294؛ التهذيب 12/ 82؛ التقريب 2/ 396.
بطن الشاة ثم صلى
ولم يتوضأ)
(1)
..
خامساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار»
(2)
.
سادساً: عن محمد بن مسلمة
(3)
رضي الله عنه قال: «أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم مما غيرت النار ثم لم يتوضأ وكان آخر أمريه»
(4)
.
سابعاً: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً ثم أقيمت الصلاة وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ فانتهرني، وقال:
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 37، كتاب الحيض باب الوضوء مما مست النار، ح (357)(94).
(2)
سبق تخريجه في ص 98.
(3)
هو: محمد بن مسلمة بن حريش الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله، أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عروة، والأعرج، وغيرهما، ومات بعد الأربعين. انظر: الكاشف 3/ 86؛ التهذيب 9/ 391؛ التقريب 2/ 134.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 241، والحازمي في الاعتبار ص 160، ولفظه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل آخر أمره لحماً ثم صلى ولم يتوضأ) وذكر ابن حجر في التلخيص 1/ 106، أن الطبراني أخرجه بهذا اللفظ في الأوسط وأنه شاهد لحديث جابر. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 257، بلفظ:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل آخر أمريه لحماً ثم صلى ولم يتوضأ)، ثم قال: رواه الطبراني في الكبير وفيه يونس بن أبي خالد ولم أر من ذكره) وأخرجه ابن المنذر في الأوسط 1/ 224، بنحو لفظ مجمع الزوائد.
«وراءك ولو فعلت ذلك لفعل الناس بعدي»
(1)
.
ثامناً: عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا: «إنما الوضوء علينا مما خرج وليس علينا مما دخل»
(2)
.
تاسعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إنما النار بركة الله، وما تحل من شيء ولا تحرمه، ولا وضوء مما مست النار، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان)
(3)
.
والأخبار في هذا كثير، وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، أو أنه أكل ما مسته النار ولم يتوضأ-غير ما ذكر-: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو طلحة،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 91، والإمام أحمد في المسند 30/ 159، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 256:(رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات).
(2)
هذا لفظ الحديث المرفوع، قال في مجمع الزوائد 1/ 257:(رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن زحر عن علي بن زيد وهما ضعيفان لا يحل الاحتجاج بهما).
أما الموقوف فأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 69، فقال:(حدثنا ابن خزيمة قال ثنا حجاج قال ثنا حماد عن أبي غالب عن أبي أمامة أنه أكل خبزاً ولحماً فصلى ولم يتوضأ، وقال: (الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 169، وسنده صحيح، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 52، ولفظه:(الوضوء مما خرج وليس مما دخل).
وأبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان
(1)
، ورافع بن خديج
(2)
، وسويد بن النعمان، والحسن بن علي، وعائشة، وصفية بنت حيي
(3)
، وضباعة بنت الزبير
(4)
، وأم حكيم بنت الزبير
(5)
، وأم هانئ
(6)
، وأم
(1)
وهو: معاوية بن أبي سفيان حرب بن صخر، أبو عبد الرحمن الأموي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: خالد بن معدان، والأعرج، وغيرهما، وتوفي سنة ستين. انظر: الكاشف 3/ 139؛ التهذيب 10/ 188.
(2)
هو: رافع بن خديج بن رافع بن عدي، الأوسي الأنصاري، شهد أحداً والخندق، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، ونافع، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 1/ 232؛ التهذيب 3/ 205؛ التقريب 1/ 290.
(3)
هي: صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيد الإسرائيلية، أم المؤمنين، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ثم اعتقها وتزوجها، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: كنانة، ويزيد بن معتب، وغيرهما، وتوفيت في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الكاشف 3/ 429؛ التهذيب 12/ 380؛ التقريب 2/ 647.
(4)
هي: ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب الهاشمية، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها المقداد بن الأسود، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عروة، والأعرج، وغيرهما. انظر: الاستيعاب 4/ 352؛ الإصابة 4/ 352؛ تهذيب التهذيب 12/ 383.
(5)
أم الحكم ويقال: أم الحكيم، صفية، وقيل عاتكة، ويقال ضباعة، بنت الزبير بن عبد المطلب، الهاشمية، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: الفضل بن الحسن الضمري. انظر: الكاشف 3/ 440؛ التهذيب 12/ 412؛ التقريب 2/ 666.
(6)
هي: أم هانئ بنت أبي طالب الهاشمية، قيل اسمها فاختة، وقيل هند، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: مجاهد، وعروة، وغيرهما، وماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الكاشف 3/ 444؛ التهذيب 12/ 429.
مبشر
(1)
، وعمرة بنت
حرام
(2)
، وأم عامر بنت يزيد
(3)
، وأم سلمة، وابنتها زينب
(4)
رضي الله عنهم أجمعين-
(5)
.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث
أما وجه الاستدلال منها على ترك الوضوء مما مست النار مطلقاً، فهو واضح؛ حيث جاء فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ما مسته النار وصلى ولم
(1)
أم مبشر الأنصارية، امرأة زيد بن حارثة، يقال اسمها جهينة بنت صيفي بن صخر، صحابية وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: جابر، ومجاهد، وغيرهما. انظر: الكاشف 3/ 444؛ التهذيب 12/ 427.
(2)
هي: عمرة بنت حرام، وقيل بنت حزم الأنصارية، كانت تحت سعد بن الربيع، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها جابر بن عبد الله رضي الله عنه. انظر: أسد الغابة 6/ 201؛ تجريد أسماء الصحابة 2/ 289.
(3)
هي: أم عامر بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية، قيل اسمها أسماء، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأشهلي. انظر: أسد الغابة 6/ 358؛ تجريد أسماء الصحابة 2/ 326.
(4)
هي: زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال المخزومية، ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عروة، وأبو قلابة، وغيرهما، وتوفيت سنة ثلاث وسبعين. انظر: الكاشف 3/ 426؛ التهذيب 12/ 371.
(5)
انظر: سنن الترمذي ص 30؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 51 - 52، شرح معاني الآثار 1/ 64 - 67، السنن الكبرى للبيهقي 1/ 237 - 244؛ مجمع الزوائد 1/ 256 - 259.
يتوضأ، فدل ذلك على ترك الوضوء مما مست النار مطلقاً
(1)
.
وأما وجه الاستدلال منها على أنها متأخرة وناسخة للوضوء مما مست النار مطلقاً فمن وجهين:
الأول: أن ممن روى هذه الأحاديث ابن عباس رضي الله عنه وهو قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، فدل ذلك أن ترك الوضوء مما مست النار متأخر عن الأمر بالوضوء منه
(2)
.
الوجه الثاني: أن حديث جابر بن عبد الله ومحمد بن مسلمة يدلان على تأخير ترك
الوضوء مما مست النار على الأمر بالوضوء منه، حيث إن فيهما تصريح بأن هذا آخرالأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على
(1)
انظر: الأوسط 1/ 224، 225؛ شرح معاني الآثار 1/ 64؛ التمهيد 2/ 123 - 127؛ المجموع 2/ 49.
(2)
قال الإمام الشافعي: (وإنما قلنا لا يتوضأ منه لأنه عندنا منسوخ ألا ترى أن عبد الله بن عباس وإنما صحبه بعد الفتح يروي عنه أنه رآه يأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، أو أن أمره بالوضوء منه بالغسل للتنظيف) انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 240، الاعتبار للحازمي ص 159.
وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 123: (ومما يستبين به أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار منسوخ: أن عبد الله بن عباس شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل لحماً وخبزاً وصلى ولم يتوضأ. ومعلوم أن حفظ عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متأخر).
نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار مطلقًا
(1)
.
وقال ابن المنذر: (وقال بعضهم: والدليل على أن الرخصة هي الناسخة اتفاق الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، في ترك الوضوء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، ولا يجوز أن يسقط عنهم جميعا علم ما يحتاجون إليه في الليل والنهار، إذ مما لا بد للناس منه الأكل والشرب، ولو كان الأكل حدثاً ينقض الطهارة ويوجب الوضوء لم يخف ذلك عليهم معرفته، وغير جائز أن يجهلوا ذلك)
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني -وهو نسخ الوضوء مما مست النار، إلا من لحم الإبل فيجب الوضوء منه خاصة-بما يلي:
أ-أما الدليل على نسخ الوضوء مما مست النار غير لحم الإبل، فما سبق في دليل القول السابق؛ فإنها تدل على نسخ الوضوء مما مست النار، وعلى عدم وجوب الوضوء منه، كما سبق ذكره.
ب-أما وجوب الوضوء من لحم الإبل خاصة، فلأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ أتوضأ من
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 67، المحلى 1/ 226، التمهيد 2/ 116، التعليقة الكبرى لأبي الطيب الطبري 1/ 732، 743.
(2)
الأوسط 1/ 225.
لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ» ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم فتوضأ من لحوم الإبل» الحديث
(1)
.
ثانياً: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سُئل رسولُ الله عن الوضوء من لحوم الإبل فقال:
«توضئوا منها» ، وسئل عن لحوم الغنم فقال:«لا توضئوا منها»
(2)
.
ثالثاً: عن أسيد بن حضير
(3)
رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم، وصلوا في مرابض الغنم ولاتصلوا في مبارك الإبل» .
(4)
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 38، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح (360)(97).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 33، كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح (184)، والترمذي في سننه ص 30، أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، ح (81)، وابن ماجة في سننه ص 100، كتاب الطهارة باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، ح (494). وصححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية. وقال ابن خزيمة:(لم نر خلافًا بين علماء الحديث في صحة هذا الحديث) وكذلك صححه الشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 30، المغني 1/ 251، التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 175، المجموع 2/ 50؛ صحيح سنن أبي داود ص 33؛ صحيح سنن ابن ماجة ص 100.
(3)
هو: أسيد بن حضير بن سماك الأنصاري الأشهلي شهد العقبة الثانية، وأحداً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس، وابن أبي ليلى، وتوفي سنة عشرين، وقيل غيرها. انظر: الاستيعاب 1/ 92؛ الكاشف 1/ 82.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 31/ 442، وفي سنده حجاج بن ارطاة -وهو مختلف في الاحتجاج به-عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قال الترمذي في سننه ص 30:(وقدروى الحجاج بن أرطاة هذا الحديث عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير. والصحيح حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب، وهو قول أحمد وإسحاق، وروى عبيدة الضبي عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ذي الغرة الجهني. وروى حماد بن سلمة هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة فأخطأ فيه وقال فيه عن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن أسيد بن حضير. والصحيح عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 255: (رواه الطبراني في الأوسط وفيه حجاج بن أرطاة وفي الاحتجاج به اختلاف) وانظر التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 176.
رابعاً: عن ذي الغرة
(1)
رضي الله عنه قال: عرض أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسير، فقال: يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل أفنصلي فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» ، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: «نعم»
(2)
.
(1)
ذو الغرة الجهني، قيل اسمه يعيش، صحابي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عبد الرحمن بن أبي ليلى. انظر: أسد الغابة 2/ 23؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 169؛ التهذيب 3/ 199.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 27/ 186، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 255: (رواه عبد الله بن أحمد
والطبراني في الكبير، وسماه يعيش الجهني ويعرف بذي الغرة ورجال أحمد موثقون) وفي سنده -وكذلك سند حديث أسيد السابق-عبد الله بن عبد الله القاضي، قال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 177: (وأما عبد الله ابن عبد الله القاضي فهو راوي حديث البراء وأسيد، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: لا أعلم إلا خيراً، وقال بعض العلماء في هذا الحديث: ليس بشيء وذو الغرة لا يدرى من هو. وقال ابن أبي حاتم ذو الغرة الطائي له صحبة بما رواه عبيدة الضبي عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ذي الغرة قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم الحديث- والحديث خطأ والصحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم و عبيدة ضعيف الحديث سمعت أبي يقول ذلك، وسمعت يحيى بن معين يقول: ذو الغرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
خامساً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أن هذه الأحاديث تدل على وجوب الوضوء من لحوم الإبل خاصة دون غيرها مما مست النار.
قال أصحاب هذا القول: إن أحاديث الوضوء من لحوم الإبل إما مخصصة لعموم أحاديث ترك الوضوء مما مست النار.
وإما مستثناة منها، حيث إن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 101، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، ح (497). وفي
سنده بقية بن الوليد، قال عنه ابن حجر: كثير التدليس عن الضعفاء، وكذلك في سنده خالد بن يزيد بن عمر الفزاري قال عنه ابن حجر: مجهول الحال معروف النسب. التقريب 1/ 134، 265.
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 176: (وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عمر وهو أشبه). وصحح الشيخ الألباني الجزء المذكور منه في صحيح سنن ابن ماجة ص 100.
الوضوء مما مست النار
(1)
.
وثالثًا: أن النقض بلحوم الإبل له علتان:
إحداهما: كونه مما مست النار.
ثانيهما: كونه لحم إبل.
فعلى تقدير لو سلم أنه نسخ الوضوء مما مست النار مطلقاً فيبقى الجانب الآخر وهو
كونه لحم إبل، ونسخ إحدى الجهات لا يلزم منه نسخ الأخرى.
(2)
وقد اعترض أصحاب القول الأول على أدلة أصحاب القول الثاني بما يلي:
أولا: إنها منسوخة، والناسخ لها أحاديث ترك الوضوء مما مست النار، وخاصة حديث جابر رضي الله عنه «كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار» فهو عام يشمل لحم الجزور وغيره مما مست النار
(3)
.
قالوا: ويؤكد أن الرخصة هي الناسخة اتفاق الخلفاء الراشدين، فهم كانوا لا يتوضئون مما مست النار مطلقاً
(4)
.
(1)
المغني 1/ 252.
(2)
انظر: المغني 1/ 252، الشرح الكبير 2/ 56، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 21/ 261 - 263، شرح الزركشي 1/ 123.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 71، المجموع 2/ 50.
(4)
انظر: الأوسط 1/ 225، الاعتبار ص 157؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 39؛ المجموع 2/ 48.
والدليل على ذلك:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحماً ثم صلى ولم يتوضأ» ، (وأن أبا بكر أكل لبأً
(1)
ثم صلى ولم يتوضأ، وأن عمر أكل لحماً ثم صلى ولم يتوضأ).
(2)
ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «قرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبز ولحم، ثم دعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ» ، ثم دخلت مع عمر فوضعت له هاهنا جفنة فيها خبز ولحم وهاهنا جفنة فيها خبز ولحم فأكل عمر ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ)
(3)
.
ثالثاً: قال البخاري
(4)
: (وأكل أبو بكر، وعمر، وعثمان -رضي
(1)
اللبأ هو: أول اللبن عند النتاج والولادة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 579؛ مختار الصحاح ص 519.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 99، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (489)، وأحمد في المسند-واللفظ له- 22/ 203. وقال البصيري في زوائد ابن ماجة ص 102:(ورجال هذا الإسناد ثقات). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 99.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 165، وأحمد في المسند 22/ 345، وابن حبان في صحيحه ص 405. وسنده على شرط الشيخين.
(4)
هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي مولاهم، أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل الحديث
في زمانه، حدث عن عبيد الله بن موسى، وعاصم النبيل، وخلق كثير سواهم، وروى عنه الترمذي، ومحمد بن نصر المروزي، وخلق لا يُحصون، ومن مؤلفاته (الجامع الصحيح المسند) وكان رأساً في الذكاء وفي العلم وفي الورع، وتوفي سنة ست وخمسين ومائتين. انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 555؛ تهذيب التهذيب 9/ 39.
الله عنهم-فلم
يتوضئوا)
(1)
.
رابعاً: عن أبي سبرة النخعي
(2)
أن عمر بن الخطاب أكل لحم جزور ثم قام فصلى ولم يتوضأ)
(3)
.
خامساً: عن عبد الله بن الحسن
(4)
أن علياً أكل لحم جزور ثم صلى ولم
(1)
صحيح البخاري ص 49. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 390: (وقد وصله الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن طريق سليم بن عامر قال: (رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا) ورويناه من طرق كثيرة عن جابر مرفوعاً وموقوفاً على الثلاثة مفرقاً ومجموعاً).
(2)
أبو سبرة النخعي الكوفي، يقال اسمه عبد الله بن عابس، مقبول، روى عن عمر بن الخطاب، وفروة بن مسيك، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، والحسن بن مسافر، وغيرهما. انظر: الكاشف 3/ 299؛ التهذيب 12/ 94؛ التقريب 2/ 404.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 50، وسنده: حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر عن أبي سبرة النخعي.
(4)
هو: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الهاشمي المدني، أبو محمد، ثقة، روى عن أبيه، والأعرج، وغيرهما، وروى عنه: مالك، والليث، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وأربعين. انظر: الكاشف 2/ 71؛ التهذيب 5/ 166؛ التقريب 1/ 486.
يتوضأ)
(1)
.
أجاب أصحاب القول الثاني عن القول بالنسخ بما يلي:
أولاً: إنه لا يصح القول بالنسخ (لأن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل متأخرعن نسخ الوضوء مما مست النار، أو مقارن له بدليل أنه قرن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم وهي مما مست النار، فإما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي وإما أن يكون بشيء قبله، فإن كان به فالأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار، فكيف يجوز أن يكون منسوخاً به ومن شرط النسخ تأخر الناسخ. وإن كان النسخ قبله لم يجز أن ينسخ بما قبله)
(2)
.
ثانياً: أن أكل لحوم الإبل إنما نقض لكونه لحم إبل لا لكونه مما مست النار، ولهذا ينقض وإن كان نيئاً، فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى.
(3)
ثالثاً: أن أحاديث ترك الوضوء مما مست النار عامة وأحاديث الوضوء من لحوم الإبل خاصة، والعام لا ينسخ به الخاص، لأن من شرط النسخ تعذر الجمع، والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 51. وسنده: حدثنا وكيع عن شريك عن جابر عن عبد الله بن الحسن.
(2)
المغني 1/ 252. وانظر الشرح الكبير 2/ 56، ومجموع الفتاوى 21/ 261.
(3)
انظر: المغني 1/ 252، الشرح الكبير 2/ 56، مجموع الفتاوى 21/ 261.
التخصيص
(1)
.
ثانيًا: قال بعض أصحاب القول الأول:
يجوز أن يكون المراد بالوضوء في أحاديث الأمر بالوضوء من مما مست النار الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين والتنظيف، وفرق في ذلك بين لحم الإبل وغيره لما في لحوم الإبل من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره، فأكد الأمر فيه أكثر من غيره
(2)
.
أجاب عنه أصحاب القول الثاني بما يلي:
أولاً: أن حمل الوضوء على اللغوي ضعيف، لأن الوضوء إذا جاء على لسان الشارع وجب حمله على الوضوء الشرعي دون اللغوي لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضوعاته
(3)
.
ثانياً: أن الأمر بالوضوء منه خرج جواباً لسؤال السائل عن حكم الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها، فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة
(4)
.
(1)
المغني 1/ 252. وانظر: الشرح الكبير 2/ 56؛ مجموع الفتاوى 21/ 262؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 39؛ المجموع للنووي 2/ 50.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 70؛ الاستذكار 1/ 218؛ معالم السنن للخطابي 1/ 136؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 241؛ الاعتبار ص 159؛ المغني 1/ 253.
(3)
انظر: الاستذكار 1/ 218؛ المغني 1/ 253؛ الشرح الكبير 2/ 57؛ المجموع 2/ 50.
(4)
انظر: المغني 1/ 253؛ الشرح الكبير 2/ 57.
ثالثاً: أنه لو أراد غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم، فإن غسل اليد منهما مستحب
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب الوضوء مما مسته النار مطلقا وأنه الناسخ لغيره-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توضؤوا مما مست النار»
(2)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضؤوا مما مست النار»
(3)
.
ثالثاً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوضوء مما مست النار»
(4)
.
رابعاً: عن سلمة بن سلامة بن وقش
(5)
رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر: المغني 1/ 253؛ الشرح الكبير 2/ 57.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 35، كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار، ح (352).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 35 كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار، ح (353).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 35، كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار، ح (351)(90).
(5)
هو: سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة الأشهلي، الأنصاري، شهد العقبتين وبدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه محمد بن لبيد، وجبيرة، وتوفي سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك. انظر: أسد الغابة 2/ 276؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 232.
وخرجنا من دعوة دعينا لها ورسول الله صلى الله عليه وسلم على وضوء، فأكل ثم توضأ، فقلت له: ألم تكن على وضوء يا رسول الله؟ قال: «بلى ولكن الأمور تحدث وهذا مما حدث»
(1)
.
وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالوضوء مما مست النار-غير ما ذكر-أبو طلحة، وأبو
أيوب، وأبو موسى، وسهل بن الحنظلية
(2)
، وأم سلمة، وابن عمر، وأم حبيبة-رضي الله عنهم
(3)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير 7/ 44، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 242، والحازمي في الاعتبار ص 161. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 254:(رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث، وضعفه أحمد وجماعة، واتهم بالكذب). وكذلك في سنده زيد بن جبيرة بن محمد قال عنه ابن معين: لا شيء. وقال البخاري: منكر الحديث ومتروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، متروك الحديث لا يكتب حديثه. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ضعيف. وقال ابن حجر: متروك. انظر: التهذيب 3/ 349، 350؛ تقريب التهذيب 1/ 327؛ تعليقات ابن التركماني على السنن الكبرى للبيهقي 1/ 243.
(2)
هو: سهل بن عمرو، ويقال: عقيب بن عمرو بن عدي بن زيد، الأوسي الأنصاري، صحابي، شهد المشاهد كلها ما خلا بدر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو كبشة السلولي، وبشر بن قيس، ويزيد بن أبي مريم، وغيرهم. انظر: الكاشف 1/ 325؛ التهذيب 4/ 227؛ التقريب 1/ 398.
(3)
انظر: سنن الترمذي ص 29؛ الأوسط 1/ 217؛ شرح معاني الآثار 1/ 62 - 64.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، والحديث الأخير يدل على تأخر الوضوء مما مست النار على تركه من ذلك، فدل ذلك على أن هذه الأحاديث هي الناسخة لترك الوضوء مما مست النار
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على تأخير الأمر بالوضوء مما مست النار على تركه منه إلا الحديث الأخير وهو ضعيف لا يقوم به حجة
(2)
.
دليل القول الرابع
أما أصحاب القول الرابع فأدلتهم هي الأدلة المذكورة في الوضوء مما مست النار وفي الترك منه، لكن هم جمعوا بين تلك الأحاديث، وذلك بأنهم حملوا الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء مما مست النار على الاستحباب، والأحاديث الواردة في الترك منه على عدم الوجوب، ولا تعارض بين عدم الوجوب والاستحباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله: (وكذلك أمره بالوضوء مما
(1)
انظر: التمهيد 2/ 116، 117؛ السنن الكبرى 1/ 243؛ الاعتبار للحازمي ص 160؛ فتح الباري 1/ 391.
(2)
انظر تخريج الحديث الأخير وأقوال أهل العلم في بعض رواته.
مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن فليتوضأ، فإن النار تطفأ بالماء، وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال من قول من يوجبه وقول من يراه منسوخاً، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره)
(1)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أن الراجح هو استحباب الوضوء مما مست النار وعدم وجوبه إلا من لحم الجزور، وذلك لما يلي:
أ- لصحة الأحاديث في ذلك، وعدم معارضتها لأحاديث ترك الوضوء مما مست النار، وذلك بحملها على الخصوص.
ب-وخروجاً من الخلاف، وذلك بأن من توضأ من لحم الإبل وصلى فصلاته صحيحة وطهارته كاملة بالاتفاق، بخلاف من لم يتوضأ منه فإنه لا طهارة له عند جماعة من أهل العلم.
ج-وعملاً بالاحتياط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا
(1)
مجموع الفتاوى 25/ 239.
يريبك»
(1)
.
ثانياً: إن الأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، إن كان المراد بها الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي تدل على ترك الوضوء منه؛ لتأخرها عليها، كما سبق ذكره. إلا لحم الإبل فإنه يجب الوضوء منه، وليس ذلك من المنسوخ؛ لأن الأمر بالوضوء منه جاء مع ترك الوضوء من لحم الغنم، وهو مما مست النار، فدل ذلك على تخصيص لحم الإبل من عموم ترك الوضوء مما مست النار، كما سبق ذكره.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 567، أبواب صفة القيامة، باب، ح (2518)، والنسائي في سننه ص 855، -واللفظ له-كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، ح (5711)، والإمام أحمد في المسند 1/ 329، والدارمي في سننه 2/ 320، والحاكم في المستدرك 2/ 16، وقال:(حديث صحيح)، ووافقه الذهبي. وصححه كذلك الترمذي في سننه ص 567، والشيخ الألباني. إرواء الغليل 7/ 255، وفي صحيح سنن الترمذي ص 567، وصحيح سنن النسائي ص 855.
المطلب العاشر: الوضوء من مس الذكر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث ترك الوضوء من مس الذكر منسوخ، فيجب على من مس ذكره أن يتوضأ وضوءه للصلاة
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: أبو القاسم الطبراني
(2)
، وابن حبان البستي
(3)
،
(1)
نقله ابن عبد البر في التمهيد 2/ 267، والاستذكار 1/ 290، عن ابن السكن. وأشار إليه الخطابي في معالم السنن 1/ 132، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 213. وانظر كذلك: التحقيق لابن الجوزي 1/ 158؛ المجموع للنووي 2/ 36؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 29؛ شرح العمدة لابن تيمية 1/ 307؛ كشاف القناع 1/ 154؛ التلخيص لابن حجر 1/ 125؛ فتاوى اللجنة الدائمة 5/ 286.
(2)
هو: سليمان بن أحمد بن أيوب، أبو القاسم الطبراني، الإمام الحافظ، سمع أبا عبد الرحمن النسائي، وهاشم بن مرثد الطبراني، وغيرهما، وحدث عنه أبو خليفة الجمحي، وابن عقدة، وغيرهما، ومن مؤلفاته المعاجم الثلاثة-الكبير والأوسط والصغير- وتوفي سنة ستين وثلاثمائة. انظر: تذكرة الحفاظ 3/ 912؛ البداية والنهاية 11/ 253؛ شذرات الذهب 3/ 30.
وانظر قوله في: المعجم الكبير 8/ 402.
(3)
هو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي الدارمي البستي، من شيوخه ابن خزيمة، وزكريا الساجي، وحدث عنه: ابن منده، وأبو عبد الله الحاكم، وغيرهما، وكان من الفقهاء وحفاظ الآثار، ومن مؤلفاته المسند الصحيح يعني به كتاب الأنواع والتقاسيم، وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء 16/ 92 - 102؛ معجم البلدان 1/ 328.
وانظر قوله في: صحيح ابن حبان ص 403.
والبغوي
(1)
، وابن حزم
(2)
، والحازمي
(3)
، وابن العربي
(4)
، وابن قدامة
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ في هذه المسألة أحد أسباب الاختلاف، عند أهل العلم، ولكن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف ظواهر الآثار الواردة في المسألة، كما سيظهر ذلك من أدلة الأقوال. كما أن الاختلاف-عند بعض أهل العلم- في صحة الأحاديث الواردة في المسألة سبب آخر للاختلاف فيها
(6)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن بسرة بنت صفوان
(7)
رضي الله عنها أنها سمعت رسول
(1)
انظر: المصابيح للبغوي-مع كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح- 1/ 187.
(2)
انظر: المحلى 1/ 223.
(3)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 154.
(4)
انظر: عارضة الأحوذي 1/ 118.
(5)
هو: عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، أبو محمد، أحد الأئمة الأعلام، سمع من والده، وأبي المكرم ابن هلال، وغيرهما، ومن مؤلفاته: المغني، وتوفي يوم عيد الفطر سنة عشرين وستمائة. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 133؛ شذرات الذهب 5/ 88.
وانظر قوله في: المغني 1/ 242.
(6)
انظر: بداية المجتهد 1/ 81.
(7)
هي: بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد، القرشية الأسدية، من المهاجرات المبايعات، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنها: مروان بن الحكم، وعروة بن الزبير، وغيرهما. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 245؛ أسد الغابة 6/ 40؛ الكاشف 3/ 421؛ الإصابة 4/ 2443؛ التهذيب 12/ 355.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 32، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (181)، والترمذي في سننه -ولفظه:(من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) - ص 30، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (82)، والنسائي في سننه ص 35، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (163)، وابن ماجة في سننه ص 98، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (479)، ومالك في الموطأ 1/ 62، والشافعي في الأم 1/ 67، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 113، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 150، وأحمد في المسند 45/ 265، والدارمي في سننه 1/ 199، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 63، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 71، وابن حبان في صحيحه ص 400، والدارقطني في سننه 1/ 146، والحاكم في المستدرك 1/ 23، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 204.
وعلل هذا الحديث بأنه: (من رواية عروة عن مروان عن بسرة، وأن رواية من رواه عن عروة عن بسرة منقطعة؛ فإن مروان حدث به عروة فاستراب عروة بذلك، فأرسل مروان حرسيه إلى بسرة فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك، فرواية من رواه عن عروة عن بسرة منقطعة، والواسطة بينه وبينها إما مروان وهو مطعون في عدالته، أو حرسيه وهو مجهول) التلخيص الحبير 1/ 122. وانظر: شرح معاني الآثار 1/ 71 - 73؛ نصب الراية 1/ 55.
وأجيب:
1 -
بأن عروة سمعه من بسرة، ففي رواية ابن حبان والحاكم والبيهقي:(قال عروة: فسألت بسرة فصدقته) انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 64؛ صحيح ابن حبان ص 401؛ المستدرك 1/ 231؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 205؛ نصب الراية 1/ 55؛ التلخيص الحبير 1/ 122.
2 -
أن عروة رواه عن مروان قبل خروجه على عبد الله بن الزبير، وقد قال ابن حزم في المحلى 1/ 221:(مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ولم يلقه عروة قط إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه، هذا مما لا شك فيه).
3 -
أن مروان من رجال الكتب الستة غير مسلم، فقد أخرج له البخاري في الصحيح وأصحاب السنن الأربعة في سننهم، ونُقل عن عروة بن الزبير أنه قال: كان مروان لا يتهم في الحديث. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 84؛ التقريب 2/ 171.
ولذلك صححه الأئمة وممن صححه: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والحازمي، والنووي، والذهبي. وقال الإمام البخاري: إنه أصح شيء في الباب. وكذلك صححه الشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 31؛ سنن الدارقطني 164؛ المستدرك للحاكم 1/ 233؛ التمهيد 2/ 266؛ المجموع 2/ 30، 35؛ التلخيص الحبير 1/ 122؛ نيل الأوطار 1/ 197؛ إرواء الغليل 1/ 150.
ثانياً: عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مس فرجه فليتوضأ»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 98، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (481)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 150، والطحاوي في شرح معاني الاثار 1/ 75، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 207، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 208.
وأعله البخاري ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وهشام بن عمار والطحاوي: بأن مكحولاً لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، فهو منقطع. انظر: سنن الترمذي ص 31؛ شرح معاني الآثار 1/ 75؛ نصب الراية 1/ 57؛ التلخيص الحبير 1/ 124.
وخالفهم دحيم فأثبت سماع مكحول عن عنبسة، قال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 267:(قد صح عند أهل العلم سماع مكحول من عنبسة ابن أبي سفيان، ذكر ذلك دحيم وغيره). وانظر: التلخيص الحبير 1/ 124.
وصححه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وابن السكن-وقال: لا أعرف له علة-. وكذلك صححه الشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 31؛ التمهيد 2/ 266، 267؛ التلخيص الحبير 1/ 124؛ إرواء الغليل 1/ 151.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء»
(1)
.
(1)
أخرجه الشافعي في الأم 1/ 67، -ولفظه: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبينه شيء
فليتوضأ) وأخرجه الإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 14/ 130، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 74، وابن حبان في صحيحه ص 402، والدارقطني في سننه 1/ 147، والحاكم في المستدرك 1/ 233، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 202، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 207، وابن عبد البر في التمهيد 2/ 268.
وفي طريق الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، والطحاوي، والدارقطني، وابن شاهين، والبيهقي يزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، ويزيد ضعيف. انظر: التمهيد 2/ 268؛ التلخيص الحبير 1/ 126.
أما في طريق ابن حبان والحاكم وابن عبد البر ففيه نافع بن أبي نعيم، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة، قال ابن حبان في صحيحه ص 402:(احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ لأن يزيد بن عبد الملك النوفلي تبرأنا من عهدته في كتاب الضعفاء).
وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 268: (كان هذا الحديث لا يعرف إلا ليزيد ين عبد الملك النوفلي هذا، وهو مجتمع على ضعفه حتى رواه عبد الرحمن بن القاسم -صاحب مالك-عن نافع بن أبي نعيم القارئ، وهو إسناد صالح إن شاء ا لله).
وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، والذهبي. وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب. انظر: المستدرك 1/ 233؛ التمهيد 2/ 268؛ التلخيص الحبير 1/ 126؛ نيل الأوطار 1/ 199.
ونافع بن أبي نعيم هو أبو رويم أحد القراء السبعة، ومقرئ أهل المدينة، قال أحمد:(كان يؤخذ عنه القرآن وليس بشيء في الحديث). ووثقه ابن معين، وقال ابن المديني: لا بأس به. وقال السنائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: ولم أر في أحاديثه شيئا منكراً، وأرجو أنه لا بأس به. انظر: ميزان الإعتدال 4/ 242.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 98، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح (480)، والشافعي في الأم 1/ 67، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 74، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 197، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 212، وابن عبد البر في التمهيد 2/ 267.
وأعل الحديث:
1 -
بالإنقطاع، فقد اختلف في انقطاعه ووصله، فرواه عبد الله بن نافع موصولاً، فذكره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما غيره فرووه منقطعاً موقوفاً على محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ولا يذكرون فيه جابراً.
قال الشافعي في الأم 1/ 67 - 68: (وسمعت غير واحد من الحفاظ يرويه ولا يذكر فيه جابراً).
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 74: (هذا الحديث كل من رواه عن ابن أبي ذئب من الحفاظ يقطعه، ويوقفه على محمد بن عبد الرحمن -ثم ذكره موقوفاً على محمد بن عبد الرحمن ثم قال: - فهؤلاء يوقفون هذا الحديث على محمد بن عبد الرحمن، ويخالفون فيه ابن نافع، وهو عندكم حجة عليه، وليس هو بحجة عليهم، فكيف تحتجون بحديث منقطع في هذا وأنتم لا تثبتون المنقطع؟).
لكن قد يقال: بأن معن بن عيسى تابع عبد الله بن نافع في ذكر جابر. قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 7/ 212: (وتابع عبد الله بن نافع على ذكر جابر فيه معن بن عيسى).
2 -
كما أعل الحديث بعقبة بن عبد الرحمن الحجازي، فقد قال ابن المديني: شيخ مجهول. وقال ابن عبد البر: ليس بمشهور بحمل العلم. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال ابن حجر: مجهول. إلا أن ابن حبان ذكره في الثقات. انظر: التمهيد 2/ 267؛ ميزان الإعتدال 3/ 86؛ زوائد ابن ماجة ص 99؛ تهذيب التهذيب 7/ 212؛ التقريب ص 681.
والحديث هذا قال عنه يحيى بن معين، والبخاري: لا يصح. انظر: التمهيد 2/ 266؛ ميزان الإعتدال 3/ 86؛ تهذيب التهذيب 7/ 212.
وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 99: (هذا إسناد ضعيف). وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 267: (وهذا إسناد صالح).
وقال الضياء المقدسي: لا أعلم بإسناده بأساً. انظر التلخيص الحبير 1/ 124.
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 98: (صحيح بما قبله) يعني حديث بسرة.
خامساً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من
مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ»
(1)
.
سادساً: عن طلق بن علي
(2)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فليتوضأ»
(3)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 11/ 648، وابن الجارود في المنتقى ص 21، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 75، والدارقطني في سننه 1/ 147، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 200، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 210، والحازمي في الاعتبار ص 145. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 250:(رواه أحمد وفيه بقية بن الوليد وقد عنعنه وهو مدلس). لكن الحديث من غير طريق الإمام أحمد والطحاوي صرح فيه بقية بن الوليد بالتحديث، فلا يرد إشكال التدليس عليه. وقد صححه البخاري، والحازمي، والشيخ الألباني. انظر: الاعتبار ص 145، 149؛ التلخيص الحبير 1/ 124؛ إرواء الغليل 1/ 152.
(2)
هو: طلق بن علي بن عمرو، ويقال: ابن علي بن المنذر، الحنفي السحيمي، له صحبة ووفادة ورواية، وشارك مع النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مسجده، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه قيس، وابنته خلدة، وغيرهما. انظر: الكاشف 2/ 41؛ الإصابة 2/ 954.
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 8/ 402، والحازمي في الاعتبار ص 154. وصححه الطبراني، وذكره الهيثمي في المجمع 1/ 250، ولم يتكلم فيه بشيء. وقال ابن عبد الهادي في المحرر ص 99: (وإسناده لا يثبت).
وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 62: (سنده ضعيف، فإن حماد بن محمد وشيخه أيوب ضعيفان).
وفي سنده أيوب بن عتبة وقد ضعفه كل من: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والجوزجاني، وابن عمار، وعمرو بن علي، ومسلم، والنسائي، ويعقوب بن سفيان، وابن عبد البر، وابن حجر.
وقال البخاري وابن خراش: ضعيف جداً. وقال الذهبي: ضعفوه لكثرة مناكيره.
وعن أحمد في رواية: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير. وقال أبو حاتم: أما كتبه فصحيحة ولكن يحدث من حفظه فيغلط. انظر: التمهيد 2/ 27؛ ميزان الإعتدال 1/ 290؛ المغني في الضعفاء 1/ 148؛ تهذيب التهذيب 1/ 371؛ التقريب 1/ 118.
وفي سنده كذلك حماد بن محمد وهو كذلك ضعيف. انظر: ميزان الإعتدال 1/ 599؛ المغني في الضعفاء 1/ 288.
سابعاً: عن طلق رضي الله عنه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال: «هل هو إلا مُضغَة
(1)
منه» أو قال: «بَضعَة
(2)
منه»
(3)
.
(1)
المضغة القطعة من اللحم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 664؛ مختار الصحاح ص 551.
(2)
البضعة بفتح الباء-وقد تكسر- القطعة من اللحم. انظر: النهاية 1/ 139؛ المصباح المنير ص 50.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 32، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (182)، والترمذي في سننه ص 31، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر، ح (85)، والنسائي في سننه ص 35، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك، ح (165)، وابن ماجة في سننه-ولفظه: فقال: (ليس فيه وضوء إنما هو منك) ص 99، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (483)، ومحمد في الموطأ ص 35، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 152، وأحمد في المسند 26/ 214، 220، وابن الجارود في المنتقى ص 22، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 76، وابن حبان في صحيحه ص 402، والطبراني في الكبير 8/ 401، والدارقطني في سننه 1/ 149، والبيهقي قي السنن الكبرى 1/ 212.
وفي سنده قيس بن طلق بن علي، وقد ضعفه أحمد بن حنبل في رواية عنه، ويحيى بن معين في رواية عنه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ليس ممن تقوم به حجة. وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره.
وقال ابن معين في رواية: ثقة. وكذلك وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال أحمد في رواية: ما أعلم به بأساً. وفي رواية ثالثة: غيره أحسن منه. وقال ابن قطان: يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً. وقال ابن حجر: صدوق. وقال الشيخ الألباني: وقد تكلم بعضهم في قيس بن طلق بغير حجة نعلمها، وقد وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم. انظر: سؤالات أبي داود للإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم ص 355؛ ميزان الاعتدال 3/ 397؛ المغني في الضعفاء 2/ 222؛ تهذيب التهذيب 8/ 345؛ التقريب 2/ 34؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 333.
وحديث طلق رضي الله عنه هذا ضعفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي. وصححه عمرو بن علي الفلاس وقال:(هو عندنا أثبت من حديث بسرة). وقال ابن المديني: (هو عندنا أحسن من حديث بسرة) وكذلك صححه الطحاوي وقال: (صحيح مستقيم الإسناد غير مضطرب) وصححه أيضا ابن حبان والطبراني، وابن حزم. وقال الترمذي:(وهذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب). وقال ابن حجر: (صحيح أو حسن). وقال الشيخ الألباني: (إسناده صحيح) وكذلك قال: (سنده صحيح رجاله كلهم ثقات). انظر: سنن الترمذي ص 31؛ شرح معاني الآثار 1/ 76؛ المعجم الكبير 8/ 402؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 157؛ المحرر لابن عبد الهادي ص 99؛ فتح الباري 1/ 231؛ التلخيص الحبير 1/ 125؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 333.
ويستدل منها على نسخ ترك الوضوء من مس الذكر على الوجوه الآتية:
أولاً: لأن من بين هذه الأدلة في إيجاب الوضوء من مس الذكر رواية بسرة بنت صفوان رضي الله عنها وقد أسلمت عام الفتح، ومنها رواية أبي هريرة رضي الله عنه وهو قد أسلم سنة سبع من الهجرة، فدل ذلك على أن خبر بسرة وأبي هريرة رضي الله عنهما متأخر على خبر ترك الوضوء من مس الذكر؛ لأنه من رواية طلق بن علي رضي الله عنه وهو قد سمع هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم وفداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبني المسجد، وبناء المسجد كان أول سنة من سني الهجرة، فدل ذلك على أن خبر بسرة وأبي هريرة رضي الله عنهما كان بعد خبر طلق بسنين، وإنما يؤخذ بآخر الأمرين
(1)
.
قال ابن حبان: (إن طلق بن علي رجع إلى بلده بعد ما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة من سني الهجرة- إلى أن قال: - ولا يعلم رجوعه إلى
(1)
انظر: صحيح ابن حبان ص 403؛ معالم السنن للخطابي 1/ 133؛ مصابيح السنة -مع مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح- 1/ 278؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 213؛ التمهيد 2/ 267؛ الاستذكار 1/ 290؛ الاعتبار ص 153، 154؛ عارضة الأحوذي لابن العربي 1/ 118؛ المغني 1/ 242؛ الشرح الكبيرللمقدسي 2/ 29؛ شرح العمدة لابن تيمية 1/ 308؛ كشاف القناع 1/ 154.
المدينة بعد ذلك، فمن ادعى
رجوعه بعد ذلك فعليه أن يأتي بسنة مصرحة ولا سبيل له إلى ذلك)
(1)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن القول بأن بسرة رضي الله عنها أسلمت عام الفتح فيدل ذلك على تأخر خبرها، ففيه نظر؛ لأن غير واحد من أهل العلم قد صرح بأن بسرة من المهاجرات، حتى قال الإمام الشافعي: لها سابقة وهجرة قديمة
(2)
.
ومعلوم أنه لا هجرة بعد الفتح.
ثانياً: ويعترض على القول بأن من الذين رووا الوضوء من مس الذكر أبو هريرة رضي الله عنه وقد أسلم سنة سبع، وقدوم طلق كان في السنة الأولى حين كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يبنون المسجد، وأنه لا يوجد دليل على أنه رجع بعد ذلك إلى المدينة، يعترض عليه بما يلي:
أولاً- أنه قد ذكر غير واحد من أهل العلم أن المسجد النبوي بُني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غير مرة، وأن البناء الثاني كان بعد فتح خيبر
(3)
.
(1)
صحيح ابن حبان ص 403.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 245؛ الاعتبار ص 150؛ أسد الغابة 6/ 40؛ الإصابة 4/ 2443؛ تهذيب التهذيب 12/ 355.
(3)
انظر: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمهودي 1/ 232، 338؛ عمارة المسجد النبوي منذ إنشائه حتى نهاية العصر المملوكي، للدكتور محمد هزاع الشهري، ص 51؛ تاريخ معالم المدينة المنورة قديماً وحديثاً، للسيد أحمد ياسين ص 56؛ الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين، لغالي محمد الأمين الشنقيطي ص 27.
ولذلك روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه شارك في بناء المسجد النبوي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها قد شقت عليه، فقلت: ناولنيها يا رسول الله، فقال:(خذ غيرها يا أبا هريرة، فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة)
(1)
.
كما روي أن عبد الله بن عمرو، وأبوه
(2)
رضي الله عنهما شاركا في بناء المسجد.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال لأبيه: وقد قتلنا هذا الرجل، وقد قال
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 14/ 512، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 12:(رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح).
وفي سنده المطلب بن عبد الله بن حنطب راويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال البخاري في التاريخ الصغير ص 17: (لا يعرف للمطلب سماع من أبي هريرة) ويدل كلام ابن أبي حاتم أن روايته عن أبي هريرة مرسلة. انظر: تهذيب الكمال 28/ 83.
وقال السمهودي في وفاء الوفاء 1/ 338، بعد ذكر هذا الحديث:(قلت: وهذا في البناء الثاني؛ لأن أبا هريرة لم يحضر البناء الأول؛ لأن قدومه عام فتح خيبر).
(2)
هو: عمرو بن العاص بن الوائل، القرشي السهمي، أبو عبد الله، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عبد الله، وعروة بن الزبير، وغيرهما، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وولي إمرة مصر لمعاوية، وتوفي سنة ثلاث وأربعين، -وقيل غير ذلك-. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 47؛ شذرات الذهب 1/ 53.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال. قال: أي الرجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسو الله صلى الله عليه وسلم المسجد فكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار كان يحمل لبنتين لبنتين فمرّ على رسول الله فقال: «تحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض
(1)
الحديث
(2)
.
فعمرو بن العاص رضي الله عنه شارك في بناء المسجد النبوي، وهو أسلم بعد فتح خيبر على ما قاله غير واحد من أهل العلم، وقيل: أسلم سنة خمس
(3)
.
وليس في حديث طلق رضي الله عنه أن حضوره كان في السنة الأولى من الهجرة، بل فيه ذكر حضوره بناء المسجد، فيحتمل أن يكون حضر البناء الأول، ويحتمل أن يكون حضر البناء الثاني.
(1)
الرحض: العرق الذي يغسل الجلد لكثرته. النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 644؛ مجمع بحار الأنوار 2/ 306.
(2)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/ 552. وحديث حمل عمار بن ياسر لبنتين لبنتين في بناء المسجد رواه البخاري في صحيه ص 96، كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، ح (447).
قال السمهودي في وفاء الوفاء 1/ 232 بعد ذكر هذا الحديث: (قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد؛ لأن إسلام عمرو كان في الخامسة).
(3)
انظر: الإصابة 2/ 1341؛ تهذيب التهذيب 8/ 47؛ التقريب 1/ 738؛ شذرات الذهب 1/ 53. وذكر السمهودي في وفاء الوفاء 1/ 232: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه أسلم في الخامسة.
ثانياً- أنه قد روي عن طلق رضي الله عنه أحاديث تدل على أنه كان في المدينة في غير العام الأول من الهجرة، ومن ذلك:
1 -
عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن أغمي عليكم فأتموا العدة»
(1)
.
وصوم رمضان فرض في السنة الثانية إجماعًا
(2)
.
2 -
عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: جلسنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء وفد عبد القيس فقال: «ما لكم قد اصفرت ألوانكم وعظمت بطونكم وظهرت عروقكم؟» قال: قالوا: أتاك سيدنا فسألك عن شراب كان لنا موافقاً فنهيته
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 26/ 218، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 438، والطبراني في الكبير 8/ 397، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 350.
وفي سنده محمد بن جابر السحيمي، ضعفه ابن معين، والنسائي، ويعقوب بن سفيان، والعجلي. وقال البخاري: ليس بالقوي. وقال هو وكذلك الإمام أحمد: له مناكير. وقال الذهلي: لا بأس به. وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الوهم متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ساء حفظه في الآخرة وذهبت كتبه. وقال ابن حجر: صدوق ذهبت كتبه فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمي فصار يلقن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 496؛ المغني في الضعفاء 2/ 274؛ تهذيب التهذيب 9/ 75؛ التقريب 2/ 61.
لكن الحديث له شاهد صحيح من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. انظر: صحيح البخاري ص 376، 377، ح (1906) و (1909).
(2)
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 242؛ المجموع 6/ 163؛ فتح الباري 4/ 290؛ الإنصاف 7/ 323؛ الدر المختار 3/ 296.
عنه، وكنا بأرض مُحِمَّة، قال:«فاشربوا ما طاب لكم»
(1)
.
3 -
عن طلق رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء صحار عبد القيس
(2)
فقال: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه من ثمارنا؟ قال: فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله ثلاث مرات، ثم قام بنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما قضى الصلاة قال:«من السائل عن المسكر؟ يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحداً من المسلمين، فوالذي نفس محمد بيده ما شربه قط رجل ابتغاء لذة سكره يسقيه الله خمراً يوم القيامة»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 82، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 403. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 68:(رواه الطبراني وفيه عجيبة بن عبد الحميد، قال الذهبي: لا يكاد يعرف، وبقية رجاله ثقات). وكلام الذهبي هذا ذكره في الميزان 3/ 61، وفي المغني في الضعفاء 2/ 53. لكن قال يحيى بن معين فيه:(ثقة). كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7/ 42. وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: الثقات لابن حبان 7/ 307.
(2)
هو: صحار بن العباس، - ويقال: ابن عياش- بن شراحيل بن منقذ بن حارثة، ابن عبد القيس العبدي الديلي، أبو عبد الرحمن، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابناه: عبد الرحمن، وجعفر، وغيرهما، وسكن البصرة ومات بها. انظر: أسد الغابة 2/ 391؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 263؛ الإصابة 2/ 887.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 66، والطبراني في الكبير 8/ 404، وقال ابن حجر في الإصابة 2/ 889: (أخرج أحمد في كتاب الأشربة الذي وقع لنا من طريق أبي القاسم البغوي عنه قال: حدثنا عبد الصمد حدثنا ملازم بن عمرو السحيمي حدثنا سراج بن عقبة عن عمته خلدة بنت طلق قالت: حدثني أبي طلق أنه كان عند رسول الله جالساً فجاء صحار عبد القيس فقال: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه بأرضنا من ثمارنا
…
) الحديث. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 73: (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات).
وهذان الحديثان يدلان على أن طلق رضي الله عنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدوم وفد عبد القيس، ووفد عبد القيس قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة
(1)
.
وقيل: كان قدوم وفد عبد القيس سنة تسع
(2)
.
وذكر ابن حجر أنه كان لهم وفادتان: إحداهما قبل الفتح، وثانيتهما كانت في سنة الوفود
(3)
.
ثالثًا: أن طلق بن علي رضي الله عنه كان في وفد بني حنيفة، والمعروف أن وفد
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 1/ 314؛ شرح النووي لصحيح مسلم 1/ 152؛ الإصابة 2/ 888، وقد ذكر ابن حجر في ترجمة صحار بن العباس -وهو صحار عبد القيس- أن ابن شاهين روى من طريق حسين بن محمد
…
عن صحار بن العباس ومزيدة بن مالك في نفر من عبد القيس قالوا: كان الأشج أشج عبد القيس
…
إلى أن قال: - ثم خرج في ستة عشر رجلاً من أهل هجر
…
-وذكر منهم صحار بن العباس- فقدموا المدينة
…
وكان قدومهم عام الفتح، وشخص النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها .. ).
(2)
قال ابن هشام في السيرة النبوية 2/ 559: (ذكر سنة تسع وتسميتها سنة الوفود. ثم قال في ص 575: (قدوم الجارود في وفد عبد القيس: قال ابن إسحاق وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش، أخو عبد القيس
…
) وانظر كذلك: تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون ص 237، 243.
(3)
انظر: فتح الباري 7/ 738، والرحيق المختوم للمباركفوري ص 445.
بني حنيفة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع
(1)
.
رابعاً: إن الأحاديث المروية عن طلق رضي الله عنه في أحدهما أنه حضر بناء المسجد النبوي، وفي الحديث الثاني عنه روايته مرفوعاً في مس الذكر (هل هو إلا بضعة منك) وهما حديثان مستقلان، فيحتمل أن يكون سمع هذا الحديث (هل هو إلا بضعة منك) حين بناء المسجد النبوي، ويحتمل أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في غير ذاك الوقت، وليس هناك حديثاً يدل على أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم عند بناء المسجد إلا حديثاً رواه البيهقي، ولفظه:(عن طلق رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد، فقال: (اخلط الطين فإنك أعلم بخلطه) فسألته أو سأله رجل فقال: أرأيت الرجل يتوضأ ثم يمس ذكره، فقال:(إنما هو منك)
(2)
.
لكن هذا الحديث ضعيف؛ لضعف أحد رواته
(3)
. ثم يظهر بالمقارنة بين الروايات أن هذا الحديث حديث مدرج
(4)
من بعض الرواة؛ حيث جعل
(1)
انظر: السيرة لابن هشام 2/ 576؛ الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 316؛ فتح الباري 7/ 740؛ تهذيب سيرة ابن هشام ص 244.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي 1/ 213.
(3)
وهو محمد بن جابر، وقد سبق كلام أهل العلم فيه في حديث:(إذا رأيتم الهلال فصوموا). وانظر كذلك الجوهر النقي لابن التركماني 1/ 213.
(4)
الحديث المدرج في الاصطلاح: ما غير سياق إسناده أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل. تيسير مصطلح الحديث ص 102. والمراد به هنا مدرج المتن، وهو: ما أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل. تيسير مصطلح الحديث ص 103. وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 126؛ وتقريب النواوي مع تدريب الراوي 1/ 271؛ تنقيح الأنظار لمحمد بن إبراهيم الوزير ص 170.
الحديثين حديثاً واحداً
(1)
.
فثبت مما تقدم:
1 -
أن طلق بن علي رضي الله عنه قدم المدينة غير مرة.
2 -
أن طلق بن علي رضي الله عنه شارك في بناء المسجد النبوي، لكن لا يوجد ما يصرح بأن ذلك كان في البناء الأول.
3 -
لا يثبت ما يدل على أن سماعه لحديث: (هل هو إلا بضعة منك) كان عند مشاركته
في بناء المسجد النبوي، بل حديث:(هل هو إلا بضعة منك) حديث مستقل، وحديث مشاركته في بناء المسجد حديث مستقل، وليس هما حديثاً واحداً
(2)
.
خامساً: أن أهل العلم ذكروا أن التاريخ لا يُعلم بتقدم إسلام الرواي، وتقدم أخذه، وأن ذلك لا يكون دليلاً على النسخ
(3)
.
ثانياً: - من وجوه الاستدلال على النسخ- إن حديث إيجاب الوضوء
(1)
انظر للمقارنة بين الروايتين-الرواية في بناء المسجد، والرواية في عدم الوضوء من مس الذكر- حتى يظهر أن رواية البيهقي مدرجة، ما يلي: سنن أبي داود ص 32، وسنن الترمذي ص 31، وسنن النسائي ص 35، وسنن ابن ماجة ص 99، وصحيح ابن حبان ص 402، 403، والمعجم الكبير للطبراني 8/ 396 - 402، وسنن الدارقطني 1/ 149.
(2)
يظهر ذلك بالرجوع إلى تخريج الحديثنين.
(3)
انظر: نيل الأوطار 1/ 198؛ الشرح الممتع 1/ 234.
من مس الذكر ناسخ لحديث سقوط الوضوء منه؛ لأن إيجاب الوضوء منه إنما هو مأخوذ من جهة الشرع لا مدخل فيه للعقل؛ لاجتماعه مع سائر الأعضاء، فمحال أن يقال: إنما هو بضعة منك والشرع قد ورد بإيجاب الوضوء منه، وجائز أن يجب منه الوضوء بعد ذلك القول شرعاً حادثاً؛ لأنه يحدث من أمره لعباده ما يشاء
(1)
.
ويعترض عليه بما يلي:
1 -
بأنه لا يمكن كذلك القول بنسخ حديث طلق (هل هو إلا بضعة منك)؛ لأنه معلول بعلة لا يمكن أن تزول، وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول فإن الحكم لا يمكن أن يزول؛ لأن الحكم يدور مع علته، والعلة هي كون ذكر الإنسان بضعة منه
(2)
.
2 -
بأنه كان من المحال أن يقال: (إنما هو بضعة منك) والشرع كان ورد بإيجاب الوضوء منه، لكن لو حمل الوضوء الوارد منه في الشرع على الندب والاستحباب فليس بمحال أن يقال بعد ذلك:(إنما هو بضعة منك)؛ وذلك لذكر بيان الجواز، وأن الأمر الأول كان للندب والاستحباب لا الوجوب.
3 -
أن للمخالف أن يعكس فيقول: قول الصحابي في حديث طلق: (ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ) يشعر بأنه كان بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر: التمهيد 2/ 270؛ الاستذكار 1/ 295؛ المحلى 1/ 223.
(2)
انظر: الشرح الممتع 1/ 233.
شرع فيه الوضوء، فأراد أن يستيقن ذلك، وإلا فالعقل لا يهتدي إلى أن مس الذكر يناسب نقض الوضوء، فعلى ذلك
يكون حديث طلق في عدم الوضوء من مس الذكر آخر الأمرين
(1)
.
ثالثاً: - من وجوه النسخ- ولأن طلق بن علي رضي الله عنه روي عنه حديث الوضوء من مس الذكر، وكذلك روي عنه حديث ترك الوضوء من مس الذكر، فيشبه أن يكون سمع أولاً حديث ترك الوضوء من مس الذكر، ثم سمع حديث الوضوء منه، فوافق حديث بسرة وأبي هريرة وغيرهما-رضي الله عنهم ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فيكون قد سمع الناسخ والمنسوخ
(2)
.
ويعترض عليه بما يلي:
1 -
بأن حديث الوضوء من مس الذكر من رواية طلق بن علي رضي الله عنه ضعيف فلا يصح منه الاستدلال على النسخ
(3)
.
2 -
بأن للمخالف أن يعكس فيقول: حديث طلق رضي الله عنه في عدم الوضوء من مس الذكر هو المتأخر؛ لأن قول الرجل: (ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ) فيه دلالة على أنه كان قد بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع فيه الوضوء، فأراد أن يستيقن ذلك، وإلا فالمستقر عندهم أن الأحداث إنما كانت من الخارج النجس؛ لأن العقل لا يهتدي إلى أن مس الذكر يناسب نقض الوضوء، فعلى هذا يكون حديث طلق رضي الله عنه في عدم نقض الوضوء من مس
(1)
انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 123.
(2)
انظر: المعجم الكبير للطبراني 8/ 402؛ الاعتبار ص 154.
(3)
انظر الكلام عليه في ص 300.
الذكر هو آخر الأمرين
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الوضوء من مس الذكر على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا ينقض الوضوء بمس الذكر، ولا يجب الوضوء منه.
وهو مذهب الحنفية
(2)
. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، و
عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل
(3)
، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
وهو رواية عن سعد بن أبي وقاص
(4)
، وأبي هريرة، وابن عباس -ضي الله عنهم-
(5)
.
(1)
انظر: اللباب للمنبجي 1/ 123.
(2)
انظر: الأصل 1/ 46؛ موطأ محمد ص 35؛ المبسوط 1/ 71؛ بدائع الصنائع 1/ 132؛ فتح القدير 1/ 54؛ الدر المختار 1/ 249؛ حاشية ابن عابدين 1/ 250.
(3)
هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدني، كان من نجباء الصحابة، وشهد العقبة، وبدراً والمشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما، وتوفي بالطاعون سنة ثماني عشرة، وقيل سنة سبع عشرة. انظر: الكاشف 3/ 135؛ التهذيب 10/ 170.
(4)
هو: سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري أبو إسحاق، ابن أبي وقاص، أسلم قديماً، وهو أحد العشرة المبشرون بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وخمسين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 1/ 380؛ الإصابة 1/ 712؛ التهذيب 3/ 422.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 117 - 120؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 151 - 152؛ الأوسط 1/ 198 - 200؛ شرح معاني الآثار 1/ 78؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 215 - 217؛ التمهيد 2/ 272؛ الاستذكار 1/ 294؛ الاعتبار ص 142؛ المجموع 2/ 35؛ المغني 1/ 241.
وهو قول سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسفيان الثوري، والحسن بن حي، وعبيد الله بن الحسن، وابن المنذر.
وهو رواية عن سعيد بن المسيب، والحسن وعكرمة، وابن معين
(1)
، والشعبي
(2)
.
القول الثاني: أنه يجب الوضوء من مس الذكر، وأنه ينقض الوضوء به.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، .......................................
والحنابلة
(5)
.
(1)
هو: يحيى بن معين بن عون بن زياد، أبو زكريا، المري البغدادي الغطفاني مولاهم، الحافظ، إمام المحدثين، وإمام الجرح والتعديل، روى عن: هشيم، وابن المبارك، وغيرهما، وروى عنه: البخاري، ومسلم، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. انظر: الكاشف 3/ 235؛ التهذيب 11/ 245.
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 36 - 38؛ مصنف عبد الرزاق 1/ 120؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 152؛ الأوسط 1/ 202 - 204؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 216 - 217؛ الاستذكار 1/ 294؛ الاعتبار ص 142؛ المجموع 2/ 35.
(3)
انظر: الأوسط 1/ 196؛ المعونة 1/ 47؛ الاستذكار 1/ 293؛ بداية المجتهد 1/ 80؛ عقد الجواهر 1/ 46؛ جامع الأمهات ص 57؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 1/ 434؛ التاج والإكليل 1/ 433.
(4)
انظر: الأم 1/ 68؛ مختصر المزني ص 10؛ العزيز 1/ 162؛ روضة الطالبين ص 34؛ المجموع 2/ 31، 35؛
المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 1/ 35.
(5)
انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق 2/ 297، 817؛ المغني 1/ 240؛ الكافي 1/ 95؛ الممتع 1/ 208؛ الشرح الكبير 2/ 28؛ الفروع 1/ 227؛ الإنصاف 2/ 26.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي أيوب
الأنصاري، وزيد بن خالد
(1)
، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهم.
وهو رواية عن سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وأبي هريرة
(2)
رضي الله عنهم.
وبه قال عطاء بن أبي رباح، وطاوس، وعروة، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان
(3)
، والزهري، ومجاهد، ومكحول
(4)
، وجابر بن زيد، وأبو العالية،
(1)
هو: زيد بن خالد الجهني، صحابي، شهد الحديبية، وكان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، ورى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورى عنه أبو سلمة، وعطاء بن يسار، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 1/ 265؛ الإصابة 1/ 646؛ التهذيب 3/ 357.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 112 - 121؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 150 - 151؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 218؛ التهميد 2/ 270 - 271؛ الاستذكار 1/ 291؛ الاعتبار ص 143؛ المجموع 2/ 35.
(3)
هو: أبان بن عثمان بن عفان، الإمام الفقيه، أبو سعد، الأموي المدني، سمع أباه، وزيد بن ثابت، وغيرهما، وحدث عنه الزهري، وأبو الزناد، وغيرهما، وتوفي سنة خمس ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 351؛ البداية والنهاية 9/ 209.
(4)
هو: مكحول الشامي مفتي أهل دمشق وعالمهم، أبو عبد الله، ثقة فقيه مدلس، روى عن أنس بن مالك، وأبي أمامة، وغيرهما، ورى عنه: سليمان بن موسى، والأوزاعي، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 177؛ التهذيب 10/ 259.
والأوزاعي، والليث، وهشام بن عروة
(1)
، وابن جريج
(2)
، وإسحاق بن راهوية، وأبو ثور، وداود الظاهري، وابن جرير
الطبري، وابن حزم.
وهو رواية عن سعيد بن المسيب، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وابن معين
(3)
.
القول الثالث: أنه يستحب الوضوء من مس الذكر ولا يجب.
وهو قول للإمام مالك، اختاره بعض أصحابه
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد
(5)
، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(6)
.
(1)
هو: هشام بن عروة بن الزبير الأسدي أبو المنذر، روى عن أبيه، وعن عمه عبد الله، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، ومالك بن أنس، وغيرهما، وكان ثقة فقيهاً، وتوفي سنة ست وأربعين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: الكاشف 3/ 197؛ التهذيب 11/ 44.
(2)
هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، أبو الوليد المكي، أحد الفقهاء والأعلام، روى
عن الزهري، ومجاهد، وغيرهما، وروى عنه: الأوزاعي، والليث، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة، وقيل بعدها. انظر: الكاشف 2/ 185؛ التهذيب 6/ 352.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 113 - 121؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 150 - 151؛ الأوسط 1/ 195 - 196؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 216 - 217؛ التمهيد 2/ 266 - 271؛ الاستذكار 1/ 292؛ الاعتبار ص 143؛ المجموع 2/ 35؛ المغني 1/ 240.
(4)
انظر: النوادر والزيادات 1/ 54؛ التمهيد 2/ 269، 271، 273. وذكر ابن عبد البر في التمهيد 2/ 273: ان ذلك تحصيل مذهب مالك.
(5)
انظر: المغني 1/ 241؛ الكافي 1/ 95؛ الشرح الكبير 2/ 27؛ مجموع الفتاوى 21/ 241؛ الإنصاف 2/ 27.
(6)
وهو كذلك اختيار الشيخ محمد بن صالح العثمين. انظر: مجموع الفتاوى 21/ 222، 241؛ الاختيارات الفقهية ص 16؛ الإنصاف 2/ 27؛ الشرح الممتع 1/ 234؛ مجموع الفتاوى لابن عثيمين 11/ 203.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن مس الذكر ليس بناقض للوضوء- بما يلي:
أولاً: عن طلق رضي الله عنه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال: «هل هو إلا مُضغَة منه» أو قال: «بَضعَة منه»
(1)
.
ثانياً: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر؟ فقال: «إنما هو حذية
(2)
منك»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
الحذية: القطعة، قيل: هي بالكسر ما قطع من اللحم طولا. انظر: النهاية 1/ 350؛ مجمع بحار الأنوار 1/ 464.
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 99، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، ح (484)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 117، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 152، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 196.
وفي سنده جعفر بن الزبير، قال شعبة: كان يكذب. وقال البخاري، والنسائي، والدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال البوصيري: اتفقوا على ترك حديثه واتهموه. انظر: التحقيق 1/ 158؛ ميزان الاعتدال 1/ 406؛ نصب الراية 1/ 69؛ زوائد ابن ماجة ص 101.
وهذا الحديث قال عنه ابن الجوزي والزيلعي: ضعيف. وقال الشيخ الألباني: ضعيف جداً. انظر: التحقيق 1/ 157؛ نصب الراية 1/ 69؛ ضعيف سنن ابن ماجة ص 99.
ثالثاً: عن عصمة بن مالك الخطمي
(1)
رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني احتككت في الصلاة فأصابت يدي فرجي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وأنا أفعل ذلك»
(2)
.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أبالي إياه مسست أو أنفي»
(3)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل على أن الذكر
(1)
هو عصمة بن مالك بن أمية بن ضبيعة الخطمي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبيد الله بن موهب. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 381؛ الإصابة 2/ 1261.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 178، والدارقطني في سننه-واللفظ له- 1/ 149. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 249:(رواه الطبراني في الكبير وفيه الفضل بن المختار وهو منكر الحديث ضعيف جداً). والفضل بن المختار قال عنه أبو حاتم: هو مجهول وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. وقال الرازي: منكر الحديث جداً. وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها. انظر: التحقيق 1/ 158؛ ميزان الاعتدال 3/ 358؛ المغني في الضعفاء 2/ 196؛ نصب الراية 1/ 69.
وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 69: (وهو حديث ضعيف أيضاً).
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزائد 1/ 249: (عن سيف بن عبد الله الحميري قال: دخلت أنا ورجال معي على عائشة فسألنا عن الرجل يمسح فرجه فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال: -رواه أبو يعلى من رواية رجل من أهل اليمامة، عن حسين بن فادع عن أبيه عن سيف، وهؤلاء مجهولون، وهو أقل ما يقال فيهم).
جزء من أجزاء البدن، وكما أن مس بقية أعضاء البدن لا يوجب الوضوء ولا ينقضه فكذلك الذكر
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو وجوب الوضوء من مس الذكر- بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها على وجوب الوضوء من مس الذكر وأنه ينقض الوضوء به هو:
أن هذه الأدلة فيها الأمر بالوضوء من مس الذكر والفرج، وفي بعضها التصريح بوجوب الوضوء من ذلك، فثبت بذلك وجوب الوضوء من مس الذكر، وأن الوضوء ينقض به
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: بأن الأمر للوجوب إذا لم يكن هناك ما يصرفه عنه، وهنا يوجد ما يدل على أنه ليس للوجوب، وهو ما ورد من الأحاديث الدالة على عدم
(1)
انظر: موطأ محمد ص 35؛ المبسوط 1/ 71؛ الاستذكار 1/ 295؛ المحيط البرهاني 1/ 76؛ المغني 1/ 241؛ فتح القدير 1/ 55.
(2)
انظر: صحيح ابن حبان ص 402؛ المعونة للقاضي عبد الوهاب 1/ 47؛ بداية المجتهد 1/ 81؛ العزيز 1/ 163؛ المجموع 2/ 35؛ المغني 1/ 241؛ الشرح الكبير 2/ 28؛ الممتع 1/ 208.
نقض الوضوء من مس الذكر
(1)
.
وأما ورود ذلك بلفظ (فقد وجب عليه الوضوء) فلعله من تعبير بعض الرواة؛ حيث إن الأكثر رروه بلفظ: (فليتوضأ) فلعل بعض الرواة فهم منه أنه للوجوب فعبر بلفظ: (فقد وجب عليه الوضوء)
(2)
.
ثانياً: بأنه يمكن أن يكون المراد بالوضوء في هذه الأحاديث غسل اليد؛ فإنه يسمى كذلك وضوءا، وبذلك يجمع بين الأحاديث
(3)
.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
بأن الوضوء إذا ورد في الشريعة مطلقاً، فإنما يراد به الوضوء الشرعي، لا غسل اليد
(4)
.
2 -
أنه يرده ورود الحديث بلفظ: (من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة)
(5)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 21/ 241؛ الشرح الممتع 1/ 233؛ مجموع الفتاوى لابن العثيمين 11/ 203.
(2)
راجع تخريج حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أحمد، وابن شاهين في رواية، وابن عبد البر، بلفظ:(فقد وجب عليه الوضوء) أما الباقون فرووه بلفظ: (فليتوضأ).
(3)
انظر: المحلى 1/ 223؛ المبسوط 1/ 72؛ بدائع الصنائع 1/ 133؛ حاشية ابن عابدين 1/ 250.
(4)
انظر: المحلى 1/ 223.
(5)
أخرجه من طريق بسرة: ابن حبان في صحيحه ص 402، والدارقطني في سننه 1/ 146، وابن حزم في المحلى 1/ 224. وأخرجه من طريق ابن عمر وأبي هريرة، الدارقطني في سننه 1/ 147.
ثالثاً: واعترض عليه أيضاً: بأن مس الذكر كناية عن البول؛ لأن من يبول يمس ذكره عادة، فيكون المراد بمس الذكر في هذه الأحاديث خروج البول والحدث، ومن خرج منه البول والحدث يلزمه الوضوء، وبذلك يدفع التعارض بين الأحاديث
(1)
.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
أنه يرده لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء»
(2)
.
2 -
أن هذا الفهم مخالف لفهم الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، وقالوا بالوضوء من مس الذكر، وكذلك لفهم الذين قالوا بعدم الوضوء منه؛ حيث لم يفهوا من هذا المس البول، بل فهموا من ذلك المس باليد بدون البول، وهم أدرى بعد الله، ثم بعد رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم مراد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
دليل القول الثالث
أما القول الثالث فيستدل له بأدلة القول الأول، وأدلة القول الثاني، وذلك بحمل أدلة القول الأول على استحباب الوضوء من مس الذكر بدليل أدلة
(1)
انظر: المبسوط 1/ 72؛ فتح القدير 1/ 59.
(2)
سبق تخريجه في ص 290.
القول الثاني، وبذلك يجمع بين الأحاديث والآثار الواردة في المسألة
(1)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أن الأحاديث التي يُستدل منها على الوضوء من مس الذكر أقوى وأصح وأكثر من الأحاديث التي يُستدل منها على ترك الوضوء منه.
ثانياً: إن حديث بسرة رضي الله عنها، كذلك حديث وطلق بن علي رضي الله عنه الذي
يدل على عدم الوضوء من مس الذكر- كلاهما صحيحان.
ثالثاً: إن القول بنسخ حديث طلق رضي الله عنه بحديث بسرة وأبي هريرة رضي الله عنهما احتمال
(2)
، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بتوقيف أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويُعلم مع ذلك المتأخر، والجمع هنا ممكن
(3)
.
ثم هو احتمال ضعيف أو مردود
(4)
، ويؤكد ضعف هذا الاحتمال وعدم الأخذ به أن الأئمة المتقدمين كسفيان الثوري، وابن جريج، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم ممن في طبقتهم أو قبلهم، بعضهم كان يقول بالوضوء
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 21/ 241؛ الشرح الممتع 1/ 233.
(2)
انظر: إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 122.
(3)
انظر: الانجاد في أبواب الجهاد لابن المناصف 1/ 27؛ الشرح الممتع 1/ 233.
(4)
راجع مناقشة وجه الاستدلال من تلك الأحاديث على النسخ.
من مس الذكر، و بعضهم كان لا يرى ذلك، وقد جرى بين بعضهم مناظرات في ذلك، ولم أجد عن أحد منهم أنه قال بأن أحد الحديثين منسوخ بالآخر، وإنما القول بالنسخ صار إليه بعض علماء القرن الرابع فمن بعدهم
(1)
.
رابعاً: أنه ما دام يمكن الجمع بين الأحاديث المتعارضة فالقول به أولى؛ جمعاً بين الأحاديث وتوفيقاً بينها، وبذلك يظهر رجحان القول الثالث؛ لأن به يحصل الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة.
خامساً: أن العمل بحديث بسرة-رضي الله عنها أولى؛ خروجاً من خلاف العلماء، وعملاً بالأحوط من أمر الدين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 120؛ سنن الدارقطني 1/ 150؛ المستدرك للحاكم 1/ 234؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 214، 215؛ مرقات المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي بن سلطان القاري 1/ 279.
(2)
سبق تخريجه في ص 295.
المطلب الحادي عشر: الوضوء من مس المرأة
ذهب ابن حزم إلى أن الأحاديث الدالة على عدم نقض الوضوء من مس المرأة منسوخة بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
(1)
، وبناءً على ذلك فمس الرجل المرأة أو العكس إذا كان عمداً ناقض للوضوء، سواء كان المس لشهوة أم لا
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب الاختلاف عند بعض الفقهاء، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلافهم في تأويل قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهل المراد به الجماع أو ما دون الجماع، وسيظهر ذلك من أدلة الأقوال ووجه الاستدلال منها.
دليل من قال بالنسخ
واستدل من قال بالنسخ بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
(3)
.
ووجه الاستدلال منه هو: أن اللمس قد يكون باليد، كما في قوله تعالى:
(1)
سورة المائدة الآية (6).
(2)
انظر: المحلى 1/ 227، 228، 229. وقال الغماري في الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/ 359 - بعد الكلام على حديث القبلة-:(وهو صحيح ولكنه مع ذلك منسوخ بالآية الكريمة).
(3)
سور المائدة الآية (6).
{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}
(1)
.
وقد يكون اللمس بغير اليد كالجماع وغيره، ويدل على هذا ظاهر الكتاب والسنة واللغة، إلا أنه حقيقة في لمس اليد.
وإذا كان اللمس مطلقاً يشمل كل ذلك فيقال باطلاقه، فمتى التقت البشرتان انتقض الوضوء، سواء كان بيد أو جماع
(2)
.
وهذه الآية الكريمة متأخرة النزول، والأحاديث الدالة على عدم النقض ليس فيها أنها كانت بعد نزول الآية، بل هي موافقة للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية، ووردت
الآية الكريمة بشرع زائد، فتكون تلك الأحاديث منسوخة بها
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: أنه لا يسلم أن المراد باللمس في الآية الكريمة الجس والمس باليد؛ وذلك لما يلي:
أ- أن اللمس وإن كان يطلق على الجماع والجس باليد وغيرها، لكن المراد به في الآية الكريمة الجماع بدليل القرائن الآتية:
1 -
الأحاديث التي تدل على أن القبلة والجس باليد وبغيرها-غير
(1)
سورة الأنعام الآية (7).
(2)
انظر: الأوسط 1/ 127؛ المحلى 1/ 227؛ بداية المجتهد 1/ 279؛ المجموع 2/ 27؛ تحفة الأحوذي 1/ 297.
(3)
انظر: المحلى 1/ 228، 229.
الجماع- مما لا ينقض
الوضوء
(1)
.
2 -
أن هناك دليلاً من تقسيم الآية الكريمة يدل على أن المراد باللمس هنا الجماع، وهو أن في الآية الكريمة تقسيماً للطهارة إلى أصلية وبدلية، وتقسيماً لها إلى كبرى وصغرى، وتقسيماً لأسباب الطهارة الكبرى والصغرى (قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [سورة المائدة، الآية: 6] فهذه طهارة بالماء أصلية صغرى، ثم قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فهذه طهارة بالماء أصلية كبرى. ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فقوله: {فَتَيَمَّمُوا} هذا البدل. وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} هذا بيان سبب الصغرى. وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هذا بيان سبب الكبرى. ولو حملناه على المس الذي هو الجس باليد، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصغرى، وسكت عن سبب الطهارة الكبرى، مع أنه قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهذا خلاف البلاغة القرآنية، وعليه فتكون الآية دالة على أن المراد بقوله:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} أي جامعتم النساء، لتكون الآية
(1)
سيأني تخريج هذه الأحاديث في دليل القول الأول. وانظر: الأوسط 1/ 128؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 464؛ تحفة الأحوذي 1/ 298.
مشتملة على السببين الموجبين للطهارة، السبب الأكبر، والسبب الأصغر، والطهارتين الصغرى في الأعضاء الأربعة، والكبرى في جميع البدن، والبدل الذي هو طهارة التيمم في عضوين فقط لأنه يتساوى فيها الطهارة الصغرى والكبرى)
(1)
.
فلو أريد باللمس المس باليد لم يشمل التيمم للجنب عند عدم الماء
(2)
.
3 -
أن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه إذا أضيف إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الجماع، كالوطء؛ حيث أنه حقيقة في المشي بالأقدام وإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع
(3)
.
ب- إن القول بأن اللمس يطلق على الجماع ويطلق على الجس باليد فيقال بإطلاقه وعمومه في اللمسين فيعترض عليه: بأن هذا الفهم ضعيف؛ لأن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحداً من المعاني التي يدل عليها الاسم، لا جميع المعاني التي يدل عليها
(4)
.
ومما يؤكد ذلك أن علياً وابن عباس وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم لما تأولوا اللمس على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد.
(1)
فتاوي أركان الإسلام للشخ ابن عثيمين ص 241. وانظر: الأوسط 1/ 128؛ التمهيد 4/ 127.
(2)
انظر: اللباب للمنبجي 1/ 119.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 4646؛ بدائع الصنائع 1/ 132.
(4)
انظر: بداية المجتهد 1/ 79.
وعمر وابن مسعود رضي الله عنهما لما تأولاه على اللمس باليد لم يجيزا للجنب التيمم
(1)
.
ثانياً: أن قول تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يحتمل أن يكون المراد به الجماع، ويحتمل أن يكون المراد به ما دون الجماع من الجس باليد والتقبيل ونحو ذلك، وعلى الاحتمال الأول لا يصح الاستدلال من الآية على النسخ إطلاقاً؛ لأن إيحاب الطهارة من الجماع لا يلزم منه إيجاب الطهارة من المس بما دون الجماع.
وعلى الاحتمال الثاني لا يصح الاستدلال منها على النسخ كذلك؛ لأن كون الآية نزلت بعد تلك الأحاديث وأن تلك الأحاديث كانت قبل نزول الآية احتمال ليس عليه أي دليل، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ لأن النسخ لا بد فيه من معرفة التاريخ حتى يعرف المتقدم والمتأخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وهذا لا يوجد هنا؛ لأن الأحاديث التي يستدل بها على أن لمس النساء لا ينقض الوضوء ليس فيها أي دليل على أنها كانت قبل نزول الآية، وأنه لم يوجد منها شيء بعد نزولها
(2)
.
ثالثاً: أن لمس النساء مما تعم به البلوى، فكيف يكون ناقضاً للوضوء ثم لا يَرِدُ به إلا آية محتملة لمعنيين، ويكون مع المعنى الغير المراد من القرائن والدلائل ما يرجحها على المعنى الذي سيقت الآية لأجلها؟ فهذا مما يرده
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 464.
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 745.
العقل والنقل.
ثالثاً: إن عائشة رضي الله عنها لما بلغها قول ابن عمر رضي الله عنه بأن القبلة من اللمس وفيها الوضوء أنكرت ذلك عليه، واستدلت على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل ثم لا يتوضأ
(1)
.
وهذا يدل على أن القبلة وجدت بعد نزول هذه الآية، أو أن الآية ليس المراد بها إلا الجماع، وكلا الأمرين مما يُرد به القول بالنسخ، وخاصة أن عائشة رضي الله عنها أعلم من غيرها بالأحكام التي يكون للنساء تعلق بها، فلو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لكان عندها علماً بذلك قبل غيرها.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الوضوء من مس المرأة باليد أو بأي عضو آخر دون الجماع على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، فلا يجب منه الوضوء.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد
(3)
، واختيار شيخ الإسلام
(1)
انظر: سنن الدارقطني 1/ 136.
(2)
انظر: الآثار لمحمد 1/ 35؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 162؛ المبسوط 1/ 73؛ بدائع الصنائع 1/ 131؛ اللباب للمنبجي 1/ 118؛ الدر المختار 1/ 249.
(3)
انظر: المغني 1/ 257؛ الكافي 1/ 98؛ الشرح الكبير 2/ 43؛ الإنصاف 2/ 42.
ابن تيمية
(1)
.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأبي ابن كعب-رضي الله عنهم
(2)
.
وبه قال ابن عباس رضي الله عنه ومسروق، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وطاوس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبو ثور
(3)
.
القول الثاني: أن مس المرأة ناقض للوضوء.
وهو مذهب الشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد
(5)
.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم
(6)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 21/ 235؛ الاختيارات الفقهية ص 16؛ الإنصاف 2/ 42.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 135؛ تفسير الطبري 8/ 389، 392؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 462؛ التمهيد 4/ 125؛ الاستذكار 1/ 296، 300.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 134؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 48؛ الأوسط 1/ 122؛ التمهيد 4/ 124؛ الاستذكار 1/ 299؛ المغني 1/ 257؛ المجموع 2/ 26.
(4)
انظر: الأم 1/ 63؛ مختصر المزني ص 10؛ العزيز 1/ 161؛ روضة الطالبين ص 34؛ المجموع 2/ 22، 26.
(5)
انظر: المغني 1/ 257؛ الشرح الكبير 2/ 42؛ المقنع وشرحه الممتع 1/ 212؛ الإنصاف 2/ 42.
(6)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 123، 133؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 49؛ الأوسط 1/ 118؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 462؛ المجموع 2/ 26.
وبه قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود
(1)
، ومكحول، والشعبي، وإبراهيم النخعي، ويحيى بن سعيد، والزهري، وزيد بن أسلم
(2)
، وعطاء بن السائب
(3)
، وسعيد بن عبد العزيز
(4)
،
وربيعة بن أبي عبد الرحمن
(5)
.
القول الثالث: أن لمس المرأة لشهوة ولذة ينقض الوضوء، ولا ينقضه لغير
(1)
هو: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، مشهور بكنيته، قيل اسمه عامر، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، وهو ثقة، ورى عن أبي موسى الأشعري، وعائشة، وغيرهما، وروى عنه: إبراهيم النخعي، ومجاهد، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى وثمانين، وقيل بعدها. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 68؛ التقريب 2/ 432.
(2)
هو: زيد بن أسلم العدوي مولى عمر رضي الله عنه أبو عبد الله، ثقة، روى عن: أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما، ورى عنه: سفيان بن عيينة، وجرير بن حازم، وغيرهما، وتوفي سنة ست وثلاثين. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 345؛ التقريب 1/ 326.
(3)
هو: عطاء بن السائب بن مالك، أبو محمد، الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، وروى عن إبراهيم النخعي، ومجاهد، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 177؛ التقريب 1/ 675.
(4)
هو: سعيد بن عبد العزيز التنوخي، الدمشقي، أحد الأئمة، ثقة، اختلط في آخر عمره، وسمع من مكحول،
وطائفة، وروى عنه: عبد الرحمن بن مهدي، وأبو مسهر، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وستين ومائة، وقيل بعدها. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 149؛ التقريب 1/ 359.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 134؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 49؛ الأوسط 1/ 118 - 120؛ التمهيد 4/ 131؛ الاستذكار 1/ 297؛ المغني 1/ 257؛ المجموع 2/ 26.
شهوة.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
وقال به: إسحاق بن راهويه، والحسن بن حي. وروي ذلك عن إبراهيم النخعي، والشعبي، والحكم
(3)
، وحماد
(4)
، والليث، وسفيان الثوري
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن لمس النساء بما دون الجماع ليس بناقض للوضوء - بما يلي:
(1)
انظر: التمهيد 4/ 130؛ الاستذكار 1/ 298؛ بداية المجتهد 1/ 77؛ جامع الأمهات ص 56؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 429؛ مواهب الجليل 1/ 430.
(2)
انظر: المغني 1/ 256؛ الكافي 1/ 99؛ الشرح الكبير 2/ 45؛ العدة شرح العمدة ص 46؛ مجموع الفتاوى 21/ 233؛ شرح الزركشي 1/ 126؛ الإنصاف 2/ 42؛ زاد المستقنع ص 8.
(3)
هو: الحكم بن عتيبة أبو محمد الكندي مولاهم، الكوفي، ثقة فقيه، روى عن شريح، ومجاهد، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، والأوزاعي، وغيرهما، وتوفي سنة خمسة عشرة ومائة، وقيل غيرها. انظر: تذكة الحفاظ 1/ 117؛ تهذيب التهذيب 2/ 389؛ التقريب 1/ 232.
(4)
هو: حماد بن أبي سليمان-مسلم- الأشعري مولاهم، أبو إسماعيل الكوفي، الفقيه، سمع أنس بن مالك، وتفقه على إبراهيم النخعي، وروى عنه: شعبة، وأبو حنيفة، وغيرهما، ورمي بالإرجاء، وهو صدوق له أوهام، وتوفي سنة عشرين ومائة. انظر: ميزان الإعتدال 2/ 118؛ تهذيب التهذيب 3/ 14؛ التقريب 1/ 238.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 133؛ مصنف ابن أبي شيبة 49؛ الأوسط 1/ 113؛ مختصر اختلاف العلماء
1/ 162؛ التمهيد 4/ 130؛ المجموع 2/ 26.
أولاً: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما، قالت:
والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)
(1)
.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بئسما عدلتمونا بالكلاب والحمار، لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتمها)
(2)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول:«اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
(3)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 84، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الفراش، ح (382)، ومسلم في صحيحه 2/ 171، كتاب الصلاة، باب سترة ا لمصلي، ح (512)(272).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 108، كتاب الصلاة، باب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد، ح (519).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 152، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، ح (486)(222).
برجله)
(1)
.
خامساً: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص
(2)
على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها»
(3)
.
سادساً: حديث عائشة رضي الله عنها في القبلة، وقد روي بطرق وألفاظ منها ما يلي:
أ-عن عائشة-رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» قال عروة: (فقلت لها: من هي إلا أنت فضحكت)
(4)
.
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 35، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة، ح (116). وصحح إسناده النووي في المجموع 2/ 27، وابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 133. وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 73:(هذا الإسناد على شرط الصحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 35: (صحيح).
(2)
هي: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزي بن عبد شمس، العبشمية، وهي من زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد فاطمة رضي الله عنها ولما قتل علي رضي الله عنه تزوجها المغيرة بن نوفل وهلكت عنده. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 246؛ الإصابة 4/ 2423.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1276، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله، ح (5996)، و مسلم في صحيحه 2/ 199، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب حمل الصبيان في الصلاة، ح (543)(43).
(4)
أخرجه من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة: أبو داود في سننه ص 32، كتاب الطهارة، باب الوضوء من القبلة، ح (179)، والترمذي في سننه ص 31، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من القبلة، ح (86)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 48، وأحمد في المسند 42/ 497، والدارقطني في سننه 1/ 138، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 200.
وأعل بعلتين: إحداهما: أن حبيب بن أبي ثابت رواه عن عروة، فقيل: هو عروة المزني، فقد روي عن سفيان الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني. وقد رواه عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش أنه قال: أخبرنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة -الحديث-. وإذا كان هو عروة المزني فهو مجهول. انظر: سنن أبي داود ص 32؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 201؛ نصب الراية 1/ 72؛ تهذيب التهذيب 7/ 166؛ التقريب 1/ 672.
وقيل في دفع هذه العلة: بأن عروة المذكور في هذا الحديث هو عروة بن الزبير، وليس عروة المزني، يدل عليه ما يلي:
أولاً: أن الحديث رواه عن وكيع: قتيبة، وجنادة، وأبو كريب، وأحمد بن منيع، ومحمود بن غيلان، وأبو عمار، وعثمان بن أبي شيبة، وأبو هاشم الرفاعي، وحاجب بن سليمان، ويوسف بن موسى، وإبراهيم بن عبد الله العبسي، كلهم قالوا: عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة، مطلقاً غير منسوب، ولا يعقل أن يكون شيخ حبيب بن أبي ثابت عروة المزني المجهول ثم يتفق هؤلاء الثقات الأعلام من أصحاب وكيع وأصحاب الأعمش على إطلاقه الموهم الموقع في الخطأ وتصحيح الضعيف، فإن عروة عند الاطلاق لا ينصرف إلا إلى بن الزبير، وليس هو عروة المزني. انظر: الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/ 345 - 346.
وأما ما جاء في رواية عبد الرحمن بن مغراء عن عروة المزني فهو لا يعلل هذه الروايات؛ لأن إسناده ضعيف، وعبد الرحمن بن مغراء متكلم فيه، فقد قال ابن المديني:(ليس بشيء). وقال ابن عدي: (والذي قاله ابن المديني هو كما قال، فإنه روى عن الأعمش أحاديث لا يتابعه عليه الثقات). وقد خالف في هذا الحديث كل الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الأعمش؛ حيث لم يقل أحد منهم في عروة أنه عروة المزني، بل بعضهم أطلق، وبعضهم نسبه فقال: عروة بن الزبير. لذلك لا يصح إعلال الحديث بذلك.
وأما: قول سفيان الثوري: ما حدثنا إلا عن عروة المزني. فهذا لم يسنده أبو داود، ثم قد رد عليه ولم يرضه؛ حيث قال: وقد روى حمزة عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثا صحيحاً. انظر: سنن أبي داود ص 32؛ نصب الراية 1/ 72؛ الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/ 348؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 324 - 325.
ثانياً: إنه قد جاء مصرحاً بأنه عروة بن الزبير في روية الإمام أحمد في المسند 42/ 497، وابن ماجة في سننه، ص 101. و انظر: الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/ 346؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 325.
ثالثاً: إن قوله: (فقلت لها: من هي إلا أنت) هذا يدل على أنه عروة بن الزبير؛ لأن عروة المزني لا يجسر أن يقول ذلك الكلام لعائشة. انظر: تحفة الأحوذي 1/ 296.
رابعاً: إن هناك توابع لحبيب بن أبي ثابت في هذا الحديث، فقد رواه هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير، كما رواه محمد بن عمرو بن عطاء عن عروة بن الزبير، فهذا كله يدل على أنه عروة بن الزبير، وليس هو عروة المزني. انظر: الهداية 1/ 347؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 320. وسيأتي المتابعات والشواهد.
العلة الثانية: أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع عن عروة بن الزبير، وأنه كثير الإرسال والتدليس، وقد قال بعدم سماعه من عروة: سفيان الثوري، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبو حاتم وغيرهم. انظر: سنن الترمذي ص 31؛ سنن الدارقطني 1/ 139؛ تهذيب التهذيب 2/ 165.
ولذلك ضُعف هذا الحديث، وممن ضعفه: سفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، والإمام البخاري، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي وابن حزم وغيرهم. انظر: سنن الترمذي ص 31؛ السنن الكبرى 1/ 201؛ المحلى 1/ 228؛ المجموع 2/ 28؛ نصب الراية 1/ 72؛ التلخيص الحبير 1/ 133.
ويقال في دفع هذه العلة ما يلي:
أولاً: أن حبيب بن أبي ثابت ثقة، ولا شك أنه أدرك عروة، وروى عن عدد من الصحابة، فيمكن أن يكون سمع هذا الحديث عن عروة. قال ابن عبد البر في التمهيد 4/ 126:(قالوا: ولا معنى لطعن من طعن على حبيب بن أبي ثابت عن عروة في هذا الباب؛ لأن حبيباً ثقة ولا يشك أنه أدرك عروة وسمع ممن هو أقدم من عروة، فغير مستنكر أن يكون سمع هذا الحديث من عروة، فإن لم يكن سمعه منه فإن أهل العلم لم يزالوا يروون المرسل من الحديث والمنقطع، ويحتجون به إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء والأخذ عنهم).
وقد مال ابن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث، وصححه ابن التركماني، والزيلعي، والغماري، والشيخ الألباني، والشيخ ابن عثيمين. انظر: التمهيد 4/ 126؛ الاستذكار 1/ 300؛ الجوهر النقي 1/ 201؛ نصب الراية 1/ 72؛ الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/ 345؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 316؛ فتاوى أركان الإسلام لابن عثيمين ص 240؛ ومجموع الفتاوى له 11/ 201.
ثانياً: أن هذا الحديث له طرق ومتابعات تفيد صحته، ومن هذه الطرق والمتابعات ما يذكر فيما يلي.
ب-عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح صائماً ثم يتوضأ للصلاة فتلقاه المرأة من نسائه فيقبلها، ثم يصلي). قال عروة: (قلت لها: من ترينه غيرك؟ فضحكت)
(1)
.
ج- عن عائشة-رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ)
(2)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 138، من طريق الحماني. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 321 - بعد ذكر طريق أبي بكر النسابوري الذي يأتي في طريق (و) -:(قلت: ويؤكد ذلك أن الحماني راوي الحديث عن الأعمش جمع فيه بين التقبيل وهو صائم وبين الصلاة بعد ذلك، كما سبق، فالظاهر أنه هذا هو أصل الحديث، فروى بعضهم من التقبيل وهو صائم وبعضهم ترك الوضوء من التقبيل وكل ثقة فيما رواه هذا لا يعارض رواية ذلك وبالعكس).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 32، كتاب الطهارة، باب الوضوء من القبلة، ح (178)، والنسائي في سننه ص 36، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من القبلة، ح (170)، و عبد الرزاق في المصنف 1/ 135، و ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 48، والدارقطني في سننه 1/ 140، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 201، عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة. قال أبو داود:(وهو مرسل إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً) وقال النسائي: (ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلاً). وقال الدارقطني: (لم يروه عن إبراهيم التيمي غير أبي روق عطية بن الحارث، ولا نعلم حدث به عنه غير الثوري وأبي حنيفة، واختلف فيه، فأسنده الثوري عن عائشة، وأسنده أبو حنيفة عن حفصة، وكلاهما أرسله، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة ولا من حفصة، ولا أدرك زمانهما، وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة فوصل إسناده واختلف عنه في لفظه، فقال عثمان بن أبي شيبة عنه بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وقال عنه غير عثمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ولا يتوضأ. والله أعلم).
وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 201 - بعد ذكر كلام الدارقطني في وصل إسناد هذا الحديث-: (و معاوية هذا أخرج له مسلم في صحيحه، فزال بذلك انقطاعه، وأبو روق عطية بن الحارث صدوق. وقال أبو عمر: قال الكوفيون: هو ثقة لم يذكره أحد بجرحة، ومراسيل الثقات عندهم حجة). والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 316، وذكر أن السيوطي صححه في الجامع الكبير.
(1)
قال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 201، والزيلعي في نصب الراية 1/ 74: (قال أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن صبيح ثنا محمد بن موسى بن أعين، ثنا أبي عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن عائشة، فذكره. ثم قالا: وعبد الكريم روى عنه مالك في الموطأ، وأخرج له الشيخان وغيرهما، ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وغيرهم، وموسى بن أعين مشهور وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، وأخرج له مسلم، وابنه مشهور روي له البخاري. وإسماعيل روى عنه النسائي ووثقه، وأبو عوانة الاسفرايني وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج الدارقطني هذا الحديث من وجه آخر عن عبد الكريم، وقال عبد الحق بعد ذكره لهذا الحديث من جهة البزار: لا أعلم له علة توجب تركه، ولا أعلم فيه مع ما تقدم أكثر من قول ابن معين: حديث عبد الكريم عن عطاء حديث رديئ لأنه غير محفوظ. وانفراد الثقة بالحديث لا يضره) ثم قال الزيلعي -ونحوه كلام ابن التركماني-: (فإن قيل: فقد رواه الدارقطني من جهة ابن مهدي عن الثوري عن عبد الكريم عن عطاء قال: ليس في القبلة وضوء، قلنا: الذي رفعه زاد والزيادة مقبولة والحكم للرافع، ويحتمل أن يكون عطاء أفتى به مرة ومرة أخرى رفعه).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 322 عن حديث البزار: بأن إسناده صحيح، وذكر عن ابن حجر أنه قال في الدراية: رجاله ثقات.
وهذا الحديث ذكره الدارقطني في سننه 1/ 137، قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق نا محمد بن غالب، نا وليد بن صالح، نا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن عائشة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ» ثم قال: (إن الوليد بن صالح وهم في قوله عن عبد الكريم، وإنما هو حديث غالب والله أعلم). وذكر قبل هذه الرواية هذا الحديث عن غالب عن عطاء عن عائشة، ثم قال:(غالب هو ابن عبيد الله متروك).
وقال الشيخ الألباني في صيحيح سنن أبي داود 1/ 323، بعد ذكر سند الدارقطني: (وهذا إسناد صحيح، وأما الدارقطني فقد أعله على طريقته في إعلال كل إسناد لهذا الحديث ولو بدون حجة ناهضة فقد قال: (يقال إن الوليد بن صالح وهم في قوله عن عبد الكريم وإنما هو حديث غالب
…
) ثم قال الشيخ في 1/ 324: أقول: إن عجبي من الدارقطني لا ينتهي، فكيف يجوز رد رواية الثقة أو تخطئته بمجرد قوله: يقال إن الوليد بن صالح وهم؟ أليس هذا من الممكن أن يقال في كل حديث مهما كان شأن رجاله في الثقة والعدالة!! فإن الوليد هذا متفق على توثيقه واحتج به الشيخان ولم يتكلم فيه أحد بضعف في روايته، ثم الأغرب من ذلك أن يخطئه بمخالفة من هو دونه في الثقة والحفظ بدرجات أعني به جندل بن والق الذي جعل غالب بن عبيد الله المتروك مكان عبد الكريم الجزري.
وبالجملة هذا الحديث صحيح لا شك فيه، ولو لم يكن له من الأسانيد إلا هذا لكفى حجة فكيف وله طرق أخرى كما سبق).
هـ- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، ثم صلى ولم يتوضأ، ثم ضحكت»
(1)
.
و- عن عائشة أنها بلغها قول ابن عمر: في القبلة الوضوء، فقالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ثم لا يتوضأ»
(2)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 136. ثم قال: تفرد به حاجب عن وكيع، ووهم فيه والصواب عن وكيع بهذا الإسناد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم» وحاجب لم يكن له كتاب إنما كان يحدث من حفظه).
وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 202، والزيلعي في نصب الراية 1/ 75، بعد ذكر هذا الحديث من طريق الدارقطني:(والنسابوري إمام مشهور، وحاجب لا يعرف فيه مطعن، وقد حدث عنه النسائي ووثقه، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وباقي الإسناد لا يسأل عنه) ثم ذكرا كلام الدارقطني فيه ثم قالا: (ولقائل أن يقول: هو تفرد ثقة، وتحديثه من حفظه إن كان أوجب كثرة خطأه بحيث يجب ترك حديثه فلا يكون ثقة، ولكن النسائي وثقه، وإن لم يوجب خروجه من الثقة فلعله لم يهم، وكان نسبته إلى الوهم بسبب مخالفة الأكثرين له).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 321 عن هذا الإسناد: (وهذا إسناد صحيح أبو بكر النسابوري ثقة إمام مشهور، وحاجب بن سليمان ثقة عند النسائي وابن حبان وغيرهما ولم يتكلم فيه أحد إلا الدارقطني من أجل هذا الحديث، وبقية بجاله ثقات مشهورون رجال الستة).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 136: (حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا علي بن عبد العزيز الوراق، نا عاصم بن علي، نا أبو أويس، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال الدارقطني: (ولا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي بن عبد العزيز). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 202، والزيلعي في نصب الراية 1/ 75، بعد ذكر هذا الحديث من طريق الدارقطني وكلامه عليه:(وعلي هذا مصنف مشهور مخرج عنه في المستدرك، وعاصم أخرج له البخاري، وأبو أويس استشهد به مسلم).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 321، بعد ذكر هذا الحديث:(وهذا يؤكد ما ذكرت آنفا أن أصل الحديث الجمع بين القضيتين) ثم قال في 1/ 322: (وهذا إسناد حسن صحيح وأبو أويس اسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي، وهوثقة تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه وأن يخالف في حديثه، وهو هنا لم يخالف أحداً بل وافق وكيعاً في روايته هذا الحديث عن هشام بن عروة، وبقية رجاله ثقات، ولم يستطع الدارقطني أن يتكلم فيه بشيء غير قوله: (ولا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي بن عبد العزيز) قلت: وهذا لا شيء، فإن علي بن عبد العزيز هو البغوي وهو إمام مشهور، والدارقطني نفسه يروي عنه كثيراً، وقد قال فيه: ثقة مأمون).
هذا بعض طرق هذا الحديث، وله طرق أخرى وشواهد يراجع فيها إلى سنن الدارقطني 1/ 133 - 145، والجوهر النقي لابن التركماني 1/ 201 - 202، نصب الراية 1/ 71 - 75، الهداية في تخريج أحاديث البداية
للغماري 1/ 342 - 459، صحيح سنن أبي داود 1/ 316 - 325.
ومن اطلع على هذه الطرق لا يبقى عنده شك إن شاء الله تعالى في صحة هذا الحديث؛ لذلك قال الغماري في الهداية 1/ 345: (والحديث صحيح مقطوع به إن شاء الله) والشيخ الألباني صحح أكثر طرقه كما سبق ذكره.
وتضعيف من ضعفه من الأئمة السابقين كيحيى بن سعيد القطان وغيره فالظاهر أنه لم يقف على الأسانيد كلها للحديث، كما أشار إليه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 325.
أما المتأخرون الذين اطلعوا على جميع طرق الحديث وأسانيدها ثم لم يزالوا يضعفونه بأقاويل واحتمالات فلا يخلو صنيعهم هذا عن تعسف وتعصب، وتكلفات بعيدة كل البعدوالله أعلم.
سادساً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية
(1)
، فقمت التمس الجدار فوجدته قائماً يصلى فأدخلت يدي في شعره لأنظر اغتسل أم لا. فلما انصرف قال:«أخذك شيطانك يا عائشة» قلت: ولي شيطان؟ فقال: «نعم، ولجيمع بني آدم» قلت: ولك شيطان؟ فقال: «نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم»
(2)
.
سابعاً: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه «أن رجلاً أقبل إلى الصلاة فاستقبلته امرأته فأكب عليها، فتناولها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فلم ينهه»
(3)
.
(1)
هي: مارية القبطية، أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أهداها إليه المقوقس أمير القبط صاحب الأسكندرية، سنة سبع من الهجرة، وولدت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمان، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست عشرة، وقيل غيرها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 303؛ الإصابة 4/ 2631.
(2)
أخرجه الطبراني في معجمه الصغير ص 171، وقال:(لم يروه عن يحيى بن سعيد إلا فرج بن فضالة) وفرج بن فضالة ضعيف كما في التلخيص الحبير 1/ 121.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 252: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس).
ثامناً: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثم يخرج إلى الصلاة ولا يحدث وضوءاً»
(1)
.
تاسعاً: عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب خرج إلى الصلاة فقبلته امرأته فصلى ولم
يتوضأ)
(2)
.
عاشراً: أن مس النساء مما تعم به البلوى، فلو كان ناقضاً للوضوء لبينه صلى الله عليه وسلم لأمته، ولكان مشهوراً بين الصحابة، وإذ لم ينقل أحد منهم حديثا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم دل ذلك أنه ليس بناقض
(3)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث جاء فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم غمز زوجته عائشة رضي الله عنها، وغمز رجلها-وهو في الصلاة-، كما أنه صلى الله عليه وسلم مسها برجله، وقبلها، ثم صلى ولم يتوضأ.
كما أن عائشة رضي الله عنها وقعت يدها على بطن قدميه صلى الله عليه وسلم
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 252: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه يزيد بن سنان الرهاوي، ضعفه أحمد ويحيى وابن المديني، ووثقه البخاري وأبو حاتم، وثبته مروان بن معاوية، وبقية رجاله موثقون).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 135، عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد، ويحيى بن سعيد وصل سنده في رواية ثانية عند عبد الرزاق، فقد رواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عبد الله بن عمر فذكر بمعناه.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ مجموع الفتاوى 21/ 235.
وهو صلى الله عليه وسلم استمر في الصلاة، ولم يقطعها.
وأنه صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة، وكان يضعها عند الركوع، ويرفعها إذا رفع.
وأن لمس النساء مما تعم به البلوى، ومع ذلك لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما يدل على أنه ناقض.
فثبت من هذا كله أن مس النساء ليس بناقض للوضوء، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وسواء كانت من ذوات المحارم أو غيرها، وثبت به كذلك أن المراد باللمس في الآية الكريمة الجماع
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يحتمل أن القبلة كانت فوق حائل، وكذلك مسه صلى الله عليه وسلم عائشة برجله وغمزه إياها، ورجلَها، وكذلك وقوع يد عائشة رضي الله عنها على بطن قدميه صلى الله عليه وسلم، كما أن أمامة يحتمل أنها كان ثوبها سابغاً يواري يديها ورجليها
(2)
.
وأجيب عنه بما يلي:
أ- إن القول بأن هذا اللمس والقبلة والغمز، كان فوق حائل، تكلف ومخالفة للظاهر بدون دليل؛ لأن حقيقة التقبيل واللمس أن يكون قد باشر
(1)
انظر: الأوسط 1/ 128، 130؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ المغني 1/ 257؛ المجموع 2/ 27؛ اللباب للمنبجي 1/ 118؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 43 - 45؛ مجموع الفتاوى 21/ 235؛ شرح الزركشي 1/ 127؛ التلخيص الحبير 1/ 133؛ تحفة الأحوذي 1/ 297.
(2)
انظر: المحلى 1/ 229؛ السنن الكبرى 1/ 203؛ المغني 1/ 258؛ المجموع 2/ 28، 29؛ فتح الباري 1/ 618.
جلدها، حيث قبلها، وكذلك اللمس بالرجل والغمز للرجل، كما أن القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل
(1)
.
ب- إنه إذا كان هذا التقبيل للخمار وفوق حائل فلا فائدة في نقله، مع أن من ذكره ونقله يريد به أن القبلة ليست بناقضة للوضوء، وإذا كانت القبلة فوق حائل أو خمار، فهذه ليس بتقبيل لها حتى يستدل منه على عدم النقض. على أنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه ما يوجب أن يكنّ مستورات عنه حتى لا يصيب منها إلا الخمار
(2)
.
ج- أن من حمل صبية في صلاته، ويضعها عند السجود ويحملها عند الرفع فالظاهر أنه لا يسلم من مسها ومن أن يقع يده على شيء من بدنها
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني -وهو أن مس النساء ناقض للوضوء- بمايلي:
أولاً: قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
(4)
وقد سبق وجه الاستدلال منه في القول بالنسخ، وما يعترض به عليه.
ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (قبلة الرجل امرأته وجسها
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ التمهيد 4/ 124؛ نيل الأوطار 1/ 195، 196؛ تحفة الأحوذي 1/ 299.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ المغني 1/ 259.
(4)
سور المائدة الآية (6).
بيده من
الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء)
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (القبلة من اللمس، وفيها الوضوء، واللمس ما دون الجماع)
(2)
.
رابعاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن القبلة من اللمس فتوضؤا منها)
(3)
.
فهذه الآثار من هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم تدل على أن اللمس
(1)
أخرجه مالك في الموطأ ص 65؛ والشافعي في الأم 1/ 63؛ والدارقطني في سننه 1/ 144؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 199. وفال النووي في المجموع 2/ 27 عن إسناده: (وهذا إسناد في نهاية من الصحة كما ترى).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 133؛ و ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 49، إلى قوله:(وفيها الوضوء) وأخرجه الدارقطني في سننه 1/ 145؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 198؛ وفي معرفة السنن 1/ 372، كلهم من طريق أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 198، وابن جرير في تفسيره جامع البيان 8/ 393، من طريق طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود، ولفظه:(أن عبد الله يعني ابن مسعود قال في قوله تعالى: (أولمستم النساء) قولاً معناه ما دون الجماع).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 144؛ -وقال: صحيح- والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 198، وأخرجه في معرفة السنن 1/ 373، ولفظه:(القبلة من اللمم فتوضأوا منها) وذكره ابن عبد البر في التمهيد 4/ 128، بنحو لفظ معرفة السنن، ثم قال:(وهذا عندهم خطأ، وإنما هو عن ابن عمر صحيح لا عن عمر). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 145: (رواه الدارقطني والبيهقي وهو غير محفوظ).
في الآية الكريمة المراد به اللمس باليد، وأنه ينقض به الوضوء، ثم هذه الآية الكريمة وهذه الآثار مطلقة غير مقيدة ولا مشترطة بما إذا كان اللمس لشهوة ولذة؛ فلذلك تكون هي دالة بإطلاقها على العموم
(1)
.
ويعترض عليه: بأنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن لمس المرأة ليس بناقض للوضوء، وجعل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لمراد الآية أولى، من جعل ما روي عن غيره
(2)
.
على أنه كما روي عن بعض الصحابة ما يدل على أن المراد باللمس في الآية الجس
والمس باليد فكذلك قد روي عن بعضهم ما يدل على أن المراد باللمس في الآية الجماع، وتفسيرهم أولى من تفسير غيرهم؛ لموافقة ذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن اللمس والجس باليد ليس بناقض للوضوء
(3)
.
دليل القول الثالث:
ويستدل للقول الثالث- وهو أن اللمس لا ينقض إلا إذا كان لشهوة ولذة- بما يلي:
(1)
انظر: المحلى 1/ 227، 228؛ التمهيد 4/ 131؛ المجموع 2/ 29.
(2)
انظر: تفسير الطبري 8/ 396؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 462، 463.
(3)
انظر: تفسير الطبري 8/ 389، 392، 396؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 462؛ تفسير ابن كثير 2/ 476؛ صحيح سنن أبي داود 1/ 317.
أولاً: قول تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
(1)
.
ثانياً: الأحاديث التي سبقت في دليل القول الأول.
ووجه الاستدلال منها: هو أن الأية الكريمة تقتضي أن اللمس يوجب الوضوء وينقضه، والأحاديث المذكورة في دليل القول الأول فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض أزواجه ولمسها، ولم يعد الوضوء، فتحمل الآية على ما إذا كان اللمس لشهوة ولذة، وتحمل تلك الأحاديث على أنه لم يكن لشهوة؛ جمعاً بين الآية والأخبار
(2)
.
واعترض عليه: بأن مس النساء لشهوة ولغير شهوة مما تعم به البلوى، فلو كان حدثاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولكان مشهوراً بين الصحابة، ولما لم يوجد شيء من ذلك دل على أنه ليس بناقض، سواء كان لشهوة أم لا، ويؤكد ذلك أن القبلة في الغالب لا تخلو عن شهوة، وقد أنكرت عائشة-رضي الله عنها على ابن عمر قوله:(في القبلة الوضوء) واستدلت على عدم الوضوء منها بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل ثم لا يتوضأ
(3)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:
(1)
سورة المائدة، الآية (6).
(2)
انظر: التمهيد 4/ 132؛ المغني 1/ 258؛ الكافي 1/ 99؛ الشرح الكبير للمقدسي 2/ 45؛ الممتع 1/ 212.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ سنن الدارقطني 1/ 136؛ مجموع الفتاوى 21/ 235.
أولاً: أن الراجح هو القول الأول-وهو أن مس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان
لشهوة أم لغير شهوة، وذلك لما يلي:
أ- إن قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يحتمل الجماع وما دونه، إلا أن الأحاديث التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مس بعض أزواجه وقبلها ولم يتوضأ، تصلح أن تكون بياناً لمراد الآية، وأن لمس النساء ليس بناقض.
ب-كثرة ما استدل به أصحاب القول الأول وصحته في الجملة، مع صراحته على ما استُدل به منها.
ج- إن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى، فلو كان ناقضاً للوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولكان مشهوراً بين الصحابة، وعدم وجود شيء من ذلك يدل على أنه ليس بناقض، بل وجد منه صلى الله عليه وسلم ما يدل على عكس ذلك؛ حيث قبل بعض أزواجه ولم يتوضأ، فثبت من ذلك أن لمس النساء ليس بناقض للوضوء
(1)
.
ثانياً: إن ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على عدم نقض الوضوء بمس النساء بالآية الكريمة غير صحيح، وقد سبق ما يرد به عليه، وأنه ليس عليه أي دليل.
والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 463؛ مجموع الفتاوى 21/ 235.
المبحث الثالث
المسح، والتيمم، والغسل، والاستحاضة
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: المسح على الرجلين.
المطلب الثاني: المسح على الخفين.
المطلب الثالث: التوقيت في المسح على الخفين.
المطلب الرابع: مسح اليدين إلى المناكب في التيمم.
المطلب الخامس: الغسل إذا جامع ولم ينزل.
المطلب السادس: الغسل للجمعة.
المطلب السابع: الغسل من غسل الميت.
المطلب الثامن: غسل المستحاضة لكل صلاة، أو لتجمع به بين الصلاتين.
المطلب الأول: المسح على الرجلين
ذهب بعض أهل العلم إلى أن ما ورد في المسح
(1)
على القدمين منسوخ، بالأحاديث الدالة على أن فرض الرجلين الغسل إذا لم يكن عليهما خف
(2)
.
وممن صرح بالنسخ: أبو بكر الحميدي
(3)
، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي
(4)
، وأبو بكر الأثرم
(5)
، والطحاوي
(6)
، وابن شاهين
(7)
، وابن حزم
(8)
،
(1)
المسح لغة إمرار اليد على الشيء السائل أو المتلطخ لإذهابه، وقيل: المسح في كلام العرب يكون مسحاً، وهو إصابة الماء، ويكون غسلاً، يقال: مسحت يدي بالماء إذا غسلتهما. انظر: المصباح المنير ص 571؛ القاموس المحيط ص 219.
والمسح اصطلاحاً: إمرار اليد المبتلة بلا تسييل. التعريفات للجرجاني ص 212.
والمسح على الخفين هو: إصابة البلة لخف مخصوص في زمن مخصوص. الدر المختار 1/ 261.
(2)
انظر: رسوخ الأحبار ص 217؛ فتح الباري 1/ 336؛ نيل الأوطار 1/ 168.
(3)
هو: عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله القرشي، الحميدي المكي، أبو بكر، ثقة، فقيه، روى عن ابن عيينة، والشافعي، وغيرهما، وروى عنه: البخاري، وأبو زرعة، وغيرهما، ومن مؤلفاته (المسند) وتوفي سنة تسع عشرة ومائتين، وقيل بعدها. انظر: البداية والنهاية 10/ 255؛ تهذيب التهذيب 5/ 192؛ التقريب 1/ 492.
وانظر قوله في: مسند الحميدي 1/ 176؛ التمهيد 2/ 238.
(4)
هو: عبد الله بن عبدالرحمن بن الفضل بن بهرام، التميمي الدارمي، أبو محمد السمرقندي، ثقة حافظ، روى عن: النضر بن شميل، وهاشم بن القاسم، وغيرهما، وروى عنه: مسلم، وأبو داود، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 261؛ التقريب 1/ 508؛ شذرات الذهب 2/ 130.
وانظر قوله في: سنن الدارمي 1/ 195.
(5)
انظر قوله في: إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 93.
(6)
انظر قوله في: شرح معاني الآثار 1/ 39؛ فتح الباري 1/ 336.
(7)
انظر قوله في: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 225.
(8)
انظر قوله في: المحلى 1/ 302.
و الحازمي
(1)
.
وتبين منه أن أحد أسباب الاختلاف في المسألة هو القول بالنسخ؛ حيث إن بعض الفقهاء اعتبروا ما ورد في المسح على القدمين منسوخاً، فلم يقولوا بموجبها، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلافهم في تأويل قوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(2)
. وهل المراد به الغسل أو المسح.
وكذلك اختلافهم في صحة ما ورد في المسح على القدمين، وفي المراد به هل هو المسح على القدمين أو على الخفين
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(4)
.
بنصب الأرجل،
(1)
انظر قوله في: الاعتبار ص 185، 186.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
(3)
انظر: جامع البيان للطبري 10/ 52 - 60؛ شرح معاني الآثار 1/ 35 - 40؛ التمهيد 2/ 47 - 50؛ بداية المجتهد 1/ 37؛ المغني 1/ 184 - 189؛ المجموع 1/ 231 - 233.
(4)
سورة المائدة، الآية (6).
معطوفة على الأيدي، أي اغسلوا أيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وهو ظاهر في الغسل
(1)
.
وقد قرأها بالنصب: علي ابن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم وروي ذلك عن جماعة غيرهم
(2)
.
وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المراد منه بفعله وقوله؛ حيث تواترت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه كان يغسل رجليه
(3)
، وقال في فضل الوضوء: «
…
ثم يغسل قدميه كما أمره الله
…
»
(4)
.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لأمر الله، فثبت من فعله، وقوله في هذا الحديث:
(1)
انظر: بداية المجتهد 1/ 37؛ الكافي لابن قدامة 1/ 67؛ المجموع 1/ 232.
(2)
انظر: جامع البيان 10/ 52 - 56؛ الأوسط 1/ 410 - 411؛ شرح معاني الآثار 1/ 39 - 40؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 433؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 115؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 577؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 24؛ فتح القدير للشوكاني 2/ 24.
(3)
سيأتي بعض الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل قدميه في الوضوء في أدلة هذا القول، وهي متواترة، وقد صرح بذلك غير واحد من أهل العلم. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 37؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 91؛ تفسير ابن كثير 2/ 26؛ فتح الباري 1/ 335.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 28/ 239، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 85، والدارقطني في سننه 1/ 108، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 131، وقال في 1/ 117:(وقد روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة)
فذكره. ورجال أحمد رجال مسلم.
«كما أمره الله» أن الله تعالى أمر بغسل الرجلين في الآية، لا بمسحهما
(1)
.
ثانيًا: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا
(2)
العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل
(3)
للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا
(4)
.
والحديث فيه دلالة على أن استيعاب الرجلين بالغسل واجب ولا يجوز مسحهما؛ إذ لو كان المسح على الرجلين كافياً لما توعد من ترك غسل عقبيه بالنار
(5)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 85؛ الأوسط 1/ 412؛ الاستذكار 1/ 177؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 117؛ تفسير ابن كثير 2/ 26؛ فتح الباري 1/ 335.
(2)
يقال: أرهقه أي أغشاه، وأرهقه يرهقه رهقاً، إذا غشيه، وأرهقنا الصلاة، أي أخرناها عن وقتها حتى كدنا نغشيها ونلحقها بالتي بعدها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 707، 708؛ مجمع بحار الأنوار 1/ 405.
(3)
الويل: الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وقد يرد الويل بمعنى التعجب. انظر: النهاية 2/ 887؛ مجمع بحار الأنوار 5/ 135.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 40، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، ح (163)، ومسلم في صحيحه 1/ 478، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، ح (141)(27).
(5)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 86؛ التمهيد 2/ 48؛ المجموع 1/ 232؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 479؛ تفسير ابن كثير 2/ 26؛ رسوخ الأحبار ص 218.
إلى المدينة حتى إذا كنا بماء في الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء»
(1)
.
والحديث يدل على وجوب استيعاب الرجلين بالغسل في الوضوء؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل، بل يجزئ فيه ما يجزئ في مسح الخف؛ ولو كان فرض الرجلين مسحهما أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه بالنار
(2)
.
رابعاً: عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 478، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، ح (231)(26).
(2)
انظر: التمهيد 2/ 47، 49؛ تفسير القرطبي 6/ 93؛ المجموع 1/ 232؛ تفسير ابن كثير 2/ 26.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 29/ 248، وفي ص 246 - غير مرفوع- وابن خزيمة في صحيحه 1/ 84، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 38، والدارقطني في سننه 1/ 95، والحاكم في المستدرك 1/ 267، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 114، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي عليه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 245: (رواه أحمد هكذا-أي غير مرفوع- وقال الطبراني في الكبير عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
-فذكره ثم قال: - ورجال أحمد والطبراني ثقات) وقال ابن كثير في تفسيره 2/ 26 - عن سند الحاكم والبيهقي-: (هذا إسناد صحيح).
وفيه دلالة على أن فرض القدمين الغسل، وأنه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليهما خفان؛ لأن بطون الأقدام إنما يدرك بالغسل لا بالمسح
(1)
.
ويستدل من هذه الأدلة على نسخ المسح على القدمين بالوجهين التاليين:
أولاً: إن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(2)
. آية من سورة المائدة، وسورة المائدة من آخر ما نزل، وفيها الأمر بغسل الرجلين، فيكون ناسخاً لمسح القدمين؛ لأن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . يدل على ذلك قول هشيم
(3)
-بعد ذكره حديث المسح على القدمين: (كان هذا في أول الإسلام)
(4)
.
ولذلك كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرون نسخ المسح على
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 21؛ صحيح ابن خزيمة 1/ 84؛ التمهيد 2/ 49؛ تفسير القرطبي 6/ 93.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
(3)
هو: هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية الواسطي، ثقة، كثير الإرسال والتدليس الخفي، روى عن: سليمان التيمي، والأعمش، وغيرهما، وروى عنه: مالك، وشعبة، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 53؛ التقريب 2/ 269؛ شذرات الذهب 1/ 303.
(4)
انظر: مسند الحميدي 1/ 176؛ سنن الدارمي 1/ 195؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 225؛ الاعتبار للحازمي ص 186؛ رسوخ الأحبار ص 217.
الخفين بهذه الآية، حتى حدثهم جرير بن عبد الله
(1)
رضي الله عنه أنه أسلم بعد نزول المائدة، وقد رأي النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على
الخفين
(2)
.
ثانياً: إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فيه أنهم كانوا يمسحون على أرجلهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء، فدل ذلك أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه، وهو الأحاديث التي فيها الأمر بإسباغ الوضوء، والوعيد لمن لم يعم رجليه بالغسل في الوضوء
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم المسألة -أعني فرض الرجلين- على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن فرض الرجلين الغسل إذا لم يكن عليهما خف.
(1)
هو: جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك، أبو عمر، اليماني، أسلم سنة عشر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس بن مالك، والشعبي، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى وخمسين، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 1/ 266؛
تهذيب التهذيب 2/ 66؛ التقريب 1/ 158؛ شذرات الذهب 1/ 303.
(2)
انظر: الاستذكار 1/ 258؛ تفسير القرطبي 6/ 92؛ تفسير ابن كثير 2/ 27؛ المبدع 1/ 99؛ كشاف القناع 1/ 135. وأما حديث جرير رضي الله عنه فسيأتي تخريجه في المسح على الخفين.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 39؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 225؛ إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 93؛ فتح الباري 1/ 335.
وهو قول المذاهب الأربعة: الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم
(5)
، حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى
(6)
: (أجمع
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين)
(7)
.
وقال عطاء: (لم أدرك أحداً منهم يمسح على القدمين)
(8)
.
وقال ابن المنذر: (أجمع عوام أهل العلم على أن الذي يجب على من لا خف عليه غسل القدمين إلى الكعبين)
(9)
.
وقال ابن حجر: (ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 39؛ بدائع الصنائع 1/ 72؛ المحيط البرهاني 1/ 34؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 190.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 48؛ الاستذكار 1/ 179؛ جامع الأمهات ص 49؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 306؛ مواهب الجليل 1/ 306.
(3)
انظر: الأم 1/ 81؛ مختصر المزني ص 8؛ الأوسط 1/ 413؛ الوجيز وشرحه العزيز 1/ 114؛ المجموع 1/ 231.
(4)
انظر: المغني 1/ 184؛ الكافي 1/ 67؛ التحقيق 1/ 124؛ الشرح الكبير 1/ 293.
(5)
انظر: الأوسط 1/ 413؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 436؛ التمهيد 2/ 48؛ المغني 1/ 184؛ المجموع 1/ 231.
(6)
هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى-يسار- بن بلبل بن أحيحة، الأنصاري، الأوسي، ثقة من أئمة التابعين، روى عن أبيه، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه: الشعبي، ومجاهد، وغيرهما. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 584؛ تهذيب
التهذيب 6/ 233؛ التقريب 1/ 588.
(7)
انظر: المغني 1/ 184؛ فتح الباري 1/ 336.
(8)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 225؛ جامع البيان للطبري 10/ 57.
(9)
انظر: الأوسط 1/ 413.
عن علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك)
(1)
.
القول الثاني: أن فرض الرجلين المسح.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم
(2)
.
وهو قول عكرمة، والشعبي، والحسن البصري
(3)
. وبه قالت الشيعة
(4)
.
القول الثالث: أن الشخص مخير بين غسل الرجلين ومسحهما مسحاً تعم جميع القدم.
وهو اختيار ابن جرير الطبري
(5)
.
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 336.
(2)
وقد ذكر ابن حجر أنه قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، ويدل عليه قول عبد الرحمن بن أبي ليلى وقول عطاء. انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 19؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 25؛ المحلى 1/ 301؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 225؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 577؛ فتح الباري 1/ 336.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 18؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 25؛ المحلى 1/ 301؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 577.
(4)
الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه وقالوا إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده. التعريفات للجرجاني ص 129.
أو يقال لهم الشيعة: لأنهم شايعوا علياً رضي الله عنه ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مقالات الإسلاميين 1/ 65. هذا والشيعة فرق شتى، منهم الغلاة، و الملاحدة، والباطنية. وانظر قولهم في: صحيح ابن خزيمة 1/ 84؛ المجموع 1/ 231؛ تفسير ابن كثير 2/ 25؛ فتح الباري 1/ 335؛ رسوخ الأحبار ص 217.
(5)
انظر: تفسير جامع البيان للطبري 10/ 61 - 64، 76 - 77؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 577؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 91؛ المغني 1/ 184؛ المجموع 1/ 231. هذا وقد ذكر ابن كثير في تفسيره 2/ 25، أن قول ابن جرير ليس كما نسب إليه، وأن كلامه في تفسيره (إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح). وكلام ابن جرير في تفسيره محتمل لما ذكره ابن كثير، لكنه أظهر فيما نسبه إليه الأكثرونوالله أعلم.
الأدلة:
ويستدل للقول الأول بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأدلة التي استُدل بها للقول بالنسخ وقد سبق ذكرها.
ثانياً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» فرجع ثم صلى)
(1)
.
والحديث يدل على أن الواجب في الرجلين الغسل دون المسح؛ وإلا لما أمره بالإرجاع وإحسان الوضوء
(2)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 481، كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة، ح (243)(31).
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 481.
ثلاثاً، ثم قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» أو «ظلم وأساء»
(1)
.
والحديث فيه بيان كيف الطهور والوضوء، ومنه غسل الرجلين، فدل أن فرض القدمين الغسل
(2)
.
رابعاً: عن عثمان رضي الله عنه أنه دعا بوضوء، فأفرغه على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم مضمض واستنشق واستننثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال:«من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 25، كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثاً، ح (135)، والنسائي في سننه ص 30، كتاب الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، ح (140)، وابن ماجة في سننه ص 90، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، ح (422)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 16، وأحمد في المسند 11/ 277، وابن الجارود في المنتقى ص 42، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 36، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 128، -وليس في سياق النسائي، وابن ماجة، وأحمد وابن الجارود لفظة:(أو نقص) - وصححه النووي في المجموع 1/ 243، حيث قال بعد ما ذكره:(هذا صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 25: (حسن صحيح دون قوله (أو نقص) فإنه شاذ).
(2)
انظر: المجموع 1/ 232.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 40، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، ح (164)، ومسلم في صحيحه 1/ 462، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، ح (226)(3).
خامساً: عن علي رضي الله عنه أن توضأ فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستننثر ثلاثاً، فمضمض من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، وغسل يده الشمال ثلاثاً، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ورجله الشمال ثلاثاً، ثم قال:«من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا»
(1)
.
والحديثان يدلان على أن من وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل القدمين.
والأحاديث في غسل القدمين في الوضوء وأنه كان ذلك من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمر بذلك: متواترة ومستفيضة
(2)
.
وهي بيان لمراد الآية الكريمة: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ؛ لأن
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 22، كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ح (111)، و الترمذي في سننه ص 23، كتاب الطهارة، باب ما جاء في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان، ح (48)، والنسائي في سننه ص 27، كتاب الطهارة، باب غسل الرجلين، ح (115)، وأحمد في المسند 2/ 351، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 35، وابن حبان في صحيحه ص 387، والدارقطني في سننه 1/ 90، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 78، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 21.
(2)
انظر: جامع البيان 10/ 77؛ شرح معاني الآثار 1/ 37؛ تفسير ابن كثير 2/ 26؛ فتح الباري 1/ 335.
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لأمر الله بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم، فثبت من ذلك أن فرض الرجلين هو الغسل إذا لم يكن عليهما خف
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن فرض الرجلين المسح- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
(2)
بخفض الأرجل، معطوفة على الرؤوس، ويكون تأويل ذلك: امسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فيكون المأمور به في الآية مسح الأرجل دون غسلها.
وقد قرأها بالخفض ابن عباس رضي الله عنه في رواية، وروي ذلك عن أنس رضي الله عنه، وعكرمة، والحسن البصري، والشعبي، وبعض الآخرين
(3)
.
ويؤكد أن المراد بالآية المسح، ما روي:
1 -
عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسل)
(4)
.
2 -
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (الوضوء غسلتان ومسحتان)
(5)
.
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 85؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 117؛ فتح الباري 1/ 355؛ فتح القدير للشوكاني 2/ 24.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
(3)
انظر: جامع البيان للطبري 10/ 57 - 60؛ الأوسط 1/ 411 - 412؛ شرح معاني الآثار 1/ 40؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 433؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 577؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 92؛ تفسير ابن كثير 2/ 25؛ فتح القدير للشوكاني 2/ 24.
(4)
انظر: جامع البيان للطبري 10/ 58. وصححه ابن كثير في تفسيره 2/ 25.
(5)
انظر: جامع البيان للطبري 10/ 58؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 117؛ تفسير ابن كثير 2/ 25.
واعترض على هذا الاستدلال: بأن كون الأرجل في الآية الكريمة مخفوضة على قراءة لا يلزم منه ولا يدل على أن فرض الرجلين المسح، وذلك لما يلي:
أولاً: إن قراءة الخفض يحتمل أن يكون معطوفة على الوجه، ويكون مخفوضاً بالمجاورة، وهذا سائغ شائع في لغة العرب، ومن ذلك قولهم:(جحر ضب خرب) فجروه وإنما هو رفع
(1)
.
وورد نحو ذلك في الكتاب العزيز، ومن ذلك:
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ}
(2)
. بجر نحاس للمجاورة
(3)
.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
(4)
. فجرّ أليماً على جوار يوم، وهو منصوب صفة لعذاب
(5)
.
ولذلك روي عن الأعمش أنه قال: (كانوا يقرؤونها بالخفض وكانوا يغسلون)
(6)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 404؛ تفسير القرطبي 6/ 93؛ المجموع 1/ 232؛ تفسير ابن كثير 2/ 25.
(2)
سورة الرحمن، الآية (35).
(3)
انظر: الاستذكار 1/ 178؛ تفسير القرطبي 6/ 93.
(4)
سورة هود، الآية (26).
(5)
انظر: المجموع 1/ 232.
(6)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 116.
ثانياً: أن قراءتي النصب والخفض متساويتان في الصحة، والآية تحتمل أن يكون المراد بها غسل الرجلين، وتحتمل أن يكون المراد بها مسح الرجلين، لكن السنة بينت أن المراد بالآية الغسل؛ حيث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتراً أنه غسل قدميه في الوضوء، وأنه أمر بإسباغ الوضوء، وتوعد بالنار من لم يستوعب قدميه بالغسل في الوضوء، كما أنه صلى الله عليه وسلم قال:«ثم يغسل قدميه كما أمره الله» فثبت من هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم بين بفعله وقوله مراد الآية، وأنه الغسل، وأنه الذي أمر الله به في الآية؛ والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لأمر الله، فثبت بذلك أن فرض الرجلين الغسل لا المسح، وأن دلالة الآية على مسح القدمين في الوضوء مجرد احتمال لا دليل عليه
(1)
.
ثالثاً: أن قراءة الخفض محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما خفان، والنصب على الغسل إذا لم يكن عليهما خفان.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، فيكون ما روي عنه في غسل القدمين بياناً لقراءة النصب، وما روي عنه في المسح على الخفين بياناً لقراءة الخفض، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله، وعن معنى ما أراد بقوله:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
(2)
(3)
.
(1)
انظر: الأوسط 1/ 412؛ شرح معاني الآثار 1/ 37؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 437؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 90؛ المجموع 1/ 233؛ مجموع الفتاوى 21/ 128، 131؛ تفسير ابن كثير 2/ 26.
(2)
سورة المائدة، الآية (6).
(3)
انظر: الأوسط 1/ 412؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 435؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 91؛ المجموع 1/ 233؛ مجموع الفتاوى 21/ 128؛ تفسير ابن كثير 2/ 25.
رابعاً: أنه لو أريد بقراءة الخفض مسح الرجلين، فيحمل مسح الرجلين على الغسل؛ جمعاً بين الأدلة والقراءتين؛ وذلك لأن المسح يطلق على الغسل كما قاله جماعة من أئمة اللغة
(1)
.
ثانياً: -من أدلة القول الثاني- عن أوس بن أبي أوس الثقفي
(2)
رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه»
(3)
.
(1)
انظر: الاستذكار 1/ 178؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 91؛ المجموع 1/ 233؛ مجموع الفتاوى 21/ 132؛ تفسير ابن كثير 2/ 25؛ النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 657؛ لسان العرب 13/ 98؛ المصباح المنير ص 571؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 590.
(2)
هو: أوس بن حذيفة بن ربيعة بن أبي سلمة، الثقفي، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروىعنه: ابنه عمرو، والنعمان بن سالم، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وخمسين. انظر: الإصابة 1/ 92؛ تهذيب التهذيب 1/ 346.
(3)
أخرجه من طريق يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي أوس: أبو داود في سننه ص 29، كتاب الطهارة، باب، ح (160)، وأحمد في المسند 26/ 80، -ولفظه:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة) -وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 221، -ولفظه:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على رجليه) - والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 449، والحازمي في الاعتبار ص 185، نحو لفظ ابن شاهين، ثم ذكر ابن شاهين والحازمي:(قال هشيم: كان هذا في مبدأ الإسلام).
وعطاء والد يحيى المذكور في السند، قال عنه أبو الحسن القطان: مجهول الحال، ما روى عنه غير ابنه يعلى. ونحوه قول الذهبي حيث قال: لا يعرف إلا بابنه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حجر: مقبول. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 78؛ تهذيب التهذيب 7/ 191؛ التقريب 1/ 677.
والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 282، وذكر إسناده ثم قال:(وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح غير عطاء والد يعلى).
وأخرجه أحمد في المسند 26/ 88، من طريق حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن أوس بن أبي أوس عن أبيه، بلفظ:(عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت أبي يوماً توضأ فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) فجعله من مسند أبي أوس، ويعلى رواه عن أوس دون والده. ومن نفس الطريقة أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 96، وابن حبان في صحيحه ص 454. وذكر البيهقي في الكبرى 1/ 429، أنه منقطع.
وأخرجه من طريق شريك عن يعلى عن أوس بن أبي أوس عن أبيه أحمد في المسند 26/ 99، ولفظه:(قال: كنت مع أبي على ماء من مياه العرب فتوضأ ومسح على نعليه، فقيل له، فقال: ما أزيدك على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع)، وبنفس الطريقة أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 97. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 484:(فقد اتفق حماد في رواية الأكثرين وشريك على إسقاط عطاء من الإسناد وعلى أن الحديث من مسند أبي أوس، ليس من مسند ابنه أوس خلافاً لرواية هشيم وشعبة، وهي عندي أصح وأولى؛ لأنهما أوثق وأحفظ من حماد وشريك).
والحديث فيه اضطراب كما قاله الأثرم، انظر: إعلام العالم لابن الجوزي ص 93، وقال الحازمي في الاعتبار ص 186:(أما الأحاديث الواردة في غسل الرجلين كثيرة جداً مع صحتها، ولا يعارضها مثل حديث يعلى بن عطاء؛ لما فيه من التزلزل؛ لأن بعضهم رواه عن يلعى عن أوس ولم يقل عن أبيه، وقال بعضهم عن رجل، ومع هذا الاضطراب لا يمكن المصير إليه) وانظر كذلك: رسوخ الأحبار ص 219.
ثالثاً: عن علي رضي الله عنه قال: «كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما»
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن زيد
(2)
رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ....
القدمين»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، -وقال بعده:(قال وكيع: يعنى الخفين) -ص 30، كتاب الطهارة، باب كيف المسح، ح (164)، والحميدي في مسنده 1/ 175، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 26، وأحمد في المسند 2/ 139، -واللفظ له- وفي ص 242، وص 295، وفي ص 414، -بلفظ: (عن عبد خير قال: رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين، ثم قال:«لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين هو أحق بالمسح من ظاهرهما» وأخرجه الدارمي في سننه 1/ 195، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 35، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 219، والبيهقي في الكبرى 1/ 437، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 290.
(2)
هو: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب، الأنصاري المازني، أبو محمد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، وواسع بن حبان، وغيرهما، وقتل يوم الحرة، سنة ثلاث وستين. انظر: الإصابة 2/ 1052؛ تهذيب التهذيب 5/ 199؛ التقريب 1/ 494.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 35؛ وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 220. وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وهو مختلف في الاحتجاج به. وهذا الحديث وما سبق ذكرهما من الحديثين السابقين في أدلة هذا القول قال عن ذلك كلها ابن الجوزي في إعلام العالم ص 93: (أنها لا تثبت). وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 101، عن عباد بن تميم عن أبيه، ولفظه:(قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويمسح الماء على رجليه). ثم ذكر ابن خزيمة أن هذا كان في طهارة من غير حدث.
خامساً: عن رفاعة بن رافع
(1)
رضي الله عنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين»
(2)
.
وجه لاستدلال من هذه الأحاديث:
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث جاء فيها المسح على القدمين، فيدل ذلك على أن فرض الرجلين المسح، ويكون ذلك تأكيداً لقراءة الخفض، وأنه مما أمر الله تعالى به في الآية الكريمة
(3)
.
(1)
هو: رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، الأنصاري الخزرجي، أبو معاذ، شهد بدراً والعقبة وبقية المشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابناه: عبيد، ومعاذ، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 184؛ الإصابة 1/ 592؛ تهذيب التهذيب 3/ 251.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 137، كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ح (858)، وابن ماجة في سننه ص 95، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء على ما أمر الله تعالى به، ح (460)، والطحاوفي في شرح معاني الآثار 1/ 35. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 137، وصحيح سنن ابن ماجة ص 95.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 35؛ المجموع 1/ 231؛ المغني 1/ 185؛ الشرح الكبير للمقدسي 1/ 294؛ رسوخ الأحبار ص 217.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: أما حديث أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه فإنه مضطرب، فلا يقوى بمعارضة الأحاديث المتواترة المستفيضة في غسل القدمين
(1)
.
على أنه يحتمل أن يكون المراد به غسل الرجلين في النعلين، والمسح يطلق ويراد به الغسل
(2)
.
ويحتمل أن يكون المراد بالقدمين الخفين، تسمية الظرف بالمظروف
(3)
.
وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
ثانياً: أما حديث علي رضي الله عنه فالمراد به المسح على الخفين، ويفسره الروايات الأخرى عنه؛ حيث جاء فيها:«ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه»
(4)
.
(5)
.
وغيرهما من الروايات في هذا المعنى، فهي مفسرة للرواية المذكورة، والراوي لكلها واحد وهو علي رضي الله عنه
(6)
.
(1)
راجع تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه. وانظر: التحقيق لابن الجوزي 1/ 125.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 430.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 238؛ التحقيق 1/ 125؛ رسوخ الأحبار ص 217.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 30، كتاب الطهارة، باب المسح، ح (163).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 30، كتاب الطهارة، باب المسح، ح (164).
(6)
انظر: سنن أبي داود ص 29 - 30، كتاب الطهارة، باب كيف المسح. والسنن الكبرى للبيهقي 1/ 437.
كما أنه يحتمل أن يكون المراد بالقدمين الخفين، تسمية الظرف بالمظروف؛ ولذلك حمله بعض أهل العلم على المسح على ظهور الخفين
(1)
.
ثالثاً: أما حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه ففي سنده كلام، فلا يقوى بمعارضة الأحاديث الصحيحة المتواترة في غسل الرجلين في الوضوء
(2)
. ثم يحتمل أن يكون المراد به المسح على الخفين، تسمية الظرف بالمظروف
(3)
.
رابعاً: أما حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه فيقال فيه ما قيل في الاستدلال من الآية الكريمة،
فإنه ورد على لفظ الآية
(4)
.
وإضافة إلى ما سبق يقال: بأن هذه الأحاديث على تقدير أن المراد بها المسح على القدمين، فيقال: بأن المسح على القدمين كان أولاً، ثم نسخ
(5)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو التخيير بين غسل الرجلين ومسحهما، مسحاً يعمُّ الرجلين- بما يلي:
أولاً: أما أدلة غسل القدمين فالأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول
(1)
انظر: التمهيد 2/ 238؛ رسوخ الأحبار ص 217.
(2)
راجع تخريج هذا الحديث والكلام عليه.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 217.
(4)
راجع ما اعترض به على الاستدلال من الآية على قراءةالخفض. وانظر: المجموع 1/ 233.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 39.
الأول.
ثانياً: أما أدلة مسح القدمين إذا كان مستوعباً فما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
(1)
على قراءة الخفض، وهذا أولى؛ لأن العطف على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي
(2)
.
والمراد بالمسح في الآية عموم مسح الرجلين بالماء، كالأمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم
(3)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:«ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثاً
(4)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء في الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء»
(5)
.
(1)
سورة المائدة، الآية (6).
(2)
انظر: جامع البيان 10/ 64.
(3)
انظر: جامع البيان 10/ 61 - 62، 64.
(4)
سبق تخريجه في ص 338.
(5)
سبق تخريجه في ص 338.
رابعاً: عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»
(1)
.
وغيرها من الأحاديث التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإسباغ الوضوء، ولو كان مسح بعض القدم مجزئاً من عمومها لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها، ففي ذلك أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء
(2)
.
واعترض على هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: أما الاستدلال من الآية الكريمة فقد سبق ما اعترض عليه في الاستدلال منه على المسح، في أدلة القول الثاني.
ثانياً: أما الاستدلال من الأحاديث المذكورة على المسح وعلى عمومها، فيعترض عليه بما يلي:
أولاً: بأن الإنكار والوعيد كان على المسح، وعدم غسل الرجلين، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الأول
(3)
.
ثانياً: أن الإنكار والوعيد كان على عدم غسل الرجلين بكمالهما، كما يدل عليه الأحاديث الأخرى، لا على عدم كمالهما بالمسح
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 339.
(2)
انظر: جامع البيان 10/ 64؛ فتح الباري 1/ 335.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 477، 479؛ فتح الباري 1/ 335.
(4)
انظر: التمهيد 2/ 49؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 124؛ المجموع 1/ 232.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح ما يلي:
أولاً: أن فرض الرجلين الغَسل إذا لم يكن عليهما خف، كما هو القول الأول، وذلك:
أ- لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
(1)
سواء كانت الأرجل مخفوضة أو منصوبة،
فإن المأمور به في الآية هو الغسل، وقد سبق ما يدل على ذلك، ويؤكده تقييد الرجلين بالكعبين
(2)
.
ب- كثرة ما استُدل به لهذا القول مع صحتها وصراحة دلالتها على الغسل؛ حيث بلغت حد التواتر قولاً وفعلاً، وهي محكمة لا يتطرق إليها أي احتمال
(3)
.
ج- إن الأحاديث الواردة في المسح على القدمين، أو المسح على القدمين والنعلين وردت بطرق وألفاظ مختلفة، ومن تتبعها يجد أن خلاصة هذه الطرق والألفاظ هي:
1 -
أنه مسح على الخفين.
2 -
أنه مسح على القدمين.
(1)
سورة المائدة، الآية (6).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 21/ 130.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 219.
3 -
أنه مسح على الرجلين.
4 -
أنه مسح على النعلين.
5 -
أنه مسح على نعليه وقدميه.
6 -
أنه مسح على ظهر قدميه على خفيه
(1)
.
وهذه الطرق تفسر بعضها البعض، ويتبين من مجموعها أنه أطلق فيها على المسح على الخفين: المسح على القدمين، والمسح على الرجلين، ونحو هذه العبارات، وذلك أنه ليس المقصود المسح على الخفين مجردين عن القدم والرجل، بل يمسح عليهما ما داما في القدمين والرجلين، فلذلك عبر بالقدمين والرجلين عن ذلك
(2)
.
أو أنه أُطلق فيها المسح على الغسل
(3)
.
ومع هذه الاحتمالات لا يصح الاستدلال من هذه الأحاديث على أن فرض القدمين المسح؛ وذلك للاتفاق على أن الفرائض إنما يصلح أداؤها باليقين، واليقين هنا الغسل لا المسح؛ بدليل تطرق الاحتمالات المذكورة
(1)
انظر هذه الطرق والألفاظ في: سنن أبي داود ص 29 - 30؛ مسند الحميدي 1/ 175؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 26؛ مسند الإمام أحمد 2/ 139، 242، 295، 414، 26/ 80، 88، 99؛ شرح معاني الآثار 1/ 35؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 219 - 221؛ السنن الكبرى للبهقي 1/ 437، 449.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 238؛ رسوخ الأحبار ص 217.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 430.
إليها، بخلاف غسل القدمين
(1)
.
ثانيًا: وعلى تقدير أن المراد بالمسح في هذه الأحاديث مسح الرجلين والقدمين المخلاتين عن الخفين، فتكون منسوخة؛ وذلك لتأخر آية المائدة، والأمر بإسباغ الوضوء بعد المسح على الرجلين، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ويؤيد ذلك قول هشيم أن المسح على القدمين كان في أول الإسلام.
والله أعلم.
(1)
انظر: التمهيد 2/ 49.
المطلب الثاني: المسح على الخفين
ذهبت الخوارج
(1)
، وبعض الشيعة، وأبو بكر بن داود الظاهري
(2)
، إلى أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء؛ لذلك لا يجوز المسح على الخفين، ولا يجزئ عن غسل القدمين
(3)
.
وروي نحو ذلك عن علي
(4)
،
(1)
الخوارج هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب. انظر: مقالات الإسلاميين 1/ 207.
ويسمى الخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان. انظر: الملل و النحل للشهرستاني ص 105.
(2)
هو: محمد بن داود بن علي الظاهري، أبو بكر، اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه ومسلكه، وخلف أباه في حلقته، وكان عالماً بارعاً، فقيهاً ماهراً، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائتين. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 175؛ البداية والنهاية 11/ 111؛ شذرات الذهب 2/ 226.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 226؛ بدائع الصنائع 1/ 76؛ المجموع 1/ 266؛ سبل السلام 1/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 177.
(4)
قال ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 169: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال: قال علي: (سبق الكتاب الخفين). وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 409: (أما الرواية فيه عن علي أنه قال: (سبق الكتاب المسح على الخفين) ولم يرو ذلك عنه بإسناد موصول يثبت مثله). وقال النووي في المجموع 1/ 267: (وأما ما روي عن علي من كراهة المسح فليس بثابت). وقال ابن كثير في تفسيره 2/ 27: (قد روي ذلك عن علي ابن أبي طالب، ولكنه لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه). وقال الصنعاني في سبل السلام 1/ 96، والشوكاني في نيل الأوطار 1/ 177:(أن ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (سبق الكتاب الخفين) فهو منقطع).
وابن عباس
(1)
رضي الله عنهما.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو ما يُظن من معارضة آية الوضوء المذكور فيها الأمر بغسل الأرجل للأخبار التي وردت في المسح على الخفين
(2)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(3)
.
حيث إن الآية عينت مباشرة الرجلين بالماء
(4)
.
(1)
انظر: بداية المجتهد 1/ 43؛ تفسير القرطبي 6/ 92، وقال ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 169: حدثنا علي بن مسهر عن عثمان بن حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال:(سبق الكتاب الخفين) ثم حدث عن ابن فضيل عن ضرار بن مرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: (ما أبالي مسحت على الخفين أو مسحت على ظهر بختي هذا). ثم حدث في 1/ 170 عن ابن إدريس عن فطر قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: (سبق الكتاب الخفين) فقال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليهما. وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 410:(وأما ابن عباس رضي الله عنه فإنه كرهه حين لم يثبت له مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين بعد نزول المائدة، فلما ثبت له رجع إليه) ثم أسند قول عكرمة عن ابن عباس (سبق الكتاب الخفين) ثم ذكر قول عطاء: كذب عكرمة
…
). وانظر: المجموع 1/ 167؛ المبدع 1/ 99؛ كشاف القناع 1/ 135؛ مغني المحتاج
1/ 63.
(2)
انظر: بداية المجتهد 1/ 43؛ تفسير ابن كثير 2/ 27؛ سبل السلام 1/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 177.
(3)
سورة المائدة، الآية (6).
(4)
انظر: سبل السلام 1/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 177.
واعترض عليه: بأن الأمر في الآية محمول على غير لابس الخف، ببيان السنة
(1)
.
أو أن الأمر في الآية عام خصصته أحاديث المسح على الخفين؛ حيث بلغت حد التواتر
(2)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:«ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثاً
(3)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء في الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء»
(4)
.
رابعاً: عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار»
(5)
.
خامساً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
(1)
انظر: المجموع 1/ 267.
(2)
انظر: سبل السلام 1/ 96؛ نيل الأوطار 1/ 177.
(3)
سبق تخريجه في ص 338.
(4)
سبق تخريجه في ص 338.
(5)
سبق تخريجه في ص 339.
رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» أو «ظلم وأساء»
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة على النسخ
قالوا: إن هذه الأدلة فيها ذكر غسل الرجلين، ولم يذكر فيها المسح على الخفين
(2)
؛ لذلك تكون هذه الأدلة ناسخة للأحاديث الواردة في المسح على الخفين، خاصة آية الوضوء:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
(3)
؛ لأنها متأخرة عن تلك الأحاديث الدالة على المسح؛ بدليل ما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: (سبق الكتاب الخفين)
(4)
.
واعترض عليه بأنه لا يصح الاستدلال من الآية على النسخ لما يلي:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول آية الوضوء؛ ويدل عليه ما يلي:
أ- أن هذه الآية نزلت في غزوة المريسيع، وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على
(1)
سبق تخريجه في ص 342.
(2)
انظر: سبل السلام 1/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 177.
(3)
سورة المائدة، الآية (6).
(4)
راجع ر تخريج الآثار عنهما في ذكر قولهما في بداية المسألة.
الخفين في غزوة تبوك، روى ذلك المغيرة بن شعبة، وغزوة تبوك بعد المريسيع باتفاق
(1)
.
ب- أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وأخبر أنه إنما أسلم بعد نزول المائدة
(2)
.
ثانياً: أنه لو سلم تأخر نزول آية الوضوء، فلا منافاة بينها وبين أحاديث المسح؛ لأن الآية
عامة وخصصته تلك الأحاديث المتواترة في المسح، فلا معارضة بينهما
(3)
.
أما الاستدلال على النسخ من الأحاديث التي فيها ذكر غسل الرجلين فقط أو أن فيها وعيد على من ترك غسل الرجلين، فيعترض عليه: بأن تلك الأحاديث ليس فيها ما ينافي جواز المسح على الخفين؛ وذلك لأن الوعيد فيها، أو الأمر بالغسل لمن لم يلبس الخفين
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
(1)
انظر: المجموع 1/ 267؛ فتح الباري 1/ 387؛ سبل السلام 1/ 95، وسيأني تخريج حديث المغيرة في أدلة قول الجمهور.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 34؛ المجموع 1/ 267؛ فتح الباري 1/ 622؛ المبدع 1/ 99؛ تحفة الأحوذي 1/ 330، وسيأتي تخريج حديث جرير في أدلة قول الجمهور.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 506؛ سبل السلام 1/ 95؛ نيل الأوطار 1/ 177؛ تحفة الأحوذي 1/ 329.
(4)
انظر: سبل السلام 1/ 96؛ نيل الأوطار 1/ 177.
أما بقية أهل العلم فذهبوا إلى جواز المسح على الخفين، وأنه ليس بمنسوخ.
وهو قول المذاهب الأربعة
(1)
، وعامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
(2)
، حتى قال عبد الله بن المبارك:(ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، قال: وذلك أن كل من روي عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره المسح على الخفين، فقد روي عنه غير ذلك)
(3)
.
وقال ابن المنذر: (وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم وكل من لقيت منهم على القول به)
(4)
.
وقال ابن عبد البر: (جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر لا خلاف بينهم في
(1)
انظر: (الأصل 1/ 88؛ شرح معاني الآثار 1/ 80، 83؛ بدائع الصنائع 1/ 76؛ الهداية مع فتح القدير 1/ 143؛ الاختيار 1/ 23)؛ (التمهيد 2/ 226؛ الاستذكار 1/ 258؛ جامع الأمهات ص 71؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 466؛ مواهب الجليل 1/ 466)؛ (الأم 1/ 90؛ مختصر المزني ص 18؛ العزيز 1/ 270؛ المجموع 1/ 266)؛ (المغني 1/ 359؛ الشرح الكبير 1/ 377؛ الممتع 1/ 190؛ شرح الزركشي 1/ 194؛ المبدع 1/ 99).
(2)
انظر: التمهيد 2/ 226؛ الاستذكار 1/ 258؛ بداية المجتهد 1/ 43؛ بدائع الصنائع 1/ 76؛ المجموع 1/ 266؛ المغني 1/ 359.
(3)
الأوسط 1/ 434، وانظر: فتح الباري 1/ 384.
(4)
الأوسط 1/ 434.
ذلك بالحجاز والعراق والشام وسائر البلدان)
(1)
.
وقال النووي: (أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو غيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ولا يعتد بخلافهم)
(2)
.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه)
(3)
.
وفي رواية: أن جريراً بال ثم توضأ فمسح على الخفين، وقال:(ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح؟ قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة)
(4)
.
(1)
التمهيد 2/ 226.
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 505.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 84، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الخفاف، ح (387) - ثم قال:(قال إبراهيم: فكان يعجبهم لأن جريراً كان من آخر من أسلم) -، و مسلم في صحيحه -واللفظ له- 1/ 505، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (272)(72)، ثم قال:(قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 28، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (154). وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 28.
وفي رواية أخرى عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة فرأيته يمسح على الخفين»
(1)
.
ثانياً: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته، فأتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته (فتوضأ ومسح على الخفين)
(2)
.
ثالثاً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت
فقال: «أدنه» فدنوت حتى قمت عند عقبه فتوضأ فمسح على خفيه)
(3)
.
رابعاً: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه مسح على الخفين»
(4)
.
خامساً: عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 161.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 48، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، ح (203)، ومسلم في صحيحه 1/ 508، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (274)(75).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 506، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (273)(73).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 48، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، ح (202).
قال: «عمداً صنعته يا عمر»
(1)
.
سادساً: عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بعلي بن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه فقال:«جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 253.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 513، كتاب الطهارة، باب توقيت مسح الخفين، ح (276)(85).
سابعاً: عن عوف بن مالك الأشجعي
(1)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم»
(2)
.
والأحاديث في المسح على الخفين متواترة؛ حيث قال الحسن البصري: (حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين)
(3)
.
وقال ابن حجر: (وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع
بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين)
(4)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وهو دليل الجواز
(5)
.
الراجح
بعد ذكر القولين في المسألة والأدلة يظهر لي -والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو جواز المسح على الخفين، وذلك لما يلي:
أولاً: للأحاديث المروية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وقد بلغت حد التواتر بلا خلاف، مع صحتها وصراحتها في الدلالة على المطلوب.
ثانياً: عدم وجود أي دليل يدل على عدم جواز المسح على الخفين. أما آية الوضوء وأحاديث غسل القدمين فهي في حالة عدم لبس الخفين، ولا تباين بين الدليلين لتباين الحالتين
(6)
.
(1)
هو: عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو مسلم الخولاني، وجبير بن نفير، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وسبعين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 429؛ الإصابة 2/ 1390.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 161، وأحمد في المسند 39/ 422، والطحاوفي في شرح معاني الآثار 1/ 82، والدارقطني في سننه 1/ 197، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 415. قال الإمام أحمد:(هذا من أجود حديث في المسح على الخفين؛ لأنه في غزوة تبوك آخر غزاة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله). انظر: المغني 1/ 366؛ التنقيح 1/ 187. وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 415: (قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 264: (رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح).
(3)
انظر: الأوسط 1/ 430، 433؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 505.
(4)
فتح الباري 1/ 385.
(5)
انظر: المجموع 1/ 266؛ المغني 1/ 359.
(6)
انظر: المجموع 1/ 267.
ثالثاً: ولأن زعم من زعم أن آية الوضوء متأخرة وناسخة للمسح فمجرد شبهة ووهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين قبل نزول المائدة وبعدها، كما سبق ذكره في دليل قول الجمهور.
والله أعلم.
المطلب الثالث: التوقيت في المسح على الخفين
ذهب ابن قدامة إلى أن الحديث الذي يدل على عدم توقيت المسح على الخفين يحتمل أن يكون منسوخاً بالأحاديث الدالة على التوقيت، لتأخرها
(1)
.
ولا يظهر للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، وإنما السبب في اختلافهم فيها هو اختلاف الأحاديث والآثار الواردة في المسألة
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بعلي بن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه فقال:«جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم»
(3)
.
ثانياً: عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم»
(4)
.
ثالثاً: عن أبي بردة رضي الله عنه قال: آخر غزوة غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرنا أن نمسح على خفافنا للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة ما لم
(1)
انظر: المغني 1/ 366.
(2)
انظر: بداية المجتهد 1/ 47.
(3)
سبق تخريجه في ص 359.
(4)
سبق تخريجه في ص 359.
يخلع»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على توقيت المسح على الخفين، ثم حديث عوف بن مالك رضي الله عنه صريح في أن الأمر بالمسح والتوقيت فيه كان في غزوة تبوك.
وحديث أبي بردة رضي الله عنه يدل على ثبوت التوقيت في المسح على الخفين في آخر غزوة غزاها الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فيثبت من مجموع الحديثين أنه لو صحت الأحاديث الدالة على عدم توقيت مسح الخفين
فإنها تكون منسوخة بالأحاديث الدالة على التوقيت؛ لأن بعضها مصرحة على تأخرها؛ لذلك قال الإمام أحمد عن حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: (هذا من أجود حديث في المسح على الخفين؛ لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله)
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في توقيت المسح على الخفين على قولين:
القول الأول: إن المسح على الخفين موقت للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 264: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه عمر بن رديح، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن معين: صالح الحديث).
(2)
انظر: المغني 1/ 366؛ التنقيح 1/ 187.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
وبه قال عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وأبو مسعود الأنصاري، وعمار بن ياسر، والمغيرة بن شعبة
(4)
رضي الله عنهم.
وهو كذلك قول شريح، وعطاء، ابن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وسفيان الثوري، وإسحاق، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأبي ثور، وداود الظاهري، وقول لابن عمر رضي الله عنه، والحسن البصري، والشعبي
(5)
.
القول الثاني: أنه لا توقيت في المسح على الخفين، فللشخص أن يمسح ما بدا له سواء كان مقيماً أم مسافراً.
وهو مذهب المالكية
(6)
. وروي نحو ذلك عن عمر، وسعد بن أبي
(1)
انظر: الأصل 1/ 89؛ شرح معاني الآثار 1/ 85؛ المبسوط 1/ 102؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 147؛ العناية 1/ 147.
(2)
انظر: الأم 1/ 94؛ مختصر المزني ص 18؛ الوجيز مع شرحه العزيز 1/ 283، 284؛ المجموع 1/ 271.
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق 2/ 282، 283؛ المغني 1/ 365؛ الشرح الكبير 1/ 396؛ المقنع وشرحه الممتع 1/ 195.
(4)
انظر: الأوسط 1/ 434؛ التمهيد 2/ 241؛ الاستذكار 1/ 263.
(5)
انظر: الأوسط 1/ 435، 436؛ شرح معاني الآثار 1/ 84؛ التمهيد 2/ 241؛ المجموع 1/ 271؛ المغني 1/ 365؛ نيل الأوطار 1/ 182.
(6)
انظر: التمهيد 2/ 240؛ الاستذكار 1/ 262؛ الكافي ص 26؛ بداية المجتهد 1/ 47؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 1/ 467.
وقاص، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم والحسن البصري، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، والليث بن سعد
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو توقيت المسح- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأحاديث الثلاثة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: عن صفوان بن عسال
(2)
رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم»
(3)
.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 168؛ الأوسط 1/ 436، 437؛ التمهيد 2/ 239؛ الاستذكار 1/ 262؛ المغني 1/ 365؛ المجموع 1/ 271؛ نيل الأوطار 1/ 181.
(2)
هو: صفوان بن عسال المرادي الجملي، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، وروى عنه، وسكن الكوفة، و روى عنه: زر بن حبيش، وحذيفة بن أبي حذيفة، وغيرهما. انظر: الإصابة 2/ 902؛ تهذيب التهذيب 4/ 393.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه ص 34، أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح (96)، و النسائي في سننه ص 29، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، ح (127)، وابن ماجة في سننه ص 98، كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم، ح (478)، والشافعي في المسند ص 18، و عبد الرزاق في المصنف 1/ 204، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 162، وأحمد في المسند 30/ 11، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 82، وابن حبان في صحيحه ص 451، والدارقطني في سننه 1/ 133، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 415. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح) ونقل عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: (أحسن شيء في هذا الباب حديث صفوان بن عسال المرادي). وقال النووي في المجموع 1/ 168: (أما حديث صفوان فصحيح رواه الشافعي في مسنده وفي الأم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 29.
ثالثاً: عن أبي بكرة
(1)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه رخص للمسافر إذا توضأ ولبس خفيه ثم
أحدث وضوءاً أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة»
(2)
.
(1)
هو: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، أبو بكرة الثقفي، قيل له أبو بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببكرة فاشتهر به، وأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو عثمان النهدي، وربعي بن خراش، وغيرهما، وتوفي سنة خمسين، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 3/ 2014؛ تهذيب التهذيب 10/ 418.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 110، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، ح (556)، والشافعي في مسنده ص 17، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 163، وابن الجارود في المنتقىص 45، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 82، والدارقطني في سننه 1/ 194، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 415. وقال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني 1/ 194:(ورواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والطبراني في معجمه والبيهقي في سننه، وقال الترمذي في علله الكبير: سألت محمداً يعني البخاري أي حديث أصح عندك في التوقيت في المسح على الخفين؟ فقال: حديث صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حديث حسن). وكذلك حسنه النووي في المجموع 1/ 272، والشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 110.
رابعاً: عن خزيمة بن ثابت
(1)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة»
(2)
.
خامساً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: «للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن»
(3)
.
والأحاديث في التوقيت كثيرة؛ حيث بلغت حد التواتر، وهي صريحة في توقيت المسح
على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، وللمقيم يوم وليلة
(4)
.
(1)
هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكهة بن ثعلبة الأنصاري الخطمي، أبو عمارة المدني، ذو الشهادتين، شهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عمارة، وجابر بن عبد الله، وغيرهما، وقتل بصفين. انظر: الإصابة 1/ 485؛ تهذيب التهذيب 3/ 126.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 28، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح (157)، والترمذي في سننه ص 34، أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح (95)، وابن ماجة في سننه ص 110، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، ح (554)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 204، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 162، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 81، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 416. وصححه يحيى بن معين، والترمذي، والنووي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 34؛ المجموع 1/ 272؛ صحيح سنن أبي داود ص 28.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 263: (رواه القطيعي من زياداته على مسند أحمد، وأبو يعلى والبزار، والطبراني في الكبير والأوسط. ورجال البزار وأبي يعلى ثقات).
(4)
انظر: الأوسط 1/ 438؛ شرح معاني الآثار 1/ 81، 83؛ التمهيد 2/ 241؛ المجموع 1/ 272؛ المغني 1/ 366.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- هو أن المسح على الخفين غير مؤقت- بما يلي:
أولاً: عن أبي بن عمارة
(1)
رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: «نعم» قال: يوماً؟ قال: «يوماً» قال: ويومين؟ قال: «ويومين» قال: وثلاثة؟ قال: «نعم وما شئت»
(2)
.
وفي رواية أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسح على الخفين؟ قال: «نعم» قال: يوماً؟ قال: «ويومين» قال: وثلاثاً؟ حتى بلغ سبعاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما بدا لك»
(3)
.
(1)
هو: أبي بن عمارة، بكسر العين، وقيل: بضمها، حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أيوب بن قطن، وعبادة بن نسي، وسكن مصر. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 4؛ الإصابة 1/ 19؛ تهذيب التهذيب 1/ 169.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 28، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح (158)، ثم قال أبو داود:(قال ابن معين: إسناده مظلم).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 29، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، ح (158)، وابن ماجة في سننه -واللفظ له- ص 110، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، ح (557)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 79، والدارقطني في سننه 1/ 198، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 419.
قال أبو داود في سننه ص 29: (وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ورواه ابن أبي مريم ويحيى بن إسحاق السيلحيني عن يحيى بن أيوب، وقد اختلف في إسناده). وقال الدارقطني في سننه 1/ 198: (هذا الإسناد لا يثبت، وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً قد بينته في موضع آخر، وعبد الرحمن ومحمد ين يزيد وأيوب بن قطن مجهولون). وقال ابن الجوزي في التحقيق: (قال أحمد بن حنبل: رجال لا يعرفون) وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 188: (ورواه الحاكم وقال: في رواته مجروح. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف). وقال النووي في المجموع 1/ 270: (واتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به). وضعفه ابن حجر والشيخ الألباني. انظر: الإصابة 1/ 20؛ ضعيف سنن أبي داود ص 28؛ ضعيف سنن ابن ماجة ص 110.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه، فليصل
فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 204، والحاكم في المستدرك 1/ 290، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 420. قال الحاكم:(هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وعبد الغفار بن داود ثقة غير أنه ليس عند أهل البصرة عن حماد) وقال قبل ذكر الحديث في ص 289: (وقد روي هذا الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح رواته عن آخرهم ثقات إلا أنه شاذ بمرة). وقال الذهبي في التلخيص 1/ 290: (على شرط مسلم، تفرد به عبد الغفار وهوثقة، والحديث شاذ). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 189: (إسناد هذا الحديث قوي، وأسد صدوق وثقه النسائي وغيره، ولا إلتفات إلى كلام ابن حزم فيه، وقد صحح إسناده الحاكم وذكر أنه شاذ بمرة).
فهذا الحديث رواه عن حماد بن سلمة أسد بن موسى، وعبد الغفار بن داود الحراني، لذلك لا يصح قول ابن حزم في المحلى 1/ 326:(رواه أسد بن موسى عن حماد بن سلمة، وأسد منكر الحديث، ولم يرو هذا الخبر أحد من ثقات أصحاب حماد بن سلمة) مع أن أسد بن موسى وثقه النسائي وغيره. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 420؛ التنقيح 1/ 189؛ نصب الراية 1/ 179. وقال النووي في المجموع 1/ 272: (وأما حديث أنس فضعيف رواه البيهقي وأشار إلى تضعيفه).
ثالثاً: عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله أكل ساعة يمسح الإنسان على الخفين ولا ينزعهما؟ قال: «نعم»
(1)
.
رابعاً: عن عقبة بن عامر الجهني
(2)
رضي الله عنه أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر، فقال:(منذ كم لم تنزع خفيك)؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة، قال:(أصبت السنة)
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 44/ 410، وأبو يعلى في مسنده 13/ 9 - ولفظه:(يا رسول الله أيخلع الرجل خفيه كل ساعة؟ قال: «لا، ولكن يمسحهما ما بداله». - وكذلك أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 199. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 263: (وفيه عمر بن إسحاق بن يسار قال الدارقطني: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات).
(2)
هو: عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي، الجهني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن عباس، وأبو أمامة، وغيرهما، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 429؛ الإصابة 2/ 1390.
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 110، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، ح (558)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 80، والدارقطني في سننه 1/ 199، والحاكم في المستدرك 1/ 289، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 421. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي في التلخيص. وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 110. وقال الدارقطني في سننه 1/ 421:(وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التوقيت فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبيت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 189، والزيلعي في نصب الراية 1/ 180:(ذكر الدارقطني أن عمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب والليث بن سعد رووه عن يزيد فقالوا فيه: فقال عمر: أصبت. ولم يقولوا: السنة. وهو المحفوظ، قال: ورواه جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة. وأسقط من الإسناد عبد الله بن الحكم البلوي، وقال فيه: أصبت السنة، كما قال ابن لهيعة والمفضل).
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إنها تدل على عدم توقيت المسح على الخفين، فللشخص أن يمسح عليهما ما بدا له ذلك
(1)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن هذه الأدلة لم يسلم أي واحد منها عن الكلام عليه، وهي لا تقوى على معارضة الأحاديث الدالة على التوقيت؛ لصراحتها، وصحتها، وتواترها، بخلاف أحاديث عدم التوقيت
(2)
.
ثانياً: إن هذه الأدلة على تقدير ثبوتها وصحتها تحتمل أن تكون منسوخة؛ لأن التوقيت ثبت الأمر به في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 79؛ التمهيد 2/ 240؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 188؛ المجموع 1/ 272.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 83؛ التمهيد 2/ 242؛ التحقيق مع التنقيح 1/ 188؛ المجموع 1/ 272.
النبي صلى الله عليه وسلم، فيدل ذلك على أن التوقيت آخر شيء
(1)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، والأدلة يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح ما يلي:
أولاً: إن المسح على الخفين موقت للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة، وذلك لما يلي:
أ- لأن الأحاديث الدالة على التوقيت مع صحتها، وصراحتها، كثيرة حتى بلغت حد
التواتر
(2)
.
ب- ولأن الأحاديث الدالة على عدم التوقيت متكلم فيها، ثم بعضها محتملة للتوقيت وغيرها، فهي لذلك لا تقوى بمعارضة الأحاديث الدالة على التوقيت
(3)
.
ثانياً: إن الأحاديث الدالة على عدم التوقيت على تقدير ثبوتها وصحتها فإنها محتملة لأن تكون منسوخة بالأحاديث الدالة على التوقيت، كما قاله ابن قدامة؛ لوجود ما يدل على تأخرها وهو حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه؛ حيث دل أن الأمر بالمسح والتوقيت فيه كان في غزوة تبوك، وليس
(1)
انظر: التحقيق 1/ 187؛ المغني 1/ 366.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 83؛ التمهيد 2/ 242؛ المجموع 1/ 272.
(3)
انظر: المجموع 1/ 272؛ المغني 1/ 366.
بين غزوة تبوك ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مدة يسيرة
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 1/ 366. وقد يستفاد ذلك من قول الإمام أحمد، حيث قال في حديث عوف بن مالك: (هو أجود حديث في المسح على الخفين؛ لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر فعله). انظر: التحقيق 1/ 187؛ المغني 1/ 366.
المطلب الرابع: مسح اليدين إلى المناكب في التيمم
ذهب الإمام الشافعي إلى أن مسح اليدين في التيمم
(1)
إلى الإبطين والمناكب إن كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقد نسخ ذلك
(2)
.
ونحوه قول شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، و الحافظ ابن حجر العسقلاني
(4)
.
وقد تبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اشتراك اسم اليد في لسان العرب؛ حيث إنها تطلق على الكف فقط، وتطلق علىالكف والذراع، وتطلق على الكف والذراع والعضد.
كما أن اختلاف الآثار الواردة في المسألة هو السبب الأصلي الآخر للاختلاف فيها
(5)
.
(1)
التيمم لغة: القصد، يقال: يممت فلانا وتيممته إذا قصدته. انظر: النظم المستعذب 1/ 43؛ المغني لابن بابطيش 1/ 58؛ المصباح المنير ص 681.
والتيمم اصطلاحا: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بدلا عن الوضوء أو الغسل، أو عضو منهما بشرائط مخصوصة. مغني المحتاج 1/ 87.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 321؛ الاعتبار للحازمي ص 182، 184.
(3)
انظر: شرح العمدة 1/ 419.
(4)
انظر: فتح الباري 1/ 556.
(5)
انظر: الاعتبار ص 182؛ بداية المجتهد 1/ 136.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «تيممنا مع رسول الله بالتراب فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب»
(2)
.
ثانياً: عن عمار رضي الله عنه أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت
(3)
فصليت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما كان يكفيك هكذا» فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 56، كتاب الطهارة، باب التيمم، ح (318)، والنسائي في سننه ص 56، كتاب الطهارة، باب التيمم في السفر، ح (314)، وأحمد في المسند 3/ 260، وابن الجارود في المنتقى ص 57، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 110، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 320، والحازمي في الاعتبار ص 180. وقال:(هذا حديث حسن). وصححه الشيخ اللباني في صحيح سنن أبي داود ص 56.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 57، كتاب الطهارة، باب الاختلاف في كيفية التيمم، ح (315)، وابن ماجة في سننه ص 112، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سببه، ح (566)، والبيهقي في الكبرى 1/ 320، وابن عبد البر في التمهيد 2/ 355.
(3)
التمعك: التمرغ، والتدليك، والمعك الدلك. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 667؛ المصباح المنير ص 576؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 612.
الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه)
(1)
.
وفي رواية: قال عمار رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يكفيك الوجه والكفان»
(2)
.
وفي رواية أخرى: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك»
(3)
.
وفي رواية ثالثة: قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم؟ «فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين»
(4)
.
ثالثاً: عن عمار رضي الله عنه قال: كنت في القوم حين نزلت الرخصة في المسح بالتراب إذا لم نجد الماء، (فأمرنا فضربنا واحدة للوجه، ثم ضربنا أخرى لليدين
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 73، كتاب التيمم، باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟، ح (338)، ومسلم في صحيحه 2/ 48، كتاب الحيض، باب التيمم، ح (368)(111).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 73، كتاب التيمم، باب التيمم للوجه والكفين، ح (341).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 49، كتاب الحيض، باب التيمم، ح (368)(112).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 58، كتاب الطهارة، باب التيمم، ح (327)، والترمذي في سننه ص 46، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم، ح (144)، وأحمد في المسند 30/ 254، والدارمي في سننه 1/ 208، والطحاوفي في شرح معاني الآثار 1/ 112، والدارقطني في سننه 1/ 182، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 323. وقال الدارمي:(صح إسناده) وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 57.
إلى المرفقين)
(1)
.
ويستدل منها على نسخ مسح اليدين إلى المناكب والإبطين: بأن حديث عمار رضي الله عنه في التيمم إلى المناكب
(2)
كان حين نزول آية التيمم، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق، ثم روى عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعد ذلك بالتيمم على الوجه والكفين
(3)
، وفي رواية: اليدين إلى المرفقين، فدل ذلك على نسخ الأول
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في القدر الواجب مسحه من الأيدي في التيمم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن القدر الواجب مسحه من الأيدي هو مسح اليدين إلى المرفقين.
وهو مذهب الحنفية
(5)
، وقول للإمام مالك، قيل هو مشهور
(1)
أخرجه البزار في مسنده 4/ 221، وقال:(وقال في حديث أحمد بن خالد: إلى المنكبين ظهراً وبطناً). وقال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/ 68: (أخرجه البزار بإسناد حسن، ولكن أخرجه أبو داود فقال: إلى المناكب، وذكر أبو داود علته والاختلاف فيه).
(2)
سيأتي تخريجه في أدلة القول الثالث.
(3)
سيأتي تخريجه في أدلة القول الثاني.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 321؛ التمهيد 2/ 356، 358؛ الاعتبار ص 182، 183، 184.
(5)
انظر: الأصل 1/ 104؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 146؛ شرح معاني الآثار 1/ 114؛ المبسوط 1/ 112؛ الهداية 1/ 125؛ اللباب للمنبجي 1/ 140.
المذهب
(1)
، ومذهب الشافعية
(2)
.
وبه قال جابر بن عبد الله، وابن عمر-رضي الله عنهما والحسن، والشعبي، و سالم، وطاوس، والليث بن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة
(3)
، وسفيان الثوري، وابن
المبارك
(4)
.
القول الثاني: أن القدر الواجب مسحه من الأيدي في التيمم، هو مسح الكفين.
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة
(5)
، وقول للإمام مالك، وهو المشهور في المذهب
(6)
، وقول قديم للإمام الشافعي
(7)
، ومذهب الحنابلة
(8)
.
(1)
انظر: الأوسط 2/ 48؛ الكافي ص 29؛ بداية المجتهد 1/ 136؛ جامع الأمهات ص 69.
(2)
انظر: الأم 1/ 113؛ مختصر المزني ص 14؛ الأوسط 2/ 48؛ الاعتبار ص 181؛ المجموع 2/ 168، 169.
(3)
هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، الماجشون، المدني، ثقة فقيه، روى عن الزهري، وابن المنكدر،
وغيرهما، وروى عنه: الليث، وابن وهب، ووكيع، وغيرهم، وتوفي سنة أربع وستين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 368؛ التقريب 2/ 239.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 212؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 146، 147؛ سنن الترمذي ص 46؛ الأوسط 2/ 48؛ شرح معاني الآثار 1/ 114؛ الاعتبار ص 181؛ المجموع 2/ 169.
(5)
انظر: العناية 1/ 125.
(6)
انظر: التمهيد 2/ 354؛ الاستذكار 1/ 354؛ جامع الأمهات ص 69؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 1/ 510؛ مواهب الجليل 1/ 510.
(7)
انظر: المجموع 2/ 168.
(8)
انظر: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق 2/ 376؛ المغني 1/ 331؛ الشرح الكبير 2/ 254؛ الممتع 1/ 251؛ شرح الزركشي 1/ 169؛ منتهى الإرادات 1/ 29.
وروي ذلك عن: علي، وعمار، وابن عباس-رضي الله عنهم.
وقال به عطاء، و مكحول، والشعبي-في رواية-، والأوزاعي، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن جرير، وابن المنذر
(1)
.
القول الثالث: أن القدر الواجب مسحه من الأيدي في التيمم، هو مسحهما إلى الإبطين.
وبه قال الزهري
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن الأيدي تمسح في التيمم إلى المرفقين- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
(3)
.
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 213؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 146، 147؛ سنن الترمذي ص 46؛ الأوسط 2/ 50، 51؛ المحلى 1/ 375؛ التمهيد 2/ 354؛ الاعتبار ص 181؛ المجموع 2/ 169.
(2)
انظر: الأوسط 2/ 47؛ المحلي 1/ 373؛ الاعتبار ص 181.
(3)
سورة المائدة، الآية (6).
حيث إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، ثم ذكر التيمم فقال:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فالظاهر أن المراد بهذه اليد هي الموصوفة في أول الآية، وهي اليد إلى المرفق، فهذا المطلق محمول على ذلك المقيد، لا سيما وقد ذُكرا في آية واحدة
(1)
.
ويقوي ذلك أن التيمم بدل عن الوضوء، وفي الوضوء يُغسل اليدان إلى المرفقين، فكذلك ينبغي في التيمم أن يمسح اليدان إلى المرفقين؛ لأن البدل يحل محل الأصل، ويكون مثله
(2)
.
واعترض عليه: بأن اليد إذا أطلقت يراد بها الكف؛ لأنها حقيقة فيه
(3)
.
وأجيب: بأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، ويطلق ويراد به ما يبلغ الكفين، ويحدد ما يراد به القرائن وسياق الكلام، وحمل ما أطلق هنا على ما قيد في الوضوء أولى؛ لجامع الطهورية
(4)
.
ويؤكد صدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وغيره كون الصحابة رضي الله عنهم مسحوا أيديهم عند نزول الآية إلى المناكب والأباط
(5)
.
ثانياً: عن نافع
(6)
، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس
(1)
انظر: التمهيد 2/ 360؛ المجموع 2/ 169؛ تفسير ابن كثير 1/ 478.
(2)
انظر: الأم 1/ 113؛ التمهيد 2/ 359، 360؛ المجموع 2/ 169؛ تفسير ابن كثير 1/ 478.
(3)
انظر: بداية المجتهد 1/ 137؛ الشرح الممتع 1/ 334.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير 1/ 478.
(5)
انظر: الاستذكار 1/ 356.
(6)
هو: نافع أبو عبد الله، المدني، مولى ابن عمر، ثقة، فقيه، روى عن: ابن عمر، وعائشة، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، ومالك بن أنس، وغيرهما، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 368؛ التقريب 2/ 239.
فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال:«إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 58، كتاب الطهارة، باب التيمم في الحضر، ح (330)، وابن المنذر في الأوسط 2/ 49، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 85، والدارقطني في سننه 1/ 177، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 316. وفي سنده محمد بن ثابت العبدي البصري، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال فيه غير واحد: ليس بالقوي، منهم ابن المديني والنسائي. وقال النسائي مرة: لا بأس به. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابع عليه. ووثقه محمد بن سليمان لوين، وأبو أحمد عبد الله العجلي، وقال ابن حجر: صدوق لين الحديث. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 495؛ نصب الراية 1/ 152؛ تهذيب التهذيب 9/ 71؛ التقريب 2/ 60. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 151 بعدذكر هذا الحديث: (ومداره على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، والبخاري، وأحمد).
وقد خالف محمد بن ثابت الثقات؛ حيث رفع هذا الحديث، وخالفه أيوب، وعبيد الله بن إسحاق وغيرهما فجعلوه من فعل ابن عمر. قال البخاري عنه: يخالف في بعض حديثه، روى عن نافع عن ابن عمر في التيمم، ورواه أيوب والناس عن نافع عن ابن عمر فعله. أنظر: الأوسط 2/ 53، 54؛ نصب الراية 1/ 152؛ تهذيب التهذيب 9/ 71؛ التلخيص الحبير 1/ 151.
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 317: (وقد أنكر بعض الحفاظ رفع هذا الحديث على محمد بن ثابت العبدي فقد رواه جماعة عن نافع من فعل ابن عمر، -ثم ذكر طرقاً يعضد بعضها بعضا ثم قال: - وفعل ابن عمر التيمم على الوجه والذراعين إلى المرفقين شاهد لصحة رواية محمد بن ثابت غير مناف لها-إلى أن قال: -وهو في هذا الحديث غير مستحق للتنكير بالدلائل التي ذكرتها، وقد رواه جماعة من الأئمة عن محمد بن ثابت مثل يحيى بن يحيى، ومعلى بن منصور وسعيد بن منصور، وغيرهم، وأثنى عليه مسلم بن إبراهيم ورواه عنه وهو عن ابن عمر مشهور). والحديث ضعفه ابن المنذر، وابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: الأوسط 2/ 53؛ التلخيص الحبير 1/ 151؛ ضعيف سنن أبي داود ص 58.
(1)
هو أبو جهيم، وقد سبقت ترجمته.
(2)
أخرجه الشافعي في الأم 1/ 113، وابن المذر في الأوسط 2/ 49، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 316. وفي سنده إبراهيم بن محمد، وقد تكلم فيه غير واحد، واتهم بالكذب. قال يحيى بن سعيد: كنا نتهمه بالكذب، وتركه ابن المبارك. وقال أحمد: كان يأخذ حديث الناس فيجعله في كتبه. وقال ابن معين: إبراهيم ليس بثقة كذاب رافضي. وروي عن الشافعي أنه قال: كان ثقة في الحديث. انظر: الأوسط 2/ 53؛ تهذيب التهذيب 1/ 143.
وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 316 بعد ذكر الحديث: (وهذا شاهد لرواية أبي صالح كاتب الليث، إلا أن هذا منقطع، عبد الرحمن بن هرمز الأعرج لم يسمعه من ابن الصمة، إنما سمعه من عمير مولى ابن عباس، عن ابن الصمة وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي. وأبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، قال: قد اختلف الحفاظ في عدالتهما إلا أن روايتهما ذكر الذراعين فيه شاهد من حديث ابن عمر).
رابعاً: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 180، وقال: كذا رواه على بن ظبيان مرفوعاً، ووقفه يحيى بن القطان، وهشيم وغيرهما، وهو الصواب. وأخرج بمعناه عن طريق سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه، وعن طريق سليمان بن أبي داود الحراني، عن سالم ونافع عن ابن عمر، لكنه قال:(سليمان بن أرقم وسليمان بن داود ضعيفان).
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 287، وقال:(ولا أعلم أحداً أسنده عن عبد الله غير علي بن ظبيان، وهو صدوق، وقد أوقفه يحيى بن سعيد وهشيم بن بشير وغيرهما). وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال بعد ذكر قوله: (صدوق): (قلت: بل واه، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة). وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 319 بعد ذكر حديث ابن عمر موقوفاً عليه: (رواه علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر، فرفعه، وهو خطأ، والصواب بهذا اللفظ عن ابن عمر موقوف. ورواه سليمان بن أبي داود الحراني، عن سالم ونافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه سليمان بن أرقم التيمي عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسليمان بن أبي داود وسليمان بن أرقم ضعيفان لا يحتج بروايتهما، والصحيح رواية معمر وغيره عن الزهري عن سالم عن ابن عمر من فعله). الحديث المرفوع هذا في سنده علي بن ظبيان، وقد سبق قول الذهبي فيه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 267:(رواه الطبراني في الكبير، وفيه علي بن ظبيان ضعفه يحيى بن معين-فقال: كذاب خبيث- وجماعة، وقال أبو علي النسابوري: لا بأس به). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 151: (ضعفه القطان وابن معين وغير واحد).
خامساً: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين»
(1)
.
سادساً: عن أسلع
(2)
رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة، فقال:«يا أسلع قم فارحل لي» فقلت: أصابتني جنابة، فسكت، فنزلت أية التيمم، فأراني التيمم، «فضرب بيديه على الأرض، ثم نفضهما فمسح وجهه، ثم ضرب بيديه الأرض ثانية، فمسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما»
(3)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 181، ثم قال:(كلهم ثقات، والصواب موقوف). وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 288، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 319. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 152:(ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بعثمان بن محمد، وقال إنه متكلم فيه، وأخطأ في ذلك، قال ابن دقيق العيد: لم يتكلم فيه أحد، نعم روايته شاذة، لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفاً، أخرجه الدارقطني والحاكم أيضاً). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 219: (وأما حديث جابر فلم يذكر المؤلف من تكلم في عثمان بن محمد، وقد روى عنه أبو داود، وأبو بكر بن أبي عاصم، وغيرهما، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه ولم يذكر فيه جرحاً، وقد روى الحديث البيهقي والدارقطني، وقال: رواته كلهم ثقات، والصواب موقوف. ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح).
(2)
هو أسلع بن شريك بن عوف الأعرجي، التميمي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: زريق، وجد الربيع بن بدر. انظر: الإصابة 1/ 39.
(3)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط 2/ 50، والدارقطني في سننه 1/ 179 - وفيه:(حتى مس بيديه المرفقين) - والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 319، وقال:(الربيع بن بدر ضعيف إلا أنه غير منفرد به). وقال ابن المنذر في الأوسط 2/ 54: (وأما حديث الربيع بن بدر فهو إسناد مجهول؛ لأن الربيع لا يعرف برواية الحديث ولا أبوه ولا جده، والأسلع غير معروف، فالاحتجاج بهذا الحديث يسقط من كل وجه). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 26: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه الربيع بن بدر، وقد أجمعوا على ضعفه).
سابعاً: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل على مسح اليدين إلى المرفقين
(2)
.
واعترض عليه: بأن ما استدل به من الأحاديث فإما ضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه، فلا يعارض به الحديث الصحيح
(3)
.
دليل القول الثاني
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 268: (رواه البزار، وفيه الحريش بن الخريت ضعفه أبو حاتم، وأبو زرعة، والبخاري). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 151: (رواه البزار-فذكره ثم قال: - قال البزار: لا نعلمه يروى عن عائشة إلا من هذا الوجه، والحريش رجل من أهل البصرة أخو الزبير بن الخريت إنتهى، ورواه ابن عدي في الكامل وأسند عن البخاري أنه قال: حريش بن الخريت فيه نظر. قال: وأنا لا أعرف حاله فإني لم اعتبر حديثه انتهي كلامه). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 153: (تفرد به الحريش بن الخريت عن ابن أبي مليكة عنها، قال أبو حاتم: حديث منكر، والحريش شيخ لا يحتج بحديثه).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 113؛ التمهيد 2/ 359؛ المجموع 2/ 169.
(3)
انظر: فتح الباري 1/ 557.
ويستدل للقول الثاني-وهو أن القدر الواجب مسحه من الأيدي هو الكفان- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
(1)
.
واليد إذا أطلقت يراد بها الكف، يدل عليه قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(2)
. والقطع إنما يكون من الكف
(3)
.
واعترض عليه: بأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، ويطلق ويراد به ما يبلغ الكفين، ويحدد ما يراد به القرائن وسياق الكلام، وإنما يقطع اليد من الكف في السرقة ببيان السنة
(4)
.
ثانياً: عن أبي جهيم رضي الله عنه قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»
(5)
.
والاستدلال منه كالاستدلال من الآية الكريمة.
ثالثاً: حديث عمار رضي الله عنه وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
(1)
سورة المائدة، الآية (6).
(2)
سورة المائدة، الآية (38).
(3)
انظر: سنن الترمذي ص 46؛ بداية المجتهد 1/ 137؛ الشرح الممتع 1/ 334.
(4)
انظر: الاستذكار 1/ 356؛ اللباب للمنبجي 1/ 141؛ تفسير ابن كثير 1/ 478.
(5)
سبق تخريجه في ص 263.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل على أن الواجب مسحه من
الأيدي في التيمم هو الكفان فقط
(1)
.
واعترض عليه: بأن الآية الكريمة وحديث أبي جهيم رضي الله عنه ليسا صريحين في الكفين؛ لأن المذكور فيهما لفظ اليدين، وهو يصدق إطلاقه عل ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، وعلى ما يبلغ الكفين
(2)
.
ثم إن حديث أبي جهيم رضي الله عنه ورد في بعض طرقه مسح اليدين إلى المرفقين
(3)
. وهو وإن تكلم في سنده إلا أنه يصلح أن يكون تفسيراً لليدين المذكورتين مطلقاً.
أما حديث عمار رضي الله عنه فهو مضطرب؛ حيث إنه ورد بالألفاظ المذكورة، وبلفظ:«إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه»
(4)
.
وبلفظ: «إنما يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها
(1)
انظر: الأوسط 2/ 52؛ شرح معاني الآثار 1/ 113؛ المجموع 2/ 169؛ شرح الزركشي 1/ 169.
(2)
انظر: اللباب للمنبجي 1/ 141؛ تفسير ابن كثير 1/ 478.
(3)
انظر: سنن الدارقطني 1/ 177.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 48، كتاب الحيض، باب التيمم، ح (368)(110).
وجهه»
(1)
.
وبلفظ: «إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع»
(2)
.
(3)
.
وبلفظ: (إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها
وجهه وكفيه إلى المرفقين أو إلى الذراعين»
(4)
.
وبلفظ: «إن كان الصعيد لكافيك، وضرب بكفيه إلى الأرض ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه»
(5)
.
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 75، ح (347).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 57. ح (322).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 57، ح (323).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 57، ح (325).
(5)
أخرجه النسائي في سننه ص 57، كتاب الطهارة، باب نوع آخر من التيمم، ح (316).
(6)
أخرجه النسائي في سننه ص 58، ح (320).
وبلفظ: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تمسح إحداهما على الأخرى، ثم تمسح بهما وجهك»
(1)
.
وبلفظ: «أن تضرب بكفيك على الأرض، ثم تمسحهما بهما وجهك وكفيك»
(2)
. وغير ذلك من الألفاظ.
ولما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت، وجب الرجوع في ذلك إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على المسح إلى المرفقين؛ قياساً على الوضوء
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث -وهو أن مسح اليدين يكون إلى المنكبين- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
(4)
.
واللغة تقتضي أن اليدين من المناكب
(5)
.
ثانياً: حديث عمار رضي الله عنه الدال على مسح اليدين في التيمم إلى المنكبين،
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 180.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 180.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 113؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 325؛ الاستذكار 1/ 355؛ التمهيد 2/ 359.
(4)
سورة المائدة، الآية (6).
(5)
انظر: التمهيد 2/ 355؛ الاستذكار 1/ 356.
وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
وهو ظاهر في الدلالة على مسح اليدين إلى المناكب والآباط
(1)
.
ويعترض عليه: بأن اليد يراد بها عند الإطلاق الكف، وقد بين ذلك حديث عمار رضي الله عنه:(يكفيك الوجه والكفان)
(2)
.
أما حديث عمار رضي الله عنه في الآباط فيقال فيه:
1 -
أن ذلك لم يكن بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
2 -
أن ذلك كان أولاً عند نزول الآية، ثم أحكمت الأمور بعد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتيمم إلى الكفين أو إلى المرفقين، فيكون السابق منسوخاً باللاحق
(4)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يترجح عندي -والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن مسح اليدين في التيمم إلى المناكب إن كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو منسوخ كما ذكره الإمام الشافعي رحمه الله -وغيره؛ لأن ذلك كان عند
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 111؛ التمهيد 2/ 355؛ الاستذكار 1/ 356.
(2)
سبق تخريجه في ص 370.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 111؛ الاعتبار ص 182.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 321؛ التمهيد 2/ 356؛ الاستذكار 1/ 356؛ الاعتبار ص 182، 184.
نزول آية التيمم، والأحاديث الدالة على مسح اليدين إلى الكفين أو إلى المرفقين متأخرة عنه، يدل على ذلك حديث عمار رضي الله عنه في مسح اليدين إلى المناكب، وحديثه في مسح اليدين إلى الكفين
(1)
.
ثانياً: إن الآية الكريمة، وحديث أبي جهيم رضي الله عنه الذي خرجه البخاري وغيره، وردا بذكر اليدين مجملاً
(2)
، ولذلك فهما ليسا صريحين في تحديد ما يمسح من اليدين.
ثالثاً: إن حديث عمار رضي الله عنه ورد بذكر الكفين، وهو أصح حديث ورد في صفة التيمم. وورد بذكر المرفقين، لكن فيه مقال
(3)
.
رابعاً: إن الأحاديث الواردة في مسح اليدين إلى المرفقين كثيرة
(4)
، ثم إن بعضها ضعيف، وبعضها صحيح لكنه اختلف في رفعه ووقفه، وأكثر الحفاظ على عدم رفعه
(5)
. إلا أن بعض أهل العلم قد صححوا بعض تلك الأحاديث مرفوعاً
(6)
.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 321؛ التمهيد 2/ 356، 357؛ الاستذكار 1/ 356؛ الاعتبار ص 182، 184.
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 557.
(3)
انظر: فتح الباري 1/ 557.
(4)
انظر: الاستذكار 1/ 356.
(5)
انظر: سنن الدارقطني 1/ 180، 181؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 317؛ فتح الباري 1/ 557.
(6)
ومنهم الحاكم ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص 1/ 288.
قال ابن عبد البر: (والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتيمم إلى المرفقين وإلى الكوعين كثيرة، وقد يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام وما تقتضي اللغة من عموم لفظ الأيدي، ثم أحكمت الأمور بعد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتيمم إلى المرفقين، وروي عنه إلى الكوعين، كما روي ضربة واحدة، وضربتان، وكل ذلك صحيح عنه، وصار من ذلك الفقهاء كل إلى ما أداه إليه اجتهاده ونظره)
(1)
.
وقال البيهقي: (قال الشافعي في حديث عمار بن ياسر: لا يجوز على عمار إذا كان ذكر تيممهم مع النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية إلى المنكب عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه منسوخ، إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتيمم على الوجه والكفين، أو يكون لم يرو عنه إلا يتمماً واحداً، فاختلفت روايته عنه، فتكون رواية ابن الصمة التي لم تختلف أثبت، وإذا لم تختلف فأولى أن يؤخذ بها لأنها أوفق لكتاب الله من الروايتين اللتين روينا مختلفين، أو يكون إنما سمعوا آية التيمم عند حضور صلاة فتيمموا فاحتاطوا فأتوا على غاية ما يقع عليه اسم اليد؛ لأن ذلك لا يضرهم كما لا يضرهم لو فعلوه في الوضوء، فلما صاروا إلى مسألة النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه يجزيهم من التيمم أقل ما فعلوه. وهذا أولى المعاني عندي لرواية ابن شهاب من حديث عمار بن ياسر بما وصفت من الدلائل. قال الشافعي: وإنما منعنا أن نأخذ برواية عمار بن ياسر في أن تيمم الوجه والكفين بثبوت الخبر عن رسول الله أنه مسح وجهه وذراعيه، وأن هذا أشبه بالقياس
(1)
الاستذكار 1/ 356.
فإن البدل من الشيء إنما يكون مثله)
(1)
.
وقال البيهقي كذلك: (ومسح الوجه والكفين في حديث عمار ثابت، وهو أثبت من حديث مسح الذراعين، إلا أن حديث مسح الذراعين أيضاً جيد بالشواهد التي ذكرناها، وهو في قصة أخرى، فإن كان حديث عمار في ابتداء التيمم حيث نزلت الآية ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه يجزيهم من التيمم أقل مما فعلوا، فحديث مسح الذراعين بعده فهو أولى بأن يتبع، وهو أشبه بالكتاب والقياس، وهو فعل ابن عمر صحيح عنه)
(2)
.
ومع هذا كله فالذي يظهر راجحاً هو أنه يجوز الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم؛ لقوة حديث عمار رضي الله عنه وصحته، وكون عمار يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
(3)
.
إلا أن الأولى مسح اليدين إلى المرفقين، وذلك لما يلي:
أ-لأن الأحاديث الواردة في ذلك وإن كان فيها ضعفاً إلا أنها بمجموعها تفيد أن لها أصلا، ويقويها ما صح عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما حيث إنهما مسحا أيديهما في التيمم إلى المرفقين، وذكرا أن التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين
(4)
.
(1)
السنن الكبرى 1/ 324.
(2)
السنن الكبرى 1/ 325.
(3)
انظر: الأوسط 2/ 51؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 325؛ فتح الباري 1/ 557.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 212؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 146، 147؛ شرح معاني الآثار 1/ 114؛ سنن الدارقطني 1/ 180، 182؛ المستدرك 1/ 288؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 319؛ التمهيد 2/ 359.
ب- وخروجاً من خلاف العلماء، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
(1)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 295.
المطلب الخامس: الغسل إذا جامع ولم ينزل
ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم إلى أن ترك الغسل
(1)
من الجماع إذا لم ينزل منسوخ بالأحاديث الدالة على وجوب الغسل من ذلك
(2)
.
وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي
(3)
، وأبو عيسى الترمذي
(4)
، والطحاوي
(5)
، وابن حبان
(6)
، والدارقطني
(7)
، وابن
(1)
الغسل بالضم، اسم من الإغتسال، وهو تمام غسل الجسد. حاشية ابن عابدين 1/ 254.
أو هو: سيلان الماء على جميع البدن مع النية. مغني المحتاج 1/ 68.
(2)
انظر: الأوسط 2/ 79؛ الاستذكار 1/ 314؛ بداية المجتهد 1/ 98؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 30؛ فتح الباري 1/ 497.
(3)
انظر: الاعتبار للحازمي ص 126.
(4)
هو: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى، أبو عيسى الترمذي، ثقة حافظ، روى عن: قتيبة بن سعيد، وابن بشار، وغيرهما، وروى عنه: البخاري، والهيثم بن كليب، وغيرهما، ومن مؤلفاته:(الجامع الصحيح)، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائتين. انظر: البداية والنهاية 11/ 71؛ التهذيب 9/ 335؛ شذرات الذهب 2/ 174.
وانظر قوله في: سنن الترمذي ص 37.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 57.
(6)
انظر: صحيح ابن حبان ص 415، 416.
(7)
هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني، الإمام الحافظ، روى عن البغوي وطبقته، وجمع وألف، وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلم بالقراءات والنحو، والفقه، مع الإمامة والعدالة. ومن مؤلفاته (السنن) وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. انظر: البداية والنهاية 11/ 296؛ شذرات الذهب 3/ 116.
وانظر قوله في: سنن الدارقطني 1/ 126.
شاهين
(1)
، والبيهقي
(2)
، وابن عبد البر
(3)
، والحازمي
(4)
، وابن الجوزي
(5)
، وابن قدامة
(6)
، والنووي
(7)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(8)
، والزيلعي
(9)
.
ويظهر مما سبق ذكره، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: القول بالنسخ، وتعارض الآثار الواردة فيها
(10)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل»
(11)
. زاد في رواية: «وإن لم ينزل»
(12)
.
(1)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 120.
(2)
انظر: السنن الكبرى 1/ 256.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 296؛ الاستذكار 1/ 320.
(4)
انظر: الاعتبار ص 126.
(5)
انظر: إعلام العالم بعد رسوخه ص 132.
(6)
انظر: المغني 1/ 273.
(7)
انظر: المجموع 2/ 109.
(8)
انظر: شرح العمدة 1/ 358.
(9)
هو: عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، جمال الدين، أبو محمد، أخذ عن: الفخر الزيلعي، وابن التركماني، وغيرهما، ومن مؤلفاته (نصب الراية) وتوفي سنة اثنين وستين وسبعمائة. انظر: الدرر الكامنة 2/ 310؛ حسن المحاضرة 1/ 203 ..
وانظر قوله في: نصب الراية 1/ 81.
(10)
انظر: التمهيد 2/ 297 - 301؛ بداية المجتهد 1/ 97.
(11)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان، ح (291)، و مسلم في صحيحه 2/ 32، كتاب الحيض، باب أن الجماع كان في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل، وبيان نسخه، ح (348)(87).
(12)
رواه مسلم في صحيحه. انظر الموضع السابق من صحيح مسلم.
ثانياً: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يُكسِلُ
(1)
هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل»
(2)
.
ثالثاً: عن أبي بن كعب رضي الله عنه: «أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة
رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد»
(3)
.
(1)
يكسل، يقال: أكسل الرجل إذا جامع ثم أدركه فتور فلم ينزل، ومعناه: صار ذا كسل. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 541؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 411.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 34، كتاب الحيض، باب أن الجماع كان في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل، وبيان نسخه، ح (350)(89).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 37، كتاب الطهارة، باب في الإكسال، ح (215)، وابن ماجة في سننه ص 118، كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، ح (609)، وابن حبان في صحيحه ص 416، والدارقطني في سننه 1/ 126، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 257. وهذا الحديث رواه أبو داود وابن حبان والدارقطني والبيهقي من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب. وأخرجه ابن ماجة وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب، وفي بعض طرقه أن الزهري قال: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد. قال ابن حبان في صحيحه ص 415: (روى هذا الخبر معمر عن الزهري من حديث غندر، فقال: أخبرني سهل بن سعد، ورواه عمرو بن الحارث عن الزهري قال: حدثني من أرضى عن سهل بن سعد، ويشبه أن يكون الزهري سمع الخبر من سهل بن سعد كما قاله غندر، وسمعه عن بعض من يرضاه عنه فرواه مرة عن سهل بن سعد وأخرى عن الذي رضيه عنه. وقد تتبعت طرق هذا الخبر على أن أجد أحداً رواه عن سهل بن سعد فلم أجد في الدنيا أحداً إلا أبا حازم، ويشبه أن يكون الرجل الذي قال الزهري: حدثني من أرضى عن سهل بن سعد هو أبو حازم رواه عنه). وقال ابن ححجر في التلخيص 1/ 135: (وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل، وقال ابن خزيمة: هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم، -إلى أن قال: -وقد وقع في رواية لابن خزيمة من طريق معمر عن الزهري أخبرني سهل، فهذا يدفع قول ابن حزم بأنه لم يسمعه منه، لكن قال ابن خزيمة: أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطاً من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر. قلت: أحاديث أهل البصرة عن معمر يقع فيها الوهم، لكن في كتاب ابن شاهين من طريق معلى بن منصور عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل، وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن ابن المبارك).
والحديث قال عنه الدارقطني في سننه 1/ 126: (صحيح) وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 256: (وقد رويناه بإسناد آخر موصولاً صحيحاً عن سهل بن سعد) ثم ذكره من طريق أبي حازم. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 135: (وفي السنن بسند رجاله ثقات عن أبي بن كعب) ثم ذكر الكلام السابق ذكره. وصححه الشخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 37، وصحيح سنن ابن ماجة ص 118.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «إنما جُعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أُمر بالغسل، ونهي عن ذلك»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 37، كتاب الطهارة، باب في الإكسال، ح (214)، والترمذي في سننه-ولفظه:(كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها) ص 37، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء من الماء، ح (110)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 57 - ولفظه:(ثم نهى عن ذلك وأمر بالغسل) - وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 118، والحازمي في الاعتبار ص 125. وقال:(ويشبه أن يكون الزهري أخذه عن أبي حازم عن سهل، وعلى الجملة الحديث محفوظ عن سهل عن أبي أخرجه أبو داود في كتابه) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 37، وصحيح سنن الترمذي ص 37.
رابعاً: عن الزهري قال: سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل؟ قال: على الناس أن يأخذوا بالآخر، والآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 416، والدارقطني في سننه 1/ 127، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 124، والحازمي في الاعتبار ص 129. وفي سنده الحسين بن عمران، قال ابن حبان: (الحسين هذا هو الحسين بن عثمان بن بشير بن المحتفز، من أهل البصرة، سكن مرو، ثقة من الثقات). وقال الحازمي بعد ذكر الحديث: (هذا حديث قد حكم أبو حاتم ابن حبان بصحته، وأخرجه في صحيحه، غير أن الحسين بن عمران قد يأتي عن الزهري بالمناكير، وقد ضعفه غير واحد من أصحاب الحديث. وعلى الجملة الحديث بهذا السياق فيه ما فيه، ولكنه حسن جيد في الاستشهاد). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 83، بعد ذكر قول الحازمي:(الذي وجدته في كتاب الضعفاء للعقيلي أنه روى هذا الحديث ثم أعله بالحسين بن عمران، وقال: لا يتابع على حديثه، ولا يعلم هذا اللفظ عن عائشة إلا في هذا الحديث، انتهى. وذكر العقيلي عن آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري يقول: حسين بن عمران الجهني لا يتابع على حديثه، وكذلك ذكر أبو العرب القروي عن أبي بشير، ولم أقف على أكثر من هذا في حسين بن عمران، وهو أخف من قول الحازمي: وقد ضعفه غير واحد. بل لو قيل: ليس فيه جزم بالتضعيف لم يبعد ذلك). والحسين بن عمران هذا قال عنه الذهبي في الميزان 1/ 544: (ذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه. وقال الدارقطني لا بأس به). وقال ابن حجر في التقريب 1/ 217: (صدوق يهم).
خامساً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أُنزل، فاغتسلت، وخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا عليك، الماء من الماء» قال رافع: «ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالغسل»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما انصرف: «إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجهين التاليين:
الأول: أن هذه الأحاديث بعضها يدل على وجوب الغسل من الجماع وإن لم ينزل، وبعضها يدل على أن ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل كان رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنه، وأمر بالغسل، فهذا يدل على أن
(1)
أخرجه أحمد في المسند 28/ 520. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 271: (رواه أحمد والطبراني في الأوسط وقال عن سهل بن رافع عن أبيه، وفيه رشدين بن سعد وهو سيء الحفظ). وقال الحازمي في الاعتبار ص 126 - بعد ذكر هذا الحديث: (هذا حديث حسن). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 84: بعد ذكر كلام الحازمي: (وهذا فيه نظر، فإن فيه رشدين بن سعد أكثر الناس على تضعيفه).
(2)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 124، عن سهل بن رافع بن خديج عن أبيه. وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وفيه كلام.
الأحاديث الدالة على وجوب الغسل من الجماع وإن لم ينزل متأخرة عن الأحاديث الدالة على جواز ترك الغسل إذا لم ينزل، فتكون المتأخرة ناسخة للمتقدمة
(1)
.
الثاني: إن بعض من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل، أفتى بوجوب الغسل، ورجع عن قوله الأول، ومنهم أبي بن كعب، حيث نزع عن قوله الأول قبل أن يموت، فدل ذلك على أنه ثبت له نسخ الأول، ولذلك رجع عنه، ولو كان عنده غير منسوخ لما رجع عنه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الغسل إذا جامع ولم ينزل على قولين:
القول الأول: أنه يجب الغسل بالتقاء الختانين، أنزل أم لا.
وهو قول أهل المذاهب الأربعة
(3)
، وجمهور أهل العلم من
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 57؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 120؛ السنن الكبرى 1/ 256؛ التمهيد 2/ 296؛ الاعتبار ص 124 - 128؛ نصب الراية 1/ 81 - 84.
(2)
روى مالك في الموطأ 1/ 67، عن زيد بن ثابت أنه قال:(إن أبي بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت). وانظر: السنن الكبرى 1/ 257؛ التمهيد 2/ 295، 296؛ الاعتبار ص 125؛ نصب الراية 1/ 84.
(3)
انظر: (الأصل 1/ 48؛ شرح معاني الآثار 1/ 61؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 63؛ العناية 1/ 63)(الأوسط 2/ 81؛ التمهيد 2/ 295؛ بداية المجتهد 1/ 97؛ مختصر خليل مع مواهب الجليل 1/ 448)(الأم 1/ 96؛ مختصر المزني ص 12؛ الأوسط 2/ 81؛ المجموع 2/ 108؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 69) (المغني
1/ 271؛ الشرح الكبير 2/ 91؛ شرح العمدة لابن تيمية 1/ 358؛ شرح الزركشي 1/ 135).
الصحابة والتابعين ومن
بعدهم
(1)
، وممن روي عنه ذلك وقال به: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وعائشة-رضي الله عنهم، وشريح القاضي
(2)
، وعبيدة السلماني، والشعبي، والليث، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، والحسن بن حي، وابن جرير، وابن المنذر
(3)
.
وإليه رجع أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، والنعمان بن بشير
(4)
، وسهل
(1)
انظر: التمهيد 2/ 295؛ الاستذكار 1/ 318؛ المجموع 2/ 108؛ نيل الأوطار 1/ 220.
(2)
هو: شريح بن الحارث بن القيس، الكوفي النخعي، القاضي، أبو أمية، ثقة فقيه، وروى عن عمر، وعلي وغيرهما، وروى عنه الشعبي، ومجاهد، وغيرهما، واستقضاه عمر على الكوفة، وبقي عليها قاضيا حتى استعفى الحجاج فأعفاه، وتوفي سنة ثمان وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 100؛ تذكرة الحفاظ 1/ 59؛ تهذيب التهذيب 4/ 297.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 245 - 249؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 84 - 86؛ سنن الترمذي ص 37؛ الأوسط 2/ 79 - 81؛ شرح معاني الآثار 1/ 59؛ التمهيد 2/ 295؛ الاستذكار 1/ 320؛ المحلى 1/ 249.
(4)
هو: النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة، الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله، أول مولود في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عروة، والشعبي، وغيرهما، وقتل سنة خمس وستين. انظر: الإصابة 3/ 2000؛ التقريب 2/ 248.
بن سعد، وابن عباس رضي الله عنهم
(1)
.
القول الثاني: أنه لا يجب الغسل بالجماع إذا لم ينزل.
وهو قول داود الظاهري
(2)
، وروي ذلك عن: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام
(3)
، وطلحة بن عبيد الله
(4)
، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبي سعيد الخدري، وأبي بن كعب، وأبي أيوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وعطاء بن أبي رباح، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن
(5)
،
(1)
انظر: الاستذكار 1/ 318.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 302؛ إعلام العالم لابن الجوزي ص 132؛ المجموع 2/ 108؛ المغني 1/ 271.
(3)
هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، القرشي الأسدي، أبو عبد الله، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابناه: عبد الله، وعروة، وغيرهما، وقتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. انظر: الإصابة 1/ 622؛ التهذيب 3/ 283؛ شذرات الذهب 1/ 43.
(4)
هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي، أبو محمد، أحد العشرة المبشرون بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، شهد أحداً وأبلى فيها بلاء حسناً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه يحيى، وقيس بن أبي حازم، وغيرهما، وقتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. انظر: الاستيعاب 2/ 219؛ الإصابة 2/ 951؛ شذرات الذهب 1/ 43.
(5)
هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، ثقة، روى عن أبيه، وعن عائشة، وغيرهما، وروى عنه: عروة، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وتسعين، وقيل بعدها. انظر: تهذيب التهذيب 12/ 103؛ التقريب 2/ 409.
والأعمش
(1)
، وهشام بن عروة
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول-وهو وجوب الغسل بالتقاء الختانين أنزل أم لا-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأُذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
هو: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، الأعمش، ثقة حافظ، لكنه يدلس، وروى عن: الشعبي، والنخعي، وغيرهما، وروى عنه: الثوري، وشعبة، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وأربعين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 201؛ التقريب 1/ 392.
(2)
انظر: الأوسط 2/ 77؛ المحلى 1/ 249؛ التمهيد 2/ 302؛ المجموع 2/ 108.
«إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل»
(1)
.
فهذه الأحاديث صريحة في وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم وجوب الغسل من الجماع إذا لم ينزل- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن خالد بن زيد الجهني رضي الله عنه أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: «يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره» قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب، فأمروه بذلك
(3)
.
ثانياً: عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 34، كتاب الحيض، باب أن الجماع كان في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل، وبيان نسخه، ح (349)(88).
(2)
انظر: التمهيد 2/ 292 - 294؛ المجموع 2/ 109.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من رطوبة فرج المرأة، ح (292)، ومسلم في صحيحه 2/ 32، كتاب الحيض، باب بيان أن الجماع في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل المني، وبيان نسخه، ح (347)(86).
فلم ينزل؟ قال: «يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلى»
(1)
.
ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار، فأرسل إليه فخرج ورأسه يقطر، فقال:«لعلنا أعجلناك؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «إذا أُعجلت أو أقحطت
(2)
فلا غسل عليك، وعليك الوضوء»
(3)
.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الماء من الماء»
(4)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 63، كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من رطوبة فرج المرأة، ح (293)، ومسلم في صحيحه 2/ 31، كتاب الحيض، باب بيان أن الجماع في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل المني، وبيان نسخه، ح (346)(84).
(2)
أقحطت: مأخوذ من أقحط، وهو انقطاع المطر، والمراد به هنا أي فتر ولم ينزل، فشبه احتباس المني باحتباس المطر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 418؛ المصباح المنير ص 491.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 43، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، ح (180)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 2/ 31، كتاب الحيض، باب بيان أن الجماع في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل المني، وبيان نسخه، ح (345)(83).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 30، كتاب الحيض، باب بيان أن الجماع في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل المني، وبيان نسخه، ح (343)(81).
أهله، فعجل ولم ينزل، فأقحط فلا يغتسل»
(1)
.
سادساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «مرّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل من الأنصار، فدعاه، فخرج ورأسه يقطر، فقال: لعلنا أعجلناك؟ قال: أجل يا نبي الله، قال: إذا عجل أحدكم أو أقحط فلا يغتسل»
(2)
.
سابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار فأبطأ عليه، فقال:«ما حبسك؟» قال: كنت على المرأة فقمت فاغتسلت، قال:«وما عليك أن لا تغتسل ما لم تنزل» فكانت الأنصار تفعل ذلك
(3)
.
وهذه الأحاديث ظاهرة في عدم وجوب الغسل إذا جامع ولم ينزل
(4)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 113. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 270: (وفي البزار عنه: إذا أتى أحدكم أهله فأقحط فلا غسل. ورجال البزار رجال الصحيح).
(2)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 114. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 270: (رواه البزار ورجاله ثقات إلا أبا إسرائيل الملائي، فإنه ضعيف؛ لسوء حفظه، وقد وثقه بعضهم).
(3)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 119. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 270: (رواه أبو يعلى والبزار، وفيه أبو سعد البقال وهو ضبعيف).
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 55؛ التمهيد 2/ 298 - 301؛ الاعتبار ص 117 - 120؛ المجموع 2/ 108.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وأن ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل منسوخ، وذلك لما يلي:
أولاً: إنه قد ورد أحاديث صحيحة في ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل، وورد كذلك أحاديث صحيحة في وجوب الغسل منه وإن لم ينزل، إلا أنه جاء أحاديث أخر تدل على أن ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل كان في أول الإسلام، وأن وجوب الغسل منه متأخر، فدل ذلك على نسخ الأمر الأول، كما سبق ذكره.
ثانياً: إن الصحابة رضي الله عنهم والأئمة بعدهم اختلفوا في المسألة، ولم يقل أحد منهم أن الأحاديث الدالة على وجوب الغسل من الجماع إذا لم ينزل منسوخة، أما الأحاديث الدالة على ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل فقد قال بنسخها جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فدل ذلك على صحة القول الأول، وعلى نسخ الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني
(1)
.
ثالثاً: إن بعض الصحابة رووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على جواز ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل، وقال بها، ثم قد رجع عن قوله ذلك، وقال بقول أصحاب القول الأول، فدل ذلك على صحة القول الأول، وعلى نسخ
(1)
انظر من قال بالنسخ في بداية المسألة.
الأحاديث الدالة على ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل؛ إذ لو لم تكن منسوخة عنده لما رجع عنه؛ لأن ما لم ينسخ من الكتاب والسنة لا يجوز تركه ولا العمل بخلافه
(1)
.
والله أعلم.
(1)
راجع الوجه الثاني للاستدلال على النسخ، وانظر: التمهيد 2/ 295.
المطلب السادس: الغسل للجمعة
ذهب قوم إلى نسخ وجوب غسل الجمعة
(1)
، وممن صرح به: ابن شاهين
(2)
، وجمال الدين الزيلعي
(3)
.
وعكس ابن حزم، فذهب إلى أن الأحاديث التي تدل على وجوب غسل الجمعة ناسخة للأحاديث التي تدل على عدم وجوبه
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو تعارض الآثار الواردة في المسألة، كما سيتبين من عرض أدلة الأقوال
(5)
.
ويستدل لمن قال بنسخ وجوب غسل الجمعة بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا»
(6)
.
(1)
انظر: إعلام العالم لابن الجوزي ص 140؛ التحقيق 1/ 210؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 66؛ العناية 1/ 66.
(2)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 125.
(3)
انظر: نصب الراية 1/ 88.
(4)
انظر: المحلى 1/ 262.
(5)
انظر: بداية المجتهد 1/ 317.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 459، كتاب الجمعة، باب فضل من أنصت في الخطبة، ح (857)(27).
فهذا الحديث يدل على جواز الاكتفاء بالوضوء، وعدم وجوب الغسل
(1)
.
ثانياً: عن سمرة
(2)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت،
ومن اغتسل فالغسل أفضل»
(3)
.
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 459؛ المغني 3/ 226.
(2)
هو: سمرة بن جندب بن هلال بن حريج، الفزاري، أبو سليمان، حليف الأنصار، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الشعبي، وابن أبي ليلى، وغيرهما، ونزل البصرة وتوفي بها سنة ثمان وخمسين، وقيل غيرها. انظر: الإصابة 1/ 767؛ التقريب 1/ 395.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 62، كتاب الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، ح (354)، والترمذي في سننه ص 131، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، ح (497)، والنسائي في سننه ص 226، كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، ح (1380)، وأحمد في المسند 33/ 280، والدارمي في سننه 1/ 434، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 119، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 441. وحسنه الترمذي، والنووي، والشيخ الألباني، وقواه البيهقي لكثرة طرقه. انظر: سنن الترمذي ص 131؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 442؛ صحيح سنن أبي داود 2/ 184. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 184 بعد ذكر سنده: (وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، لكن الحسن -وهو البصري- مدلس وقد عنعن، وهذا الإسناد وإن كان معلولاً فالحديث صحيح؛ لأن له شواهد كثيرة).
وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 445: (ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة، وابن حبان، وله علتان: إحداهما: أنه عنعنة الحسن. والأخرى: أنه اختلف عليه فيه، وأخرجه ابن ماجة من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر كلها ضعيفة).
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، يجزئ عنه الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 196، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، ح (1091)، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 119، ولفظه:(من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 92: (طريق آخر رواه الطبراني في معجمه الوسط، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المروزي، ثنا عثمان بن يحيى الفرساني، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس فذكره).
والحديث من طريق ابن ماجة ضعفه ابن حجر في فتح الباري 2/ 446، أما من طريق الطبراني فنقل الشيخ الألباني في صحيح سنن ابي داود 2/ 189، عن ابن حجر أنه قال:(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد أمثل من ابن ماجة، ثم ذكر الشيخ الألباني سند الطبراني ثم قال: (قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات غير محمد بن عبد الرحمن المروزي، وعثمان بن يحيى الفرساني، فإني لم أجد من ترجمهما).
أما الحديث من طريق ابن ماجة فقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 196: (صحيح دون "يجزئ عنه الفريضة").
وأما من طريق الطحاوي فقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابي داود 2/ 188: (وهذا سند صحيح إلى الرقاشي، رجاله كلهم ثقات، معروفون، والربيع بن صبيح ثقة لكنه سيئ الحفظ، لكن قد تابعه -كما ترى- سفيان الثوري، وتابعه أيضاً إسماعيل بن مسلم المكي عن يزيد الرقاشي أخرجه ابن ماجة، وإسماعيل هذا ضعيف فالعمدة على رواية الثوري، ومدار الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف لسوء حفظه لا لتهمته في صدقه، فقد قال الأجري عن المصنف: (هو رجل صالح، سمعت يحيى يقول: رجل صدق) لكنه لم ينفرد به).
وفي الحديثين بيان أن الفرض هو الوضوء، وأن الغسل أفضل لما ينال به الفضل، لا على أنه فرض؛ لأن قوله:(فالغسل أفضل) يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء
(1)
.
رابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» فلما جاء الشتاء قلنا: يا رسول الله أمرتنا بالغسل للجمعة، وقد جاء الشتاء، ونحن نجد البرد؟ قال:«من اغتسل فبها ونعمت، ومن لم يغتسل فلا حرج»
(2)
.
خامساً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 119؛ المغني 3/ 226؛ فتح الباري 2/ 445.
(2)
قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 88: (ومما يدل على أن هذا الحديث ناسخ لأحاديث الوجوب ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث الفضل بن المختار عن أبان بن أبي عياش -فذكره ثم قال: - إلا أن هذا سند ضعيف يشد بغيره). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 443، ولفظه: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاء إلى الجمعة فليغتسل» فلما جاء الشتاء فاشتد علينا، فشكونا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل» . قال الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير للبيهقي 1/ 294: (وإسناده ضعيف).
ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(1)
.
وجه الاستدلال منها على النسخ
ويستدل منها على النسخ: بأنهم كانوا يأتون من أعمالهم فيعرقون، وتكون منهم الروائح، فأمرهم بالغسل، ثم قال:«من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل» .
ويدل على تأخير جواز ترك الغسل على الأمر به حديث أنس رضي الله عنه: «من اغتسل فبها ونعمت، ومن لم يغتسل فلا حرج» وحديث علي رضي الله عنه: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 140، وقال:(وهذا حديث غريب، وإن كان المسيب بن شريك ليس عندهم بالقوي، ولكن أجمع أكثر الناس على أن الأحاديث التي ذكرنا في الغسل منسوخة وإن فرض الغسل هو من الجنابة والحيض والنفاس). وأخرجه الدارقطني في سننه 4/ 280، وقال:(خالفه المسيب بن واضح عن المسيب هو ابن شريك، وكلاهما ضعيفان، والمسيب بن شريك متروك) ثم ساقه من طريق عقبة بن اليقظان ثم قال: (عقبة بن يقظان متروك أيضاً). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 439، وقال:(خالفه المسيب بن واضح عن المسيب بن شريك وكلاهما ضعيف، والمسيب بن شريك متروك). وأخرج الجزء الأخير منه الجصاص في أحكام القرآن 1/ 161، مرفوعاً وموقوفاً، وقال عن الموقوف:(حسن السند). لكن في سنده المسيب بن شريك، وقد تقدم كلام ا لدارقطني وغيره عليه. وقال ابن حجر في الفتح 9/ 589:(أخرجه الدارقطني من حديث علي، وفي سنده ضعف).
(2)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 125 - 126، 139 - 140؛ إعلام العالم بعد رسوخه ص 140؛ التحقيق 1/ 211؛ نصب الراية 1/ 88.
واعترض عليه: بأنه لا تاريخ يدل على أن الأحاديث التي تدل على جواز ترك الغسل متأخرة عن الآمرة به، إلا حديث أنس، وحديث علي، وهما ضعيفان، والضعيف لا ينسخ القوي
(1)
.
ويستدل لمن قال بأن الأحاديث الآمرة بالغسل هي الناسخة للتي تدل على جواز ترك الغسل بما يلي:
أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»
(2)
.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»
(3)
.
ثالثاً: عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاء أحدكم إلى
الجمعة فليغتسل»
(4)
.
(1)
انظر: إعلام العالم لابن الجوزي ص 141؛ التحقيق 1/ 211؛ نصب الراية 1/ 88؛ فتح الباري 2/ 447.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 174، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، ح (879)، ومسلم في صحيحه 2/ 448، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، ح (846)(5).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 174، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، ح (877)، ومسلم في صحيحه 2/ 447، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة وما يتعلق بها من أحكام، ح (844)(2).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 448، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، ح (845)(4).
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده»
(1)
.
خامساً: عن طاوس قلت لابن عباس رضي الله عنه ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب» قال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري)
(2)
.
ويستُدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على وجوب غسل الجمعة، فتكون ناسخة للأحاديث التي تدل على أن غسل الجمعة ليس فرضا؛ لأن تلك الأحاديث جاءت موافقة لما كان الأمر عليه قبل قوله عليه السلام:«غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام شرع وارد، وحكم زائد، فيكون ناسخا للحالة الأولى
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 177، كتاب الجمعة، باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبان وغيرهم؟، ح (897)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-2/ 451، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، ح (849) (9). وفي رواية النسائي وغيره عن جابر نحو هذا الحديث وزاد فيه:«وهو يوم الجمعة» انظر: سنن النسائي ص 226، كتاب الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم الجمعة، ح (1378).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 175، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، ح (884)، ومسلم في صحيحه 2/ 450، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، ح (848)(8).
(3)
انظر: المحلى 1/ 262.
واعترض عليه: بأن من قال بنسخ وجوب غسل الجمعة معه ما يدل على قوله ذلك-و إن كان فيه ضعفاً- أما القول بنسخ جواز ترك الغسل بدليل أنه الحالة التي كان عليه الأمر قبل الوجوب فهذا لا يدل على تأخير وجوب غسل الجمعة على الترك منه؛ لاحتمال أن يكون جواز الترك بعد الأمر به لوجود ما يدل عليه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم غسل الجمعة على قولين:
القول الأول: أن غسل الجمعة سنة مستحب، وليس بواجب.
وهو قول أهل المذاهب الأربعة
(2)
، وجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم
(3)
، حتى قال ابن عبد البر: (وقد أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويغني
(1)
راجع وجه الاستدلال على نسخ وجوب الغسل.
(2)
انظر: (الأصل 1/ 77؛ شرح معاني الآثار 1/ 120؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 158؛ بدائع الصنائع 1/ 604؛ الهداية 1/ 95؛ الدر المختار 1/ 276)(التمهيد 4/ 24؛ الاستذكار 2/ 17؛ بداية المجتهد 1/ 317؛ جامع الأمهات ص 125)(مختصر المزني ص 43؛ التنبيه للشيرازي ص 22؛ المجموع 2/ 161؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 290)(المغني 3/ 224؛ الشرح الكبير 5/ 268؛ شرح الزركشي 1/ 473؛ الإنصاف 5/ 268؛ منار السبيل 1/ 39).
(3)
انظر: سنن الترمذي ص 131؛ التمهيد 4/ 24؛ بداية المجتهد 1/ 317؛ المجموع 2/ 161؛ المغني 3/ 225.
عن الإكثار، ولا يجوز على الأمة بأسرها جهل معنى السنة، ومعنى الكتاب، وهذا مفهوم عند ذوي الألباب)
(1)
.
القول الثاني: أن غسل الجمعة واجب.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقال به ابن حزم، ونسبه إلى عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وعطاء، وغيره
(3)
.
الأدلة
ويُستدل للقول الأول-وهو استحباب غسل الجمعة لا وجوبه-بأدلة -إضافة على ما سبق في دليل قول من قال بنسخ وجوب غسل الجمعة-منها ما يلي:
أولاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم:«لو اغتسلتم»
(4)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم فكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: «لو اغتسلتم)
(5)
.
(1)
التمهيد 4/ 24.
(2)
انظر: المغني 3/ 225؛ الشرح الكبير 5/ 269؛ الإنصاف 5/ 268.
(3)
انظر: المحلى 1/ 255 - 256.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 178، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، ح (903)،
ومسلم في صحيحه 2/ 449، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، ح (847).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 409، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، ح (2071).
والحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان ندبهم إلى الغسل، ولم يجعل ذلك عليهم حتماً؛ لأن معنى قوله:(لو اغتسلتم) أي لكان أفضل وأكمل، فد ذلك على الندب دون الوجوب
(1)
.
ثانياً: عن عكرمة أن ناساً من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال:«أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه» قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق)
(2)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 117؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 448.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 62، كتاب الصلاة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، ح (353)، وأحمد في المسند 4/ 241؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 117؛ والحاكم في المستدرك 1/ 416؛ والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 441. وصححه الجاكم على شرط البخاي، ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال ابن حجر في فتح الباري 2/ 446: (وإسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه-كماسيأتي قريباً- وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف لأنه من استنباط ابن عباس). وكذلك حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 62.
وهذا يدل على أن الأمر بالغسل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن للوجوب عليهم، بل إنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة، فذهب الغسل
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ جاء رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شُغلت فلم انقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت. فقال: والوضوءُ أيضاً وقد علمت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل»
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان، فعرّض به عمر فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت، ثم أقبلت. فقال عمر: والوضوء أيضاً، ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 117.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 174، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، ح (878)، ومسلم في صحيحه 2/ 448، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، ح (845)(3).
يقول: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل»
(1)
.
والحديث يدل على أن عثمان رضي الله عنه لم يغتسل، وأقره عمر رضي الله عنه وحاضروا الجمعة، ولو كان واجباً لما تركه، ولألزموه به، فثبت من ذلك أنهما قد علما أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالغسل على الاختيار والاستحباب دون الوجوب
(2)
.
فهذه الأدلة تدل على عدم وجوب غسل الجمعة، والأحاديث التي جاء فيها الأمر بالغسل تحمل على الاستحباب؛ جمعاً بين هذه الأحاديث كلها
(3)
.
دليل القول الثاني:
ويستدل للقول الثاني-وهو وجوب غسل الجمعة- بالأدلة التي سبقت في دليل قول من قال بنسخ جواز ترك غسل الجمعة.
ووجه الاستدلال منها: أن بعض تلك الأحاديث فيه لفظ الوجوب، وبعضها فيه الأمر بالغسل يوم الجمعة، وهو كذلك للوجوب، فثبت من ذلك أن غسل الجمعة واجب
(4)
.
واعترض عليه: بأن الأمر للوجوب لكن صرفه عن ذلك إلى الندب
(1)
سبق تخريجه في ص 397.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 131؛ معالم السنن للخطابي 1/ 210؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 440؛ التمهيد 4/ 23؛ التحقيق 1/ 210؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 448؛ شرح الزركشي 1/ 474.
(3)
انظر: التمهيد 4/ 24؛ الهداية 1/ 66؛ المجموع 2/ 162؛ المغني 3/ 227.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 116؛ المحلى 1/ 255؛ التحقيق 1/ 209.
الأحاديث التي تدل على عدم الوجوب.
أما لفظ الوجوب، فإنه قد يراد بالواجب الواجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة، كما يقال: حقك علي واجب، دون وجوب الفرض، ويدل لذلك أنه قرنه بما لا يجب؛ حيث جاء في بعض طرق أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: أشهد على رسول الله قال: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد»
(1)
.
فدل أن المراد بذلك وجوب سنة وواجب الأخلاق والنظافة، لا وجوب فرض
(2)
.
وأعترض عليه: بأنه تأويل على خلاف الظاهر بمعارض مرجوح
(3)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة يظهر لي -والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أن القول بنسخ وجوب غسل الجمعة له وجه واحتمال، إلا أن في الأحاديث الدالة على ذلك ضعفاً.
ثانياً: إن الأحاديث الواردة في الأمر بالغسل للجمعة أقوى وأصح
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 174، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، ح (880).
(2)
انظر: معالم السنن للخطابي 1/ 211؛ التمهيد 4/ 26؛ التحقيق 1/ 210؛ فتح الباري 2/ 445.
(3)
انظر: فتح الباري 2/ 445.
وأصرح في الدلالة، بالنسبة إلى الأحاديث الدالة على جواز ترك الغسل، إلا أن فيها أحاديث صحيحة؛ لذلك يكون القول بالجمع بين هذه الأحاديث أولى، وذلك بحمل الأحاديث الآمرة على الاستحباب والسنية، وحمل ما يدل على الترك على الجواز، ولا تنافي بين ذلك، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، وبذلك يكون قول الجمهور هو الراجح.
ثالثاً: يتأكد غسل الجمعة في حق من يكون عامل نفسه، يعمل بيديه ويتعرق، فيلزمه الاغتسال لئلا يتأذى الناس، وخاصة في المساجد التي لا يوجد فيها مكيفات، ويكون الموسم موسم شدة الحر، وذلك بدليل حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
والله أعلم.
المطلب السابع: الغسل من غسل الميت
ذهب أبو داود
(1)
، وابن شاهين
(2)
، -وروي نحوه عن الإمام أحمد
(3)
- إلى أن حديث الغسل من غسل الميت منسوخ، فلا يجب على من غسل ميتاً أن يغتسل.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في صحة تلك الآثار، وفي المراد بها، كما سيتبين ذلك من عرض الأقوال، والآثار، ووجه الاستدلال منها.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه، وإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم»
(4)
.
(1)
انظر: سنن أبي داود ص 484.
(2)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 135.
(3)
انظر: التلخيص الحبير 1/ 137؛ تحفة الأحوذي 4/ 48.
(4)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 135، والدارقطني في سننه 1/ 76، والحاكم في المستدرك 1/ 543، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 457. قال الحاكم:(حديث صحيح على شرط البخاري). ووافقه الذهبي في التلخيص فقال: (على شرط البخاري). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة كما أظن) وذكره موقوفاً ثم قال: (وروي هذا مرفوعاً ولا يصح رفعه). وتعقبه ابن حجر في التلخيص 1/ 138، فقال بعد ذكر قوله (قلت: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه احتج بهم البخاري، وأبو العباس الهمداني هو ابن عقدة حافظ كبير، إنما تكلموا فيه بسبب المذهب ولأمور أخرى، ولم يضعفه بسبب المتون أصلاً فالإسناد حسن).
ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(1)
.
ثالثاُ: عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على عدم وجوب الغسل من غسل الميت، وقد رُويت أحاديث فيها الأمر بالغسل من غسل الميت، وروي ما يدل على أن غسل الجنابة نسخ كل غسل، فثبت من ذلك أن الأحاديث الدالة على عدم وجوب الغسل من غسل الميت متأخرة، وأنها الناسخة للغسل من غسل الميت
(3)
.
واعترض عليه: بأن الحديث الدال على أن غسل الجنابة نسخ كل غسل ضعيف
(4)
، أما أن يكون بقية الأحاديث الدالة على عدم وجوب الغسل من
(1)
سبق تخريجه في ص 395.
(2)
ذكر ابن حجر في التلخيص 1/ 138 أن الخطيب رواه في ترجمة محمد بن عبد الله المخرمي، ثم قال:
(وهذا إسناد صحيح).
(3)
انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 130 - 136، 139؛ التلخيص الحبير 1/ 137؛ تحفة الأحوذي 4/ 48.
(4)
راجع تخريج الحديث.
غسل الميت متأخرة، عن الأحاديث التي فيها الأمر بالغسل من غسل الميت، فاحتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الغسل من غسل الميت على قولين:
القول الأول: أن الغسل من غسل الميت لا يجب، ولكنه مستحب.
وهو قول المذاهب الأربعة
(2)
، وروي ذلك عن: ابن مسعود، وجابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة-رضي الله عنهم، وإبراهيم النخعي، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر
(3)
.
القول الثاني: أن الغسل من غسل الميت واجب.
روي ذلك عن علي، وأبي هريرة رضي الله عنهما. وبه قال سعيد بن المسيب، وابن
سيرين، والزهري، وابن حزم
(4)
.
(1)
انظر: تحفة الأحوذي 4/ 48.
(2)
أنظر: (الأصل 1/ 415؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 182؛ فتح القدير 1/ 66؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 278)(سنن الترمذي ص 236؛ الاشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 186؛ التمهيد 6/ 195؛ الاستذكار 2/ 538)(الأم 1/ 98؛ مختصر المزني ص 20؛ المجموع 2/ 162)(المغني 1/ 278؛ الشرح الكبير 2/ 118؛ الممتع 1/ 230؛ الإنصاف 2/ 120).
(3)
انظر: المحلى 1/ 217؛ المغني 1/ 278؛ الشرح الكبير 2/ 120.
(4)
انظر: المحلى 1/ 272؛ المغني 1/ 278؛ الشرح الكبير 2/ 120.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بالأدلة التي استُدل بها للقول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها: هو أن تلك الأحاديث ظاهرة في عدم وجوب الغسل من غسل الميت، لكنه مستحب للأحاديث التي فيها الأمر بالغسل من ذلك، وبه يجمع بين تلك الأحاديث كلها
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني -وهو وجوب الغسل من غسل الميت- بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ»
(2)
.
(1)
انظر: المغني 1/ 280؛ التلخيص الحبير 1/ 137، 138.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 484، كتاب الجنائز، باب الغسل من غسل الميت، ح (3161)، والترمذي في سننه ص 236، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، ح (993)، وابن ماجة في سننه ص 260، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، ح (1463)، وأحمد في المسند 15/ 534، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 131، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 452، وابن حزم في المحلي 1/ 270. وقد اختلف في صحة هذا الحديث وضعفه، ورفعه ووقفه، قال علي ابن المديني، وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شيء. وقال الذهبي: ليس فيمن غسل ميتاً فليغتسل حديث ثابت. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. انظر: السنن الكبري للبيهقي 1/ 450؛ التلخيص الحبير 1/ 136؛ فتح الباري 3/ 156؛ تحفة الأحوذي 4/ 48. وقال النووي في المجموع 2/ 163: (وليس في الغسل من غسل الميت شيء صحيح). وقال البخاري: الأشبه موقوف. وقال أبو حاتم: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف. انظر: التلخيص الحبير 1/ 136. وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/ 452 - بعد ذكر طرقه-: (الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها، وضعف بعضهم، والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً غير مرفوع).
وصححه ابن حبان، وابن حزم، والشيخ الألباني، وحسنه الترمذي، وقال ابن حجر: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً. انظر: سنن الترمذي ص 236؛ التلخيص الحبير 1/ 137؛ نيل الأوطار 1/ 237؛ صحيح سنن أبي داود ص 484.
ثانياً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غسل ميتاً فليغتسل)
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 134. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 26: (رواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي إسحاق السبيعي عن أبيه، ولم أجد من ذكر أباه). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 137: (ذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في العلل، وقالا: أنه لا يثبت. قلت: ونفيهما الثبوت على طريقة المحدثين، وإلا فهو على طريقة الفقهاء قوي، لأن رواته ثقات أخرجه البيهقي من طريق معمر عن أبي إسحاق عن أبيه عن حذيفة. وأعله بأن أبا بكر بن إسحاق الصبغي قال: هو ساقط، قال ابن المديني: لا يثبت فيه حديث، انتهى. وهذا التعليل ليس بقادح لما قدمناه).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 61، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، ح (348)، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 447، وأخرجه الدارقطني في سننه 1/ 113، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 137، بلفظ:(قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغسل من أربع: من الجنابة، والجمعة، والحجامة، وغسل الميت». ثم قال الدارقطني: مصعب بن شيبة ليس بالقوي ولا بالحافظ). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 137: (وفي الباب عن عائشة، رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة، وأحمد، والبخاري، وصححه ابن خزيمة) وقال ابن الجوزي في إعلام العالم ص 151: (وقد صح عن عائشة أنها أنكرت الغسل من غسل الميت، فكيف ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تنكره؟). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داودص 61.
ووجه الاستدلال منها: أن هذه الأدلة فيها الأمر بالغسل من غسل الميت، فدل ذلك على الوجوب
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث فيها الأمر بالغسل من غسل الميت، لكن هناك قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب، وهي الأحاديث التي تدل على عدم الوجوب، والقول بذلك أولى؛ لأنه ما دام الجمع بين الأحاديث ممكنا لا يصار إلى ترك بعضها
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن
الراجح هو استحباب الغسل من غسل الميت، وأن الأحاديث في الغسل من غسل الميت ليست منسوخة، وذلك لما يلي:
أولاً: أما أنه لا نسخ في هذه المسألة؛ فلأن الأحاديث الواردة فيها، ليس فيها ما يدل على النسخ، إلا حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: «نسخ الأضحى كل
(1)
انظر: المحلى 1/ 270؛ المغني 1/ 279.
(2)
انظر: التلخيص الحبير 1/ 138؛ نيل الأوطار 1/ 238.
ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة» وهو صريح في النسخ إلا أنه ضعيف لا يقوى على النسخ
(1)
.
أما بقية الأحاديث فالاستدلال منها على أنها المتأخرة والناسخة لأحاديث الغسل من غسل الميت، فاحتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، بل بصريح ويكون متأخراً، وهو ما لا يوجد هنا
(2)
.
ثانياً: أما أن الغسل من غسل الميت مستحب غير واجب فلما يلي:
أ- قول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل)؛ حيث أنه يؤيد أن الأمر الوارد في أحاديث الغسل من غسل الميت للاستحباب والندب، لا للوجوب
(3)
.
ب- ولأن القول بالاستحباب يمكن أن يجمع به بين هذه الأحاديث كلها، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها
(4)
.
والله أعلم.
(1)
راجع تخريج الحديث.
(2)
انظر: تحفة الأحوذي 4/ 48.
(3)
انظر: التلخيص الحبير 1/ 138؛ نيل الأوطار 1/ 238.
(4)
انظر: نيل الأوطار 1/ 238.
المطلب الثامن
غسل المستحاضة لكل صلاة، أو لتجمع به بين الصلاتين
ذهب الطحاوي
(1)
إلى أن غسل المستحاضة
(2)
لكل صلاة، أو غسلها لتجمع به بين الصلاتين، منسوخ بالوضوء لكل صلاة؛ لذلك لا يجب عليها بعد غسلها من المحيض إلا الوضوء لكل صلاة
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف فيها هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة فيها
(4)
.
ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: استفتت أم حبيبة بنت جحش
(5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني استحاض، فقال: «إنما ذلك عرق
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 103، 105.
(2)
الاستحاضة لغة استفعال من الحيض، يقال: استحيضت المرأة إذا استمر بها الدم. انظر: الصحاح 1/ 1073؛ النظم التستعذب 1/ 45؛ المغني لابن بابطيش 1/ 2/ 60.
والاستحاضة اصطلاحاً: دم علة يسيل من عرق في أدنى الرحم يقال له العاذل. مغني المحتاج 1/ 108.
(3)
انظر: التمهيد 2/ 442؛ بداية المجتهد 1/ 123؛ فتح الباري 1/ 535؛ سبل السلام 1/ 182.
(4)
انظر: بداية المجتهد 1/ 122.
(5)
هي: حبيبة بنت جحش بن رئاب، الأسدية، أم حبيبة-شقيقة زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 257؛ الإصابة 4/ 2465.
فاغتسلي، ثم صلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة)
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم «فأمرها بالغسل لكل صلاة»
(2)
.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلاً،
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 70، كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة، ح (327)، ومسلم في صحيحه -واللفظ له- 2/ 20، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، ح (334) (63) ثم قال:(قال الليث بن سعد: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 51، كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، ح (292)، والنسائي في سننه ص 41، كتاب الطهارة، باب ذكر الأقراء، ح (209)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 98، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 516. قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 535:(وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كثير وابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث: (فأمرها بالغسل لكل صلاة) فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة؛ لأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكرها، لكن روى أبو داود من طريق يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة في هذه القصة:(فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة) فيحمل الأمر على الندب جمعاً بين الروايتين هذه ورواية عكرمة). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 51.
وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنت سهيل
(2)
استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم «فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح»
(3)
.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش
(4)
، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أُستحاض فلا أطهر،
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 51، كتاب الطهارة، باب من قال تجمع بين الصلاتين، وتغتسل لهما غسلاً، ح (294)، والنسائي في سننه ص 42، كتاب الطهارة، باب ذكر اغتسال المستحاضة، ح (213)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 100، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 519. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داودص 51.
(2)
هي: سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية، أسلمت قديماً، وهاجرت مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة إلى الحبشة، فولدت له هناك محمد بن أبي حذيفة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 279؛ الإصابة 4/ 2544.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 51، كتاب الطهارة، باب من قال تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً، ح (295)، والدارمي في سننه 1/ 222، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 101. قال ابن حجر في التلخيص 1/ 171:(وقد قيل إن ابن إسحاق وهم فيه). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص 51.
(4)
هي: فاطمة بنت قيس-أبي حبيش- بن المطلب بن أسد، القرشية الأسدية، من المهاجرات، وروت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عروة. انظر: الإصابة 4/ 2601؛ التهذيب 12/ 392.
أفأدع الصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي وصلي، فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة»
(1)
.
وفي رواية عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه ص 64، كتاب الحيض والاستحاضة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، ح (364)، ثم قال:(قد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة، ولم يذكر فيه (وتوضئي) غير حماد، والله أعلم) وأخرجه البخاري في صحيحه-بمعناه- ص 52، كتاب الوضوء، باب غسل الدم، ح (228)، وأبو داود في سننه ص 49، كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، ح (262)، والترمذي في سننه ص 41، أبواب الطهارة، باب في المستحاضة، ح (125)، وقال:(حسن صحيح). وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 512 - بعد ذكر إحدى طرق الحديث-: (وفيه اختلاف ثالث أشرنا إليه في باب غسل الدم من رواية أبي معاوية فذكر مثل حديث الباب وزاد: (ثم توضئي لكل صلاة) ورددنا هناك قول من قال: إنه مدرج، وقول من جزم بأنه موقوف على عروة، ولم ينفرد أبو معاوية بذلك، فقد رواه النسائي من طريق حماد بن زيد عن هشام، وادعى أن حماداً تفرد بهذه الزيادة، وأومأ مسلم أيضاً إلى ذلك، وليس كذلك، فقد رواها الدارمي من طريق حماد بن سلمة والسراج من طريق يحيى بن سليم كلاهما عن هشام). ورواية النسائي قال عنه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 64:(صحيح الإسناد) وقال في إرواء الغليل 1/ 167، عن رواية الترمذي:(وسنده على شرط الشيخين).
فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال:«لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير»
(1)
.
خامساً: عن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أنها كانت تستحاض، فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي»
(2)
.
سادساً: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في المستحاضة: (تدع
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 52، كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، ح (297)، وابن ماجة في سننه-واللفظ له- ص 121، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، ح (624)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 102، والدارقطني في سننه 1/ 211، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 508. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 121:(صحيح دون قوله: (وإن قطر الدم على الحصير)، وقال في إرواء الغليل 1/ 146:(صحيح) ثم ذكر من خرجه ثم قال: (رجاله كلهم ثقات، وقد صرح ابن ماجة والدارقطني في روايتيهما أن عروة هو ابن الزبير، ولكن حبيباً لم يسمع منه، فهو منقطع، ولكن تابعه هشام بن عروة عند البخاري، وغيره، فالحديث صحيح ولكن بدون هذه الزيادة (وإن قطر الدم على الحصير).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 53، كتاب الطهارة، باب من قال: توضأ لكل صلاة، ح (304)، والنسائي في سننه ص 64، كتاب الحيض والاستحاضة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، ح (362)، والدارقطني في سننه 1/ 207. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 64:(حسن صحيح).
الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل غسلاً واحداً، وتتوضأ عند كل صلاة)
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن عائشة رضي الله عنها روت حديث غسل المستحاضة لكل صلاة، وروت حديث جمع المستحاضة بين الصلاتين بغسل واحد، وروت مع ذلك حديث سهلة الدال على أن جمع المستحاضة بين الصلاتين بغسل واحد كان بعد الأمر بالغسل لكل صلاة، كما أنها روت حديث وضوء المستحاضة لكل صلاة، ثم هي كانت بعد النبي صلى الله عليه وسلم تفتي المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فثبت بذلك أن هذا الحكم وهو وضوء المستحاضة لكل صلاة هو الناسخ للحكمين السابقين، وهما الغسل لكل صلاة، والجمع بين الصلاتين بغسل واحد؛ لأنه لا يجوز على عائشة أن تدع الناسخ وتفتي بالمنسوخ
(2)
.
واعترض عليه: بأن ادعاء أن أمر المستحاضة بالغسل لكل صلاة، أو الأمر لها بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد، كان واجباً ثم نسخ بالوضوء لكل صلاة، احتمال، ويحتمل كذلك أن الأمر بذلك كان للندب والاستحباب،
(1)
أخرجه الدارمي في سننه 1/ 223، 224، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 105، والبيهقي في سننه 1/ 511. وأخرجه أبو داود في سننه -مختصرا- ص 53، كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 52.
(2)
انظر: شرح معاني الاثار 1/ 105؛ التمهيد 2/ 439، 442؛ بداية المجتهد 1/ 125؛ فتح الباري 1/ 535.
وأن الواجب عليها كان هو الوضوء لكل صلاة، والقول بهذا الاحتمال أولى؛ لأن به الجمع بين هذه الأحاديث كلها، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث والعمل بها كلها
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجب على المستحاضة على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يجب على المستحاضة إلا الغسل من المحيض، ثم الوضوء لكل صلاة.
وهو قول جمهور أهل العلم
(2)
، وممن قال به: الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وروي ذلك عن: على، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، رضي الله عنهم.
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 535؛ سبل السلام 1/ 182.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 443؛ بداية المجتهد 1/ 121؛ المجموع 2/ 382؛ فتح الباري 1/ 535.
(3)
انظر: الأصل 1/ 335؛ شرح معاني الآثار 1/ 106؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 168؛ الهداية وشرح العناية 1/ 179؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/ 438.
(4)
انظر: الأم 1/ 133؛ مختصر المزني ص 21؛ المجموع 2/ 382؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 111.
(5)
انظر: المغني 1/ 421، 422؛ الشرح الكبير 2/ 455؛ الفروع 1/ 388؛ الإنصاف 2/ 455.
وبه قال: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والليث، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب
(1)
.
القول الثاني: لا يجب على المستحاضة إلا الغسل من المحيض، ثم يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا من الحدث.
وهو قول المالكية
(2)
، وقول عكرمة، وربيعة
(3)
.
القول الثالث: يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة.
وروي ذلك عن: علي، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وعطاء بن أبي رباح
(4)
.
القول الرابع: يجب على المستحاضة ثلاثة أغسال: فتؤخر الظهر، وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتؤخر المغرب، وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتغتسل للصبح غسلاً.
روي ذلك عن: علي، وابن عباس رضي الله عنهما، وإبراهيم النخعي، وعطاء،
وسعيد بن المسيب، وعكرمة
(5)
.
(1)
انظر: الاستذكار 1/ 386، 389؛ المجموع 2/ 382.
(2)
انظر: التمهيد 2/ 443؛ الاستذكار 1/ 386؛ بداية المجتهد 1/ 121؛ جامع الأمهات ص 76.
(3)
انظر: سنن أبي داود ص 54؛ الاستذكار 1/ 386.
(4)
انظر: الاستذكار 1/ 387؛ المجموع 2/ 382.
(5)
انظر: سنن الدارمي 1/ 225؛ الاستذكار 1/ 388.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا يجب على المستحاضة إلا الغسل من المحيض، ثم الوضوء لكل صلاة-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث عائشة الذي فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة، وقد سبق ذكره
(1)
.
ثانياً: حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه الأمر كذلك بالوضوء لكل صلاة
(2)
.
ثالثاً: عن ثابت
(3)
، عن أبيه
(4)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة:«تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم، وتصلي»
(5)
.
(1)
انظر تخريجه في ص 409.
(2)
انظر تخريجه في ص 410.
(3)
هو: ثابت الأنصاري، والد عدي بن ثابت، قيل: هو ابن قيس بن الخطيم، وهو جدي عدي لا أبوه، وقيل اسم أبيه: دينار، وقيل: عمرو بن اخطب، وقيل عبيد بن عازب، فهو مجهول الحال. اظر: تهذيب التهذيب 2/ 17؛ التقريب 1/ 148.
(4)
أبو ثابت مجهول، وقد اختلف في اسمه على أقوال، انظر ذلك في ترجمة ابنه ثابت.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 52، كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، ح (297)، و الترمذي في سننه-واللفظ له- ص 41، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، ح (126)، وابن ماجة في سننه ص 121، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، ح (625)، والدارمي في سننه 1/ 223. والحديث ضعفه أبو داود في سننه، وقال الترمذي: (تفرد به شريك عن أبي اليقظان) وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 169: (وإسناده ضعيف) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 52، وصحيح سنن الترمذي ص 41، وقال في إرواء الغليل 1/ 225: (صحيح) ثم ذكر قول الترمذي: (تفرد به شريك عن أبي اليقظان) ثم قال: (قلت: وهما ضعيفان، ولكن الحديث صحيح؛ لأن له شواهد).
رابعاً: عن عكرمة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم «أن تنتظر أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت»
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث جاء فيها الأمر بالوضوء لكل صلاة، فدل على وجوبه فقط، لا على وجوب غيره
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستُدل للقول الثاني-وهو أنه لا يجب على المستحاضة إلا الغسل من المحيض، ثم يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا من الحدث- بما يلي:
أولاً: الأحاديث التي جاء فيها الأمر بالوضوء، وحمل الأمر فيها على الاستحباب؛ لأنه لا يرفع الحدث الدائم، فحمل الأمر به على
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 54، كتاب الطهارة، باب من لم يذكر الوضوء إلا عند الحدث، ح (305).
وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 111: (إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه عبد الحق في أحكامه).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 106؛ التمهيد 2/ 440؛ المغني 1/ 423؛ فتح الباري 1/ 535.
الاستحباب
(1)
.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله:«إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلى»
(2)
.
ووجه الاستدلال منه هو: أنه ليس فيه ذكر الوضوء، ولو كان الوضوء عليها واجباً لما سكت عن أن يأمرها به
(3)
.
واعترض عليه: بأن عدم ذكر الوضوء في حديث لا يدل على عدم وجوبه؛ لذكره في أحاديث أخرى، والأمر فيها ظاهر في الوجوب
(4)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب الغسل على المستحاضة لكل صلاة- بما يلي:
أولاً: حديث عائشة الذي فيه الأمر بالغسل لكل صلاة، وقد سبق
(1)
انظر: التمهيد 2/ 444.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 66، كتاب الحيض، باب الاستحاضة، ح (306)، ومسلم في صحيحه 2/ 16، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، ح (333)(62).
(3)
انظر: التمهيد 2/ 444.
(4)
انظر: المغني 1/ 423؛ فتح الباري 1/ 512، 535.
ذكره
(1)
.
ثانياً: عن زينب بنت أبي سلمة-رضي الله عنها أن امرأة كانت تهراق الدم -وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرها أن تغتسل عند كل صلاة و تصلي»
(2)
.
وفي الحديثين الأمر بالغسل لكل صلاة، فدل ذلك على وجوبه
(3)
.
واعترض عليه: بأن حمله على الندب أولى؛ جمعاً بين هذه الأحاديث والأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء فقط لكل صلاة
(4)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو أنه يجب على المستحاضة ثلاثة أغسال- بما يلي:
أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها-الذي فيه الأمر بثلاثة أغسال، وقد سبق ذكره
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 408.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 51، كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، ح (293)، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 517، وابن عبد البر في التمهيد 2/ 436. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 51.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 98؛ التمهيد 2/ 436.
(4)
انظر: فتح الباري 1/ 535.
(5)
سبق تخريجه في ص 408.
ثانياً: عن أسماء بنت عميس
(1)
رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا، فلم تصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! ذا من الشيطان، لتجلس في مركن
(2)
، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصرغسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك»
(3)
.
ووجه الدلالة من الحديثين: أن فيهما الأمر بثلاثة أغسال فدل ذلك على وجوبها
(4)
.
واعترض عليه: بأن الأمر فيهما للاستحباب والاختيار، بدليل الأحاديث
(1)
هي: أسماء بنت عميس بن معد، الخثعمية، تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، و روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: ابنها عبد الله بن جعفر، والقاسم بن محمد، وغيرهما، وتوفيت بعد علي رضي الله عنه. انظر: الإصابة 4/ 2417؛ تهذيب التهذيب 12/ 349.
(2)
المركن، بكسر الميم: الإجانة التي يغسل فيها الثياب. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 687؛ المصباح المنير ص 238.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 64، كتاب الحيض والاستحاضة، باب جمع المستحاضة بين الصلاتين، وغسلها إذا جمعت، ح (361)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 100. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 64.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 1/ 100؛ التمهيد 2/ 438.
الدالة على جواز الاكتفاء بالوضوء لكل صلاة، وبحديث حمنة بنت جحش
(1)
(2)
.
فدل كل هذا أن الأمر بهذه الأغسال للاستحباب دون الوجوب
(3)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله
(1)
هي: حمنة بنت جحش بن رئاب بن يعمر الأسدية، أخت أم المؤمنين زينت، كانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها يوم أحد، ثم تزوجها طلحة بن عبيد الله، وكانت من المبايعات. انظر: الإصابة 4/ 2472؛ تهذيب التهذيب 12/ 362.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 50، كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، ح (287)، والترمذي في سننه ص 41، أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، ح (128)، وابن ماجة في سننه ص 122، كتاب الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدأت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها، ح (627)، والحاكم في المستدرك 1/ 280. قال الإمام أحمد والترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه البخاري والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 41؛ إرواء الغليل 1/ 202.
(3)
انظر: الكافي لابن قدامة 1/ 180؛ سبل السلام 1/ 184.
أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: أن نسخ غسل المستحاضة لكل صلاة أو غسلها لتجمع به بين الصلاتين، بالوضوء لكل صلاة محتمل، إلا أن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة أولى من القول بالنسخ، وذلك بحمل الأمر الوارد فيها بالوضوء على الوجوب، وحمل الأمر الوارد فيها بالغسل لكل صلاة، أو بالغسل لتجمع به بين الصلاتين على الاستحباب
(1)
.
ثانياً: إن الواجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، لكن الأفضل لها والأولى الغسل لكل صلاة، ثم الغسل لتجمع به بين الصلاتين، وبهذا يجمع بين هذه الأحاديث كلها
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 1/ 535.
(2)
انظر: الكافي لابن قدامة 1/ 180؛ فتح الباري 1/ 535؛ سبل السلام 1/ 184.