المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني: الصلاة . وفيه تسعة مباحث: المبحث الأول: فرضية الصلاة، والأوقات، والأذان، - الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء - جـ ٢

[محمد إبراهيم بن سركند]

فهرس الكتاب

‌الفصل الثاني: الصلاة

.

وفيه تسعة مباحث:

المبحث الأول: فرضية الصلاة، والأوقات، والأذان، والإقامة.

المبحث الثاني: طهارة ما يصلى فيه، وعليه، واستقبال القبلة.

المبحث الثالث: صفة الصلاة.

المبحث الرابع: سجودا السهو، والتلاوة.

المبحث الخامس: صلاة التطوع، وما يكره في الصلاة أو يفسدها.

المبحث السادس: صلاة الجماعة.

المبحث السابع: الجمعة، والعيدين.

المبحث الثامن: قضاء الصلاة، وصلاة الخوف.

المبحث التاسع: الجنائز.

ص: 635

‌المبحث الأول فرضية الصلاة، والأوقات، والأذان والإقامة

وفيه اثنا عشر مطلباً:

المطلب الأول: عدد المفروض من الصلوات.

المطلب الثاني: ضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً.

المطلب الثالث: تفضيل الإسفار على التغليس في صلاة الفجر.

المطلب الرابع: تعجيل الظهر في شدة الحر.

المطلب الخامس: صلاة المغرب هل لها وقت واحد أو وقتان.

المطلب السادس: آخر وقت صلاة العشاء الآخرة.

المطلب السابع: صلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين.

المطلب الثامن: إدراك الصبح بإدراك الركعة قبل طلوع الشمس، والعصر بإدراك الركعة قبل غروبها.

المطلب التاسع: الصلاة عند انتصاف النهار.

المطلب العاشر: الصلاة بعد العصر.

المطلب الحادي عشر: أن يؤذن أحد ويقيم آخر.

المطلب الثاني عشر: إفراد الإقامة.

ص: 637

‌المطلب الأول: عدد المفروض من الصلوات

ذهب غير واحد من أهل العلم، إلى أن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين ليلة الإسراء والمعراج خمسين صلاة

(1)

، ثم خفف عنهم، فنسخ ما زاد على الخمسة

(2)

.

وممن صرح بنسخ ذلك: ابن حزم

(3)

، والسمعاني

(4)

،

(1)

الصلاة لغة: الدعاء، وقد يأتي بمعنى الرحمة، والاستغفار، وجمعها صلوات. انظر: النظم المستعذب 1/ 51؛ المغني لابن بابطيش 1/ 75؛ المصباح المنير ص 346؛ القاموس المحيط ص 1173.

والصلاة اصطلاحاً: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة. انظر: مواهب الجليل 2/ 4؛ مغني المحتاج 1/ 120؛ نهاية المحتاج 1/ 359؛ الروض المربع 1/ 118.

وقيل: الصلاة: عبارة عن أركان مخصوصة وأذكار معلومة بشرائط محصورة في أوقات مقدرة. التعريفات للجرجاني ص 134.

(2)

انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي 3/ 327؛ مسلم الثبوت 2/ 73؛ الإحكام للآمدي 2/ 119؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح الكوكب المنير 3/ 531؛ مناهل العرفان 2/ 247.

(3)

انظر: الإحكام شرح أصول الأحكام 1/ 512.

(4)

هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد، أبو المظفر السمعاني، المروزي، تفقه على أبيه، وسمع من أبي عمران الصفار، وغيره، وكان حنفياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، ومن مؤلفاته (قواطع الأدلة) وتوفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة. انظر: طبقات السبكي 5/ 335؛ وفيات الأعيان 3/ 311.

وانظر قوله في: قواطع الأدلة 1/ 430.

ص: 638

و السرخسي

(1)

، وشيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

.

ولا خلاف بين أهل العلم في أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة هي خمسة فقط.

ويستدل لما سبق بما يلي:

أولاً: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ففرض الله على أمتي

خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هنّ خمس وهنّ خمسون، لا يبدل القول لديَّ، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت: استحييت من ربّي» الحديث

(3)

.

(1)

هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السرخسي، شمس الأئمة، من شيوخه شمس الأئمة الحلواني، وكان علامة حجة، فقيهاً أصولياً، ومن مؤلفاته:(المبسوط)، أملاه وهو في السجن محبوس، وتوفي في حدود التسعين والأربعمائة. انظر: الجواهر المضيّة 3/ 78 - 82؛ تاج التراجم ص 234.

وانظر قوله في: أصول السرخسي 2/ 64.

(2)

انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص 204.

(3)

سبق تخريجه في ص 89.

ص: 639

ثانياً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطّوّع» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان» ، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطّوّع» ، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»

(1)

.

فهذان الحديثان يدلان على أن الصلوات المكتوبة هي خمسة فقط، وحديث أنس رضي الله عنه يدل على أن الله سبحانه وتعالى فرض ليلة المعراج خمسين صلاة، ثم نسخ ما زاد على الخمسة

(2)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 536، كتاب الشهادات، باب كيف يُستحلف، ح (2678)، ومسلم في صحيحه 2/ 23، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، ح (11)(8).

(2)

انظر: أصول فخر الإسلام البزدوي 3/ 327؛ قواطع الأدلة 1/ 430؛ الإحكام للآمدي 2/ 199؛ نواسخ القرآن 1/ 146؛ شرح العقيدة الأصفهانية ص 204؛ شرح الكوكب المنير 3/ 531.

ص: 640

‌المطلب الثاني: ضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً

ذهب البيهقي إلى أنه لا يجب الصلاة على الصبي، وأن ضربه على الصلاة إذا بلغ عشراً، منسوخ، وأنه رفع عنه ذلك

(1)

.

وليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، ولكن السبب لاختلافهم هو اختلافهم في المراد من ضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً، هل هو لأجل أنها واجبة عليه، أو هو للتدريب والتمرين

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن سبرة

(3)

رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها»

(4)

.

(1)

قال ابن حجر في فتح الباري 2/ 426: (وجزم البيهقي بأنه منسوخ بحديث (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم). وقد بحثت عن قول البيهقي في سننه الكبرى، والصغرى، ومعرفة السنن، فلم أجد قوله فيها.

(2)

انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 210؛، المغني 2/ 350؛ فتح الباري 2/ 426.

(3)

هو: سبرة بن معبد بن عوسجة بن حرملة الجهني، أبو ثرية، صحابي، نزل المدينة، وشهد الخندق وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه الربيع، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 689؛ تهذيب التهذيب 3/ 395.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 82، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ح (494)، والترمذي في سننه ص 111، أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، ح (407)، وأحمد في المسند 24/ 56، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/ 209، والدارقطني في سننه 1/ 230، والحاكم في المستدرك 1/ 317، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 22. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح) وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 82: (حسن صحيح).

ص: 641

ثانياً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»

(1)

.

ثالثاً: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 82، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ح (495)، وأحمد في المسند

11/ 284، والدارقطني في سننه 1/ 230، والحاكم في المستدرك 1/ 312، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 324. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 82:(حسن صحيح).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 657، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، ح (4400)، والترمذي في سننه ص 336، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، ح (1423)، وابن ماجة في سننه ص 353، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، ح (2042)، وأحمد في المسند 2/ 461، وابن حبان في صحيحه ص 153، والحاكم في المستدرك 2/ 68، و 4/ 430، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 118. قال الترمذي:(حديث حسن غريب). وقال الحاكم في المستدرك 4/ 430: (وقد روي هذا الحديث بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مسنداً). وصحح إسناده النووي في المجموع 3/ 8. وقال ابن حجر في فتح الباري 12/ 142 - بعد ذكر طرقه-: (وهذه طرق تقوى بعضها ببعض) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 656، وقال في إرواء الغليل 2/ 5: (وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالا، ولا يضره إيقاف من أوقفه لأمرين: الأول: أن من رفعه ثقة، والرفع زيادة فيه فيجب قبولها. الثاني: أن رواية الوقف في حكم الرفع، لقول علي لعمر: أما علمت. وقول عمر: بلى. فذلك دليل على أن الحديث معروف عندهم. وكذلك لا يضره رواية من أسقط من الإسناد ابن عباس).

ص: 642

رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأنه جاء في حديث سبرة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم-الأمر بضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً، وهو

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 656، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً، ح (4398)، والنسائي في سننه ص 531، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، ح (3432)، وابن ماجة في سننه ص 353، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، ح (2041)، والدارمي في سننه-واللفظ له- 2/ 225، وابن حبان في صحيحه ص 153، والحاكم في المستدرك 2/ 68. وقال:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 5 - بعد ذكر كلام الحاكم والذهبي: (قلت: وهو كما قالا، فإن رجاله كلهم ثقات، احتج بهم مسلم برواية بعضهم عن بعض، وحماد وهو ابن أبي سليمان وإن كان فيه كلام من قبل حفظه فهو يسير، لا يسقط حديثه عن رتبة الاحتجاج به، وقد عبر عن ذلك الحافظ بقوله: فقيه ثقة صدوق له أوهام).

ص: 643

يدل على وجوب الصلاة عليه، وعلى ضربه عليها، وجاء في حديث علي، وعائشة رضي الله عنهما أن الصبي رفع عنه القلم، والرفع يستدعي سبق وضع، فدل ذلك على عدم وجوب الصلاة على الصبي، وعلى عدم ضربه عليها؛ لأنه رفع عنه ذلك، وهو معنى النسخ

(1)

.

واعترض عليه: بأن كل رفع لا يستدعي سبق وضع، وأن المراد بالرفع في الحديث عدم التكليف ما دام هؤلاء متصفين بتلك الأوصاف

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

أما جمهور أهل العلم فلم يقولوا بالنسخ، بل قالوا بضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً، إلا أنهم اختلفوا في المراد من هذا الضرب، هل هو لأن الصلاة واجب عليه، أو أنه يضرب لأجل التدريب والتمرين؟ اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: أن الصلاة لا تجب على الصبي إلا بالبلوغ، وإنما يضرب عليها إذا بلغ عشراً على وجه التعليم والتدريب والتمرين، كي يألفها ويعتادها، ولا يتركها عند البلوغ.

وهذا قول أكثر أهل العلم، ومنهم المذاهب الأربعة

(3)

.

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 426.

(2)

انظر: المصباح المنير ص 232؛ التلخيص الحبير 1/ 184؛ نيل الأوطار 1/ 299.

(3)

انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 209، 210؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 430؛ جامع أحكام الصغار 1/ 138) (التمهيد 9/ 289؛ مختصر خليل مع شرح التاج والإكليل 2/ 53؛ مواهب الجليل 2/ 53.)(الأم 1/ 146؛ المهذب مع شرحه المجموع 3/ 7، 8؛ فتح الباري 2/ 426)(المغني 2/ 350؛ الشرح الكبير 3/ 21؛ الممتع 1/ 310؛ شرح الزركشي 1/ 347؛ الإنصاف 3/ 20.)

ص: 644

القول الثاني: أن الصلاة تجب على الصبي إذا بلغ عشراً، ويضرب عليها إذا تركها عقاباً.

وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة

(1)

.

ويستدل للقول الأول بما يلي:

أولاً: أما عدم وجوب الصلاة عليه فلحديثي علي وعائشة رضي الله عنهما وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.

ثانياً: أما أنه يضرب عليها إذا بلغ عشراً للتدريب والتمرين عليها؛ فلما سبق من حديثي سبرة، وعبد لله بن عمرو-رضي الله عنهم. فإنهما يدلان على ضرب الصبي على الصلاة

إذا بلغ عشراً، لكنه للتدريب والتمرين؛ لا للوجوب للأحاديث التي تدل على عدم تكليفه

(2)

.

ويستدل للقول الثاني -وهو وجوب الصلاة على الصبي إذا بلغ عشراً، وضربه عليها-بما سبق ذكره من حديث سبرة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما.

ووجه الاستدلال منهما هو: لأن الصبي إذا بلغ عشراً

(1)

انظر: المغني 2/ 351؛ الشرح الكبير 3/ 19؛ الممتع 1/ 310؛ شرح الزركشي 1/ 347؛ الإنصاف 3/ 20.

(2)

انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 310؛ المغني 2/ 350.

ص: 645

يضرب عليها، ويعاقب على تركها، ولا تشرع العقوبة إلا لترك واجب

(1)

.

واعترض عليه: بأن ضربه على الصلاة إذا بلغ عشراً، ليس للعقوبة حتى يكون ذلك دليلاً على وجوبها عليه، بل للتدريب والتمرين؛ بدليل الأحاديث الدالة على عدم تكليفه

(2)

.

الراجح

بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي-والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو قول الجمهور-وهو أن ضربه على الصلاة إذا بلغ عشراً ليس بمنسوخ، وأنه يضرب عليها للتدريب والتمرين لا لوجوبها عليه-وذلك لما يلي:

أولاً: أن القول بالنسخ احتمال ضعيف؛ لأنه ليس هناك أي دليل على تأخر الأحاديث الدالة على عدم تكليفه على الأحاديث الدالة على ضربه على الصلاة إذا بلغ عشرا، أما رفع القلم عنه فالمراد به عدم تكليفه، ولا منافاة بين عدم تكليفه وضربه على الصلاة للتدريب و التمرين

(3)

. وليس كل رفع يقتضي سبق وضع كما سبق ذكره.

ثانياً: ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة، وذلك بحمل ما يدل على ضربه على الصلاة على التدريب والتمرين، وبحمل غيره على عدم تكليفه، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها

(4)

والله أعلم.

(1)

انظر: المغني 2/ 351؛ الشرح الكبير 3/ 19؛ فتح الباري 2/ 426.

(2)

انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 310؛ المغني 2/ 350.

(3)

انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 310؛ المغني 2/ 350.

(4)

انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 430؛ الاعتبار ص 495؛ الممتع 1/ 310؛ فتح الباري 2/ 426.

ص: 646

‌المطلب الثالث: تفضيل الإسفار على التغليس في صلاة الفجر

ذهب الطحاوي إلى أن التغليس

(1)

بصلاة الصبح-وهو أن يدخل فيها بغلس ويخرج منها بغلس- نسخ بالإسفار- وهو أن يدخل في صلاة الفجر بغلس، ويمد القراءة فيها حتى يخرج منها وقت الإسفار

(2)

.

وعكس ذلك الحازمي فذهب إلى أن المنسوخ هو أفضلية الإسفار بصلاة الصبح، وأن الناسخ هو التغليس بها- وهو أن يدخل فيها بغلس، ويخرج منها بغلس-

(3)

.

وقريب منه قول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث قال-بعد ذكر الحديث الدال على الإسفار-: (وقد يكون منسوخاً؛ لأن التغليس هو فعله حتى مات)

(4)

.

(1)

التغليس من الغلس-بفتحتين- وهو ظلمة آخر الليل. انظر: مختار الصحاح ص 421؛ المصباح المنير ص 450؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 56.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 184؛ الاعتبار ص 269.

(3)

انظر: الاعتبار ص 271.

(4)

مجموع الفتاوى 22/ 96.

ص: 647

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ التغليس بصلاة الصبح بما يلي:

أولاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر»

(2)

.

(1)

انظر: بداية المجتهد 1/ 192.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 72، كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح، ح (424)، والترمذي في سننه -واللفظ له- ص 49، كتاب مواقيت الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، ح (154)، والنسائي في سننه ص 94، كتاب الصلاة، باب الإسفار، ح (548)، وابن ماجة في سننه ص 129، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، ح (672)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 568، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 283، والإمام أحمد في المسند 25/ 133، والدارمي في سننه 1/ 301، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 178، وابن حبان في صحيحه ص 491، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 671، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 147، والحازمي في الاعتبار ص 269. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 1/ 79: (حديث صحيح). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 235: (قال ابن القطان في كتابه: طريقه طريق صحيح. وعاصم بن عمر وثقه النسائي، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم، ولا أعرف أحداً ضعفه ولا ذكره في جملة الضعفاء). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 72: (حسن صحيح) وقال في الإرواء 1/ 281: (صحيح).

ص: 648

ثانياً: عن محمود بن لبيد

(1)

عن رجال من قومه من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم بالأجر»

(2)

.

ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى»

(3)

.

رابعاً: عن إبراهيم النخعي قال: (ما أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما أجمعوا على التنوير بالفجر)

(4)

.

ويستدل منها على نسخ التغليس بصلاة الصبح على وجهين:

(1)

هو: محمود بن لبيد بن رافع الأنصاري، الأوسي، الأشهلي، أبو نعيم المدني، قال البخاري والترمذي وابن حبان: له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الزهري، وعاصم بن عمر، وغيرهما، وتوفي سنة ست وتسعين، وقيل غيرها. انظر: الإصابة 3/ 1797؛ تهذيب التهذيب 10/ 58؛ التقريب 2/ 164.

(2)

أخرجه النسائي في سننه ص 94، كتاب الصلاة، باب الإسفار، ح (549). وصحح سنده ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 261، والزيلعي في نصب الراية 1/ 238، وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 671:(ورجال هذا السند ثقات). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1/ 283: (وهذا سند صحيح كما قال الزيلعي في نصب الراية، ورجاله كلهم ثقات).

(3)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 183، 415، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 533.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 284، والطحاوي في شرح معاني الاثار 1/ 184.

ص: 649

الأول: هو أن حديث عائشة-رضي الله عنها يدل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل أن يتم الصلاة، على مثال ما يصلي إذا سافر، وحكم المسافر تخفيف الصلاة، ثم أحكم بعد ذلك، فزيد في بعض الصلوات، وأمر بإطالة بعضها، فيجوز أن يكون ما كان يفعل من تغليسه بها، وانصراف النساء منها ولا يعرفن من الغلس، كان ذلك في الوقت الذي كان يصليها فيه على مثل ما يصلى فيه الآن في السفر، ثم أمر بإطالة القراءة فيها، وقال:«أسفروا بالفجر» أي أطيلوا القراءة فيها حتى تخرجوا منها وقت الإسفار، فثبت بذلك نسخ ما كان يفعله من تغليسه بها وانصراف النساء منها ولا يعرفن من الغلس، وأن قوله:«أسفروا بالفجر» بعد ذلك

(1)

.

واعترض عليه: بأن حديث تغليس النبي صلى الله عليه وسلم ثابت، وأنه داوم عليه إلى أن فارق الدنيا، فكيف يقال بنسخه؟

(2)

.

الوجه الثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده اتفقوا على الإسفار بصلاة الصبح، ولا يجوز اجتماعهم على خلاف ما قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله إلا بعد نسخ ذلك، وثبوت خلافه

(3)

.

واعترض عليه: بأن جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 184.

(2)

انظر: الاعتبار ص 270؛ مجموع الفتاوى 22/ 96.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 184، الاعتبار ص 269.

ص: 650

أفضلية التغليس بها، فكيف يقال: إنهم أجمعوا على الإسفار بها؟

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ الإسفار بصلاة الصبح بما يلي:

أولاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، متلفعات

(2)

بمروطهن

(3)

، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس)

(4)

.

ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهربالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس»

(5)

.

ثالثاً: عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كن نساء

(1)

انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 569، 573؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 283؛ التمهيد 1/ 146؛ الاعتبار ص 272؛ مجموع الفتاوى 22/ 96.

(2)

التلفع: التلحف والتلفف، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 607؛ المصباح المنير ص 555.

(3)

المروط جمع مرط، وهو كساء من صوف أو خز، يؤتزر به، وتتلفع المرأة به. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 651؛ مختار الصحاح ص 547؛ المصباح المنير ص 569.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، ح (578)، ومسلم في صحيحه 2/ 280، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح، ح (645)(231).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 117، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا، ح (565)، ومسلم في صحيحه 2/ 281، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح، ح (646)(233).

ص: 651

يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فينصرفن متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس»

(1)

.

رابعاً: حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: «

وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر»

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 573. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 323: (رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطبراني).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 68، كتاب الصلاة، باب في المواقيت، ح (394)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 176، -ولفظه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الغداة فغلس بها، ثم صلاها فأسفر، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله عز وجل - وابن حبان في صحيحه ص 480، والدارقطني في سننه 1/ 250، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 1/ 87، والحازمي في الاعتبار ص 271، من طريق أبي داود، -ولفظه عند الحازمي: (ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات بعد أن كان يسفر بها). قال الحازمي: (هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيح بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة). وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 2/ 6: (وصححه ابن خزيمة وغيره) وقال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني: (هذا الحديث إسناده صحيح). وكذلك قال: (قال الخطابي: هو صحيح الإسناد، وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 68: (حسن).

وقال أبو داود في سننه ص 68: (روى هذا الحديث عن الزهري: معمر، ومالك، وابن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد، وغيرهم، لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه ولم يفسروه، وكذلك أيضاً رواه هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة، نحو رواية معمر وأصحابه، إلا أن حبيباً لم يذكر بشيراً).

وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 260، كلام أبي داود ثم قال:(وأسامة بن زيد الليثي قال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: تركه يحيى بن سعيد بآخره. وقال الأثرم عن أحمد: ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: روى عن نافع أحاديث مناكير. واختلف فيه الرواية عن يحيى بن معين، فقال مرة: ثقة صالح. وقال مرة: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة حجة. وقال مرة: ترك حديثه بآخره. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي، والدارقطني: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: ليس بحديثه بأس. وروى له مسلم في صحيحه).

وقال الذهبي وابن حجر عن أسامة بن زيد الليثي: (صدوق، يهم). انظر: المغني في الضعفاء 1/ 103؛ تقريب التهذيب 1/ 76.

ص: 652

ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن حديث عائشة وجابر وأم سلمة رضي الله عنهم يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس، وحديث أبي مسعود يدل على أن التغليس بها آخر فعله، فيكون ذلك ناسخاً للإسفار بها

(1)

.

واعترض عليه: بأن كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس صحيح، لكن الحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة فأسفر بها ثم لم يعد إلى ذلك حتى الموت، فهو زيادة من أحد الرواة لم يذكره الأكثرون، وهو متكلم فيه

(2)

، ثم هذه الزيادة تخالف أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى غير مرة

(1)

انظر: الاعتبار ص 271؛ مجموع الفتاوى 22/ 96؛ نصب الراية 1/ 240.

(2)

راجع تخريج هذا الحديث وكلام أهل العلم على راويه أسامة بن زيد الليثي.

ص: 653

بالإسفار، ومن تلك الأحاديث:

أ- عن رافع بن خديج رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «يا بلال نور بصلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم

(1)

من الإسفار»

(2)

.

ب- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في أوقات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: «ويصلي الصبح إلى أن ينفسح البصر»

(3)

.

(1)

النبل السهام العربية. انظر: مختار الصحاح ص 566؛ المصباح المنير ص 591.

(2)

أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده -منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود-ص 74، وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 238:(روى ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهوية، وأبو داود الطياللسي في مسانيدهم، والطبراني في معجمه .. ) فذكره. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 321: رواه الطبراني في الكبير -ثم ذكر رواية ثانية، ثم قال: -وهما من رواية هرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج، وقد ذكرهما ابن أبي حاتم ولم يذكر في أحد منهما جرحاً ولا تعديلاً، قلت: وهرير ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن أبيه). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1/ 284 - بعد ذكر الحديث من طريق أبي داود الطيالسي-: (قلت: هذا إسناد صحيح إن شاء الله تعالى، فإن هرير بن عبد الرحمن ثقة كما روى ابن أبي حاتم عن ابن معين).

(3)

أخرجه النسائي في سننه ص 94، كتاب الصلاة، باب آخر وقت الصبح، ح (552)، وأبو داود الطيالسي في مسنده -منحة المعبود-ص 69، -ولفظه:(والصبح من طلوع الفجر إلى أن ينفسح البصر) - وأحمد في المسند 19/ 322. قال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 280: (وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير أبي صدقة هذا واسمه توبة الأنصاري البصري، أورده ابن حبان في الثقات .. ) ثم قال ولحديث أنس هذا طريق أخرى أخرجه السراج في مسنده -فذكر سنده ومتنه وفيه: - (وكان يصلي الغداة إذا طلع الفجر حين ينفسح البصر، فما بين ذلك صلاته) ثم قال الشيح: (وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات).

وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 239: (حديث آخر يبطل تأويلهم، رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب غريب الحديث-فذكر سنده إلى أن قال: - سمعت أنساً يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر) انتهى، قال: فقال: فسح البصر، وانفسح: إذا رأى الشيء عن بعد، يعني به إسفار الصبح، انتهى.

ص: 654

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الأفضل من التغليس والإسفار بصلاة الصبح على قولين:

القول الأول: أن الأفضل هو الإسفار بصلاة الفجر، وهو أن يبدأ بها بالإسفار، ويختم بها في الإسفار.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، ورواية عن الإمام أحمد

(2)

، وروي نحو ذلك عن على ابن أبي طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما

(3)

.

وبه قال إبراهيم النخعي، وطاوس، وسعيد بن جبير، والثوري،

(1)

انظر: الأصل 1/ 146؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 195؛ مختصر القدوري ص 23؛ الهداية وشرحه العناية 1/ 225؛ فتح القدير 1/ 226؛ اللباب للمنبجي 1/ 179.

(2)

انظر: شرح الزركشي 1/ 264؛ الإنصاف 3/ 166.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 148؛

ص: 655

والحسن بن حي

(1)

.

القول الثاني: أن الأفضل هو التغليس بها، يبدأها بغلس، ويخرج منها بغلس.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

.

وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي موسى الأشعري، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وعائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهم

(5)

.

وبه قال: عروة بن الزبير، وعمر بن عبدالعزيز، والليث بن سعد،

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 195؛ التمهيد 1/ 130، 139، 148.

(2)

انظر: التمهيد 1/ 130، 141؛ بداية المجتهد 1/ 192؛ جامع الأمهات ص 81؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 42.

(3)

انظر: الأم 1/ 156؛ التنبيه للشيرازي ص 30؛ العزيز 1/ 381؛ المجموع 3/ 39؛ روضة الطالبين ص 84.

(4)

انظر: المغني 2/ 44؛ الشرح الكبير 3/ 166؛ الممتع 1/ 345؛ شرح الزركشي 1/ 264؛ الإنصاف 3/ 166؛ منار السبيل 1/ 65.

(5)

انظر: الاعتبار ص 272؛ المغني 2/ 44؛ المجموع 3/ 39.

ص: 656

والأوزاعي، وإسحاق، وداود الظاهري

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأدلة التي استدل بها للقول بنسخ التغليس.

ثانياً: حديث رافع بن خديج، وأنس بن مالك، وقد سبق ذكرهما

(2)

.

ثالثاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاتها»

(3)

.

والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى في غير وقتها المعتاد، وليس المراد أنه صلى الفجر قبل طلوع الفجر، بل إنما غلس بها، فيدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسفر بالفجر، وقلما صلاها بغلس

(4)

.

واعترض عليه: بأن المراد أنه غلس بها جداً، مخالفا للتغليس المعتاد، وليس المراد أنه كان يسفر في غير هذا اليوم

(5)

.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 141؛ الاعتبار ص 272.

(2)

سبق ذكرهما في الاعتراض على قول من قال أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل مسفراً إلا مرة واحدة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 334، كتاب الحج، باب متى يصلي الفجر بجمع، ح (1682)، ومسلم في صحيحه 3/ 413، كتاب الحج، باب استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر، ح (1289)(292).

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 178؛ نصب الراية 1/ 239؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 413.

(5)

انظر: المجموع 3/ 41؛ فتح الباري 3/ 646.

ص: 657

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أنها تدل على تفضيل الإسفار؛ حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وبين أنه أعظم للأجر، وعمل به الصحابة رضي الله عنهم

(1)

.

واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التغليس، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوم إلا على ما هو الأفضل

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أن التغليس بها أفضل-بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأدلة التي استُدل بها للقول بنسخ الإسفار بصلاة الصبح.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدثه: «أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلى الصلاة» قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين، يعني آية)

(3)

.

ثالثاً: عن سهل بن سعد رضي الله عنه يقول: (كنت أتسحر في أهلي، ثم يكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 178 - 184؛ فتح القدير 1/ 225 - 226؛ اللباب للمنبجي ص 179 - 181.

(2)

انظر: التمهيد 1/ 141؛ الاعتبار ص 270؛ المغني 2/ 44.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 118، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، ح (575)، ومسلم في صحيحه 3/ 169، كتاب الصيام، باب فضل السحور، ح (1097)(47).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، ح (577).

ص: 658

رابعاً: عن مغيث بن سميّ

(1)

قال: صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلم أقبلت على ابن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: «هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما طعن عمر أسفر بها عثمان»

(2)

.

ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم غلس بها، وداوم على ذلك، وكذلك أبو بكر وعمر-رضي الله عنهما ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتون الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل، فثبت من ذلك أن الأفضل هو التغليس بها

(3)

.

واعترض عليه: بأن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التغليس بها معارض بأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها كذلك مسفراً بها، ومنها ما

(1)

هو: مغيث بن سميّ الأوزاعي، أبو أيوب الشامي، ثقة، روى عن: عمر، وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: زيد بن واقد، وعاصم بن بهدلة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 229؛ التقريب 2/ 205.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 129، كتاب الصلاة، باب وقت الفجر، ح (671)، والطحاوي في شرح معاني

الآثار 1/ 176، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 668. قال عنه البخاري:(حديث حسن). وقال الشيخ الألباني: (إسناده صحيح). انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 668؛ المجموع 3/ 40؛ إرواء الغليل 1/ 279.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 141؛ الاعتبار ص 270؛ المجموع 3/ 39، 40.

ص: 659

استُدل بها للقول الأول

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: أنه يجوز التغليس والإسفار بصلاة الصبح؛ لأن الكل وقت للفجر.

ثانياً: أن الأحاديث الدالة على التغليس وأن ذلك كان غالب أحواله صلى الله عليه وسلم، أكثر، وأقوى وأصح

(2)

.

ثالثاً: أن الإسفار بصلاة الصبح فيه كذلك أحاديث صحيحة

(3)

، وهي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على التغليس بحيث لم يكن يعرف بعضهم بعضاً، ويؤيد ذلك حديث أبي برزة الأسلمي

(4)

رضي الله عنه، وفيه:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة»

(5)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 177 - 180؛ إرواء الغليل 1/ 280.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى 22/ 95.

(3)

راجع تخريج أحاديث الإسفار بصلاة الصبح في هذا المسألة.

(4)

هو: نضلة بن عبيد الأسلمي، أبو برزة، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه مغيرة، وأبو عثمان النهدي، وغيرهما، وتوفي بعد سنة خمس وستين. انظر: الإصابة 3/ 1997؛ تهذيب التهذيب 10/ 399؛ التقريب 2/ 247.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 112، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال، ح (541)،

ومسلم في صحيحه -ولفظه: (وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض) - 2/ 282، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح، ح (647)(237). وكذلك أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 178، واستدل به للقول بالإسفار.

ص: 660

رابعاً: أن القول بأن التغليس بصلاة الصبح منسوخ، مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بغلس. ولا يوجد دليل يدل على أن الأمر بالإسفار كان بعد ما كان يغلس بها، وأنه لم يغلس بها بعد ذلك.

خامساً: أن القول بأن الإسفار بها منسوخ بالتغليس بها، له وجه واحتمال، لكنه ضعيف؛ وذلك لأن الحديث الدال على ذلك هو حديث أبي مسعود رضي الله عنه الذي فيه: «

وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر». حيث إن في الاستدلال منه على النسخ يلزم القول بنسخ التغليس أولاً؛ لأن الإسفار جاء بعده، ثم نسخ الإسفار بالتغليس ثانياً، ولا قائل بذلك.

كما أن الزيادة المذكورة فيه والتي يُستدل منها على النسخ، زيادة من أحد الرواة قد تُكلم فيه، ثم هي مخالفة للأحاديث الدالة على الإسفار

(1)

.

سادساً: ومن مجموع ما سبق يتبين أن التغليس بها أولى في أغلب الأحوال اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان أغلب أحواله التغليس، وكان أحياناً ينصرف منها حين تتميز الوجوه و تتعارف

(2)

.

والله أعلم.

(1)

راجع الاعتراض على الاستدلال على نسخ الإسفار بصلاة الصبح.

(2)

انظر: إرواء الغليل 1/ 280.

ص: 661

‌المطلب الرابع: تعجيل الظهر في شدة الحر

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث الذي يدل على تعجيل الظهر في شدة الحر منسوخ بالإبراد بها. وممن صرح بالنسخ: الأثرم

(1)

، والطحاوي

(2)

، والبيهقي

(3)

، والنووي

(4)

. ويدل عليه كلام الإمام أحمد، وابن حجر-رحمهما الله-

(5)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف الأحاديث الواردة فيها

(6)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح

(7)

جهنم»

(8)

.

(1)

انظر قوله في: التلخيص الحبير 1/ 182؛ نيل الأوطار 1/ 305.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 188.

(3)

انظر: السنن الكبرى 1/ 645.

(4)

انظر: المجموع 3/ 45.

(5)

قال ابن حجر في فتح الباري 2/ 21 - بعد ذكر الحديث الدال على تعجيل الظهر في شدة الحر-: (أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه) وقال بعد ذكر الحديث الذي يستدل منه على النسخ: (ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانظر: نيل الأوطار 1/ 305.

(6)

انظر: بداية المجتهد 1/ 185.

(7)

الفيح: سطوع الحر، وفورانه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 403؛

(8)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 111، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (534).

ص: 662

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن

للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبرد» ثم أراد أن يؤذن فقال له: «أبرد» حتى رأينا فيء التلول. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة»

(2)

.

رابعاً: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم»

(3)

.

خامساً: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة

(4)

، فقال لنا: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 112، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (536)، ومسلم في صحيحه 2/ 260، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (615)(180).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 112، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في السفر، ح (539)، ومسلم في صحيحه 2/ 261، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (616)(184).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 112، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (538).

(4)

الهاجرة والهجير: اشتداد الحر نصف النهار. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 894.

ص: 663

جهنم»

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على الإبراد بالظهر في شدة الحر، وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يدل أن الأمر بالإبراد بالظهركان بعد كون صلاة الظهر بالهاجرة، فثبت من ذلك نسخ تعجيل الظهر في شدة الحر بالإبراد بها، وأن الأحاديث الدالة

على الإبراد بالظهر متأخرة عن الأحاديث الدالة على التعجيل بها

(2)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 130، كتاب الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ح (680)، وأحمد في المسند 30/ 123، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 187، وابن حبان في صحيحه ص 494، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 645، وقال:(قال أبو عيسى الترمذي فيما بلغني عنه: سألت محمدأ يعني البخاري عن هذا الحديث فعده محفوظاً، وقال: رواه غير شريك عن بيان عن قيس عن المغيرة قال: كنا نصلي الظهر بالهاجرة، فقيل لنا: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. رواه أبو عيسى عن عمر بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن بيان كما قال البخاري) وقال ابن حجر في الفتح 2/ 21: (وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في التلخيص للحبير 1/ 181: (وحديث المغيرة رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان، وتفرد به إسحاق الأزرق عن شريك عن طارق عن قيس عنه، وفي رواية للخلال: وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد، وسئل البخاري عنه فعده محفوظاً، وذكر الميموني عن أحمد أنه رجح صحته، وكذا قال أبو حاتم الرازي: هو عندي صحيح، وأعله ابن معين). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 130.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 187، 188؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 645؛ المجموع 3/ 45؛ فتح الباري

2/ 21؛ نيل الأوطار 1/ 305.

ص: 664

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يستحب الإبراد بالظهر في شدة الحر، وهو أن يؤخر الظهر إلى أن يبرد الوقت، وينكسر الحر.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والحنابلة

(2)

، وقول للإمام مالك

(3)

، وقول إسحاق، وابن المنذر، وجمهور أهل العلم

(4)

.

القول الثاني: يستحب الإبراد بالظهر في شدة الحر في مساجد الجماعات، أما الفذ أو من يصلي في غير مساجد الجماعات فيستحب له الصلاة في أول وقتها.

وهو مذهب المالكية

(5)

، والشافعية

(6)

، ووجه عند الحنابلة

(7)

.

(1)

انظر: الأصل 1/ 146؛ شرح معاني الآثار 1/ 189؛ مختصر القدوري ص 23؛ الاختيار 1/ 40.

(2)

انظر: المغني 2/ 35؛ عمدة الفقه لابن قدامة ص 15؛ الشرح الكبير 3/ 136؛ شرح الزركشي 1/ 261؛ الإنصاف 3/ 134؛ الإقناع 1/ 126.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 260؛ الاستذكار 1/ 136.

(4)

انظر: المغني 2/ 35؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 261؛ الشرح الكبير للمقدسي 3/ 136؛ فتح الباري 2/ 20.

(5)

انظر: التمهيد 1/ 260؛ الاستذكار 1/ 136؛ بداية المجتهد 1/ 185؛ جامع الأمهات ص 81؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 2/ 42.

(6)

انظر: الأم 1/ 152؛ مختصر المزني ص 23؛ العزيز 1/ 379؛ المجموع 3/ 45؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج

1/ 126.

(7)

انظر: المغني 2/ 36؛ الشرح الكبير 3/ 137؛ الممتع 1/ 337؛ شرح الزركشي 1/ 261؛ الإنصاف 3/ 133.

ص: 665

القول الثالث: يستحب التعجيل بصلاة الظهر في جميع الأوقات.

وهو قول الليث بن سعد

(1)

.

الأدلة

أما القول الأول- وهو استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر- فيُستدل له:

أ- بالأحاديث التي استُدل بها للقول بنسخ تعجيل الظهر في شدة الحر.

ب- عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة»

(2)

.

ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث فيها الأمر بإبراد الظهر في شدة الحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبرد بها إذا اشتد الحر، فيكون الإبراد بها مستحباً لهذه الأحاديث، ولا يجب لأن الكل وقت لهذه الصلاة

(3)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو استحباب التعجيل بالظهر إلا لمن يصلي في مساجد الجماعات- بما يلي:

أولاً: أما استحباب الإبراد بها في مساجد الجماعات فللأحاديث السابقة

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 195؛ التمهيد 1/ 260.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 179، كتاب الجمعة، باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة، ح (906).

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 186؛ التمهيد 1/ 259؛ المغني 2/ 35؛ فتح الباري 2/ 20، 21.

ص: 666

التي جاء فيها الأمر بالإبراد في شدة الحر.

ثانياً: وأما استحباب تعجيلها لغير مساجد الجماعات؛ فلأنه لا أذى عليهم من حرها

(1)

.

واعترض عليه: بأن الأحاديث التي فيها الأمر بالإبراد عامة، وليس فيها ما يخصصها بمساجد الجماعات، فالقول بعمومها وإطلاقها أولى

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو تعجيل الظهر في جميع الأوقات- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن خباب

(3)

رضي الله عنه قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم

يشكنا»

(4)

.

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر: الأم 1/ 152؛ المغني 2/ 37.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 189؛ المجموع 3/ 45؛ فتح الباري 2/ 21.

(3)

هو: خباب بن الأرت-بتشديد المثناة- بن جندلة بن سعد، التميمي، أبو عبد الله، أسلم قديماً، وشهد بدراً

وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو أمامة، ومسروق، وغيرهما، ونزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين. انظر: الإصابة 1/ 473؛ تهذيب التهذيب 3/ 120؛ التقريب 1/ 266.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 263، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر، ح (619)(190).

ص: 667

بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي برزة رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة، وكان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة رجع والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب

(2)

ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: إلى شطر الليل)

(3)

.

رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس»

(4)

.

خامساً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت

(5)

الشمس»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 113، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال، ح (542)، ومسلم في صحيحه 2/ 263، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر، ح (620)(191).

(2)

هذا قول أبي المنهال الراوي عن أبي برزة رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه في ص 433.

(4)

سبق تخريجه في ص 428.

(5)

دحضت الشمس: أي زالت عن وسط السماء إلى جهة الغرب، كأنها دحضت أي: زلقت. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 556.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 262، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر، ح (618)(188).

ص: 668

ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث تدل على تعجيل الظهر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل بها، وحديث خباب رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكهم لما شكوا إليه حرّ الرمضاء، فثبت من ذلك أن التعجيل بها أفضل مطلقاً

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ- بأن هذه أحاديث عامة، وأحاديث الإبراد أحاديث خاصة، والخاص مقدم على العام، فتكون هذه الأحاديث مخصصة بها

(2)

.

ب- أن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث الإبراد؛ لأنها متأخرة عنها

(3)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو استحباب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر، وذلك لما يلي:

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 186؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 261؛ فتح الباري 2/ 21.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 21.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 188؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 261؛ فتح الباري 2/ 21.

ص: 669

أولاً: لأن الأحاديث الدالة على التعجيل بها في شدة الحر منسوخة؛ لأن مع الأحاديث الدالة على الإبراد بها في شدة الحر ما يدل على تأخرها، وأن الأمر بالإبراد كان بعد ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجل بها ويصليها بالهاجرة؛ حيث جاء في إحدى طرق رواية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالهجير، ثم قال:«إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة»

(1)

.

و (ثم) يدل على الترتيب مع التراخي

(2)

، فثبت منه أن الأمر بالإبراد بها متأخر عن التعجيل بها في شدة الحر

(3)

.

كما أنه جاء في رواية: (وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد)

(4)

. وهذا ظاهر في

تأخر الأمر بالإبراد بها، ونسخ التعجيل بها.

ثانياً: ولأن من الذين رووا تعجيل الظهر أنس رضي الله عنه، وقد جاء عنه مفسراً في رواية أخرى، وهو قوله:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة»

(5)

.

فدل ذلك أن تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم بالظهر إنما كان في غير شدة الحر، أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجل بها مطلقاً ثم أبرد بها في شدة الحر.

والله أعلم.

(1)

بهذا اللفظ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 187.

(2)

انظر: الإحكام للأمدي 1/ 62؛ أصول الفقه الإسلامي للزحيلي 1/ 384.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 21.

(4)

وهذا عده البخاري محفوظاً. ورجح أحمد صحته، وصححه أبو حاتم الرازي. انظر: التلخيص الحبير

1/ 181؛ نيل الأوطار 1/ 305.

(5)

سبق تخريجه في ص 438.

ص: 670

‌المطلب الخامس: صلاة المغرب هل لها وقت واحد أو وقتان

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأحاديث الدالة على أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد عند مغيب الشمس منسوخة بالأحاديث الدالة على أن وقتها موسع، يبتدأ بغروب الشمس، وينتهي بغروب الشفق

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: ابن قدامة

(2)

، وشيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، وأبو إسحاق الجعبري

(4)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي له هو تعارض الأحاديث الواردة فيها

(5)

.

ويستدل للقول بالنسخ بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق

(6)

، ووقت صلاة

(1)

انظر: الشرح الكبير 3/ 154؛ كشاف القناع 1/ 300.

(2)

انظر: المغني 2/ 25.

(3)

انظر: شرح العمدة له 2/ 148.

(4)

انظر: رسوخ الأحبار بمنسوخ الأخبار ص 228.

(5)

انظر: بداية المجتهد 1/ 189؛ المغني 2/ 25؛ شرح العمدة 2/ 173.

(6)

الشفق من الأضداد، يقع على الحمرة التي ترى في المغرب بعد مغيب الشمس، وعلى البياض الباقي في الأفق الغربي بعد الحمرة المذكورة. وأكثر أهل اللغة على أن الشفق هو الحمرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 879؛ المصباح المنير ص 318.

ص: 671

العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان»

(1)

.

ثانياً: عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال له: «صل معنا هذين يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأبرد بها فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 256، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، ح (612)(173).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 257، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، ح (613)(176).

ص: 672

لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس والقائل يقول قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام بالعشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال:«الوقت بين هذين»

(1)

.

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وأن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن

آخر وقتها حين تطلع الشمس»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 259، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، ح (614)(178).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه ص 48، كتاب مواقيت الصلاة، باب منه، ح (151)، وأحمد في المسند 12/ 94، والدارقطني في سننه 1/ 262، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 552، وابن حزم في المحلى 2/ 202. قال الترمذي بعد ذكر الحديث عن البخاري أنه قال:(وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن فضيل) وقال الدارقطني: (هذا لا يصح مسنداً، وهم في إسناده ابن فضيل، وغيره يرويه عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً)، وذكر البيهقي أن يحيى بن معين ضعف حديث محمد بن فضيل وقال:(رواه الناس كلهم عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً).

وخلاصة هذه الأقوال: أن هذا الحديث رواه محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. وغيره رواه عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً.

وهذا التعليل رده بعض أهل العلم، قال ابن حزم بعد ذكر الحديث وما عللوه به:(وهذا أيضا دعوى كاذبة بلا برهان، وما يضر إسناد من أسند إيقاف من أوقف) ثم قال: (وهذه أحاديث صحاح بأسانيد جياد من رواية الثقات). وقال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 250: (قلنا: ابن فضيل ثقة، فيجوز أن يكون الأعمش قد سمعه من مجاهد مرسلاً، وسمعه من أبي صالح مسنداً) ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 231 عن ابن القطان أنه قال: (ولا يبعد أن يكون عند الأعمش في هذا طريقان: إحداهما: مرسلة، والأخري: مرفوعة، والذي رفعه صدوق من أهل العلم، وثقه ابن معين، وهو محمد بن فضيل). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 174: (ورواه الحاكم من طريق أخرى عن محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع أبا هريرة، وقال: صحيح الإسناد). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 48.

ص: 673

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث في المواقيت بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهي تدل على أن المغرب وقتها ممتد من غروب الشمس إلى غيبوبة الشفق، فيكون للمغرب وقتان: وقت بداية وهو غروب الشمس، ووقت نهاية وهو غيبوبة الشفق.

فتكون هذه الأحاديث ناسخة للأحاديث التي تدل على أن جبريل عليه

ص: 674

السلام صلى المغرب برسول الله في اليومين في وقت واحد عند غروب الشمس؛ لأن تلك الأحاديث كانت في أول فرض الصلاة بمكة قبل الهجرة

(1)

.

هذا كان القول بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صلاة المغرب هل هي ذات وقت أو وقتين على قولين:

القول الأول: أن لصلاة المغرب وقتان: أول وهو غروب الشمس، وآخر وهو أن يغيب الشفق.

وهو مذهب الحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

، وقول للإمام مالك

(4)

، وقول قديم للإمام الشافعي اختاره جماعة من الشافعية

(5)

.

(1)

انظر: المغني 2/ 25؛ شرح العمدة 2/ 148، 173؛ رسوخ الأحبار ص 228.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 155؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 194؛ مختصر القدوري ص 23؛ الهداية و شرحه فتح القدير 1/ 221.

(3)

انظر: المغني 2/ 24؛ المقنع وشرحه الممتع 1/ 341؛ الشرح الكبير 3/ 152؛ شرح الزركشي 1/ 253؛ الإنصاف 3/ 152.

(4)

انظر: بداية المجتهد 1/ 189؛ عقد الجواهر 1/ 80؛ جامع الأمهات ص 80.

(5)

انظر: الوجير وشرحه العزيز 1/ 370؛ روضة الطالبين ص 83؛ المجموع 3/ 25، 26.، وقال النووي في المجموع 3/ 26: (وصحح جماعة القديم وهو أن لها وقتين، ممن صححه من أصحابنا أبو بكر بن خزيمة، وأبو سليمان الخطابي وأبو بكر البيهقي والغزالي في إحياء علوم الدين، وفي درسه والبغوي في التهذيب، ونقله الروياني في الحلية عن أبي ثور والمزني وابن المنذر، وأبي عبد الله الزبيري قال: وهو المختار، وصححه أيضاً العجلي والشيخ أبو عمر بن الصلاح، قلت: هذا القول هو الصحيح لأحاديث صحيحة).

ص: 675

وبه قال الثوري، وإسحاق، والحسن بن حي، وأبو ثور، وداود، وابن حزم

(1)

.

القول الثاني: أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد وهو أول الوقت.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، وقول ابن المبارك

(4)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أن لصلاة المغرب وقتان-بأدلة منها ما ذكر في الاستدلال للقول بالنسخ.

ووجه الاستدلال منها: هو أن تلك الأحاديث ذكر فيها أول وقت المغرب، وهو غروب الشمس، وآخر وقت المغرب، وهو غروب الشفق، فدل ذلك أن

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 194؛ المحلى 2/ 202؛ بداية المجتهد 1/ 189؛ المغني 2/ 24.

(2)

انظر: المدونة 1/ 60؛ النوادر والزيادات 1/ 153؛ رسالة ابن أبي زيد القيرواني وشرحه فواكه الدواني 1/ 261، 262؛ الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 202؛ بداية المجتهد 1/ 188.

(3)

انظر: الأم 1/ 154؛ مختصر المزني ص 21؛ العزيز 1/ 370؛ المجموع 3/ 26؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 257.

(4)

انظر: سنن الترمذي ص 51.

ص: 676

صلاة المغرب لها وقتان كسائر الصلوات

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن صلاة المغرب لها وقت واحد- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين: فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي-يعني المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت بين هذين الوقتين»

(2)

.

(1)

انظر: الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 221؛ المغني 2/ 24؛ المجموع 3/ 26.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 68، كتاب الصلاة، باب في المواقيت، ح (393)، والترمذي في سننه ص 47، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ح (149)، والشافعي في الأم 1/ 150، وابن الجارود في المنتقى ص 67، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 147، والدارقطني في سننه 1/ 258، والحاكم في المستدرك 1/ 306، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 535. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وابن عبد البر، وابن العربي، والنووي، والذهبي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 48؛ المستدرك 1/ 306؛ المجموع 3/ 25؛ التلخيص الحبير 1/ 173؛ إرواء الغليل 1/ 268.

ص: 677

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل عليه السلام جاءكم يعلمكم دينكم، فصلى الصبح حين طلع الفجر، وصلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين رأى الظل مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب شفق الليل، ثم جاءه الغد فصلى به الصبح حين أسفر قليلاً، ثم صلى به الظهر حين كان الظل مثله، ثم صلى العصر حين كان الظل مثليه، ثم صلى المغرب بوقت واحد حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب ساعة من الليل، ثم

قال: الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم»

(1)

.

ثالثاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فقال: «قم فصله» فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال:«قم فصله» فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، -أو قال: صار ظله مثله- ثم جاءه المغرب فقال: «قم فصله» فصلى حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء، فقال:«قم فصله» فصلى حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر فقال:«قم فصله» فصلى حين برق الفجر- أو قال: حين سطع الفجر-، ثم جاءه في الغد للظهر، فقال:

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 86، كتاب المواقيت، باب آخر وقت الظهر، ح (502)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 147، والدارقطني في سننه 1/ 261، والحاكم في المستدرك 1/ 307. وصححه الحاكم، وابن السكن، والذهبي، وحسنه الترمذي، وابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: المستدرك 1/ 307؛ التلخيص الحبير 1/ 173؛ إرواء الغليل 1/ 269.

ص: 678

«قم فصله» فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه للعصر، فقال:«قم فصله» فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه للمغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه، ثم جاء للعشاء، حين ذهب نصف الليل-أو قال: ثلث الليل- فصلى العشاء، ثم جاءه للفجر حين أسفر جداً فقال:«قم فصله» فصلى الفجر، ثم قال:«ما بين هذين وقت»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث فيها أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين في وقت واحد عند غروب الشمس، فلو كان لها وقتان لصلى به فيهما، كما فعله في سائر الصلوات

(2)

.

واعترض عليه: بأنه يمكن أن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك لبيان وقت الاختيار والاستحباب، لا لبيان وقت الجواز، ولا خلاف في أن تعجيل المغرب في أول وقتها أفضل

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه ص 48، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ح (150)، والنسائي في سننه ص 87، كتاب المواقيت، باب آخر وقت العصر، ح (513)، وأحمد ي المسند-واللفظ له-22/ 409، وابن حبان في صحيحه ص 487، والدارقطني في سننه 1/ 256، والحاكم في المستدرك 1/ 310، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 541. وصححه الترمذي، والحاكم، والذهبي، والشيخ الألباني، وقال البخاري: هو أصح حديث في المواقيت. انظر: سنن الترمذي ص 48؛ المستدرك للحاكم 1/ 310؛ إرواء الغليل 1/ 271.

(2)

انظر: الأم 1/ 154؛ الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 202؛ العزيز 1/ 370.

(3)

انظر: المغني 2/ 25؛ المجموع 3/ 26، 42؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 257.

ص: 679

الراجح

بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي -والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو أن لصلاة المغرب وقتان كما هو قول جمهور أهل العلم، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن الأحاديث الدالة على ذلك صريحة الدلالة، وهي أصح وأقوى وأكثر، بخلاف ما يخالفها، فإنها ليست في درجتها

(1)

.

ثانياً: ولأن حديث جبريل عليه السلام والذي يُستدل منه على أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقتا واحدا، لا يخلو من أمرين:

أ- إما أن يكون المراد منه بيان وقت الاختيار والاستحباب، وعليه فلا تعارض بينه وبين الأحاديث الدالة على أن آخر وقت المغرب غروب الشفق، لأن ذلك إنما جاءت لبيان الجواز، أما الأفضل فهو تعجيل المغرب بلا خلاف

(2)

.

ب- وإما أن يكون المراد منه بيان وقت الجواز، وعليه فيكون منسوخاً؛ لأنه كان بمكة عند أول فرض الصلاة، والأحاديث الدالة على أن آخر وقت المغرب غروب الشفق متأخرة؛ حيث جاءت في المدينة بعد الهجرة، فوجب تقديمها في العمل

(3)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المغني 2/ 25؛ الشرح الكبير 3/ 153؛ المجموع 3/ 26؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 257.

(2)

انظر: المغني 2/ 25؛ المجموع 3/ 26، 42.

(3)

انظر: المغني 2/ 25؛ المجموع 2/ 26؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 257؛ شرح العمدة لابن تيمية 2/ 148؛ رسوخ الأحبار ص 228.

ص: 680

‌المطلب السادس: آخر وقت صلاة العشاء الآخرة

ذهب داود بن علي الظاهري إلى أن آخر وقت صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأن توقيته بغير ذلك منسوخ

(1)

.

وقد تبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف الفقهاء في المسألة هو اختلاف الأحاديث الواردة فيها

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بأدلة منها ما يلي:

أولاً: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين-إلى قوله: -وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت بين هذين الوقتين»

(3)

.

ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل عليه السلام جاءكم يعلمكم دينكم، -إلى قوله: - ثم صلى العشاء حين ذهب شفق الليل، ثم جاءه الغد فصلى به الصبح حين أسفر قليلاً، ثم صلى به الظهر حين

(1)

انظر قوله في: بداية المجتهد 1/ 191، 192.

(2)

انظر: بداية المجتهد 1/ 191؛ عقد الجواهر 1/ 81.

(3)

سبق تخريجه في المسألة السابقة ص 446.

ص: 681

كان الظل مثله، ثم صلى العصر حين كان الظل مثليه، ثم صلى المغرب بوقت واحد حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب ساعة من الليل، ثم قال: الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» الحديث

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهما يدلان على انتهاء وقت العشاء قبل انتصاف الليل، وحديث أبي قتادة رضي الله عنه يدل على امتداد وقت الصلاة إلى وقت التي تليها، وهو عام في جميع الصلوات، فثبت منه أن آخر وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل عليه السلام، فيكون ناسخاً لما يدل عليه حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيره-رضي الله عنهم-من انتهاء وقت صلاة العشاء قبل انتصاف الليل

(3)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: بأنه لاشك أن حديث أبي قتادة رضي الله عنه بعد حديث إمامة جبريل عليه السلام، لكن جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، وجاء في غير ما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء إلى نصف

(1)

سبق تخريجه في المسألة السابقة ص 447.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 312، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (681)(311).

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 192.

ص: 682

الليل، ولا دليل يدل على أن حديث أبي قتادة رضي الله عنه بعد تلك الأحاديث.

ثانياً: أنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل الأحاديث الدالة على تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، أو إلى نصف الليل على أنها لبيان وقت الاختيار والأفضل، وحمل حديث أبي قتاة رضي الله عنه على بيان وقت الجواز والضرورة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في آخر وقت صلاة العشاء على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن آخر وقت صلاة العشاء ينتهي بطلوع الفجر، إلا أنه يكره تأخيرها إلى طلوع الفجر من غير عذر وضرورة.

وهو قول الحنفية

(2)

، ............................................................

والمالكية

(3)

، والشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

.

والقول بأن آخر وقتها إلى طلوع الفجر مروي عن: ابن عباس وأبي

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 157؛ المجموع 3/ 31؛ المغني 2/ 27.

(2)

انظر: الأصل 1/ 146؛ 159؛ المبسوط 1/ 148، 151؛ مختصر القدوري ص 23؛ الهداية وشرحه فتح

القدير 1/ 222، 223.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 128؛ الكافي لابن عبد البر ص 35؛

(4)

الأوسط 2/ 243؛ الوجيز وشرحه العزيز 1/ 372؛ المجموع 3/ 31؛ روضة الطالبين ص 84.

(5)

انظر: المغني 2/ 29؛ الكافي 1/ 209؛ الشرح الكبير 3/ 160؛ الفروع 1/ 432؛ الإنصاف 3/ 161؛ الإقناع 1/ 128.

ص: 683

هريرة-رضي الله عنهما، وعطاء، وطاوس، وعكرمة

(1)

.

القول الثاني: أن آخر وقت العشاء إلى ثلث الليل.

وهو قول للإمام الشافعي

(2)

، وروي ذلك عن عمر، وأبي هريرة-رضي الله عنهما. وقال به عمر بن عبد العزيز

(3)

.

وثلث الليل هو آخر الوقت المختار للعشاء في المذهب عند الحنفية

(4)

، والمالكية

(5)

، و الشافعية

(6)

، والحنابلة

(7)

.

(1)

انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 582 - 584؛ الأوسط 2/ 345، 346؛ شرح معاني الآثار 1/

(2)

انظر: الأم 1/ 156؛ مختصر المزني ص 21؛ الأوسط 2/ 343؛ العزيز 1/ 372؛ المجموع 3/ 31.

(3)

انظر: الأوسط 2/ 343.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 157؛ مختصر الطحاوي ص 24؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 194؛ المبسوط 1/ 151؛ مختصر القدوري ص 24؛ الهداية 1/ 228؛ الاختيار 1/ 40.

(5)

انظر: الإشراف 1/ 203؛ الكافي ص 35؛ عقد الجواهر 1/ 103؛ مواهب الجليل 2/ 32؛ الشرح الكبير 1/ 291.

(6)

انظر: التعليقة الكبرى 2/ 609؛ الحاوي 2/ 25؛ المهذب 1/ 186؛ التهذيب 2/ 10؛ حلية العلماء 2/ 19؛ العزيز 1/ 372؛ المجموع 3/ 32.

(7)

انظر: المغني 2/ 27؛ المحرر 1/ 28؛ الشرح الكبير 3/ 159؛ الممتع 1/ 343؛ شرح الزركشي 1/ 255؛ الإنصاف 3/ 158.

ص: 684

القول الثالث: أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل.

وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه. وبه قال الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن

حزم

(1)

.

ونصف الليل هو آخر وقت العشاء المختار في قول كل من الحنفية

(2)

، والشافعية

(3)

، و الحنابلة

(4)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- هو أن آخر وقت العشاء إلى طلوع الفجر- بما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» .

وهذا عام يدل على امتداد وقت كل صلاة إلى وقت التي تليها، إلا صلاة الفجر فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع لظهور وقتها

(5)

.

(1)

انظر: الأوسط 2/ 344؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 194؛ التمهيد 1/ 129؛ المحلي 2/ 198؛ المغني 2/ 28.

(2)

انظر: الأصل 1/ 146؛ شرح معاني الآثار 1/ 157؛ المبسوط 1/ 148.

(3)

انظر: التعليقة الكبرى 2/ 609؛ الحاوي 2/ 25؛ المهذب 1/ 186؛ حلية العلماء 2/ 18؛ العزيز 1/ 372؛ المجموع 3/ 31.

(4)

انظر: المغني 2/ 28؛ المحرر 1/ 28؛ شرح الزركشي 1/ 256؛ الإنصاف 3/ 158.

(5)

انظر: التمهيد 1/ 129؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 312؛ شرح العمدة لابن تيمية 2/ 179؛ نيل الأوطار 2/ 11.

ص: 685

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال:«قد صلى الناس وناموا. أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها»

(1)

.

ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: اعتم

(2)

النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل حتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى فقال:(إنه لوقتها لو لا أن أشق على أمتي)

(3)

.

رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل فقال: «خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا، فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولو لا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 118، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العشاء إلى نصف الليل، ح (572)، ومسلم في صحيحه 2/ 277، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، ح (640)(222).

(2)

أعتم أي دخل في العتمة، والعتمة من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول، وعتمة الليل ظلامه. انظر: مختار الصحاح ص 363؛ النظم المستعذب 1/ 53؛ المصباح المنير ص 392.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2// 276، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، ح (638)(219).

ص: 686

هذه الصلاة إلى شطر الليل»

(1)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث هو: أن حديث أبي سعيد رضي الله عنه يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بعد مضي شطر الليل، وحديث أنس رضي الله عنه يدل أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بعد مضي نصف الليل، وحديث عائشة رضي الله عنها يدل أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بعد مضي أكثر الليل، فثبت من هذا كله أن آخر وقت العشاء الآخرة إلى أن يمضي الليل كله- وإن كان فعلها في بعض الأوقات أفضل من بعض-، ويؤيد ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن آخر وقت العشاء إلى ثلث الليل- بما يلي:

أولاً: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، وفيه:«ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح فدعا السائل فقال: (الوقت بين هذين»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 72، كتاب الصلاة، باب وقت العشاء الآخرة، ح (422)، والنسائي في سننه ص 92، كتاب المواقيت، باب آخر وقت العشاء، ح (538)، وابن ماجة في سننه ص 132، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العشاء، ح (693)، والإمام أحمد في المسند 17/ 58، والبيهقي في السنن الكبري 1/ 552. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 72.

(2)

انظر: الأوسط 2/ 346؛ شرح معاني الآثار 1/ 158؛ شرح العمدة 2/ 179.

(3)

سبق تخريجه في ص 443.

ص: 687

ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج فقال:«ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم. قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول»

(1)

.

ثالثاً: حديث ابن عباس رضي الله عنه في إمامة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت بين هذين الوقتين»

(2)

.

رابعاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل، أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله، أو غير ذلك فقال حين خرج:«إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولو لا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة»

(3)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة هو: أن هذه الأحاديث تدل على أن آخر وقت العشاء هو ثلث الليل؛ لأن جبريل عليه السلام لما صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 117، كتاب مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غُلب، ح (569)،

وأخرجه النسائي بلفظ ( .. ثم قال: صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل). سنن النسائي ص 92، كتاب المواقيت، باب آخر وقت العشاء، ح (535).

(2)

سبق تخريجه في ص 446.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 276، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، ح (639)(220).

ص: 688

اليوم الثاني عند ثلث الليل، وذكر أن الوقت (بين هذين) أي بين الشفق وثلث الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم صلاها عند ثلث الليل، وبين أنه وقتها لو لم يكن في ذلك مشقة على الأمة، فثبت أن آخر وقتها ثلث الليل

(1)

.

واعترض عليه: بأن المراد بذلك بيان الوقت المختار، لا أنه آخر وقت الجواز؛ بدليل الأحاديث المذكورة في دليل القول الأول

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث-وهو أن آخر وقت العشاء نصف الليل- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: ما سبق ذكره من حديث أنس، وعائشة وأبي سعيد الخدري-رضي الله عنهم.

ثانياً: حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: «فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل»

(3)

.

ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث تدل على أن آخر وقتها نصف الليل، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه صريح في ذلك

(4)

.

(1)

انظر: الأوسط 2/ 343؛ التمهيد 1/ 129؛ نيل الأوطار 2/ 11.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 156، 157؛ المغني 2/ 27؛ المجموع 3/ 31.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 255، كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، ح (612)(171).

(4)

انظر: الأوسط 2/ 344؛ بداية المجتهد 1/ 191.

ص: 689

واعترض عليه: بأنه يمكن أن يكون المقصود بذلك بيان وقت الاختيار والفضيلة، لا أنه وقت جوازها الأخير، بدليل حديث أبي قتادة رضي الله عنه

(1)

.

الراجح

بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي - والله أعلم بالصواب- أن آخر وقت العشاء الآخرة يمتد إلى طلوع الفجر، ويكره تأخرها لغير عذر، وذلك لما يلي:

أولاً: لحديث أبي قتادة رضي الله عنه فإنه عام يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى وقت الأخرى، إلا أن الفجر مخصوص من ذلك بالإجماع

(2)

.

ثانياً: ولأن في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بعد نصف الليل، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بعد ما ذهب عامة الليل، وإذا كان خروجه صلى الله عليه وسلم بعد شطر الليل ونصف الليل، فيكون صلاته بعد نصف الليل ومضي أكثره، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك وقت لها، وإذا كان كذلك ثبت أن وقتها إلى طلوع الفجر، ويؤيد ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه

(3)

.

ثالثاً: أما القول بأن حديث أبي قتادة رضي الله عنه ناسخ للأحاديث الدالة على أن وقتها ثلث الليل أو نصف الليل، فليس هناك دليل يدل على أن حديث أبي

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 158؛ المغني 2/ 28؛ شرح العمدة 2/ 177.

(2)

انظر: الأوسط 2/ 346؛ نيل الأوطار 2/ 11.

(3)

انظر: الأوسط 2/ 346؛ شرح معاني الآثار 1/ 158.

ص: 690

قتادة رضي الله عنه بعد تلك الأحاديث؛ لأن ممن روى ثلث الليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو قدم المدينة سنة سبع من الهجرة، أما الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء إلى شطر الليل أو إلى نصف الليل فكل ذلك كانت بالمدينة، لذلك ليس هناك ما يدل على تأخر حديث أبي قتادة رضي الله عنه على تلك الأحاديث.

ثم يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وحديث أبي قتادة رضي الله عنه، وذلك بحمل هذه الأحاديث على بيان وقت الأفضل والاختيار، وحمل حديث أبي قتادة رضي الله عنه على بيان آخر الوقت، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة

(1)

، ولذلك لا يبقى أي احتمال للقول بالنسخ.

والله أعلم.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 156 - 158؛ التمهيد 1/ 129؛ العزيز 1/ 372؛ المغني 2/ 27، 28.

ص: 691

‌المطلب السابع: صلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين

ذهب الطحاوي إلى أن صلاة الفريضة كان جائزًا في أول الإسلام أن تُصلى في اليوم مرتين، ثم نُسخ ذلك ونُهي عنه

(1)

.

ولم أجد أحداً من أهل العلم من قال بجواز تكرار صلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين بحيث أن يؤدي كلتيهما على وجه الفرض، لذلك ليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف الفقهاء في المسألة، إلا أن الآثار التي يُستدل منها على النسخ مختلف في المقصود بها

(2)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن سليمان بن يسار-مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر على البلاط

(3)

وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»

(4)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ 364؛ 410.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 346؛ التمهيد 4/ 247؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 431.

(3)

البلاط: ضرب من الحجارة تفرش به الأرض، ثم سمي المكان بلاطاً اتساعاً، وهو موضع معروف بالمدينة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 156؛ المصباح المنير ص 60.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 96، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أيعيد؟، ح (579)، والنسائي في سننه-ولفظه:«لا تعاد الصلاة في يوم مرتين» ص 142، كتاب الإمامة، باب سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة، ح (860)، وأحمد في المسند 8/ 316، والطحاوي في شرح معاني الآثار-ولفظه:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تصلى فريضة مرتين» 1/ 316، وابن حبان في صحيحه ص 707، والدارقطني في سننه 1/ 416، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 341، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 431، وابن عبد البر في التمهيد 4/ 249. قال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني 1/ 416:(قال النووي في الخلاصة: إسناده صحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 96: (حسن صحيح).

ص: 692

ثانياً: عن خالد بن أيمن المعافري

(1)

قال: كان أهل العوالي يصلون في منازلهم، ويصلون

مع النبي صلى الله عليه وسلم، «فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين»

(2)

.

ويستدل منهما على النسخ: بأن النهي لا يكون إلا بعد الإباحة، فدل ذلك أن الفريضة الواحدة كانت تُصلى في اليوم مرتين، ثم نسخ ذلك

(3)

.

(1)

هو: خالد بن أيمن المعافري، يروي عن الشعبي، وروى عنه: عمرو بن شعيب، وعبد الله بن حبيب، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 3/ 139؛ الثقات لابن حبان 6/ 252.

(2)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 3/ 139، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 1/ 317، وقال بعد ما ذكره:(قال عمرو: قد ذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: صدق). وأخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 342، ولفظه:(أن ناساً كانت منازلهم بالعوالي، فكانوا ربما يصلون في منازلهم، ثم أدركوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاهم أن يصلوا صلاة في يوم مرتين). وذكر ابن حجر في الفتح 2/ 243: أنه مرسل.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316.

ص: 693

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

أما بقية أهل العلم فلم أجد من صرح بالنسخ، إلا أنهم لم يختلفوا -حسب ما اطلعت على أقوالهم- في أنه لا يُصلى مكتوبة في يوم مرتين

(1)

؛ وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي سبق بيانه.

والنهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين ثابت، سواء قيل بالنسخ أم لا، إلا أنه إن ثبت أنه كان يُصلى ذلك في أول الإسلام، فالنهي بعد ذلك عنه ناسخ له، وإلا فالقول بالنسخ مجرد احتمال، مع صحة النهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين.

والله أعلم.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ سنن الدارقطني 1/ 415؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 346؛ التمهيد 4/ 247، 249؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 431؛ إعلام العالم بعد رسوخه لان الجوزي ص 200؛ فتح الباري 2/ 243؛ نيل الأوطار 2/ 24.

ص: 694

‌المطلب الثامن إدراك الصبح بإدراك الركعة قبل طلوع الشمس، والعصر بإدراك الركعة قبل غروبها

ذهب الطحاوي إلى أنه لا يُصلى أي صلاة في وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، ووقت نصف النهار، وأن ما يدل على أن من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، فهو منسوخ بأحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها

(1)

.

وتبين منه أن القول به أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي للاختلاف هو تعارض ظواهر الآثار، والاختلاف في المفهوم منها

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»

(3)

.

ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 153؛ حاشية ابن عابدين 2/ 31.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 153؛ اللباب للمنبجي 1/ 194.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة ح (579)، ومسلم في صحيحه 2/ 251، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، ح (608)(163).

ص: 695

مرضِيُّون وأرضاهم عندي عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»

(2)

.

رابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب»

(3)

.

خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ح (581)، ومسلم في صحيحه 2/ 431، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (826)(286).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 120، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ح (588)، ومسلم في صحيحه 2/ 431، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (825)(285).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ح (583)، ومسلم في صحيحه 2/ 432، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (829)(291).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 120، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ح (586)، ومسلم في صحيحه 2/ 431، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (827)(288).

ص: 696

سادساً: عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يقول: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب»

(1)

.

سابعاً: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه: «ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان»

(2)

.

ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن هذه الأحاديث-غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول- تدل على النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول يدل على أن من أدرك ركعة من الصلاة في هذه الأوقات فقد أدركها، فتكون هذه الأحاديث ناسخة له؛ ولذلك لما نام النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة واستيقظ في حين طلوع الشمس أخر الصلاة حتى ارتفعت، فدل ذلك على أن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات متأخر وناسخ لغيره

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 140، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (831)(293).

(2)

سبق تخريجه في ص 442.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 153؛ التمهيد 1/ 168؛ حاشية ابن عابدين 2/ 31.

ص: 697

واعترض عليه: بأنه لا يصح القول بالنسخ؛ لأن الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عن حديث: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح

)، حتى تكون ناسخة له، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخر الصلاة لما نام عنها حتى ترتفع الشمس؛ لأنهم إنما استيقظوا بحر الشمس، والشمس لا تكون لها حرارة إلا بعد ارتفاعها وبعد وقت تحل فيه الصلاة

(1)

.

ثم إنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له، وما يدل على الجواز على ماله سبب، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ، ولا إلى ترك بعضها

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صلاة من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس، أو ركعة من العصر قبل غروب الشمس على قولين:

القول الأول: أن المصلي إذا أدرك ركعة من العصر وغربت عليه الشمس فإنه يتمها، وتكون صلاته تلك صحيحة، أما لو أدرك ركعة من الفجر ثم طلعت عليه الشمس فقد بطلت صلاته تلك، ويستقبلها إذا ارتفعت الشمس.

(1)

انظر: المحلى 2/ 65؛ التمهيد 1/ 171.

(2)

انظر: التمهيد 1/ 170؛ الاعتبار ص 495؛ فتح الباري 2/ 73.

ص: 698

وهو قول الحنفية

(1)

.

القول الثاني: أن المصلي إذا أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة، وكذلك إذا أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

، وقول الثوري، والأوزاعي، وداود، وابن جرير الطبري، وأكثر التابعين

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن المصلي إذا أدرك ركعة من العصر وغربت عليه الشمس فإنه يتمها، وتكون صلاته تلك صحيحة، أما لو أدرك

(1)

انظر: الأصل 1/ 150؛ بدائع الصنائع 1/ 329؛ الهداية 1/ 234، الاختيار 1/ 41؛ البرهان شرح مواهب

الرحمن 1/ 296؛ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/ 73؛ درر المنتقى 1/ 73؛ حاشية ابن عابدين 2/ 31.

(2)

انظر: التمهيد 1/ 169؛ عقد الجواهر 1/ 104؛ جامع الأمهات ص 82؛ مواهب الجليل 2/ 47، 48؛ التاج والإكليل 2/ 45؛ الشرح الكبير 1/ 297.

(3)

انظر: الأم 1/ 156؛ مختصر المزني ص 21؛ الحاوي 2/ 19؛ المهذب 1/ 190؛ التهذيب 2/ 14؛ المجموع 3/ 24، 36.

(4)

انظر: المغني 2/ 16، 30؛ العدة ص 65؛ الشرح الكبير 3/ 170؛ المحرر 1/ 28؛ شرح الزركشي 1/ 250، 252؛ الإنصاف 3/ 170.

(5)

انظر: التمهيد 1/ 169.

ص: 699

ركعة من الفجر ثم طلعت عليه الشمس فقد بطلت صلاته تلك، ويستقبلها إذا ارتفعت الشمس- بالأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ-غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول-؛ حيث إنها تدل على النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، فتكون الصلاة فيها محرمة

(1)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول يدل على أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فإنه قد أدركها ويتمها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فإنه قد أدرك العصر ويتمها، لكن عارضه حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما في الصبح؛ حيث جاء فيه:(فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فأمر

بالإمساك عن الصلاة عند طلوع الشمس، لذلك من شرع فيها وطلعت عليه الشمس فإن صلاته قد بطلت.

أما في العصر فلم يعارض مثل ذلك، لذلك إذا أدرك ركعة منها ثم غربت الشمس فإنه يتمها ويكون مدركاً لها

(2)

.

واعترض عليه: بأن حديث: (من أدرك ركعة من الصلاة) جمع بين الصبح والعصر في الحكم وهو أن من أدرك ركعة منها فقد أدركها، فلا معنى

(1)

انظر: الهداية 1/ 231؛ فتح القدير 1/ 231؛ اللباب للمنبجي 1/ 193؛ الدر المختار 2/ 28؛ حاشية ابن عابدين 2/ 28، 30.

(2)

انظر: الأصل 1/ 150؛ اللباب للمنبجي 1/ 195.

ص: 700

للفرق بينهما، والقول بأنه يوجد ما يعارضه في الصبح دون العصر، غير صحيح، لأنه يوجد في العصر ما يوجد في الصبح؛ حيث جاء في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما:«إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب»

(1)

.

فإن معنى هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما واحد، فلا يصح الفرق بين العصر والصبح وقد جمعتهما السنة

(2)

.

ثم يمكن الجمع بين هذه الأحاديث بطريقين:

أ-أن يحمل الأحاديث الدالة على النهي على العموم، وحديث:(من أدرك ركعة من الصبح) على الخصوص، فلا يكون بينهما تعارض

(3)

.

ب- أن يحمل أحاديث النهي على ابتداء الصلاة في هذه الأوقات، وحديث:(من أدرك ركعة من الصلاة) على استدامتها، فلا تعارض بينها

(4)

.

ثانياً: قال الحنفية: يصح صلاة عصر يومه دون الفجر؛ لأن سبب وجوب الصلاة- وهو الوقت- يستقر في الجزء الأخير، وهو الجزء الذي يليه الشروع فتعتبر صفة ذلك الجزء، فإن كان ناقصاً كما في العصر يجب ناقصاً فيصح إتيانه به ولا يتغير بالغروب؛ لأنه أداه كما وجب، وإن كان ذلك الجزء

(1)

سبق تخريجه في ص 460.

(2)

انظر: الأوسط 2/ 249.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 73.

(4)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 475.

ص: 701

كاملاً صحيحاً كما في الفجر وجب كاملاً فإذا اعترضها الطلوع فسدت؛ لأن ما وجب كاملاً لا يؤدى ناقصاً

(1)

.

واعترض عليه: بأن القول بأن سبب الوجوب هو الجزء القائم من الوقت الذي يليه الشروع غير مسلم، بل الجزء الأول من الوقت سبب للوجوب، فبإدراكه يثبت حكم الوجوب، - وهو قول الجمهور، وصححه غير واحد من الحنفية-فإذا كان كذلك استوى الفجر والعصر، ولا يصح التفريق بين صلاة العصر وصلاة الفجر، فإذا بدأ بالصلاة وغربت عليه الشمس خلالها، أو بدأ بالصلاة وطلعت عليه الشمس خلالها فإنه يتمها وتصح صلاته

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها، سواء كان صلاة العصر أم الفجر- بما يلي:

أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 266؛ الهداية 1/ 234؛ العناية 1/ 234؛ البرهان شرح مواهب الرحمن 1/ 296؛ مجمع الأنهر 1/ 73؛ درر المنتقى شرح الملتقى 1/ 73.

(2)

انظر: أصول السرخسي 1/ 31؛ التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 471 - 474؛ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 92؛ روضة الناظر لابن قدامة 1/ 70؛ البلبل للطوفي ص 27.

ص: 702

الشمس فقد أدرك العصر».

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته»

(1)

.

ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها، والسجدة إنما هي

الركعة»

(2)

.

ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(3)

.

ووجه الاستدلال منها: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها صريحان في أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ويتم الباقي ويصح صلاته، وكذلك إذا أدرك ركعة من العصر

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 115، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، ح (556).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 252، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، ح (609)(164).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 12، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، ح (597)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-2/ 316، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (684)(315).

ص: 703

قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ويتم صلاته وهي صحيحة، ويؤيد ذلك حديث أنس رضي الله عنه؛ حيث يدل على جواز أن يصلي الشخص ما نسيه أو نام عنه عند تذكر تلك الصلاة ولو كان عند الغروب والطلوع

(1)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة الأحاديث الدالة على ذلك وصراحتها.

ثانياً: ولضعف قول من قال بنسخ تلك الأحاديث وعدم صحتها، إذ لا دليل عليه، كما أنه يمكن الجمع بين تلك الأحاديث بالطرق السابقة، وعند إمكان الجمع بين الأدلة لا يقال بالنسخ كما سبق ذكره.

ثالثاً: ولأن من فرق بين الصبح والعصر في ذلك فقد فرق بين شيئين جمعت السنة بينهما، لذلك فلا اعتبار له

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 169؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 253؛ المغني 2/ 30.

(2)

انظر: الأوسط 2/ 349.

ص: 704

‌المطلب التاسع: الصلاة عند انتصاف النهار

ذهب الإمام مالك إلى إباحة الصلاة عند انتصاف النهار، وأن النهي عن ذلك منسوخ

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي

(3)

(أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد)

(4)

.

ثانياً: ولأن عمل أهل المدينة كان على الصلاة وسط النهار، فقد قال مالك:(ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يصلون نصف النهار)

(5)

.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 288؛ بداية المجتهد 1/ 200.

(2)

انظر: بداية المجتهد 1/ 200.

(3)

هو: ثعلبة بن أبي مالك القرظي، حليف الأنصار، أبو مالك. مختلف في صحبته، وروى عن عمر، وعثمان، و غيرهما، وروى عنه الزهري، ومنظور، وغيرهما، ووثقه غير واحد. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 69؛ الإصابة 1/ 228؛ تهذيب التهذيب 2/ 23.

(4)

أخرجه مالك في الموطأ 1/ 107، والشافعي في الأم 1/ 338، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 273.

(5)

انظر: التمهيد 1/ 288؛ الاستذكار 1/ 145.

ص: 705

ويستدل منهما على النسخ: بأن رواية ثعلبة بن أبي مالك تدل على أنهم كانوا يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه كان يخرج بعد الزوال، فدل ذلك على جواز الصلاة نصف النهار، وقول الإمام مالك يدل على أن ذلك كان عليه عمل أهل المدينة، وهو مما لا يجوز أن يكون مثله إلا توقيفاً، فدل ذلك على نسخ النهي عن الصلاة وسط النهار، وإلا لما عمل به جميع أهل المدينة

(1)

.

واعترض عليه: بأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في النهي عن الصلاة وسط النهار، وهي أحاديث صريحة صحيحة، ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على خلافها أو نسخها، وأحاديث

الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على من خالفها، وليس قول أو فعل من خالفها حجة عليها، كما أن النسخ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بكتاب أو سنة صحيحة، لا بعمل طائفة بعده صلى الله عليه وسلم على خلاف ما صح عنه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة عند انتصاف النهار على أربعة أقوال:

القول الأول: لا تجوز الصلاة نصف النهار عند استواء الشمس وسط السماء، أي صلاة كانت.

وهو مذهب الحنفية

(3)

،

القول الثاني: تجوز الصلاة وسط النهار، أي صلاة كانت.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 288؛ الاستذكار 1/ 145؛ بداية المجتهد 1/ 200.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 151 - 152؛ المحلى 2/ 51؛ الاعتبار ص 53 - 58؛ المغني 2/ 523 - 525.

(3)

انظر: الأصل 1/ 150؛ مختصر القدوري ص 32؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 231؛ حاشية ابن عابدين 2/ 29.

ص: 706

وهو قول المالكية

(1)

، وروي ذلك عن الحسن، وطاووس، والأوزاعي

(2)

.

القول الثالث: لا تجوز الصلاة عند نصف النهار، إلا يوم الجمعة فتجوز الصلاة فيه في ذلك الوقت مطلقاً، وما له سبب كقضاء الفائتة ونحوها فتجوز وسط النهار كذلك.

وهو قول الشافعية

(3)

، ورواية عن الإمام أحمد

(4)

.

القول الرابع: يجوز أن يصلي وسط النهار قضاء الفوائت، وركعتي الطواف وإعادة الجماعة، ولا يجوز غير ذلك.

وهو الصحيح من مذهب الحنابلة

(5)

.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 287؛ الاستذكار 1/ 145؛ بداية المجتهد 1/ 199؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 58.

(2)

انظر: التمهيد 1/ 288؛ الاستذكار 1/ 146؛ المغني 2/ 536.

(3)

انظر: الأم 1/ 268، 338؛ مختصر المزني ص 33؛ الحاوي 2/ 274؛ العزيز 1/ 396، 397؛ المجموع 4/ 57.

(4)

انظر: المغني 2/ 533؛ الشرح الكبير 4/ 259؛ الإنصاف 4/ 257.

(5)

انظر: المغني 2/ 533؛ الشرح الكبير 4/ 253 - 259؛ الممتع 1/ 536 - 539؛ الإنصاف 4/ 253، 256؛ زاد

المستقنع ص 16؛ منتهى الإرادات 1/ 74.

ص: 707

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز أي صلاة إذا انتصف النهار- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يقول: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب»

(1)

.

ثانياً: حديث عمرو بن عبسة

(2)

رضي الله عنه وفيه: فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة، قال: «صل صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صل الصلاة فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإن حينئذٍ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر،

(1)

سبق تخريجه في ص 460.

(2)

هو: عمرو بن عبسة بن خالد بن عامر، السلمي، أسلم قديماً، وهاجر قبل فتح مكة، وشهد فتح مكة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو أمامة، وسهل بن سعد، وغيرهما، وسكن الشام، ومات بحمص. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 413؛ الإصابة 2/ 1344.

ص: 708

ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل صفوان بن المعطل

(2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سائلك عن أمر أنت عالم به وأنا به جاهل! قال: «وما هو؟» قال: هل من ساعات الليل والنهار ساعة تكره فيها الصلاة؟ قال: «نعم، إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بقرني شيطان، ثم صل فالصلاة محضورة متقبلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح، فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 435، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (832)(294).

(2)

هو: صفوان بن المعطّل بن ربيعة بن خزاعيّ، السلمي، ثم الذكواني، شهد الخندق والمشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل في سبيل الله، فقيل سنة تسع عشرة، وقيل غيرها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 267؛ الإصابة 2/ 904.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 223، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، ح (1252)، والحاكم في المستدرك 3/ 594، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 639. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 222.

ص: 709

ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث تدل على النهي عن الصلاة عند انتصاف النهار، من غير فرق بين صلاة وصلاة، لذلك تكون الصلاة غير جائزة فيه

(1)

.

واعترض عليه: بأن النهي المذكور في هذه الأحاديث عام، لكن قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخصص هذا العموم، كقوله صلى الله عليه وسلم:«من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(2)

.

لذلك يكون الأولى حمل هذا النهي على الصلوات التي تفعل بدون سبب سابق عليها، ويكون قضاء الفوائت ونحوه مستثنىً من هذا العموم

(3)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو جواز الصلاة عند استواء النهار أي صلاة كانت- بما استُدل به للقول بالنسخ.

وقد سبق وجه الاستدلال منها، وما يرد به عليه.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو عدم جوز الصلاة عند نصف النهار، إلا يوم الجمعة وإلا التي لها سبب فتجوز وسط النهار- بأدلة منها ما يلي:

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 153؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 231؛ الاختيار 1/ 41؛ اللباب للمنبجي 1/ 188.

(2)

سبق تخريجه في ص 465.

(3)

انظر: الأم 1/ 268؛ المحلى 2/ 58؛ المغني 2/ 516.

ص: 710

أولاً: الأحاديث التي سبقت في دليل القول الأول، والتي فيها النهي عن الصلاة عند وسط النهار.

ثانياً: حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي قتادة السلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»

(2)

.

رابعاً: حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»

(3)

.

خامساً: عن جبير بن مطعم

(4)

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف

(1)

سبق تخريجه في ص 465.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 95، كتاب الصلاة، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، ح (444)، و مسلم في صحيحه 2/ 340، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، ح (714)(69).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 242، كتاب السهو، باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع، ح (1233)، ومسلم في صحيحه 2/ 438، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (834)(297).

(4)

هو: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، القرشي، النوفلي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه سليمان بن صرد، وابن المسيب، وغيرهما، وكان من حلماء قريش وساداتهم، وكان يؤخذ منه النسب، وتوفي سنة سبع وخمسين، وقيل غير ذلك. انظر: الاستيعاب 1/ 230؛ الإصابة 1/ 259.

ص: 711

لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار»

(1)

.

سادساً: رواية ثعلبة بن أبي مالك القرظي، وقد سبق في دليل القول بالنسخ، وفيه: «أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر رضي الله عنه.

سابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 289، كتاب المناسك، باب الطواف بعد العصر، ح (1894)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 210، كتاب الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، ح (868)، والنسائي في سننه ص 99، كتاب المواقيت، باب إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة، ح (585)، وابن ماجة في سننه ص 223، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، ح (1254)، وأحمد في المسند 27، والدارمي في سننه 2/ 97، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 254، و الدارقطني في سننه 1/ 423، والحاكم في المستدرك 1/ 617، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 446. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 239 - بعد ذكر قول الحاكم والذهبي-: (وهو كما قالا). وصححه في صحيح سنن الترمذي ص 210.

(2)

أخرجه الشافعي في الأم 1/ 338، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 652. قال ابن عبد البر في التمهيد 1/ 289، بعد ذكر الرواية من طريق الشافعي: (وإبراهيم بن محمد الذي روى عنه الشافعي هذا الخبر هو ابن أبي يحيى المدني متروك الحديث، وإسحاق بعده في الإسناد، وهو ابن أبي فروة ضعيف أيضاً). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 188 - بعد ذكر سنده-: (وإسحاق وإبراهيم ضعيفان، ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الأحمر، عن عبد الله شيخ من أهل المدينة، عن سعيد به، ورواه الأثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك، ورواه البيهقي بسند آخر فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضاً).

ص: 712

ثامناً: عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال:«إن جهنم تُسجّر إلا يوم الجمعة»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها: أن الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة عند وسط النهار تدل على عدم جواز الصلاة فيه، لكن ليس المراد بها جميع الصلوات، بل التي لا يوجد لها سبب سابق، أما مالها سبب كالصلاة الفائتة، والركعتان لدخول المسجد وركعتا الطواف ونحوها، فالنهي في تلك الأحاديث لا يشملها؛ للأحاديث الواردة فيها، فتكون الصلاة لسبب مخصوصة من ذلك النهي، وبذلك يجمع بين هذه الأحاديث كلها، كما أن الصلاة وسط النهار يوم الجمعة مستثنى من ذلك النهي للأحاديث الواردة فيها، ولرواية ثعلبة بن أبي مالك؛ حيث يدل

على أن الصحابة كانوا

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 171، كتاب الصلاة، باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، ح (1083)، وقال:(وهو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة)، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 652، وقال: وله شواهد وإن كانت أسانيدها ضعيفة. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 189 - بعد ذكر قول أبي داود-: (وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال الأثرم: قدم أحمد جابر الجعفي عليه في الحديث).

ص: 713

يصلون في ذلك الوقت

(1)

.

واعترض عليه: بأن القول بجواز الصلاة وسط النهار يوم الجمعة مطلقاً ضعيف؛ لضعف دليله، مع معارضته للأحاديث الصحيحة الدالة على عدم جوز الصلاة في ذلك الوقت

(2)

.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو جواز قضاء الفوائت، وركعتي الطواف وإعادة الجماعة، وسط النهار، وعدم جواز غيرها- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: أما جواز قضاء الفوائت فلحديث أنس رضي الله عنه، وقد سبق ذكره.

ثانياً: أما جواز ركعتي الطواف في وسط النهار فلحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وقد سبق ذكره في دليل القول السابق.

ثالثاً: أما جواز إعادة الجماعة في ذلك الوقت فلحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة»

(3)

.

(1)

انظر: الأم 1/ 268؛ الحاوي 2/ 274، 275؛ المجموع 4/ 57.

(2)

راجع تخريج الحديثين الذين استدل بهما على جواز الصلاة وسط النهار يوم الجمعة، وانظر: المغني 2/ 536.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 283، كتاب المساجد، باب كراهة تأخير الصلاة عن وقتها، ح (648)(238).

ص: 714

رابعاً: أما عدم جواز الصلوات غير ما ذكر فلأحاديث النهي عن الصلاة في هذا الوقت، وقد سبق ذكرها في دليل القول الأول.

فهي عامة تشمل ذات السبب وغيرها؛ ولأنه إذا تعارض التحريم والندب، يكون ترك المحرم أولى

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن

الراجح ما يلي:

أولاً: أن القول بنسخ النهي عن الصلاة وسط النهار قول ضعيف ومردود؛ إذ ليس عليه أي دليل كما سبق ذكره.

ثانياً: لا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة عند وسط النهار وغيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

ثالثاً: أنه يستثنى من هذا النهي الصلاة التي لها سبب، وفي غيرها يبقى على العموم، وبذلك يمكن الجمع بين الأحاديث كلها الواردة في المسألة، والجمع بين الأحاديث أولى من ترك بعضها.

والله أعلم.

(1)

انظر: المغني 2/ 515 - 521، 527، 533 - 535؛ الممتع 1/ 535 - 537؛ شرح الزركشي 1/ 381 - 385.

ص: 715

‌المطلب العاشر: الصلاة بعد العصر

ذهب داود الظاهري إلى إباحة الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس، وأن الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك منسوخة

(1)

.

وعكس أبو عوانة فذهب إلى نسخ إباحة الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس

(2)

.

وتبين منه ومما يأتي من الأدلة أن سبب الاختلاف في المسألة أمران: القول بالنسخ، وتعارض الآثار الواردة فيها

(3)

.

ويستدل لمن قال بنسخ الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس بما يلي:

أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «ركعتان لم يكن رسول الله

(1)

هذا ما نسبه إليه ابن حزم أي القول بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر، أما ابن حجر فنسب إليه القول بنسخ جميع أحاديث النهي عن الصلاة بعد الفجر وعند الزوال وبعد العصر. لكن الذي يظهر أن قول داود هو كما قال ابن حزم؛ حيث أن ابن عبد البر نسب إليه جواز التطوع بعد العصر، ولم ينسب إليه الجواز مطلقاً، كما أن ابن حجر نفسه نسب إلى ابن حزم القول بنسخ أحاديث النهي مطلقاً، وهو خلاف ما قاله ابن حزم في المحلى. انظر: المحلى 2/ 48؛ التمهيد 1/ 308؛ فتح الباري 2/ 73، 74؛ تحفة الأحوذي 1/ 568. وانظر كذلك بداية المجتهد 1/ 201.

(2)

انظر: مسند أبي عوانة 1/ 300. وبنحو قول أبي عوانة يدل كلام ابن شاهين. انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 331 - 449.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 304؛ بداية المجتهد 1/ 200؛ فتح الباري 2/ 73.

ص: 716

-صلى الله عليه وسلم يدعهما سراً ولا علانيةً: ركعتان قبل الصبح، وركعتان بعد العصر»

(1)

.

وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: «والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله وما لقي الله تعالى حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيراً من صلاته قاعداً، تعني الركعتين بعد العصر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب

ما يُخفف عنهم»

(2)

.

ثانياً: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل عليّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه قولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه. فلما انصرف قال:«يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»

(3)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 121، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ح (592)، ومسلم في صحيحه 2/ 440، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (835)(300).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 121، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ح (590).

(3)

سبق تخريجه في ص 470.

ص: 717

قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»

(1)

.

رابعاً: حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه: «صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة»

(2)

.

خامساً: حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(3)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث منها ما يدل بعمومه على جواز الصلاة بعد العصر، وعند غروب الشمس، ومنها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر، وأنه صلى الله عليه وسلم داوم على ذلك حتى الموت، وهي بعد النهي عن الصلاة بعد العصر، فتكون ناسخة للنهي عن الصلاة بعد العصر

(4)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى ركعتين بعد العصر، ولم يصل عند غروب الشمس، والنهي عن الصلاة عند الغروب أشد منه عن الصلاة بعد العصر، فلا يصح الاستدلال من الصلاة بعد العصر على نسخ النهي عن الصلاة عند

(1)

سبق تخريجه في ص 459.

(2)

سبق تخريجه في ص 472.

(3)

سبق تخريجه في ص 465.

(4)

انظر: المحلى 2/ 55، 76؛ بداية المجتهد 1/ 201؛ فتح الباري 2/ 73، 80.

ص: 718

غروب الشمس

(1)

.

ثانياً: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد العصر، وصلاته الركعتين بعد العصر يحتمل أن يكون ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يصح الاستدلال من ذلك على نسخ النهي عن الصلاة بعد العصر

(2)

.

دليل من قال بنسخ جواز الصلاة بعد العصر

أولاً: عن أبي بصرة الغفاري

(3)

رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمُخَمَّص

(4)

فقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم»

(5)

.

(1)

انظر: المحلى 2/ 76؛ المغني 2/ 533، 534.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 306؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 643؛ العزيز 1/ 403؛ المجموع 4/ 58؛ المغني 2/ 529.

(3)

هو: جميل بن بصرة بن أبي بصرة بن وقاص، الغفاري، أبو بصرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو هريرة رضي الله عنه، وعبيد بن جبر، وغيرهما، وسكن الحجاز ثم تحول إلى مصر، وقيل شهد فتح مصر، وتوفي بها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 152؛ الإصابة 4/ 2168؛ التقريب 2/ 362.

(4)

قال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 433: (هو موضع معروف)، وقال الياقوت في معجم البلدان 4/ 220:(المخمص بخاء معجمة، طريق في جبل عَير إلى مكة). وورد في مسند أبي عوانة 1/ 300 لفظ: (المحصب) بدل المخمص.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 140، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (830)(292).

ص: 719

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»

(1)

.

ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال مرضِيُّون وأرضاهم عندي عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»

(2)

.

رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس»

(3)

.

خامساً: حديث أم سلمة-رضي الله عنها وفيه: (فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه قولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما)

(4)

.

وفي رواية عنها رضي الله عنها-قالت: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر قط إلا مرة جاءه ناس بعد الظهر فشغلوه في شيء، ولم يصل بعد الظهر شيئاً حتى صلى العصر، قال: فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى

(1)

سبق تخريجه في ص 460.

(2)

سبق تخريجه في ص 459.

(3)

سبق تخريجه في ص 460.

(4)

سبق تخريجه في ص 470.

ص: 720

ركعتين)

(1)

.

سادساً: عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال»

(2)

.

سابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما)

(3)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 431، عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة، وهم من رجال الجماعة. وأخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 333، ولفظه:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر، فشغله القوم، قالت: فما صلاهما قبل ولا بعد).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 200، كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، ح (1280). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 199. وقال في الإرواء 2/ 189: رجال إسناده ثقات، ولكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه). والنهي عنها ثابت بدليل حديث أم سلمة وقولها:(سمعتك تنهى عن هاتين)، ويؤكد النهي ما في أول هذا الحديث أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوا كريباً إلى عائشة رضي الله عنها وقالوا له: (اقرأ عليها السلام منا جميعاً وسلها عن الركعتين بعد العصر، وقل لها:«إنا أخبرنا أنك تصلينهما وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنهما» .

(3)

أخرجه الترمذي في سننه ص 55، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر، ح (184)، وقال:(حديث ابن عباس حديث حسن. وقد روي غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد العصر ركعتين، وهذا خلاف ما روي عنه: أنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. وحديث ابن عباس أصح حيث قال: (لم يعد لهما) وقد روي عن زيد بن ثابت نحو حديث ابن عباس). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 187: (وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس-فذكره ثم قال: - وقال الترمذي حديث ابن عباس أصح حيث قال: لم يعد لهما، وقد روي عن زيد بن ثابت نحوه، قلت: هو عند أحمد لكن حديث عائشة أثبت إسناداً، ولفظها عند مسلم: ثم أثبتها). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 55: (ضعيف الإسناد، وقوله: (ثم لم يعدلهما) منكر).

ص: 721

ويستدل منها على النسخ: بأن بعض هذه الأحاديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتا الظهر حيث شغل عنهما، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما، وبعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما وينهى عنهما. فثبت من ذلك أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر ومنها الركعتان ناسخ لجواز ذلك

(1)

.

واعترض عليه: بأنه إن كان المراد أن التطوع بعد العصر كان مشروعاً، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، فصار ذلك منسوخاً، فهو صحيح، لكن يحتاج ذلك أولاً إلى إثبات سبقية المشروعية.

وإن كان المراد: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين بعد العصر منسوخ، فهو غير صحيح؛ لقول عائشة-رضي الله عنها: (والذي ذهب به ما تركهما حتى

(1)

انظر: مسند أبي عوانة 1/ 300؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 333 - 339.

ص: 722

لقي الله)

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة بعد العصر على أربعة أقوال:

القول الأول: يكره التطوع بعد العصر إلى أن تبدأ الشمس بالغروب، ولا بأس بقضاء

الفوائت وصلاة الجنازة فيه، ولا يجوز الصلاة عند غروب الشمس إلا عصر يومه.

وهو مذهب الحنفية

(2)

، ونحوه قول المالكية إلا أنهم أجازوا عند الغروب قضاء الفوائت

(3)

.

القول الثاني: لا تجوز الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وكذلك عند غروبها إلا ما له سبب كقضاء الفائتة وتحية المسجد، ونحوهما فيجوز ذلك.

وهو مذهب الشافعية

(4)

.

(1)

سبق تخريجه في دليل من قال بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر. وانظر: بداية المجتهد 1/ 201.

(2)

انظر: الأصل 1/ 149، 150؛ شرح معاني الآثار 1/ 306؛ مختصر القدوري ص 32؛ الهداية 1/ 231، 236؛ الاختيار 1/ 41؛

(3)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 286، 287؛ الكافي ص 36؛ الاستذكار 1/ 152؛ بداية المجتهد 1/ 202؛ جامع الأمهات ص 83؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 2/ 58، 60.

(4)

انظر: الأم 1/ 268؛ مختصر المزني ص 33؛ الحاوي 2/ 274؛ العزيز 1/ 396، 397؛ المجموع 4/ 57.

ص: 723

القول الثالث: تجوز صلاة الجنازة بعد العصر لا عند غروب الشمس، ويجوز قضاء الفائتة، وركعتي الطواف، وإعادة الجماعة بعد العصر وعند غروب الشمس، ولا يجوز التطوع بغيرها لا بعد العصر ولا عند غروب الشمس.

وهو الصحيح من مذهب الحنابلة

(1)

.

القول الرابع: يجوز التطوع بعد العصر لا عند غروب الشمس.

ورُوي ذلك عن: علي والزبير، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عمر، وتميم الداري

(2)

، و النعمان بن بشير، وأبي أيوب الأنصاري، وعائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهم، واختاره ابن حزم

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو كراهة التطوع بعد العصر إلى أن تبدأ

(1)

انظر: المغني 2/ 515 - 523، 527؛ الشرح الكبير 4/ 244، 247 - 253؛ الممتع 1/ 534 - 539؛ شرح الزركشي 1/ 382 - 386؛ الإنصاف 4/ 247 - 250، 253 - 256؛ زاد المستقنع ص 16.

(2)

هو: تميم بن أوس بن خارجة بن سود، الداري، أبو رُقيّة، كان راهب أهل فلسطين، وقدم المدينة فأسلم سنة تسع، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما، وانتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ونزل بيت المقدس، وتوفي به، قيل: مات سنة أربعين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 58؛ الإصابة 1/ 207؛ تهذيب التهذيب 1/ 470؛ التقريب 1/ 143.

(3)

انظر: المحلى 2/ 29، 33، 34، 40، 42 - 47؛ التمهيد 1/ 305، 308 - 309، الاستذكار 1/ 151 - 152؛ المغني 2/ 527.

ص: 724

الشمس بالغروب، وجواز قضاء الفوائت، وصلاة الجنازة فيه، وعدم جواز الصلاة عند غروب الشمس إلا عصر يومه- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: أما كراهة الصلاة بعد العصر فللأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة بعد العصر، كحديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي بصرة الغفاري رضي الله عنهم، وغيرهم، وقد سبق جملة من هذه الأحاديث في المسألتين السابقتين، وفي دليل من قال بنسخ جواز الصلاة بعد العصر. وقد جاء فيها النهي عن الصلاة بعد العصر، فدل ذلك على كراهة الصلاة بعد العصر

(1)

.

ثانياً: أما جواز قضاء الفوائت وفعل صلاة الجنازة بعد العصر قبل بدأ الشمس في الغروب فلما يلي:

أ- حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(2)

.

ب- الإجماع، فقد أجمع المسلمون على جواز صلاة الجنازة بعد العصر قبل أن تميل الشمس للغروب

(3)

.

ثالثاً: أما عدم جواز الصلاة عند غروب الشمس إلا عصر يومه أو قضاء الفوائت، فلما يلي:

(1)

انظر: الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 236؛ الإشراف 1/ 286.

(2)

سبق تخريجه في ص 465.

(3)

انظر: المغني 2/ 518.

ص: 725

أ- أما جواز عصر يومه فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:«ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»

(1)

.

ب- أما جواز قضاء الفوائت فلما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أنس رضي الله عنه

(2)

.

ج- أما عدم جواز صلاة غير ما ذكر عند غروب الشمس، فلأحاديث النهي، ومنها:

1 -

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب»

(3)

.

2 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها»

(4)

.

فهذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز الصلاة عند غروب الشمس

(5)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 459.

(2)

انظر: الإشراف 1/ 287.

(3)

سبق تخريجه في ص 460.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 119، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع، ح (582)، ومسلم في صحيحه 2/ 432، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ح (828)(290).

(5)

انظر: الاستذكار 1/ 146 - 147؛ الهداية 1/ 231؛ الاختيار 1/ 41.

ص: 726

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو عدم جواز الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وكذلك عند غروبها إلا ما له سبب كقضاء الفائتة وتحية المسجد، ونحوهما- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث السابقة والتي فيها النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس.

ثانياً: حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي قتادة السلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»

(2)

.

رابعاً: حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»

(3)

.

خامساً: عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف لا

(1)

سبق تخريجه في ص 465.

(2)

سبق تخريجه في ص 470.

(3)

سبق تخريجه في ص 470.

ص: 727

تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها: أن الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس تدل على عدم جواز الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، لكن ليس المراد بها جميع الصلوات، بل التي لا يوجد لها سبب سابق، أما مالها سبب كالصلاة الفائتة، والركعتان لدخول المسجد وركعتا الطواف ونحوها، فالنهي في تلك الأحاديث لا يشملها؛ للأحاديث الواردة فيها، فتكون الصلاة لسبب مخصوصة من ذلك النهي، وبذلك يجمع بين هذه الأحاديث كلها

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو جواز صلاة الجنازة بعد العصر لا عند غروب الشمس، وجواز قضاء الفائتة، وركعتي الطواف، وإعادة الجماعة بعد العصر وعند غروب الشمس، وعدم جواز تطوع بغيرها لا بعد العصر ولا عند غروب الشمس- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: أما جواز صلاة الجنازة بعد العصر؛ فلإجماع المسلمين على ذلك، أما عدم جوازها عند غروب الشمس فلحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه

(3)

.

ثانياً: أما جواز قضاء الفوائت فلما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من

(1)

سبق تخريجه في ص 470.

(2)

انظر: الأم 1/ 268؛ الحاوي 2/ 274، 275؛ المجموع 4/ 57.

(3)

انظر: المغني 2/ 518.

ص: 728

حديث أنس رضي الله عنه.

ثالثاً: أما جواز ركعتي الطواف بعد العصر وعند الغروب فلحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وقد سبق ذكره كذلك.

رابعاً: أما جواز إعادة الجماعة في ذلك الوقت فلحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة»

(1)

.

خامساً: أما عدم جواز الصلوات غير ما ذكر فلأحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس، وقد سبق بيانها. وهي أحاديث عامة تشمل ذات السبب وغيرها.

ولأنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الركعتين بعد العصر فقد صح عنه كذلك أنه نهى عن الصلاة بعد العصر، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الندب، ونهيه على التحريم، وعند التعارض يقدم التحريم على الندب؛ لأن ترك المحرم أولى من فعل المندوب

(2)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 472.

(2)

انظر: المغني 2/ 515 - 521، 527، 533 - 535؛ الممتع 1/ 535 - 537؛ شرح الزركشي 1/ 381 - 385.

ص: 729

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو جواز صلاة التطوع بعد العصر إلى ما قبل الغروب- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث السابقة في أدلة قول من قال بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر؛ حيث أنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي التطوع بعد العصر، فدل ذلك على الجواز.

ثانياً: عن علي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة»

(1)

.

ثالثاً: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن عمر رآه يصلي بعد العصر ركعتين- وعمر خليفة- فضربه بالدرة وهو يصلي كما هو، فلما انصرف قال له زيد: يا أمير المؤمنين فوالله لا أدعهما أبداً بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، فجلس إليه عمر، وقال: يا زيد بن خالد لو لا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما)

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 199، كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، ح (1274)، والنسائي في سننه ص 97، كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر، ح (573)، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 644. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 199.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 301، وابن حزم في المحلى-واللفظ له- 2/ 41. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 226:(رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناده حسن).

ص: 730

فهذه الأدلة تدل على أن الصلاة جائزة بعد العصر ما لم تصفر الشمس ولم تتضيّف للغروب

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لاشك في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين بعد العصر، لكن صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر، فإما يجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر على خصوصيته كما قاله بعض أهل العلم

(2)

، وإما يرجح أحاديث النهي؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر يدل على الجواز والندب، ونهيه يدل على التحريم، وإذا تعارض الندب والتحريم فيقدم التحريم

(3)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح ما يلي:

أولاً: أن القول بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس قول ضعيف ومردود، وقد سبق ما يرد به هذا القول، ويضاف إلى ذلك أن الصحابة-رضي الله عنهم لم يختلفوا في النهي عن الصلاة

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 301؛ المحلى 2/ 38 - 47؛ المغني 2/ 527 - 528.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 306؛ السنن الكبرى 2/ 643؛ العزيز 1/ 403؛ المغني 2/ 529؛ المجموع 4/ 58.

(3)

انظر: المغني 2/ 534.

ص: 731

بعد العصر، وإنما اختلفوا في جواز الركعتين بعد العصر، فمن قال بجواز ذلك رأى أن النهي مختص بوقت الغروب، وأنه يجوز قبل ذلك صلاة ركعتين لثبوت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف يقال بنسخ ما اتفقوا عليه بما اختلفوا فيه؟. على أن صلاة التطوع عند الغروب لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، وقد ثبت عنه النهي عن الصلاة عند غروب الشمس، لذلك ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم التطوع عند الغروب وكراهته قبل ذلك، وأن النهي عند الغروب أشد منه قبل ذلك، لعدم وجود المعارض عند الغروب، بخلاف ما قبله

(1)

.

كما أن القول بنسخ الصلاة بعد العصر ضعيف؛ لأن عائشة-رضي الله عنها حكت أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الركعتين بعد العصر حتى لقي الله تعالى، فكيف يقال بنسخ ذلك ولا يعلم تاريخ النهي، أما فعله صلى الله عليه وسلم الركعتين فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم داوم عليها حتى الموت.

ثانياً: لا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وكذلك في غيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

ثالثاً: يجوز أن يصلى بعد العصر قبل اصفرار الشمس ما يوجد له سبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته الركعتان بعد الظهر صلاهما بعد العصر.

(1)

انظر: مختصر القدوري ص 32؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 231 - 238؛ المغني 2/ 518، 533، 534.

ص: 732

رابعاً: تكره صلاة التطوع بعد العصر إذا لم يوجد لها سبب، ويحرم عند الغروب؛ وذلك لأن النهي عن الصلاة عند الغروب أشد، ولم يوجد له ما يعارضه، بخلاف ما بعد العصر، حيث ويوجد ما يعارضه، وهو وإن كان يدل على الجواز إلا أن النهي يقدم عليه لأمرين:

الأول: لأن النهي عن الصلاة بعد العصر ثابت من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاة الركعتين بعد العصر ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، وعند التعارض يقدم قوله صلى الله عليه وسلم على فعله؛ لاحتمال تخصيصه صلى الله عليه وسلم بما فعله

(1)

.

الثاني: أن أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر عامة، وقد تعارضت مع ما يدل على الجواز والندب، فيقدم ما يدل على النهي على ما يدل على الجواز؛ لأن ترك المحظور أولى من فعل المندوب

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: البلبل في أصول الفقه ص 253؛ البحر المحيط للزركشي 8/ 205؛ مذكرة أصول الفقه ص 320.

(2)

انظر: المغني 2/ 534.

ص: 733

‌المطلب الحادي عشر: أن يؤذن أحد ويقيم آخر

ذهب ابن شاهين إلى أن من أذن

(1)

فهو يقيم، وأن رخصة أن يؤذن أحد ويقيم غيره منسوخ

(2)

.

والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف الفقهاء في المسألة هو اختلاف الأحاديث الواردة فيها

(3)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن زياد بن الحارث الصدائي

(4)

رضي الله عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنت، فأراد بلال

(5)

أن يقيم، فقال رسول الله

(1)

الأذان لغة: الإعلام. انظر: مختار الصحاح ص 11؛ المصباح المنير ص 10؛ القاموس المحيط ص 1058.

والأذان شرعاً: قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة. انظر: الاختيار 1/ 42؛ مواهب الجليل 2/ 68.

(2)

انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 266.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 212.

(4)

هو: زياد بن الحارث الصدائي، له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: زياد بن نعيم الحضرمي. انظر: الإصابة 1/ 636؛ تهذيب التهذيب 3/ 317.

(5)

هو: بلال بن رباح الحبشي، التيمي مولاهم، أسلم قديما، وكان مولى لأمية بن خلف وكان يعذبه على التوحيد، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وروى عنه صلى الله عليه وسلم، وخرج بعده إلى الشام، وبها توفي في زمن عمر. انظر: التاريخ الكبير 2/ 106؛ ا لإصابة 1/ 187؛ التهذيب 1/ 461.

ص: 734

-صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم»

(1)

.

ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسير له، فحضرت الصلاة، فنزل القوم فطلبوا بلالاً فلم يجدوه، فقام رجل فأذن، ثم جاء بلال، فقال القوم: إن رجلاً قد أذن، فمكث القوم هوناً، ثم إن بلالاً أراد أن يقيم الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«مهلاً يا بلال، فإنما يقيم من أذن»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 87، كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، ح (514)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 59، أبواب الصلاة، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم، ح (199)، وابن ماجة في سننه ص 138، كتاب الأذان، باب السنة في الأذان، ح (717)، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 476، والإمام أحمد في المسند 29/ 79، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 142، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 262، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 560، والحازمي في الاعتبار ص 196، وحسنه. وقال الترمذي:(إنما نعرفه من حديث الإفريقي، والإفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي. ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث) وقال النووي في المجموع 3/ 90: (قال الترمذي والبغوي: في إسناده ضعف). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 560: (في سنده عبد الرحمن الإفريقي سكت عنه هنا-يعني البيهقي- وقال في باب فرض التشهد: ضعفه القطان، وابن مهدي، وابن معين، وابن حنبل، وغيرهم). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 1/ 255: (ضعيف) ثم ذكر من خرجه وكلام الترمذي فيه، ثم قال:(وقد ضعف الحديث أيضاً البغوي والبيهقي، وأنكره سفيان الثوري). وقال في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 54: (وهذا سند ضعيف من أجل الإفريقي هذا).

(2)

أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 261، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 586، وقال:(تفرد به سعيد بن راشد، وهوضعيف). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 6: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه سعيد بن راشد السماك، وهو ضعيف). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 309: (وسعيد بن راشد هذا ضعيف، وضعف حديثه هذا أبو حاتم الرازي، وابن حبان في الضعفاء) وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 54: (وروي الحديث عن ابن عمر ولكنه ضعيف أيضاً)، ونقل عن ابن أبي حاتم أنه قال في علل الحديث:(وقال أبي: هذا حديث منكر، وسعيد ضعيف الحديث، وقال مرة: متروك الحديث).

ص: 735

ويستدل منهما على النسخ: بأن هذا الحديث (من أذن فهو يقيم) متأخر عن الحديث الذي يدل على جواز أن يؤذن أحد ويقيم آخر؛ لأن ذاك كان في أول ما شرع الأذان، وهذا الحديث كان بعد ذلك بلا شك، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له، فيكون هذا اللاحق ناسخاً لذاك السابق، وأولى بالأخذ

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الحديثين، والجمع هنا ممكن، وذلك بحمل حديث الصدائي على الأولوية، وغيره على الجواز

(2)

.

هذا كان من قال بالنسخ ودليله.

(1)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 266؛ التمهيد 3/ 16؛ السنن الكبرى للبيهقي 1/ 587؛ الاعتبار للحازمي ص 196؛ رسوخ الأحبار ص 239.

(2)

انظر:؛ الاعتبار للحازمي ص 196؛ رسوخ الأحبار ص 239.

ص: 736

وقد اتفق أهل العلم على جواز أن يؤذن أحد ويقيم آخر

(1)

، واختلفوا في الأولى على

قولين:

القول الأول: أنه لا بأس أن يؤذن أحد ويقيم آخر.

وهو قول الحنفية

(2)

، والمالكية

(3)

، وأبي ثور، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه

(4)

.

القول الثاني: أنه يستحب أن يقيم من أذن.

وهو قول الشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

، والليث، والثوري

(7)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا بأس أن يؤذن أحد ويقيم آخر- بما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن زيد

(8)

رضي الله عنه، قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أشياء لم

(1)

انظر: الاعتبار ص 195؛ المجموع 3/ 90.

(2)

انظر: الأصل 1/ 131؛ شرح معاني الآثار 1/ 142، 143؛ حاشية ابن عابدين 2/ 59.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 16؛ جامع الأمهات ص 87؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 2/ 114.

(4)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 265، 266؛ الاعتبار ص 195.

(5)

انظر: الأم 1/ 91؛ العزيز 1/ 425؛ المجموع 3/ 90؛

(6)

انظر: المغني 2/ 71؛ الشرح الكبير 3/ 82؛ الممتع 1/ 326؛ الإنصاف 3/ 82.

(7)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 189؛ الاعتبار ص 195.

(8)

هو: عبد الله بن زيد بن ثعلبة-وقيل: ابن عبد ربه-الخزرجي الأنصاري، أبو محمد المدني، شهد العقبة وبدراً والمشاهد، وهو الذي أُري النداء للصلاة في النوم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه محمد، وابن المسيب، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل استشهد بأحد. انظر: الإصابة 2/ 1051؛ التهذيب 5/ 200.

ص: 737

يصنع منها شيئاً، قال: فأُري عبد الله بن زيد الأذان في المنام، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«ألقه على بلال» فألقاه، فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده، قال:«فأقم أنت»

(1)

.

ثانياً: عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه أُري الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:«علمهن بلالاً» فعلمتهن بلالاً، قال: فتقدمت، فأمرني أن أقيم، فأقمت)

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 87، كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، ح (512)، وأبو داود الطيالسي في مسنده -منحة المعبود-ص 78، وأحمد في المسند 27/ 397، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 142، والدارقطني في سننه 1/ 245، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 265، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 587، والحازمي في الاعتبار ص 194. وذكر البيهقي في السنن 1/ 587: أن البخاري قال: (فيه نظر) وأن أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه كان يضعفه. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 209 - بعد ذكر من خرجه: (ومحمد بن عمرو هو الواقفي، بينه أبو داود الطيالسي في روايته، هو ضعيف واختلف عليه فيه، فقيل عن محمد بن عبد الله، وقيل عن عبد الله بن محمد، قال ابن عبد البر: إسناده حسن أحسن من حديث الإفريقي).

وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 86.

(2)

قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 270: (أخرجه البيهقي في الخلافيات .. ) فذكره، وذكر كلام البيهقي فيه، ثم أجاب عنه، وقال ابن حجر في الدراية 1/ 115: (وإسناده صحيح، وله شاهد عند أبي داود

)

ص: 738

وهذا يدل على أنه لا بأس أن يؤذن أحد ويقيم آخر

(1)

.

دليل القول الثاني

أما القول الثاني-وهو أن الأولى أن يقيم من أذن- فيستدل له بحديثي زياد بن الحارث الصدائي وابن عمر-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.

ووجه الاستدلال منهما: هو أن فيهما بيان أن من أذن فهو يقيم، فدل على أن ذلك أولى، وهذا ليس مخالفاً لحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه؛ لأن هذا يدل على الأولوية، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه على الجواز، ولا منافاة بينهما

(2)

.

الراجح

بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: أن الراجح هو القول الثاني؛ وذلك لأن به يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة لا

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 142؛ التمهيد 3/ 16.

(2)

انظر: التمهيد 3/ 16؛ المغني 2/ 71؛ حاشية ابن عابدين 2/ 59.

ص: 739

يصار إلى ترك بعضها

(1)

.

ثانياً: أنه لا يصح دعوى نسخ ما يدل على جواز أن يؤذن أحد ويقيم غيره؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأدلة، وفي هذه المسألة أمكن الجمع بين الأدلة كما سبق ذكره

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: الاعتبار ص 196؛ رسوخ الأحبار ص 239؛ فتح الباري 4/ 397.

(2)

انظر: الاعتبار ص 196، 495؛ رسوخ الأحبار ص 239.

ص: 740

‌المطلب الثاني عشر: إفراد الإقامة

ذهب بعض الحنفية

(1)

إلى أن إفراد الإقامة كان أولاً، ثم نسخ بالإقامة مثنى مثنى.

وعكس الحازمي فذهب إلى أن إفراد الإقامة هو الناسخ للإقامة مثنى مثنى

(2)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة،

(1)

هذه المسألة بحثتها في عدة مصادر من كتب الحنفية فلم أجد أحداً منهم ادعى النسخ، ولا نسبه إلى أحد من أئمة الحنفية، وإنما نسبه إليهم الحازمي وغيره. قال الحازمي في الاعتبار ص 168:(فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة، واحتجوا في هذا الباب بهذا الحديث -يعني به حديث أبي محذورة والذي فيه ذكر تثنية الإقامة- ورأوه محكماً وناسخاً لحديث بلال). وقال أبو إسحاق الجعبري في رسوخ الأحبار ص 236: (وهذا يدل على أن الإقامة مثنى كالأذان، وهو مذهب أبي حنيفة والكوفة والثوري، ورأوه محكماً ناسخاً لإيتارها لتأخرها) وقال ابن حجر في الفتح 2/ 106 - بعد ذكر حديث أنس-: (وهذا الحديث حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة.). وقال عبد الرحمن المباركفوري في تحفة الأحوذي 1/ 604: (قلت: وأجاب عن أحاديث الباب من لم يقل بإفراد الإقامة كالحنفية بأجوبة كلها مخدوشة لا يطمئن بواحد منها القلب السليم، فقال بعضهم: إن إفراد الإقامة كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة).

(2)

انظر: الاعتبار ص 200. ونسب أبو إسحاق الجعبري القول بنسخ تشفيع الإقامة إلى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. انظر: رسوخ الأحبار ص 237.

ص: 741

لكن السبب الأصلي للاختلاف هو تعارض الأحاديث الواردة فيها

(1)

.

الأدلة

ويستدل لمن قال بنسخ إفراد الإقامة بما يلي:

أولاً: عن أبي محذورة

(2)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، وفيه: «والإقامة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على

الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله»

(3)

.

(1)

انظر: بداية المجتهد 1/ 215.

(2)

هو: أوس-وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل سلمان-بن معير-وقيل: عمير- بن لوذان بن وهب، القرشي، الجمحي، المكي، المؤذن، أبو محذورة، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عبد الملك، وعبد الله بن محيريز، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وخمسين، وقيل بعد ذلك. انظر: الإصابة 1/ 98، 4/ 2353؛ تهذيب التهذيب 12/ 199؛ التقريب 2/ 463.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 84، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، ح (502)، والترمذي في سننه ص 57، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان، ح (192)، والنسائي في سننه ص 105، كتاب الأذان، باب كم الأذان من كلمة، ح (630)، وابن ماجة في سننه ص 137، كتاب الأذان، باب الترجيع في الأذان، ح (709)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 185، والإمام أحمد في المسند 24/ 100، وابن الجارود في المنتقى ص 73، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 134، وابن حبان في صحيحه ص 534، والدارقطني في سننه 1/ 237، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 613. قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح). وقال الحازمي في الاعتبار ص 198: (هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسوي).، وقال النووي في المجموع 3/ 70:(إسناده صحيح). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 268: (قال في الإمام: وهذا السند على شرط الصحيح). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 200: (وتكلم عليه البيهقي بأوجه من التضعيف، وردها ابن دقيق العيد في الإمام وصحح الحديث). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 84: (حسن صحيح).

ص: 742

(1)

هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمر، مخضرم، ثقة فقيه، روى عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، وروى عنه: ابنه عبد الرحمن، و إبراهيم النخعي، وغيرهما، وتوفي سنة أربع أو خمس وسبعين. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 310؛ التقريب 1/ 102.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 463، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 134، والدارقطني في سننه 1/ 242. قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 269 - بعد ذكر من خرجه-:(قال ابن الجوزي في التحقيق: والأسود لم يدرك بلالاً، قال صاحب التنقيح: وفيما قاله نظر، وقد روى النسائي للأسود عن بلال حديثاً). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 198: (فائدة: ورد في تثنية الإقامة أحاديث)، وذكر منها حديث الأسود بن يزيد، ولم يتكلم فيه بشيء.

(3)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 134. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 199: (وروى الحاكم

والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة: أن بلالاً كان يثني الأذان والإقامة، وادعى الحاكم فيه الانقطاع، ولكن في رواية الطحاوي: سمعت بلالاً، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة.).

ص: 743

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي محذورة رضي الله عنه هذا متأخر؛ لأنه كان بعد فتح مكة، وفيه تثنية الإقامة فيكون ناسخاً لحديث إفراد الإقامة؛ لأنه كان أول ما شرع الأذان، كما يدل عليه حديث أنس رضي الله عنه، ويؤكد القول بالنسخ أن بلالاً رضي الله عنه كان يقيم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى، كما يدل عليه حديث الأسود، وسويد بن غفلة؛ لأنهما قدما المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورويا عن بلال رضي الله عنه ذلك

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ تثنية الإقامة بما يلي:

أولاً: عن أنس رضي الله عنه قال: ذكروا النار والناقوس

(2)

، فذكروا اليهود والنصارى، «فأُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة»

(3)

.

ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين

(1)

انظر: الاعتبار ص 199؛ رسوخ الأحبار ص 236؛ فتح الباري 2/ 106؛ التلخيص الحبير 1/ 199؛ نيل الأوطار 2/ 42؛ تحفة الأحوذي 1/ 604.

(2)

الناقوس: خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، والنصارى يُعلمون بها أوقات صلاتهم. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 787؛ المصباح المنير ص 621.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 124، كتاب الأذان، باب بدء الأذان، ح (603)، ومسلم في صحيحه 2/ 62، كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، ح (378)(3).

ص: 744

مرتين، و الإقامة مرة مرة، غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة» فإذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا للصلاة)

(1)

.

ثالثاً: عن سلمة بن الأكوع

(2)

رضي الله عنه قال: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى، والإقامة فرداً»

(3)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أنس رضي الله عنه يدل أن بلالاً رضي الله عنه أمر بإفراد الإقامة، وكان ذلك أول ما شرع الأذان، لكن الأمر بقي على إفراد الإقامة حتى بعد فتح مكة، حيث أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على الإفراد بها بعد فتحها، وحتى إلى وفاة الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدليل حديثي ابن عمر رضي الله عنه وسلمة بن الأكوع؛ حيث إنهما يدلان على استمرار إفراد الإقامة طول عهد الرسول

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 86، كتاب الصلاة، باب في الإقامة، ح (510)، والنسائي في سننه ص 112، كتاب الأذان، باب كيف الإقامة، ح (668)، والطيالسي في مسنده ص 79، وأحمد في المسند 9/ 404، والدارمي في سننه 1/ 290، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 133، وابن حبان في صحيحه ص 531، والحاكم في المستدرك 1/ 313، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 609. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال النووي في المجموع 3/ 73: (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 112.

(2)

هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع-سنان- بن عبد الله، أبو مسلم، الأسلمي، شهد بيعة الرضوان، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه إياس، وزيد بن أسلم، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: الإصابة 1/ 753؛ تهذيب التهذيب 4/ 136.

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 241.

ص: 745

-صلى الله عليه وسلم

(1)

. وإذا كان الأمر كذلك فيكون ذلك ناسخاً لتثنية الإقامة؛ لأن الإفراد بها آخر الأمرين

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صفة الإقامة على أربعة أقوال:

القول الأول: أن الإقامة مثنى مثنى.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، وروي ذلك عن علي، وسلمة بن الأكوع، وأبي محذورة رضي الله عنهم. وبه قال مجاهد، وأبو العالية، وإبراهيم النخعي، والثوري، والحسن بن حي

(4)

.

القول الثاني: أن الإقامة تفرد، مرة مرة.

وهو مذهب المالكية

(5)

، وبه قال الليث بن سعد

(6)

.

(1)

لأن قوله (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام يشمل جميع عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن اسم الجنس المضاف من الألفاظ العامة. انظر: فتح الباري 1/ 351؛ عمدة القاري 3/ 44.

(2)

انظر: الاعتبار ص 200؛ رسوخ الأحبار ص 237؛ فتح الباري 2/ 106 ..

(3)

انظر: الأصل 1/ 129؛ شرح معاني الآثار 1/ 136؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 187؛ بدائع الصنائع 1/ 366؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 243؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 50.

(4)

انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 436؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 187؛ شرح معاني الآثار 1/ 136؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 187؛ التمهيد 3/ 44.

(5)

انظر: التمهيد 3/ 44؛ الاستذكار 1/ 415؛ بداية المجتهد 1/ 215؛ جامع الأمهات ص 87؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 124.

(6)

انظر: الاستذكار 1/ 415.

ص: 746

القول الثالث: أن الإقامة تفرد، مرة مرة، إلا قوله:(قد قامت الصلاة) فإنه يقولها مرتين.

وهو مذهب الشافعية

(1)

، والحنابلة

(2)

، وروي عن ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وأنس رضي الله عنهم وبه قال أكثر العلماء، ومنهم: الحسن البصري، ومكحول، والزهري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر

(3)

.

القول الرابع: أن الشخص مخير بين إفراد الإقامة وتثنيتها.

وهو قول للإمام أحمد

(4)

، ونحوه قول إسحاق بن راهوية، وداود بن علي، وابن جرير الطبري

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول -وهو أن الإقامة مثنى مثنى- بما يلي:

أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث أبي محذورة رضي الله عنه والأسود بن يزيد، وسويد بن غفلة؛ حيث إن فيها الإقامة مثنى مثنى.

(1)

انظر: الأم 1/ 173؛ مختصر المزني ص 22؛ العزيز 1/ 411؛ المجموع 3/ 72.

(2)

انظر: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق 2/ 487؛ المغني 2/ 58؛ الشرح الكبير 3/ 66؛ الممتع 1/ 322؛ شرح الزركشي 1/ 272؛ الإنصاف 3/ 66.

(3)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 186؛ التمهيد 3/ 44؛ المجموع 3/ 72.

(4)

انظر: انظر: المغني 2/ 57؛ شرح الزركشي 1/ 272؛ الإنصاف 3/ 66.

(5)

انظر: الاستذكار 1/ 417؛ المغني 2/ 57.

ص: 747

ثانياً: عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه أُري الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:«علمهن بلالاً» فعلمتهن بلالاً، قال: فتقدمت، فأمرني أن أقيم، فأقمت)

(1)

.

ثالثاً: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أخبرني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه رأى في المنام الأذان فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «علمه بلالاً» ، فأذن مثنى، وأقام مثنى، وقعد قعدة)

(2)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 489.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 185، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له-1/ 134. وأخرجه الترمذي في سننه ص 58، كتاب المواقيت، باب ما جاء في أن الإقامة مثنى مثنى، ح (194)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وذكر أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد، ثم قال: (حديث عبد الله بن زيد رواه وكيع عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام

-إلى أن قال: -وهذا أصح من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى) وأخرجه الدارقطني في سننه 1/ 242، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 618، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب مخمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري. فذكره. ورواه من طرق أخري ثم قال: (والحديث مع الاختلاف في سنده مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذاً ولا عبد الله بن زيد، ولم يسم من حدثه عنهما ولا عن أحدهما، -إلى أن قال: - فغير جائز أن يحتج بخبر غير ثابت على أخبار ثابتة. وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي فقال: (الطريق الأول الذي ذكره البيهقي رجاله على شرط الصحيح، وقد صرح فيه ابن أبي ليلى بأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوه، فهو متصل لما عرف من مذاهب أهل السنة في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وأن جهالة الإسم غير ضارة، وقال ابن حزم: هذا إسناد في غاية الصحة. وإذا صح هذا الطريق فبعد ذلك إنما يعلل بالاختلاف إذا كان ممن هو غير مستضعف، وإلا فرواية الضعيف لا تكون سبباً لضعف رواية الحافظ- إلى أن قال: -فظهر بذلك ضعف قول البيهقي). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 267: (قال في الإمام: وهذا رجال الصحيح، وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة، وأن جهالة أسمائهم لا تضر).

ص: 748

ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث إنها تدل على أن الإقامة مثنى مثنى

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أن الإقامة مرة مرة- بحديث أنس رضي الله عنه قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة»

(2)

.

فإنه يدل على أن الإقامة مرة مرة

(3)

.

واعترض عليه: بأنه جاء في روايات أخري لحديث أنس رضي الله عنه زيادة: (إلا الإقامة) مما يدل على تكرار قوله: (قد قامت الصلاة).

(4)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن الإقامة مرة مرة، إلا قوله:(قد قامت الصلاة) فيقوله مرتين- بما يلي:

أولاً: حديث ابن عمر

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 134؛ الجوهر النقي 1/ 619؛ نصب الراية 1/ 267.

(2)

سبق تخريجه في ص 492.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 45.

(4)

انظر: فتح الباري 2/ 104.

ص: 749

وحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما الذين سبق ذكرهما في دليل من قال بنسخ تثنية الإقامة؛ فإنهما يدلان على إفراد الإقامة.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: «فأُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة، إلا الإقامة»

(1)

.

ثالثاً: عن سعد

(2)

مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن أذان بلال كان مثنى مثنى، وإقامته مفردة)

(3)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل على إفراد الإقامة

(4)

.

دليل القول الرابع

أما القول الرابع فدليله كل ما صح وروي في الإقامة، ومنها ما سبق ذكره في دليل الأقوال السابقة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 124، كتاب الأذان، باب الأذان مثنى، ح (605)، ومسلم في صحيحه 2/ 61، كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، ح (378)(2).

(2)

هو: سعد بن عائذ، ويقال: ابن عبد الرحمن، المؤذن، مولى الأنصار، ويقال: مولى عمار، المعروف بسعد القرظ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابناه: عمار، وعمر، وغيرهما، وكان مؤذن قباء فنقله أبو بكر، وقيل عمر، إلى المسجد النبوي، وعاش إلى أيام حجاج. انظر: الإصابة 1/ 707؛ تهذيب التهذيب 3/ 413.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 140، كتاب الأذان، باب إفراد الإقامة، ح (731). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 140:(صحيح).

(4)

انظر: المجموع 3/ 73؛ المغني 2/ 59.

ص: 750

ووجه لاستدلال منها هو: أن كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محمول على الإباحة والتخيير، وكله جائز؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بهذا

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-و الله أعلم بالصواب- أن الراجح هو جواز صفتي الإقامة وهما الشفع والإيتار، كما هو القول الرابع، وذلك لأن بلالاً رضي الله عنه كان مؤذناً في المدينة، وأبو محذورة رضي الله عنه كان مؤذناً في مكة، وقد روي عن كل منهما تثنية الإقامة وإفرادها

(2)

، وهو دليل للتخيير وإباحة كلا الصفتين، ورد لقولي النسخ المتضادين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكر بعض ما ورد في صفة الأذان والإقامة: (وإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث، ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكرهون شيئاً من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات، ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.

وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى، كما يفعله بعض أهل الشرق، فهؤلاء

(1)

انظر: الاستذكار 1/ 417؛ فتح بالباري 2/ 106؛ نيل الأوطار 2/ 42؛ تحفة الأحوذي 1/ 604.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 132 - 134؛ سنن الدارقطني 1/ 236 - 243.

ص: 751

من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً. وكذلك ما يقوله بعض الأئمة-ولا أحب تسميته- من كراهة بعضهم للترجيع، وظنهم أن أبا محذورة غلط في نقله، وأنه كرره ليحفظه، ومن كراهة من خالفهم شفع الإقامة، مع أنهم يختارون أذان أبي محذورة، هؤلاء يختارون إقامته، ويكرهون أذانه، وهؤلاء يختارون أذاته ويكرهون إقامته، فكلاهما قولان متقابلان، والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا)

(1)

.

ولكن الأولى مع هذا إيتار الإقامة؛ لكون الأحاديث الدالة عليها أصح وأثبت من أحاديث تثنيتها

(2)

والله أعلم.

(1)

مجموع الفتاوى 22/ 66.

(2)

انظر: تحفة الأحوذي 1/ 609.

ص: 752

‌المبحث الثاني طهارة ما يصلى فيه، وعليه، واستقبال القبلة

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة.

المطلب الثاني: رش الماء على بول الكلب إذا بال في المسجد.

المطلب الثالث: بول ما يؤكل لحمه.

المطلب الرابع: الصلاة في المقبرة والحمام وأعطان الإبل وغير ذلك مما ورد النهي عن الصلاة فيها.

المطلب الخامس: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام.

ص: 753

‌المطلب الأول: اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة

ذهب ابن حزم، والمجد ابن تيمية

(1)

إلى اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة، وأن ما يستدل منه على عدم اشتراط ذلك فهو منسوخ؛ لتقدمه، وتأخر ما يدل على الاشتراط

(2)

.

والقول بالنسخ ليس له أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، وإنما السبب لاختلافهم فيها هو تعارض ظواهر الآثار

(3)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجلسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟

(1)

هو: عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم، الحراني الفقيه الحنبلي، مجد الدين أبو البركات، سمع من عمه الخطيب فخر الدين، وابن سكينة، وغيرهما، وبرع في علوم عدة، ومن مؤلفاته: المحرر في الفقه، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة. انظر: البداية والنهاية 13/ 168؛ شذرات الذهب 5/ 257.

(2)

انظر قول ابن حزم في: المحلى 1/ 172. أما المجد ابن تيمية فنسب إليه القول بالنسخ: ابن مفلح في الفروع 2/ 97، وابن مفلح الحفيد في المبدع في شرح المقنع 1/ 386، والبهوتي في كشاف القناع 1/ 342. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/ 409 - بعد ذكر الحديث الذي يستدل منه على عدم الاشتراط-: (قلنا: قد قال بعض أصحابنا: هذا منسوخ؛ لأنه كان بمكة في أول الأمر).

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 149.

ص: 754

أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها

(1)

فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم

(2)

، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك. فانطلق منطلق إلى فاطمة

(3)

، وهي جويرية فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:«اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش»

(4)

.

ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان

(1)

السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه، يكون ذلك للناس والخيل والإبل، وقيل: هو لفافة الولد من الدواب، وهو من الناس المشيمة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 802؛ لسان العرب 6/ 353.

(2)

هو عقبة ابن أبي معيط، كما هو مصرح في رواية مسلم وغيره.

(3)

هي: فاطمة بنت محمد-رسول الله- بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشية الهاشمية، ولدت قبل البعثة، و تزوجها علي رضي الله عنه بعد بدر، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها أبناهما: الحسن والحسين، وغيرهما، وتوفيت سنة إحدى عشرة. انظر: الإصابة 4/ 2596 - 2600.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 109، كتاب الصلاة، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئاً من الأذى، ح (520)، ومسلم في صحيحه 3/ 484، كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين، ح (1794)(107).

ص: 755

يمشي بالنميمة

(1)

(2)

.

ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنة أبي حبيش: «لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي»

(3)

.

رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب

(4)

من ماء فهريق عليه»

(5)

.

خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «ما حملكم على إلقائكم

(1)

النميمة: نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 798.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 50، كتاب الوضوء، باب، ح (218)، ومسلم في صحيحه 1/ 532، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، ح (292)(111).

(3)

سبق تخريجه في ص 409.

(4)

الذنوب: الدلو العظيمة، وقيل: لا تسمى ذنوبا إلا إذا كان فيها ماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 614؛ المصباح المنير ص 210.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 51، كتاب الوضوء، باب يهريق الماء على البول، ح (221).

ص: 756

نعالكم؟» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال:«إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً» أو قال: «أذى»

(1)

.

سادساً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله؟ قال: «نعم إلا أن يرى فيه شيئاً فيغسله»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث-غير حديث ابن مسعود رضي الله عنه تدل على أن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة، وهي متأخرة؛ لأنها مدنية، فتكون ناسخة لما يدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه من عدم الاشتراط؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة على ثلاثة أقوال:

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 106، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعال، ح (650). وقال النووي في المجموع 3/ 89:(رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هو صحيح على شرط مسلم) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 106.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 108، كتاب الطهارة، باب الصلاة في الثوب الذي يجامع فيه، ح (542). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 110:(هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 108.

(3)

انظر: المحلى 1/ 172؛ شرح العمدة 2/ 409؛ الفروع 2/ 97؛ المبدع 1/ 386؛ كشاف القناع 1/ 342.

ص: 757

القول الأول: أن إزالة النجاسة من شروط صحة الصلاة.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

، وقول جمهور أهل العلم

(4)

.

القول الثاني: أن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة مع الذكر للنجاسة، والقدرة على إزالتها، وليست بشرط مع النسيان، أو مع عدم القدرة.

وهو قول للإمام مالك، وقال به بعض أصحابه

(5)

.

القول الثالث: أن إزالة النجاسة ليست بشرط لصحة الصلاة، بل سنة من سنن الصلاة على كل حال، أي سواء ذكرها أم لا، وقدر على إزالتها أم لا.

وهو قول المالكية

(6)

.

(1)

انظر: الأصل 1/ 200؛ مختصر القدوري ص 26؛ بدائع الصنائع 1/ 301؛ الهداية وشرحه العناية 1/ 256.

(2)

انظر: الأم 1/ 123؛ التنبيه للشيرازي ص 35؛ الوجيز وشرحه العزيز 2/ 6؛ المجموع 3/ 97؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 188.

(3)

انظر: المغني 2/ 464؛ المحرر للمجد ابن تيمية 1/ 47؛ الشرح الكبير 3/ 279؛ الفروع 2/ 91؛ شرح الزركشي 1/ 370؛ الإنصاف 3/ 280.

(4)

انظر: المغني 2/ 464؛ المجموع 3/ 97.

(5)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 137؛ الاستذكار 1/ 376؛ الكافي ص 64؛ بداية المجتهد 1/ 148؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 1/ 188، 2/ 136؛ مواهب الجليل 1/ 188، 2/ 138.

(6)

راجع المصادر في الحاشية السابقة.

ص: 758

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ-غير حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ حيث إنها تدل على غسل النجاسات من الثياب، والأرض، والبدن، فدل ذلك أن إزالتها شرط لصحة الصلاة

(1)

.

ثانياً: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .

(2)

، فإنه روي عن ابن عباس، والحسن، وابن سيرين أتهم قالوا:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} . اغسلها بالماء وانقها من الدرن والقذر

(3)

.

فدلت هذه الأدلة أن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة

(4)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة عند الذكر والقدرة فقط- بما يلي:

أولاً: أما اشتراط ذلك عند الذكر والقدرة فللأدلة التي سبق ذكرها

(1)

انظر: التمهيد 2/ 391؛ المغني 2/ 464؛ المجموع 3/ 98.

(2)

سورة المدثر، الآية (4).

(3)

انظر: التمهيد 2/ 391؛ تفسير ابن كثير 4/ 441؛ فتح القدير للشوكاني 4/ 403.

(4)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 138؛ التمهيد 2/ 391؛ المغني 2/ 464؛ المجموع 3/ 98.

ص: 759

في دليل القول الأول -غير حديث ابن مسعود، وأبي سعيد-رضي الله عنهما

(1)

.

ثانياً: أما عدم اشتراط ذلك عند النسيان وعدم القدرة فلما يلي:

أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ثانياً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ووجه الاستدلال منهما: هو أن الحديث الأول يدل على عدم اشتراط ذلك عند عدم

القدرة، ولذلك لم يقطع الصلاة عندما أُلقي عليه الدم والفرث، بل استمر فيها.

والحديث الثاني يدل على جواز صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة إذا كان ساهياً غير عالم بها، فلو كان إزالة النجاسة شرطاً مع عدم الذكر لما بنى على صلاته

(2)

.

واعترض عليه: بأن الحديث الأول كان بمكة قبل الهجرة في وقت لعل الصلوات الخمس لم تكن فُرضت، ولم تحكم بنجاسة الدم وذبائح المشركين، والأمر بتجنب النجاسة متأخر؛ لأنه كان بالمدينة

(3)

.

أما الحديث الثاني فالقذر المذكور فيه لعله كان شيئاً مستقذراً ولم يكن

(1)

انظر: الإشراف 1/ 138؛

(2)

انظر: التمهيد 2/ 399؛ بداية المجتهد 1/ 150.

(3)

انظر: شرح العمدة لابن تيمية 2/ 409؛ المبدع 1/ 386؛ كشاف القناع 1/ 348.

ص: 760

نجساً، أو كان شيئاً يسيراً من طين الشوارع، وذلك معفو عنه

(1)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث بما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديثي ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

ووجه الاستدلال منهما: هو أنه صلى الله عليه وسلم رُمي عليه بالدم والفرث فلم يقطع الصلاة، فلو كانت إزالة النجاسة شرطاً لصحة الصلاة لقطع الصلاة. وخلع نعليه ولم يعد الصلاة بل بنى على ما مضى من الصلاة، ولو كانت إزالة النجاسة شرطاً لأعاد الصلاة، فثبت أن إزالة النجاسة سنة وليست بشرط لصحة الصلاة

(2)

.

ويعترض عليه بما اعترض به على وجه استدلال القول السابق.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم الصواب-أن

الراجح هو أن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة، وذلك لما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .

(3)

، فإنه ظاهر في الثياب

(1)

انظر: المجموع 3/ 98.

(2)

انظر: التمهيد 2/ 399؛ بداية المجتهد 1/ 150.

(3)

سورة المدثر، الآية (4).

ص: 761

الملبوسة، وأن معناه طهرها من النجاسة

(1)

.

ثانياً: ولأنه ورد أحاديث كثيرة تدل على اجتناب النجاسة والطهارة منها، والاحتياط للصلاة واجب، وليس المرء على يقين من أدائها إلا في ثوب طاهر، وبدن طاهر، وموضع طاهر من النجاسة

(2)

.

ثالثاً: ولأن الأدلة التي استدل بها من قال بعدم اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة يتطرق إليها احتمالات، وبعضها كان بمكة فيتطرق إليها كذلك احتمال النسخ، لأن الأحاديث الدالة على إزالة النجاسة متأخرة؛ لأنها مدنية، بخلاف أدلة من قال باشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة، فإن فيها ما لا يتطرق إليها احتمالات، لذلك كان القول بها متعيناً.

والله أعلم.

(1)

انظر: التمهيد 2/ 391؛ المجموع 3/ 98.

(2)

انظر: التمهيد 2/ 398؛ المبدع 1/ 386.

ص: 762

‌المطلب الثاني: رش الماء على بول الكلب إذا بال في المسجد

ذهب البيهقي إلى أن بول الكلب نجس، وينضح مكان الكلب بالماء إن كان ذلك في المسجد، وأن عدم رش الماء على بوله إذا كان في المسجد منسوخ

(1)

.

ويدل عليه كلام ابن حجر، وإن لم يصرح بالنسخ

(2)

.

وتين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي للاختلاف هو هل يتعين الماء في تطهير الأرض النجس، أو أن جفافها بالشمس وغيرها تؤثر في تطهيرها

(3)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً»

(4)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في

(1)

انظر: السنن الكبرى له 1/ 369، 2/ 603.

(2)

قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 351 - بعد ذكر حديث ابن عمر الذي فيه ذكر عدم الرش-: (والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها).

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 165؛ الجوهر النقي لابن التركماني 2/ 602.

(4)

سبق تخريجه في ص 124.

ص: 763

إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات»

(1)

.

ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات»

(2)

.

رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أخبرتني ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أصيح يوما واجماً

(3)

، فقالت ميمونة-رضي الله عنها: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أمَ والله ما أخلفني» قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو

(4)

كلب تحت فسطاط

(5)

لنا، فأمر به فأُخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له:«قد وعدتني أن تلقاني البارحة» قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير)

(6)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 134.

(2)

سبق تخريجه في ص 134.

(3)

واجماً: أي مهتماً، والواجم: الذي أسكته الهم وعلته الكآبة، وقيل: الوجوم: الحزن. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 827؛ مختار الصحاح ص 627.

(4)

الجرو: ولد الكلب والسباع. انظر: مختار الصحاح ص 89؛ المصباح المنير ص 98.

(5)

الفسطاط: بيت من الشعر، والمراد به هنا بعض حجال البيت. انظر: المصباح المنير ص 472؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 143.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 269، كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح (2105)(82).

ص: 764

خامساً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو في المسجد بأعلى صوته: (اجتنبوا اللغو في المسجد) قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً عزباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)

(1)

.

سادساً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب»

(2)

.

ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بالوجهين التاليين:

الوجه الأول: أن بعض هذه الأحاديث تدل على نجاسة الكلب، ونضح

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 66، كتاب الطهارة، باب في طهور الأرض إذا يبست، ح (382)، والبيهقي في السنن الكبرى- واللفظ له- 2/ 602. وذكره البخاري في كتاب الوضوء من صحيحه معلقاً، نحو لفظ أبي داود، إلا أن لفظ (تبول) لا يوجد في أكثر النسخ. انظر: صحيح البخاري ص 42، ح (174). وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ الألباني. انظر: مجموع الفتاوى 21/ 480؛ صحيح سنن أبي داود ص 66.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 77، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، ح (455)، والترمذي في سننه ص 151، كتاب الصلاة، باب ما ذكر في تطييب المساجد، ح (594)، وابن ماجة في سننه ص 145، كتاب المساجد، باب تطهير المساجد وتطييبها، ح (759). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود

ص 66.

ص: 765

مكانه بالماء، فتكون ناسخة للحديث الذي يدل على عدم رش الماء على بوله إذا بال في المسجد؛ لأن ذلك كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب وغسل الإناء من ولوغه

(1)

.

الوجه الثاني: أن دخول الكلاب إلى المسجد وعدم رش الماء على بوله كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها، يدل عليه قول ابن عمر:(كان عمر بن الخطاب يقول بأعلى صوته: اجتنبوا اللغو في المسجد) ثم قوله: (كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه إشارة إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد حتى من لغو الكلام، فيكون ذلك ناسخاً للحالة الأولى

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم فيما يطهر به الأرض إذا أصابتها نجاسة على قولين:

القول الأول: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بالماء، وكذلك بالجفاف إذا ذهب أثرها، فيجوز الصلاة عليها دون التيمم.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، ونحوه قول سفيان الثوري

(4)

، وقول في مذهب

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 369، 370، 2/ 603.

(2)

انظر: فتح الباري 1/ 351.

(3)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 133؛ مختصر القدوري ص 21؛ بدائع الصنائع 1/ 251؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 199؛ المختار مع شرحه الاختيار 1/ 33؛ عمدة القاري 3/ 44.

(4)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 133؛ التمهيد 2/ 112.

ص: 766

أحمد، اختاره بعض الحنابلة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

القول الثاني: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها لا تطهر إلا بالماء.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

، وقول الحسن بن حي، وأبي ثور، وابن المنذر

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بالماء، وكذلك بالجفاف إذا ذهب أثرها- بما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه: (وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك).

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 480، 510؛ الاختيارات الفقهية للبعلي ص 25؛ الإنصاف 2/ 298.

(2)

انظر: التمهيد 2/ 110؛ الاستذكار 1/ 211؛ بداية المجتهد 1/ 164؛ جامع الأمهات ص 38؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 1/ 229، 234.

(3)

انظر: الأم 1/ 118؛ الحاوي 2/ 257؛ العزيز 1/ 61؛ روضة الطالبين ص 15؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 85.

(4)

انظر: المغني 2/ 502؛ الكافي 1/ 191؛ الشرح الكبير 2/ 297؛ الفروع 1/ 351؛ شرح الزركشي 1/ 378؛ الإنصاف 2/ 298.

(5)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 134؛ المغني 2/ 502.

ص: 767

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فهريق عليه»

(1)

.

وجه الاستدلال منهما: هو أن الصحابة رضي الله عنهم-لم يرشوا الماء على بول الكلاب؛ لأنها جفت وذهب أثر النجاسة، إذ من المعلوم أن النجاسة لو كانت باقية لوجب غسل ذلك. وأمر صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي عند بقاء أثر النجاسة. فثبت منه أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بالجفاف إذا ذهب أثر النجاسة، كما تطهر بالماء

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها لا تطهر إلا بالماء- بما سبق في دليل القول الأول من حديث أنس رضي الله عنه.

ووجه الاستدلال منه: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء على بول الأعرابي، ولو طهرها يبسها لتركها حتى تيبس، فثبت منه أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها لا تطهر إلا بالماء

(3)

.

واعترض عليه: بأن الأمر بصب الماء عليه دون تركها حتى تيبس لعله

(1)

سبق تخريجه في ص 500.

(2)

انظر: التمهيد 2/ 112؛ مجموع الفتاوى 21/ 480؛ عمدة القاري 3/ 44؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 199.

(3)

انظر: الأم 1/ 118؛ التمهيد 2/ 113؛ المغني 2/ 530؛ الكافي 1/ 191.

ص: 768

كان لأجل تعجيل تظهير الأرض، وليس لأن طهارتها لم يكن يحصل بغيره

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لأنه يمكن به الجمع بين الأحاديث المختلفة، وذلك بحمل حديث صب الماء على البول بما إذا كان أثر النجاسة موجوداً وأريد تعجيل التطهير، فإن تطهيرها يكون بالماء، وحمل حديث ابن عمر في عدم رش الماء على بول الكلاب بما إذا جفت الأرض وذهب أثر النجاسة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 480؛ فتح القدير 1/ 199.

(2)

انظر: الاعتبار ص 495؛ مجموع الفتاوى 21/ 480؛ فتح القدير 1/ 199.

ص: 769

‌المطلب الثالث: بول ما يؤكل لحمه

ذهب الإمام أبو حنيفة-رحمه الله إلى أن بول ما يؤكل لحمه نجس، وأن ما يدل على شرب أبوال الإبل فإنه قد نسخ بالأمر بالتنزه من البول

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، والسبب الثاني له هو الاختلاف في مفهوم الأحاديث التي يُستدل بها في المسألة

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قدم أناس من عكل

(3)

أو عرينة

(4)

فاجتووا

(5)

المدينة، «فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح

(6)

وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار،

(1)

انظر نسبة القول بالنسخ إليه في: أصول فخر الإسلام البزدوي 1/ 588؛ أصول السرخسي 1/ 133؛ كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 1/ 588؛ البحر الرائق 1/ 406. وانظر: المحيط البرهاني 1/ 210؛ العناية للبابرتي 1/ 102؛ البناية للعيني 1/ 401.

(2)

راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: بداية المجتهد 1/ 159.

(3)

عكل: بضم المهملة وإسكان الكاف، قبيلة من تيم الرباب. فتح الباري 1/ 422.

(4)

عرينة: بالعين والراء المهملتين والنون، مصغراً، حي من قضاعة وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني. فتح الباري 1/ 422.

(5)

أي أصابهم الجوى، وهو: المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها أو استوخموها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 312.

(6)

اللقاح: النوق ذوات الألبان. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 608.

ص: 770

فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وألقوا في الحر يستسقون فلا يسقون

(1)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر عذاب القبر من البول»

(3)

.

ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 53، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ح (233)، ومسلم في صحيحه 4/ 308، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح (1672)(15).

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 128، وقال:(الصواب مرسل) وذكر ابن حجر في الفتح 1/ 421: أنه

صححه ابن خزيمة وغيره.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 79، كتاب الطهارة، باب التشديد في البول، ح (348)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 115، وأحمد في المسند 14/ 77، والدارقطني في سننه 1/ 128، والحاكم في المستدرك 1/ 293. وصححه الدارقطني، والحاكم، والذهبي، وابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: سنن الدارقطني 1/ 128، المستدرك مع التلخيص 1/ 293؛ بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 1/ 144؛ إرواء الغليل 1/ 311.

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 127، وقال:(المحفوظ مرسل). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 310: (قلت: وعلة هذا الموصول أبو جعفر الرازي، وهو ضعيف لسوء حفظه، لكن رواه حماد بن سلمة عن ثمامة بن أنس عن أنس به، هكذا رواه جماعة عن حماد، ورواه أبو سلمة عن حماد عن ثمامة مرسلاً. والمحفوظ الموصول كما قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، قلت: سنده صحيح).

ص: 771

رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا من البول»

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنزاه من البول من غير فصل بين بول وبول فيدل ذلك على نجاسة جميع الأبوال؛ لأن قوله: (من البول) عام يشمل جميع الأبوال، سواء كان بول إنسان أو بول مأكول اللحم أو غيره

(2)

، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون ناسخاً لحديث العرنيين الذي فيه الأمر بشرب أبوال الإبل؛ لأن حديث العرنيين

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 128 - وقال: (لا بأس به) -، والحاكم في المستدرك 1/ 293. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 212:(رواه البزار والطبراني في الكبير، وفيه أبو يحيى القتات، وثقه يحيى بن معين في رواية، وضعفه الباقون). وقال النووي في المجموع 2/ 391: (رواه عبد بن حميد-شيخ البخاري ومسلم- في مسنده، من رواية ابن عباس-رضي الله عنهما بإسناد كلهم عدول ضابطون بشرط الصحيحين إلا رجلاً واحداً وهو أبو يحيى القتات فاختلفوا فيه فجرحه الأكثرون ووثقه يحيى بن معين في رواية عنه، وقد روى له مسلم في صحيحه، وله متابع على حديثه وشواهد يقتضي مجموعها حسنه وجواز الاحتجاج به). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 312: (قلت: وسكت عليه الحاكم ثم الذهبي، وقال الدارقطني: عقب الحديث: (لا بأس به) قلت: وكأنه يعني في الشواهد. ويشهد له حديثه الآخر وهو أتم منه).

(2)

انظر: المحلى 1/ 178؛ أصول السرخسي 1/ 133؛ كشف الأسرار للبخاري 1/ 588؛ فتح الباري 1/ 421.

ص: 772

والأمر فيه بشرب أبوال الإبل كان في أول الإسلام، حيث ذكر فيه المثلة، ثم حرمت المثلة ونسخ جوازها

(1)

، فعلم أن إباحة البول كالمثلة، أي كما نسخ إباحة المثلة كذلك نسخ إباحة البول

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ- إن النسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ، وعدم التوفيق بين النصين، وما ذكر من وجه الاستدلال هو احتمل، والنسخ لا يثبت بالاحتمال

(3)

.

ب- إن نسخ واحد من أحكام النص لا يوجب نسخ بقيتها

(4)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في حكم بول ما يؤكل لحمه على قولين:

القول الأول: أن بول ما يؤكل لحمه نجس.

وهو مذهب الحنفية

(5)

، والشافعية

(6)

، وقول للإمام أحمد

(7)

، وروي

(1)

سيأتي القول في نسخ المثلة في مبحث الجنايات.

(2)

انظر: البناية 1/ 401.

(3)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية لابن أبي العز 1/ 360؛ فتح الباري 1/ 745.

(4)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 361.

(5)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 110؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 125؛ بدائع الصنائع 1/ 196؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 101؛ البناية 1/ 396.

(6)

انظر: التنبيه ص 27؛ الوجيز وشرحه العزيز 1/ 35؛ روضة الطالبين ص 10؛ المجموع 2/ 392؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 79.

(7)

انظر: المغني 2/ 492؛ الشرح الكبير 2/ 345؛ الممتع 1/ 271؛ الإنصاف 2/ 345.

ص: 773

ذلك عن جابر بن زيد، والحسن البصري، وابن سيرين، وحماد بن أبي سليمان، وبه قال ابن حزم

(1)

.

القول الثاني: أن بول ما يؤكل لحمه طاهر.

وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية

(2)

........................................

ومذهب المالكية

(3)

، والحنابلة

(4)

، وقول عطاء، والنخعي، والزهري، والثوري، والليث

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ.

ثانياً: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .

(6)

، والبول خبيث وكانت العرب تستخبثه

(7)

.

(1)

انظر: المحلى 1/ 169، 179.

(2)

انظر قوله في: شرح معاني الآثار 1/ 108؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 125؛ بدائع الصنائع 1/ 196؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 101.

(3)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 282؛ الكافي ص 18؛ التمهيد 5/ 141؛ بداية المجتهد 1/ 158؛ جامع الأمهات ص 33؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 1/ 132؛ مواهب الجليل 1/ 132.

(4)

انظر: المغني 2/ 492؛ الشرح الكبير 2/ 345؛ الممتع 1/ 271؛ الإنصاف 2/ 345؛ زاد المستقنع ص 9.

(5)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 125؛ المغني 2/ 492؛ المجموع 2/ 392.

(6)

سورة الأعراف، الآية (157).

(7)

انظر: المحلى 1/ 178؛ المجموع 2/ 392؛ التلخيص الحبير 1/ 44.

ص: 774

ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»

(1)

.

فقوله في الحديث: (من البول) عام يشمل جميع الأبوال

(2)

.

واعترض عليه: بأن المراد به بول الإنسان؛ لما في رواية أخرى لهذا الحديث: (لا يستتر من بوله)

(3)

.

وأجيب: بأن كلا الروايتين ثابت، ورواية:(لا يستتر من البول) فيه زيادة على رواية الآخرين وزيادة العدل يجب قبوله

(4)

.

ويستدل للقول الثاني -وهو أن بول ما يؤكل لحمه طاهر- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل ا لقول بالنسخ من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه:«فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» .

والنجس لا يباح شربه، ولو كان للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة

(5)

.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبني المسجد في

(1)

سبق تخريجه في ص 500.

(2)

انظر: المحلى 1/ 178؛ تحفة الأحوذي 1/ 255.

(3)

انظر: فتح الباري 1/ 397، 399؛ تحفة الأحوذي 1/ 255.

(4)

انظر: المحلى 1/ 179.

(5)

انظر: المغني 2/ 492؛ الشرح الكبير 2/ 347.

ص: 775

مرابض

(1)

الغنم»

(2)

.

ثالثاً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ» قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم فتوضأ من لحوم الإبل» قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم) قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا)

(3)

.

ومرابض الغنم لا تخلو من أبوالها، فدل على طهارتها، وإلا لما جازت الصلاة فيه

(4)

.

رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه»

(5)

.

والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير المساجد وتنظيفها، وقد طاف بالبيت على بعير،

(1)

المرابض جمع مربض، وهو مأوى الغنم. انظر: لسان العرب 5/ 109؛ المصباح المنير ص 215؛ القاموس المحيط ص 577.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 53، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب، ح (234)، ومسلم في صحيحه 2/ 182، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح (524)(10).

(3)

سبق تخريجه في ص 287.

(4)

انظر: المغني 2/ 493؛ الشرح الكبير 2/ 347؛ مجموع الفتاوى 21/ 559، 573.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 320، كتاب الحج، باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه، ح (1612)، و مسلم في صحيحه 3/ 398، كتاب الحج، باب الطواف على بعير وغيره، ح (1272)(253).

ص: 776

فدل ذلك على أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، إذ لو كانت نجسة لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك

(1)

.

خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا من شأن العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ

(2)

شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله قد عودك الله في الدعاء خيراً فادع لنا، فقال: «أتحب ذلك؟) قال: نعم، قال: فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة فسكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر

(3)

.

ولو كان ماء الفرث إذا عصر نجساً لم يجز للمرء أن يجعله على كبده فينجس بعض بدنه وهو غير واجد لماء طاهر يغسل موضع النجس منه

(4)

.

(1)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 283؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 398؛ مجموع الفتاوى 21/ 573.

(2)

القيظ: هو شدة الحر. انظر: مختار الصحاح ص 492؛ المصباح المنير ص 521.

(3)

أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 465، والحاكم في المستدرك 1/ 263. وقال:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي. وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 76، أنه أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان، ثم قال بعد ذكر سند ابن حبان:(رجاله كلهم مخرج لهم في الصحيح).

(4)

انظر: صحيح ابن حبان ص 465؛ المستدرك للحاكم 1/ 263؛ التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 77.

ص: 777

سادساً: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل لحمه فلا بأس ببوله»

(1)

.

وهذا ظاهر في طهارة بول ما يؤكل لحمه.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: أن الراجح هو القول الثاني، وذلك لما يلي:

أ-لأن أدلة القول الأول ليست نصاً في المسألة؛ لأن قوله: (استنزهوا من البول) وقوله: (لا يستتر من البول) يحتمل كل منهما أن يكون المراد به بول الإنسان، ويؤكد هذا الاحتمال ورود قوله:(لا يستتر من البول) بلفظ: (لا يستتر من بوله)، ويحتمل أن يكون المراد به عموم الأبوال، فيشمل بول ما

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 128، وقال:(لا يثبت، عمرو بن الحصين ويحيى بن العلاء ضعيفان، وسوار بن مصعب أيضاً متروك، وقد اختلف عنه، فقيل عنه: ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 21/ 574 بعد ذكر الحديث: (وهذا ترجمة المسألة، إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولا ورداً، فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: هو موقوف على جابر. فإن كان الأول فلا ريب فيه، وإن كان الثاني فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة أبي موسى الأشعري وغيره، فينبني على أن قول الصحابة أولى من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع، وإن علم أنه انتشر في سائرهم ولم ينكروه، فصار إجماعاً سكوتياً).

ص: 778

يؤكل لحمه، لكن على هذا الاحتمال-مع ضعفه- يقال: إن بول ما يؤكل لحمه مخصوص منه بدليل الأحاديث الدالة على الطهارة.

ب-ولأن الأحاديث الدالة على طهارتها أكثر وأقوى.

ج-ولأن ما يؤكل لحمه مما يكثر ملابسة الناس له، ومباشرتهم لكثير منه؛ حيث إن الإبل والغنم كانت غالب أموالهم، فلو كانت أبوالها نجسة لا تصح الصلاة معها، ويجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً يحصل به معرفة الحكم، ولو بين ذلك لنقل، وعدم ذلك كله دليل على طهارة أبوالها وعدم نجاستها

(1)

.

ثانياً: أنه لا يصح دعوى نسخ ما يدل على طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ وذلك لما يلي:

أ-لأنه لا يوجد دليل على أن حديث: (استنزهوا من البول) كان بعد حديث العرنيين، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ، ولا يثبت ذلك بالاحتمال

(2)

.

ب- ولأنه لا يصار إلى النسخ إلا عند عدم التوفيق بين النصين، وهنا يمكن التوفيق بينهما، وذلك بحمل حديث (استنزهوا من البول) على بول الإنسان، أما حديث العرنيين فهو في بول الإبل، ولا منافاة بينهما

(3)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 578، 579؛ نيل الأوطار 1/ 50.

(2)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية لابن أبي العز 1/ 360؛ فتح الباري 1/ 745.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 551؛ التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 360؛ تحفة الأحوذي 1/ 255.

ص: 779

ومع هذا ينبغي أن يصلي الشخص نظيف الثوب والبدن والمكان، وأن يتوقى جميع أنواع الأبوال؛ خروجاً من خلاف العلماء، وأداءً للفريضة على يقين.

والله أعلم.

ص: 780

‌المطلب الرابع: الصلاة في المقبرة والحمام وأعطان الإبل

وغير ذلك مما ورد النهي عن الصلاة فيها

ذهب ابن عبد البر إلى أنه يجوز الصلاة في كل مكان إذا كان طاهراً من الأنجاس، وأن النهي عن الصلاة في المقبرة، والمزبلة، والحمام، وأعطان

(1)

الإبل، وغير ذلك مما ورد النهي عن الصلاة فيه، فإنه قد نسخ

(2)

.

وظهر منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، ولكن السبب الأصلي له هو تعارض ظواهر الآثار الواردة فيها

(3)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت

(1)

الاعطان جمع عطن، وهو: مبرك ومناخ الإبل عند الماء. انظر: مختار الصحاح ص 387؛ المصباح المنير ص 416.

(2)

قال ابن عبد البر في التمهيد 1/ 234: (كل ذلك عندنا منسوخ)، وانظر: الاستذكار 1/ 133؛ وبداية المجتهد 1/ 230.

(3)

انظر: التمهيد 1/ 234؛ بداية المجتهد 1/ 229.

ص: 781

إلى الناس عامة»

(1)

.

ثانياً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضلتُ على الأنبياء بست: أُعطيتُ جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأُحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً،

وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيُّون»

(3)

.

رابعاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: «لقد أُعطيتُ الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونُصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لمُلئ منه رعباً، وأُحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها،

(1)

سبق تخريجه في ص 50.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 179، كتاب المساجد، باب مواضع الصلاة، ح (522)(4).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 179، كتاب المساجد، باب مواضع الصلاة، ح (523)(5).

ص: 782

وجُعلت لي الأرضُ مساجد وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم

(1)

وبيعهم

(2)

، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله»

(3)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على جواز الصلاة في أي مكان من الأرض إذا كان طاهراً، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من فضائله فتكون ناسخة للأحاديث التي جاء فيها النهي عن الصلاة في المقبرة، والحمام، وأرض بابل، وأعطان الإبل وغير ذلك؛ لأن الفضائل جائز فيها الزيادة، ولا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص، فثبت بذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:«وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» متأخر عن تلك الأحاديث الدالة على النهي، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يدل على ذلك؛ حيث ذكر فيه أن ذلك كان في غزوة تبوك، وهي من آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

الكنيسة: متعبد اليهود، وتطلق أيضاً على متعبد النصارى. انظر: المصباح المنير ص 542؛ القاموس المحيط ص 514.

(2)

البيع جمع البيعة بالكسر، متعبد النصارى. انظر: مختار الصحاح ص 62؛ المصباح المنير ص 69.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 11/ 639. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 370: (رواه أحمد ورجاله ثقات) وحسن سنده ابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: فتح الباري 1/ 547؛ إرواء الغليل 1/ 317.

(4)

انظر: التمهيد 1/ 234 - 237؛ الاستذكار 1/ 133، 134؛ بداية المجتهد 1/ 230؛ فتح الباري 1/ 547.

ص: 783

واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ ما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً، والجمع هنا ممكن، وذلك باستثناء الأماكن التي جاء النهي عن الصلاة فيها من عموم حديث: «وجعلت

لي الأرض مسجداً وطهوراً» فالفضيلة باقية، والأرض كلها مسجد إلا مكاناً جاء النهي عن الصلاة فيه.

كما أنه لا يصح دعوى تأخر حديث: «وجلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» على جميع الأحاديث التي جاء فيها النهي عن الصلاة في بعض الأماكن، وخاصة أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر وبناء المساجد عليها، فإنها متأخرة جداً، فإن لم تكن هي ناسخة لغيرها فليست هي منسوخة بغيرها

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة في الأماكن التي جاء النهي عن الصلاة فيها على ثلاثة أقوال مشهورة:

القول الأول: أنه يكره الصلاة فيما جاء النهي عن الصلاة فيه، كالمزبلة، والمجزرة، و المقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، ونحوها، لكنها تصح إن لم تكن فيها نجاسة.

(1)

انظر: المحلى 2/ 343، 347؛ بداية المجتهد 1/ 230.

ص: 784

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والشافعية

(2)

، ورواية عن الإمام مالك

(3)

، وعن الإمام أحمد

(4)

.

القول الثاني: يجوز الصلاة في كل مكان لا يكون فيه نجاسة.

وهو مذهب المالكية

(5)

.

القول الثالث: أنه لا تصح الصلاة في الأماكن التي جاء النهي عن الصلاة فيها.

وهو مذهب الحنابلة

(6)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو كراهة الصلاة فيما جاء النهي عن الصلاة فيه، لكنها تصح إن لم يكن نجساً - بما يلي:

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 302؛ بدائع الصنائع 1/ 303؛ الفتاوى التتارخانية 1/ 570؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 39.

(2)

انظر: التنبيه ص 36؛ الوجيز وشرحه العزيز 2/ 17 - 19؛ روضة الطالبين ص 125؛ المجموع 3/ 114 - 118.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 229.

(4)

انظر: المغني 2/ 468؛ الشرح الكبير 3/ 297؛ شرح الزركشي 1/ 371؛ الإنصاف 3/ 296.

(5)

انظر: المدونة 1/ 90؛ الإشراف 1/ 285؛ التمهيد 1/ 234؛ الاستذكار 1/ 133؛ بداية المجتهد 1/ 229.

(6)

انظر: المغني 2/ 268، 470؛ المحرر 1/ 49؛ الشرح الكبير 3/ 296، 305؛ الممتع 1/ 383؛ الإنصاف 3/ 296، 305.

ص: 785

أولاً: أما أنها تصح إذا لم يكن المكان نجساً فللأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على جواز الصلاة على الأرض كلها

(1)

.

ثانياً: وأما أنها تكره فيما جاء النهي عن الصلاة فيه فلما يلي:

أ- حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما -عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» -يحذر ما صنعوا-)

(2)

.

ب-حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وفيه: (قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم» قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا»

(3)

.

ج- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة»

(4)

.

(1)

انظر: بداية المجتهد 1/ 230؛ المغني 2/ 468.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 93، كتاب الصلاة، باب، ح (435)، ومسلم في صحيحه 2/ 185، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، ح (531)(22).

(3)

سبق تخريجه في ص 287.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 81، كتاب الصلاة، باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، ح (492)، و الترمذي في سننه ص 89، أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ح (317)، وابن ماجة في سننه ص 142، كتاب المساجد، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة، ح (745)، والإمام الشافعي في الأم 1/ 187، وقال:(وجد ت هذا الحديث في كتابي في موضعين أحدهما منقطع والآخر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الإمام أحمد في المسند 18/ 312، و الدارمي في سننه 1/ 375، والحاكم في المستدرك 1/ 381، وقال: (هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم). ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 609، والبغوي في شرح السنة 2/ 145. وهذا الحديث روي بطريقين: متصل ومرسل. واختلف أقوال أهل العلم في الكلام عليه: قال الترمذي في سننه بعد ذكره: (حديث أبي سعيد قد روي عن عبد العزيز بن محمد روايتين منهم من ذكر عن أبي سعيد ومنهم من لم يذكره، وهذا حديث فيه اضطراب، روى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه، وكان عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن أبي سعيد، وكان رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت وأصح).

وقال ابن المنذر في الأوسط 2/ 182: (روى هذا الحديث حماد بن سلمة والدراوردي وعباد بن كثير كرواية عبد الواحد متصل عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا روى الحديث ثقة أو ثقات مرفوعاً متصلاً وأرسله بعضهم يثبت الحديث برواية من روى موصولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوهن الحديث تخلف من تخلف عن إيصاله، وهذا السبيل في الزيادات في الأسانيد والزيادات في الأخبار وكثير من الشهادات). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص 332: (رواه أحمد وأبو داود و الترمذي وابن ماجة والبزار وغيرهم بأسانيد جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه).

وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 277: (و قال النووي في الخلاصة: هو ضعيف. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 320: (وهذا إسناد على شرط الشيخين وقد صححه كذلك الحاكم والذهبي، وأعله بعضهم بما لا يقدح).

ص: 786

د- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة

(1)

الطريق، وفي الحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله»

(2)

.

وحُمل هذه الأحاديث على الكراهة دون عدم الجواز؛ جمعاً بين هذه الأحاديث وبين الأحاديث الدالة على أن الأرض كلها مسجد وطهور

(3)

.

(1)

قارعة الطريق أعلاه. انظر: المصباح المنير ص 499؛ القاموس المحيط ص 675.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه ص 95، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه وفيه، ح (346)، وقال:(حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي وقد تُكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه). وأخرجه ابن ماجة في سننه ص 142، كتاب المساجد، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة، ح (746). قال ابن حجر في التلخيص 1/ 215:(وفي سند الترمذي زيد بن جبيرة وهو ضعيف جداً و في سند ابن ماجة عبد الله بن صالح وعبد الله بن عمر العمري المذكور في سنده ضعيف أيضاً، ووقع في بعض النسخ بسقوط عبد الله بن عمر بين الليث ونافع فصار ظاهره الصحة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هما جميعاً واهيان. وصححه ابن السكن وإمام الحرمين). وضعفه الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 318.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 230.

ص: 788

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ

ووجه الاستدلال منها: هو أن تلك الأحاديث عامة تدل على جواز الصلاة في جميع الأماكن ما دامت طاهرة، والأخذ بها أولى؛ لأنها تدل على أن ذلك من فضائله عليه الصلاة والسلام، وذلك مما لا يجوز نسخه

(1)

.

واعترض عليه: بأن النهي عن الصلاة في بعض الأماكن فيه أحاديث صحيحة، وبعضها متأخرة عن تلك الأحاديث العامة، ثم هي خاصة، لذلك يكون الأخذ بها أولى بل متعيناً؛ عملاً بالأحاديث كلها

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث-وهو عدم صحة الصلاة في الأماكن التي جاء النهي عن الصلاة فيها- بالأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ، وفي دليل القول الأول.

ووجه الاستدلال منها: هو أن الأحاديث الدالة على النهي مخصصة لعموم الأحاديث الدالة على العموم، ولا تعارض بينهما

(3)

.

(1)

انظر: التمهيد 1/ 234، 235؛ بداية المجتهد 1/ 230.

(2)

انظر: انظر: بداية المجتهد 1/ 230؛ المغني 2/ 469؛ الشرح الكبير 3/ 297.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 230؛ المغني 2/ 469؛ الشرح الكبير 3/ 297.

ص: 789

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أنه لا يجوز الصلاة في الأماكن التي ثبت وصح النهي عن الصلاة فيها، وأن الأحاديث الدالة على ذلك محكمة غير منسوخة، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن الأحاديث التي تدل على المنع من الصلاة في تلك الأماكن صريحة في النهي، وهي تدل على التحريم وعدم الجواز، وحملها على الكراهة غير صحيح لوجهين:

أ-لأن الأصل في النهي التحريم وعدم الجواز

(1)

.

ب-ولأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر، واتخاذها مساجد، وحمل هذه الأحديث على الكراهة دون التحريم بعيد؛ لأنه جاء فيها الألفاظ التالية:

1 -

أن من يتخذ القبور مساجد فهم شرار الخلق عند الله تعالى، فعن عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنو على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك

(1)

انظر: قواطع الأدلة 1/ 138؛ إرشاد الفحول 1/ 279.

ص: 790

الصور أولئك شرار الخلق عند الله»

(1)

.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ القبور مساجد، فعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة

(2)

له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» -يحذر ما صنعوا-)

(3)

.

3 -

الجمع بين لفظ: (لا) الدال على النهي، ولفظ:(النهي) فعن جندب

(4)

رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 93، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، ح (434).

(2)

الخميصة: كساء أسود له أعلام. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 534؛ المصباح المنير ص 182.

(3)

سبق تخريجه في ص 520.

(4)

هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، أبو عبد الله، له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الحسن البصري، وأبو مجلز، وغيرهما، وتوفي بعد الستين. انظر: الإصابة 1/ 284؛ التهذيب 2/ 107؛ التقريب 1/ 166.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 185، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، ح (532)(23).

ص: 791

فتبين من هذه الألفاظ المذكورة في هذه الأحاديث أن النهي عن الصلاة في المقابر و اتخاذها مساجد للتحريم.

ثانياً: ولأن الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة في بعض الأماكن لا تعارض بينها وبين حديث: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ؛ لأنها مخصصة من عمومه

(1)

، على أن في بعض طرق حديث (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ما يدل على أن هذا الحديث ليس المراد به أن جميع الأرض مكان للصلاة بحيث لا يستثنى منها أي مكان، بدليل ما يلي:

أ-عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً و طهوراً» .

(2)

فهذا الحديث يدل على أن الأرض النجسة ليست مكاناً للصلاة؛ لأن الطيبة هي الطاهرة، وبهذا القيد خرج من عموم حديث (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) المزبلة، والمجزرة، وكل مكان نجس.

ب- جاء في رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (وجُعلت لي الأرضُ مساجد وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون

(1)

انظر: بداية المجتهد 1/ 230؛ المغني 2/ 469.

(2)

أخرجه ابن الجارود في المنتقى ص 58. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 548: (وقد روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعاً).

ص: 792

ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)

(1)

.

فهذا يدل على أن المراد بالحديث هو العموم بالنسبة للأمم السابقة؛ حيث كان الواجب عليهم الصلاة في أماكن عبادتهم دون خارجها، وأن هذه الأمة يجوز لها أن تصلي خارج مساجدهم، وليس المراد بهذا العموم العموم الكلي بحيث لا يستثنى منه أي مكان، فثبت بذلك أن عموم هذا الحديث لا يشمل الأماكن التي جاء النهي عن الصلاة فيها.

ثالثاً: ولأنه لا يصح القول بتأخر حديث: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) عن الأحاديث الدالة على النهي حتى يكون ناسخاً لها؛ لأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد، وهي متأخرة جداً؛ لأنه سبق في حديث عبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم عند الموت لعن على من فعل ذلك، وفي حديث جندب رضي الله عنه أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

(2)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 518.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 184، كتاب المساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ح (529)(19).

ص: 793

فكيف يقال أن هذه الأحاديث منسوخة بحديث: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك في غزوة تبوك، كما ذكر ذلك في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

فثبت مما تقدم ضعف قول من قال بالنسخ، كما تبين أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث كلها، وأن الأرض كلها مسجد إلا ما ثبت النهي عن الصلاة فيه.

والله أعلم.

ص: 794

‌المطلب الخامس تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام

لا خلاف بين أهل العلم في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما هاجر إلى المدينة صلى قبل بيت المقدس سنة وبضعة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى بيت الله الحرام، ونسخ كون بيت المقدس قبلة، وصارت قبلة المسلمين الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام

(1)

.

لكنهم اختلفوا في صلاته صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة على قولين:

القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، إلى أن قدم المدينة، ثم بالمدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً أو نحوها حتى صرفه الله إلى الكعبة

(2)

.

(1)

انظر القول بالنسخ في: الناسخ والمنسوخ للزهري ص 18؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 102، 103؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 19؛ التمهيد 1/ 106، 5/ 364؛ الاستذكار 2/ 439؛ الاعتبار ص 191؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 146، 147؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 182؛ مجموع الفتاوى 27/ 11، 370؛ تفسير ابن كثير 1/ 180؛ فتح الباري 1/ 121، 123.

(2)

انظر: التمهيد 5/ 365؛ الاستذكار 2/ 439؛ تفسير القرطبي 2/ 146؛ فتح الباري 1/ 121. وذكر ابن حجر أن هذا هو الأصح، وذكر ابن كثير في تفسيره 1/ 180، أن هذا قول ابن عباس والجمهور.

ص: 795

الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلى إلى الكعبة طول مقامه بمكة، ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس سنة وأشهراً، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة

(1)

.

وكذلك اختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان بنص الكتاب، أم كان بالسنة على قولين:

القول الأول: أن ذلك كان ثابتاً بالكتاب، فيكون من باب نسخ القرآن بالقرآن

(2)

.

القول الثاني: أن ذلك كان ثابتاً بالسنة، ونسخ بالقرآن، فيكون من باب نسخ السنة بالقرآن

(3)

.

أدلة النسخ

من أدلة نسخ استقبال بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}

(4)

.

ثانياً: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت

(1)

وهذا صححه ابن عبد البر. انظر: التمهيد 5/ 366، 367؛ الاستذكار 2/ 439؛ تفسير القرطبي 2/ 146 فتح الباري 1/ 121

(2)

انظر: الاعتبار ص 193؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 182.

(3)

انظر: الاعتبار ص 193؛ تفسير القرطبي 2/ 147؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 182.

(4)

سورة البقرة، الآية (144).

ص: 796

المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل:: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس-وهم اليهود-:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة)

(1)

.

ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: بين الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها» ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)

(2)

.

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كماهم نحو القبلة)

(3)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 77.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 87، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ح (403)، ومسلم في صحيحه 2/ 183، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، ح (526)(13).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 184، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، ح (527)(19).

ص: 797

خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا-والله أعلم- شأن القبلة قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، فقال: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. يعنون بيت المقدس، فنسخها فصرفه الله إلى البيت العتيق فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150])

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (إن أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عز وجل:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] يعني نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 294، وقال:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى -واللفظ له- 2/ 19، والحازمي في الاعتبار ص 193.

ص: 798

عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]. وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] قال ابن عباس: وليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة)

(1)

.

وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة»

(2)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 20، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 368.

(2)

أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 5/ 366، والاستذكار 2/ 440.

ص: 799

‌المبحث الثالث: صفة الصلاة

.

وفيه ثمانية مطالب:

المطلب الأول: رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح.

المطلب الثاني: الجهر بالتسمية في الصلاة.

المطلب الثالث: التطبيق في الركوع.

المطلب الرابع: القنوت في صلاة الفجر.

المطلب الخامس: الدعاء على آحاد الكفرة في القنوت.

المطلب السادس: القنوت بعد الركوع.

المطلب السابع: وضع اليدين قبل الركبتين عند السجود.

المطلب الثامن: الإقعاء في الصلاة.

ص: 800

‌المطلب الأول: رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح

ذهب بعض الحنفية، منهم الطحاوي إلى أن رفع اليدين في غير افتتاح الصلاة قد نسخ، لذلك لا يسن رفعهما في غير تكبيرة الافتتاح

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف أهل العلم فيها، ولكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو تعارض الآثار الواردة فيها

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة»

(3)

.

(1)

ادعى النسخ الطحاوي، وتبعه: الكاساني، والمنبجي، وابن الهمام، والعيني، وبعض الآخرين. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 225، بدائع الصنائع 1/ 485؛ اللباب للمنبجي 1/ 233؛ فتح القدير 1/ 311؛ العناية 1/ 309؛ البناية للعيني 2/ 299؛ عمدة القاري 5/ 273؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 329.

(2)

انظر: بداية المجتهد 1/ 257.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 121، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، ح (748)، والترمذي في سننه ص 74، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه إلا في أول مرة، ح (257)، والنسائي في سننه-ولفظه:(فرفع يديه أول مرة، ثم لم يعد) - ص 168، كتاب الافتتاح، باب ترك ذلك، ح (1026)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 213، وأحمد في المسند 6/ 203، وابن المنذر في الأوسط 3/ 149، والطحاوي في شرح معاني الآثار-ولفظه:(عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود) - 1/ 224، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 112. وهذا الحديث رجاله في بعض طرقه رجال الشيخين، غير عاصم بن كليب فمن رجال مسلم، وقد صححه بعض أهل العلم، وممن صححه أو حسنه: الترمذي، وابن القطان-غير زيادة: (لا يعود) -، والطحاوي، والدارقطني-إلا قوله: (ثم لم يعد) -، وابن حزم، وابن التركماني، والزيلعي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 74؛ شرح معاني الآثار 1/ 226؛ العلل للدارقطني 5/ 172؛ المحلى 2/ 265؛ الجوهر النقي على سنن الدارقطني 2/ 112؛ نصب الراية 1/ 394 - 396؛ فتح الباري 2/ 273؛ الدراية 1/ 150؛ صحيح سنن أبي داود ص 121؛ صحيح سنن النسائي ص 168.

وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 338 بعد ذكر سنده: (قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقد أعله المصنف رحمه الله بما رأيت، ووافقه على ذلك غير ما واحد كما يأتي، ولم نجد في كلماتهم ما ينهض على تضعيف الحديث فالحق أنه حديث صحيح، كما قال ابن حزم في المحلى، وحسنه

الترمذي).

وضعفه الأكثرون، فقال ابن المبارك: لم يثبت عندي. وقال أحمد بن حنبل، ويحيى بن آدم، والبخاري: هو ضعيف. وقال أبو داود: هذا حديث مختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم (قام فكبر فرفع يديه ثم لم يعد) فقال أبي: هذا خطأ، يقال: وهم فيه الثوري، فقد رواه جماعة عن عاصم وقالوا كلهم:(إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه، ثم ركع فطبق، وجعلهما بين ركبتيه) ولم يقل أحد ما روى الثوري. وقال أبو بكر أحمد بن عمرو البزار: وهو حديث لا يثبت ولا يحتج به. وقال ابن عبد البر: هو حديث انفرد به عاصم بن كليب، واختلف عليه في ألفاظه، وقد ضعف الحديث أحمد بن حنبل وعلله ورمى به. انظر: سنن أبي داود ص 121؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 113 - 115؛ التمهيد 3/ 75، 76؛ المجموع 3/ 259؛ نصب الراية 1/ 396؛ التلخيص الحبير 1/ 222؛ نيل الأوطار 2/ 180، 181؛ تحفة الأحوذي 2/ 115 - 117.

ص: 801

ثانياً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر رضي الله عنهما-فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة)

(1)

.

ثالثاً: عن البراء رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود»

(2)

.

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 295، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 114، قال الدارقطني بعد ذكر الحديث:(تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفاً عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 121، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، ح (749)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 213 - ولفظه:(ثم لا يرفعهما حتى يفرغ) -، والدارقطني في سننه 1/ 293، ولفظه: عن البراء «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من صلاته» . و كذلك أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 3/ 74. قال أبو داود بعد ذكر الحديث: (وروى هذا الحديث هشيم، وخالد، وابن إدريس، عن يزيد، لم يذكروا: (ثم لا يعود). وقال البيهقي في السنن الكبرى 2/ 111، عن عثمان بن سعيد الدارمي أنه قال:(سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: لا يصح عنه هذا الحديث. قال: وسمعت يحيى بن معين يضعف يزيد بن أبي زياد. قال أبو سعيد الدارمي: ومما يحقق قول سفيان بن عيينه أنهم لقنوه هذه الكلمة أن سفيان الثوري، وزهير بن معاوية وهشيماً، وغيرهم من أهل العلم لم يجيئوا بها إنما جاء بها من سمع منه بآخرة). وعارضه ابن التركماني فقال: (ويعارض هذا قول ابن عدي في الكامل، رواه هشيم، وشريك، وجماعة معهما عن يزيد بإسناده، وقالوا فيه: ثم لم يعد. وأخرجه الدارقطني كذلك من رواية إسماعيل بن زكريا عن يزيد، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق النضر بن شميل عن إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق عن يزيد).

وقال ابن عبد البر في التمهيد 3/ 78: (المحفوظ في حديث يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول مرة» وقال بعضهم فيه: (مرة واحدة) وأما قول من قال: ثم لا يعود. فخطأ عند أهل الحديث).

وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 221: (واتفق الحفاظ على أن قوله: (ثم لم يعد) مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد، ورواه عنه بدونها شعبة، والثوري، وخالد الطحان، وزهير، وغيرهم من الحفاظ. وقال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد. وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل: لا يصح، وكذا ضعفه البخاري، وأحمد، ويحيى، والدارمي، والحميدي، وغير واحد. وقال يحيى بن محمد بن يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث واهي، قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه (ثم لا يعود) فلما لقنوه تلقن، فكان يذكرها). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 121.

ص: 803

وفي رواية: (فرفع يديه في أول مرة» وقال بعضهم: «مرة واحدة»

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 121، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، ح (751). وقال ابن عبد البر في التمهيد 3/ 78: أن هذا هو المحفوظ. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 121.

ص: 804

رابعاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: «سمع الله لمن حمده» ولا يفعل ذلك في السجود)

(1)

.

خامساً: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شي ء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 147، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، ح (736)، ومسلم في صحيحه 2/ 72، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، ح (390)(21).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 120، كتاب الصلاة، باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين، ح (744)، والترمذي في سننه ص 778، كتاب الدعوات، باب منه، ح (3423)، وابن ماجة في سننه ص 160، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ح (864)، والإمام أحمد في المسند 2/ 123، والبخاري في قرة العينين في رفع اليدين ص 22، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 222، والدارقطني في سننه 1/ 287. وصححه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن خزيمة وابن حبان، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 778؛ نصب الراية 1/ 412؛ فتح الباري 2/ 276؛ التلخيص الحبير 1/ 219؛ صحيح سنن أبي داود ص 120.

ص: 805

سادساً: عن كليب الجرمي

(1)

، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن علياً رضي الله عنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى التي يفتتح بها الصلاة، ثم لا يرفعهما في شيء من الصلاة)

(2)

.

سادساً: عن مجاهد قال: (ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول

(1)

هو: كليب بن شهاب بن المجنون، الجرمي، والد عاصم، روي عن: عمر، وعلي، وغيرهما، وروى عنه: ابنه عاصم، وإبراهيم بن مهاجر. ووثقه أبو زرعة، وابن سعد، وذكره البعض في الصحابة، وقال ابن حجر: صدوق، ووهم من ذكره في الصحابة. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 388؛ التقريب 2/ 44.

(2)

أخرجه محمد في الموطأ ص 59، ونحوه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 213، وابن المنذر في الأوسط 3/ 148؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 225، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 114. ثم قال البيهقي: قال عثمان الدارمي: (فهذا قد روي من هذا الطريق الواهي عن علي). ورد عليه ابن التركماني في الجوهر النقي فقال: (كيف يكون هذا الطريق واهياً ورجاله ثقات، فقد رواه عن النهشلي جماعة من الثقات: ابن مهدي، وأحمد بن يونس، وغيرهما، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع عن النهشلي، والنهشلي أخرج له مسلم والترمذي، والنسائي، وغيرهم، ووثقه ابن حنبل وابن معين). والأثر هذا صححه الطحاوي وابن التركماني، والزيلعي. وقال ابن حجر بعد ذكره عن طريق الطحاوي: رجاله ثقات. انظر: الجوهر النقي على سنن البيهقي 2/ 115؛ نصب الراية 1/ 406؛ الدراية 1/ 152.

وذكره الإمام البخاري في كتابه: (قرة العينين برفع اليدين في الصلاة) - المشهور بجزء رفع اليدين- ص 46، ثم قال:(وحديث عبيد الله أصح) - وهو إشارة إلى حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً في رفع اليدين-وقد سبق ذكره-. ثم ذكر البخاري في ص 48: أن الثوري أنكر حديث النهشلي هذا.

ص: 806

ما يفتتح)

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن علي بن أبي طالب وابن عمر-رضي الله عنهما-قد رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه، ثم روي عنهما أنهما كانا لا يرفعان أيديهما عند الركوع، وعند الرفع منه، فثبت من ذلك أن الرفع كان ثم نسخ، وإلا لما تركهما؛ إذ لا يظن بهما أنهما يخالفان فعله عليه السلام إلا بعد ثبوت النسخ عندهما، ويكون حديث ابن مسعود والبراء رضي الله عنهما بعد أحاديث رفع اليدين في غير الافتتاح، وأن أحاديث الرفع كانت في ابتداء الإسلام ثم نسخت

(2)

.

ويؤكد النسخ ما روي:

أ-عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك»

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 214، والطحاوي في شرح معاني ألاثار 1/ 225، -ولفظه:(صليت خلف ابن عمر-رضي الله عنهما فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة). وذكر الحافظ في الدراية 1/ 149: أن البخاري أخرجه في جزء رفع اليدين وضعفه. وذكر العيني في عمدة القاري 5/ 273، والبناية 2/ 300، أن إسناد الطحاوي صحيح.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 225، 226؛ بدائع الصنائع 1/ 485؛ اللباب للمنبجي 1/ 233؛ عمدة القاري 5/ 273؛ البناية 2/ 299.

(3)

ذكره ابن الجوزي في التحقيق 1/ 329، دون سند، وكذلك الأثر الأتي بعده، ثم قال في ص 331:(وحديث ابن عباس وابن الزبير لا يعرفان أصلاً، والمحفوظ عنهما الرفع). وانظر: نصب الراية 1/ 392؛ البناية 2/ 300.

ص: 807

ب-عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يرفع يديه من الركوع، فقال: مه، «فإن هذا شيء فعله رسول الله ثم تركه»

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: أن ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما فلا يعرفان أصلاً، وقد ثبت عنهما الرفع، فلا يصح الاستدلال من ذلك على النسخ

(2)

.

ثانياً: أما الاستدلال من أثر علي وابن عمر رضي الله عنهما على النسخ فلا يصح كذلك لما يلي:

أ- لأن ما روي عنهما لا يخلو من كلام، ثم عدم الرفع من فعلهما، وقد صح رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم من روايتهما، فلم يكونا يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قد روي عنهما رفع اليدين، فكان الأخذ به أولى؛ لموافقة فعلهما لروايتهما. على أن جماعة الصحابة رضي الله عنهم على رفع اليدين، فلا يقال: أنهم خفي عليهم هذه السنة، وعلمه واحد أو اثنان

(3)

.

(1)

راجع المصادر في الحاشية السابقة.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 212؛ قرة العينين في رفع اليدين للبخاري ص 60، 74؛ التحقيق 1/ 331.

(3)

انظر: قرة العينين في رفع اليدين للبخاري ص 22، 46، 74، 75؛ الأوسط 3/ 150؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 109، 114، 115؛ التمهيد 3/ 75؛ التحقيق 1/ 334؛ إيضاح أقوى المذهبين في مسألة رفع

اليدين ص 143.

ص: 808

ب- أن علي بن أبي طالب وابن عمر-رضي الله عنهما لم ينفردا برواية رفع اليدين في الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستدل بفعلهما-وهو عدم رفع اليدين- على نسخ روايتهما -وهو رفع اليدين- بل قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد كبير من الصحابة حتى بلغ حد التواتر، وعمل به جماعة الصحابة بعده؛ حتى قال الحسن البصري، وحميد بن هلال

(1)

: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الصلاة)

(2)

.

قال البخاري: فلم يستثن الحسن وحميد بن هلال أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون أحد

(3)

.

وقال أبو حازم

(4)

: (رأيت سهل بن سعد الساعدي في ألف من

(1)

هو: حميد بن هلال بن هبيرة، ويقال: ابن سويد بن هبيرة، العدوي، أبو نصر البصري، ثقة، روى عن عبد الله بن المغفل، وأنس، وغيرهما، وروى عنه أيوب السختياني، وشعبة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 46؛ التقريب 1/ 247.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 212؛ قرة العينين ص 31، 75.

(3)

قرة العينين ص 31، 76.

(4)

هو: سلمة بن دينار، أبو حازم الأعرج، المدني مولى الأسود بن سفيان المخزومي، ثقة، روى عن سهل بن سعد الساعدي، وابن المسيب، وغيرهما، وروى عنه الزهري، والثوري، وغيرهما، وتوفي في خلافة المنصور. انظر: تاريخ مدينة دمشق 22/ 16؛ سير أعلام النبلاء 6/ 96؛ تهذيب التهذيب 4/ 129.

ص: 809

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في كل خفض ورفع)

(1)

.

فلو كان رفع اليدين في الصلاة منسوخاً لما عمل به هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما خفي عليهم؛ لأن ممن روي عنه ذلك الخلفاء الراشدون، والعشرة المبشرون

(2)

.

ج- إنه لو صح ثبوت ترك رفع اليدين عن علي وابن عمر رضي الله عنهما وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، فيحتمل أن ذلك كان لبيان الجواز وأن الرفع ليست بسنة لا تصح الصلاة بدونها، وهذا الاحتمال أولى؛ لما يُجمع به بين الروايات كلها مرفوعة وموقوفة، وليس في ذلك ما يدل على النسخ

(3)

.

ثالثاً: إنه قد جاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة حتى لقي الله، فكيف يقال بنسخه؟ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 22/ 24، ثم قال:(قد أنكره أن يكون سمع من غير سهل بن سعد قال أبو زرعة: أبو حازم الأعرج لم يسمع من صحابي غير سهل بن سعد). وانظر: البدر المنير 3/ 476.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 109، 116؛ التنقيح 1/ 334؛ المجموع 3/ 256؛ إيضاح أقوى المذهبين في مسألة رفع اليدين ص 143، 144؛ التلخيص الحبير 1/ 220؛ نيل الأوطار 2/ 178.

(3)

انظر: المحلى 2/ 265؛ تحفة الأحوذي 2/ 119، 121.

ص: 810

حتى لقي الله تعالى»

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في رفع اليدين في غير الافتتاح على قولين مشهورين:

القول الأول: أن المصلي لا يرفع يديه في غير افتتاح الصلاة.

وهو قول الحنفية

(2)

، وأشهر الروايات عن الإمام مالك، وقول أكثر

(1)

قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 409: (قال الشيخ في الإمام: ويزيل هذا التوهم-يعني دعوى النسخ- ما رواه البيهقي في سننه من جهة الحسن بن عبد الله بن حمدان الرقي، ثنا عصمة بن محمد الأنصاري، ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر

-فذكره-). وذكر ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 218، رواية ابن عمر بلفظ الشيخين، ثم قال:(زاد البيهقي: فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله). وقال في الدراية 1/ 153: (وأخرج البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر

فذكره). وكذلك قال ابن الملقن في البدر المنير 3/ 459: (وفي رواية للبيهقي: (فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله). ولم يتعرض للكلام عليه لا الزيلعي، ولا ابن حجر، ولا ابن الملقن. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2/ 178:(على أنه ثبت من حديث ابن عمر عند البيهقي أنه قال بعد أن ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الاعتدال: فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى).

والحديث بهذا اللفظ لم أجده في السنن الكبري للبيهقي، ولا في سننه الصغري، ولا في كتابه معرفة السنن. ثم في سنده عبد الرحمن بن قريش قال الذهبي في الميزان 2/ 582:(إتهمه السليماني بوضع الحديث). كما أن في سنده عصمة بن محمد الأنصاري، قال الذهبي في الميزان 3/ 68:(قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال يحيى: كذاب يضع الحديث. وقال العقيلي: حدث بالبواطيل عن الثقات. وقال الدارقطني وغيره: متروك).

(2)

انظر: الأصل 1/ 13؛ الموطأ لمحمد ص 58؛ شرح معاني الآثار 1/ 228؛ بدائع الصنائع 1/ 484؛ الهداية و شرحه فتح القدير 1/ 309.

ص: 811

المالكيين

(1)

.

ورُوي عدم الرفع في غير الافتتاح عن: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر-رضي الله عنهم، وعن الأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن حي

(2)

.

القول الثاني: أن المصلي يرفع يديه في افتتاح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه، زاد بعضهم: وإذا قام من الركعتين.

وهو رواية عن الإمام مالك- قيل: هو قوله الأخير

(3)

- واختيار بعض المالكيين

(4)

، ومذهب الشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

، وقول أكثر الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وممن روي عنه ذلك: فمن الصحابة:

(1)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 228؛ التمهيد 3/ 72؛ الاستذكار 1/ 453؛ بداية المجتهد 1/ 257؛ جامع الأمهات ص 97؛ التاج والإكليل 2/ 239.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 213، 214؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 199؛ شرح معاني الآثار 1/ 225 - 227؛ التمهيد 3/ 72؛ المجموع 3/ 256؛ عمدة القاري 5/ 272.

(3)

انظر: اختلاف الفقهاء لمحمد بن نصر المروزي ص 130؛ الأوسط 3/ 146؛ التمهيد 3/ 73.

(4)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 228؛ التمهيد 3/ 73؛ الاستذكار 1/ 453؛ بداية المجتهد 1/ 257؛ جامع الأمهات ص 97؛ التاج والإكليل 2/ 239.

(5)

انظر: الأم 1/ 205؛ مختصر المزني ص 25؛ الحاوي الكبير 2/ 116؛ العزيز 1/ 511، 513؛ المجموع 3/ 255.

(6)

انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق 2/ 515؛ المغني 2/ 171، 184؛ المحرر 1/ 61، 62؛ الشرح الكبير 3/ 473، 485؛ الإنصاف 3/ 473، 485؛ منتهى الإرادات 1/ 57.

ص: 812

أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وأبو قتادة، وأبو أسيد الساعدي، ومحمد بن مسلمة، وسهل بن سعد الساعدي، ومالك بن الحويرث

(1)

، .....................................................

ووائل بن حجر

(2)

، وأبو حميد الساعدي

(3)

، وأبو هريرة رضي الله عنهم

(4)

.

ومن التابعين فمن بعدهم: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح،

(1)

هو: مالك بن الحويرث بن أشيم بن زبالة، الليثي، أبو سليمان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو قلابة،

و أبو عطية، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 43؛ الإصابة 3/ 1743؛ تهذيب التهذيب 10/ 12؛ التقريب 2/ 153.

(2)

هو: وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل بن يعمر، الحضرمي، أبو هنيدة، كان قيلاً من أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبناه: علقمة، وعبد الجبار، وغيرهما، ونزل الكوفة، وتوفي في خلافة معاوية-رضي الله عنهما. انظر: الاستيعاب 3/ 642؛ الإصابة 3/ 2077.

(3)

هو: عبد الرحمن بن سعد، وقيل عبد الرحمن بن عمرو بن سعد، وقيل المنذر بن سعد بن المنذر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: جابر، وعبد الملك بن سعيد، وغيرهما، وتوفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الاستيعاب 3/ 347؛ الإصابة 4/ 2199.

(4)

انظر: قرة العينين في رفع اليدين للبخاري ص 22؛ الأوسط 3/ 137؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 109؛ معرفة السنن والآثار 2/ 417؛ التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 334؛ المجموع 3/ 255.

ص: 813

ومجاهد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، وطاوس، ومكحول، وأبي قلابة، ونافع، والليث بن سعد، وابن المبارك، والأوزاعي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهوية، وأبي ثور، ومحمد بن جرير الطبري

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أن المصلي لا يرفع يديه إلا في افتتاح الصلاة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأدلة التي أُستدل بها للقول بالنسخ-غير حديث ابن عمر وعلي رضي الله عنهما مرفوعاً-.

ثانياً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خَيل شُمْسٍ؟ اسكنوا في الصلاة»

(2)

.

فهذا الحديث فيه الأمر بالسكون في الصلاة وإنكار لرفع اليدين فيها

(3)

.

واعترض عليه: بأن المراد برفع اليدين في هذا الحديث هو رفعهما في

(1)

انظر: قرة العينين في رفع اليدين ص 31؛ اختلاف الفقهاء لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي ص 129؛ الأوسط 3/ 139 - 147؛ التمهيد 3/ 73؛ الاستذكار 1/ 455؛ المجموع 3/ 255، 256؛ عمدة القاري 5/ 272.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 250، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة، ح (430)(119).

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 485؛ اللباب للمنبجي 1/ 231؛ نصب الراية 1/ 393؛ البناية 2/ 299.

ص: 814

التشهد لا في القيام؛ فإنهم كانوا يرفعون أيديهم في حالة السلام من الصلاة، ويشيرون بها إلى الجانبين يريدون بذلك السلام

(1)

، يدل على ذلك الرواية الثانية عن جابر بن سمرة رضي الله عنه حيث قال: (كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، والسلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خَيل شُمْسٍ، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه مَن على يمينه وشماله»

(2)

.

ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقوم مع الناس عشية عرفة، وبجمع، وبين المقامين حين يرمي الجمرة»

(3)

.

(1)

انظر: قرة العينين للبخاري ص 90؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 333؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 115؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 571؛ التلخيص الحبير 1/ 221.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 251، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة، ح (431)(120).

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 385، قال الهيثمي في مجمع الزائد 2/ 103:(وفيه محمد بن أبي ليلى، وهو ضعيف لسوء حفظه، وقد وثق) وقال في 3/ 241: (وهو سيئ الحفظ، وحديثه حسن إن شاء الله) وكذلك رواه الطبراني في الكبير 11/ 452، من طريق عطاء بن السائب عن ابن جبير عن ابن عباس بلفظ:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السجود على سبعة أعضاء: اليدين، والقدمين، والركبتين، والجبهة، ورفع الأيدي: إذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وبعرفة وبجمع، وعند رمي الجمار، وإذا أقيمت الصلاة). وفيه محمد بن السائب، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 241:(قد اختلط).

وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 214، من طريق عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ولفظه:(عن ابن عباس قال: لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: إذا قام إلى الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي عرفات، وفي جمع، وعند الجمار).

وذكره البخاري في قرة العينين-جزء رفع اليدين- ص 134، فقال:(وقال وكيع عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر، وعن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: في افتتاح الصلاة، واستقبال الكعبة، وعلى الصفا والمروة، وبعرفات، وبجمع، وفي المقامين عند الجمرتين» ثم قال البخاري في ص 135: (قال علي بن مسهر، والمحاربي عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شعبة: إن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث، ليس فيها هذا الحديث، وليس هذا من المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحاب نافع خالفوا، وحديث الحكم عن مقسم مرسل).

وأخرجه البزار في مسنده كما في كشف الأستار 1/ 251، عن طريق محمد بن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر» قال البزار: رواه جماعة فوقفوه، وابن أبي ليلى ليس بالحافظ، وإنما قال: ترفع الأيدي، ولم يقل: لا ترفع إلا في هذه المواضع).

وأخرجه بنحو لفظ البزار الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 176.

ص: 815

فهذا يدل على أن المصلي يرفع يده في افتتاح الصلاة، ولا يرفعها بعد

ص: 816

ذلك

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ- أن هذا الحديث مختلف في صحته وضعفه

(2)

، ومختلف في رفعه ووقفه

(3)

، كما أنه ورد بلفظ:«لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن» وبلفظ: «ترفع الأيدي في سبع مواطن»

(4)

، وإذا كان كذلك فلا يتم الاستدلال منه على عدم رفع اليدين في غير الافتتاح، ولا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على رفع اليدين في افتتاح الصلاة وعند الركوع، والرفع منه، وإذا قام من الركعتين

(5)

.

ب- أنه لو قيل على ظاهر هذا الحديث وأنه لا ترفع الأيدي إلا المواضع السبعة المذكورة فليس فيه الرفع في تكبيرات العيدين، ورفع الأيدي في الاستسقاء، وفي الدعاء عند القنوت في الصلاة، وغير ذلك، مع أن الحنفية يقولون برفع اليدين فيها، فدل ذلك على أن الحصر المذكور في

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 485؛ الهداية وشرحه العناية 1/ 309.

(2)

فإن في سنده محمد بن أبي ليلى، قال البزار: ليس هو بالحافظ، وقال الهيثمي: هو سيئ الحفظ، وقال مرة: ضعيف لسوء حفظه، وقد وثق. انظر: كشف الأستار 1/ 251؛ مجمع الزوائد 2/ 103.

(3)

راجع تخريج الحديث، وانظر: نصب الراية 1/ 391.

(4)

راجع تخريج الحديث.

(5)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 567؛ نصب الراية 1/ 391.

ص: 817

بعض الروايات للحديث المذكور غير معتبر، وأنه لا يدل على عدم رفع اليدين في غير الافتتاح، فإن قال قائل: إن تكبيرات العيدين والاستسقاء، ونحو ذلك خرج عن الحصر المذكور بدليل، وهو الأحاديث الواردة في ذلك. قيل له: وكذلك رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح خرج عن ذلك بدليل، وهو ما ورد في ذلك من الأحاديث

(1)

.

رابعاً: عن الأسود قال: (صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة)

(2)

.

فهذا كذلك يدل على عدم الرفع إلا في الافتتاح، وإلا لما تركه عمر رضي الله عنه

(3)

.

واعترض عليه: بأن عمر رضي الله عنه كما روي عنه عدم الرفع، فكذلك روي عنه الرفع، وليس الاستدلال بأحد فعليه أولى من الآخر

(4)

.

(1)

انظر: قرة العينين للبخاري ص 137؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 571؛ نصب الراية 1/ 309، 391.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 214، وابن المنذر في الأوسط، -ولفظه:(صليت خلف عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين يفتتح الصلاة) - والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 227، -ولفظه:(رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود)، ثم قال الطحاوي:(وهو حديث صحيح)، وقال ابن حجر في الدراية 1/ 152: (وهذا رجاله ثقات. ويعارضه رواية طاوس عن ابن عمر كان يرفع يديه في التكبير في الركوع، وعند الرفع عنه

).

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 227.

(4)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 109؛ التنقيح 1/ 334؛ المجموع 3/ 256؛ التلخيص الحبير 1/ 220؛ الدراية 1/ 152؛ نيل الأوطار 2/ 178.

ص: 818

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن المصلي يرفع يديه عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع، والرفع منه، وكذلك إذا قام من الركعتين عند البعض- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: «سمع الله لمن حمده» ولا يفعل ذلك في السجود).

ثانياً: عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان (إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ثالثاً: عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 148، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين، ح (739). ثم قال البخاري:(ورواه حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصراً).

ص: 819

أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك»

(1)

.

رابعاً: عن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم «رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال: "سمع الله لمن حمده" رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه»

(2)

.

خامساً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شي ء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر» .

سادساً: عن أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة، قال: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلمَ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 147، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، ح (737)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 2/ 73، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، ح (391)(25).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 87، كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام، ح (401)(54).

ص: 820

فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فأعرض، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذيَ بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقِرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحته على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصُبُّ رأسه ولا يُقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى تحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر» . قالوا: (صدقت، هكذا كان يصلى صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 118، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، ح (730)، والترمذي في سننه ص 85، كتاب الصلاة، باب منه، ح (304)، وابن ماجة في سننه ص 160، 190، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ح (862)، وباب إتمام الصلاة، ح (1061)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 213، والدارمي في سننه 1/ 361، والبخاري في قرة العينين في رفع اليدين ص 38، وابن الجارود في المنتقى ص 84، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 223، وابن حبان في صحيحه ص 380، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 106. واعترض عليه الطحاوي: بأن في سنده عبد الحميد بن جعفر، وهو متكلم فيه، وأن الحديث غير متصل لأن محمد بن عمرو الراوي عن أبي حميد ذكر في حديثه أنه حضر أبا حميد وأبا قتادة، وهو لم يدرك أبا قتادة، لأنه قتل مع علي رضي الله عنه، وصلى عليه علي رضي الله عنه، وسن محمد بن عمرو لا تحمل ذلك. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 227، 261؛ الجوهر النقي لابن التركماني 2/ 105.

وأجيب عن ذلك بما يلي: أولاً: أما ضعف الحديث بعبد الحميد فيقال عنه:

1 -

بأن عبد الحميد بن جعفر وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، ويحيى القطان، وعلي بن المديني، وغيرهم، واحتج به مسلم. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 539؛ نصب الراية 1/ 411؛ تهذيب التهذيب 6/ 102.

2 -

أن الحديث روي من غير طريق عبد الحميد بن جعفر، وذكر فيه رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 260؛ صحيح ابن حبان ص 579، 581.

ثانياً: أما القول بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يدرك أبا قتادة وأن الحديث غير متصل، فيجاب عنه بما يلي:

1 -

بأن أبو قتادة مختلف في سنة وفاته، وقد قال جماعة: أنه توفي بعد الخمسين، وأن عمرو بن عطاء سمع منه ومن أبي حميد، وغيره. انظر: صحيح ابن حبان ص 580؛ نصب الراية 1/ 411؛ الإصابة 4/ 2333؛ تهذيب التهذيب 9/ 324.

2 -

أن الحديث سمعه محمد بن عمرو عن أبي حميد، وإن لم يكن سمعه منه فقد سمعه من عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه، وعلى كل حال فالحديث ثابت صحيح. انظر: صحيح ابن حبان ص 580؛ التخليص الحبير 1/ 223.

3 -

قال ابن حجر في التلخيص 1/ 223: (والتحقيق عندي: أن محمد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، وهو لم يلق أبا قتادة، ولا قارب ذلك، إنما يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيره من كبار التابعين، وأما محمد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه فهو محمد بن عمرو بن عطاء، تابعي كبير، جزم البخاري بأنه سمع من أبي حميد وغيره، وأخرج الحديث من طريقه، وللحديث طرق عن أبي حميد سمى في بعضها من العشرة: محمد بن مسلمة، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، وهذه رواية ابن ماجة من حديث عباس بن سهل بن سعد عن أبيه، ورواها ابن خزيمة من طرق أيضاً).

والحديث هذا صححه الإمام أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 85؛ البدر المنير 3/ 466؛ فتح الباري 2/ 276؛ إرواء الغليل 2/ 13.

ص: 821

والأحاديث في رفع اليدين كثيرة حتى قيل بتواترها، وأن عدد من رواها من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ خمسين رجلاً

(1)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بأن رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح منسوخ أو غير مشروع قول ضعيف، ومردود؛ لما يلي:

أ- لأن ما استدلوا به على النسخ أمران:

أحدهما: ما روي عن ابن عباس وابن الزبير-رضي الله عنهما

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 225؛ فتح الباري 2/ 274.

ص: 823

مرفوعاً، وهما صريحان في النسخ، إلا أنهما ليس لهما أصلاً، ولم يذكرا في أي كتاب من كتب الحديث؛ فالاستدلال بهما في غاية السقوط؛ لأنهما لا أصل لهما، والأحاديث الدالة على الرفع متواترة، مع صحة أسانيد كثير منها واستقامتها، فكيف ينسخ ما لا أصل له ما هو ثابت عن رسول الله في أحاديث

كثيرة مع صحة أسانيدها

(1)

.

الأمر الثاني الذي استدلوا به على النسخ: هو أثر علي، وأثر ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنهما رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على الرفع، ثم هما لم يرفعا، فدل ذلك على نسخ ما رويا.

وهذا كذلك غير صحيح، وقد سبق ما يُرد به هذا الاستدلال، ويضاف إليه: بأن علي وابن عمر رضي الله عنهما روي عنهما الرفع وعدم ذلك، فالاستدلال من تركهما الرفع على النسخ على احتمال أنهما رويا الرفع وعملا به، ثم تبين لهما النسخ فتركا العمل بالرفع، لا دليل عليه؛ لأنه ليس فيما روي عنهما أن تركهما الرفع كان بعد ما كانا يرفعان، ولذلك للمعارض أن يعكس فيقول: ترك الرفع منسوخ بالرفع؛ لأن علي وابن عمر-رضي الله عنهما كانا لا يرفعان قبل أن تقوم الحجة عندهما بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عندهما ذلك رفعا أيديهما. وليس أحد الاحتمالين

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 225؛ المجموع 3/ 257؛ إيضاح أقوى المذهبين ص 58؛ نيل الأوطار 2/ 178.

ص: 824

أولى من الآخر؛ لعدم ما يدل عليه

(1)

.

ب- أن للمعارض أن يقول: إن ترك رفع اليدين في غير الافتتاح المروي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وغيره، وكذلك ما روي من فعل علي وابن عمر، وغيرهما رضي الله عنهم من ترك الرفع منسوخ بأحاديث الرفع؛ لأن عدم الرفع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه كان في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين؛ حيث ذكر معه التطبيق، وكان ذلك في ابتداء الإسلام، ثم صار التطبيق منسوخاً، وسُنّ رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه

(2)

.

ج- أنه كيف يُقال بأن رفع اليدين منسوخ وقد رواه وائل بن حجر رضي الله عنه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه بعد فتح مكة

(3)

، وكذلك رواه مالك بن الحويرث، وهو ممن صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره

(4)

.

ثانياً: أن الراجح هو أن يرفع المصلي يديه عند الركوع وعند الرفع منه وإذا قام من الركعتين، وأن ذلك سنة من سنن الصلاة، وذلك لما يلي:

(1)

انظر: تحفة الأحوذي 2/ 121.

(2)

انظر: معرفة السنن 2/ 424.

(3)

لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معه معاوية رضي الله عنه عند رجوعه إلى اليمن، ومعاوية رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة. انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 568؛ الإصابة 3/ 2077.

(4)

انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 568.

ص: 825

أ- لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك؛ حيث بلغت حد التواتر، مع صحتها، واستقامة أسانيدها

(1)

.

ب- ولأن الأحاديث الواردة والتي يُستدل منها على عدم الرفع، كلها لا تخلو من كلام، وضعفها أكثر أهل العلم بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، مع تطرق الاحتمالات إليها، وهي بكل حال لا تقاوم الأحاديث الدالة على الرفع ولا تعارضها؛ لعدم تكافئها لها

(2)

.

ج- ولأن على احتمال صحة تلك الأحاديث فإنه يمكن الجمع بينها وبين أحاديث الرفع؛ وذلك لأن هذه الأحاديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه أول مرة، كما فيها قول الراوي: أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يرفع إلا في الافتتاح. أما أحاديث الرفع ففيها زيادة الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه، وبعد ما يقوم من الركعتين، كما فيها قول الراوي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع في هذه المواطن، والقول قول الشاهد، وكذلك من زاد، ولذا ترفع الأيدي في الافتتاح، وعند الركوع، والرفع منه، وبعد ما يقوم من الركعتين؛ عملاً بالأحاديث كلها

(3)

.

ومع هذا كله فإنه لا تفسد صلاة من لم يرفعها في المواطن المختلف فيها؛ لاحتمال حديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، وحمل أكثر أهل العلم

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 225؛ مجموع الفتاوى 22/ 562.

(2)

انظر كلام أهل العلم عليها عند تخريجها.

(3)

انظر: قرة العينين في رفع اليدين ص 46، 137؛ معرفة السنن 2/ 426.

ص: 826

أحاديث الرفع على السنية والاستحباب، لكن يكون صاحبه تاركاً للأفضل ولسنة من سنن الصلاة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصح أسانيدها، وعمل بها أكثر أصحابه وكذلك التابعون لهم، ومن بعدهم من جمهور أهل العلم.

والله أعلم.

ص: 827

‌المطلب الثاني: الجهر بالتسمية في الصلاة

ذهب بعض أهل العلم منهم ابن الجوزي إلى أن الأحاديث الدالة على الجهر بالتسمية في الصلاة منسوخة بالأمر بإخفائها، لذلك لا يجهر المصلي بها في الصلاة

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة، إلا أن السبب الأصلي لاختلافهم هو اختلاف الآثار الواردة فيها، وهل هي آية من سورة الفاتحة أم لا

(2)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزأ منه المشركون، وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة

(3)

يتسمى الرحمن، فلما نزلت هذه الآية

(4)

أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

(1)

انظر: الاعتبار ص 226؛ التحقيق لابن الجوزي 1/ 363؛ المجموع 3/ 209؛ اللباب للمنبجي 1/ 225.

(2)

انظر: الاعتبار ص 226؛ بداية المجتهد 1/ 241.

(3)

هو: مسيلمة بن حبيب المتنبي الكذاب، الحنفي اليمامي، ادعى النبوة، وتبعه أكثر بني قومه، وقتل سنة اثنتي عشرة على يد وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم، حيث رماه بالحربة، وعلى يد أبي دجانة حيث ضربه بالسيف، وكان ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وتحت امرة خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: البداية والنهاية 6/ 281 - 285؛ شذرات الذهب 1/ 23.

(4)

المراد بها قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} - الآية (110) من سورة الإسراء- كما هو المذكور في رواية سعيد بن جبير، وقد رواها إسحاق بن راهوية في مسنده. انظر: نصب الراية 1/ 346.

ص: 828

لا يجهر بها»

(1)

.

ثانياً: عن سعيد بن جبير قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ب "بسم الله الرحمن الرحيم" بمكة» ، قال: وكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن، فقالوا: إن محمداً يدعو إلى إله اليمامة، «فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخفاها فما جهر بها حتى مات»

(2)

.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 440، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 111:(رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله موثقون). وقال ابن حجر في الدراية 1/ 133: (وقد أخرجه الدارقطني والطبراني في الأوسط من طريق يحيى بن طلحة اليربوعي عن عباد بن العوام عن شريك موصولاً بلفظ

-فذكره، ثم قال: - فهذا هو أصل الالحديث، وتبين أنه إنما وقع فيه اختصار).

(2)

أخرجه أبو داود في مراسيله ص 141، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 224، وقال: (هذا مرسل،

وهو غريب من حديث شريك عن سالم). وأخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده كما في نصب الراية 1/ 346، ولفظه:(عن سعيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بها صوته، وكان المشركون يهزءون، مكاءاً وتصدية، ويقولون: يذكر إله اليمامة، يعنون مسيلمة، ويسمونه: "الرحمن" فأنزل الله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} الآية) ثم قال الزيلعي: قال البيهقي: وزاد فيه غير يحيى بن آدم، قال:(فخفض النبي صلى الله عليه وسلم بسم الرحمن الرحيم). وقال ابن حجر عن هذه الرواية في الدراية 1/ 133: إنه مرسل ورجال إسناده ثقات. وقال في 1/ 135: (ولو ثبت ما رواه أبو داود من طريق سعيد بن جبير قال: -فذكره- ثم قال: لكان نصاً في نسخ الجهر، لكنه مرسل ومعلول المتن من جهة أن مسيلمة لم يكن يدعي الألوهية، ومن جهة التسليم لكن في نص الخبر أنه يدعي رحمن اليمامة، ولفظ الرحمن في بقية الفاتحة، وهو قول الرحمن الرحيم بعد الحمد لله رب العالمين، فلا معنى للإسرار بالبسملة لأجل ذكر الرحمن مع وجود ذكر الرحمن عقب ذلك). وقال النووي في المجموع 3/ 217: (وأما قول سعيد بن جبير: إن الجهر منسوخ فلا حجة فيه، وإن كان قد روي متصلاً عنه عن ابن عباس).

ص: 829

وفي هذا دلالة على أن الأمر بالإخفاء كان بعد ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بها، فيكون ذلك ناسخا له

(1)

.

واعترض عليه: بأنه قد عارضه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم، حتى قبض»

(2)

.

وأجيب: بأنه ضعيف، لا يقوي على معارضة حديث ابن عباس رضي الله عنه السابق

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية على

(1)

انظر: التحقيق 1/ 363.

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 304، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 227، قال ابن حجر في التلخيص 1/ 235:(وفي إسناده عمر بن حفص المكي، وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً من طريق أحمد بن رشدين بن خيثم عن عمه سعيد بن خيثم، عن الثوري عن عاصم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأحمد ضعيف جداً، وعمر ضعيف). وقال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 361: (فاللفظان عن ابن عباس يرويهما عمر بن حفص، وقد أجمعوا على ترك حديثه).

(3)

راجع تخريج الأحاديث السابقة.

ص: 830

قولين مشهورين:

القول الأول: أنه لا يسن الجهر بالبسملة، بل يقرؤها سراً على كل حال.

وهو قول الحنفية

(1)

، والحنابلة

(2)

، وجمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم

(3)

، وممن روي عنه عدم الجهر بها من الصحابة: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمار، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن المغفل، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم

(4)

.

وبه قال الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والحكم، وحماد، والثوري، وأبو عبيد، والأوزاعي، وابن المبارك، وإسحاق بن راهوية

(5)

.

القول الثاني: أنه يستحب الجهر بها في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة.

(1)

انظر: الأصل 1/ 3؛ شرح معاني الآثار 1/ 205؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 201؛ بدائع الصنائع 1/ 474؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 291؛ المختار وشرحه الاختيار 1/ 50.

(2)

انظر: المغني 2/ 149؛ المحرر 1/ 53؛ الشرح الكبير 3/ 433؛ الإنصاف 3/ 433.

(3)

انظر: سنن الترمذي ص 70؛ التهذيب للبغوي 2/ 95؛

(4)

انظر: سنن الترمذي ص 70؛ الأوسط 3/ 127؛ الاعتبار ص 225؛ التحقيق 1/ 354؛ المغني 2/ 149.

(5)

انظر: سنن الترمذي ص 70؛ الأوسط 3/ 128؛ الاعتبار ص 225؛ التحقيق 1/ 354؛ المغني 2/ 149؛ نيل الأوطار 2/ 200.

ص: 831

وهو قول الشافعية

(1)

، وروي الجهر بها عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير-رضي الله عنهم، وعن عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير. ونسبه النووي إلى أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم

(2)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو عدم الجهر بالبسملة في الصلاة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة ب: "الحمد

لله رب العالمين"»

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وعمر، و عثمان، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم»

(4)

.

(1)

انظر: الأوسط 3/ 125؛ التهذيب 2/ 94؛ بحر المذهب 2/ 139؛ البيان 2/ 183؛ العزيز 1/ 495؛ المجموع 3/ 207.

(2)

انظر: الأوسط 3/ 126؛ بحر المذهب 2/ 139؛ البيان 2/ 183؛ المجموع 3/ 208.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 148، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، ح (743)، ومسلم في صحيحه 2/ 85، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، ح (399)(52).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 361، والإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 20/ 219، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 278، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 202، والدارقطني في سننه 1/ 315. وهو صحيح على شرط الشيخين، قال الحازمي في الاعتبار ص 228: (ثم الرواية قد اختلف عن أنس من وجوه أربعة، وكلها صحيحة). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 329 - بعد ذكر هذه الرواية وغيرها-: (ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيحين). وقال ابن حجر في الدراية 1/ 132: (حديث أنس وقد اختلفوا في لفظه اختلافاً كبيراً، والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها، فحيث جاء عن أنس أنه كان لا يقرؤها، مراده نفي الجهر، وحيث جاء منه اثبات قرائتها فمراده السر، وقد ورد نفي الجهر عنه صريحاً فهو المعتمد). وقال في فتح الباري 2/ 283 - بعد ذكر طرق هذا الحديث-: (فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي الجهر على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده لفظ رواية منصور بن زاذان"فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم" وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ: "كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم" فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه).

ص: 832

ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك»

(1)

.

وهذا كذلك ظاهر في عدم الجهر بها

(2)

.

ثالثاً: عن ابن عبد الله بن المغفل

(3)

قال: كان عبد الله بن المغفل إذا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 159، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، ح (498)(240).

(2)

انظر: نصب الراية 1/ 334.

(3)

هو: يزيد بن عبد الله بن المغفل المزني، روى عن أبيه، وروى عنه أبو نعامة الحنفي قيس بن عباية، وعبد الله بن بريدة، وأبو سفيان طريف السعدي. ونقل النووي عن ابن خزيمة والخطيب البغدادي وابن عبد البر أنهم قالوا: هو مجهول. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر الثلاثة الذين رووا عنه: فقد ارتفعت الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة عنه. انظر: المجموع 3/ 216؛ نصب الراية 1/ 333؛ تهذيب التهذيب 12/ 270؛ تعجيل المنفعة ص 503.

ص: 833

سمع أحدنا يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" يقول: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف

عمر-رضي الله عنهم فما سمعت أحداً منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم»

(1)

.

وهذا الحديث أيضاً صريح في عدم الجهر بالتسمية

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه ص 70، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحمن الرحيم، ح (244)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 150، كتاب الافتتاح، باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ح (908)، وابن ماجة في سننه ص 153، كتاب الصلاة، باب افتتاح القراءة، ح (815)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 360، وأحمد في المسند 27/ 342، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 202. وضعف هذا الحديث بسبب أن ابن عبد الله بن المغفل مجهول كما سبق، وممن ضعفه ابن خزيمة، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، والشيخ الألباني. انظر: المجموع 3/ 216؛ ضعيف سنن النسائي ص 150.

وحسنه الترمذي والزيلعي وذكر من روى عنه ثم قال: فقد ارتفعت الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة عنه. انظر: سنن الترمذي ص 70؛ نصب الراية 1/ 333.

(2)

انظر: التحقيق 1/ 354؛ نصب الراية 1/ 333.

ص: 834

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن نعيم المجمر

(1)

قال: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين، قال: الله أكبر، وإذا سلم قال: (والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

هو: نعيم بن عبد الله المجمر، أبو عبد الله المدني، مولى آل عمر، ثقة، روى عن أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما وروى عنه: مالك، وهشام بن سعيد، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 414؛ التقريب 2/ 250.

(2)

أخرجه النسائي في سننه ص 150، كتاب الافتتاح، باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، ح (905)، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 280، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 199، وابن حبان في صحيحه ص 563، والدارقطني في سننه 1/ 307، والحاكم في المستدرك 1/ 357، والبيهقي في سننه 2/ 68. وصححه الدارقطني، فقال: (هذا صحيح ورواته كلهم ثقات)، وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي. وكذلك صححه البيهقي، والخطيب، وقال ابن حجر:(أصح ما ورد في الجهر حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة). انظر: التنقيح 1/ 356؛ نصب الراية 1/ 335؛ الدراية 1/ 133؛ التعليق المغني على سنن الدارقطني 1/ 309.

ص: 835

فهذا يدل على جهر البسملة، وأن ذلك كان من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

واعترض عليه: بأنه ليس صريحاً في الجهر، ثم إن أبا هريرة رضي الله عنه وصف الصلاة وقال:(أنا أشبهكم)، فيحمل على معظم ذلك، وأن العموم قد يخصص بقرائن صحيحة

(2)

.

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى معاوية رضي الله عنه بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن، ولم يقرأها للسورة التي بعدها، ولم يكبر حين يهوي، حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ قال: فلم يصل بعد ذلك إلا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي بعدها، وكبر حين يهوي ساجداً)

(3)

.

(1)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 279؛ صحيح ابن حبان ص 563؛ المجموع 3/ 210.

(2)

انظر: التحقيق 1/ 360؛ التنقيح 1/ 356؛ نصب الراية 1/ 237؛ الدراية 1/ 133.

(3)

أخرجه الشافعي في الأم 1/ 212، والدارقطني في سننه-واللفظ له-1/ 311، والحاكم في المستدرك 1/ 358، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 72. قال الدارقطني عن رجاله:(كلهم ثقات) وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي. وكذلك ذكر النووي في المجموع 3/ 213: أنه على شرط مسلم. وقال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 326: (يرويه عبد الله بن عثمان بن خيثم. وقال يحيى: أحاديثه ليست بالقوية)، وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 2/ 72:(وذكر صاحب الاستذكار أن عبد الرزاق ذكره عن ابن جريج فلم يذكر أنساً، وعبد الله بن عثمان بن خيثم قال ابن الجوزي في كتابه: قال يحيى: أحاديثه ليست بشيء. ثم إن ابن خيثم اضطربت روايته لهذا الحديث، فأخرجه البيهقي من حديث ابن جريج عن ابن خيثم عن أبي بكر بن حفص عن أنس، ثم أخرجه من حديث الشافعي عن إبراهيم الأسلمي ويحيى بن سليم عن ابن خيثم عن إسماعيل بن عبيد عن أبيه عن معاوية). وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 353 - بعد الكلام على عبد الله بن عثمان-: (وبالجملة فهو مختلف فيه، فلا يقبل ما تفرد به، مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه وهو أيضاً من أسباب الضعف).

ص: 836

فهذا يدل على أنه يجهر بها

(1)

.

واعترض عليه: بأن أنس رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم الجهر بها، وهو صحيح ثابت عنه،

أما روايته من عدم الجهر بها فهو لا يقوى على معارضة تلك الرواية الصحيحة الثابتة

(2)

.

ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»

(3)

.

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 67، 72؛ المجموع 3/ 212.

(2)

راجع تخريج الحديث. وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 354: (الوجه الثاني: أن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وهذا شاذ معلل؛ فإنه مخالف لما رواه الثقات الأثبات عن أنس، وكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجاً به، وهو مخالف لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خلفائه الراشدين، ولم يعرف عن أحد من أصحاب أنس المعروفين بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك- إلى أن قال: - وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما).

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 308، والحاكم في المستدرك 1/ 358، وقال:(رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات) ووافقه الذهبي فقال: (رواته ثقات).

ص: 837

ويعترض عليه ما اعترض على الحديث السابق المروي عن أنس

(1)

.

رابعاً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر-رضي الله عنهما، (فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)

(2)

.

واعترض عليه: بأنه ضعيف لا تقوم به حجة

(3)

.

وهناك روايات كثيرة-غير ما ذكر- يستدل منها على الجهر بالبسملة إلا أنها لا تخلو من ضعف

(4)

.

(1)

وكذلك في سنده شريك بن عبد الله، قال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 361:(ورواه شريك، وكان يحيى القطان لا يعبأ بشريك. وقال ابن المبارك: ليس حديثه بشيء). وقال في 1/ 362: (وفي الجملة: لا يثبت عن أنس شيء من هذا، بل قد صحت الأحاديث عنه بخلافه قولاً وفعلاً).

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 305. قال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني 1/ 305: (الحديث فيه راويان ضعيفان: جعفر بن محمد بن مروان، قال الدارقطني: لا يحتج بحديثه. وأبو الطاهر أحمد بن عيسى، قال فيه الدارقطني أيضاً: كذاب. وكذا كذبه أبو حاتم وغيره). وقال ابن حجر في الداراية 1/ 134: (وفيه أبو طاهر أحمد بن عيسى وهو كذاب، وروى الخطيب من طريق مسلم بن حبان قال: صليت خلف ابن عمر فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين وقال: صليت خلف رسول الله وأبي بكر فكانوا يجهرون بها في السورتين، وفي إسناده عبادة بن زياد وهو ضعيف).

(3)

راجع تخريجه.

(4)

انظر أكثر هذه الروايات في سنن الدارقطني 1/ 302 - 316؛ التحقيق 1/ 355 - 358؛ نصب الراية 1/ 341 - 355.

قال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 363 - بعد ذكر ما يستدل منها على الجهر بالتسمية-: (وهذه الأحاديث في الجملة لا يحسن بمن له علم بالنقل أن يعارض بها الأحاديث الصحاح، ولولا أن يعرض للمتفقه شبهة عند سماعها فيظنها صحيحة لكان الإضراب عن ذكرها أولى، ويكفي في هجرانها إعراض المصنفين للمسانيد والسنن عن جمهورها، وقد ذكر الدارقطني منها طرفاً في سننه، فبين ضعف بعضها، وسكت عن بعضها، وقد حكى لنا مشايخنا: أن الدارقطني لما ورد مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر، فصنف فيه جزءاً، فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الجهر فليس بصحيح، فأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف).

وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 355 - بعد ذكر ما يستدل به على الجهر-: (وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما).

وقال ابن حجر في الدراية 1/ 133: (وأصح ما ورد في الجهر حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة .. ) ثم ذكر ما اعترض عليه، وقد سبق ذكر ذلك.

ص: 838

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: أن الراجح هو عدم سنية الجهر بالتسمية في الصلاة، وذلك لما يلي:

أ- لأن الأحاديث الدالة على عدم الجهر بها أقوي في الجملة وأصح، أما ما يستدل منها على الجهر بها فإما ليس بصحيح أو ليس بصريح في

ص: 839

الجهر بها.

ب-ولأن الأحاديث التي يستدل منها على الجهر بالبسملة تحتمل أن الجهر بها كان للتعليم أو كما يتفق، كما حصل في غير البسملة

(1)

.

ثانياً: إن دعوي نسخ الجهر بالتسمية احتمال لكنه ضعيف؛ حيث إن الرواية الدالة على ذلك متكلم فيها، كما أن الأحاديث التي يستدل منها على الجهر بها لا تخلوا من ضعف في نفسه أو في الاستدلال به

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: التحقيق 1/ 363.

(2)

انظر: مجموع الفتاوي 22/ 275.

ص: 840

‌المطلب الثالث: التطبيق في الركوع

ذهب جمهور أهل العلم

(1)

، منهم أصحاب المذاهب الأربعة

(2)

إلى أن السنة للمصلى أن يضع يديه على ركبتيه في الركوع، ولا يطبق

(3)

يديه؛ لأن ذلك كان أولاً ثم نسخ ونهي عنه.

وممن صرح بنسخ ذلك: الترمذي

(4)

، والنسائي

(5)

، وابن خزيمة

(6)

، والطحاوي

(7)

، وابن حبان

(8)

،

(1)

انظر: سنن الترمذي ص 74؛ الاعتبار ص 233؛ المجموع 3/ 265.

(2)

انظر: (الأصل 1/ 4؛ شرح معاني الآثار 1/ 232؛ بدائع الصنائع 1/ 486)(الإشراف لعبد الوهاب 1/ 243؛ الكافي ص 41؛ جامع الأمهات ص 96)(الأم 1/ 219؛ مختصر المزني ص 25؛ المجموع 3/ 261، 262)(المغني 2/ 175؛ المحرر 1/ 61؛ الشرح الكبير 3/ 478؛ شرح الزركشي 1/ 306).

(3)

التطبيق هو: أن يجعل بطن كفه على بطن الأخرى ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه. المجموع 3/ 262. وانظر: المغني 2/ 175؛ مختار الصحاح ص 340؛ فتح الباري 2/ 338.

(4)

انظر: سنن الترمذي ص 74.

(5)

هو: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان، أبو عبد الرحمن النسائي الحافظ، صاحب "السنن"، سمع قتيبة وإسحاق وطبقتهما، وروى عنه أبو عوانة، وأبو جعفر الطحاوي، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمائة. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 34؛ التقريب 1/ 36؛ شذرات الذهب 1/ 239.

وانظر قوله في سننه ص 169.

(6)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 301.

(7)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 230، وكذلك صرح بالنسخ الكاساني وغيره من الحنفية. انظر: بدائع الصنائع 1/ 487؛ فتح القدير 1/ 297.

(8)

انظر: صحيح ابن حبان ص 585.

ص: 841

والدارقطني

(1)

، والقاضي عبد الوهاب

(2)

، والبيهقي

(3)

، والحازمي

(4)

، ............

وابن قدامة

(5)

، والنووي

(6)

.

ويتبين منه ومما يأتي من أدلة الأقوال أن سبب الاختلاف راجع إلى شيئين: أحدهما القول بالنسخ، والثاني اختلاف الآثار الواردة في المسألة.

أدلة من قال بالنسخ

ويستدل للقول بأن السنة وضع اليدين على الركبتين في الركوع وأن التطبيق في الركوع منسوخ بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن مصعب بن سعد

(7)

يقول: صليت إلى جنب أبي فطبقت

(1)

انظر: سنن الدارقطني 1/ 339.

(2)

هو: عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد، أبو محمد البغدادي المالكي، أحد أئمة المالكية، سمع من عمر بن سنبك، وجماعة، وتفقه على ابن القصار، وغيره، وانتهت إليه رياسة المذهب، ومن مؤلفاته" الإشراف" وتوفي سنة اثنين وعشرين وأربعمائة. انظر: البداية والنهاية 12/ 36؛ شذرات الذهب 3/ 223.

وانظر قوله في كتابه الإشراف 1/ 243.

(3)

انظر: السنن الكبرى له 2/ 119.

(4)

انظر: الاعتبار ص 233.

(5)

انظر: المغني 2/ 175. وكذلك صرح به عبد الرحمن المقدسي. انظر: الشرح الكبير 3/ 478.

(6)

انظر: المجموع 3/ 265؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 186.

(7)

هو: مصعب بن سعد بن أبي وقاص، الزهري، أبو زرارة المدني، ثقة، روى عن أبيه، وعلي، وغيرهما، وكان فاضلاً كثير الحديث، وتوفي سنة ثلاث ومائة. انظر: التهذيب 10/ 146؛ شذرات الذهب 1/ 125.

ص: 842

بين كفيَّ ثم وضعتهما بين فخذيَّ، فنهاني أبي وقال:«كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب»

(1)

.

ثانياً: عن علقمة عن عبد الله قال: «علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فقام فكبر، فلما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه، وركع» فبلغ ذلك سعداً فقال: صدق أخي، قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا بهذا-يعني الإمساك بالركب-

(2)

.

ثالثاً: عن علقمة والأسود قالا: صلينا مع عبد الله، فلما ركع طبق كفيه، ووضعهما بين ركبتيه، وضرب أيدينا ففعلنا ذلك، ثم لقينا عمر بعد، فصلى بنا في بيته، فلما ركع طبقنا كفينا كما طبق عبد الله، ووضع عمر يديه على ركبتيه، فلما انصرف قال: ما هذا؟ فأخبرناه بفعل

عبد الله، قال:(ذاك شيء كان يُفعل ثم تُرك)

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 157، كتاب الأذان، باب وضع الأكف على الركب في الركوع، ح (790)، ومسلم في صحيحه 2/ 188، كتاب المساجد، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع، ح (535)(29).

(2)

أخرجه النسائي في سننه ص 168، كتاب التطبيق، باب التطبيق، ح (1031)، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 301، والحاكم في المستدرك 1/ 346، والحازمي في الاعتبار ص 235. قال الحاكم:(حديث صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 168: (صحيح).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 153.

ص: 843

رابعاً: حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذيَ بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقِرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحته على ركبتيه»

(1)

.

خامساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «إن الركب سُنّت لكم، فخذوا بالركب»

(2)

.

فهذه الأدلة تدل على أن السنة هي الإمساك بالركب ووضع اليدين عليها، ثم حديث سعد وعمر-رضي الله عنهما صريحان في أن التطبيق كان أولاً، ثم نسخ ذلك بوضع اليدين على الركبتين والإمساك بهما، وأن الإمساك بهما آخر الأمرين

(3)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 544.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه ص 74، كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع، ح (258)، والنسائي في سننه ص 169، كتاب التطبيق، باب الإمساك بالركب في الركوع، ح (1034)، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 229. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 74:(صحيح الإسناد).

(3)

انظر: سنن الترمذي ص 74؛ سنن النسائي ص 169؛ صحيح ابن خزيمة 1/ 301؛ الاعتبار ص 234؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 186؛ نصب الراية 1/ 374؛ فتح الباري 2/ 338.

ص: 844

القول الثاني في المسألة

ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبعض أصحابه إلى أن التطبيق هو السنة في الركوع

(1)

.

ويستدل له بما روى علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله رضي الله عنه، فقال: أصلى من خلفكم؟ قالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: «هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

فهذا يدل على أن التطبيق في الركوع هو السنة

(3)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن السنة هو الأخذ بالركب؛ وذلك لكثرة الأحاديث الدالة على ذلك مع صحتها.

(1)

انظر: سنن الترمذي ص 74؛ الاعتبار ص 233؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 186؛ المجموع 3/ 265.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 339، كتاب المساجد، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع،

ونسخ التطبيق، ح (534)(28).

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 229؛ الاعتبار ص 233.

ص: 845

أما التطبيق فهو وإن ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حديث سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما صريحان في نسخ ذلك، وأن ذلك كان أولاً، ثم جاء الأمر بعد ذلك بوضع اليدين على الركب في الركوع، فلذلك لا يبقى له حكم، ولا يصح الاحتجاج به بعد ذلك.

والله أعلم.

ص: 846

‌المطلب الرابع: القنوت في صلاة الفجر

ذهب الزهري

(1)

، وبعض الحنفية

(2)

، ومنهم الطحاوي

(3)

إلى أن القنوت

(4)

في الفجر وغيرها من المكتوبات منسوخ؛ لذلك لا يسن القنوت في شيء منها، سواء الفجر وغيرها.

وذهب ابن شاهين إلى أن النهي عن القنوت منسوخ بالقنوت في الفجر، وأن القنوت في الفجر هو الناسخ لغيره

(5)

.

ويتبين مما سبق ومما يأتي من أدلة الأقوال: أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة، كما أن اختلاف الأحاديث الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها

(6)

.

(1)

انظر: المحلى 3/ 57.

(2)

وممن قال به كذلك: الكاساني، والمرغناني، والزيلعي، وابن الهمام، والعيني، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الإمام أبي حنيفة وإلى طائفة من أهل العراق وغيرهم، ويشهد له قول المرغناني في الهداية. انظر: بدائع الصنائع 1/ 612؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 435؛ نصب الراية 2/ 127؛ فتح القدير 1/ 431؛ البناية 2/ 590، 595، 597؛ مجموع الفتاوي 23/ 105.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 245، 246، 247، 249.

(4)

القنوت له عدة معان منها: الطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام. والمراد به هنا: الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 492؛ المجموع 3/ 334؛ المصباح المنير ص 517؛ فتح الباري 2/ 604؛ مجمع بحار الأنوار 4/ 329.

(5)

انظر قوله في: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 303.

(6)

انظر: بداية المجتهد 1/ 254؛ فتح القدير 1/ 432؛ مجموع الفتاوى 23/ 105.

ص: 847

دليل القول بنسخ القنوت في الفجر وغيرها من المكتوبات

أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])

(1)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، ثم يقول وهو قائم: «اللهم انج الوليد بن الوليد

(2)

، وسلمة بن هشام

(3)

، وعياش بن أبي ربيعة

(4)

، والمستضعفين من المؤمنين،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 837، كتاب المغازي، باب (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)، ح (4069).

(2)

هو: الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله، القرشي المخزومي، أخو خالد بن الوليد، أُسر مع المشركين في معركة بدر، فلما افتدي أسلم، فاحتبسه أخواله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، ثم افلت من أسرهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 130؛ الإصابة 3/ 2089.

(3)

هو: سلمة بن هشام بن المغيرة بن عبد الله، القرشي المخزومي، أخو أبي جهل، يكنى أبا هاشم، كان من السابقين، وقد حبسه الكفار من الهجرة وآذوه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينجيه الله من الكفار، فهرب منهم، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام فاستشهد بمرج الصفر سنة أربع عشرة، وقيل استشهد بأجنادين. انظر: الإصابة 1/ 755.

(4)

هو: عياش بن أبي ربيعة-عمرو-بن المغيرة بن عبد الله، القرشي المخزومي، كان من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل فرجع من المدينة إلى مكة فحبسوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الله، وأنس بن مالك، وغيرهما، وتوفي سنة خمس عشرة بالشام، وقيل: استشهد باليمامة، وقيل: باليرموك. انظر: الإصابة 2/ 1395؛ تقريب التهذيب 1/ 766.

ص: 848

اللهم اشدد وطأتك

(1)

على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيانَ ورعلاً وذكوانَ وعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله». ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])

(2)

.

ثالثاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر

(3)

رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة قال: «اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، و

المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد

(1)

الوطأة الأخذة والبأس، أي خذهم أخذاً شديداً. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 680؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 304؛ المصباح المنير ص 664.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 198، كتاب الاستسقاء، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها سنين كسني يوسف، ح (1006)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 2/ 305، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات، ح (675)(294).

(3)

هو: عبد الرحمن بن أبي بكر-عبد الله- بن عثمان، القرشي التيمي، تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح، وشهد اليمامة والفتوح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الله، وحفصة، وغيرهما، وتوفي سنة ثلاث وخمسين، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 2/ 1171؛ التقريب 1/ 562.

ص: 849

وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لَحْيانَ ورَعْلاً وذَكْوان وعُصيَّة عصت الله ورسوله» فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: (فما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء على أحد)

(1)

.

فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ثم ترك ذلك بعد ما نزلت هذه الآية فدل ذلك على نسخ القنوت؛ ولذلك لم يكن ابن عمر رضي الله عنه يقنت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان ينكر على من كان يقنت

(2)

.

رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رَعْلٍ وذَكْوان»

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على

(1)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 242، والحازمي في الاعتبار ص 242، من طريق أبي يعلى الموصلي عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الله بن كعب عن عبد الرحمن بن أبي بكر، بلفظ:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الآخيرة من صلاة الصبح بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار من قريش، فأنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} (فما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على أحد بعد)، ثم قال:(هذا حديث غريب من هذا الوجه)، وانظر: نصب الراية 2/ 135.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 246؛ المحلى 3/ 58؛ مجموع الفتاوى 23/ 105؛ نصب الراية 2/ 135.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 198، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1003).

ص: 850

أحياء من أحياء العرب ثم تركه»

(1)

.

خامساً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على عُصيَّة وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لم يقنت النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده»

(3)

.

فهذه الأدلة تدل كذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت مدة ثم تركه، فدل ذلك على نسخ القنوت؛ لأن الترك نسخ للفعل

(4)

.

واعترض على الاستدلال من هذه الأدلة: بأن المراد بهذا القنوت المذكور في هذه الأدلة، هو القنوت عند النوازل، وهو من السنن العوارض لا الرواتب، والنبي صلى الله عليه وسلم قنته لسبب ثم تركه لزوال السبب، فقد

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 307، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات، ح (677)(304).

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 245. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 140: (رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير، وفيه أبو حمزة الأعور القصاب، وهو ضعيف).

(3)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 245؛ والحازمي في الاعتبار ص 247. ثم قال في ص 250: (أما

حديث ابن مسعود فلا يجوز الاحتجاج به لوجوه شتى: منها: أن أبا حمزة ميمون القصاب كان يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي لا يحدثان عنه. وقال أحمد بن حنبل: هو ضعيف متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: كوفي ليس بشيء).

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 245؛ مجموع الفتاوى 22/ 372، 23/ 105.

ص: 851

ثبت عنه أنه تركه لما زال العارض، ثم عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. فهو لم ينسخ بل مشروع عند النوازل، وليس من السنن الراتبة

(1)

.

دليل من قال بأن القنوت في الفجر هو الناسخ للنهي عنه

أولاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو عليهم ثم تركه،

(1)

ستأتي الأدلة على أن المراد بهذا القنوت قنوت النوازل، وهو لم ينسخ. وانظر: مجموع الفتاوى 22/ 373؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 20/ 95، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 244، والدارقطني في سننه 2/ 39، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 287، 38، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 6/ 129. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 142:(رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجاله موثقون). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (هذا إسناد صحيح سنده، ثقة رواته). وتعقبه ابن التركماني فقال: (كيف يكون سنده صحيحاً وراويه عن الربيع أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي متكلم فيه، قال ابن حنبل والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وقال الفلاس: سيء الحفظ. وقال ابن حبان: يحدث بالمناكير عن المشاهير). وقال ابن القيم في زاد المعاد 1/ 275: (فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره. وقال ابن المديني: كان يخلط. وقال أبو زرعة: كان يهم كثيراً. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير- إلى أن قال-: والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير، لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة).

ص: 852

وأما في الصبح فلم

يزل يقنت حتى فارق الدنيا»

(1)

.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت حتى مات، وأبو بكر حتى مات، وعمر حتى مات»

(2)

.

ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وأبو بكر، وعمر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار فقدم القنوت قبل الركوع»

(3)

.

رابعاً: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 39، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 287، والحازمي في الاعتبار ص 238، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 6/ 130. قال النووي في المجموع 3/ 335:(حديث صحيح رواه جماعة من الحفاظ وصححوه، وممن نص على صحته: الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي البلخي، والحاكم أبو عبد الله في مواضع من كتبه، والبيهقي. ورواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة).

وفي سنده أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان، وقد سبق الكلام عليه في الرواية السابقة، وقد ضعف الحديث ابن الجوزي في التحقيق 1/ 526 بسببه، وقال:(قال علي بن المديني: كان يخلط. وقال يحيى: كان يخطئ) ثم ذكر نحو كلام ابن التركماني وابن القيم.

(2)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 142: (رواه البزار ورجاله موثقون)،

(3)

أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 301، ونحوه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 296. وفي سنده خليد بن دعلج، وهو ضعيف قاله أحمد، ويحيى بن معين، وقال النسائي: ليس بشيء. وقال البيهقي: لا يحتج به. انظر: السنن الكبرى 2/ 296؛ ميزان الاعتدال 1/ 663.

ص: 853

عن القنوت في الفجر)

(1)

.

فهذه الأحاديث تدل على أن القنوت سنة في الفجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه

(2)

، ويكون ذلك ناسخاً لحديث النهي عن القنوت في الفجر المذكور في حديث أم سلمة رضي الله عنها

(3)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح الاستدلال من هذه الأحاديث، أما عن الأول فلما يلي:

أ-لأنه ضعيف فلا يقوى على معارضة الحديث الصحيح المروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع ثم تركه

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 221، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الفجر، ح (1224)، و الدارقطني في سننه 2/ 38، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 302، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 303، والحازمي في الاعتبار ص 249. قال الدارقطني بعده:(محمد بن يعلى وعنبسة وعبد الله بن نافع كلهم ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة). وقال الحازمي في الاعتبار ص 254: (وأما حديث أم سلمة فقالوا: لا يحل الاحتجاج به لما في إسناده من الخلل، قال ابن أبي حاتم: قال أبي: قال يحيى: عنبسة بن عبد الرحمن كان يضع الحديث. وفيه أيضاً عبد الله بن نافع، وهو ضعيف الحديث جداً، ضعفه ابن المديني، ويحيى، وأبو حاتم، والساجي، وغيرهم). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 221: (موضوع).

(2)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 303؛ الحاوي 2/ 152؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 278؛ المجموع 3/ 335.

(3)

انظر: ناسخ الحديث ص 303.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى 23/ 108؛ التنقيح 1/ 528؛ زاد المعاد 1/ 276؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 657.

ص: 854

ب- إنه على تقدير صحته فالمراد بهذا القنوت قد يكون طول القيام قبل الركوع، فإنه يطلق عليه القنوت، فلا يكون اللفظ دالاً على قنوت الدعاء

(1)

.

ج- إنه محمول على أنه صلى الله عليه وسلم مازال يقنت في النوازل، وليس المراد به أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت راتباً في الفجر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت دائماً، ويدعو بدعاء راتب لنقلته الصحابة رضي الله عنهم ولما أهملوا قنوته المشروع لنا، مع أنهم إنما نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره

(2)

.

وأما الحديث الثاني فيتطرق إليه نفس الاحتمالات السابقة.

وأما الحديث الثالث فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به.

وأما الحديث المروي عن أم سلمة رضي الله عنها في النهي عن القنوت في الفجر فأقل أحواله أنه ضعيف، لذلك لا يصح الاحتجاج به، فكيف يقال بنسخه؟.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في القنوت في المكتوبات على قولين:

القول الأول: أن القنوت ليس بسنة راتبة في المكتوبات سواء الفجر وغيرها، لكن إن نزل بالمسلمين نازلة فيشرع القنوت في المكتوبات-

(1)

راجع المصادر في الحاشية السابقة.

(2)

انظر: التحقيق 1/ 528؛ مجموع الفتاوى 23/ 109؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 658؛ نصب الراية 2/ 132.

ص: 855

فقيل: في الصلوات كلها. وقيل في الجهرية فقط. وقيل في الفجر خاصة-؛ وذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين.

وهو قول الحنفية

(1)

، والحنابلة

(2)

، وأكثر أهل العلم

(3)

.

القول الثاني: أن القنوت في الصبح من السنن الرواتب، أما إن نزل بالمسلمين نازلة فيستحب القنوت كذلك، فقيل: في الفجر خاصة، وقيل: فيها وفي غيرها.

وهو قول المالكية

(4)

، والشافعية

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن القنوت في المكتوبات ليس من السنن الرواتب إلا أنه يستحب عند النوازل- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأدلة التي سبقت في دليل القول بنسخ القنوت في المكتوبات؛

(1)

انظر: الأصل 1/ 164؛ مختصر القدوري ص 29؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 654، 655؛ فتح القدير 1/ 434؛ الدر المختار 2/ 390؛ حاشية ابن عابدين 2/ 390.

(2)

انظر: المغني 2/ 585، 586؛ المحرر 1/ 90؛ الشرح الكبير 4/ 135؛ الإنصاف 4/ 135.

(3)

انظر: سنن الترمذي ص 109؛ مجموع الفتاوى 22/ 372، 23/ 108؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

(4)

انظر: المدونة 1/ 448؛ الإشراف 1/ 256؛ الاستذكار 2/ 75؛ شرح التلقين 2/ 558؛ بداية المجتهد 1/ 254؛ مواهب الجليل 2/ 244.

(5)

انظر: مختصر المزني ص 27؛ الحاوي 2/ 152؛ المهذب 1/ 274؛ حلية العلماء 1/ 135؛ العزيز 1/ 517؛ المجموع 3/ 335، 336.

ص: 856

حيث إنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت عند النوازل

(1)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال-إذ قال:"سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد"-: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف» يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر:«اللهم العن فلانا وفلاناً» لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران: 128])

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة شهرا إذا قال: (سمع الله لمن حمده) يقول في قنوته: «اللهم انج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» قال أبو هريرة رضي الله عنه: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد، قلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم، قال: فقيل: (وما تراهم قد قدموا)

(3)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 23/ 109؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 942، كتاب التفسير، باب {ليس لك من الأمر شيء} ، ح (4560).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 305، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، ح (676)(296).

ص: 857

وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعد ما يقول:(سمع الله لمن حمده) فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار

(2)

.

رابعاً: عن البراء بن عازب رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب»

(3)

.

خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال:"سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 314. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 1/ 521: (وروى أبو حاتم بن حبان من حديث إبراهيم بن سعد، عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة

-فذكره- ثم قال: رواته ثقات). وصححه ابن حجر في الدراية 1/ 195.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 158، كتاب الأذان، باب، ح (797)، ومسلم في صحيحه 2/ 305، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، ح (676)(296).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 307، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، ح (678)(305).

ص: 858

سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه»

(1)

.

سادساً: عن طارق بن الأشيم

(2)

رضي الله عنه قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بُنَيَّ إنها لبدعة

(3)

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 224، كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلوات، ح (1443)، وأحمد في المسند 4/ 475 - وزاد:(أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم) -، وابن الجارود في المنتقى ص 87، والحاكم في المستدرك 1/ 348، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 285، والحازمي في الاعتبار ص 237. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري) ووافقه الذهبي. وقال الحازمي: (حديث حسن على شرط أبي داود) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 224.

(2)

هو: طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي، والد أبي مالك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه أبو مالك. وسكن الكوفة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 274؛ الإصابة 2/ 938؛ التقريب 1/ 447.

(3)

البدعة اسم من الابتداع، وإبداع الشيء إحداثه واختراعه لا على مثال. وهو في الاصطلاح: الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون، ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي. انظر: مختار الصحاح ص 38؛ المصباح المنير ص 38؛ التعريفات للجرجاني ص 43.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه ص 109، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ترك القنوت، ح (402)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 176، كتاب التطبيق، باب ترك القنوت، ح (1080)، وابن ماجة في سننه ص 221، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، ح (1241)، وأحمد في المسند 25/ 214، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 249، وابن حبان في صحيحه ص 611، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 302. قال الترمذي في سننه ص 109:(حديث حسن صحيح)، وكذلك صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 182، وصحيح سنن النسائي ص 176.

وقال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 520: (قال البخاري: طارق بن الأشيم له صحبة. وهذا الإسناد صحيح، وقد تعصب أبو بكر الخطيب فقال: في صحبة طارق نظر. قال وإن صح الحديث حملناه على دعاء أحدثه أهل ذلك العصر. وهذا منه تعصب بارد إذ لا وجه للنظر بعد ثبوت صحبته عند البخاري ومحمد بن سعد وغيرهما ممن ذكر الصحابة، وأما حمله فحمل من لا يفهم؛ لإن الإنكار كان للدعاء في ذلك الوقت لا لنفس الدعاء).

ص: 859

سابعاً: عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم»

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت عند النوازل، عندما كان يدعو لأحد أو على أحد، ولم يكن ذلك مقتصراً على صلاة الفجر، بل قنت فيها وفي غيرها، فكان يقنت لسبب نزل به ثم يتركه عند عدم ذلك السبب النازل به، وحديث طارق بن أشيم رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كانوا يحافظون على قنوت راتب. أما حديث أنس رضي الله عنه الأخير، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في رواية، فهما تنصان على أن القنوت في

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 314. وقال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 521: (الحديث الثاني: قال الخطيب في كتاب القنوت له: أخبرني

_فذكره-). وقال ابن عد الهادي في التنقيح 1/ 521: (هذا إسناد صحيح، والحديث نص في أن القنوت مختص بالنوازل). وكذلك صحح سنده ابن حجر في فتح الباري 8/ 85، والدراية 1/ 117.

ص: 860

المكتوبات مختص بالنازلة

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن القنوت في الفجر من السنن الراتبة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبقت في دليل من قال بنسخ النهي عن القنوت في الفجر.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه أنه سئل: (هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: نعم. فقيل له: قبل الركوع أو بعده؟ قال: بعد الركوع)

(2)

.

فهذه الأدلة تدل على أن القنوت سنة في الفجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه

(3)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح الاستدلال من هذه الأحاديث، أما عن

(1)

انظر: التنقيح لابن عبد الهادي 1/ 521؛ مجموع الفتاوى 22/ 269، 23/ 108؛ نصب الراية 2/ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

(2)

أخرج نحوه البخاري في صحيحه-وزاد: (يسيراً) - ص 197، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1001)، وأخرجه باللفظ المذكور أبو داود في سننه ص 224، كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلوات، ح (1444)، والنسائي في سننه ص 175، كتاب التطبيق، باب القنوت في صلاة الصبح، ح (1071)، و الحازمي في الاعتبار ص 245، وقال:(هذا حديث صحيح مخرج في كتاب مسلم من حديث أيوب نحواً من معناه). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 224.

(3)

انظر: الحاوي 2/ 152؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 278؛ المجموع 3/ 335.

ص: 861

الأول: فلأن المراد به

هو القنوت عند النازلة، ولذلك جاء تقييده في أكثر الروايات بقوله:(يسيراً)، وبقوله:(قنت شهراً)

(1)

.

وأما بقية الأحاديث فقد سبق ما اعترض على الاستدلال منها في قول من قال بأن القنوت في الفجر هو الناسخ لغيره.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أن القنوت مشروع في المكتوبات عند النوازل، وليس من السنن الراتبة في الفجر- وذلك لما يلي:

أولاً: لأنه يمكن أن يجمع به بين تلك الأحاديث المختلفة، وذلك لأن الأحاديث الواردة في القنوت في المكتوبات ثلاثة أقسام:

أ- قسم يدل بمجموعه على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في المكتوبات لنازلة فدعا على أناس، أو دعا لأناس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك بعد مدة، ثم قنت لنازلة أخرى ثم تركه بعد مدة.

والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة وصحيحة وصريحة.

ب- قسم يدل بمجموعه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت، وكذلك خلفاؤه من بعده.

والأحاديث الدالة على هذا المعنى لا بأس بها، وهي صحيحة في الجملة وصالحة للاحتجاج بها.

(1)

راجع تخريج الحديث، وانظر: التحقيق لابن الجوزي 1/ 524.

ص: 862

ج- قسم يدل بمجموعه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت، أو لم يزل يقنت في الفجر حتى الموت، وكذلك خلفاؤه.

والأحاديث الدالة على هذا المعنى أقل رتبة من الأحاديث الدالة على النوعين السابقين، ثم هي لا تخلو من تطرق الاحتمالات إليها.

لكن يمكن الجمع بين هذه الأنواع الثلاثة، وذلك بحمل النوع الأول والثالث على القنوت لنازلة، وحمل النوع الثاني على القنوت الراتبة.

ويدل على هذا الجمع حديث أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم»

(1)

.

ونحوه حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

.

ثانياً: ولأن القول بنسخ القنوت في المكتوبات ضعيف، ويكفي لرده قنوت الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعد ما يقول:(سمع الله لمن حمده) فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار

(3)

.

وترك النبي صلى الله عليه وسلم القنوت بعد مدة لم يكن لعدم بقاء مشروعيته، بل لزوال سببه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا

(1)

سبق تخريجه في دليل القول الأول. وانظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر 1/ 195.

(2)

سبق تخريجه في دليل القول الأول.

(3)

سبق تخريجه في دليل القول الأول.

ص: 863

عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت؛ ولذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ

(1)

.

ثالثاً: ولأن القول بأن القنوت في الفجر من السنن الراتبة وأنه الناسخ لغيره فضعيف، وذلك:

أ-لأن الأحاديث المستدل منها على ذلك إما غير صريحة في ذلك، أو لا تخلو من كلام فيها.

ب- ولأن القنوت في الفجر لو داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا فيه بدعاء لنقله الصحابة و التابعون، ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، وإذا انعدم ذلك، دل على عدم ذلك، ومن تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 314؛ مجموع الفتاوى 22/ 269؛ زاد المعاد 1/ 272؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى 22/ 270؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 658.

ص: 864

‌المطلب الخامس: الدعاء على آحاد الكفرة في القنوت

ذهب ابن خزيمة

(1)

إلى نسخ اللعن في القنوت.

و ذهب بعض أهل العلم إلى نسخ الدعاء على آحاد الكفرة بذكر أسمائهم أو قبائلهم.

ويظهر هذا من كلام البيهقي

(2)

، ونسبه الحازمي إلى بعض أهل العلم، ونصره

(3)

.

وليس للقول بالنسخ في هذه المسألة أثر بارز في اختلاف الفقهاء، إلا أنه أحد أسباب الاختلاف عند القائلين به.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من

(1)

انظر قوله في: صحيح ابن خزيمة 1/ 316.

(2)

قال البيهقي في سننه الكبرى 2/ 285: (باب ترك القنوت في سائر الصلوات غير الصبح عند ارتفاع النازلة، وفي صلاة الصبح لقوم أو على قوم بأسمائهم أو قبائلهم). وقال 2/ 287: (باب الدليل على أنه لم يترك أصل القنوت في صلاة الصبح، إنما ترك الدعاء لقوم أو على قوم آخرين بأسمائهم أو قبائلهم).

(3)

انظر: الاعتبار ص 239، 240، 242، 243. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2/ 348 - بعد ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(والحديث يدل على نسخ القنوت بلعن المستحقين، وأن الذي يشرع فعله عند نزول النوازل إنما هو الدعاء لجيش المحقين بالنصر، وعلى جيش المبطلين بالخذلان، والدعاء يرفع المصائب، ولكنه يشكل على ذلك ما سيأتي في حديث أبي هريرة من نزول الآية عقب دعائه للمستضعفين وعلى كفار مضر مع أن ذلك مما يجوز فعله في القنوت عند النوازل).

ص: 865

الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])

(1)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، ثم يقول وهو قائم:«اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيانَ ورعلاً وذكوانَ وعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله» . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال-إذ قال:"سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد"-: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها

(1)

سبق تخريجه في ص 560.

(2)

سبق تخريجه في ص 561.

ص: 866

سنين كسني يوسف» يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر:«اللهم العن فلاناً وفلاناً» لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران: 128])

(1)

.

ثالثاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة قال: «اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيانَ ورعلاً وذكوان وعُصيّة عصت الله ورسوله» فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: (فما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء على أحد)

(2)

.

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه»

(3)

.

خامساً: عن خالد بن أبي عمران

(4)

قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو

(1)

سبق تخريجه في ص 567.

(2)

سبق تخريجه في ص 562.

(3)

سبق تخريجه في ص 562.

(4)

هو: خالد بن أبي عمران-زيد- التجيبي مولاهم، أبو عمرو التونسي، قاضي إفريقية، فقيه صدوق، روى عن سالم، ونافع، وغيرهما، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، والليث، وغيرهما، وتوفي سنة خمس، وقيل: تسع

وعشرين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 101؛ التقريب 1/ 261.

ص: 867

على مضر إذ جاء جبريل فأوحى إليه أن اسكت، فسكت فقال: يا محمد إن الله عز وجل لم يبعثك سبَّاباً ولا لعَّاناً، وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذاباً {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]» قال: ثم علمه «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد

(1)

، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في قنوته على أشخاص وقبائل، فانزل الله تعالى الآية وأمره بترك ذلك، فتركه كما في حديث أنس:(ثم تركه) وليس المراد ترك القنوت، بل اللعن والدعاء على من دعا عليهم من آحاد الكفرة بذكر أسمائهم أو قبائلهم، فدل ذلك على نسخ الدعاء على أحاد الكفرة في القنوت بذكر أسمائهم

(3)

.

(1)

نحفد أي: نسرع في العمل والطاعة والخدمة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 397؛ المصباح المنير ص 141.

(2)

أخرجه أبو داود في المراسيل ص 193، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 298، والحازمي في الاعتبار ص 243، وقال:(هذا مرسل أخرجه أبو داود في المراسيل، وهو حسن في المتابعات).

(3)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 316؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 287؛ الاعتبار ص 241 - 244.

ص: 868

واعترض عليه: بأن المراد بالترك في هذه الأحاديث ليس ترك القنوت ولا ترك اللعن فيه على الكفار-ولو بأسمائهم وقبائلهم- تركًا كلياً بحيث لم يعد إليه مرة أخرى، بل المراد به ترك القنوت واللعن على من دعا عليهم لزوال السبب، ثم عاد إليه لوجود سبب آخر، فدعا على قوم ودعا لآخرين، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تركه لما زال العارض، ثم عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض وهكذا. فهو لم ينسخ بل مشروع عند النوازل، ويؤكد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه:(أن رعلاً وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان)

(1)

.

ثم ترك هذا الدعاء واللعن كما في رواية أخرى لأنس رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه»

(2)

.

ثم قد عاد النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بعد هذا الترك بمدة وبعد فتح خيبر وبعد إسلام أبي هريرة رضي الله عنه دعا على أناس آخرين وقبائل-كما سبق ذكر ذلك في حديث

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 842، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان، وبئر معونة،

ح (4090).

(2)

سبق تخريجه في ص 562.

ص: 869

أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه الذي سبق ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على رعل وذكوان وعصية، وأنه ترك ذلك بعد ما أُنزل الآية فلم يدع على أحد. مع أن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدعاء واللعن على مضر، وهو بعد نزول تلك الآية

(1)

وبعد ترك اللعن على رعل وذكوان.

فثبت مما تقدم أن المراد بالترك هو الترك لزوال السبب والعارض، وليس المراد به الترك بحيث لم يعد إليه مرة أخرى حتى يكون هذا الترك ناسخاً

(2)

.

كما أن الأحاديث التي استُدل منها على النسخ ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اللعن والدعاء على أحاد الكفرة بذكر أسمائهم أو قبائلهم، بل هي أصرح من ذلك في ترك القنوت، فإما أن يقال بنسخ القنوت كما قال به من قال ممن سبق ذكره في المسألة السابقة، أو يقال بعدم نسخ شيء منه كما قال به أكثر أهل العلم، وأن المراد بالترك هو الترك لزوال السبب والعارض لا الترك الذي لا رجعة فيه ولا عودة، أما القول بنسخ اللعن والدعاء على آحاد الكفرة بذكر أسمائهم أو قبائلهم، فليس في هذه

(1)

فإن هذه الآية نزلت بعد غزوة أحد. انظر: أسباب النزول للواحدي ص 80؛ تفسير ابن كثير 1/ 380؛ فتح الباري 8/ 86.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى 22/ 373؛ زاد المعاد 1/ 272؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 655.

ص: 870

الأحاديث ما يدل على ذلك، وفي إحدى روايات حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه:«فما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على أحد بعد» وهو يدل على ترك الدعاء عليهم مطلقاً، وليس يدل على ترك اللعن على آحادهم، ويؤكده حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد»

(1)

.

أما حديث خالد بن أبي عمران فهو مرسل، وفي الاحتجاج به خلاف، ثم هو مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لقوم أو دعا على آخرين، وليس فيها ذكر مجيء جبريل عليه السلام وأمره إياه بالسكوت في الصلاة.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

أما جمهور أهل العلم فقد سبق في المسألة السابقة أنهم يقولون بمشروعية القنوت في النوازل، ولم يفرقوا بين الدعاء على آحاد الكفرة بذكر أسمائهم أو قبائلهم، وبين غير ذلك، وقد سبق أدلتهم في المسألة السابقة.

كما سبق بيان ترجيح قولهم، لذلك فلا داعي لإعادة ذكره.

والله أعلم.

(1)

سبق تخريجه في ص 567.

ص: 871

‌المطلب السادس: القنوت بعد الركوع

ذهب الطحاوي إلى أن القنوت بعد الركوع قد نسخ

(1)

.

وليس للقول بالنسخ أثر بارز في اختلاف الفقهاء في المسألة، وإنما السبب في اختلافهم فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في المفهوم من تلك الآثار، كما سيظهر ذلك من عرض الأقوال والأدلة.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])

(2)

.

ثانياً: عن محمد بن سيرين قال: سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أو قنت قبل الركوع؟ قال: «قنت

(1)

قال في شرح معاني الآثار 1/ 246 - بعد ذكر ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه في القنوت-: (فقد ثبت بما روينا عنه نسخ قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع). وقال في ص 248 - بعد ذكر ما روي عن أنس رضي الله عنه في القنوت-: (فلم يثبت لنا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت قبل الركوع شيء، وقد ثبت عنه النسخ للقنوت بعد الركوع).

(2)

سبق تخريجه في ص 560.

ص: 872

بعد الركوع يسيراً»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه»

(2)

.

وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه: (ثم تركه بعد الركوع)

(3)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهما-يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، ثم نزول الآية وقول أنس رضي الله عنه:(ثم تركه) يدلان على نسخ تلك القنوت، فيثبت من ذلك أن القنوت بعد الركوع قد نسخ

(4)

.

وكأن هذا القول ودليله مبني على نسخ القنوت في المكتوبات، وقد سبق حقيقة ذلك وما اعترض عليه، وما هو الراجح، وذلك في المسألة قبل السابقة، وفي ذلك كفاية، لذلك فلا داعي لإعادته.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في القنوت هل هو قبل الركوع أو بعده على

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 197، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1001)، ومسلم في صحيحه 2/ 306، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، ح (677)(298).

(2)

سبق تخريجه في ص 562.

(3)

هذا إحدى روايات النسائي، أخرجه في سننه ص 176، كتاب التطبيق، باب اللعن في القنوت، ح (1077).

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 246، 248.

ص: 873

قولين:

القول الأول: أن محل القنوت قبل الركوع.

وهو قول الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، والبراء، وأنس، وأبي بن كعب-رضي الله عنهم، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن المبارك، وإسحاق بن راهوية

(3)

.

القول الثاني: أن محل القنوت بعد الركوع.

وهو قول الشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبيّ رضي الله عنهم

(6)

.

(1)

انظر: الأصل 1/ 164؛ مختصر القدوري ص 29؛ بدائع الصنائع 1/ 612؛ الهداية 1/ 428؛ فتح القدير 1/ 428.

(2)

انظر: الإشراف 1/ 257؛ الكافي ص 44؛ جامع الأمهات ص 95؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 244؛ التاج والإكليل 2/ 244.

(3)

انظر: مختصر قيام الليل وقيام رمضان، للمروزي ص 318؛ المغني 2/ 582؛ المجموع 3/ 337؛ البناية 2/ 580.

(4)

انظر: مختصر المزني ص 27؛ الحاوي 2/ 154؛ العزيز 1/ 515؛ المجموع 3/ 336.

(5)

انظر: المغني 2/ 581؛ المحرر 1/ 88؛ الشرح الكبير 4/ 126؛ الفروع 2/ 362؛ الإنصاف 4/ 125.

(6)

انظر: مختصر قيام الليل وقيام رمضان، للمروزي ص 317؛ السنن الكبرى 2/ 295؛ المغني 2/ 581؛ المجموع 3/ 336.

ص: 874

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أن محل القنوت قبل الركوع- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عاصم

(1)

قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قال: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، فقال: كذب، (إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً، أُراه كان بعث قوماً يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلاً إلى قوم مشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم)

(2)

.

وفي رواية: سأل رجل أنساً عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ قال: (لا، بل عند فراغ من القراءة)

(3)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو

(1)

هو: عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقة، روى عن أنس، وعبد الله بن سرجس، و غيرهما، وروى عنه شعبة، والثوري، وغيرهما، وتوفي بعد سنة أربعين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 40؛ التقريب 1/ 457.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 198، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1002)، ومسلم في صحيحه 2/ 306، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، ح (677)(301).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس ص 842، كتاب المغازي، باب غزوة رجيع ورعل وذكوان، ح (4088).

ص: 875

على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع)

(1)

.

فإن مفهومه أنه صلى الله عليه وسلم في غير النازلة يقنت قبل الركوع

(2)

.

ثالثاً: عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية ب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه: «سبحان الملك

القدوس» ثلاث مرات، يطيل في آخرهن)

(3)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 567.

(2)

انظر: فتح الباري 8/ 85.

(3)

أخرجه النسائي في سننه ص 278، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، ح (1699)، وابن ماجة في سننه ص 211، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1182)، ومحمد بن نصر في قيام الليل-مختصر قيام الليل ص 313 - ، والدارقطني في سننه 2/ 31، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 57. وذكره أبو داود في سننه-معلقاً- ص 222، بعد حديث رقم (1427)، وأعله بأن جماعة رووه بدون ذكر القنوت. وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 18: (أبو داود، والنسائي وابن ماجة، وأبو علي بن السكن في صحيحه، ورواه البيهقي من حديث أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، وضعفها كلها، وسبق إلى ذلك: ابن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر، قال الخلال عن أحمد: لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولكن عمر كان يقنت). وصححه الشيخ الألباني فقال في الإرواء 2/ 167 - بعد ذكر سنده من طريق النسائي وابن ماجة والضياء المقدسي-: (قلت: وهذا سند جيد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير علي بن ميمون، وهو ثقة كما في التقريب) ثم ذكر له متابعاً من طريق الدارقطني والبيهقي ثم قال: (قلت: فصح بذلك الإسناد) ثم ذكر له إسناداً آخر، وطريقاً أخرى ثم قال:(وهذا إسناد صحيح أيضاً). وذكر تعليل أبي داود للحديث ثم قال: (وهذا الإعلال ليس بشيء؛ لاتفاق الجماعة من الثقات على رواية هذه الزيادة، فهي مقبولة، ولذلك صحح الحديث غير واحد من العلماء، ومن أعله فلا حجة له). ثم ذكر أنه يقويه الشواهد التي أشار إليها ابن حجر، ويقويه كذلك حديث أنس لما سئل عن القنوت فقال:(قبل الركوع). وكذلك صححه في صحيح سنن ابن ماجة ص 210.

ص: 876

رابعاً: عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا فرغت من قراءتي في الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، تباركت وتعاليت، لا منجأ منك إلا إليك»

(1)

.

خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أوتر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث قنت فيها قبل الركوع»

(2)

.

(1)

أخرجه ابن منده- بهذا اللفظ- في كتاب التوحيد 2/ 191. ويوجد له متابعة ذكره ابن حجر في التلخيص 1/ 249، لذلك قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 169: (ولهذا مالت نفسي إلى ترجيح هذا اللفظ بعد ثبوت هذه المتابعة).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 59، وأبو نعيم في الحلية كما في نصب الراية 2/ 124، والدارية 1/ 194. وفي سنده عطاء بن مسلم الحلبي، قال البيهقي: (وهو ضعيف) وكذلك ضعفه أبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وعن يحيى ين معين في رواية: ليس به بأس وآحاديثه منكرات. ووثقه ابن معين في رواية وكذلك الفضل بن موسى ووكيع. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 184؛ التقريب 1/ 675؛ الجوهر النقي لابن التركماني 3/ 59. ثم قال ابن التركماني بعد ذكر من وثقه: (فهؤلاء ثلاثة أكابر وثقوه، فأقل أحواله أن تكون روايته شاهدة لما تقدم من حديث أبيّ وابن مسعود).

ص: 877

سادساً: عن عبد الله رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع»

(1)

.

سابعاً: عن علقمة: (أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا

(1)

قال ابن الجوزي في التحقيق 1/ 532: (الحديث الثاني: قال الخطيب: أنبأ أبو الحسن

-فذكره-). وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي القاضي، قال ابن حجر في التقريب 1/ 417:(صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً). وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 97، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 59، من طريق أبان بن أبي عياش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. قال البيهقي بعد ذكر الحديث:(ورواه سفيان الثوري عن أبان بن أبي عياش، ومدار الحديث عليه، وأبان متروك). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي رداً على البيهقي: (قد تابعه على ذلك الأعمش. قال البيهقي في الخلافيات: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف المعدل عن أصل كتابه، ثنا أحمد بن الخليل البغدادي، ثنا أبو النضر، ثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركعة". ثم قال: هذا غلط، والمشهور رواية الجماعة عن الثوري، عن أبان. قلت-يعني ابن التركماني-: الحسن بن يعقوب عدل في نفس الإسناد، وبقية رجاله ثقات، فيحمل على أن الثوري رواه عن الأعمش وأبان كلاهما عن إبراهيم، وهذا أولى مما فعله البيهقي من التغليط).

ص: 878

يقنتون في الوتر قبل الركوع)

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على أن القنوت محله قبل الركوع

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن القنوت محله بعد الركوع- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في القنوت في الفجر والمكتوبات؛ حيث إنها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها قبل الركوع، ويقاس على ذلك القنوت في الوتر

(3)

.

ثانياً: عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 97. وذكر ابن حجر في الدراية 1/ 194، أن إسناده حسن. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 166: (وهذا سند جيد، وهو على شرط مسلم).

(2)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 613؛ نصب الراية 2/ 123؛ فتح القدير 1/ 428؛ إرواء الغليل 2/ 165 - 169.

(3)

راجع هذه الأحاديث في المسألة قبل السابقة. وانظر: مختصر قيام الليل ص 317، 318؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 92، 3/ 56؛ المغني 2/ 582؛ المجموع 3/ 337.

(4)

أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 188، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 56، قال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، إلا أن محمد بن جعفر بن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده). وقال البيهقي: (تفرد بهذا اللفظ أبو بكر بن شيبة الخزامي، وقد روينا في قنوت صلاة الصبح بعد الركوع ما يوجب الاعتماد عليه، وقنوت الوتر قياس عليه). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 248 - بعد ذكر رواية الحاكم-: (تنبيه: ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبو بكر بن شيبة المدني الحزامي، ثنا ابن أبي فديك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده، ولفظه: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول في الوتر قبل الركوع)، فذكره وزاد في آخره:(لا منجأ منك إلا إليك). وانظر: إرواء الغليل 2/ 168، 169.

ص: 879

ثالثاً: ما روي (أن علياً رضي الله عنه كان يقنت في الوتر بعد الركوع)

(1)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم- ما يلي:

أولاً: أن القول بنسخ القنوت بعد الركوع ضعيف بل لا يصح، وكأن القول به مبني على القول بنسخ القنوت في المكتوبات، وقد سبق

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 96، و محمد بن نصر في قيام الليل-مختصر قيام الليل- ص 317، وذكر الشيخ الألباني تخريجه في الإرواء 2/ 166، ثم قال:(قلت: وهذا سند ضعيف؛ لأن عطاء بن السائب كان اختلط، ولعل هذا الاختلاف في الرواية إنما هو من اختلاطه) إلى أن قال: (والخلاصة أن الصحيح الثابت عن الصحابة هو القنوت قبل الركوع في الوتر، وهو الموافق للحديث الآتي

).

ص: 880

رده وبيان ما هو الراجح.

ثانياً: أنه يجوز القنوت قبل الركوع وبعده، لما روى أنس رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت بعد الركعة وأبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه حتى كان عثمان رضي الله عنه قنت قبل الركعة ليدرك الناس»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه سُئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: (كنا نقنت قبل الركوع وبعده)

(2)

.

لكن الراجح في النوازل هو القنوت بعد الركوع؛ وذلك لأن

(1)

أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل-مختصر قيام الليل- ص 317، وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 161:

(أخرجه ابن نصر في قيام الليل بإسناد صحيح).

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 211، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، ح (1183). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 181:(وإسناد طريق ابن ماجة صحيح، رجاله ثقات). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 161: (أخرجه ابن ماجة وإسناده صحيح أيضاً كما قال البوصيري في الزوائد، لكن قوله: (قبل الركوع) شاذ لعدم وروده في الطرق المتقدمة، لكن له أصل في طريق أخرى-وهي الآتية- مطلقاً دون تقييد بصلاة الصبح، وكذلك رواه السراج في مسنده من طريق عبد الوهاب بن عطاء أنا حميد قال: سئل أنس بن مالك عن القنوت قبل الركوع أم بعده؟ قال: (كل ذلك كنا نفعل). وعن شعبة عن حميد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «قد كان قبل وبعد، يعني القنوت قبل الركوع وبعده). وقال ابن حجر في الفتح 2/ 605:(ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح).

ص: 881

أكثر من نقل ذلك عن الصحابة ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بعد الركوع، وقد سبق جملة من تلك الأحاديث في المسألة السابقة وفي التي قبلها.

أما القنوت في الوتر فالراجح أن محله قبل الركوع، وقد سبق ما يدل على ذلك في أدلة القول الأول، وهي أدلة بعضها صريح في ذلك، وهي بمجموعها تصلح للاحتجاج بها.

أما أدلة القول الثاني في القنوت في الوتر بعد الركوع فقد سبق عند تخريجها ما يدل على أنها لا تصلح للاحتجاج بها، ولا تقوى على معارضة أدلة القول الأول الدالة على أن القنوت في الوتر قبل الركوع.

والله أعلم.

ص: 882

‌المطلب السابع: وضع اليدين قَبْلَ الركبتين عند السجود

ذهب بعض أهل العلم

(1)

ومنهم ابن خزيمة

(2)

، والماوردي

(3)

، وابن قدامة

(4)

، إلى أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ، وأن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ له.

وذهب ابن حزم إلى عكس ذلك؛ حيث قال بوجوب وضع اليدين إذا سجد قبل الركبتين، وأن الحديث الدال على ذلك ناسخ لما خالفه

(5)

.

(1)

قال الخطابي في معالم السنن 1/ 398: (وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ، وروى فيه خبراً). وقال البيهقي في السنن الكبرى 2/ 144: (وقد روي أن ذلك كان ثم نسخ وصار الأمر إلى ما روينا عن وائل بن حجر إلا إن إسناده ضعيف). وقال الحازمي في الاعتبار ص 220: (ومنهم من ادعى أن الأحاديث الأول منسوخ بحديث سعد). وانظر كذلك: مجموع الفتاوى 22/ 449؛ المنهج القويم بشرح مسائل التعليم لابن حجر الهيتمي 1/ 408؛ حاشية العدوي 1/ 337.

(2)

انظر قوله في صحيح ابن خزيمة 1/ 319. وانظر كذلك: المجموع 3/ 275؛ فتح الباري 2/ 360.

(3)

هو: علي بن محمد بن حبيب، القاضي أبو الحسن الماوردي البصري، أحد الأئمة من أصحاب الوجوه، تفقه على الصيمري، وغيره، وولي القضاء ببلدان شتى، واتهم بالاعتزال، ومن مؤلفاته (الحاوي الكبير) وتوفي سنة خمسين وأربعمائة. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 138؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 230.

وانظر قوله بالنسخ في: الحاوي 2/ 125.

(4)

انظر: المغني 2/ 194.

(5)

انظر: المحلى 3/ 45؛ نيل الأوطار 2/ 254.

ص: 883

وتبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف الفقهاء فيها، إلا أن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ وضع اليدين قبل الركبتين إذا سجد بما يلي:

أولاً: عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه»

(2)

.

(1)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 318، 319؛ المحلى 3/ 45؛ نيل الأوطار 2/ 254.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 134، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، ح (838)، والترمذي في سننه ص 76، كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ح (268)، والنسائي في سننه ص 177، كتاب التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، ح (1089)، وابن ماجة في سننه ص 163، كتاب الصلاة، باب السجود، ح (882)، والدارمي في سننه 1/ 347، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 319، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 255، وابن المنذر في الأوسط 3/ 165، وابن حبان في صحيحه ص 592، والدارقطني في سننه 1/ 345، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 142. قال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه مثل هذا عن شريك). وقال ابن المنذر في الأوسط 3/ 166: (وحديث وائل بن حجر ثابت).

وقال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 1/ 397: (وقد صححه ابن خزيمة، وأبو حاتم ابن حبان، والحاكم).

وذكر الخطابي في معالم السنن 1/ 398 أن حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة.

وقال الدارقطني في سننه 1/ 345: (تفرد به يزيد عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به، والله أعلم).

وقال البيهقي في السنن الكبرى 2/ 142: (هذا حديث يعد في إفراد شريك القاضي، وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلاً، هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين رحمهم الله تعالى).

وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 254: (قال البخاري والترمذي وابن أبي داود والدارقطني والبيهقي: تفرد به شريك، قال البيهقي: وإنما تابعه همام عن عاصم عن أبيه مرسلاً. وقال الترمذي: رواه همام عن عاصم مرسلاً. وقال الحازمي: رواية من أرسل أصح، وقد تعقب قول الترمذي بأن هماماً إنما رواه عن شقيق يعني ابن الليث، عن عاصم عن أبيه مرسلاً، ورواه همام أيضاً عن محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه موصولاً، وهذه الطريق في سنن أبي داود، إلا أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، وله شاهد من وجه آخر). وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 75، وفي صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 140. وقال في تمام المنة ص 194:(وهو حديث ضعيف؛ لأنه من حديث شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، وهو ضعيف سيء الحفظ فلا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف؟).

ص: 884

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 345، والحاكم في المستدرك 1/ 349، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 143، والحازمي في الاعتبار ص 222. قال الحاكم:(هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني ونحوه قول البيهقي: (تفرد به العلاء بن إسماعيل عن حفص بهذا الإسناد). وقال ابن القيم في زاد المعاد 1/ 229: (قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: هذا الحديث منكر. انتهى، وإنما أنكره- والله أعلم- لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة).

ص: 885

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سجد أحدكم فليبتدئ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل»

(1)

.

رابعاً: عن سعد بن أبي قاص رضي الله عنه قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمرنا بالركبتين قبل اليدين)

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على وضع الركبتين قبل اليدين، ثم حديث سعد رضي الله عنه يدل على أن الأمر بوضع الركبتين قبل اليدين متأخر عن الأحاديث الدالة على وضع اليدين قبل

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 236، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 255، وابن حزم في المحلى 3/ 44، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 144. وقال:(إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف). وقال ابن حجر في الفتح 2/ 360: (إسناده ضعيف) وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 79: (حديث باطل، تفرد به عبد الله هو ابن سعيد المقبري، وهو واه جداً بل اتهمه بعضهم بالكذب).

(2)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 319، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 144، والحازمي في الاعتبار ص 221. وهذا الحديث تفرد به إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى عن أبيه، وهما ضعيفان، لذلك ضُعف هذا الحديث، وممن ضعفه البيهقي، والحازمي، والنووي، وابن حجر. انظر: السنن الكبرى 2/ 144؛ الاعتبار ص 221؛ المجموع 3/ 275؛ فتح الباري 2/ 360.

ص: 886

الركبتين، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لما يدل على وضع اليدين قبل الركبتين

(1)

.

واعترض عليه: بأن حديث سعد رضي الله عنه حديث ضعيف؛ لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ

(2)

.

دليل من قال بنسخ وضع الركبتين قبل اليدين عند السجود

واستدل على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه»

(3)

.

(1)

انظر: صحيح ابن خزيمة 1/ 319؛

(2)

انظر: المجموع 3/ 275؛ فتح الباري 2/ 360.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 134، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، ح (840)، والنسائي في سننه ص 178، كتاب التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، ح (1091)، وأحمد في المسند 14/ 516، والدارمي في سننه 1/ 347، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 254، والدارقطني في سننه 1/ 345، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 143، وابن حزم في المحلى 3/ 44. قال النووي في المجموع 3/ 274:(رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد). وقال ابن حجر في بلوغ المرام-مع شرحه سبل السلام-: 1/ 359: (وهو أقوى من حديث وائل بن حجر). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 78: (وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير محمد بن عبد الله بن الحسن، وهو المعروف بالنفس الزكية العلوي، وهو ثقة كما قال النسائي وغيره). ونقل عن عبد الحق أنه صححه، وقال: إنه أحسن من حديث وائل.

ص: 887

ويستدل منه على النسخ: بأنه يدل على وضع اليدين قبل الركبتين، ثم هذا الحديث وارد بشرع زائد، فيكون ناسخاً لإباحة وضع الركبتين قبل اليدين عند السجود والتي يدل عليها بعض الأحاديث

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح منه الاستدلال على النسخ؛ لأنه لا يوجد دليل على أن هذا الحديث متأخر عن الأحاديث الدالة على وضع الركبتين قبل اليدين، بل مع تلك الأحاديث ما يدل على تأخرها كرواية سعد رضي الله عنه السابق، وأن وائل بن حجر رضي الله عنه وهو أحد من رُوي عنه الحديث الدال على وضع الركبتين قبل اليدين- وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وأبو هريرة رضي الله عنه وهو الراوي لحديث الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين- أسلم سنة سبع قبل الفتح

(2)

.

هذا كان قول من قال النسخ، ودليله.

أما جمهور أهل العلم فقالوا بجواز وضع الركبتين قبل اليدين إذا سجد، وعكسه

(3)

، لكنهم اختلفوا في الأفضل منهما على قولين:

القول الأول: أن الأفضل والمستحب هو وضع الركبتين قبل اليدين.

وهو قول الحنفية

(4)

، والشافعية

(5)

، ...............................................

والحنابلة

(6)

، وجمهور أهل

(1)

انظر: المحلى 3/ 45؛ نيل الأوطار 2/ 254.

(2)

انظر: التنبه على مشكلات الهداية 2/ 568؛ الإصابة 3/ 2076، 4/ 2389؛ تهذيب التهذيب 12/ 239.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى 22/ 449.

(4)

انظر: الأصل 1/ 11؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 211؛ شرح معاني الآثار 1/ 257؛ بدائع الصنائع 1/ 491؛ البناية 2/ 273؛ الدر المختار 2/ 179.

(5)

انظر: الأم 1/ 221؛ الحاوي 2/ 125؛ العزيز 1/ 524؛ المجموع 3/ 274؛ المنهج القويم لابن حجر الهيتمي 1/ 408؛ حاشية البيجوري 1/ 296.

(6)

انظر: الهداية للكلواذاني ص 87؛ المغني 2/ 193؛ الشرح الكبير 3/ 500؛ شرح الزركشي 1/ 310؛ الإنصاف 3/ 500؛ منتهيى الإرادات 1/ 58.

ص: 888

العلم

(1)

، وممن روي عنه ذلك وقال به: عمر رضي الله عنه، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهوية، وابن المنذر

(2)

.

القول الثاني: أن الأفضل والمستحب هو وضع اليدين قبل الركبتين.

وهو قول المالكية

(3)

، ورواية عن الإمام أحمد

(4)

، وبه قال الأوزاعي

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن المستحب تقديم الركبتين على اليدين إذا سجد- بالأدلة التي سبق ذكرها في دليل قول من قال بنسخ وضع اليدين قبل الركبتين؛ حيث إنها تدل على وضع الركبتين قبل اليدين، لكن لوجود حديث معارض لها يكون الأفضل وضع الركبتين قبل اليدين، مع جواز العمل بالحديث المعارض له، وبذلك يجمع بين هذه الأحاديث كلها

(6)

.

(1)

انظر: سنن الترمذي ص 76؛ المجموع 3/ 274.

(2)

انظر: الأوسط 3/ 165، 166؛ الاعتبار ص 221؛ المغني 2/ 193؛ المجموع 3/ 274.

(3)

انظر: الإشراف 1/ 246؛ الكافي ص 44؛ جامع الأمهات ص 97؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 2/ 247؛ حاشية العدوي 1/ 337.

(4)

انظر: المغني 2/ 193؛ الشرح الكبير 3/ 500؛ شرح الزركشي 1/ 310؛ الإنصاف 3/ 500.

(5)

انظر: الاعتبار ص 220؛ المجموع 3/ 274.

(6)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 255؛ المغني 2/ 193؛ المجموع 3/ 274.

ص: 889

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن الأفضل وضع اليدين قبل الركبتين إذا سجد-بما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل قول من قال بنسخ ما يدل على وضع الركبتين قبل اليدين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك»

(1)

.

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 319، وابن المنذر في الأوسط 3/ 165، والطحاوي في شرح معاني الآثار

1/ 254، والدارقطني في سننه 1/ 344، والحاكم في المستدرك 1/ 349، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 144؛ والحازمي في الاعتبار ص 219. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم). ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة كما في بلوغ المرام-مع شرحه سبل السلام-1/ 361. وقال ابن المنذر في مختصر سنن أبي داود 1/ 399: (وحديث ابن عمر هذا أخرجه الدارقطني في سننه بإسناد حسن). وصححه الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 77، وذكر أنه على شرط مسلم.

وذكر البيهقي في السنن الكبرى 2/ 144: أن عبد العزيز رفع هذا الحديث، وهو وهم، ثم روى عنه ما يدل على وضع اليدين في السجود لا على تقديمهما على الركبتين. ورد عليه ابن حجر في الفتح 2/ 359، فقال:(ولقائل أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع) ثم ذكر الفرق بينهما. كما رد عليه الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 77، حيث قال:(وعبد العزيز ثقة، ولا يجوز توهيمه بمجرد مخالفة أيوب له، فإنه زاد الرفع، وهي زيادة مقبولة منه).

ص: 890

وهما يدلان على تقديم اليدين على الركبتين عند السجود

(1)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ ما يدل على تقديم اليدين على الركبتين عند السجود ضعيف؛ لأن الحديث الدال على ذلك- مع أنه صريح في الدلالة على النسخ- ضعيف لذلك فهو لا يقوى على معارضة ما يخالفه

(2)

.

كما أن القول بنسخ ما يدل على وضع الركبتين قبل اليدين ليس عليه أي دليل، وهو أضعف من قول من قال بعكسه

(3)

.

ثانياً: أن الأحاديث الدالة على تقديم الركبتين على اليدين عند الهوي إلى السجود لم يسلم أي واحد منها عن الكلام فيه، إلا أنها بمجموعها يدل على أن لها أصلاً، وقد صحح بعضها بعض أهل العلم

(4)

.

لكنها صريحة في الدلالة على تقديم الركبتين على اليدين عند السجود، وأن ذلك من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحتمل غير ذلك.

ثالثاً: إن الأحاديث التي يُستدل منها على تقديم اليدين على الركبتين عند الهوي إلى السجود أصح، وأقوى إسناداً من الأحاديث التي

(1)

انظر: الإشراف 1/ 247؛ المجموع 3/ 274؛ نيل الأوطار 2/ 253.

(2)

راجع تخريجه والكلام عليه، في ص 586.

(3)

راجع ما اعترض على استدلال منه للقول بالنسخ.

(4)

انظر الكلام عليها عند تخريجها، في ص 584.

ص: 891

يستدل منها على تقديم الركبتين على اليدين

(1)

.

ثم هما حديثان كما سبق:

أحدهما: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو يشتمل على جملتين: نهي (فلا يبرك كما يبرك البعير)، وأمر (وليضع يديه قبل ركبتيه).

وقد اختلفوا في معنى هذا النهي:

فذهب بعضهم إلى أن معناه: أن البعير عند البروك يضع يديه أولاً، ورجلاه قائمتين، وإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولاً، وتبقى يداه على الأرض، وهذا هو الذي نهي عنه صلى الله عليه وسلم وفعل خلافه؛ حيث كان يقع منه أول ما يقع على الأرض الأقرب منها فالأقرب، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى

(2)

.

فيكون معنى هذا النهي: النهي عن وضع اليدين قبل الركبتين كما يفعل البعير، وعلى هذا فيكون معنى هذا الحديث موافقة لمعنى حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وهو تقديم الركبتين على اليدين عند الهويّ إلى السجود.

قالوا: ولو كان المقصود من الحديث تقديم اليدين على الركبتين لقال: (فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير) لكن بين اللفظين فرقاً، فإن النهي في قوله:(كما يبرك البعير) نهي عن الكيفية وليس المراد النهي عن البروك على ما يبرك عليه البعير وإلا لقال: (فلا يبرك على ما يبرك عليه

(1)

راجع تخريج الحديثين والكلام عليهما.

(2)

انظر: زاد المعاد 1/ 224؛ تهذيب سنن أبي داود 1/ 400؛ نيل الأوطار 2/ 254؛ الشرح الممتع 3/ 156.

ص: 892

البعير) ولكان نهياً على ما يسجد عليه

(1)

.

قالوا وعلى هذا المعنى فالجملة الثانية وهي: (وليضع يديه قبل ركبتيه) مما انقلب على بعض الرواة أصله ومتنه، ولعله:(وليضع ركبتيه قبل يديه)، وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه كذلك ففي رواية عنه مرفوعاً:(إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل)

(2)

.

فيكون الحديث على هذا المعنى موافقاً لحديث وائل بن حجر لا مخالفاً، ويكون دليلاً للقول الأول لا للثاني

(3)

.

فهذا احتمال يتطرق إلى هذا الحديث.

والاحتمال الآخر وهو ما استدل منه أصحاب القول الثاني، هو أن معنى قوله:(فلا يبرك كما يبرك البعير) النهي عن بروك كبروكه، وهو أن البعير إذا برك فأول ما يقع منه على الأرض ركبتاه اللتان في يديه، فيقتضي ذلك أن لا يخر المصلى على ركبتيه، بل عليه أن يتلقى الأرض بكفيه، وبذلك يكون الشطر الأول من الحديث متفقاً مع الشطر الثاني (وليضع يديه قبل ركبتيه)، ويكون المصلي بذلك مخالفاً لما يفعله البعير عند بروكه

(4)

.

الحديث الثاني هو حديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو صحيح إلا أنه مختلف

(1)

انظر: تهذيب سنن أبي دواد 1/ 400؛ الشرح الممتع 3/ 156.

(2)

سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ. وانظر: زاد المعاد 1/ 226،

(3)

انظر: الشرح الممتع 3/ 155.

(4)

نظر: شرح معاني الآثار 1/ 254؛ المحلى 3/ 44؛ إرواء الغليل 2/ 79؛ صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 141.

ص: 893

في رفعه ووقفه، ورجح ابن المنذر والبيهقي الوقف

(1)

، ثم روي عن نافع عن ابن عمر (أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه)

(2)

.

فتبين مما سبق أن أدلة القول الأول صريحة فيما يراد بها، إلا أن فيها ضعفاً، لكن هي بمجموعها تصلح للاحتجاج بها وتفيد أن لها أصلاً

(3)

، ويدعمها عمل بعض الصحابة كعمر

وابن مسعود رضي الله عنهم

(4)

.

أما أدلة القول الثاني فهي أصح وأقوى إسناداً، إلا أنها يتطرق إليها من الاحتمالات ما يضعف الاستدلال بها

(5)

.

لذلك يكون العمل بالطريقتين جائزاً، وما قاله أصحاب القول الأول راجحاً.

والله أعلم.

(1)

انظر: الأوسط 3/ 166؛ السنن الكبرى 2/ 144.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 236، وفي سنده ابن أبي ليلى، قال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 77 - بعد ذكرهذه الرواية-:(وهذا منكر؛ لأن ابن أبي ليلى-واسمه محمد بن عبد الرحمن-سيء الحفظ، وقد خالف في مسنده الدراوردي وأيوب السختياني).

(3)

انظر: التحقيق 1/ 400؛ سبل السلام 1/ 361 - 362؛ نيل الأوطار 2/ 254.

(4)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 236؛ شرح معاني الآثار 1/ 256؛ زاد المعاد 1/ 229.

(5)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 255؛ مجموع الفتاوى 22/ 449؛ سبل السلام 1/ 361؛ نيل الأوطار 2/ 254.

ص: 894

‌المطلب الثامن: الإقعاء في الصلاة

ذهب الخطابي

(1)

، والماوردي

(2)

إلى أن الإقعاء

(3)

في الصلاة منسوخ، ومنهي عنه.

والقول بالنسخ في المسألة أحد أسباب الاختلاف عند القائلين به، لكن السبب الأصلي لاختلاف الفقهاء فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها، واختلافهم في المراد بالإقعاء

(4)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع

(1)

انظر قوله في: معالم السنن 1/ 402؛ المجموع 3/ 289، التلخيص الحبير 1/ 258؛ نيل الأوطار 2/ 277.

(2)

لم أجد قوله في كتابه الحاوي، ولعله في كتاب آخر له، وقد نسبه إليه ابن حجر في التلخيص 1/ 258، وتبعه الشوكاني في نيل الأوطار 2/ 277.

(3)

الإقعاء فُسر بتفسيرين، أو هما نوعان: أحدهما: أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب. هكذا فسره أبو عبيدة وغيره.

الثاني: أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين.

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 308؛ الاستذكار 1/ 525؛ النهاية في غريب الحديث 2/ 475؛ المغني 2/ 206؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 189؛ المصباح المنير ص 510؛ التلخيص الحبير 1/ 258؛ حاشية ابن عابدين 2/ 354 ..

(4)

انظر: بداية المجتهد 1/ 269، 270؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 189.

ص: 895

لم يُشخِصْ رأسه ولم يُصَوِّبْه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التَّحِيَّة، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة

(1)

الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُعِ، وكان يختم الصلاة بالتسليم)

(2)

.

ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي أحب لك ما أحب لنفسي،

وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين»

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا علي لا تقع إقعاء الكلب)

(4)

.

(1)

وفي رواية: عن عقب الشيطان. وهو الإقعاء، وقد مر تفسيره.

(2)

سبق تخريجه في مسألة الجهر بالتسمية، ص 551.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه ص 79، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الإقعاء بين السجدتين، ح (282)، وابن ماجة في سننه ص 165، كتاب الصلاة، باب الجلوس بين السجدتين، ح (894)، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 173. قال الترمذي:(هذا حديث لا نعرفه من حديث علي إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث، عن علي. وقد ضعف بعض أهل العلم الحارث الأعور). وقال البيهقي: (الحارث الأعور لا يحتج به). والحديث ضعفه النووي، والشيخ الألباني. انظر: المجموع 3/ 287؛ ضعيف سنن الترمذي ص 79.

(4)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 165، كتاب الصلاة، باب الجلوس بين السجدتين، ح (895) وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 165:(حسن). وفي سنده الحارث الأعور.

ص: 896

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث ونهاني عن ثلاث: أمرني بركعتي الضحى كل يوم، والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب)

(1)

.

رابعاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى)

(2)

.

خامساً: حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: (ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في

(1)

أخرجه أحمد في المسند 13/ 468، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 173. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 83:(رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط، وإسناد أحمد حسن). وفي سند رواية أحمد شريك القاضي، ويزيد بن أبي زياد، وفي رواية البيهقي ليث بن أبي سليم، وقد تكلموا فيهم. وقال النووي: ليس في النهي عن الإقعاء حديث صحيح. انظر: السنن الكبرى 2/ 173؛ المجموع 3/ 287.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 164، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، ح (827).

ص: 897

الأخرى مثل ذلك»

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على أن السنة في الجلوس هو أن تنصب رجلك اليمنى، وتفرش اليسرى

وتجلس عليها، كما أن فيها النهي عن الإقعاء، فيمكن أن يكون حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي يدل على سنية الإقعاء منسوخاً بهذه الأدلة، ولعل ابن عباس رضي الله عنه لم يبلغه النهي

(2)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وعلم التاريخ، وهنا لا يُعلم المتأخر من المتقدم، ثم الجمع بينها ممكن، وذلك بحمل الأحاديث الدالة على النهي على الإقعاء الذي هو أن يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، وحمل ما يدل على سنية الإقعاء على الإقعاء الذي هو أن يضع أليتيه على عقبيه وتكون ركبتاه في الأرض، فكلاهما إقعاء لكن أحدهما جائز والآخر مكروه

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

ولا خلاف بين أهل العلم في عدم جواز الإقعاء الذي فُسر بأن يجلس الرجل على أليتيه ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب

(4)

، واختلفوا في

(1)

سبق تخريجه في ص 544.

(2)

انظر: معالم السنن للخطابي 1/ 402؛ المجموع 3/ 289؛ التلخيص الحبير 1/ 258؛ نيل الأوطار 2/ 277.

(3)

انظر: الاستذكار 1/ 526؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 173؛ المجموع 3/ 289؛ التلخيص الحبير 1/ 258؛ إرواء الغليل 2/ 22.

(4)

انظر: الاستذكار 1/ 525؛ بداية المجتهد 1/ 269؛ المغني 2/ 206؛ حاشية ابن عابدين 2/ 354؛ أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي 2/ 214.

ص: 898

الإقعاء الذي هو أن ينصب القدمين ويجلس على العقبين على قولين:

القول الأول: يكره الإقعاء في الصلاة.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

، وقول أكثر أهل العلم

(5)

.

القول الثاني: أنه لا بأس بالإقعاء بين السجدتين، وأنه من السنة.

وهو رواية عن الإمام الشافعي

(6)

، وعن الإمام أحمد

(7)

، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير رضي الله عنهم، وسالم، ونافع، وطاوس، وعطاء، ومجاهد

(8)

.

(1)

انظر: الأصل 1/ 8؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 308؛ بدائع الصنائع 1/ 505؛ حاشية ابن عابدين 2/ 354.

(2)

انظر: التمهيد 3/ 216؛ الاستذكار 1/ 525؛ بداية المجتهد 1/ 269؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 261.

(3)

انظر: الأم 1/ 226؛ معالم السنن 1/ 401؛ المهذب مع شرحه المجموع 3/ 287؛ التنبيه ص 46؛ الوجيز وشرحه العزيز 1/ 525 مغني المحتاج 1/ 154.

(4)

انظر: المغني 2/ 206؛ الكافي 1/ 308؛ الفروع 1/ 275؛ الإقناع 1/ 195؛ منتهيى الإرادات 1/ 60.

(5)

انظر: سنن الترمذي ص 79؛ معالم السنن 1/ 401؛ المغني 2/ 206.

(6)

انظر: المجموع 3/ 289؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 189.

(7)

انظر: المغني 2/ 206؛ الكافي 1/ 308؛ الفروع 1/ 275.

(8)

انظر: التمهيد 3/ 217؛ المغني 2/ 206؛ المجموع 3/ 288؛ تحفة الأحوذي 2/ 173.

ص: 899

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو كراهة الإقعاء في الصلاة- بأدلة منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ حيث جاء في بعضها صفة الجلوس بأن ينصب رجله اليمنى ويجلس على رجله اليسرى، وجاء في بعضها النهي عن الإقعاء، فدل ذلك على كراهة الإقعاء

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن نصب القدمين والجلوس على العقبين جائز وسنة- بما يلي:

أولاً: عن طاوس يقول: قلنا لابن عباس رضي الله عنه في الإقعاء على القدمين فقال: «هي السنة» فقلنا له: إنا لنراه جفاء بالرجل، فقال ابن عباس: «بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول: «إنه من السنة»

(3)

.

ثالثاً: عن طاوس سمع ابن عباس يقول: «من السنة أن يمس عقبيك

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 308؛ التمهيد 3/ 217؛ المغني 2/ 206.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 189، كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين، ح (536)(32).

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 172، وصححه في ص 173. وصحح سنده ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 257.

ص: 900

إليتيك» قال طاوس: (ورأيت العبادلة الثلاثة يقعون، ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير-رضي الله عنهم)

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على أن الإقعاء على القدمين بين السجدتين سنة كالافتراش

(2)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، والأدلة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن ادعاء نسخ الإقعاء غير صحيح؛ لأن الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء وفي سنيته لا يعلم المتأخر منه عن المتقدم، ثم الجمع بينهما ممكن كما سبق ذلك، فلذلك يكون القول بالنسخ مرجوحاً وغير صحيح

(3)

.

ثانياً: أن الراجح هو القول بأن الإقعاء بين السجدتين سنة كالافتراش، وهو أن ينصب القدمين ويجلس على العقبين مع كون الركبتين على الأرض، وذلك لما يلي:

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 192، ونحوه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 172. وصحح سنده ابن حجر في التلخيص 1/ 257.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 172؛ المجموع 3/ 289؛ إرواء الغليل 2/ 22.

(3)

انظر: الاستذكار 1/ 526؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 173؛ المجموع 3/ 289؛ التلخيص الحبير 1/ 258؛ إرواء الغليل 2/ 22.

ص: 901

أ-لأن النهي جاء عن إقعاء كإقعاء الكلب، وإقعاء الكلب هو أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض. فهذا هو المنهي عنه، وهو غير النوع الذي قيل بسنيته، لذلك لا يكون هذا النهي مشتملاً للنوع الذي قيل بسنيته

(1)

.

ب- ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكنا لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 172؛ المجموع 3/ 289؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 410؛ إرواء الغليل 2/ 22.

(2)

انظر: الاعتبار ص 495؛ المجموع 3/ 289؛ التلخيص الحبير 1/ 258.

ص: 902

‌المبحث الرابع: سجودا السهو، والتلاوة

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: عمد الكلام وسهوه في الصلاة.

المطلب الثاني: سجود السهو بعد السلام.

المطلب الثالث: السجدة في سورة النجم، والانشقاق، والعلق.

ص: 903

‌المطلب الأول: عمد الكلام وسهوه في الصلاة

أجمع أهل العلم على أن من تكلم عامداً في صلاته، وهو لا يريد إصلاح صلاته، أن صلاته فاسدة

(1)

.

ولا خلاف بينهم في نسخ الكلام في الصلاة

(2)

.

لكنهم اختلفوا هل نُسخ عمد الكلام فقط أم نسخ عمده وسهوه؟

فذهب أكثر الحنفية

(3)

، وبعض الحنابلة

(4)

: إلى نسخ الكلام مطلقاً أي سواء كان عمداً أم سهواً، قالوا: فمن تكلم فيها عمداً أم سهواً فسدت صلاته، وعليه أن يستأنفها.

وممن صرح بالنسخ: محمد بن الحسن

(5)

، والطحاوي

(6)

، والقاضي

(1)

انظر: الأوسط 3/ 234؛ بدائع الصنائع 1/ 538؛ عقد الجواهر 1/ 160؛ المجموع 4/ 14؛ المغني 2/ 444.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 448؛ التمهيد 3/ 252؛ فتح الباري 3/ 90؛ مجموع الفتاوى 21/ 156؛ شرح الزركشي 1/ 368.

(3)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 301؛ بدائع الصنائع 1/ 538؛ اللباب للمنبجي 1/ 270؛ الجوهر النقي 2/ 511؛ البناية 2/ 485؛ الدر المختار 2/ 320؛ حاشية ابن عابدبن 2/ 321.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 147؛ شرح الزركشي 1/ 368.

(5)

انظر: الحجة على أهل المدينة 1/ 257.

(6)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 448؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 301.

ص: 904

أبو يعلى

(1)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على عدم بطلان الصلاة بسهو الكلام ناسخ لبطلان الصلاة به في حديث ابن مسعود رضي الله عنه دون عمده. فمن تكلم ساهياً في صلاته أو سلم ساهياً فإنه يبني على صلاته ويسجد للسهو، ولا يستأنفها.

وروي ذلك عن الإمام الشافعي

(2)

، ............................................

والحميدي

(3)

، وصرح به الحازمي، ونسبه إلى الإمام أحمد، وإسحاق وأكثر أهل الحجاز والشام

(4)

.

وكأنهم سلموا نسخ الكلام مطلقاً، ثم قالوا بنسخ النهي عن سهوه دون عمده.

ويتبين منه ومما يأتي من أدلة الأقوال: أن سبب اختلاف الفقهاء في المسألة أمران: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها

(5)

.

(1)

هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف، البغدادي، القاضي أبو يعلى، الحنبلي، عالم زمانه، سمع من أبي الحسين العسكري، وأبي الطيب بن المنار، وغيرهما، ومن مؤلفاته شرح المذهب، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر: طبقات الحنابلة 2/ 193؛ شذرات الذهب 3/ 306.

ونسب إليه القول بالنسخ شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 21/ 147.

(2)

انظر: الاعتبار ص 213.

(3)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 511؛ المجموع 4/ 17.

(4)

انظر: الاعتبار ص 211.

(5)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 448؛ الاعتبار ص 211؛ اللباب للمنبجي 1/ 270؛ مجموع الفتاوى 21/ 149.

ص: 905

الأدلة

ويستدل لمن قال بنسخ الكلام في الصلاة مطلقاً بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي

(1)

سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال:«إن في الصلاة شغلاً»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام، فأخذني ما قدُمَ وما حدُث، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:«إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله عز وجل قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة» فرد علي السلام

(3)

.

(1)

هو: أصحمة بن أبجر النجاشي، ملك الحبشة، النجاشي لقب له، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يهاجر إليه، وقد أحسن إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، وقد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي صلاة الغائب، وتوفي في رجب سنة تسع، وقيل: توفي قبل فتح مكة. انظر: الإصابة 1/ 122.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 235، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يُنهى من الكلام في الصلاة، ح (1199)، ومسلم في صحيحه 2/ 194، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (538)(34).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 146، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، ح (924)، والنسائي في سننه ص 199، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ح (1221)، والشافعي في الأم 1/ 235، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 336، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 452، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 353. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 146:(حسن صحيح).

ص: 906

ثانياً: عن زيد بن أرقم

(1)

رضي الله عنه قال: «كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام»

(3)

.

ثالثاً: عن معاوية بن الحكم السلمي

(4)

رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول

(1)

هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، وأول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو عثمان النهدي، وطاوس، وغيرهما، وتوفي سنة ست وستين، وقيل غير ذلك. انظر: الاستيعاب 1/ 556؛ الإصابة 1/ 640.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 235، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يُنهى من الكلام في الصلاة، ح (1200)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 2/ 195، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (539)(35).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه ص 110، كتاب الصلاة، باب في نسخ الكلام في الصلاة، ح (405). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 110.

(4)

هو: معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، سكن المدينة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه كثير، وعطاء بن أبي يسار، وغيرهما. انظر: الاستيعاب 3/ 403، تجريد أسماء الصحابة 2/ 82؛ الإصابة 3/ 1854.

ص: 907

الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمَّياه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»

(1)

.

رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له فانطلقت، ثم رجعت وقد قضيتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم يرد عليّ، فوقع في قلبي ما الله أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد عليًّ أَنّي أبطأت عليه، ثم سلمت عليه فلم يرد عليّ، فوقع في نفسي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه فرد عليّ فقال:«إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي» وكان على راحلته متوجهاً إلى غير القبلة

(2)

.

خامساً: حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وفيه: «أيها الناس، ما لكم

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 190، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (537)(33).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 238، كتاب العمل في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة، ح (1217)، ومسلم في صحيحه 2/ 195، كتاب، المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (539)(35).

ص: 908

حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟ إنما التصفيق للنساء. من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله، إلا التفت»

(1)

.

سادساً: عن عطاء بن أبي رباح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بأصحابه الظهر أو العصر ركعتين، ثم سلم، فقيل له: إنك صليت ركعتين، قال: أكذلك؟ قالوا: نعم، فأعاد بهم الصلاة)

(2)

.

ويستدل من هذه الأدلة على نسخ الكلام في الصلاة مطلقاً بالوجوه الآتية:

أولاً: إن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم رضي الله عنهما يدلان أن الكلام كان مباحاً في الصلاة، ثم جاء النهي عنه فنسخ به الإباحة السابقة، ثم هذا النهي ليس فيه تقييد الكلام بالعمد، فهو يشمل العمد والسهو، فيكون ذلك دالاً على نسخ مطلق الكلام أي سواء كان عمداً أم سهواً

(3)

.

ثانياً: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن الحكم السلمي: «إن هذه

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 243، كتاب السهو، باب الإشارة في الصلاة، ح (1234)، ومسلم في صحيحه 2/ 109، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، ح (421)(102).

(2)

أخرجه محمد بن الحسن في كتابه الحجة على أهل المدينة 1/ 257، من طريق عبد الله بن المبارك عن عثمان بن الأسود المكي، عن عطاء بن أبي رباح به، وهؤلاء كلهم ثقات ومن رجال الكتب الستة. وأخرج نحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 448.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 452.

ص: 909

الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» يفيد العموم، فيشمل عمد الكلام وسهوه، فيكون ذلك أيضاً دالاً على نسخ مطلق الكلام

(1)

.

ثالثاً: إن حديث جابر رضي الله عنه فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد على جابر رضي الله عنه السلام، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه منع من ذلك أنه كان يصلي، فدل ذلك على منع الكلام في الصلاة ونسخه، وإذا كان الصلاة يترك فيها رد السلام فغيره أحق أن يترك، وهو يشمل عمد الكلام وسهوه

(2)

.

رابعاً: إن حديث سهل بن سعد رضي الله عنه فيه الأمر بالتسبيح عند حدوث ملمة ومن نابه شيء في صلاته، وهو بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إذ لو كان قبله لأنكر عليهم ترك المأمور به من التسبيح، ولكان القوم لا يخالفونه إلى الكلام مع علمهم بحظر الكلام والأمر بالتسبيح، ففيه دليل على أن الأمر بالتسبيح ناسخ لإباحة الكلام في الصلاة ومتأخر عنه

(3)

.

خامساً: إن النهي عن الكلام في الصلاة ونسخه جاء في المدينة؛ لأن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(4)

. مدنية باتفاق، وهو الأصل في نسخ الكلام في الصلاة

(5)

، ثم هو بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على عدم بطلان الصلاة

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 447.

(2)

انظر: الحجة على أهل المدينة 1/ 255.

(3)

انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 542.

(4)

سورة البقرة، الآية (238).

(5)

انظر: التمهيد 3/ 250؛ الجوهر النقي 2/ 508؛ فتح الباري 3/ 90، 91.

ص: 910

بسهو الكلام، فيكون ناسخاً له، ويدل على تأخر نسخ الكلام على حديث أبي هريرة ما يلي:

أ-أن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ذو اليدين

(1)

كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقصرت الصلاة أم نسيت)، وأبو هريرة أسلم بعد قتل ذي اليدين قاله ابن عمر رضي الله عنه

(2)

، وقال الزهري وغيره

(3)

: استشهد ذو اليدين ببدر. فهذا يدل أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن حاضراً في تلك الصلاة، وإنما أسلم بعد ذلك ورواه عن بعض الصحابة، وأن حديث نسخ الكلام في الصلاة كان بعد قصة ذي اليدين؛ لأن ممن روى إباحة الكلام في الصلاة: زيد بن أرقم وأبو سعيد-رضي الله عنهما وهما إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم أبو سعيد رضي الله عنه في السن دون زيد بن أرقم، وهو يخبر أنه أدرك إباحة الكلام في الصلاة، فدل ذلك على تأخر نسخ الكلام في الصلاة على حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(4)

.

(1)

هو: الخرباق بن عمرو السلمي، ولقبه ذو اليدين، لطول كان في يده، قيل روي عنه محمد بن سيرين. وقيل: إن ذا اليدين هو: عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو الخزرجي، قال ابن إسحاق: كان يعمل بيديه جميعاً فقيل له ذو اليدين، وأنه استشهد ببدر، وجزم ابن حبان بأنه ذو اليدين، وجزم غيره بأنه ذو الشمالين، وقيل هما واحد، يسمى ذا اليدين، وذا الشمالين. انظر: الاستيعاب 1/ 450؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 157؛ الإصابة 1/ 481، 2/ 1378؛ الجوهر النقي 2/ 515.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 450؛ التمهيد 3/ 249.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 450؛ التمهيد 3/ 250؛ الإصابة 2/ 1378؛ الجوهر النقي 2/ 515.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 450، 451؛ الجوهر النقي 2/ 511.

ص: 911

واعترض على هذا: بأن ألفاظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه تدل على أنه كان حاضراً في تلك الصلاة بنفسه

(1)

، وأن المقتول ببدر ليس ذو اليدين بل هو ذو الشمالين

(2)

.

واعترض على هذا الاعتراض: بأنهما إن كانا واحداً فقد قتل هو ببدر، فتكون القصة المذكورة في الحديث قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه، لأنه أسلم بعد ذلك، وإن كانا اثنين فكذلك؛ لأن ذا الشمالين قتل ببدر، وهو المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه كذلك، حيث روي عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوماً، فسلم في ركعتين، ثم انصرف، فأدركه ذو الشمالين، فقال: يا رسول الله أنقصت الصلاة أم نسيت)

(3)

.

(1)

انظر: التمهيد 3/ 253؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 510.

(2)

هو: عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو، الخزاعي، حليف بني زهرة، يقال: اسمه عمير، ويقال: عمرو، ويقال: عبد عمرو، استشهد ببدر. واختلف في هل هو وذو اليدين واحد أم هما اثنين؟ فذهب بعض أهل العلم ومنهم: ابن إسحاق والطحاوي وابن حبان إلى إنهما واحد، وأنه قتل ببدر. وذهب بعض أهل العلم ومنهم: الإمام الشافعي، والبيهقي، وابن عبد البر، إلى أنهما اثنان، فذو اليدين هو الخرباق بن عمرو، السلمي، وذو الشمالين عمير بن عبد عمرو، الخزاعي، وأن المقتول ببدر هو ذو الشمالين، لا ذو اليدين. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 450؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 513؛ التمهيد 3/ 257؛ الجوهر النقي 2/ 515؛ الإصابة 1/ 553، 2/ 1378.

(3)

أخرجه النسائي في سننه ص 200، كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسياً وتكلم، ح (1228)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 445. قال ابن التركماني في الجوهر النفي 2/ 515:(صحيح على شرط مسلم) وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 200.

ص: 912

فيكون الحديث في سهو رسول الله وكلامه في الصلاة قبل بدر، سواء كان المقتول ببدر ذو اليدين أم ذو الشمالين.

فإن قيل: إن الحديث على هذا السياق من رواية الزهري، وهو قد وهم فيه فذكر ذا الشمالين مكان ذي اليدين، وقال: إنه قتل ببدر؟

(1)

.

فيقال: لم ينفرد به الزهري حتى يقال أنه وهم فيه فقد تابعه على ذلك غيره

(2)

.

ب-يدل على أن حديث نسخ الكلام في الصلاة بعد حديث ذي اليدين رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم ذي اليدين، ثم هو لما سها وصلى ركعتين وسلم وتكلم وأُخبر أنه صلى ركعتين، استأنف الصلاة، ولم يبن، فلو لم يكن نُسخ ذلك عنده لفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما استأنف الصلاة، فدل ذلك على ثبوت نسخ حديث ذي اليدين رضي الله عنه وتقدمه على أحاديث نسخ الكلام

(3)

.

دليل من قال بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه ناسخ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

انظر: التمهيد 3/ 259؛ الجوهر النقي 2/ 515.

(2)

فالرواية المذكورة في المتن من رواية عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو على شرط مسلم، وروي نحوه عن الزهري، عند النسائي، وكذلك تابعه عبد الله بن عياش عن ابن هرمز عن أبي هريرة، وابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 445؛ الجوهر النقي 2/ 515.

(3)

انظر: الحجة على أهل المدينة 1/ 257؛ شرح معاني الآثار 1/ 448.

ص: 913

وغيره في سهو الكلام دون عمده

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا- قال:(فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر»، فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر)

(1)

.

ثانياً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال:«أصدق هذا؟» قالوا: نعم. فصلى ركعة ثم سلم،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 102، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ح (482)،

ومسلم في صحيحه 2/ 226، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، ح (573)(97).

ص: 914

ثم سجد سجدتين ثم سلم)

(1)

.

ثالثاً: حديث معاوية بن الحكم السلمي، وقد سبق ذكره في دليل القول السابق.

ويستدل منها على النسخ: بأن النهي عن الكلام مطلقاً في الصلاة، ونسخه كان في مكة قبل الهجرة، أو في بداية الهجرة قبل غزوة بدر، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه ومعاوية بن الحكم متأخر عنه؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم سنة سبع بعد خيبر، وفي حديث معاوية بن الحكم أنه تكلم في الصلاة سهواً، وكان ذلك كذلك بعد نسخ الكلام في الصلاة، فثبت من ذلك أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعمران بن الحصين ومعاوية بن الحكم بعد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره في نسخ الكلام، فيكون ذلك ناسخاً لعمومه في سهو الكلام دون عمده

(2)

.

واعترض عليه: بان القول بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره في نسخ الكلام معارض بعكسه، وهو إن لم يكن أقوى فليس بأضعف منه، ثم هذا الاستدلال على النسخ مبني على تأخر إسلام الراوي، وقد ذكر أهل العلم أن التاريخ لا يعلم بتقدم أو تأخر إسلام الراوي، وأنه ليس دليلاً على النسخ

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 226، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، ح (574)(101).

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 511؛ الاعتبار ص 213.

(3)

انظر: نيل الأوطار 1/ 198؛ الشرح الممتع 1/ 234.

ص: 915

وقد اختلف أهل العلم في الكلام في الصلاة هل يفسدها مطلقاً أم لا، على ثلاثة أقوال مشهورة:

القول الأول: أن الكلام في الصلاة مفسد لها مطلقاً، فمن تكلم فيها عمداً أو سهوًا فعليه أن يستأنف الصلاة.

وهو قول الحنفية

(1)

، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه

(2)

، وروي ذلك عن إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن، وقتادة، وحماد بن أبي سلميان، وسفيان الثوري

(3)

.

القول الثاني: أن الصلاة لا يفسدها سهو الكلام، وكذلك عمده إن كان لإصلاح الصلاة.

وهو مذهب المالكية

(4)

، ورواية عند الحنابلة

(5)

.

القول الثالث: أن عمد الكلام يبطل الصلاة دون السهو، والنسيان.

(1)

انظر: الأصل 1/ 169؛ الحجة على أهل المدينة 1/ 255؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 301؛ بدائع الصنائع 1/ 538؛ اللباب للمنبجي 1/ 270؛ البناية 2/ 485؛ الدر المختار 2/ 320.

(2)

انظر: المغني 2/ 446، 447؛ الكافي 1/ 368؛ الشرح الكبير 4/ 34؛ شرح الزركشي 1/ 369.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 249؛ الاستذكار 1/ 545؛ المغني 2/ 446؛ المجموع 4/ 15.

(4)

انظر: المدونة 1/ 127؛ الإشراف 1/ 263؛ التمهيد 3/ 248؛ عقد الجواهر 1/ 161؛ الذخيرة 2/ 138، 142؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 2/ 310.

(5)

انظر: المقنع وشرحه الممتع 1/ 487؛ الشرح الكبير 4/ 30؛ شرح الزركشي 1/ 369.

ص: 916

وهو قول الشافعية

(1)

، ومذهب الحنابلة

(2)

. ورُوي نحو ذلك عن: ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس-رضي الله عنهم، وعروة، وإسحاق، وأبي ثور

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو بطلان الصلاة بسهو الكلام وعمده- بالأدلة التي أُستدل بها للقول بنسخ الكلام في الصلاة مطلقاً.

ووجه الاستدلال منها: أنها تدل على منع الكلام في الصلاة مطلقاً من غير فصل بين العمد والنسيان

(4)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأدلة وإن كانت مطلقة إلا أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث

ذي اليدين، وتقريره لمعاوية بن الحكم السلمي وعدم الأمر له بالإعادة يقيده بالعمد، دون السهو والنسيان

(5)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن الصلاة يبطلها عمد الكلام دون سهوه وما كان لإصلاح الصلاة- بأدلة منها ما

(1)

انظر: الأم 1/ 237؛ مختصر المزني ص 27؛ الحاوي 2/ 177؛ العزيز 2/ 45، 46؛ المجموع 4/ 15.

(2)

انظر: المغني 2/ 446؛ الشرح الكبير 4/ 24؛ 369؛ الممتع 1/ 489؛ الإنصاف 4/ 25.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 262؛ المجموع 4/ 15.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 446 - 451؛ التمهيد 3/ 252؛ المغني 2/ 446؛ شرح الزركشي 1/ 367.

(5)

انظر: الأم 1/ 237؛ التمهيد 3/ 262؛ المغني 2/ 446.

ص: 917

يلي:

أولاً: ما سبق ذكره من حديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، ومعاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنهم.

ثانياً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت كذا و كذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال:«إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم يسلم ثم يسجد سجدتين»

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على أن الكلام سهواً أو لمصلحة الصلاة لا يفسدها، لذلك بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته، ولم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة صلاته

(2)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأدلة تحتمل أن تكون بعضها قبل النهي عن

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 87، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ح (401)، ومسلم في صحيحه 2/ 220، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، ح (572)(89).

(2)

انظر: الإشراف 1/ 263؛ التمهيد 3/ 262.

ص: 918

الكلام في الصلاة، وبعضها عن جهل، وقد نُهي عن الكلام مطلقاً، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما به التذكير عند النسيان أو عندما ينوب شيء في الصلاة

(1)

؛ حيث قال: «من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله، إلا التفت»

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن الصلاة يفسدها عمد الكلام دون سهوه- بنفس أدلة القول الثاني.

ووجه الاستدلال منها: أن تلك الأدلة تدل على أن الكلام في الصلاة إذا كان سهواً لا يفسدها، وإلا لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته، ولأمر معاوية بن الحكم بإعادة صلاته لما تكلم جاهلاً، والجاهل في حكم الناسي، لذلك لم يأمره بإعادة صلاته

(3)

.

ويعترض عليه بما اعترض على وجه استدلال القول الثاني.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: أن الكلام في الصلاة نسخ بالمدينة وبعد الهجرة، ويدل عليه ما يلي:

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 446 - 451؛ المغني 2/ 446؛ شرح الزركشي 1/ 369.

(2)

سبق تخريجه في ص 602.

(3)

انظر: الأم 1/ 237؛ المغني 2/ 446.

ص: 919

أ-أن الآية التي هي الأصل في نسخ الكلام في الصلاة، وهي قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(1)

. نزلت بالمدنية وبعد الهجرة بالاتفاق، حتى قيل: إنها نزلت عام الخندق

(2)

.

ب-ولأن قول زيد بن أرقم رضي الله عنه: (كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه)

(3)

. يدل كذلك على أن نسخ الكلام في الصلاة والنهي عنه كان بعد الهجرة؛ لأن زيد بن أرقم إنما صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه بعد الهجرة، بل كان من صغار الأنصار؛ حيث استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق، وهو يحكي أنه أدرك إباحة الكلام في الصلاة فدل ذلك على أن الكلام إنما نسخ بعد الهجرة

(4)

.

ج- أن في بعض روايات حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يدل على أن النهي عن الكلام كان بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(5)

. وأن ذلك كان بعد الهجرة، ومن هذه الروايات:

1 -

عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأسلم عليه

(1)

سورة البقرة، الآية (238).

(2)

انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 203؛ مجموع الفتاوى 21/ 150؛ تفسير ابن كثير 1/ 279؛ فتح الباري 3/ 91؛ اللباب للمنبجي 1/ 272.

(3)

سبق تخريجه في ص 601.

(4)

انظر: اللباب للمنبجي 1/ 272؛ مجموع الفتاوى 21/ 149؛ الإصابة 1/ 640.

(5)

سورة البقرة، الآية (238).

ص: 920

فيرد علي، فأتيته فسلمت عليه وهو يصلي، فلم يرد عليّ، فلما سلم أشار إلى القوم فقال:«إن الله عز وجل-يعني- أحدث في الصلاة، أن لا تكلموا إلا بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين»

(1)

.

فهذا يدل على أن النهى عن الكلام في الصلاة كان بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وقد سبق أن هذه الآية مدنية بلا خلاف، ومتأخرة النزول.

2 -

عن حميد الحميري، عمن يرضى به أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعت مهاجرة الحبش نزع عن ذلك، فكان يسلم عليه في الصلاة فلا يرد، فقيل له: قد كنت يا نبي الله ترد وأنت بمكة في الصلاة، قال:«إن في الصلاة شغلاً»

(2)

.

فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد السلام بمكة، وبعد الهجرة نسخ ذلك فكان لا يرد.

ثانياً: إن الأدلة التي استدل بها من قال بالنسخ مطلقة وعامة تشمل جميع أنواع الكلام؛ حيث إنها ليس فيها ما يدل على الفرق بين العمد والسهو والنسيان

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 199، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ح (1220)، ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد 3/ 252، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 199.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 334، ثم قال:(قال ابن جريج: فأخبرني ابن أبي ليلى أن ابن مسعود هو الذي سلم عليه مرجعه من مهاجره الحبش).

(3)

انظر: نيل الأوطار 2/ 318، 321.

ص: 921

ثالثاً: إن حديث ذي اليدين يحتمل أن يكون قبل نسخ الكلام في الصلاة، فيكون منسوخاً بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة كما زعمت الحنفية

(1)

.

ويحتمل أن يكون بعده، فيكون مخصصاً لأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة، كما

زعمت الشافعية

(2)

.

رابعاً: أن حديث ذي اليدين قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح لمن من نابه شيء في صلاته، وقبل قوله:«إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني»

(3)

؛ لأنه لو كان قبلهما لذكَّروه، ولسبحوا له حتى يتذكر، وينتبه، وإذ لم يفعلوا ذلك دل أنه قبلهما

(4)

.

خامساً: إن حديث (من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله) أصل في التنبيه والتذكير لكل من نابه شيء في صلاته، سواء كان إماماً أو غيره، وبذلك يكون هو وحديث:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»

(5)

، متوافقان، ولذلك يظهر- والله أعلم- أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، سواء كان عمداً

(1)

انظر: الحجة على أهل المدينة 1/ 257؛ اللباب للمنبجي 1/ 270.

(2)

انظر: اختلاف الحديث 1/ 232؛ الحاوي 2/ 180.

(3)

سبق تخريجه في ص 608.

(4)

انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 542.

(5)

سبق تخريجه في ص 601.

ص: 922

أم غيره، وأن من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه إذا سبح التفت إليه، وتذكر.

ومع هذا كله لو نسي شخص وسلم قبل تمام صلاته، ثم تذكره من قريب، أو كان إماماً فأخبره أحد المأمومين بذلك فله أن يبني على صلاته، ويسجد للسهو؛ وذلك لظاهر حديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم، وعدم وجود ما يصرح على أن النهي عن الكلام في الصلاة كان بعد تلك الأحاديث.

والله أعلم.

ص: 923

‌المطلب الثاني: سجود السهو بعد السلام

ذهب بعض أهل العلم

(1)

، ومنهم الإمام الشافعي

(2)

إلى أن سجود السهو كله قبل السلام، سواء كان لزيادة أو نقصان، وأنه ناسخ لأحاديث سجود السهو بعد السلام، وأنه آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ويتبين منه ومما يأتي من أدلة الأقوال أن سبب الاختلاف في المسألة أمران: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها

(3)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله ابن بحينة

(4)

رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم»

(5)

.

(1)

انظر: الحاوي 2/ 215؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 477؛ الاعتبار ص 297؛ رسوخ الأحبار ص 292.

(2)

انظر: الأم 1/ 246؛ سنن الترمذي ص 106؛ الاعتبار ص 297؛ رسوخ الأحبار ص 292؛ سبل السلام 1/ 398.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 370؛ رسوخ الأحبار ص 292.

(4)

هو: عبد الله بن مالك بن قشب-جندب-بن نضلة، أبو محمد الأزدي، حليف بني المطلب، ويعرف بابن بحينة، وهي أمه، وقيل: إنها أم أبيه مالك، صحابي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه علي، وعاصم بن عمر، وغيرهما، وتوفي بعد الخمسين، انظر: تهذيب التهذيب 5/ 336؛ الإصابة 2/ 1117.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 165، كتاب الأذان، باب من لم ير التشهد الأول واجبًا، ح (829)، ومسلم في صحيحه 2/ 218، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، ح (570)(85).

ص: 924

ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً

(1)

للشيطان»

(2)

.

ثالثاً: عن عبد الرحمن بن عوف

(3)

رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنين فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم»

(4)

.

(1)

الترغيم الإذلال، والرغام: التراب. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 669؛ المصباح المنير ص 192.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 219، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، ح (571)(88).

(3)

هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث، القرشي الزهري، أبو محمد، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين. انظر: الإصابة 2/ 1182.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه ص 108، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، ح (398)، وابن ماجة في سننه ص 215، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فرجع إلى اليقين، ح (1209)، وأحمد في المسند 3/ 195، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 433، والحاكم في المستدرك 1/ 471، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 469. قال الترمذي:(حديث حسن غريب صحيح). وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 108، وصحيح سنن ابن ماجة ص 214. وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 5:(وهو معلول فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلاً).

ص: 925

رابعاً: عن يوسف

(1)

أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه صلى بهم، فقام وعليه جلوس فلم يجلس، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، وقال:«هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع»

(2)

.

(1)

هو: يوسف بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، ويقال: محمد بن يوسف بن ثابت الأنصاري، الخزرجي، روى عن أبيه، وعن جده، وروى عنه عمرو بن يحيى، ذكره ابن حبان في الثقات، ونقل المزي عن النسائي أنه ليس بالمشهور، وقال ابن حجر: مقبول. انظر: تحفة الأشراف 8/ 451؛ تهذيب التهذيب 11/ 369؛ التقريب 2/ 345.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 439، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 472، والحازمي في الاعتبار ص 297. وأخرجه النسائي في سننه-بلفظ:(ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد أن أتم الصلاة، ثم قعد على المنبر فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نسي شيئاً من صلاته فليسجد مثل هاتين السجدتين» - سنن النسائي ص 204، كتاب السهو، باب ما يفعل من نسي شيئاً من صلاته، ح (1260)، وكذلك أخرجه الإمام أحمد في مسنده-نحو لفظ النسائي- 28/ 119، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن النسائي ص 204. وذكر أبو داود عن معاوية رضي الله عنه ما يفيد أنه سجد بعد السلام. انظر سنن أبي داود ص 164، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس.

ص: 926

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على أن سجود السهو كله قبل السلام؛ حيث إن حديث عبد الله ابن بحينة، وحديث معاوية رضي الله عنهما يدلان على السجود قبل السلام في النقصان، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما-يدلان على السجود قبل السلام في الزيادة، ثم إن معاوية رضي الله عنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وهو يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام، فيدل ذلك على أن السجود قبل السلام هو آخر الأمرين، وأنه الناسخ لما يدل على السجود بعد السلام، ويؤكد ذلك ما روي عن الزهري أنه قال:(سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين بعد السلام)

(1)

، فثبت بذلك أن سجود السهو كله قبل السلام، سواء كان للزيادة أم للنقصان، وأنه آخر الأمرين

(2)

.

واعترض عليه: بأن حديث معاوية رضي الله عنه لا يصح الاستدلال منه على النسخ؛ لأن في سنده كلام، ثم روى عنه السجود بعد السلام

(3)

، وعلى تقدير صحته وسجوده قبل السلام فإن قوله:(هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع)

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 480، والحازمي في الاعتبار ص 300. قال البيهقي:(إلا أن قول الزهري منقطع لم يسنده إلى أحد من الصحابة، ومطرف بن مازن غير قوي).

(2)

انظر: الأم 1/ 246؛ الحاوي 2/ 215؛ السنن الكبرى 2/ 477؛ الاعتبار ص 299، 300؛ سبل السلام 1/ 398.

(3)

راجع تخريج الحديث، وانظر: الجوهر النقي 2/ 473.

ص: 927

يحتمل أن يكون المراد به أن من ترك الجلوس الأول في الصلاة وقام فإنه يستمر في القيام ولا يعود إلى الجلوس، ويسجد سجدتين للسهو، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة بن شعبة

(1)

، فيكون حديث معاوية رضي الله عنه في معنى ذلك، ولا يكون المراد به خصوص السجدتين قبل السلام

(2)

.

ثم هذا الاستدلال على النسخ مبني على تأخر إسلام الراوي، وقد ذكر أهل العلم أن التاريخ لا يعلم بتقدم أو تأخر إسلام الراوي، وأنه ليس دليلاً على النسخ

(3)

.

أما حديث الزهري ففيه دلالة على النسخ، لكن فيه ضعف وانقطاع، فلا يقع معارضاً للأحاديث الصحيحة الثابتة ولا ينسخها

(4)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز سجود السهو قبل السلام وبعده

(5)

، ولكنهم اختلفوا في الأفضل منهما على خمسة أقوال مشهورة:

القول الأول: أن سجود السهو محله بعد السلام، سواء كان للزيادة

(1)

سيأتي تخريجه في ص 617.

(2)

يدل على هذا رواية هذا الحديث من طريق النسائي، فإن فيه أن معاوية رضي الله عنه قام وكان عليه أن يجلس فسبح الناس به فلم يجلس بل ثبت قائماً، ولما أتم الصلاة سجد سجدتين للسهو.

(3)

انظر: نيل الأوطار 1/ 198؛ الشرح الممتع 1/ 234.

(4)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 481؛ الاعتبار ص 300؛ سبل السلام 1/ 398.

(5)

انظر: الاستذكار 1/ 560؛ الحاوي 2/ 214؛ نيل الأوطار 3/ 112.

ص: 928

أو للنقصان.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، وروي نحو ذلك عن علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عباس، وابن الزبير، رضي الله عنهم والحسن، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح

(2)

.

القول الثاني: أن السجود إن كان لنقصان كان قبل السلام، وإن كان لزيادة كان بعد السلام.

وهو مذهب المالكية

(3)

، وقول للإمام الشافعي

(4)

، وقول للإمام أحمد

(5)

، وقول أبي ثور

(6)

.

القول الثالث: أن محل سجود السهو كله قبل السلام، سواء كان لزيادة أو نقصان.

وهو مذهب الشافعية

(7)

، ورواية عن الإمام أحمد

(8)

، وروي نحو ذلك

(1)

انظر: الأصل 1/ 225؛ شرح معاني الآثار 1/ 443؛ البدائع 1/ 415؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 498.

(2)

انظر: الاعتبار ص 297؛ البناية 2/ 723؛ نيل الأوطار 3/ 110.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 279؛ الاستذكار 1/ 558؛ بداية المجتهد 1/ 369؛ جامع الأمهات ص 101؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 2/ 285 - 291.

(4)

انظر: الحاوي 2/ 214؛ العزيز 2/ 98؛ المجموع 4/ 51.

(5)

انظر: المغني 2/ 416؛ الشرح الكبير 4/ 81.

(6)

انظر: التمهيد 3/ 280؛ الاعتبار ص 301.

(7)

انظر: الأم 1/ 246؛ مختصر المزني ص 29؛ الحاوي 2/ 214؛ العزيز 2/ 97، 98؛ المجموع 4/ 51.

(8)

انظر: المغني 2/ 416؛ الشرح الكبير 4/ 81.

ص: 929

عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ومعاوية رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب، ومكحول، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، والأوزاعي، والليث بن سعد

(1)

.

القول الرابع: أن السجود كله قبل السلام، إلا في السلام قبل إتمام الصلاة، وفيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه، فيسجد بعد السلام.

وهو مذهب الحنابلة

(2)

.

القول الخامس: أن سجود السهو كله بعد السلام، إلا في موضعين فإن الساهي مخير فيهما بين أن يسجدهما قبل السلام أو بعده، أحدهما: من سها فقام من ركعتين، ولم يجلس. وثانيهما: إذا لم يدر المصلي أصلى ركعة أو ركعتين، أو صلى ثلاثاً أو أربعاً.

وهو قول الظاهرية، ومنهم ابن حزم

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن سجود السهو كله بعد السلام- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين وفيه: فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم ثم كبر وسجد

(1)

انظر: الحاوي 2/ 214؛ الاعتبار ص 300؛ المجموع 4/ 52؛ نيل الأوطار 3/ 111.

(2)

انظر: المغني 2/ 415؛ الشرح الكبير 4/ 81؛ الممتع 1/ 503؛ شرح الزركشي 1/ 357 - 360؛ الإنصاف 4/ 81.

(3)

انظر: المحلى 3/ 84؛ نيل الأوطار 3/ 112.

ص: 930

مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر)

(1)

.

ثانياً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال:«إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم يسلم ثم يسجد سجدتين»

(2)

.

ثالثاً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم)

(3)

.

رابعاً: عن زياد بن علاقة

(4)

قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فنهض في

(1)

سبق تخريجه في ص 605.

(2)

سبق تخريجه في ص 608.

(3)

سبق تخريجه في ص 606.

(4)

هو: زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي، أبو مالك الكوفي، ثقة، روى عن جرير بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، وغيرهما، وروى عنه الأعمش، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 332؛ التقريب 1/ 322.

ص: 931

الركعتين، قلنا: سبحان الله، قال: سبحان الله، ومضى فلما أتم صلاته وسلم، سجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت»

(1)

.

خامساً: عن عبد الله بن جعفر

(2)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شك في صلاته

فليسجد سجدتين بعد ما يسلم»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 163، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس، ح (1037)، و الترمذي في سننه ص 100، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسياً، ح (365)، و أحمد في المسند 30/ 100، والدارمي في سننه 1/ 422، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 439، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 477. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وكذلك صححه ابن حزم في المحلى 3/ 87. وقال الشيح الألباني في الإرواء 2/ 109: (وهذا إسناد رجاله ثقات) ثم ذكر عدة طرق لتخريجه والكلام عليها ثم قال في 2/ 111: (وجملة القول: إن الحديث بهذه الطرق والمتابعات صحيح، لا سيماً وبعض طرقه على انفراده صحيح عند الطحاوي).

(2)

هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، الهاشمي، أبو محمد، ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الشعبي، وعروة، وغيرهما، وتوفي سنة ثمانين، وقيل غير ذلك. انظر:

تجريد أسماء الصحابة 1/ 302؛ الإصابة 1/ 1022.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 163، كتاب الصلاة، باب من قال: بعد التسليم، ح (1033)، والنسائي في سننه ص 203، كتاب السهو، باب التحري، ح (1251)، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 476، وقال:(هذا الإسناد لا بأس به إلا أن حديث أبي سعيد الخدري أصح إسناداً منه). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 2/ 476: (اضطرب سنده). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 163. وصححه في صحيح سنن النسائي- بالرقم المذكور-ص 203.

ص: 932

سادساً: عن ثوبان

(1)

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم»

(2)

.

ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأدلة تدل على أن سجود السهو بعد السلام، وكان السجود في بعضها لزيادة كحديث أبي هريرة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كما كان السجود في بعضها الآخر للنقصان كحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحديث ثوبان رضي الله عنه يدل على أن لكل سهو

(1)

هو: ثوبان بن بُجدد، ويقال: ابن جحدر، أبو عبد الله، الهاشمي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: إن أصله من اليمن، أصابه سباء، فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو أسماء الرحبي، وراشد بن سعد، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وخمسين. انظر: الإصابة 1/ 231؛ تهذيب التهذيب 2/ 29.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 164، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس، ح (1038)، وابن ماجة في سننه ص 216، كتاب الصلاة، باب ما جاء من فيمن سجدهما بعد السلام، ح (1219)، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 467، وقال:(وهذا إسناد فيه ضعف). وقال النووي في المجموع 4/ 52: (وهذا حديث ضعيف ظاهر الضعف). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 164: (حسن) وقال في الإرواء 2/ 48 - بعد الكلام عليه-: (وبالجملة فهذا الحديث ضعيف من أجل زهير هذا، ولكن له شواهد يتقوى بها).

ص: 933

سجدتان بعد ما يسلم، سواء كان لزيادة أو نقصان، فثب بذلك أن سجود السهو كله بعد السلام

(1)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث تدل على أن سجود السهو بعد السلام، لكن هناك أحاديث صحيحة كذلك تدل على أن سجود السهو قبل السلام، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول بالنسخ، وليس القول ببعضها أولى من القول بالبعض الآخر.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن السجود إن كان لنقصان كان قبل السلام، وإن كان لزيادة كان بعد السلام- بأدلة منها: حديث عبد الله ابن بحينة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول بالنسخ، وبعضها في دليل القول الأول.

ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث عبد الله ابن بحينة، ومعاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما كان فيهما السجود لنقص فكان قبل السلام، وحديث أبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين رضي الله عنهم كان فيها السجود لزيادة فكان بعد السلام، فثبت منه أن السجود إذا كان لزيادة فيكون بعد السلام، وإذا كان لنقصان فيكون قبل السلام، وبذلك

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 440؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 498.

ص: 934

يجمع بين هذه الأخبار كلها

(1)

.

واعترض عليه: بأنه قد جاء عكس هذا القول في بعض الأحاديث؛ حيث إن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيه السجود قبل السلام، والسجود فيه للزيادة، وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فيه السجود بعد السلام، والسجود فيه للنقصان

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن سجود السهو كله قبل السلام- بالأحاديث السابقة في دليل القول بالنسخ.

ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأحاديث ذكر فيها السجود قبل السلام، وهي بعضها كان فيها السجود لنقصان كحديث عبد الله ابن بحينة، ومعاوية رضي الله عنهما، وبعضها كان فيها السجود لزيادة كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف

رضي الله عنهما، فثب بذلك أن سجود السهو كله قبل السلام

(3)

.

واعترض عليه: بأن تلك الأحاديث تدل على أن سجود السهو قبل السلام، لكن هناك

أحاديث صحيحة كذلك تدل على أن سجود السهو بعد

(1)

انظر: التمهيد 3/ 279؛ الاستذكار 1/ 558؛ بداية المجتهد 1/ 371.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 440؛ الاعتبار ص 299.

(3)

انظر: الأم 1/ 246؛ الحاوي 2/ 215؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 477؛ الاعتبار ص 299.

ص: 935

السلام، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول الأول، وليس القول ببعضها أولى من القول بالبعض الآخر.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو أن محل سجود السهو كله قبل السلام، إلا في السلام قبل إتمام الصلاة، وفيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه، فيسجد بعد السلام- بأدلة منها: حديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن بحينة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها.

ووجه الاستدلال منها: أن حديث أبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما فيهما السجود بعد السلام؛ لأن فيهما السلام قبل إتمام الصلاة، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيه السجود كذلك بعد السلام؛ لأنه في البناء على غالب الظن، أما غير هذين الموضعين فيكون السجود فيه قبل السلام؛ لدلالة بقية الأحاديث

(1)

.

واعترض عليه: بأنه وجد سجود السهو بعد السلام في غير الموضعين السابقين؛ حيث إن حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يدل على سجود السهو بعد

(1)

انظر: المغني 2/ 416؛ الشرح الكبير 4/ 82؛ الممتع 1/ 504؛ مجموع الفتاوى 23/ 24.

ص: 936

السلام لترك الجلوس والتشهد الأول، و هو غير الموضعين السابقين

(1)

.

دليل القول الخامس

ويستدل للقول الخامس- وهو أن سجود السهو كله بعد السلام، إلا في موضعين فإن الساهي مخير فيهما بين أن يسجدهما قبل السلام أو بعده، أحدهما: من سها فقام من ركعتين، ولم يجلس. وثانيهما: إذا لم يدر المصلي أصلى ركعة أو ركعتين، أو صلى ثلاثاً أو أربعاً- بالأحاديث السابقة في دليل القول بالنسخ، ودليل القول الأول.

ووجه الاستدلال منها: أن حديثا عبد الله ابن بحينة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما-فيهما القيام من الركعتين وترك الجلوس والتشهد، ثم في حديث عبد الله ابن بحينة رضي الله عنه السجود قبل السلام، وفي حديث المغيرة رضي الله عنه السجود بعد السلام، لذلك يكون الساهي مخيراً بين أن

يسجدهما قبل السلام أو بعده.

كما أن حديث عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما فيما إذا شك الشخص في صلاته كم صلى؟ ثم في حديث عبد الله رضي الله عنه السجود بعد السلام، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه السجود قبل السلام، لذلك يكون الساهي كذلك مخيراً بين ذلك.

ويكون السجود في غير هذين الموضعين بعد السلام؛ لبقية

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 440.

ص: 937

الأحاديث؛ حيث فيها السجود بعد السلام

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على السجود بعد السلام ضعيف؛ يدل على ضعفه ما سبق في الاعتراض عليه في وجه الاستدلال على النسخ.

ولأن ذلك مبني على أن سجود السهو بعد السلام مذكور في حديث ذي اليدين وهو قتل ببدر، و مذكور في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو متقدم الإسلام، وأن السجود قبل السلام من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو من أحداث الأنصار وأصاغرهم، ومن رواية معاوية رضي الله عنه وهو إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكل هذا ضعيف؛ لأن الأصح أن ذا اليدين لم يقتل ببدر، وإنما روى قصته أبو هريرة رضي الله عنه وهو أسلم عام خيبر، سنة سبع، كما أن السجود في حديث معاوية رضي الله عنه في غير الصورة المذكورة في حديث ذي اليدين وابن مسعود-رضي الله عنهما-فلا منافاة بينهما، ولا يصح أن يكون السجود في صورة قبل السلام نسخاً للسجود بعده في صورة أخرى، كما أن النسخ إنما يكون بما يناقض المنسوخ، والنبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام، ولم ينقل عنه أحد أنه نهى عن ذلك، فكل

(1)

انظر: المحلى 3/ 86 - 89.

ص: 938

هذا مما يضعف القول بالنسخ ويدل على عدم صحته

(1)

.

ثانياً: أنه يجوز سجود السهو قبل السلام وبعده؛ لوجود أحاديث صحيحة دالة على ذلك

(2)

.

ثالثاً: أن الأولى أن يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سجد هو، وفي غيرها إن كان لزيادة فبعد السلام، وإن كان لنقص فقبل السلام، وهذا فيه جمع بين الأقوال والأدلة.

والله أعلم.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 23/ 21.

(2)

انظر: الاعتبار ص 300.

ص: 939

‌المطلب الثالث السجدة في سورة النجم، والانشقاق، والعلق

ذهب بعض أهل العلم

(1)

إلى نسخ السجدة في سورة النجم، والانشقاق، والعلق. وذهب بعضهم إلى نسخ السجود في سورة النجم وحدها

(2)

.

وقد ظهر منه أن القول به أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها، وكذلك عمل أهل المدينة-عند من يحتج به-سبب آخر لاختلافهم فيها

(3)

.

ويستدل لمن قال بنسخ السجود في هذه السور بما يلي:

أولاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة فسجد فيها،

(1)

نسب النووي القول بنسخ السجود في هذه السور إلى الإمام مالك. وقال ابن شاهين- بعد ذكر حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس-: (وهذا الحديث يوجب نسخ الأول؛ لأن حديث ابن مسعود كان بمكة،

فإن صح حديث مطر فسجدة النجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ منسوخ الحكم). انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 316؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 231.

(2)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 23/ 159: (وقد قيل: إن السجود في (النجم) وحدها منسوخ، بخلاف (اقرأ) و (الانشقاق)، إلى أن قال:(بل حديث زيد صريح في أنه لم يسجد فيها، قال هؤلاء: فيكون النسخ فيها خاصة، لا في غيرها) ثم قال: (فهذا القول أقرب من غيره، والله أعلم).

(3)

انظر: الموطأ 1/ 182؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 313 - 316؛ بداية المجتهد 1/ 427.

ص: 940

وسجد من معه غير شيخ

(1)

أخذ كَفّاً من حصىً أو تراب ورفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. فرأيته بعد ذلك قتل كافراً)

(2)

.

ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس)

(3)

.

ثالثاً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (والنجم) فلم يسجد فيها»

(4)

.

رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل

(5)

، منذ تحول إلى المدينة)

(6)

.

(1)

هو أمية بن خلف، كما جاء مصرحاً في رواية البخاري في كتاب التفسير، ح (4863). وانظر المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 230.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 212، كتاب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، ح (1067)، ومسلم في صحيحه 2/ 230، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، ح (576)(105).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 212، كتاب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين، ح (1071).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 213، كتاب سجود القرآن، باب من قرأ السجدة ولم يسجد، ح (1073)، ومسلم في صحيحه 2/ 230، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، ح (577)(106).

(5)

المفصل: السور التي تلي المثاني من قصار السور، وبدايتها من سورة (ق) إلى آخر القرآن، فالطوال المفصل منه إلى "البروج" والأوساط منه إلى "لم يكن"، والقصار منه إلى ختم القرآن. انظر: التعريفات الفقهية ص 213.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه ص 218، كتاب الصلاة، باب من لم ير السجود في المفصل، ح (1403)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 316، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 443. وذكره ابن حزم في المحلى 3/ 329، ثم قال: (وهذا باطل بحت)، ثم قال: (وعلة هذا الخبر هو أن مطراً سيئ الحفظ). وقال ابن عبد البر في التمهيد 6/ 70: (وهذا عندي حديث منكر)، وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 1/ 117:(وفي إسناده أبو قدامة، واسمه الحارث بن عبيد، إيادي بصري، لا يحتج بحديثه). وقال النووي في المنهاج 2/ 231: (ضعيف الإسناد لا يصح الاحتجاج به). وقال ابن حجر في الفتح 2/ 686: (فقد ضعفه أهل العلم بالحديث لضعف في بعض رواته، واختلاف في إسناده). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي دود ص 218.

ص: 941

خامساً: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشر سجدة، ليس فيها من المفصل شيء: الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج، وسجدة الفرقان، وسليمان سورة النمل، والسجدة، وفي ص، وسجدة الحواميم)

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنه

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 189، كتاب الصلاة، باب عدد سجود القرآن، ح (1056). وأخرجه الترمذي بلفظ:(سجدت مع رسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم) سنن الترمذي ص 146، أبواب الصلاة، باب ما جاء في سجود القرآن، ح (568)، وح (569) ثم قال بعد ذكر الرواية الثانية:(وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع عن عبد الله بن وهب). وأخرج نحوه ابن ماجة قبل حديثه السابق، ح (1055). وقال أبو داود في سننه ص 218:(روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، وإسناده واه). وضعف هذه الروايات كلها الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 146، وضعيف سنن ابن ماجة ص 189.

ص: 942

الأول كانا بمكة، وحديث ابن عباس الثاني، وزيد بن ثابت وأبي الدرداء رضي الله عنهم كانت بعد الهجرة،

وهي تدل على ترك السجود في سورة النجم، والانشقاق والعلق، فتكون هذه الأحاديث ناسخة للسجود في المفصل، ومنها السجدة في النجم

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح الاحتجاج بحديث ابن عباس الثاني، وكذلك حديث أبي الدرداء-رضي الله عنهما؛ لأنهما ضعيفان لا يقوم بمثلهما الحجة، ثم قد ثبت السجود في المفصل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة؛ حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد في المفصل، وأبو هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة، فكيف يقال بنسخ السجود في المفصل، على أن الأحاديث الدالة على السجود فيها يثبت السجود فيها، والمثبت مقدم على النافي

(2)

.

أما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه فهو صحيح، وترك السجود فيه يحتمل أنه كان لبيان جواز ترك السجود، أو أن زيداً رضي الله عنه كان هو القارئ، وهو لم يسجد فلم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، لا لأن السجود فيها نسخ؛ لما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها بعد الهجرة

(3)

.

(1)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 613؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 231؛ مجموع الفتاوى 23/ 159.

(2)

راجع تخريج الحديثين، وانظر: شرح معاني الآثار 1/ 357؛ التمهيد 6/ 70؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 231؛ فتح الباري 2/ 686.

(3)

انظر: الأم 1/ 253؛ شرح معاني الآثار 1/ 357؛ شرح صحيح مسلم 2/ 231؛ مجموع الفتاوى 23/ 158.

ص: 943

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في السجدة في المفصل على قولين مشهورين:

القول الأول: أنه يسجد في سور المفصل: النجم، والانشقاق، والعلق.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

.

وروي ذلك عن: أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعمار، وأبي هريرة، وابن عمر-رضي الله عنهم. وبه قال عمر بن عبد العزيز، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور

(4)

.

القول الثاني: أنه لا سجود في المفصل.

وهو المشهور عن الإمام مالك، ومذهب المالكية

(5)

، والقول القديم للإمام الشافعي

(6)

.

(1)

انظر: الأصل 1/ 313؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 238؛ بدائع الصنائع 1/ 451؛ الاختيار 1/ 75.

(2)

انظر: الأم 1/ 252؛ مختصر المزني ص 28؛ الحاوي 2/ 201؛ العزيز 2/ 103؛ المجموع 3/ 382.

(3)

انظر: المغني 2/ 352؛ المحرر 1/ 79؛ الشرح الكبير 4/ 220؛ الممتع 1/ 529؛ الإنصاف 4/ 220.

(4)

انظر: التمهيد 6/ 71؛ الاستذكار 2/ 489؛ المجموع 3/ 384.

(5)

انظر: الموطأ 1/ 182؛ التمهيد 6/ 69؛ الاستذكار 2/ 489؛ بداية المجتهد 1/ 425؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 2/ 361.

(6)

انظر: الحاوي 2/ 203؛ المجموع 3/ 382.

ص: 944

وروي ذلك عن: ابن عباس، وابن عمر، وأبي بن كعب-رضي الله عنهم. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، وعطاء

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه يسجد في المفصل- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: حديث ابن مسعود وابن عباس-رضي الله عنهما وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنهما يدلان على السجود في النجم.

ثانياً: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قرأ لهم: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}»

(3)

.

(1)

انظر: التمهيد 6/ 69؛ الاستذكار 2/ 489.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 213، كتاب سجود القرآن، باب سجدة إذا السماء انشقت، ح (1074)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 2/ 231، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، ح (578)(107).

(3)

أخرجه ومسلم في صحيحه 2/ 232، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، ح (578)(109).

ص: 945

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}»

(1)

.

وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: والنجم،

و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} »

(2)

.

رابعاً: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه سجد في خاتمة (النجم)، قال أبو سلمة: يا أبا هريرة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها؟ قال: «لو لا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها لما سجدت فيها»

(3)

.

خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «والنجم» فسجد وسجد معه من حضره من الجن والإنس والشجر»

(4)

.

(1)

أخرجه ومسلم في صحيحه 2/ 232، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، ح (578)(108).

(2)

أخرجه ابن حزم في المحلى 3/ 327.

(3)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 353. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 686: (وروى ابن مردويه في التفسير بإسناد حسن عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة سجد في خاتمة النجم فسأله فقال: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها).

(4)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 353، ونحوه الدارقطني في سننه 1/ 409. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 686:(وروى البزار والدارقطني من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم جد في سورة النجم وسجدنا معه» الحديث رجاله ثقات).

ص: 946

سادساً: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان»

(1)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث أنها تدل على ثبوت السجود في المفصل وأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها حتى بعد الهجرة

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أنه لا سجود في المفصل- بحديث زيد بن ثابت، وابن عباس، وأبي الدراء رضي الله عنهم وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد فيها بعد الهجرة

(3)

.

واعترض عليه: بان تلك الأحاديث ضعيفة لا يصلح للاحتجاج بها، غير

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 218، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، ح (1401)، وابن ماجة في سننه ص 189، كتاب الصلاة، باب عدد سجود القرآن، ح (1057)، والدارقطني في سننه 1/ 408، والحاكم في المستدرك 1/ 345، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 445. قال النووي في المجموع 3/ 382:(رواه أبو داود، والحاكم بإسناد حسن). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 9: (وحسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان، وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول، والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي، وهو لا يعرف أيضاً). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 218، وحسنه المباركفوري في التحفة الأحوذي 3/ 188.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 353، 357؛ التمهيد 6/ 72؛ المجموع 3/ 384؛ المغني 2/ 353.

(3)

انظر: التمهيد 6/ 70؛ الاستذكار 2/ 490، 491.

ص: 947

حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وترك السجود فيه لا يدل على الترك بالكلية، بل يحتمل أن ذلك كان لبيان جواز ترك السجود، أو أن زيداً رضي الله عنه لم يسجد وكان هو القارئ، لذلك لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الأحاديث الدالة على السجود في المفصل مثبتة، والمثبت مقدم على النافي

(1)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ السجود في المفصل غير صحيح؛ لأن مبناه على أن السجود في المفصل كان بمكة، وأنه ترك ذلك بعد الهجرة، لكن هذا الأصل ضعيف وغير صحيح؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيها بعد الهجرة، كما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، فثبت بذلك أن القول بالنسخ غير صحيح.

ثانياً: أن الراجح هو القول الأول، وذلك:

أ- لصحة الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، والانشقاق، والعلق.

ب- ولأن أدلة القول الثاني بعضها ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، وبعضها صحيح لكن يرجح عليه الأحاديث المثبتة؛ لأنه إذا تعارض المثبت

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 357؛ التمهيد 6/ 70؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 231؛ فتح الباري 2/ 686.

ص: 948

والنافي، فإنه يقدم المثبت على النافي.

كما أن الترك فيها يحتمل أموراً عدة كما سبق ذكرها، لذلك يرجح الأحاديث الدالة على السجود في المفصلوالله أعلم.

ص: 949

‌المبحث الخامس صلاة التطوع، وما يكره في الصلاة أو يفسدها

وفيه ثمانية مطالب:

المطلب الأول: حكم قيام الليل.

المطلب الثاني: الوتر على الراحلة.

المطلب الثالث: النفخ في الصلاة.

المطلب الرابع: الالتفات في الصلاة.

المطلب الخامس: حمل الصبي في الصلاة.

المطلب السادس: قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة.

المطلب السابع: قتال المار بين يدي المصلي.

المطلب الثامن: الحكم إذا صلى وأمامه تصاوير.

ص: 950

‌المطلب الأول: حكم قيام الليل

ذهب جمهور أهل العلم- ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة- إلى أن قيام الليل كان واجباً في أول الإسلام، ثم صار تطوعاً، ونُسخ الوجوب

(1)

.

ونحوه قول عائشة

(2)

، وابن عباس-رضي الله عنهما، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والإمام البخاري، وأبو داود السجستاني

(3)

، ونقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر

(4)

، والنووي

(5)

.

وذهب بعض أهل العلم، ومنهم الحسن البصري إلى أن المنسوخ من قيام الليل هو تقديره بمقدار معين من نصف الليل وثلثه، ونحو ذلك، إلا أن وجوب قيام الليل بالقليل باق

(6)

.

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 627؛ التمهيد 4/ 147؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 51؛ المجموع 3/ 6؛ المغني 2/ 555؛ الشرح الكبير للمقدسي 4/ 182؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 536؛ تفسير ابن كثير 4/ 439؛ فتح الباري 3/ 26؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 399؛ أضواء البيان 10/ 203.

(2)

حيث قالت: (فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة) وسيأتي تخريج هذا الحديث. وانظر: المجموع 3/ 6.

(3)

انظر: صحيح الإمام البخاري ص 224؛ سنن أبي داود ص 203؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 439.

(4)

انظر: التمهيد 4/ 147.

(5)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 140، 2/ 369.

(6)

انظر: التمهيد 4/ 147؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/ 51، 53؛ تفسير ابن كثير 4/ 439.

ص: 951

ويستدل لمن قال بنسخ وجوب قيام الليل مطلقاً بأدلة منها ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}

(1)

.

ثانياً: حديث سعد بن هشام

(2)

عن عائشة-رضي الله عنها، وفيه: فقلت: أنبئيني عن قيام

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:(ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً كاملاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة)

(3)

.

(1)

سورة المزمل، الآية (20).

(2)

هو: سعد بن هشام بن عامر، الأنصاري المدني، ابن عم أنس رضي الله عنه، ثقة، روى عن عائشة، وابن عباس، وغيرهما، وروى عنه: زرارة بن أبي أوفى، والحسن البصري، وغيرهما، وقتل بأرض مكران غازياً. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 421؛ التقريب 1/ 346.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 369، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل والوتر، ح (746)(139).

ص: 952

ثالثاً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر

(1)

الرأس نسمع دَوِيَّ

(2)

صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»

(3)

.

رابعاً: حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما عن حفصة-رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»

(4)

.

خامساً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام

(1)

ثائر الرأس أي منتشر شعر الرأس قائمة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 225؛ لسان العرب 2/ 148.

(2)

هو صوت ليس بالعالي كصوت النحل ونحوه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 590؛ مجمع بحار الأنوار 2/ 217.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 14، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، ح (46)، ومسلم في صحيحه 1/ 139، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، ح (11)(8).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 221، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل، ح (1122)، ومسلم في صحيحه 6/ 33، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل ابن عمر، ح (2479)(140).

ص: 953

الليل»

(1)

.

ويستدل منها على نسخ وجوب قيام الليل بالوجوه الآتية:

أولاً: إن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} جاء بعدما افترض الله عز وجل قيام الليل في

أول هذه السورة كما في حديث عائشة-رضي الله عنها فنسخ الله به فرض قيام الليل السابق، وصار تطوعاً بعد ما كان فريضة. وحديث عائشة-رضي الله عنها صريح في ذلك

(2)

.

ثانياً: إن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا، إلا أن تطوع» يدل على عدم وجوب صلاة غير الصلوات الخمس، وأن غير الخمس من الصلوات تطوع، فيكون ذلك دالاً على نسخ فرض قيام الليل

(3)

.

ثالثاً: إن حديث عبد لله بن عمر، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم يدلان كذلك على نسخ وجوب قيام الليل؛ لأن فرض قيام الليل كان في أول الإسلام، وحديثهما متأخر عن ذلك، ثم هما يدلان على عدم فرضية قيام

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 226، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، ح (1152)، ومسلم في صحيحه 3/ 229، كتاب الصيام، باب تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، ح (1159)(185).

(2)

انظر: التمهيد 4/ 147؛ المجموع 3/ 6؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 369؛ تفسير ابن كثير 4/ 439؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 399.

(3)

انظر: الجامع لأحكام القرآن 19/ 53؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 140؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 400.

ص: 954

الليل؛ فدل ذلك على نسخ وجوب قيام الليل

(1)

.

ويستدل لمن قال: إن المنسوخ من قيام الليل هو تقديره بمقدار معين من نصف الليل ونحوه، مع بقاء وجوب قيام الليل بالقليل، بما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}

(2)

.

ووجه الاستدلال منه هو: أن هذه الآية ناسخة لوجوب قيام الليل المذكور في أول السورة، وهو مقدر بنصف الليل ونحوه، فيكون المنسوخ هو تقديره بقدر معين، ويبقى نفس القيام واجباً بقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، فإن المراد به أي صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل

(3)

.

واعترض عليه: بأن الآية تحتمل ذلك، وتحتمل أن يكون المراد بها قراءة ما تسير من القرآن، وهو ليس مقدراً بمقدار معين، كما ليس فيه تقييده بالليل.

فإن أريد به الاحتمال الثاني فليس فيه أي دليل على بقاء وجوب شيء من قيام الليل، وعلى الاحتمال الأول فتدل الآية على بقاء شيء من وجوب

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1883؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 53، 54؛ فتح الباري 3/ 7، 45.

(2)

سورة المزمل، الآية (20).

(3)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1882؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 51؛ تفسير ابن كثير 4/ 439؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 399.

ص: 955

قيام الليل، لكن يكون ذلك منسوخاً كذلك بالأحاديث الدالة على أن لا واجب من الصلوات إلا الخمس

(1)

.

ثانياً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال:«بال الشيطان في أذنيه»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»

(3)

.

فهذان الحديثان يدلان على ذم من لم يصل بالليل، فيكون فيه دلالة على وجوب قيام الليل

(4)

.

واعترض عليه: بأن المراد بالحديثين من ترك الصلاة المكتوبة؛ حيث جاء

(1)

انظر: الجامع لأحكام القرآن 19/ 53؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 369؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 400.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 225، كتاب التهجد، باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه، ح (1144)، ومسلم في صحيحه 2/ 396، كتاب صلاة المسافرين، باب الحث على صلاة الوقت وإن قلت، ح (774)(205).

(3)

سبق تخريجه في ص 259.

(4)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1882؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 53؛ تفسير ابن كثير 4/ 439.

ص: 956

مقيداً بذلك في روايات أخرى، ولذلك لا يتم الاستدلال منهما على وجوب قيام الليل

(1)

.

الراجح

يظهر لي -والله أعلم بالصواب-أن الراجح هو نسخ وجوب قيام الليل مطلقاً، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن حديث عائشة-رضي الله عنها صريح في ذلك حيث قالت: (، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة). ولم تفرق بين قيام وقيام.

ثانياً: ولأحاديث كثيرة صحيحة وصريحة، تدل على عدم وجوب صلاة غير الصلوات الخمس، وقد سبق ذكر بعضها.

ثالثاً: ولأن القول بوجوب قيام شيء من الليل قول شاذ، وقد انعقد الإجماع على خلافه وعلى نسخ قيام الليل مطلقاً، كما صرح به بعض أهل العلم

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1882؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 53؛ فتح الباري 3/ 29، 34.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 147؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 369.

ص: 957

‌المطلب الثاني: الوتر على الراحلة

ذهب الطحاوي إلى أن الوتر على الراحلة، كان أولاً، ثم نسخ، لذلك لا يجوز لأحد أن يصلي الوتر على الراحلة، بل يصليه على الأرض كالفرائض

(1)

.

وتبين منه أن القول به أحد أسباب الاختلاف، كما أن الخلاف في حكم الوتر سبب آخر لاختلافهم في المسألة

(2)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما (أنه كان يصلى على راحلته، ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل كذلك)

(3)

.

وقال مجاهد: (أن ابن عمر-رضي الله عنهما كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه به، فإذا كان في السحر نزل فأوتر)

(4)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 431؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 425.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 431؛ بدابة المجتهد 1/ 390.

(3)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 429.

(4)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 429. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 711 - بعد حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يوتر على راحلته-: (وقوله: (يوتر عليها) لا يعارض ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جيبر "أن ابن عمر كان يصلي على الراحلة تطوعاً فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض" لأنه محمول على أنه فعل كلاً من الأمرين).

ص: 958

ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر»

(1)

.

ثالثاً: عن خارجة بن حذافة

(2)

رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله قد

أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، فجعلها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 220، كتاب الصلاة، باب استحباب الوتر، ح (1416)، والترمذي في سننه ص 121، كتاب الوتر، باب ما جاء في أن الوتر ليس بحتم، ح (453)، والنسائي في سننه ص 275، كتاب قيام الليل، باب الأمر بالوتر، ح (1675)، وابن ماجة في سننه ص 208، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوتر، ح (1169). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 220.

(2)

هو: خارجة بن حذافة بن غانم، القرشي العدوي، أسلم عام الفتح، وروىعن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه

عبد الرحمن بن جبير، وغيره، وسكن مصر، وقتل بها سنة أربعين. انظر: الإصابة 1/ 452؛ التهذيب 3/ 68.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 220، كتاب الصلاة، باب استحباب الوتر، ح (1418)، والترمذي في سننه ص 121، كتاب الوتر، باب ما جاء في فضل الوتر، ح (452)، وابن ماجة في سننه ص 208، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوتر، ح (1168)، والدارمي في سننه 1/ 446، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 430، والدارقطني في سننه 2/ 30، والحاكم في المستدرك 1/ 449، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 671. قال الترمذي:(حديث غريب). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 16: (وضعفه البخاري، وقال ابن حبان: إسناد منقطع، ومتن باطل). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 156: (صحيح دون قوله "هي خير لكم من حمر النعم")، ثم ذكر طرق الحديث وصحح إسناد بعضها.

ص: 959

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الأرض، وحديث علي، وخارجة بن حذافة رضي الله عنهما-يدلان على تأكيد أمر الوتر وإحكامه وتغليظه، فيجوز أن يكون وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة قبل أن يحكم الوتر ويغلظ أمره، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لوتره على الراحلة

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا منازعة في أولوية الوتر على الأرض، أما ما ذكر من وجه الاستدلال على النسخ فمجرد احتمال، إذ لا دليل على أن هذه الأحاديث بعد وتر النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة حتى تكون ناسخة له، والنسخ لا يثبت بالاحتمال

(2)

.

وعلى تقدير أن الأمر بالوتر وتأكيده كان بعد وتر النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فليس فيه كذلك ما يدل على النسخ؛ لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي التطوع ويصلي الوتر على الراحلة، ولا يصلى عليها المكتوبة، ففيه فرق بين المكتوبة وغيرها، فلم يكن يصلي المكتوبة على الراحلة، ويصلي عليها غير ذلك سواء كان الوتر أو غيره من الصلوات، فإن كان الوتر من التطوع فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي التطوع على الراحلة، وإن

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 429، 430، 431؛ فتح القدير 1/ 425.

(2)

انظر: مختصر قيام الليل ص 302؛ فتح الباري 1/ 745، 2/ 602؛ تحفة الأحوذي 2/ 592.

ص: 960

كان الوتر غير التطوع فكذلك كان يصليه على الراحلة، ولم يكن يصلي المكتوبة على الراحلة وليس الوتر منها بلا خلاف

بين أهل العلم

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الوتر على الراحلة على قولين:

القول الأول: لا يصلى الوتر على الراحلة.

وهو قول الحنفية

(2)

.

القول الثاني: يجوز أن يصلي الوتر على الراحلة.

وهو قول المالكية

(3)

، والشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

. وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وابن عباس، رضي الله عنهم. وبه قال عطاء وسفيان الثوري، وإسحاق وداود

(6)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يجوز أن يصلي الوتر على الراحلة- بالأدلة التي استدل بها للقول بالنسخ.

(1)

انظر: مختصر قيام الليل ص 301، 302؛ التمهيد 4/ 196.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 431؛ بدائع الصنائع 1/ 608؛ البناية 2/ 569.

(3)

انظر: التمهيد 4/ 195، 196، 405؛ الاستذكار 2/ 111؛ بداية المجتهد 1/ 309.

(4)

انظر: مختصر المزني ص 34؛ الحاوي 2/ 289؛ المجموع 3/ 358؛

(5)

انظر: المغني 2/ 593؛ الشرح الكبير 4/ 109؛ الفروع 2/ 358.

(6)

انظر: مختصر قيام الليل ص 301، 302؛ المجموع 3/ 358؛ تحفة الأحوذي 2/ 591.

ص: 961

ووجه الاستدلال منها: أن الوتر أمره مؤكد، فهو فوق التطوع من الصلوات، لذلك نزل ابن عمر-رضي الله عنهما عن الراحلة فصلاه على الأرض.

قالوا: وما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الوتر على الراحلة، فهو يحتمل أمرين:

الأول: أن يكون صلى الوتر على الراحلة لعذر.

الثاني: أن ذلك لعله كان قبل أن يحكم الوتر ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد، ولم يرخص في تركه

(1)

.

واعترض عليه: بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلى التطوع والوتر على الراحلة في

السفر، كما ثبت ذلك عن ابن عمر-رضي الله عنهما، وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نزل عن الراحلة وصلاه على الأرض، فهو يدل على أن كلا من الأمرين جائز، وليس في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الوتر لعذر، فهو دعوى لا دليل عليها

(2)

.

أما دعوى أن ذلك كان قبل أن يؤكد أمر الوتر ويغلظ، فقد سبق ما يرده في الاعتراض على وجه الاستدلال على النسخ.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجوز أن يصلي الوتر على الراحلة- بما

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 340؛ بدائع الصنائع 1/ 608؛ البناية 2/ 569؛ مختصر قيام الليل ص 302.

(2)

انظر: مختصر قيام الليل ص 302؛ بداية المجتهد 1/ 390؛ فتح الباري 2/ 711.

ص: 962

يلي:

أولاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يُومئُ إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته»

(1)

.

ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر على راحلته»

(2)

.

والحديثان صريحان في جواز الوتر على الراحلة في السفر، وقد عمل به بعض الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي الوتر على الراحلة، منهم علي ابن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما

(3)

.

الراجح

بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: أنه يجوز الوتر على الراحلة في السفر، وذلك:

أ-لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يوتر على الراحلة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 197، كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، ح (1000)، ومسلم في صحيحه 2/ 330، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النافلة على الدابة في السفر، ح (700)(39).

(2)

أخرجه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل- مختصر قيام الليل- ص 301.

(3)

انظر: مختصر قيام الليل ص 301؛ التمهيد 4/ 196؛ المغني 2/ 593؛ المجموع 3/ 358.

ص: 963

ب-ولأن أدلة من قال بعدم جواز الوتر على الراحلة في السفر، لا يعارض دليل من قال

بجواز ذلك؛ لما فيها من الكلام، ثم هي ليست صريحة في النهي عن ذلك، ولذلك يكون القول بجواز الوتر على الراحلة في السفر جائزاً بلا شك.

ثانياً: إن ادعاء نسخ الوتر على الراحلة ضعيف وغير صحيح؛ لأنه ليس عليه أي دليل، ثم يؤكد عدم النسخ عمل بعض الصحابة على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهم-يوتران على الراحلة في السفر، فلو كان ذلك منسوخاً لما عملا به

(1)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 430؛ مختصر قيام الليل ص 301.

ص: 964

‌المطلب الثالث: النفخ في الصلاة

ذهب الطحاوي إلى كراهة النفخ

(1)

في الصلاة، وأن ما روي من نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فإنه قد نسخ، كما نسخ الكلام في الصلاة

(2)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلافهم في النفخ في الصلاة هل هو كلام أم لا

(3)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكد يركع، ثم ركع، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال:«أُف أُف» ثم قال: «رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟»

(4)

.

(1)

النفخ في الصلاة هو إخراج الريح من الفم. انظر: القاموس المحيط ص 238؛ التعريفات الفقهية للمفتي السيد محمد عميم، ص 230.

(2)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 301.

(3)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 301؛ بداية المجتهد 1/ 349.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 186، كتاب الصلاة، باب من قال يركع ركعتين، ح (1194)، والنسائي في سننه ص 242، كتاب الكسوف، باب نوع آخر، ح (1482)، وأحمد في المسند 11/ 21. قال ابن حجر في الفتح 3/ 103:(أخرجه أحمد، وصححه ابن خزيمة، والطبري، وابن حبان، من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو) ثم ذكر الحديث ثم قال: (وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن عطاء بن السائب مختلف في الاحتجاج به، وقد اختلط في آخر عمره، لكن أخرجه ابن خزيمة من رواية سفيان الثوري عنه، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وثقه العجلي وابن حبان، وليس هو من شرط البخاري). وقال الشيح الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 185: (صحيح لكن بذكر الركوع مرتين كما في الصحيحين). وقال في صحيح سنن النسائي ص 242: (صحيح).

ص: 965

ثانياً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النفخ في السجود، وعن النفخ في

الشراب»

(1)

.

ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل وهو قائم، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده»

(2)

.

رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: (النفخ في الصلاة بمنزلة

(1)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 86: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه خالد بن إلياس وهو متروك). وضعفه ابن

حجر في الفتح 3/ 105.

(2)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 86: (رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح). وضعف سنده ابن حجر في فتح الباري 3/ 105. وقد سبق في مسألة البول قائماً تخريج هذا الحديث مفصلاً، وثبت أنه بمجموع طرقه يصلح للاحتجاج به، وأن في طرقه الموقوفة ما هو صحيح بلا شك.

ص: 966

الكلام)

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (النفخ في الصلاة كلام يقطع الصلاة)

(2)

.

خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (النفخ في الصلاة كلام)

(3)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاته، والأحاديث المذكورة بعده تدل على النهي عن النفخ في الصلاة، ثم أثر ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم-يدلان على أن النفخ في الصلاة كلام، وقد سبق أن الكلام في الصلاة قد نُسخ، فيكون النفخ في الصلاة منسوخاً كذلك بنسخ الكلام في الصلاة

(4)

.

واعترض عليه: بأن نسخ الكلام في الصلاة متقدم، فقد قيل أنه كان بمكة، وقيل في المدينة بعد الهجرة، وعلى كل فقد كان ذلك قبل غزوة

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 189، عن ابن عيينه، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح عن ابن عباس. وهؤلاء من رجال الجماعة متفق على توثيقهم.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 67. عن محمد بن فضيل عن الحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى- مسلم بن صبيح- عن ابن عباس، وهؤلاء من رجال الجماعة، غير الحسن بن عبيد الله فلم يخرج له البخاري، لكنه ثقة. وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 67، عن محمد بن فضيل عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح عن ابن عباس-بلفظ:(عن ابن عباس أنه قال: النفخ في الصلاة كلام) - ورجال إسناده رجال الجماعة. قال ابن حجر في الفتح 3/ 105: (وثبت كراهة النفخ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 189.

(4)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 301.

ص: 967

خيبر، والنفخ في الصلاة المروي

عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاة كسوف

(1)

الشمس، وهو متأخر فقد قيل: كان كسوف الشمس سنة عشر، وقيل سنة تسع

(2)

، وعلى كل فهو بعد فتح مكة، يؤكد ذلك أن أبا بكرة رضي الله عنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس

(3)

، وهو قد أسلم بعد فتح مكة

(4)

، فكيف ينسخ النفخ في الصلاة بنسخ الكلام فيها، وهو متأخر عنه؟.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في النفخ في الصلاة على قولين:

القول الأول: أن النفخ في الصلاة إذا كان يسمع فإنه بمنزلة الكلام وهو يقطع الصلاة.

وهو مذهب الحنفية

(5)

، وقول للإمام مالك

(6)

، ومذهب الشافعية

(7)

،

(1)

كسوف الشمس هو إظلامها وذهاب نورها واسودادها بالنهار. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 490؛ المصباح المنير ص 435.

(2)

فقد كان كسوف الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة. انظر: فتح الباري 2/ 652.

(3)

انظر: صحيح البخاري ص 205، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، ح (1040).

(4)

فقد تدلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حصن طائف ببكرة فاشتهر بأبي بكرة، وكان غزوة طائف بعد فتح مكة. انظر: الإصابة 3/ 2014؛ تهذيب سيرة ابن هشام ص 215.

(5)

انظر: الأصل 1/ 12؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 301؛ بدائع الصنائع 1/ 512، 539.

(6)

قال ابن حاجب: (والمشهور إلحاق النفخ بالكلام) انظر: جامع الأمهات ص 104؛ التاج والإكليل 2/ 309؛ مواهب الجليل 2/ 308.

(7)

انظر: الحاوي 2/ 190؛ العزيز 2/ 44؛ المجموع 4/ 18؛ روضة الطالبين ص 130؛ فتح الباري 3/ 104.

ص: 968

والحنابلة

(1)

-إن انتظم حرفين-. وروي ذلك عن ابن عباس-رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن جبير، والثوري

(2)

.

القول الثاني: أن النفخ في الصلاة مكروه، ولا يقطع الصلاة.

وهو قول أبي يوسف من الحنفية

(3)

، .............................................

وقول آخر للإمام مالك

(4)

، ورواية عن الإمام أحمد

(5)

، وروي نحو ذلك عن: ابن مسعود رضي الله عنه، وعطاء، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، ومكحول، وإسحاق

(6)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن النفخ في الصلاة كلام يقطع الصلاة- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأثر ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(1)

انظر: المغني 2/ 451؛ الشرح الكبير 4/ 42؛ الممتع 1/ 490؛ الإنصاف 4/ 42؛ زاد المستقنع ص 14.

(2)

انظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 189؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 67؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 301؛ التمهيد 5/ 358.

(3)

انظر: الأصل 1/ 12؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 301.

(4)

انظر: التمهيد 5/ 358؛ الاستذكار 2/ 437؛ جامع الأمهات ص 104؛ التاج والإكليل 2/ 309؛ مواهب الجليل 2/ 308.

(5)

انظر: المغني 2/ 452؛ الشرح الكبير 4/ 43؛ الإنصاف 4/ 43.

(6)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 67؛ التمهيد 5/ 358؛ المغني 2/ 452؛ المجموع 4/ 18.

ص: 969

ووجه الاستدلال منها: أن حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الصلاة، وأثر ابن عباس وأبي هريرة-رضي الله عنهم يدلان على أن النفخ في الصلاة كلام، والكلام قد نُهي عنه في الصلاة، فثبت من ذلك أن النفخ في الصلاة كلام ومنهي عنه، وإذا كان كذلك فهو يقطع الصلاة

(1)

.

واعترض عليه: بأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن النفخ في الصلاة فهو ضعيف لا يقوم به حجة، وأما ما روي عن بعض الصحابة أن النفخ كلام فقد عارضه ما روي عن بعض الصحابة من إباحة النفخ في الصلاة، لذلك يضعف القول بقطع الصلاة به

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن النفخ في الصلاة مكروه لكن لا يقطعها- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما وفيه: قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكد يركع، ثم ركع، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الركعة الأخرى

(1)

انظر: الحاوي 2/ 190؛ بدائع الصنائع 1/ 539؛ المغني 2/ 451.

(2)

انظر: السنن الكبرى 2/ 359؛ فتح الباري 3/ 105؛ نيل الأوطار 2/ 324؛ تحفة الأحوذي 2/ 401.

ص: 970

مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال:«أُف أُف» ثم قال: «رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟»

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقنّ بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى»

(1)

.

ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل وهو قائم، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده» .

رابعاً: عن أيمن بن نابل

(2)

، قال: قلت لقدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي

(3)

، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نتأذى بريش الحمام في المسجد الحرام

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 238، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة، ح (1214)، ومسلم في صحيحه 3/ 359، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، ح (551)(54).

(2)

هو: أيمن بن نابل الحبشي، أبو عمران، وقيل أبو عمرو، المكي، مولى آل أبي بكر، روى عن قدامة بن عبد الله، وأبيه نابل، وغيرهما، وروى عنه: وكيع، وابن مهدي، وغيرهما، وممن وثقه: الثوري، وابن معين والحاكم، وقال ابن حجر: صدوق يهم. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 357؛ التقريب 1/ 115.

(3)

هو: قدامة بن عبد الله بن عمار بن معاوية الكلابي، أبو عبد الله العامري، أسلم قديماً ولم يهاجر، كان يسكن نجداً، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه حميد بن كلاب، وأيمن بن نابل. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 13؛ الإصابة 3/ 1609؛ تهذيب التهذيب 8/ 316.

ص: 971

إذا سجدنا، فقال:(انفخوا)

(1)

.

ويستدل منها على أن النفخ في الصلاة مكروه لكن لا يقطع الصلاة: بأن الحديث الأول ثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاته، فلو كان يقطع الصلاة لما فعله، والحديث الثاني يدل كذلك على أن النفخ إذا كان لم يقصد به اللعب والعبث ولم يكن كثيراً أنه لا يفسد الصلاة؛ لأنه قلما يكون بزاق إلا ومعه شيء من النفخ، ويؤكد عدم قطع الصلاة بالنفخ قول قدامة بن عبد الله رضي الله عنه، والحديث الثالث يدل على أن النفخ في الصلاة من الجفاء فيدل ذلك على كراهته

(2)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ ما يدل على النفخ في الصلاة ضعيف وغير صحيح؛ لأن مستنده هو نسخ الكلام في الصلاة، وقد سبق أن ذلك كان

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 359. وذكر ابن حجر في الفتح 3/ 105 أنه ثابت عن قدامة بن عبد الله.

(2)

انظر: التمهيد 5/ 357، 358؛ الاستذكار 2/ 437؛ الممتع 1/ 491؛ فتح الباري 3/ 104، 105؛ نيل الأوطار 2/ 323؛ تحفة الأحوذي 2/ 401.

ص: 972

قبله، فلا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم.

ثانياً: إن النفخ في الصلاة مكروه، لكن لا يفسد الصلاة ما لم يتفاحش، ولم يقصد به صاحبه اللعب والعبث، وذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفخ في صلاته، وقال:«وعرضت عليّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها»

(1)

.

ثالثاً: إن النفخ في الصلاة إذا كثر، ولم يكن لحاجة فإنه يكون حكمه حكم الكلام في الصلاة، وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أنه بمنزلة الكلام

(2)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند 11/ 374، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه ابن خزيمة، والطبري، وابن حبان. انظر: فتح الباري 3/ 103.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 67؛ المغني 2/ 450.

ص: 973

‌المطلب الرابع: الالتفات في الصلاة

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الالتفات في الصلاة كان جائزاً، ثم نُسخ فصار مكروهاً، وممن صرح بالنسخ الحازمي

(1)

، وأبو إسحاق الجعبري

(2)

.

والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف هو اختلاف الآثار الواردة فيها

(3)

.

ويستدل لمن قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره»

(4)

.

(1)

انظر قوله في: الاعتبار ص 202، 204، وقد نسبه إلى أكثر أهل العلم.

(2)

انظر قوله في: رسوخ الأحبار ص 280، وقال:(وعليه أكثر أهل العلم)، وانظر كذلك: نيل الأوطار 2/ 334، تحفة الأحوذي 3/ 235.

(3)

انظر: الاعتبار ص 202 - 204.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه ص 150، كتاب الصلاة، باب ما ذكر في الالتفات في الصلاة، ح (587)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 196، كتاب السهو، باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يميناً وشمالاً، ح (1201)، وأحمد في المسند 4/ 288، وابن حبان في صحيحه ص 686، والدارقطني في سننه 2/ 83، والحاكم في المستدرك 1/ 362، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 21، والحازمي في الاعتبار ص 203. قال الترمذي:(هذا حديث غريب، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته). وقال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري). ووافقه الذهبي. وفال النووي في المجموع 4/ 23: (رواه الترمذي بإسناد صحيح). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 150، وصحيح سنن النسائي ص 196.

ص: 974

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فطأطأ رأسه»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة عن يمينه وعن شماله، ثم أنزل الله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فخشع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يلتفت يميناً ولا شمالاً»

(2)

.

ثالثاً: عن ابن سيرين قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، فلما نزلت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} نظر هكذا) -قال ابن شهاب ببصره

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 426، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 402، والواحدي في أسباب النزول-دون ذكر:(فطأطأ رأسه) ص 210، والحازمي في الاعتبار ص 204. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد فقد قيل عنه مرسلاً). وقال الذهبي في التلخيص (الصحيح مرسل). وقال البيهقي: (ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلاً، وهذا هو المحفوظ).

(2)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 83: (رواه الطبراني في الأوسط، وقال: تفرد به حبرة بن نحم الإسكندراني، قلت: ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات).

ص: 975

نحو الأرض-

(1)

.

وفي رواية عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء تدور عيناه ينظر هاهنا وهاهنا، فأنزل الله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2])

(2)

.

ربعاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: (ونهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب)

(3)

.

خامساً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: «هو اختلاس

(4)

يختلس الشيطان من صلاة العبد»

(5)

.

(1)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 202، وقال:(هذا وإن كان مرسلاً غير أن له شواهد في الأحاديث الثابتة تشيده)، وانظر تفسير ابن كثير 3/ 231.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 402، وزاد بعده:(فطأطأ ابن عون رأسه ونكس في الأرض) ثم قال: وروي ذلك عن أبي زيد سعيد بن أوس، عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة موصولاً، والصحيح هو المرسل). وتعقبه ابن التركماني فقال:(ابن أوس ثقة، وقد زاد الرفع كيف وقد شهد له رواية ابن علية لهذا الحديث موصولاً عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة كما ذكره البيهقي في هذا الباب).

(3)

سبق تخريجه في ص 647.

(4)

الاختلاس من الخلس وهو السلب واختطاف الشيء بسرعة على غفلة. انظر: مختار الصحاح ص 161، المصباح المنير ص 177؛ القاموس المحيط ص 487.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 150، كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة، ح (751).

ص: 976

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث بمجموعها تدل على النهي عن الالتفات في الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في الصلاة قبل نزول الآية التي فيها ذكر الخشوع في الصلاة، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد نزولها لم يكن يلتفت في الصلاة لا يمناً ولا شمالاً، فدل ذلك على كراهة الالتفات في الصلاة، ونسخه

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى كراهة الالتفات في الصلاة لغير حاجة

(2)

، ثم ذهب أكثرهم إلى أنه لا يفسد الصلاة ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة.

وممن قال بهذا: الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، والشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

،

(1)

انظر: الاعتبار ص 203، 204، رسوخ الأحبار للجعبري ص 280؛ نيل الأوطار 2/ 334.

(2)

انظر: التمهيد 5/ 98؛ المجموع 4/ 22؛ فتح الباري 2/ 290؛ البناية 2/ 524؛ الشرح الكبير 3/ 588.

(3)

انظر: الأصل 1/ 8؛ بدائع الصنائع 1/ 505؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 410؛ البناية 2/ 524؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 353.

(4)

انظر: التمهيد 5/ 97، 98؛ الاستذكار 2/ 303؛ مختصر خليل 2/ 261؛ مواهب الجليل 2/ 258 - 260؛ التاج والإكليل 2/ 261.

(5)

انظر: السنن الكبرى 2/ 399؛ الحاوي 2/ 187؛ المجموع 4/ 22؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 201.

(6)

انظر: الكافي 1/ 387؛ المحرر 1/ 77؛ الشرح الكبير 3/ 588؛ الفروع 2/ 274؛ الإنصاف 3/ 588؛ زاد المستقنع ص 13.

ص: 977

وأكثر أهل العلم

(1)

.

ويستدل لهذا القول بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث السابقة في دليل القول بالنسخ.

ثانياً: حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في صلاة أبي بكر رضي الله عنه بالناس، وفيه: «فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك

»

(2)

.

ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً .. )

(3)

.

رابعاً: حديث سهل ابن الحنظلية رضي الله عنه أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفيه: فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين ثم

(1)

انظر: نيل الأوطار 2/ 333؛ تحفة الأحوذي 3/ 235.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 137، كتاب الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر

الأول أولم يتأخر جازت صلاته، ح (684)، ومسلم في صحيحه 2/ 109، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، ح (421)(102).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 101، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، ح (413)(84).

ص: 978

قال: «هل أحسستم فارسكم؟» قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه، فثُوِّب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال:«أبشروا فقد جاءكم فارسكم»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها: أن حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما يدلان على كراهة الالتفات في الصلاة، والأحاديث التي جاء فيها التفات النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه فهي تدل على عدم الكراهة للحاجة، ولا يفسد الصلاة به لحديث ابن عباس رضي الله عنه

(2)

.

الراجح

الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وذلك:

أ-لأن هذا القول يمكن به الجمع بين هذه الأحاديث، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

ب- ولأن القول بالنسخ له وجه؛ لأن الأدلة التي استُدل بها على النسخ تحتمل ذلك، إلا أنه ليس مخالفاً لقول الجمهور؛ حيث اتفق الجميع على كراهة الالتفات لغير حاجة

(3)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 380، كتاب الجهاد، باب في فضل الحرس في سبيل الله تعالى، ح (2501)، و الحازمي في الاعتبار ص 204، وقال:(هذا حديث حسن). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 379.

(2)

انظر: الاستذكار 2/ 300؛ الكافي لابن قدامة 1/ 387؛ المجموع 4/ 22؛ البناية 2/ 524.

(3)

انظر: التمهيد 5/ 98؛ البناية 2/ 524.

ص: 979

‌المطلب الخامس: حمل الصبي في الصلاة

روي عن الإمام مالك- رحمه الله أن الحديث الدال على جواز حمل الصبي في الصلاة منسوخ

(1)

. ونحوه قول بعض المالكية

(2)

، وبعض المتأخرين من الحنفية

(3)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة، كما أن اختلافهم في تأويل الحديث الوارد في ذلك سبب آخر

(1)

قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم 2/ 474، وأحمد بن عمر القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/ 153:(وروى عنه التنيسي أن الحديث منسوخ). وقال ابن حجر في الفتح 1/ 745: (قال القرطبي: وروى عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك أن الحديث منسوخ. قلت: روى ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه، لكنه غير صريح، ولفظه: قال التنيسي: قال مالك: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا). وانظر كذلك شرح الزرقاني على الموطأ 1/ 345.

(2)

قال ابن عبد البر في التمهيد 5/ 143: (

وفي هذا ما يوضح أن الحديث إما أن يكون كان في النافلة كما روي عن مالك وإما أن يكون منسوخاً) وقال في الاستذكار 2/ 336: (

وفي هذا ما يوضح لك أن هذا الحديث إما أن يكون في النافلة، أو على ضرورة كما قال مالك، وإما أن يكون منسوخاً بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها).

وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 199: (وادعى بعض المالكية أنه منسوخ).

(3)

قال به الحصكفي الحنفي في كتابه: الدر المختار 2/ 367، ورد عليه ابن عابدين في كتابه: رد المحتار 2/ 367.

ص: 980

لاختلافهم فيها

(1)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها)

(2)

.

ثانياً: حديث عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال:«إن في الصلاة شغلاً»

(3)

.

ويستدل منهما على النسخ: بأن حمل الصبي في الصلاة، ووضعه إذا ركع، ورفعه عند

الرفع من السجود يُعد من العمل الكثير، وهو قد حرم بحديث (إن في الصلاة شغلاً) فيكون حمل الصبي في الصلاة المذكور في حديث أبي قتادة رضي الله عنه منسوخاً بذلك

(4)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال من حديث (إن في الصلاة شغلاً) على نسخ حديث حمل الصبي في الصلاة؛ لعدم ما يدل على أن حديث (إن في الصلاة شغلاً) قاله صلى الله عليه وسلم بعد حديث حمل الصبي، على أنه

(1)

انظر: التمهيد 5/ 144؛ المفهم للقرطبي 2/ 152.

(2)

سبق تخريجه في ص 323.

(3)

سبق تخريجه في ص 600.

(4)

انظر: الاستذكار 2/ 336؛ إكمال المعلم لقاضي عياض 2/ 475؛ المفهم للقرطبي 2/ 153.

ص: 981

قد قيل: إن حديث: (إن في الصلاة شغلاً) قاله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، أما حديث حمل الصبي في الصلاة فهو كان في المدينة، فهو متأخر، ولا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في حمل الصبي في الصلاة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز ذلك، وليس من العمل الكثير، ولا يبطل به الصلاة.

وهو قول الحنفية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

.

القول الثاني: أنه يجوز ذلك للضرورة، وقيل يجوز في النافلة دون الفريضة.

وهما روايتان عن الإمام مالك

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

وقد جاء في رواية عنه رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس وأمامة بنت أبي العاص على عنقه، فإذا سجد وضعها)

(6)

.

(1)

انظر: فتح الباري 1/ 745؛ شرح الزرقاني 1/ 345؛ حاشية ابن عابدين 2/ 367.

(2)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 553؛ عمدة القاري 4/ 303؛ حاشية ابن عابدين 2/ 367.

(3)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 199؛ فتح الباري 1/ 745.

(4)

انظر: المغني 2/ 467، 3/ 94؛ الشرح الكبير 2/ 282؛ الاستذكار 2/ 337.

(5)

انظر: التمهيد 5/ 143، 144؛ الاستذكار 2/ 336؛ المفهم 2/ 152.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 352، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، ح (543)(43).

ص: 982

فهذا الحديث يدل على جواز حمل الصبيان في الصلاة

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو جواز حمل الصبي في صلاة النافلة أو في الفريضة للضرورة-بحديث أبي قتادة رضي الله عنه السابق ذكره. قد حمله من قال بهذا القول مرة على النافلة، ومرة على الضرورة

(2)

.

واعترض عليه: بأنه لا دليل على أن ذلك كان للضرورة، ويثبت من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم وهو حاملها، وأن ذلك كان في الفريضة

(3)

.

الراجح

الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو جواز حمل الصبي في الصلاة، كما هو القول الأول؛ وذلك لصحة الحديث فيه وثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أن ذلك كان للضرورة

(4)

.

أما القول بنسخه فهو غير صحيح؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. ثم إن الحديث الذي يُستدل منه على النسخ قد قيل: إنه كان قبل هذا الحديث،

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 199؛ حاشية ابن عابدين 2/ 367.

(2)

انظر: التمهيد 5/ 143؛ الاستذكار 2/ 336؛ المفهم 2/ 152.

(3)

انظر: صحيح مسلم 2/ 199؛ الاستذكار 2/ 337؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 199.

(4)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 199.

ص: 983

لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ؛ حيث لا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم

(1)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: فتح الباري 1/ 745.

ص: 984

‌المطلب السادس قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة لا يقطعها مرور شيء بين يدي المصلي، وأن الأحاديث التي تدل على قطعها بمرور الكلب والحمار والمرأة إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة فإنها قد نسخت.

وممن صرح بالنسخ: الطحاوي

(1)

، وابن عبد البر

(2)

، وأبو إسحاق الجعبري

(3)

.

وادعى ابن حزم عكس ذلك؛ حيث ذهب إلى نسخ ما يدل على عدم قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة بين يدي المصلي

(4)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أ هل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة في المسألة، والاختلاف في المراد بالقطع المذكور فيها سبب آخر لاختلافهم فيها

(5)

.

ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة بين يدي المصلي إذا لم يكن أمامه سترة بما يلي:

أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 460، 463. وكذلك صرح به ابن عابدين في حاشيته 2/ 343.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 121.

(3)

انظر: رسوخ الأحبار ص 286.

(4)

انظر: المحلي 2/ 326، 327.

(5)

انظر: التمهيد 4/ 120، 121؛ بداية المجتهد 1/ 348؛ فتح الباري 1/ 741.

ص: 985

والحمار والمرأة، فقالت عائشة:(شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذيَ النبي صلى الله عليه وسلم فانسل من عند رجليه)

(1)

.

وفي رواية عنها رضي الله عنها قالت: (لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله)

(2)

.

ثانياً: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، قالت: وكان يصلي على الخُمْرَة

(3)

(4)

.

ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان

(5)

، وأنا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 108، كتاب الصلاة، باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء، ح (514)، ومسلم في صحيحه 2/ 170، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (512)(270).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 108، كتاب الصلاة، باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء، ح (515).

(3)

الخمرة: هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير، أو نسيجة خوص، ونحوه من النبات. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 531.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 83، كتاب الصلاة، باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد، ح (379)، ومسلم في صحيحه 2/ 171، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (513)(273).

(5)

الأتان الأنثى من الحمير. انظر: مختار الصحاح ص 4؛ المصباح المنير ص 3.

ص: 986

يومئذٍ قد ناهزت

(1)

الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت فأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليّ أحد)

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أنه أقبل يسير على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف ثم نزل عنه فصف مع الناس)

(3)

.

وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه أنه قال: (جئت أنا وغلام من بني هاشم على حمار، فمررنا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فنزلنا عنه وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض أو قال نبات الأرض، فدخلنا معه في الصلاة، فقال رجل: أكان بين يديه عَنَزَة

(4)

؟ قال: لا)

(5)

.

(1)

ناهزت الاحتلام أي داناه، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا داناه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 810.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 104، كتاب الصلاة، باب سترة الإمام سترة من خلفه، ح (493)، ومسلم في صحيحه 2/ 165، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (504)(254).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 908، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، ح (4412)، ومسلم في صحيحه 2/ 165، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (504)(255).

(4)

العنزة عصاً أقصر من الرمح، ولها زُجّ من أسفلها. انظر: مختار الصحاح ص 402؛ المصباح المنير ص 352.

(5)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 66: (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح). وأخرج نحوه النسائي في سننه ص 125، كتاب القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة، ح (754)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 459، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 46، وانظر كذلك السنن الكبرى للبيهقي 2/ 393. وقال الزيلعي في نصب الراية 2/ 82:(وروى البزار في مسنده حدثنا بشر بن آدم، ثنا أبو عاصم عن ابن جريج، أنبأ عبد الكريم أن مجاهداً أخبره عن ابن عباس قال: (أتيت أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، ويحول بيننا وبينه).

ص: 987

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من المسبح آنفاً سبحان الله؟» قال: أنا يا رسول الله، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة، قال:«لا يقطع الصلاة شيء»

(1)

.

خامساً: عن الفضل بن عباس

(2)

رضي الله عنه قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 367، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 394. وقال ابن حجر في الدارية 1/ 178:(وإسناده حسن). وضعفه ابن الجوزي وقال: (ففيه صخر بن عبد الله قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالأباطيل، عامة ما يرويه منكر أو من موضوعاته). ورد عليه ابن عبد الهادي فقال: (وصخر بن عبد الله بن حرملة الراوي عن عمر بن عبد العزيز لم يتكلم فيه ابن عدي ولا ابن حبان، بل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: هو صالح. وإنما ضعف ابن عدي صخر بن عبد الله الكوفي المعروف بالحاجبي). انظر: التحقيق مع التنقيح 1/ 446.

(2)

هو: الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي، أسن ولد العباس رضي الله عنه، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحنيناً، وشهد معه حجة الوداع، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أخوه عبد الله، وأبو هريرة، وغيرهما، وتوفي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 3/ 1586.

ص: 988

بادية لنا ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك)

(1)

.

سادساً: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد الله

(2)

أو عمر

(3)

بن أبي سلمة، فقال بيده،

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 116، كتاب الصلاة، باب من قال: الكلب لا يقطع الصلاة، ح (718). وأخرج نحوه النسائي في سننه ص 125، كتاب القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة، ح (753)، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 28، وأحمد في المسند 3/ 314، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 460، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 395. قال المنذري في مختصر سنن أبي داود 1/ 350:(وذكر بعضهم أن في إسناده مقالاً، وقال: إنه لم يذكر فيه نعت الكلب، وقد يجوز أن يكون الكلب ليس بأسود). وقال النووي في المجموع 3/ 161: (رواه أبو داود بإسناد حسن).

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 5/ 111: (قلت: أعله ابن حزم بالانقطاع؛ لأن عباساً لم يدرك عمه

الفضل، وهو كما قال، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله). وانظر كذلك تمام المنة ص 305. وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 116: (ضعيف)، وقال في ضعيف سنن النسائي ص 125: (منكر).

(2)

هو: عبد الله بن أبي سلمة -عبد الله- بن عبد الأسد، بن هلال المخزومي، ربيب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الإصابة 2/ 1487، 1494.

(3)

هو: عمر بن أبي سلمة-عبد الله-بن عبد الأسد بن هلال، المخزومي، ربيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سلمة أم المؤمنين-رضي الله عنها-ولد بالحبشة قبل الهجرة بسنتين، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه محمد، و عروة، وغيرهما، وتوفي بالمدينة سنة ثلاث وثمانين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 398، الإصابة 2/ 1309.

ص: 989

فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت، فلما صلى قال:«هن أغلب»

(1)

.

سابعاً: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء»

(2)

.

ثامناً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان»

(3)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 174، كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، ح (948)، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 258. قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 152:(هذا إسناد ضعيف، وقع في بعض النسخ عن أمه بدل عن أبيه، واعتمد المزي ذلك فأخرج الحديث في ترجمة أم محمد بن قيس عن أم سلمة، ولم يسمها، وأبوه أيضاً لا يعرف). وقال الشيخ الألباني في تمام المنة ص 311: (إسناده ضعيف، فيه من لا يعرف، ولذلك ضعفه ابن القطان والبوصيري).

(2)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 65: (رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن). وأخرجه الدارقطني في سننه 1/ 268. وقال ابن حجر في الدراية 1/ 178: عن إسناد الدارقطني: (ضعيف). وانظر التعليق المغني على سنن الدارقطني 1/ 268.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 116، كتاب الصلاة، باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء، ح (719)، و الدارقطني في سننه 1/ 268، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 395. قال المنذري في مختصر سنن أبي داود 1/ 350:(وفي إسناده مجالد وهو ابن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم حديثاً مقروناً بجماعة من أصحاب الشعبي). ونحو هذا كلام الزيلعي في نصب الراية 2/ 76، وقال ابن حجر في الدراية 1/ 178:(وفي إسناده مجالد وهو لين). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 116. وذكر في تمام المنة ص 306، أن مجالد بن سعيد ليس بالقوي، وأنه قد اضطرب في رواية هذا الحديث.

كما ذكر أن الحديث ضعفه ابن حزم والنووي.

ص: 990

تاسعاً: عن علي وعثمان-رضي الله عنهما قالا: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوهم عنكم ما استطعتم)

(1)

.

عاشراً: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي)

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عائشة وميمونة وأم سلمة رضي الله عنهن يدل على أن مرور المرأة بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وحديث ابن عباس وأنس رضي الله عنهما-يدلان على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع عليه صلاته كذلك، وحديث الفضل بن عباس رضي الله عنه يدل على أن مرور الكلب بين يدي المصلي لا يقطع عليه صلاته أيضاً، وبقية

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 250، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 395. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 741:(وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ 1/ 146، ونحوه عبد الرزاق في المصنف 2/ 30، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 251، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 395. وسنده صحيح. وانظر: فتح الباري 1/ 741.

ص: 991

الأحاديث تدل على أن الصلاة لا يقطعها شيء.

ثم هذه الأحاديث متأخرة فتكون ناسخة للأحاديث التي تدل على أن الصلاة يقطعها المرور بين يدي المصلي إذا كان المار من المرأة أو الحمار أو الكلب، ويدل على تأخرها ما يلي:

أ- إن من بين هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنه وهو كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على تأخره

(1)

.

ب- ولأن من بين ذلك حديث عائشة وميمونة-رضي الله عنهما، وفيهما كذلك ما يدل على التأخر عن الأحاديث الدالة على القطع؛ لكون صلاته صلى الله عليه وسلم عندهن ولم يزل على ذلك حتى مات خصوصاً مع عائشة-رضي الله عنها مع تكرر قيامه كل ليلة، ثم إن حديثهما على أصل الإباحة، فيدل ذلك على التأخر

(2)

.

ج-إن الأحاديث التي فيها أن الصلاة لا يقطعها شيء متأخرة؛ لأن من بينها حديث أنس

رضي الله عنه، وفيه قول عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه:(إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة) فهذا يدل أن أحاديث قطع الصلاة بمرور الحمار وغيره كان أولاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقطع الصلاة شيء» ، كان بعد ذلك، ويؤكد ذلك ما روي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم-أنهم قالوا بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يقطع الصلاة شيء) مع أن بعضاً منهم قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر: الاعتبار ص 217؛ رسوخ الأحبار ص 286؛ نيل الأوطار 3/ 11.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 121؛ فتح الباري 1/ 742؛ نيل الأوطار 3/ 11.

ص: 992

الأحاديث الدالة على قطع الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة بين يدي المصلي، فيدل ذلك على ثبوت النسخ عندهم

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم قطع الصلاة بالكلب والحمار والمرأة بما يلي:

أولاً: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل

(2)

، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» قلت

(3)

: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «الكلب الأسود شيطان»

(4)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل»

(5)

.

ثالثاً: عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع الصلاة المرأة

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 460 - 463؛ سبل السلام 1/ 271؛ نيل الأوطار 3/ 13.

(2)

آخرة الرحل هي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 43.

(3)

القائل هو عبد الله بن الصامت الراوي عن أبي ذر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 169، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (510)(265).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 169، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (511)(266).

ص: 993

والكلب و الحمار»

(1)

.

رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على قطع الصلاة بمرور من ذكر فيها بين يدي المصلي، فتكون ناسخة للأحاديث الدالة على عدم قطع الصلاة بشيء؛ لأن تلك الأحاديث موافقة لما كانوا عليه قبل ورود الأحاديث الدالة على القطع، فتكون الأحاديث الدالة على القطع بعدها

(3)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على تأخرها على الأحاديث التي يُستدل منها على عدم القطع، ومجرد كونها أنها جاءت على خلاف الأصل لا تدل على تأخرها، مع أن الأحاديث الدالة

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 174، كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، ح (951)، وأحمد في المسند 27/ 352، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 458، وابن حبان في صحيحه ص 705. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 174:(صحيح).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 114، كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، ح (703)، والنسائي في سننه ص 125، كتاب القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة، ح (751)، و ابن ماجة في سننه-واللفظ له- ص 174، كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، ح (949)، وأحمد في المسند 5/ 293، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 458، وابن حبان في صحيحه ص 705، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 389. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 114.

(3)

انظر: المحلى 2/ 326، 327.

ص: 994

على عدم القطع معها ما يدل على تأخرها كما سبق

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في قطع الصلاة بمرور شيء أمام المصلي على ثلاثة أقوال مشهورة:

القول الأول: أن الصلاة لا يقطعها ولا يبطلها مرور شيء بين يدي المصلي سواء كان ذلك كلباً أو حماراً أو امرأة أو غير ذلك.

وهو قول جمهور الفقهاء

(2)

، منهم: الحنفية

(3)

، .....................................

والمالكية

(4)

، والشافعية

(5)

.

ورُوي ذلك عن: عثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، وعائشة-رضي الله عنهم. وبه قال ابن المسيب، وعروة، وعبيدة، والشعبي، وسفيان الثوري، وأبو ثور، وداود، وابن جرير الطبري

(6)

.

القول الثاني: أن الصلاة لا يقطعها ولا يبطلها مرور شيء بين يدي

(1)

راجع وجه الاستدلال من تلك الأحاديث على النسخ.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 121؛ بداية المجتهد 1/ 347؛ المجموع 3/ 160؛ البناية 2/ 505.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 463؛ بدائع الصنائع 1/ 551؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 404؛ حاشية ابن عابدين 2/ 343.

(4)

انظر: الإشراف 1/ 265؛ التمهيد 5/ 34؛ بداية المجتهد 1/ 347؛ مواهب الجليل 2/ 237.

(5)

انظر: التنبيه للشيرازي ص 49؛ العزيز 2/ 56؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 170؛ المجموع 3/ 160؛ روضة الطالبين ص 132؛ مغني المحتاج 1/ 301.

(6)

انظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 28 - 32؛ مصنف ابن أبي شيبة 1/ 250 - 251؛ التمهيد 4/ 121؛ الاعتبار ص 217.

ص: 995

المصلي إلا الكلب الأسود البهيم

(1)

.

وهو مذهب الحنابلة

(2)

، وروي نحوه عن عائشة-رضي الله عنها ومجاهد، وهو قول إسحاق بن راهوية

(3)

.

القول الثالث: أن الصلاة يقطعها ويبطلها إذا مر بين يدي المصلي المرأة أو الحمار أو الكلب.

وهو رواية عن الإمام أحمد

(4)

، وروي نحوه عن ابن عمر، وأنس-رضي الله عنهما والحسن البصري، وقال به بعض الظاهرية، منهم ابن حزم

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول بأدلة منها-وهي أصحها-ما استُدل به للقول بنسخ ما يدل على قطع الصلاة بمرور الكلب، والحمار، والمرأة؛ فإنها تدل

(1)

البهيم هو الذي لا يخالط لونه لون سواه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 169؛ المغني 3/ 97.

(2)

انظر: المغني 3/ 97؛ الشرح الكبير 3/ 648؛ الفروع 2/ 258؛ شرح الزركشي 1/ 425؛ الإنصاف 3/ 648.

(3)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 252؛ معالم السنن 1/ 345؛ المغني 3/ 97؛ نيل الأوطار 3/ 11.

(4)

وخص الكلب بالأسود. انظر: المغني 3/ 97؛ الشرح الكبير 3/ 650؛ الفروع 2/ 258؛ الإنصاف 3/ 652.

(5)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 252؛ معالم السنن 1/ 345؛ المحلى 2/ 320؛ نيل الأوطار 3/ 10.

ص: 996

على أن مرور المرأة، والكلب، والحمار

وغير ذلك بين يدي المصلي لا يبطل صلاته ولا يقطعها.

ثم قال بعضهم: إن هذه الأدلة أقوي وأرجح، كما أن معها ما يدل على تأخرها، لذلك فهي مقدمة على ما يدل على قطع الصلاة إذا مر بين يدي المصلي الكلب والحمار والمرأة

(1)

.

وقال بعضهم: يجمع بين هذه الأدلة وبين ما يدل على قطع الصلاة، بأن المراد بعدم القطع أي أن ذلك لا يبطلها. وأما ما يدل على القطع فالمراد بها نقص الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أن الصلاة لا يقطعها إلا الكلب الأسود- بأدلة منها ما ذكر في دليل من قال بنسخ ما يدل على عدم قطع الصلاة بشيء.

ووجه الاستدلال منها: أن هذه الأدلة تدل على قطع الصلاة بمرور من ذكر فيها بين يدي المصلي، لكن تُرك العمل به في المرأة والحمار، أما في المرأة فلحديث عائشة، الذي سبق ذكره في دليل القول بنسخ ما يدل على قطع الصلاة بالكلب والحمار والمرأة. وأما في الحمار فلحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي سبق ذكره كذلك في دليل القول بنسخ ما يدل على قطع الصلاة بالمرأة

(1)

هذا ما قاله بعض الحنفية، وبعض المالكية. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 459 - 463؛ التمهيد 4/ 121؛ البناية 2/ 509.

(2)

هذا ما اختاره الشافعية. انظر: المجموع 3/ 161؛ فتح الباري 1/ 741.

ص: 997

والحمار والكلب، أما القطع بالكلب فلا معارض له، لأن ما روي في ذلك ففي كلها ضعف لا تقوى على معارضة ما يدل على أنه يقطع الصلاة، لذلك يجب العمل به، ثم الكلب وإن ذكر في بعض الأحاديث مطلقاً إلا أنه يقيده حديث أبي ذر رضي الله عنه وغيره بالأسود

(1)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة- بما سبق في دليل القول بنسخ ما يدل على عدم قطع الصلاة بشيء؛ حيث إنها صريحة في قطع الصلاة بمرور من

ذكر في تلك الأحاديث

(2)

.

قالوا: وأما ما يخالف هذه الأحاديث فإما غير صحيح أو غير صريح لذلك لا يعارض به هذه الأحاديث

(3)

.

واعترض عليه: بأن الأحاديث التي اُستدل منها على عدم قطع الصلاة وبطلانها بمرور أي شيء بين يدي المصلي، بعضها أحاديث صحيحة كحديث عائشة وابن عباس في المرأة والحمار، وهما قد استدلا بذلك على عدم قطع الصلاة بهما، وأما الأحاديث الباقية فليست كلها ضعيفة بل من أهل العلم من صحح بعضها أو حسنها، وهي بمجموعها تفيد أن لها أصلاً تصلح للاحتجاج بها، ثم ما صح عن عدد من الصحابة

(1)

انظر: المغني 3/ 100؛ الشرح الكبير 3/ 649؛ شرح الزركشي 1/ 425.

(2)

انظر: المغني 3/ 100؛ الشرح الكبير 3/ 649؛ شرح الزركشي 1/ 425.

(3)

انظر: المغني 3/ 97؛ الشرح الكبير 3/ 650؛ زاد المعاد 1/ 306.

ص: 998

-رضي الله عنهم موقوفاً يؤكدها و يقويها

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الأحاديث الواردة في قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب بين يدي المصلي صحيحة وصريحة، لذلك لو أعاد أحد الصلاة من مرور شيء ممن ذكر فيها بين يديه فيكون قد أحسن؛ عملاً بظاهر هذه الأحاديث، وخروجاً من خلاف أهل العلم.

إلا أن صلاته صحيحة ولا يبطلها مرور شيء بين يديه، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن القول بأن الأحاديث الدالة على قطع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار منسوخة له وجه؛ لأن تلك الأحاديث ذكر فيها قطع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار، ثم حديث ابن عباس رضي الله عنه في مرور الحمار بين يدي بعض الصف أو أمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولم يقطع صلاتهم وقول ابن عباس رضي الله عنه أنه لم ينكر ذلك عليه أحد، يدل أن القطع والإنكار كان أولاً، وأن عدم الإنكار وعدم قطع الصلاة بذلك متأخر عن ذلك، فهذا ما يفهم من كلام ابن عباس رضي الله عنه واستدلاله بعدم الإنكار عليه.

كما أن قول عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه: إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«لا يقطع الصلاة شيء» يدل أن عدم قطع

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 459 - 463؛ التمهيد 4/ 121؛ المجموع 3/ 161.

ص: 999

الصلاة بشيء كان بعد قطع الصلاة ببعض الأشياء، فيكون عدم القطع ناسخاً ومتأخراً عن القطع على مقتضى هذا الحديث

(1)

.

ثانياً: ولأن الأحاديث الدالة على عدم قطع الصلاة بمرور شيء أمام المصلي أخذ بمدلولها أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم

(2)

، وهو يدل على ثبوت أصل ذلك عندهم.

ثالثاً: ولأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل الأحاديث الدالة على عدم قطع الصلاة بمرور شيء على عدم البطلان، وحمل الأحاديث الدالة على القطع على نقص الخشوع، كما نقل ذلك عن الإمام الشافعي وغيره

(3)

.

أما ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على عدم قطع الصلاة بشيء، فلا وجه له، ولا يوجد ما يدل على تأخرها على ما يخالفها، كما سبق بيانه.

والله أعلم.

(1)

وقد سبق أن ابن حجر حسن سنده.

(2)

انظر: سنن الترمذي ص 93؛ التمهيد 4/ 121؛ المجموع 3/ 160.

(3)

انظر: المجموع 3/ 121؛ فتح الباري 1/ 741.

ص: 1000

‌المطلب السابع: قتال المار بين يدي المصلي

ذهب بعض الحنفية منهم الطحاوي

(1)

إلى أن قتال المصلي لمن يمر بين يديه كان ثم نسخ بنسخ الأفعال في الصلاة.

ويظهر منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف الفقهاء في المسألة هو اختلافهم في المراد بالقتال المذكور في الحديث

(2)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال:«إن في الصلاة شغلاً»

(3)

.

ثانياً: عن أم سلمة-رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سلمة، فقال بيده، فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت، فلما صلى قال:«هن أغلب»

(4)

.

(1)

وكذلك صرح بالنسخ ابن عابدين، ونقله عن بعض الحنفية، ويدل عليه كلام الكاساني. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 463؛ بدائع الصنائع 1/ 510، 552؛ حاشية ابن عابدين 2/ 347.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 463؛ التمهيد 5/ 33؛ المجموع 3/ 159؛ المغني 3/ 93.

(3)

سبق تخريجه في ص 600.

(4)

سبق تخريجه في ص 656.

ص: 1001

ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان»

(1)

.

رابعاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي سعيد وابن عمر-رضي الله عنهما-يدلان على قتال المار بين يدي المصلي إذا أبي إلا المرور بين يديه، والقتال ليس من أعمال الصلاة، ثم هو من العمل الكثير، وهو مما يفسد الصلاة، فدل ذلك أن حديثهما كان في الابتداء حين كان العمل في الصلاة مباحاً، ثم نهي عنه بحديث (إن في الصلاة شغلاً)، فيكون ما يدل عليه حديثهما منسوخاً بهذا الحديث، ويؤيده حديث أم سلمة-رضي الله عنها

(3)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال من حديث (إن في الصلاة شغلاً) على النسخ؛ لأن حديث (إن في الصلاة شغلاً) قيل: إنه صلى الله عليه وسلم قاله في

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 107، كتاب الصلاة، باب يرد المصلي من مر بين يديه، ح (509)، ومسلم في صحيحه 2/ 167، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (505)(259).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 167، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، ح (506)(260).

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 463؛ بدائع الصنائع 1/ 510؛ حاشية ابن عابدين 2/ 347.

ص: 1002

مكة قبل الهجرة

(1)

، أما قتال المصلي لمن يمر بين يديه فهو مذكور في حديث أبي سعيد وابن عمر-رضي الله عنهما، وهما قد كانا بعد النبي صلى الله عليه وسلم يريان مقاتلة من يأبى إلا المرور بين يدي المصلي، وهما أعلم بما روياه، فلو كان ذلك منسوخاً لما قالا به، كما أن أبو سعيد رضي الله عنه كان صغيراً عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة؛ حيث استصغر في غزوة أحد، فالظاهر أنه سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، فيكون ذلك متأخراً عن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في قتال المصلي لمن يمر بين يديه إذا أبى إلا المرور بينه وبين ما يستره على قولين:

القول الأول: أن المصلي لا يقاتله، وإنما يدفعه ويرده بالتسبيح أو بالإشارة، ونحو ذلك.

وهو قول الحنفية

(3)

، ونحوه قول المالكية

(4)

، ورواية عن الإمام أحمد

(5)

.

(1)

انظر: فتح الباري 1/ 745؛ شرح الزرقاني 1/ 345؛ حاشية ابن عابدين 2/ 367.

(2)

انظر: الإصابة 1/ 714.

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 509؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 1/ 408؛ العناية شرح الهداية 1/ 408؛ الدر المختار 2/ 347؛ حاشية ابن عابدين 2/ 347.

(4)

انظر: التمهيد 5/ 33؛ الاستذكار 2/ 264، 265؛ التاج والإكليل 2/ 235؛ مواهب الجليل 2/ 236.

(5)

انظر: المغني 3/ 93؛

ص: 1003

القول الثاني: أنه يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، وأن يدفع من يمر بينه وبينها ويرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد، فإن أصر فله قتاله

(1)

.

وهو مذهب الشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يقاتله- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أم سلمة وابن مسعود رضي الله عنهما.

وجه الاستدلال منهما: أن الحديث الأول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار ليدرأ المار بين يديه، ولم يقاتل من مر منهم بين يديه، والحديث الثاني يدل على أنه لا يجوز في الصلاة الأعمال التي ليس منها ويشغل عنها، والقتال ليس من أعمال الصلاة فلا يجوز في الصلاة، كما أن الأمر بدفع المار إنما يقصد به حفظ الصلاة عما ينقصها، والقتال يفسدها ويقطعها بالكلية، لذلك لا يقاتل

(4)

.

(1)

قال النووي في المجموع 3/ 159: (ويدفعه دفع الصائل بالأسهل ثم الأسهل، ويزيد بحسب الحاجة وإن أدى إلى قتله).

(2)

انظر: الوجيز وشرحه العزيز 2/ 55، 56؛ المجموع 3/ 159؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 167؛ روضة الطالبين ص 132؛ فتح الباري 1/ 734.

(3)

انظر: المغني 3/ 93؛ الفروع 2/ 258؛ حاشية ابن قندس على الفروع 2/ 258؛ منتهى الإرادات 1/ 61.

(4)

انظر: التمهيد 5/ 33؛ بدائع الصنائع 1/ 510؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 408؛ المغني 3/ 93.

ص: 1004

واعترض عليه: بأن حديث أم سلمة-رضي الله عنها-فيه ضعفاً

(1)

، ثم من مر بين يديه صغير مرفوع عنه القلم

(2)

.

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فلا تعارض بينه وبين ما يدل على قتال من يأبى إلا المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ليس المراد به العمل الكثير، ثم إن الشارع أباح له مقاتلته

(3)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن له أن يقاتله إذا أصر على المرور بين يديه- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما.

ووجه الاستدلال منهما ظاهر؛ حيث إنهما يدلان على أن للمصلي أن يقاتل من يمر بين يديه إذا أبى إلا المرور

(4)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو أن للمصلي مقاتلة من يصر على المرور بينه وبين السترة؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

راجع تخريجه.

(2)

انظر: المغني 3/ 93.

(3)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 166؛ فتح الباري 1/ 734.

(4)

انظر: المجموع 3/ 159؛ فتح الباري 1/ 734.

ص: 1005

أما ادعاء نسخه بحديث (إن في الصلاة شغلا) فلا يصح لما يلي:

أ-لأنه لا يوجد ما يدل على أن هذا الحديث متأخر عن تلك الأحاديث، بل قد يكون العكس صحيحاً كما سبق ذلك.

ب- ولأنه لو كان ذلك منسوخاً لما عمل به من رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، و الحال أن ابن عمر وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهما كانا يعملان به، حتى قال أبو سعيد رضي الله عنه (والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت)

(1)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 253، وروى في ص 254 عن عمرو بن دينار قال:(مررت بين يدي ابن عمر وهو في الصلاة فارتفع من قعود ثم دفع في صدري). وانظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 20 - 22.

ص: 1006

‌المطلب الثامن: الحكم إذا صلى وأمامه تصاوير

ذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة المصلي إذا صلى وأمامه تصاوير

(1)

كان أولاً لا بأس به، ثم نسخ ذلك ونُهي عنه.

وممن صرح بالنسخ: الحازمي

(2)

، وأبو حامد الرازي

(3)

، وأبو إسحاق الجعبري

(4)

.

ويستدل للقول بالنسخ: بحديث عائشة-رضي الله عنها أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدودة إلى سهوة

(5)

، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه، فقال:«أخريه عني» قالت: فأخرته فجعلته وسائد

(6)

.

وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: كان في بيتي ثوب فيه تصاوير،

(1)

التصاوير: التماثيل، والصورة التمثال. انظر: مختار الصحاح ص 327؛ المصباح المنير ص 350.

(2)

انظر: الاعتبار ص 218، 527.

(3)

انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 101.

(4)

انظر: رسوخ الأحبار ص 287.

(5)

السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً، شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل: هو كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 831؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 273.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 274، كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح (2107)(93). وأخرج البخاري قريباً منه في كتاب المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر، ح (2479).

ص: 1007

فجعلته إلى سهوة في البيت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليه، ثم قال:«يا عائشة أخريه عني» فنزعته فجعلته وسائد

(1)

.

والحديث يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جهة ذلك الثوب، وكان فيه تصاوير، ثم أمر بتأخيره وإزالته، فدل ذلك على النهي من ذلك، وعلى نسخ الصلاة إلى جهة فيها صورة

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى نهي الصلاة إلى ما فيه صور، وعلى كراهة ذلك.

منهم الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، والشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

.

وذلك:

أ-لحديث عائشة رضي الله عنها-الذي سبق ذكره في دليل القول

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 126، كتاب القبلة، باب الصلاة إلى ثوب فيه تصاوير، ح (761)، والدارمي في سننه-نحوه-2/ 369، والحازمي في الاعتبار ص 218، ص 527، وقال:(هذا حديث صحيح، وله طرق في الصحاح). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 126.

(2)

انظر: الاعتبار ص 527؛ رسوخ الأحبار ص 287.

(3)

إلا انهم استثنوا ما إذا كانت الصورة صغيرة بحيث لا تبدو للناظر. انظر: الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 415؛ العناية 1/ 414؛ البناية 2/ 546؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2/ 360.

(4)

انظر: التمهيد 16/ 136.

(5)

انظر: روضة الطالبين ص 130؛ مغني المحتاج 1/ 187؛

(6)

انظر: المغني 3/ 88؛ الفروع 2/ 276.

ص: 1008

بالنسخ.

ب-ولأن فيه تشبيه بعبادة غير الله

(1)

.

هذا والقول بنسخ الصلاة إلى ما فيه صورة، يصح لو كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه صورة عن قصد وإباحة، وإلا فيصح الاستدلال من حديث عائشة-رضي الله عنها-على النهي عن الصلاة إلى ما فيه صورة، ولا يصح الاستدلال منه على الإباحة ثم نسخ ذلك.

والله أعلم.

(1)

انظر: المغني 3/ 88.

ص: 1009

‌المبحث السادس: صلاة الجماعة

وفيه سبعة مطالب:

المطلب الأول: حكم صلاة الجماعة.

المطلب الثاني: موقف المأمومين إذا كانوا اثنين.

المطلب الثالث: حكم إذا صلى المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام.

المطلب الرابع: كيفية صلاة المأموم إذا صلى الإمام جالساً.

المطلب الخامس: القراءة خلف الإمام.

المطلب السادس: صلاة المفترض خلف المتنفل.

المطلب السابع: ما يعاد من الصلوات مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في رحله.

ص: 1010

‌المطلب الأول: حكم صلاة الجماعة

ذهب بعض أهل العلم إلى أن فرضية صلاة الجماعة كانت في أول الإسلام، ثم نسخ. حكاه القاضي عياض

(1)

وقواه ابن حجر

(2)

.

وتبين منه أن القول به أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف الفقهاء في المسألة هو اختلاف الآثار الواردة فيها

(3)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة»

(4)

.

(1)

هو: القاضي عياض بن موسى بن عياض، أبو الفضل، اليحصبي السبتي، المالكي، أحد الأعلام، سمع من أبي علي بن سكرة، وغيره، وولي قضاء سبتة مدة، ثم قضاء غرناطة، ومن مؤلفاته: إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم، وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة. انظر: الديباج المذهب 2/ 46؛ شجرة النور الزكية 1/ 140.

وانظر حكايته لقول النسخ في: إكمال المعلم 2/ 625؛ فتح الباري 2/ 159؛ نيل الأوطار 3/ 124.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 159؛ نيل الأوطار 3/ 124. ويدل عليه كذلك قول القرطبي في المفهم 2/ 279.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 272؛ فتح الباري 2/ 157 - 159.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 130، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ح (645)، ومسلم في صحيحه 3/ 457، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، ح (650)(249).

ص: 1011

وفي رواية عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين»

(1)

.

ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذِّ بخمس وعشرين درجة»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في الجماعة تضَعَّفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضِعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خَطْوةً إلا رفعت له بها درجة وحُطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة»

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً»

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 457، كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة، ح (650)(250).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 130، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ح (646).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 131، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ح (647)، ومسلم في صحيحه 3/ 456، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، ح (649)(246).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 455، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، ح (649)(245).

ص: 1012

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب ليُحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأُحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً

(1)

سميناً أو مرماتين

(2)

حسنتين لشهد العشاء»

(3)

.

خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعثٍ فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»

(4)

.

سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى

(5)

فقال: يا

(1)

العرق بالسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 192.

(2)

المرماة: ظلف الشاة، وقيل: ما بين ظلفيها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 696.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 130، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، ح (644)، ومسلم في صحيحه 3/ 457، كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة والتشديد في التخلف عنها، ح (651)(251).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 611، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، ح (3016).

(5)

هو ابن أم مكتوم، كما جاء مفسراً في بعض الروايات. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 459.

ص: 1013

رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَخِّص له فيصلي في بيته، فرخص له فلما ولَّى دعاه فقال:«هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم. قال: «فأجب»

(1)

.

سابعاً: عن محمود بن الربيع الأنصاري

(2)

أن عتبان بن مالك

(3)

رضي الله عنه كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكاناً اتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أين تحب أن أصلي؟» فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 459، كتاب المساجد، باب يجب إتيان المساجد على من سمع النداء، ح (653)(255).

(2)

هو: محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو، الأنصاري الخزرجي، أبو محمد، صحابي صغير، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الزهري، ورجاء بن حيوة، وغيرهما، وتوفي سنة تسع وتسعين. انظر: الإصابة 3/ 1795؛ تهذيب التهذيب 10/ 56؛ التقريب 2/ 163.

(3)

هو: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان، الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أنس، ومحمود بن الربيع، وغيرهما، وكان إمام قومه بني سالم، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 370؛ الإصابة 2/ 1226؛ تهذيب التهذيب 7/ 83.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 134، كتاب الأذان، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، ح (667)، ومسلم في صحيحه 2/ 84، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ح (33)(54).

ص: 1014

ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:

أولاً: إن الأحاديث الثلاثة الأول تدل على جواز صلاة الفذ؛ لأن فيها تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، والأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، فيثبت من ذلك أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفذ مع جواز صلاة الفذ، وإذا ثبت ذلك فتكون هذه الأحاديث ناسخة لفرضية صلاة الجماعة؛ لأن وجوب الجماعة تستلزم عدم جواز صلاة الفذ

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا يوجد دليل يثبت تأخر أحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ عن الأدلة التي تدل على وجوب صلاة الجماعة، حتى تكون ناسخة لها.

أما المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ فلا تدل على عدم وجوب صلاة الجماعة، بل تدل على صحة صلاة الفذ، ولا تنافي بين صحة صلاة الفذ وكون الجماعة واجبة

(2)

.

ثانياً: إن من الأدلة التي تدل على وجوب صلاة الجماعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه

التهديد بتحريق تارك الجماعة، والتعذيب بالناركان يجوز أولاً ثم نُسخ، يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي بعده:(وإن النار لا يعذب بها إلا الله)، فدل ذلك أن فرضية صلاة الجماعة كان أولاً

(1)

انظر: الاستذكار 2/ 131؛ فتح الباري 2/ 159؛ نيل الأوطار 3/ 125.

(2)

انظر: المغني 3/ 6، 7؛ فتح الباري 2/ 163.

ص: 1015

ثم نسخ بنسخ الوعيد المذكور في حقهم

(1)

.

واعترض عليه: بأنه لا يلزم من نسخ التعذيب بالنار نسخ وجوب الجماعة؛ لوجود أدلة أخرى تدل على الوجوب.

ثالثاً: إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأخير فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى في التخلف عن الجماعة، وقد انعقد الإجماع على سقوط حضور الجماعة عن ذوي الأعذار، والأعمى من جملتهم، ويدل عليه كذلك حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه، فدل ذلك أن التشديد في التخلف عن الجماعة كان أولاً، ثم نُسخ ذلك وخُفف فيه

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال:

القول الأول: أنها سنة مؤكدة.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، ووجه عند الشافعية

(5)

، ورواية عن الإمام أحمد

(6)

.

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 159، 6/ 192.

(2)

انظر: إكمال المعلم 2/ 625؛ المفهم للقرطبي 2/ 279؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 459.

(3)

انظر: مختصر القدوري ص 29؛ الهداية 1/ 344؛ الاختيار 1/ 47؛ مجمع الأنهر 1/ 107؛ الفتاوى الهندية 1/ 82.

(4)

انظر: الإشراف 1/ 291؛ الاستذكار 1/ 132؛ عقد الجواهر 1/ 189؛ جامع الأمهات ص 107؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 395؛ التاج والإكليل 2/ 395؛ الشرح الكبير للدردير 1/ 509.

(5)

انظر: الحاوي 2/ 302؛ المهذب 1/ 309؛ العزيز 2/ 141؛ المجموع 4/ 62.

(6)

انظر: الإنصاف 4/ 265.

ص: 1016

القول الثاني: أنها فرض كفاية.

وهو الصحيح من مذهب الشافعية

(1)

.

القول الثالث: أنها واجبة، ولكنها ليست شرطًا لصحة الصلاة.

وهو مذهب الحنابلة

(2)

، واختيار جماعة من الحنفية

(3)

، وقول ابن المنذر، وابن خزيمة من الشافعية

(4)

.

وروي نحوه عن ابن مسعود، وأبي موسى-رضي الله عنهما. وبه قال عطاء، والأوزاعي وأبو ثور

(5)

.

القول الرابع: أن الجماعة فرض عين، وشرط لصحة الصلاة.

وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية

(6)

، وقول داود وأهل الظاهر

(7)

.

(1)

انظر: الأم 1/ 277؛ الحاوي 2/ 302؛ المهذب 1/ 308؛ حلية العلماء 2/ 183؛ العزيز 2/ 141؛ المجموع 4/ 62، 63؛ مغني المحتاج 1/ 395.

(2)

انظر: الانتصار لأبي الخطاب 2/ 476؛ المغني 3/ 5؛ المحرر 1/ 91؛ الشرح الكبير 4/ 265؛ الممتع 1/ 540؛ الإنصاف 4/ 265؛ زاد المستقنع ص 16.

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 384؛ فتح القدير 1/ 344؛ البحر الرائق 1/ 365؛ الدر المختار 2/ 247.

(4)

انظر: الأوسط 4/ 132؛ المجموع 4/ 63؛ مغني المحتاج 1/ 396.

(5)

انظر: المغني 3/ 5؛ الشرح الكبير 4/ 265؛ المجموع 4/ 63.

(6)

انظر: الاختيارا ت الفقهية ص 67؛ الإنصاف 4/ 265.

(7)

انظر: المحلى 3/ 104، 107؛ الاستذكار 2/ 132؛ المجموع 4/ 63.

ص: 1017

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن الجماعة سنة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث الثلاثة الأول التي سبقت في دليل القول بالنسخ.

ثانياً: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشىً، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام»

(1)

.

ثالثاً: عن يزيد بن الأسود العامري

(2)

رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه

صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال:«عليّ بهما» فجيء بهما تُرعدُ فرائصهما

(3)

، فقال:«ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال:«فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 131، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، ح (651)، و مسلم في صحيحه 3/ 470، كتاب المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، ح (662)(277).

(2)

هو: يزيد بن الأسود، ويقال: ابن أبي الأسود، العامري، حليف قريش، صحابي، سكن الطائف، وروى عن

النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه جابر. انظر: الإصابة 3/ 2103؛ تهذيب التهذيب 11/ 271.

(3)

الفرائص جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها لا تزال ترعد. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 358؛ مختار الصحاح ص 438.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 96، كتاب الصلاة، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، ح (575)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 64، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة، ح (219)، والنسائي في سننه ص 142، كتاب الإمامة، باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده، ح (858)، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 421، وأحمد في المسند 29/ 18، وابن حبان في صحيحه ص 507، والدارقطني في سننه 1/ 414، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 427. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 29: (وصححه ابن السكن) ثم قال: (وقال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قلت: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 64.

ص: 1018

رابعاً: عن محجن

(1)

رضي الله عنه أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُذِّن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم رجع، ومحجن في مجلسه لم يصل معه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟» فقال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا جئت فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت»

(2)

.

(1)

هو: محجن بن أبي محجن الدئلي، صحابي قليل الحديث، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه بسر، ويقال إنه كان في سرية حارثة بن زيد إلى حسمى سنة ست من الهجرة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 52؛ الإصابة 3/ 1772؛ تهذيب التهذيب 10/ 48.

(2)

أخرجه النسائي في سننه ص 142، كتاب الإمامة، باب إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه، ح (857)، ومالك في الموطأ-واللفظ له- 1/ 127، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 431، وأحمد في المسند 26/ 318، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 362، وابن حبان في صحيحه ص 709، والدارقطني في سننه 1/ 415، والحاكم في المستدرك 1/ 371، وقال:(صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 142. وقد تفرد بسر بن محجن بهذه الرواية عن أبيه، قال الذهبي: غير معروف. وقال ابن حجر: صدوق. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 309؛ التقريب 1/ 125.

ص: 1019

ويستدل منها على أن صلاة الجماعة سنة وليست بفرض بالوجوه الآتية:

أولاً: إن بعض هذه الأحاديث يدل على أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفذ، فدل ذلك على جواز الصلاة بدون جماعة، وإذا ثبت ذلك دل ذلك على أن الجماعة سنة ليست فريضة؛ لأنها لو كانت فريضة لما صح صلاة الرجل بدون جماعة

(1)

.

ثانياً: إن بعض هذه الأحاديث فيه أن بعض الصحابة-رضي الله عنهم صلوا بغير جماعة، ثم أدركوا الجماعة فلم يصلوها جماعة، فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاتهم بغير جماعة، وإنما أنكر عليهم عدم إعادتهم الصلاة جماعة إذ أدركوها، فدل ذلك على أن صلاة الجماعة سنة وليست فرضاً وإلا لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك

(2)

.

واعترض عليه: بأن غاية هذه الأدلة هي صحة صلاة من صلى وحده، وأن الجماعة ليست شرطاً لصحة الصلاة، ولا يلزم من الوجوب الاشتراط،

(1)

انظر: الاستذكار 2/ 131؛ المفهم للقرطبي 2/ 277؛ البناية 2/ 383؛ نيل الأوطار 3/ 128.

(2)

انظر: المغني 3/ 5؛ الشرح الكبير 4/ 266؛ نيل الأوطار 3/ 128.

ص: 1020

فهي واجبة ولكن ليست بشرط لصحة الصلاة

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنها فرض كفاية- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها بيان أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفذ؛ حيث إنها تدل على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين؛ لأن المفاضلة إنما تكون حقيقتها بين فاضلين جائزين

(2)

.

ثانياً: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاةُ إلا استحوذ

(3)

عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب

القاصية

(4)

(5)

.

فهذا يدل على وجوبها، لكن صرفه عن الوجوب العيني الأحاديث التي

(1)

انظر: المغني 3/ 6.

(2)

انظر: الحاوي 2/ 298؛ المجموع 4/ 64.

(3)

استحوذ عليهم، أي استولى عليهم، وحواهم إليه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 448.

(4)

القاصية أي المنفردة عن القطيع، البعيدة عنه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 465.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه ص 91، كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة، ح (547)، والنسائي في سننه ص 140، كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الجماعة، ح (847)، وابن حبان في صحيحه ص 639، والحاكم في المستدرك 1/ 374، وقال:(صحيح). ووافقه الذهبي. وكذلك صححه النووي، وحسنه الشيخ الألباني. انظر: المجموع 4/ 61؛ صحيح سنن أبي داود ص 91؛ صحيح سنن النسائي ص 140.

ص: 1021

تدل على أفضلية الجماعة على صلاة الفذ؛ حيث أن تفضيل أحد الفعلين يشعر بتجويزهما جميعاً

(1)

.

واعترض عليه: بأن صلاة الجماعة لو كانت فرض كفاية لما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من تخلف عنها مع أنه قد حضرها مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن صلاة الجماعة واجبة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} الآية

(3)

.

ولو لم تكن الجماعة واجبة لرخص في تركها في حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها

(4)

.

ثانياً: ما سبق في دليل القول الثاني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه،

(1)

انظر: الحاوي 2/ 298؛ العزيز 2/ 141؛ المجموع 4/ 26، 64.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 157؛ أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة للدكتور عبد المحسن المنيف ص 53.

(3)

سورة النساء، الآية (102).

(4)

انظر: المغني 3/ 5؛ الشرح الكبير 4/ 267.

ص: 1022

وفيه: (فعليك بالجماعة) فإن فيه الأمر بالجماعة، وظاهر الأمر للوجوب

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب ليُحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأُحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء»

(2)

.

فهذا الحديث ظاهر في وجوبها، إذ لو كانت غير واجبة لما توعد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، فدل على أنها واجبة

(3)

.

واعترض عليه:

أ- بأن الحديث ورد في حق المنافقين، وسياق الحديث يقتضي ذلك، إذ لا يظن بالمؤمنين من الصحابة-رضي الله عنهم أنهم يؤثرون العظم السمين على حضور الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، لذلك لا يصح الاستدلال منه على الوجوب

(4)

.

(1)

انظر: الشرح الكبير 4/ 269.

(2)

سبق تخريجه في ص 679.

(3)

انظر: المحلى 3/ 106؛ بدائع الصنائع 1/ 384؛ فتح الباري 2/ 157.

(4)

انظر: الأم 1/ 277؛ إكمال المعلم 2/ 623؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ فتح الباري 2/ 158.

ص: 1023

وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الحكم على التخلف عن الصلاة، لا بخصوص المنافقين، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معرضاً عن عقوبتهم

(1)

.

ب-بأن المراد بالحديث من يتخلف عن الجمعة، كما جاء في بعض الروايات

(2)

.

وأجيب عنه: بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا تختص الصلاة فيها بالجمعة، والحديث في التخلف عن الجمعة حديث مستقل، فهما واقعتان، على أنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها

(3)

.

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَخِّص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما

ولَّى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم. قال: «فأجب»

(4)

.

وإذا لم يرخص للأعمى الذي لا يجد قائداً في التخلف عنها فغيره أولى

(5)

.

خامساً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: (من سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي

(1)

انظر: المحلى 3/ 107؛ فتح الباري 2/ 158.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 159.

(3)

انظر: المغني 3/ 6؛ فتح الباري 2/ 159.

(4)

سبق تخريجه في ص 672.

(5)

انظر: المغني 3/ 6؛ الشرح الكبير 4/ 268.

ص: 1024

هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى

(1)

بين الرجلين حتى يقام في الصف)

(2)

.

وهذا يدل على أن التخلف عن الجماعة من صفات المنافقين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، فدل ذلك على وجوبها

(3)

.

سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له، إلا من عذر»

(4)

.

(1)

يهادى بين الرجلين، أي يمشى بينهما معتمداً عليهما، من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها إذا تمايلت. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 900.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 460، كتاب المساجد، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، ح (654)(257).

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 158.

(4)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 150، كتاب المساجد والجماعة، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، ح (793)، والدارقطني في سننه 1/ 420، والحاكم في المستدرك 1/ 372، وابن حزم في المحلى 3/ 105، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 248. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 337: (وهو كما قالا)، ونقل عن ابن حجر أنه قال:(إسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه)، قال: قلت: (ولا مبرر لهذا الترجيح، فإن الذين رفعوه جماعة الثقات تابعوا هشيماً عليه).

ص: 1025

وهذا يؤكد كونها واجبة؛ حيث جعل الصلاة بدون جماعة كالعدم إذا كانت بغير عذر.

فهذه الأدلة تدل على وجوب صلاة الجماعة، ولكنها ليست شرطاً لصحة الصلاة بدليل الأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ

(1)

.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع-وهو أن الجماعة فرض عين وشرط لصحة الصلاة-بأدلة القول السابق

(2)

.

ووجه الاستدلال منها: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد من تخلف عنها بالتحريق، ولم يرخص للأعمى في التخلف عنها، وبين أنه لا صلاة لمن سمع النداء ثم لم يجب وليس له عذر، فدل ذلك على وجوبها، وعدم صحة صلاة من صلى بدون جماعة وليس له عذر

(3)

.

وأجاب هؤلاء عن الأحاديث التي تدل على تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ: بأن المراد بها من له عذر، أي أنهم تصح صلاتهم إذا صلوها بغير جماعة، ويكون صلاة من صلاها بجماعة أفضل من صلاتهم بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة

(4)

.

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 384؛ المغني 3/ 6؛ الشرح الكبير 4/ 269، 270.

(2)

انظر: المحلى 3/ 104 - 107؛ المجموع 4/ 63.

(3)

انظر: المحلى 3/ 104 - 107.

(4)

انظر: المحلى 3/ 107.

ص: 1026

واعترض على هذا: بأن المعذور إذا صلاها بدون جماعة، وقد حبسه عنها العذر فإن له من الأجر كمن صلاها بجماعة

(1)

، بدليل:

أ- عن أبي موسى رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»

(2)

.

ب- عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد من الناس

يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه، فقال: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير، ما كان في وثاقي»

(3)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ وجوب صلاة الجماعة، قول له احتمال؛ لأمرين:

أ-لأن حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه يظهر منه أنه بعد حديث الأعمى الذي لم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجماعة، يؤكد ذلك الإجماع على عدم وجوب صلاة الجماعة على أصحاب الأعذار، كما سبق ذكره.

ب- لأن حديث أبي هريرة في التخلف عن صلاة الجماعة فيه تهديد

(1)

انظر: الحاوي 2/ 300.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 607، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، ح (2996).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 11/ 20، والحاكم في المستدرك 1/ 499، وقال:(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 2/ 346: (صحيح على شرط مسلم).

ص: 1027

بتحريق المتخلفين عنها، والتعذيب بالنار قد نسخ، فيكون ذلك قبل نسخ التعذيب بالنار، كما سبق بيانه.

لكن هذا القول ضعيف؛ لأمرين:

أ- لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال

(1)

.

ب- لأن القول بالنسخ مبني على أن الأحاديث الدالة عل الوجوب معارضة بأحاديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وقد سبق أنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون صلاة الجماعة واجبة لأدلة الوجوب، ولكن لا تكون شرطاً لصحة الصلاة، لأحاديث التفضيل ونحوها.

ثانياً: إن الراجح هو القول الثالث، هو أن صلاة الجماعة واجبة وليست شرطاً لصحة الصلاة، وذلك لما يلي:

أ- لصراحة الأدلة الدالة عليه، وظهورها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

ب- ولأنه يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة- وذلك بحمل ما يدل على تفضيل صلاة الجماعة ونحوه على أن المراد به هو أنها ليست شرطاً لصحة الصلاة، وحمل غيره من الأدلة على الوجوب-، بخلاف الأقوال الأخرى، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: فتح الباري 1/ 745.

(2)

انظر: الاعتبار ص 495.

ص: 1028

‌المطلب الثاني: موقف المأمومين إذا كانوا اثنين

ذهب بعض أهل العلم إلى أن وقوف المأمومين إذا كانوا اثنين إلى جانبي الإمام كان أولاً، ثم نسخ ذلك، وأن موقفهما خلف الإمام

(1)

.

وممن قال بالنسخ وصرح به: الأثرم

(2)

، والبيهقي

(3)

، والحازمي

(4)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة في المسألة سبب آخر لاختلافهم فيها

(5)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي على عبد الله بالهاجرة، فأقام الصلاة فتأخرنا خلفه، فأخذ أحدنا بيمينه والآخر بشماله، فجعلنا عن يمينه وعن يساره، فلما صلى قال:«هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة»

(6)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 280؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 356؛ نيل الأوطار 3/ 180.

(2)

انظر: إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 255.

(3)

انظر: السنن الكبرى له 3/ 140.

(4)

انظر: الاعتبار ص 282.

(5)

انظر: بداية المجتهد 1/ 286؛ الاعتبار ص 280.

(6)

أخرجه أحمد في المسند 7/ 395، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له-1/ 306، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 140.

ص: 1029

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مُليكة

(1)

دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال:«قوموا فلأصلي لكم» ، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لُبِس فنضحته بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم

(2)

وراءه والعجوز من

ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف)

(3)

.

ثالثاً: حديث جابر رضي الله عنه الطويل، وفيه: «ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر

(4)

فتوضأ فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه»

(5)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقام يصلي، قال: فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذني فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء ابن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)

(6)

.

(1)

هي: مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد، الأنصارية، جدة أنس بن مالك، وأم أمه أم سليم. انظر: الإصابة 4/ 2638.

(2)

هو: ضُميرة ابن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجد حسين بن عبد الله بن ضميرة، وقيل: إنه ابن سعيد الحميري، وزعم عبد الغني المقدسي أن ضميرة هذا هو اليتيم الذي صلى مع أنس لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتهم. انظر: الإصابة 2/ 932؛ فتح الباري 1/ 616.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 83، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، ح (380)، ومسلم في صحيحه 3/ 466، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، ح (658)(266).

(4)

هو: جبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان، الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، شهد العقبة وبدراً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه شرحبيل بن سعد، وتوفي سنة ثلاثين. انظر: الإصابة 1/ 252.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 9/ 253، كتاب الزهد، باب حديث جابر الطويل، ح (3010).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه ص 104، كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به، ح (634)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 307؛ والحازمي في الاعتبار-واللفظ له- ص 281. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 104.

ص: 1030

ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:

أولاً: إن هذه الأحاديث المذكور فيها وقوف الاثنين خلف الإمام متأخرة عن حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه ذكر قيام الاثنين إلى جانبي الإمام؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه إنما تعلم هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وفيها التطبيق وأحكام أخرى هي الآن متروكة ومن جملتها هذا الحكم، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه، يدل عليه حديث أنس وجابر-رضي الله عنهما-لأن ذلك كان بعد الهجرة، وجابر رضي الله عنه إنما شهد المشاهد التي كانت بعد بدر

(1)

.

ثانياً: إن في قيام جبار بن صخر رضي الله عنه عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم كذلك دلالة على أن قيام الاثنين عن جانبي الإمام كان مشروعاً، وأنه استعمل الحكم

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 3/ 140؛ الاعتبار ص 280، 281؛ إعلام العالم لابن الجوزي ص 255؛ نيل الأوطار 3/ 180.

ص: 1031

الأول حتى منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم ودله على الحكم الثاني؛ حيث جعله مع جابر رضي الله عنه خلفه، فيكون هذا الحكم الثاني ناسخاً للحكم الأول؛ لأنه بعده

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في موقف الاثنين من الإمام إذا كانوا يصلون جماعة على قولين:

القول الأول: أن موقفهما خلف الإمام.

وهو مذهب الحنفية

(2)

، والمالكية

(3)

، والشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر-رضي الله عنهم، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء بن أبي رباح

(6)

.

القول الثاني: أن الإمام يقف بينهما، وهما إلى جانبيه.

روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو قول علقمة، والأسود، وإبراهيم النخعي

(7)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 281.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 308؛ مختصر القدوري ص 29؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 355 العناية 1/ 356؛ المختار وشرحه الاختيار 1/ 58؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 265.

(3)

انظر: الكافي ص 47؛ التمهيد 1/ 286؛ جامع الأمهات ص 112؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 469.

(4)

انظر: الأم 1/ 300؛ الحاوي 2/ 339؛ العزيز 2/ 174؛ المجموع 4/ 130.

(5)

انظر: المغني 3/ 53؛ الشرح الكبير 4/ 417؛ الفروع 3/ 38؛ منتهى الإرادات 1/ 82؛ منار السبيل 1/ 123.

(6)

انظر: الاعتبار ص 280؛ المغني 3/ 53.

(7)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 306؛ الاعتبار ص 280؛ المجموع 4/ 130.

ص: 1032

وبه قال أبو يوسف من الحنفية

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو أنهما يقفان خلف الإمام- بأدلة منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإن فيها دلالة ظاهرة على أن الاثنين يقفان خلف الإمام إذا كانوا يصلون

جماعة

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أنهما يقفان بجانبي الإمام-بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وفي رواية عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله رضي الله عنه، فقال: أصلى من خلفكم؟ قالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال:«هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

فهذا الحديث يدل على أن المأمومين إذا كانوا اثنين فإنهما يقفان إلى جانبي الإمام وهو يتوسطهما

(4)

.

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 390؛ الهداية 1/ 355.

(2)

انظر: المغني 3/ 53؛ المجموع 4/ 130.

(3)

سبق تخريجه في ص 558.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 306.

ص: 1033

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:

أولاً: لكثرة أدلته مع صحتها وصراحتها

(1)

.

ثانياً: ولأن القول بنسخ حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قيام الاثنين إلى جانبي الإمام إذا كانوا يصلون جماعة له وجه؛ حيث إنه ذُكر معه التطبيق، وهو كان في أول الإسلام. أما حديث أنس وجابر-رضي الله عنهما فبعد ا لهجرة بلا شك

(2)

.

ثالثاً: ولأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه رُوي مرفوعاً، ورُوي موقوفاً ثم يحتمل أموراً، منها: النسخ كما سبق بيانه. ومنها: أنه صلى كذلك لضيق المكان

(3)

والله أعلم.

(1)

انظر: الاعتبار ص 282.

(2)

انظر: الاعتبار ص 282.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 307؛ السنن الكبرى للبيهقي 3/ 140؛ الاعتبار ص 282؛ بداية المجتهد 1/ 287؛

بدائع الصنائع 1/ 391.

ص: 1034

‌المطلب الثالث حكم إذا صلى المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام

ذهب بعض أهل العلم إلى أن كون المسبوق

(1)

أن يصلي ما فاته أولاً ثم يدخل مع الإمام، كان أولاً ثم نسخ.

وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي

(2)

، والسرخسي

(3)

، والحازمي

(4)

، والكاساني

(5)

، وشيخ الإسلام ابن تيمية

(6)

.

وبقية أهل العلم وإن لم يصرحوا بالنسخ إلا أنهم لا خلاف بينهم في أن المسبوق إذا دخل مع الإمام في الصلاة فإنه يتابعه، ويصنع كما يصنع، ثم يقضي ما سبقه به إذا سلم الإمام

(7)

.

(1)

المسبوق هو الذي لم يدرك أول الصلاة مع الإمام. بدائع الصنائع 1/ 563. وانظر: التعريفات الفقهية لمحمد عميم ص 203.

(2)

انظر: الاعتبار ص 278.

(3)

انظر قوله في: المبسوط 1/ 40.

(4)

انظر: الاعتبار ص 276.

(5)

انظر: يدائع الصنائع 1/ 563.

(6)

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 415.

(7)

انظر: سنن الترمذي ص 151؛ "المبسوط 1/ 40؛ بدائع الصنائع 1/ 563؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 299"؛ " الكافي لابن عبد البر ص 48؛ جامع الأمهات ص 112؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 472؛ التاج والإكليل 2/ 472"؛ " الأم 1/ 311؛ الاعتبار ص 278؛ العزيز 2/ 203؛ روضة الطالبين ص 167؛ مغني المحتاج 1/ 257"؛ "المغني 2/ 183، 184؛ الشرح الكبير 4/ 298؛ منتهى الإرادات 1/ 76".

ص: 1035

ويستدل لما سبق بما يلي:

أولاً: حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: وحدثنا أصحابنا- إلى أن قال: - (وكان الرجل إذا جاء يسأل فيُخبرُ بما سُبق من صلاته، وإنهم قاموا مع رسول الله من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء معاذ فأشاروا إليه، فقال معاذ: لا أراه على حال إلا

كنت عليها، قال: فقال: «إن معاذاً قد سنّ لكم سُنَّةً كذلك فافعلوا»

(1)

.

وفي رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنا نأتي الصلاة إذ جاء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة أشار إليه بالذي يليه: قد سُبقت بكذا وكذا، فيقضي، قال: فكنا بين راكع، وقائم، وقاعد، فجئت يوماً وقد سُبقت ببعض الصلاة، وأُشير إليَّ بالذي سُبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلا كنت عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها، فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت فصليت، واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال:«من القائل كذا وكذا؟» ، قالوا: معاذ بن جبل، فقال:«قد سَنَّ لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 85، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، ح (506). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 85:(صحيح).

(2)

أخرجه الإمام احمد في مسنده 26/ 363، والحازمي في الاعتبار-واللفظ له- ص 277. قال ابن حجر في التلخيص 2/ 42:(عبد الرحمن لم يسمع من معاذ، لكن رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا-فذكره-).

ص: 1036

ثانياً: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسعَون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا»

(2)

.

رابعاً: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر هذه القصة

(3)

، قال:

فأتينا الناس وعبد الرحمن بن عوف يصلي بهم الصبح، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتأخر، فأومأ إليه أن يمضي، قال: فصليت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم خلفه ركعة، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الركعة التي سُبق بها، ولم يزد عليها شيئاً)

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه ص 151، كتاب الصلاة، باب ما ذُكر في الرجل يُدرك الإمام وهو ساجد كيف يصنع؟ ح (591)، والحازمي في الاعتبار ص 276. قال الترمذي:(هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 42: (فيه ضعف وانقطاع) ثم ذكر رواية أحمد وأبي داود عن ابن أبي ليلى عن معاذ، وهو الحديث السابق. وحديث معاذ هذا صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 151.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 179، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، ح (908)، ومسلم في صحيحه 3/ 410، كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، ح (602)(151).

(3)

المراد بهذه القصة هي ما ذكرت في الحديث الذي ذكره أبو داود قبل هذا الحديث وهو خروجهم في غزوة

تبوك، وأنه وضَّأ النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين.

(4)

أصله في الصحيحين، وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه ص 28، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، ح (152). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 28.

ص: 1037

وجه الاستدلال منها

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر، حيث إن بعض هذه الأدلة يدل أنه كان أولاً إذ جاء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة قضى ما سُبق به ثم يدخل مع الإمام، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من جاء وقد سُبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام ويصنع كما يصنع الإمام، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به.

وبعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبق بركعة صلى مع الإمام ما أدركه ثم قضى ما فاته، وأنه أمر كل من سُبق بشيء من الصلاة أن يصلي مع الإمام ما أدركه وأن يقضي ما فاته.

فثبت من هذا كله نسخ أن يصلي المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام، وأن المسبوق إذا جاء يدخل مع الإمام، ويصنع كما يصنع الإمام، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام

(1)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: الاعتبار ص 276 - 278؛ بدائع الصنائع 1/ 563؛ نيل الأوطار 3/ 152، 153.

ص: 1038

‌المطلب الرابع كيفية صلاة المأموم إذا صلى الإمام جالساً

ذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة المأموم جالساً إذا كان الإمام يصلي جالساً لعذر قد نسخ؛ لذلك إذا كان الإمام يصلي جالساً لعذر فإن المأمومين يصلون خلفه قياماً لا قعوداً

(1)

.

وممن روي عنه القول بالنسخ أو قال به: عبد الله بن المبارك

(2)

، والإمام الشافعي

(3)

، والحميدي

(4)

، والبيهقي

(5)

، وابن عبد البر

(6)

، والسرخسي

(7)

، والحازمي

(8)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد الأسباب الرئيسيَّة لاختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها

(9)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً فصُرع عنه

(1)

انظر: الاعتبار ص 268؛ المجموع 4/ 115؛ فتح الباري 2/ 218.

(2)

انظر: الاعتبار ص 286.

(3)

انظر: الأم 1/ 303؛ الرسالة للإمام الشافعي ص 254؛ الاعتبار ص 289.

(4)

انظر: صحيح البخاري ص 139؛ فتح الباري 2/ 218.

(5)

انظر: السنن الكبرى له 3/ 114.

(6)

انظر: التمهيد 4/ 271.

(7)

انظر: المبسوط 1/ 214.

(8)

انظر: الاعتبار ص 286، 287.

(9)

انظر: بداية المجتهد 1/ 294؛ الاعتبار ص 286.

ص: 1039

فجُحِشَ

(1)

شِقُّه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قال:«إنما جُعل الإمام ليؤتَمّ به فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد. وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون»

(2)

.

ثانياً: عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلَمّا سلّم قال:«إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمتكم إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً»

(3)

.

ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يُؤْذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» ، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناسَ، فلو أمرت عمر. فقال:«مروا أبا بكر أن يصلي بالناس» فقلت لحفصة: قولي

(1)

جُحش أي انخدش جلده. النهاية في غريب الحديث 1/ 236.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 139، كتاب الأذان، باب إنما جُعل الإمام ليؤتَمّ به، ح (689)، ومسلم في

صحيحه 3/ 233، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، ح (411)(77).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 234، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، ح (413)(84).

ص: 1040

له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لم يُسمع الناس فلو أمرت عمر. فقال:«إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس» فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فقام يُهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه

(1)

.

رابعاً: حديث ابن عباس رضي الله عنه وفيه: ثم جاء بلال يُؤْذنه بالصلاة، فقال:«مروا أبا بكر فليصل بالناس» قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق حَصِر

(2)

، ومتى لا يراك يبكي، والناس يبكون، فلو أمرت عمر يصلي بالناس. فخرج أبو بكر فصلى بالناس، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفَّة، فخرج يُهادى بين رجلين، ورجلاه تخُطَّان في الأرض، فلما رآه الناس سَبّحوا بأبي بكر، فذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أي مكانك، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عن يمينه، وقام أبو بكر، وكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 143، كتاب الأذان، باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، ح (713)، ومسلم في صحيحه 3/ 240، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، ح (418)(95).

(2)

الحصر الحبس والمنع، يقال حصر القارئ أي مُنع القراءة فهو حصر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 386؛ المصباح المنير ص 121.

ص: 1041

يأتَمُّون بأبي بكر. قال ابن عباس: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أنس، وجابر-رضي الله عنهما-يدلان على أن المأمومين يصلون قعوداً إذا كان الإمام يصلي جالساً، وحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم-فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً، وصلى أبو بكر رضي الله عنه والصحابة-رضي الله عنهم-خلفه قياماً، وهذا كان في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على نسخ صلاة المأمومين قعوداً إذا كان الإمام يصلى قاعداً لعذر؛ لأن صلاة الصحابة-رضي الله عنهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قعوداً لما صلى قاعداً وأمره لهم بالقعود إذا صلى الإمام قعوداً كان قبل ذلك؛ وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

واعترض عليه: بأن الإمام في تلك الصلاة كان أبو بكر رضي الله عنه وهو كان يصلي قائماً فصلى الناس خلفه قياماً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان فيها مأموماً، يدل على ذلك:

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 220، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، ح (1235)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 405، وابن عبد البر في التمهيد 4/ 284، ونحوه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 115. وصححه ابن عبد البر، وحسنه ابن حجر والشيخ الألباني. انظر: التمهيد 4/ 284؛ فتح الباري 2/ 217؛ صحيح سنن ابن ماجة ص 219.

(2)

انظر: الأم 1/ 303؛ الرسالة للشافعي ص 254؛ شرح معاني الآثار 1/ 405؛ التمهيد 4/ 271؛ الاستذكار 2/ 169؛ الاعتبار ص 288.

ص: 1042

أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً»

(1)

.

ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: «آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم، صلى في ثوب

واحد متوَشِّحاً

(2)

، خلف أبي بكر رضي الله عنه)

(3)

.

وأجيب عنه: بأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر رضي الله عنه كان في غير تلك الصلاة في مرضه، فهما واقعتان لا واحدة، ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام لا أبو بكر: ما ذكر في حديث عائشة-رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر رضي الله عنه وهو موقف الإمام، وكما جاء في بعض الأحاديث من أنه صلى الله عليه وسلم أخذ القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر، فدل ذلك أنه

(1)

أخرجه الترمذي في سننه ص 99، أبواب الصلاة، باب منه، ح (362)، والسنائي في سننه ص 130، كتاب الإمامة، باب صلاة الإمام خلف رجل من رعيته، ح (786)، الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 406، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 117. وصححه الترمذي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 99؛ صحيح سنن الترمذي ص 99.

(2)

التوشّح بالثوب: هو أن يدخله تحت إبطه الأيمن ويلقيه على منكبه الأيسر كما يفعله المحرم، ويقال: توشّح بثوبه أي تغشّى به. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 850؛ المصباح المنير ص 542.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه ص 99، أبواب الصلاة، باب منه، ح (363)، والسنائي في سننه-واللفظ له-ص 130، كتاب الإمامة، باب صلاة الإمام خلف رجل من رعيته، ح (785)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 406، وصححه الترمذي والشيخ الألباني. انظر: صحيح سنن الترمذي ص 99.

ص: 1043

-صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، وقد صلوا خلفه قياماً

(1)

.

واعترض عليه كذلك: بأنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى النسخ، وهنا أمكن الجمع بينها، وذلك بحمل حديث عائشة وابن عباس-رضي الله عنهم الذين سبق ذكرهما على ما إذا بدأ الإمام قائماً ثم حصلت له علة، فإن من خلفه يتمُّون صلاتهم قياماً، أما إذا بدأ الإمام الصلاة قعوداً فإن المأمومين يصلون خلفه قعوداً؛ للأحاديث الدالة على ذلك

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صلاة المأموم وكيفيتها إذا كان الإمام يصلي قاعداً لعذر على ثلاثة أقوال:

القول الأول: تجوز الصلاة خلف الإمام القاعد، لكن من ليس له عذر فلا يجوز له أن يصلي خلفه قعوداً.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 407؛ السنن الكبرى للبيهقي 3/ 118؛ التمهيد 4/ 280. قال البيهقي في سننه 3/ 118: (وذهب موسى بن عقبة في مغازيه إلى أن أبا بكر صلى من صلاة الصبح يوم الاثنين ركعة، وهو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فصلى مع أبي بكر ركعة، فلما سلم أبو بكر قام فصلى الركعة الأخرى. فيحتمل أن تكون هذه الصلاة مراد من روى أنه صلى خلف أبي بكر في مرضه، فأما الصلاة التي صلاها أبو بكر خلفه في مرضه فهي صلاة الظهر يوم الأحد أو يوم السبت، كما روينا عن عائشة وابن عباس في بيان الظهر، فلا تكون بينهما منافاة، ويصح الاحتجاج بالخبر الأول).

(2)

انظر: المغني 3/ 62؛ فتح الباري 2/ 218؛ نيل الأوطار 3/ 172.

ص: 1044

وهو مذهب الحنفية

(1)

، ورواية عن الإمام مالك

(2)

، ومذهب الشافعية

(3)

، وقول سفيان الثوري، وأبي ثور، والحميدي

(4)

.

القول الثاني: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد، فلا يصلي خلفه لا قائماً ولا قاعداً.

وهو مذهب المالكية

(5)

، وقول محمد بن الحسن من الحنفية

(6)

.

القول الثالث: لا تصح الصلاة خلف الإمام العاجز عن القيام إلا إمام الحيّ المرجُوّ زوال علته فتصح، ويصلون خلفه جلوساً ندباً، وإن اعتل الإمام في أثنائها فجلس فإن من خلفه يتمُّونها قياماً وجوباً.

وهو مذهب الحنابلة

(7)

. وروي القول بالصلاة قعوداً خلف الإمام إذا صلى قاعداً عن: جابر بن عبد الله، وأبي هريرة، و أسيد بن حضير، وقيس بن قَهد

(8)

-رضي

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 408؛ مختصر القدوري ص 30؛ المبسوط 1/ 213؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/ 290.

(2)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 292؛ التمهيد 4/ 281.

(3)

انظر: الأم 1/ 303؛ مختصر المزني ص 36؛ الحاوي ص 306؛ المجموع 4/ 114.

(4)

انظر: الحاوي 2/ 306؛ المجموع 4/ 114.

(5)

انظر: الإشراف 1/ 292؛ التمهيد 4/ 281؛ بداية المجتهد 1/ 294؛ جامع الأمهات ص 109؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 419.

(6)

انظر: الحجة 1/ 128؛ شرح معاني الآثار 1/ 408؛ المبسوط 1/ 213؛ حاشية ابن عابدين 2/ 290.

(7)

انظر: المغني 3/ 60، 64؛ الشرح الكبير 4/ 375؛ الفروع 3/ 33؛ شرح الزركشي 1/ 415؛ الإنصاف 4/ 375، -377؛ زاد المستقنع ص 17؛ منتهى الإرادات 1/ 80.

(8)

هو: قيس بن قهد الأنصاري، له صحبة، وشهد بدراً، وروى عنه قيس بن أبي حازم، وسليم بن قيس. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 24؛ الإصابة 3/ 1644.

ص: 1045

الله عنهم-

(1)

.

وهو قول الأوزاعي، وحماد بن زيد

(2)

، وإسحاق وابن المنذر، وابن خزيمة، وابن حبان

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنهم يصلون خلفه قياماً-بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.

ووجه الاستدلال منهما: أن الصحابة-رضي الله عنهم صلوا قياماً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كان يصلي قاعداً، فدل ذلك أن المأمومين يصلون قياماً إذا كان الإمام يصلي جالساً لعذر. ويؤكد ذلك أن القيام ركن من أركان الصلاة، فإذا أطاقه الإمام صلى قائماً وكان ذلك فرضه، وإذا لم يطقه صلى جالساً وكان ذلك فرضه، فكذلك يصلي المأمومون كما يطيقون

(4)

.

واعترض عليه: بأن الأحاديث التي فيها الأمر بالصلاة قعوداً إذا كان

(1)

انظر: التمهيد 4/ 280؛ المغني 3/ 61؛ فتح الباري 2/ 218.

(2)

هو: حماد بن زيد بن درهم، الأزديّ الجهضميّ أبو إسماعيل البصرى، مولى آل جرير بن حازم. ثقة، وروى عن: ثابت البناني، وأبي حازم، وغيرهما، وروى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، وغيرهما. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 9؛ التقريب 1/ 238.

(3)

انظر: المغني 3/ 61؛ المجموع 4/ 114؛ فتح الباري 2/ 218.

(4)

انظر: الأم 1/ 303؛ شرح معاني الآثار 1/ 408؛ التمهيد 4/ 270.

ص: 1046

الإمام يصلي قاعداً لم يختلف في سياقها، ثم هي صريحة في المراد بها، أما الأحاديث التي يستدل منها على صلاة المأموم قائماً إذا كان الإمام يصلي جالساً فهي تحتمل ذلك وغيره؛ حيث إنها تحتمل أنهم إنما صلوا قياماً لأن الإمام بدأ الصلاة قياماً، وإذا حملت تلك الأحاديث على هذا فلا تعارض بينها

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو عدم صحة الصلاة خلف من يصلي قعوداً- بما روي عن الشعبي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحد بعدي جالساً»

(2)

.

فهذا يدل على أنه لا يصح الصلاة خلف من يصلي قعوداً

(3)

.

واعترض عليه: بأنه ضعيف لا تقوم به حجة

(4)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أنه إذا صلى إمام الحيّ جالساً صلوا خلفه جلوساً- بأدلة منها ما يلي:

(1)

انظر: المغني 3/ 62؛ فتح الباري 2/ 218؛ نيل الأوطار 3/ 172.

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 398، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 114. قال الدارقطني:(لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة). وقال ابن عبد البر في التمهيد 4/ 282

: (وهذا حديث مرسل ضعيف، لا يروى عن أحد من أهل العلم كتابته ولا روايته). وانظر كذلك المجموع 4/ 115؛ فتح الباري 2/ 217.

(3)

انظر: التمهيد 4/ 282؛ المجموع 4/ 114؛ فتح الباري 2/ 217.

(4)

راجع المصادر في الحاشية السابقة.

ص: 1047

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما؛ حيث إنهما يدلان على أن الإمام إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم حصلت له علة وجلس، فإن من خلفه يتمّون صلاتهم قياماً

(1)

.

ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أنس، وجابر-رضي الله عنهما؛ حيث إنهما يدلان على أن المأمومين يصلون قعوداً إذا كان الإمام يصلي جالساً.

ثالثاً: عن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال:«إنما جُعل الإمام ليؤتَمّ به فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً»

(2)

.

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة

الصف من حسن الصلاة»

(3)

.

(1)

انظر: المغني 3/ 62؛ شرح الزركشي 1/ 417؛ فتح الباري 2/ 218.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 139، كتاب الأذان، باب إنما جُعل الإمام ليؤتَمّ به، ح (688)، ومسلم في صحيحه 3/ 234، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، ح (412)(82).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 145، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ح (722)، ومسلم

في صحيحه 3/ 235، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، ح (414)(86).

ص: 1048

فهذه الأحاديث تدل على أن الإمام إذا صلى جالساً فإن من خلفه يتابعونه ويصلون جلوساً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به

(1)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ الصلاة قعوداً إذا كان الإمام يصلي جالساً له وجه؛ لأن الصحابة-رضي الله عنهم قد صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً في مرض موته صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان ذلك بعد ما بدأ أبو بكر رضي الله عنه بالصلاة قياماً واقتدى من خلفه به، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم تلك الصلاة وهو جالس، وهم خلفه قيام. وقد كان ذلك بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً). فيدل ذلك على نسخه؛ لأنه لا شك أن صلاتهم خلفه صلى الله عليه وسلم قياماً وهو قاعد كان بعد الأمر الأول.

إلا أن صلاتهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً في مرض موته صلى الله عليه وسلم يتطرق إليه احتمالات منها:

أ-أن يكون ذلك ناسخاً للأمر الأول.

ب- أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقعود لأنهم ابتدءوا الصلاة قياماً.

(1)

انظر: المغني 3/ 62؛ شرح الزركشي 1/ 415؛ فتح الباري 2/ 219.

ص: 1049

وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.

ثانياً: إن الراجح أن الإمام إذا صلى جالساً أن يصلي من خلفه جلوساً، لما يلي:

أ- لكثرة الأدلة الدالة على ذلك مع صحتها وصراحتها

(1)

.

ب-لعمل بعض الصحابة رضي الله عنهم على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان ذلك

منسوخاً لما عملوا به

(2)

.

ج-ولأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث كلها، وذلك إذا حملت الأحاديث الدالة على الأمر بالجلوس- إذا كان الإمام يصلي جالساً- على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة جلوساً، والأحاديث التي فيها صلاة الصحابة رضي الله عنهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً وهو قاعد في مرض موته، على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة قياماً ثم حصل له عذر فجلس، فإن من خلفه يتمونها قياماً، وعليها فلا تعارض إذَنْ بين النوعين من هذه الأحاديث، حيث حملت على حالتين، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها

(3)

.

ثالثاً: إنه يجوز الصلاة جلوساً خلف كل إمام إذا كان له حق الأسبقية على غيره وصلى جلوساً لعذر، فلا فرق في ذلك بين إمام الحيّ وغيره؛ لأن

(1)

انظر: التمهيد 4/ 269؛ فتح الباري 2/ 218.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 280؛ فتح الباري 2/ 219.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 218؛ نيل الأوطار 3/ 171.

ص: 1050

الأحاديث الواردة في الأمر بالجلوس إذا صلى الإمام جالساً مطلقة.

رابعاً: إذا مرض الإمام ولم يستطع أن يصلي قائماً، فإن الأولى أن يستخلف ويُقَدِّمَ من أحق بالإمامة من الأصحاء؛ وذلك خروجاً من خلاف أهل العلم، فإنه لا خلاف في جواز أن يؤم المفضول مع وجود من هو أفضل منه. أما إذا صلى هذا الإمام المعذور جالساً فإن صلاة من خلفه لا تصح عند بعض أهل العلم؛ لذلك يكون الأولى الخروج من الخلاف

(1)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المغني 3/ 60؛ المجموع 4/ 114.

ص: 1051

‌المطلب الخامس: القراءة خلف الإمام

ذهب بعض الحنفية إلى أن قراءة الفاتحة خلف الإمام قد نسخ

(1)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه بالقراءة قد نسخ، لذلك إذا كان الإمام يجهر بالقراءة فلا يقرأ من خلفه بل ينصت ويستمع

(2)

.

وذهب الحميدي إلى أنه لو ثبت الحديث الذي يدل على النهي عن قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، فإنه هو المنسوخ

(3)

.

وظهر منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة سبب آخر

(1)

انظر: المرقاة شرح المشكاة لملا علي القاري 1/ 533، 534؛ إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام لعبد الحيّ اللكنوي ص 291.

(2)

ذكر الحازمي الحديث الذي فيه انتهاء الصحابة عن القراءة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُجهر فيه، ثم ذكر أقوال أهل العلم في المسالة فقال:(وذهب بعضهم إلى أن المأموم يقرأ في صلاة السِّرِّ، ويسكت في صلاة الجهر، وإليه ذهب الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل وإسحاق. وزعم بعض من ذهب إلى هذا القول أن هذا الحديث ناسخ للحديث الآخر وهو قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب). انظر: الاعتبار ص 259 - 261.

وممن قال بنسخ القراءة خلف الإمام في الجهْريَّة الشيخ الألباني؛ حيث قال في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 98: (نسخ القراءة وراء الإمام في الجهرية).

(3)

انظر: الاعتبار ص 262، 267.

ص: 1052

لاختلافهم فيها

(1)

.

دليل من قال بنسخ القراءة خلف الإمام

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: «إني أقول مالي أُنازعُ

(2)

القرآن؟» قال: فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم

بالقراءة من الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 260؛ بداية المجتهد 1/ 298.

(2)

أنازع القرآن أي أجاذب في قراءته، كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه. والمنازعة المجاذبة في المعاني والأعيان. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 730.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 132، كتاب الصلاة، باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام، ح (826)، والترمذي في سننه ص 87، أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، ح (312)، والنسائي في سننه ص 152، كتاب الافتتاح، باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به، ح (919)، وابن ماجة في سننه ص 158، كتاب إقامة الصلوات، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، ح (848)، ومالك في الموطأ 1/ 94، وأحمد في المسند 12/ 212، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 217، وابن حبان في صحيحه ص 574، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 225. وحسنه الترمذي، وصححه أبو حاتم الرازي، وابن حبان، وابن القيم، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 87؛ تهذيب السنن لابن القيم 1/ 392، الجوهر النقي 2/ 227؛ تفسير ابن كثير 2/ 269؛ صحيح سنن الترمذي 87؛ حاشية صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني ص 99.

وفي سنده ابن أكيمة الليثي، قال الحميدي: هذا حديث رواه رجل مجهول، لم يرو عنه غيره قط. وقال البيهقي: في صحة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر؛ وذلك لأن رواية ابن أكيمة الليثي وهو رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 2/ 226.

ونقل ابن القيم في تهذيب السنن 1/ 392، كلام البيهقي ثم رد عليه فقال:(وقال غيره: هذا التعليل ضعيف، فإن ابن أكيمة من التابعين، وقد حدث بهذا الحديث ولم ينكره عليه أعلم الناس بأبي هريرة وهو سعيد بن المسيب، ولا يعلم أحد قدح فيه، ولا جرحه بما يوجب ترك حديثه). كما رد عليه ابن التركماني في الجوهر النقي 2/ 227، وذكر ابن عبد البر في التمهيد 3/ 173، عن ابن معين أنه قال: حسبك برواية ابن شهاب عنه، وقال: وقد روى عنه محمد بن عمرو وغيره. ثم قال ابن عبد البر: (والدليل على جلالته أن كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب، وسعيد يصغي إلى حديثه عن أبي هريرة).

ص: 1053

ثانياً: عن أبي العالية قال: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه حتى نزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فسكت القوم، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

ثالثاً: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا-إلى قوله- وإذا قرأ فأنصتوا»

(2)

.

(1)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 261، وقال:(حديث منقطع) وذكره الجصاص في أحكام القرآن 3/ 52، بدون إسناد، وهو منقطع كما قال الحازمي.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 224، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ح (404)(63).

ص: 1054

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا»

(1)

.

خامساً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 100، كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود، ح (604)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 152، كتاب الإمامة، باب تأويل قوله تعالى:{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} ح (922)، وابن ماجة في سننه ص 158، كتاب إقامة الصلوات، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، ح (846)، وأحمد في المسند 15/ 258، والداقطني في سننه 1/ 327. قال أبو داود في سننه ص 100:(وهذه الزيادة: (وإذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد)، والحديث صححه مسلم في صحيحه 3/ 224، والإمام أحمد في كما في التمهيد لابن عبد البر 3/ 181، 182. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 152:(حسن صحيح)، وقال في الإرواء 2/ 38: إن إسناده حسن.

(2)

روي هذا الحديث بطرق مختلفة مرفوعاً ومرسلاً. وقد أخرجه ابن ماجة في سننه 158، كتاب إقامة الصلوات، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، ح (850)، ومحمد بن الحسن في الموطأ ص 61، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 331، والإمام أحمد في المسند 23/ 12، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 217، والدارقطني في سننه 1/ 323، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 227. قال البخاري في كتابه خير الكلام ص 45:(هذا خبر لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق، وغيرهم؛ لإرساله وانقطاعه، رواه ابن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً). وكذلك صوب الدارقطني كونه مرسلاً في سننه 1/ 325. وقال البيهقي في السنن الكبرى 2/ 227: (هكذا رواه جماعة عن أبي حنيفة موصولاً، ورواه عبد الله بن المبارك عنه مرسلاً دون ذكر جابر، وهو المحفوظ). وقال ابن عبد البر في التمهيد 3/ 192: (ولم يسنده غير أبي حنيفة وهو سيئ الحفظ عند أهل الحديث، قد خالفه الحفاظ فيه: سفيان الثوري، وشعبة، وابن عيينه، وجرير، فرووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً، وهو الصحيح فيه الإرسال، وليس مما يحتج به).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/ 271: (هذا الحديث روي مرسلاً، ومسنداً، لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجة مسنداً، وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم).

وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 232: (مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة، وكلها معلولة). وقال في الفتح 2/ 301: (حديث ضعيف عند الحفاظ).

وقد صحح بعض طرقه بعض أهل العلم، فقال ابن التركماني في الجوهر النقي 2/ 228، عن سنده من طريق ابن أبي شيبة:(وهذا سند صحيح، وكذا رواه أبو نعيم عن الحسن بن صالح، عن أبي الزبير، ولم يذكر الجعفي، كذا في أطراف المزي، وتوفي أبو الزبير سنة ثمان وعشرين ومائة، ذكره الترمذي، وعمرو بن علي. والحسن بن صالح ولد سنة مائة، وتوفي سنة سبع وستين ومائة، وسماعه من أبي الزبير ممكن .. )

وقال ابن الهمام في فتح القدير 1/ 338: (واعترض المضعفون لرفعه مثل الدارقطني، والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل؛ لأن الحفاظ كالسفيانين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وأبي خالد الدالاني وجرير وعبد الحميد وزائدة وزهير رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة كذلك، فنقول: المرسل حجة عند أكثر أهل العلم- إلى أن قال: -وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه أبو حنيفة بسند صحيح-فذكره عن طريق محمد بن الحسن الذي رواه في الموطأ ثم قال: -وقولهم إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح، قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق، حدثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر رضي الله عنه قال-فذكره، ثم قال: -قال: وحدثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، ولم يذكر عن جابر، ورواه عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، وإسناد حديث جابر الأول صحيح على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه). وقال عبد الحيّ في إمام الكلام ص 217: (والحاصل أن طرق الحديث الذي نحن فيه، بعضها صحيح أو حسن، وبعضها ضعيف ينجبر ضعفه بغيرها من الطرق الكثيرة، فالقول بأنه حديث غير ثابت أو غير محتج به ونحو ذلك: غير معتد به).

وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/ 272: (أن الصواب فيه مرسل، ولكنه مرسل صحيح الإسناد). وقال في صحيح سنن ابن ماجة ص 158: (حسن).

ص: 1055

ويستدل منها على النسخ: بأن مجموع هذه الأدلة يثبت منها أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الأمر بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام، وجُعل قراءة الإمام قراءة للمأموم، وهو يشمل السر والجهر، فدل ذلك على نسخ القراءة خلف الإمام، ويؤكد ذلك أن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو

ص: 1057

هريرة رضي الله عنه متأخر الإسلام، فتكون هذه الأدلة بعد القراءة خلف الإمام و ناسخة له

(1)

.

واعترض عليه: بأنه إن أريد أن القراءة خلف الإمام غير الفاتحة كان يعمل به بعض

الصحابة-رضي الله عنهم فنُهي عنه وأُمر بالاستماع إلى قراءة الإمام، فهذا ما يدل عليه بعض ما سبق من الأدلة، أما إن أريد به أن قراءة الفاتحة وراء الإمام نسخ فهذا غير مسلم؛ لما يلي:

أ- إنه ثبت في أحاديث كثيرة النهي عن القراءة خلف الإمام، واستثني منه قراءة الفاتحة، كما جاء أحاديث تصرح بأن إنكار النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه عن القراءة خلف الإمام جاء بعد قراءة بعض الصحابة-رضي الله عنهم-خلفه غير الفاتحة

(2)

.

ب-إن القول بأن هذه الأدلة متأخرة عن الأدلة الدالة على قراءة الفاتحة خلف الإمام فتكون ناسخة لها مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وتأخر إسلام الراوي لا يدل على تأخر ما رواه؛ لاحتمال أن يكون سمعه من صحابي متقدم الإسلام

(3)

،

ج-إن الاستدلال بتأخر إسلام أبي هريرة رضي الله عنه، وبحديثه الذي فيه:(فانتهى الناس عن القراءة .. ) على النسخ غير صحيح؛ لأن ما رواه لو كان

(1)

انظر: المرقاة شرح المشكاة 2/ 301؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 291.

(2)

انظر: الاعتبار ص 267، وسيأتي بعض هذه الأحاديث في دليل القول الثالث.

(3)

انظر: إمام الكلام لعبد الحيّ ص 291 - 292،

ص: 1058

ناسخاً للقراءة خلف الإمام لما أفتى بخلافه، مع أنه أفتى بقوله:(اقرأ بها في نفسك). فدل ذلك على عدم النسخ

(1)

.

د-إنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين الأحاديث، وهنا أمكن الجمع بينها؛ لأن الأحاديث الدالة على النهي عن القراءة خلف الإمام عامة، والأحاديث الدالة على قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة، وبناء العام على الخاص واجب، فتكون هذه الأحاديث مخصصة لعمومها

(2)

.

دليل من قال بنسخ القراءة خلف الإمام في الجهْريَّة

أولاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقُلت عليه القراءةُ، فلما فرغ قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم» قلنا: نعم، هَذّاً

(3)

يا رسول الله. قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها»

(4)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 264؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 295.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 300؛ نيل الأوطار 3/ 216؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 295.

(3)

الهذّ: سرعة القطع. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 900.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 131، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، ح (823)، والترمذي في سننه ص 87، أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، ح (311)، والنسائي في سننه ص 152، كتاب الافتتاح، باب قراءة أم القرآن خلف الإمام فيما جهر فيه الإمام، ح (920)، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 760، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 215، والدارقطني في سننه 1/ 318. وحسنه الترمذي، والدارقطني. انظر: سنن الترمذي ص 87؛ سنن الدارقطني 1/ 318. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 231: (وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني، وابن حبان والحاكم والبيهقي).

وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 131، وضعيف سنن الترمذي ص 87.

ص: 1059

ثانياً: ما سبق من الأدلة في دليل القول السابق.

ويستدل منها على النسخ: بأن الحديث الأول ورواية أبي العالية يدلان على أنه كان يجوز للمؤتَمِّين أن يقرؤوا الفاتحة خلف الإمام في الجهريّة، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام، فنهاهم عن القراءة كلها خلف الإمام في الجهريّة، وقال: «مالي أنازع القرآن) فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة. فثبت من ذلك نسخ القراءة وراء الإمام في الجهريّة

(1)

.

ويعترض على هذا ما اعترض به وجه استدلال القول السابق.

دليل القول بأن المنسوخ هو ما يدل على النهي عن قراءة فاتحة الكتاب

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:«إني أقول مالي أُنازعُ القرآن؟» قال: فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات، حين سمعوا ذلك من

(1)

انظر: الاعتبار ص 260، 261؛ صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 98، 99.

ص: 1060

رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ثانياً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة

الكتاب»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي

خِداجٌ

(3)

ثلاثاً، غير تمام. فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه: إنّا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل

»

(4)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن الحديثين الأخيرين فيهما دلالة على لزوم قراءة فاتحة الكتاب لكل مصلٍ سواء كان إماماً أو مأموماً، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول يدل على النهي عن القراءة خلف الإمام، لكن الأحاديث الدالة على لزوم قراءة الفاتحة خلف الإمام متأخرة، يدل على ذلك قول أبي هريرة

(1)

سبق تخريجه في دليل القول الأول.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 151، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ح (756)، ومسلم في صحيحه 3/ 206، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ح (394)(34).

(3)

الخداج النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولده قبل أوانه، وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل. النهاية في غريب الحديث 1/ 473.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 207، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ح (395)(38).

ص: 1061

-رضي الله عنه للسائل: (اقرأ بها في نفسك) فإن هذا كان بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان النهي عن القراءة خلف الإمام متأخراً وناسخاً لما أمره أبو هريرة رضي الله عنه بالقراءة خلف الإمام، فثبت من ذلك أن الأمر بالقراءة بعد النهي عنه فيكون ناسخاً له

(1)

.

واعترض عليه: بأن أمر أبي هريرة رضي الله عنه بالقراءة خلف الإمام ليس لأنه هو المتأخر، وأنه الناسخ للنهي عن القراءة خلف الإمام، بل لأن الفاتحة مستثناة من عموم النهي عن القراءة خلف الإمام، فلو كان عنده تعارض بين الحديثين أو أن أحدهما ناسخ للآخر، لبينه، ولقال بالمتأخر منهما

(2)

.

هذه كانت أقوال القائلين بالنسخ، وأدلتهم.

وقد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يقرأ المؤتم خلف الإمام، لا فيما أسرّ، ولا فيما جهر.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، وروي ذلك عن: علي، وسعد، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وحذيفة بن يمان، وأبو سعيد، وابن عباس، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهم

(4)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 264؛ تحفة الأحوذي 2/ 246. 0

(2)

انظر: سنن الترمذي ص 87؛ الاعتبار ص 267؛ إمام الكلام لعبد الحي ص 186؛ تحفة الأحوذي 2/ 246.

(3)

انظر: شرح معاني الأثار 1/ 218؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 204؛ مختصر القدوري ص 29؛ بدائع الصنائع 1/ 294؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 338.

(4)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 330 - 331؛ التمهيد 3/ 191؛ المغني 2/ 266.

ص: 1062

وبه قال الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن بن حيّ

(1)

.

القول الثاني: يقرأ المؤتم مع الإمام فاتحة الكتاب فيما أسرّ فيه، ولا يقرأ فيما جهر فيه.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والحنابلة

(3)

، والقول القديم للإمام الشافعي

(4)

.

وروي نحو ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر-رضي الله عنهم

(5)

.

وبه قال سعيد بن المسيب، وسالم، وقتادة، والزهري، وابن المبارك، وإسحاق، وداود، وابن جرير

(6)

.

القول الثالث: يقرأ المؤتم خلف الإمام الفاتحة، سواء كان الصلاة سرية أم جهريّة.

وهو القول الجديد للإمام الشافعي، ومذهب الشافعية

(7)

، وروي ذلك

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 204؛ التمهيد 3/ 191؛ المغني 2/ 266.

(2)

انظر: الموطأ 1/ 94؛ التمهيد 3/ 177؛ بداية المجتهد 1/ 298؛ جامع الأمهات ص 94؛ التاج والإكليل 2/ 212.

(3)

انظر: المغني 2/ 259؛ الشرح الكبير 4/ 307؛ الممتع 1/ 549؛ شرح الزركشي 1/ 328؛ زاد المستقنع ص 16.

(4)

انظر: مختصر المزني ص 26؛ الحاوي 2/ 141؛ المجموع 3/ 223.

(5)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 327 - 329؛ التمهيد 3/ 177.

(6)

انظر: تفسير الطبري 6/ 199؛ التمهيد 3/ 177؛ المغني 2/ 259؛

(7)

انظر: مختصر المزني ص 26؛ الحاوي 2/ 141؛ العزيز 1/ 492؛ المجموع 3/ 198، 223.

ص: 1063

عن عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس-رضي الله عنهم. وبه قال عروة، وسعيد بن جبير

ومكحول، والحسن البصري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو ثور، وابن حزم

(1)

.

الأدلة

يستدل للقول الأول- وهو أن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام مطلقاً- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(2)

.

فهذه الآية في الصلاة، كما قاله غير واحد من أهل العلم

(3)

، وفيها الأمر بالاستماع والإنصات، والاستماع وإن لم يكن ممكناً عند المخافتة بالقراءة فالإنصات ممكن، لذلك لا يقرأ المؤتم خلف الإمام لا في الجهرية ولا في السرية

(4)

.

واعترض عليه: بأن المراد بالآية غير فاتحة الكتاب، فهي مستثناة من

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 205؛ التمهيد 3/ 185؛ المحلى 2/ 266؛ المجموع 3/ 225.

(2)

سورة الأعراف، الآية (204).

(3)

انظر: تفسير ابن جرير 6/ 196؛ التمهيد 3/ 178؛ المغني 2/ 261.

(4)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 294؛ إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام لعبد الحي ص 122.

ص: 1064

عمومها بدليل الأحاديث التي فيها الأمر بقراءتها خلف الإمام

(1)

.

ثانياً: حديث أبي موسى وأبي هريرة-رضي الله عنهما مرفوعاً: «وإذا قرأ فأنصتوا»

(2)

.

ففيه الأمر بالسكوت عند قراءة الإمام

(3)

.

ويعترض عليه ما اعتراض به على الاستدلال من الآية الكريمة

(4)

.

ثالثاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خَلَطْتُمْ عليّ القرآن»

(5)

.

فهذا يدل على أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام لأنه يخلط عليه

(6)

.

واعترض عليه بما يلي:

(1)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ المجموع 3/ 226؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 163.

(2)

سبق تخريجهما في دليل القول بنسخ القراءة خلف الإمام.

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 294.

(4)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ المجموع 3/ 226؛ إمام الكلام لعبد الحي ص 174.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 330، والإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 7/ 334، والإمام البخاري في جزء القراءة خلف الإمام المسمى ب (خير الكلام في القراءة خلف الإمام) ص 126، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 217، والدارقطني في سننه 1/ 341. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 113:(رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح). وقال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني 1/ 341: (إسناده حسن).

(6)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 216، 217؛ تحفة الأحوذي 2/ 246.

ص: 1065

أ- إنه يدل على منع التخليط على الإمام، ولكن التخليط لا يكون إلا إذا قرأ مَن خلف الإمام بالجهر، أما إذا قرأ سراً وفي النفس فلا يكون التخليط، وقد ورد الحديث المذكور بلفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم يقرؤون القرآن فيجهرون: «خلطتم علىّ القرآن»

(1)

، فدل ذلك على النهي عن القراءة خلف الإمام جهراً، لا على نفس القراءة

(2)

.

ب- إنه إن أريد به المنع من القراءة خلف الإمام فتكون فاتحة الكتاب، مستثناة من عمومه بدليل الأحاديث التي فيها الأمر بقراءتها خلف الإمام

(3)

.

رابعاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والذي فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:«إني أقول مالي أُنازعُ القرآن؟» قال: فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر المؤتمّيْن عن القراءة، وكره ذلك، وأن الناس تركوا القراءة خلفه عند ذلك، فثبت منه ترك القراءة خلف الإمام

(4)

.

(1)

أخرجه بهذا السياق البخاري في خير الكلام في القراءة خلف الإمام ص 126.

(2)

انظر: تحفة الأحوذي 2/ 247.

(3)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ المجموع 3/ 226؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 163.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 216، 217؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 174.

ص: 1066

واعترض عليه بما يلي:

أ-إنه لا يصح الاستدلال منه لأنه لا يدل على منع القراءة خلف الإمام، وإنما يدل على منع الجهر بالقراءة؛ لأنه يفضي إلى المنازعة «مالي أنازع القرآن» ، أما القراءة سراً فلا يؤدي

إلى المنازعة فلا يكون ممنوعاً

(1)

.

ب-إنه محمول على ترك قراءة ما عدا الفاتحة، أو أن الفاتحة مستثناة من عمومه للأحاديث الدالة على الأمر بقراءتها خلف الإمام

(2)

.

خامساً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بسَبّح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال:«أيُّكم قرأ» أو «أيُّكم القارئ؟» فقال رجل: أنا. فقال: «قد ظننت أن بعضكم خالجنيها

(3)

(4)

.

(1)

انظر: نيل الأوطار 2/ 217؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 181؛ تحفة الأحوذي 2/ 246.

(2)

انظر: الاعتبار ص 267؛ نيل الأوطار 2/ 217؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 128.

(3)

خالجنيها أي: نازعنيها. وأصل الخلج الجذب والنزع. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 516؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 213.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 214، كتاب الصلاة، باب نهي المأموم عن جهره بالقراءة خلف إمامه، ح (398)(48). وأخرجه الدارقطني في سننه 1/ 327، بلفظ:(قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ قال: «من ذا الذي يخالجني سورتهم» فنهاهم عن القراءة خلف الإمام). ثم قال الدارقطني: (لم يقل هكذا غير حجاج، خالفه أصحاب قتادة، منهم شعبة وسعيد وغيرهما، فلم يذكروا أنه نهاهم عن القراءة، وحجاج لا يحتج به). وانظر كتاب إمام الكلام لعبد الحيّ ص 193، في الكلام عليه وضعفه.

ص: 1067

ووجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق.

واعترض عليه: بأن الإنكار فيه على الجهر ورفع الصوت، لا على أصل القراءة؛ لأن المنازعة لا تقع في السر

(1)

.

سادساً: عن أنس رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقبل بوجهه فقال: «أتقرؤون والإمام يقرأ؟» فسكتوا، فسألهم ثلاثاً، فقالوا: إنا لنفعل. قال: «فلا تفعلوا»

(2)

.

فهذا كذلك يدل على النهي عن القراءة خلف الإمام

(3)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال منه على ترك القراءة؛ لأن هذه الرواية فيه اختصاراً، ففي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال:«أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟» فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل. قال: «فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه»

(4)

.

والروايات يفسر بعضها البعض، فدل أن النهي هو عن قراءة غير

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 213؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 191؛ تحفة الأحوذي 2/ 247.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 218.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 216، 218؛ إمام الكلام لعبد الحي ص 194.

(4)

أخرجه البخاري في كتابه خير الكلام ص 127، وابن حبان في صحيحه ص 573، والبيهقي في كتاب القراءة خلف الإمام ص 72. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 113:(رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات).

ص: 1068

الفاتحة

(1)

.

سابعاً: عن جابر بن عبد لله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل إلا وراء الإمام»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة»

(3)

.

فهذا الحديث يدل أن قراءة الإمام قراءة للمقتدي فلا حاجة لقراءته، فلا يقرأ خلف الإمام

(4)

.

(1)

انظر: نصب الراية 2/ 18؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 195.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 218، مرفوعاً، وكذلك الدارقطني-نحوه- في سننه 1/ 327، ثم قال الدارقطني:(يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف). وأخرجه موقوفاً على جابر رضي الله عنه: الترمذي في سننه ص 88، أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، ح (313) -وقال:(حديث حسن صحيح) -، ومحمد بن الحسن في الموطأ ص 60، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 218، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 228، وقال:(هذا هو الصحيح عن جابر من قوله غير مرفوع، وقد رفعه يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك، وذلك مما لا يحل روايته على طريق الاحتجاج). وقال ابن عبد البر في الاستذكار 1/ 513: (وهو حديث لا يصح إلا موقوفاً على جابر). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 88: (صحيح موقوف).

(3)

سبق تخريجه في دليل القول بنسخ القراءة خلف االإمام.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 216، 217؛ بدائع الصنائع 1/ 294؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 338.

ص: 1069

واعترض عليه بما يلي:

أ-إن الحديث الأول اختلف في رفعه ووقفه، والصحيح وقفه على جابر رضي الله عنه، والحديث الثاني اختلف في إرساله، وإسناده وإيصاله، والأكثرون على إرساله، فهذا مما يضعف

الاستدلال به في نفسه، فكيف في مقابلة الأحاديث المعارضة له

(1)

.

ب-إن المراد بالقراءة في هذا الحديث ما عدا الفاتحة، بقرينة الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة، فعمومه مخصوص بتلك الأحاديث

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن المأموم يقرأ خلف الإمام فاتحة الكتاب فيما أسرّ فيه، لا فيما جهر فيه- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(3)

.

ثانياَ: حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري الذين فيهما: (وإذا قرأ فأنصتوا)

(4)

.

ووجه الاستدلال منها: أن فيها الأمر بالإنصات عند قراءة القرآن

(1)

راجع تخريج الحديث، وانظر: إمام الكلام لعبد الحيّ ص 204، 219.

(2)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 220.

(3)

سورة الأعراف، الآية (204).

(4)

سبق تخريجهما في دليل القول بنسخ القراءة خلف الإمام.

ص: 1070

ليسمع القراءة، وذلك إنما يكون فيما يجهر فيه، دون صلاة السر، لذلك لا يقرأ خلف الإمام في الجهر بل يستمع للقراءة، أما في السر فيقرأ؛ لأنه لا يسمع القراء

(1)

.

واعترض عليه: بأن المراد بها غير فاتحة الكتاب، فهي مستثناة من عمومها بدليل الأحاديث التي فيها الأمر بقراءتها خلف الإمام

(2)

.

ثالثاً: ما سبق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والذي فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:«إني أقول مالي أُنازعُ القرآن؟» قال: فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

فهذا يدل على المنع والزجر عن القراءة مع الإمام، والمنازعة إنما تكون في صلاة الجهر، لذلك لا يقرأ في الجهرية خلف الإمام، أما في الصلاة السرية فإنما يسمع نفسه دون غيره فلا تكون هناك منازعة، فلذلك يقرأ في السرية خلفه

(4)

.

(1)

انظر: التمهيد 3/ 177؛ المغني 2/ 261؛ شرح الزركشي 1/ 328.

(2)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ المجموع 3/ 226؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 163.

(3)

سبق تخريجه في دليل القول بنسخ القراءة خلف الإمام.

(4)

انظر: التمهيد 3/ 177؛ المغني 2/ 262.

ص: 1071

واعترض عليه: بما يلي:

أ-إنه لا يصح الاستدلال منه لأنه لا يدل على منع القراءة خلف الإمام، وإنما يدل على منع الجهر بالقراءة؛ لأنه يفضي إلى المنازعة «مالي أنازع القرآن» ، أما القراءة سراً فلا يؤدي إلى المنازعة فلا يكون ممنوعاً

(1)

.

ب-إنه محمول على ترك قراءة ما عدا الفاتحة، أو أن الفاتحة مستثناة من عمومه للأحاديث الدالة على الأمر بقراءتها خلف الإمام

(2)

.

ثالثاً: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي سبق ذكره، والذي فيه:«قد ظننت أن بعضكم خالجنيها»

(3)

.

ووجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق.

ويعترض عليه: بأن الإنكار فيه على الجهر ورفع الصوت، لا على أصل القراءة؛ لأن المنازعة لا تقع إذا قرأ سراً وفي نفسه

(4)

.

رابعاً: ما سبق ذكره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والذي فيه: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خَلَطْتُمْ عليّ القرآن»

(5)

.

فهذا يدل على أن المأموم إذا قرأ خلف الإمام فإنه يخلط عليه، وذلك لا

(1)

انظر: نيل الأوطار 2/ 217؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 181؛ تحفة الأحوذي 2/ 246.

(2)

انظر: الاعتبار ص 267؛ نيل الأوطار 2/ 217؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 128.

(3)

سبق تخريجه في دليل القول الأول.

(4)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 213؛ إمام الكلام لعبد الحيّ ص 191؛ تحفة الأحوذي 2/ 247.

(5)

سبق تخريجه في دليل القول الأول.

ص: 1072

يكون إلا في الجهريّة، لذلك لا يقرأ في الجهرية، أما في السريّة فلا يكون تخليط، فيقرأ فيها خلفه

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ- إنه يدل على منع التخليط على الإمام، ولكن التخليط لا يكون إلا إذا قرأ مَن خلف الإمام بالجهر، أما إذا قرأ سراً وفي النفس فلا يكون التخليط، وقد ورد الحديث المذكور بلفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم يقرؤون القرآن فيجهرون: «خلطتم علىّ القرآن»

(2)

، فدل ذلك على النهي عن القراءة خلف الإمام جهراً، لا على نفس القراءة

(3)

.

ب- إنه إن أريد به المنع من القراءة خلف الإمام فتكون فاتحة الكتاب، مستثناة من عمومه بدليل الأحاديث التي فيها الأمر بقراءتها خلف الإمام

(4)

.

خامساً: حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة»

(5)

.

فهذا يدل على أن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة، وأن قراءته قراءة

(1)

انظر: التمهيد 3/ 194.

(2)

أخرجه بهذا السياق البخاري في خير الكلام في القراءة خلف الإمام ص 126.

(3)

انظر: تحفة الأحوذي 2/ 247.

(4)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ المجموع 3/ 226؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 163.

(5)

سبق تخريجه في دليل القول بنسخ القراءة خلف الإمام.

ص: 1073

له، وذلك في الجهريّة، لذلك يستمع لقراءته، أما في السرية فيقرأ خلفه؛ للأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة في الصلاة

(1)

.

واعترض عليه: بأن المراد بالقراءة في هذا الحديث ما عدا الفاتحة، بقرينة الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة، فعمومه مخصوص بتلك الأحاديث

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن المأموم يقرأ الفاتحة، على كل حال- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»

(3)

.

ثانياً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقُلت عليه القراءةُ، فلما فرغ قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم» قلنا: نعم، هَذّاً يا رسول الله، قال:«لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها»

(4)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي

(1)

انظر: شرح الزركشي 1/ 330.

(2)

انظر: المحلى 2/ 270؛ التمهيد 3/ 185؛ إمام الكلام لعبد الحي اللكنوي ص 220.

(3)

سبق تخريجه في ص 706.

(4)

سبق تخريجه في ص 705.

ص: 1074

يجهر فيها بالقراءة، قال: فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، وقال:«هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟» فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال:«فلا، وأنا أقول: ماينازعني القرآنُ، فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت، إلا بأم القرآن»

(1)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج» ثلاثاً، غير تمام. فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه: إنّا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل

»

(2)

.

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال:«أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟» فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل. قال: «فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه»

(3)

.

خامساً: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلكم

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 131، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، ح (824) والدارقطني في سننه 1/ 319، -وقال عن رجاله:(كلهم ثقات) -. والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 235. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 131، وضعيف الجامع الصغير ص 675 (4681)، وصححه في حاشية الجامع الصغير بلفظ: (إلا أن يقرأ أحدكم .. ) وفي صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 99.

(2)

سبق تخريجه في ص 706.

(3)

سبق تخريجه في ص 711.

ص: 1075

تقرؤون والإمام يقرأ؟» مرتين أو ثلاثاً. قالوا: نعم يا رسول الله إنّا لنفعل. قال: «فلا تفعلوا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب»

(1)

.

سادساً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتقرؤون خلفي؟» ، قالوا: نعم، إنا لنهُذُّه هَذّاً. قال:«فلا تفعلوا إلا بأم القرآن»

(2)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث: أن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الأول عام في كل مصل، ولم يثبت تخصيصه بغير المأموم بمخصص صريح، فبقي على عمومه، ويؤكد ذلك حديثه الثاني، فهو صريح في قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام، وقد كان ذلك في صلاة جهريّة، فيثبت من ذلك قراءة الفاتحة في جميع الصلوات سواء كانت جهريّة أم سرّية. كما أن الأحاديث الباقية كلها تنص على أن المأموم يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وما عارض به المخالفون لهذه الأحاديث فليس فيها ما يدل على عدم قراءة الفاتحة إلا عن طريق العموم، والنص مقدم على ذلك

(3)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 128، وأحمد في المسند 29/ 611، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 236.

وقال: (إسناد جيد). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 114: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 231: (إسناده حسن).

(2)

أخرجه البخاري في كتابه خير الكلام في القراءة خلف الإمام ص 59، والبيهقي في كتاب القراءة خلف الإمام ص 79.

(3)

انظر: المحلى 2/ 266؛ الحاوي 2/ 142؛ المجموع 3/ 225؛ نيل الأوطار 2/ 218؛ إمام الكلام لعبد الحي ص 301؛ الشرح الممتع 1/ 744.

ص: 1076

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن أقوال النسخ الثلاثة كلها ضعيفة، إذ ليس على أي واحد منها دليل يثبت به ذلك، وقد سبق وجوه الرد عليه. كما أن القول به خلاف الأولى؛ لأن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة ممكن، وهو كذلك مما يضعف القول بالنسخ.

ثانياً: إن سُلّم أن الأحاديث التي فيها النهي والزجر عن القراءة مع الإمام يدل على نسخ القراءة، فلا يُسلّم شمول ذلك للفاتحة؛ لأن في بعض تلك الأحاديث جاء استثناء الفاتحة من ذلك الحكم، ففي حديث عبادة رضي الله عنه:«لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» كما جاء استثناء ذلك في حديث أنس، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم. فثبت من ذلك أن النسخ إن قيل به ففي القراءة غير الفاتحة، أما الفاتحة فقد جاء الأمر بقراءتها عموماً، وفي بعض تلك الأحاديث الدالة على النهي عن القراءة مع الإمام جاء الأمر بقراءتها خلف الإمام خصوصاً، وليس هناك حديث ينص على النهي عن قراءة الفاتحة خصوصاً حتى يعارض به حديث قراءتها خصوصاً، فضلاً عن أن يكون ناسخاً له

(1)

.

ثالثاً: إن الراجح هو القول الثالث، وهو أن المأموم يقرأ الفاتحة خلف

(1)

انظر: إمام الكلام لعبد الحيّ ص 301.

ص: 1077

الإمام، سواء كانت الصلاة سريّة أم جهريّة

(1)

، وذلك لما يلي:

أ-لأن الأحاديث التي استُدل بها لهذا القول أكثرها نصوص صريحة في أن المأموم عليه أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهي لا تحتمل غير ذلك، لذلك يكون القول بمقتضاها متعيناً

(2)

.

ب-ولأنه ليس هناك حديث صحيح ينص على النهي عن قراءة الفاتحة خصوصاً، و الأحاديث التي فيها الزجر عن القراءة مع الإمام، أو التي فيها الأمر بالإنصات للقراءة عمومات، ثم قد وجد ما يخص الفاتحة من ذلك العموم، وهو الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام، فتكون هذه الأحاديث مخصصة لعموم تلك الأحاديث، ومستثناة من عمومها

(3)

.

ج-ولأن هذا القول يمكن أن يُجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة كلها، وذلك بحمل الأحاديث التي فيها النهي أو الزجر عن القراءة مع الإمام، أو التي فيها الأمر بالإنصات للقراءة، أو ما يدل على أن قراءة الإمام قراءة للمأموم، على قراءة غير الفاتحة، وحمل الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة أو عدم صحة الصلاة بدونها على خصوص الفاتحة، فيقرأ المأموم الفاتحة خلف الإمام، ولا يقرأ معه غير الفاتحة بل يستمع وينصت لقراءته، ويكون قراءته لغير

(1)

وهذا ما اختاره الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى. انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 11/ 223؛ الشرح الممتع 1/ 744.

(2)

انظر: إمام الكلام لعبد الحيّ ص 301؛ الشرح الممتع 1/ 744.

(3)

انظر: التمهيد 3/ 185؛ نيل الأوطار 2/ 216؛ إمام الكلام لعبد الحي ص 301.

ص: 1078

الفاتحة قراءة له، وبهذه الطريقة يمكن أن يُجمع بين هذه الأحاديث كلها، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها

(1)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المحلى 2/ 269؛ الاعتبار ص 267؛ تحفة الأحوذي 2/ 251.

ص: 1079

‌المطلب السادس: صلاة المفترض خلف المتنفل

ذهب بعض الحنفية منهم الكاساني

(1)

، وابن الهمام

(2)

، وكذلك بعض المالكية

(3)

، إلى نسخ حديث معاذ رضي الله عنه الذي يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل.

وذكر الطحاوي أنه يحتمل ذلك

(4)

.

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 358، 359.

(2)

هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود، السيواسي ثم الأسكندري، المعروف بابن الهمام، الحنفي. من شيوخه: السراج، والقاضي ابن الشحنة، وكان علامة في الفقه والأصول، وغيرهما من العلوم، ومن مؤلفاته: فتح القدير شرح الهداية، وتوفي سنة إحدى وستين وثمانمائة. انظر: شذرات الذهب 7/ 298 - 299؛ الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص 180.

وانظر قوله في: فتح القدير 1/ 372، 373.

(3)

قال ابن عبد البر في التمهيد 5/ 275: (وفي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف بأصحابه ركعة، ركعة، وأتمت كل طائفة لنفسها، دليل على أن حديث جابر في قصة معاذ وصلاته بقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة منسوخ؛ لأنه لو جاز أن تصلى الفريضة خلف المتنفل، لصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، والله أعلم، قد أحتج بهذا أبو الفرج وغيره من أصحابنا، ومن الكوفيين أيضاً، إلا أنه يعترض عليهم حديث أبي بكرة، وحديث جابر، وفي ذلك نظر.).

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 410. ونسب ابن الهمام إليه القول بالنسخ في فتح القدير 1/ 372. وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 277: (ومنهم من قال: حديث معاذ كان في أول الأمر، ثم نسخ). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/ 387: (وقد ادعى بعضهم أن حديث معاذ منسوخ، ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة).

ص: 1080

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلافهم في هل يؤم أحد في صلاة غير واجبة عليه، من وجبت عليه أم لا سبب آخر لاختلافهم فيها

(1)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدُوّ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم،

مقبلين على العدُوّ، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة»

(2)

.

ثانياً: عن سليمان بن يسار- مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»

(3)

.

ثالثاً: عن خالد بن أيمن المعافري قال: كان أهل العوالي يصلون في

(1)

انظر: التمهيد 5/ 275؛ بداية المجتهد 1/ 279؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 372.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 186، كتاب الخوف، باب صلاة الخوف، ح (942)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 149، كتاب صلاة المسافرين، باب في صلاة الخوف، ح (839)(305).

(3)

سبق تخريجه في ص 457.

ص: 1081

منازلهم، ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، «فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين»

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في صلاة الخوف بكل طائفة ركعة ركعة، فدل ذلك على نسخ صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأنه لو كان جائزاً ولم ينسخ لصلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، كما أن حديث معاذ رضي الله عنه يحتمل أنه كان في حين كان يُصلى صلاة واحدة في اليوم مرتين، ثم نسخ ذلك كما يدل عليه الحديث الثاني والثالث، فيكون حديث معاذ رضي الله عنه منسوخاً به كذلك

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف مرة بكل طائفة ركعتين ركعتين، فلا يصح الاستدلال من صلاة الخوف بكل طائفة ركعة ركعة، على نسخ صلاة المفترض خلف المتنفل، بل هو يؤكد ذلك

(3)

.

ثانياً: أما الاستدلال على النسخ من الأحاديث التي تدل على النهي عن الصلاة الواحدة في اليوم مرتين، فهو غير صحيح كذلك؛ لأن النهي إن كان

(1)

سبق تخريجه في ص 458.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316، 410؛ التمهيد 5/ 275؛ بدائع الصنائع 1/ 358، 359؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 372، 373.

(3)

سيأتي تخريج الحديث الدال على ذلك في دليل القول الثاني. وانظر: التمهيد 5/ 275؛ فتح الباري 2/ 243.

ص: 1082

عن أن يصلى الفريضة الواحدة في يوم مرتين، فهو لا يشمل صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن المتنفل متنفل عندما يصلى مرة ثانية، وليس بمفترض حتى يقال إنه صلى صلاة واحدة مرتين، أما إن كان المراد بالنهي عن الصلاة الواحدة في يوم مرتين: أن من صلى الفريضة مرة فلا يجوز له أن يصليها مرة ثانية بنية النفل، فهذا ما لا يسلم إطلاقه أحد حتى من قال بنسخ صلاة المفترض خلف المتنفل

(1)

.

ثالثاً: إن ما ذكر من الاستدلال على النسخ مجرد احتمال، ليس عليه حجة صحيحة، ثم لا يعرف أن النهي عن الصلاة الواحدة في يوم مرتين كان بعد حديث معاذ رضي الله عنه، حتى يستدل منه على النسخ، إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صلاة المفترض خلف المتنفل على قولين:

القول الأول: لا يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، ورواية عن الإمام أحمد، وهي

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 297؛ بداية المجتهد 1/ 275؛ المغني 3/ 68؛ فتح الباري 2/ 243؛ نيل الأوطار 3/ 234.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 277؛ مجموع الفتاوى 23/ 387؛ فتح الباري 2/ 243؛ نيل الأوطار 3/ 234.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 412؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 246؛ بدائع الصنائع 1/ 357؛ الهداية وشرحه فتح القدير 1/ 371.

(4)

انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 295؛ التمهيد 3/ 237؛ الكافي ص 47؛ جامع الأمهات ص 111.

ص: 1083

المذهب عند الحنابلة

(1)

.

وهو كذلك قول الحسن، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة، وأبي قلابة، وسفيان الثوري

(2)

.

القول الثاني: يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل.

وهو مذهب الشافعية

(3)

، ورواية عن الإمام أحمد اختارها بعض الحنابلة

(4)

. وهو كذلك قول الأوزاعي، وطاوس، وعطاء، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن جرير الطبري

(5)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل-بأدلة منها ما يلي:

أولاً: حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-الذي سبق ذكره في

(1)

انظر: المغني 3/ 67؛ الشرح الكبير 4/ 411؛ الممتع 1/ 571؛ الإنصاف 4/ 410؛ منتهى الإرادات 1/ 81؛ زاد المستقنع ص 17.

(2)

انظر: التمهيد 3/ 237؛ المجموع 4/ 120.

(3)

انظر: الأم 1/ 191؛ مختصر المزني ص 36؛ الحاوي 2/ 216؛ المجموع 4/ 118، 120؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 435.

(4)

انظر: المغني 3/ 67؛ الشرح الكبير 4/ 411؛ الممتع 1/ 571؛ الإنصاف 4/ 410.

(5)

انظر: التمهيد 3/ 237؛ المجموع 4/ 120.

ص: 1084

دليل القول بالنسخ

(1)

، وقد سبق وجه الاستدلال منه، والرد عليه.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة»

(2)

.

وجه الدلالة منه: أن الحديث يدل على أن الإمام إنما جعل ليؤتم به، والائتمام به هو الاقتداء به في جميع تلك الصلاة، ومن خالفه في نيته فلم يأتم به، كما أن فيه النهي عن الاختلاف عليه، وهو عام، ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات إذ هي ركن العمل، فثبت منه عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل

(3)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن المراد بالائتمام وعدم الاختلاف عليه، هو في الأفعال الظاهرة؛ حيث فسره الحديث بعد ذلك بالأفعال الظاهرة

(4)

.

ثانياً: إنه لو يُسلم أن النهي عن الاختلاف يعم كل اختلاف، فتكون

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 358؛ فتح القدير 1/ 372.

(2)

سبق تخريجه في ص 698.

(3)

انظر: الإشراف 1/ 295؛ التمهيد 3/ 237؛ اللباب للمنبجي 1/ 261.

(4)

انظر: الحاوي 2/ 319؛ التمهيد 3/ 238؛ المغني 3/ 68.

ص: 1085

الأدلة الدالة على جواز أن يصلي المفترض خلف المتنفل مخصصة له

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو جواز أن يصلي المفترض خلف المتنفل- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصليها لهم، هي له تطوع، وهي لهم مكتوبة)

(3)

.

وهذا صريح في أن صلاة معاذ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم هي المكتوبة، وصلاته

(1)

انظر: نيل الأوطار 3/ 235؛ أحكام الإمامة والائتمام للدكتور عبد المحسن المنيف ص 215.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 141، كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج وصلى، ح (700)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 3/ 279، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، ح (465)(180).

(3)

أخرجه الإمام الشافعي في الأم 1/ 190، وفي مسنده ص 57، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 409؛ والدارقطني في سننه 1/ 274، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 122. قال ابن حجر في الفتح 2/ 242:(وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتهت تهمة تدليسه). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 329: (وإسناده صحيح).

ص: 1086

بقومه بعد ذلك كانت نافلة، وصلاتهم خلفه كانت فريضة، فثبت منه جواز صلاة المفترض خلف المتنفل

(1)

.

ولفظ هذا الحديث صريح في أن صلاة معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي الفريضة، فلا يصح اعتراض من يقول: إن معاذ رضي الله عنه كان يصلي معه صلى الله عليه وسلم تطوعاً ثم يصلي بقومه مكتوبة، كما لا يصح دعوى من يدعي أن هذا كان من معاذ رضي الله عنه، ولم يكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره على معاذ، وإنما أنكر عليه التطويل في القراءة

(2)

.

ثانياً: عن جابر رضي الله عنه: (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

بإحدى الطائفتين ركعتين، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وصلى بكل طائفة ركعتين)

(3)

.

ثالثاً: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصفّ بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدُوّ، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلُّوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، ولأصحابه

(1)

انظر: الأم 1/ 191؛ التمهيد 3/ 238؛ المجموع 4/ 120؛ نيل الأوطار 3/ 233.

(2)

انظر: المجموع 4/ 120؛ فتح الباري 2/ 242، 243؛ نيل الأوطار 3/ 234.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 851، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، ح (4316)، و مسلم في صحيحه-واللفظ له-4/ 153، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، ح (843)(312).

ص: 1087

ركعتين، ركعتين)

(1)

.

ففي هذين الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الثانية ركعتين، وقد صلى قبل ذلك بالطائفة الأولى ركعتين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم متنفلاً في الثانية، وهم خلفه مفترضون، فدل ذلك على جواز صلاة المفترض خلف التنفل

(2)

.

الراجح

بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ حديث معاذ رضي الله عنه الذي يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل غير صحيح؛ لأنه دعوى لا أصل لها، إذ لم يأت قائله بحجة صحيحة يثبت ذلك، ثم يرده قول أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، مما يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وأبو بكرة رضي الله عنه أسلم بعد فتح مكة، فكيف يقال: إن صلاة المفترض خلف المتنفل كان في أول الإسلام؛ حين كان يجوز أن يصلى صلاة واحدة

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 195، كتاب الصلاة، باب من قال يصلي بكل طائفة ركعتين، وتكون للإمام أربعاً، ح (1248)، والنسائي في سننه ص 256، كتاب صلاة الخوف، ح (1551)، وحسن إسناده النووي في المجموع 4/ 121، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 195، وصحيح سنن النسائي ص 256.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 3/ 123؛ التمهيد 5/ 273؛ المغني 3/ 67؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 153.

ص: 1088

في يوم

مرتين، ثم نسخ ذلك

(1)

.

ثانياً: إن الراجح هو جواز أن يصلي المفترض خلف المتنفل، وذلك لما يلي:

أ-لأن الأدلة الدالة على ذلك ظاهرة وصريحة، وصحيحة.

ب-ولأن أدلة القول الأول غير صريحة في النهي عن ذلك، ثم الحديث الدال على النهي عن الاختلاف على الإمام عام فيخصص منه هذه المسألة، كما خصص منه صلاة المتنفل خلف المفترض، فقد قال بجواز ذلك حتى من لم يقل بجواز صلاة المفترض خلف المتنفل، مع أن اختلاف النية موجود فيها كما في عكسها، فعليهم إما أن يقولوا بعدم جواز ذلك لعموم حديث الائتمام وعدم الاختلاف على الإمام، وإما أن يجوزا صلاة المفترض خلف المتنفل، كما أجازوا عكس ذلك

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 277؛ مجموع الفتاوى 23/ 387.

(2)

انظر: المغني 3/ 68؛ نيل الأوطار 3/ 235.

ص: 1089

‌المطلب السابع ما يعاد من الصلوات مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في رحله

ذهب الطحاوي إلى أن من صلى في رحله ثم أدرك الجماعة فإنه يصليها معهم، إلا الفجر والعصر والمغرب فلا يعيدها معهم؛ لأن ذلك قد نسخ

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم في المسألة هو تعارض مفهوم الآثار الواردة فيها

(2)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: أحاديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، ومن هذه الأحاديث:

أ-عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال مرضِيُّون وأرضاهم عندي عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»

(3)

.

ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»

(4)

.

ج-عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 264.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 264؛ بداية المجتهد 1/ 277.

(3)

سبق تخريجه في ص 459.

(4)

سبق تخريجه في ص 460.

ص: 1090

صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس»

(1)

.

ثانياً: الأحاديث التي فيها أن الصلاة المعادة نافلة، ومنها:

أ-عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال:

«صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة»

(2)

.

ب-عن يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال:«عليّ بهما» فجيء بهما تُرعدُ فرائصهما، فقال:«ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال:«فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة»

(3)

.

ثالثاً: الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة الواحدة في اليوم مرتين، ومنها:

أ- عن سليمان بن يسار- مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر على

(1)

سبق تخريجه في ص 460.

(2)

سبق تخريجه في ص 472.

(3)

سبق تخريجه في ص 676.

ص: 1091

البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»

(1)

.

ب- عن خالد بن أيمن المعافري قال: كان أهل العوالي يصلون في منازلهم، ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم (فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين)

(2)

.

رابعاً: عن ناعم بن أُجَيْل

(3)

، مولى أم سلمة-رضي الله عنها-قال:(كنت أدخل المسجد لصلاة المغرب، فأرى رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً في آخر المسجد، والناس يصلون فيه، قد صلوا في بيوتهم)

(4)

.

خامساً: عن نافع أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما كان يقول: (من صلى المغرب

أو الصبح، ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما)

(5)

.

وفي رواية عنه: (إن صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة فصلها، إلا

(1)

سبق تخريجه في ص 457.

(2)

سبق تخريجه في ص 458.

(3)

هو: ناعم بن أجيل-بالتصغير- الهمذاني، أبو عبد الله المصري، مولى أم سلمة-رضي الله عنها ثقة فقيه، روى عن عثمان، وعلي، وغيرهما، وروى عنه يزيد بن حبيب، والأعرج، وغيرهما، وتوفي سنة ثمانين. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 360؛ التقريب 2/ 237.

(4)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 364. وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وهو متكلم فيه.

(5)

أخرجه مالك في الموطأ 1/ 128، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 423. وسند رواية مالك لا يحتاج إلى كلام؛ حيث رواه مالك عن نافع عن ابن عمر.

ص: 1092

الصبح والمغرب، فإنهما لا يعادان في يوم)

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن الصلاة المعادة مع الجماعة إما تكون نافلة، أو فريضة:

فإن كانت نافلة كما صُرِّحَت به في حديث أبي ذر رضي الله عنه وغيره، فتكون منسوخة بأحاديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ لأن هذا النهي عام يشمل الصلاة المعادة وغيرها، فتكون إعادتها بعد الفجر وبعد العصر منسوخة بالأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة في هذين الوقتين.

وإن كانت الصلاة المعادة فريضة، فتكون منسوخة كذلك بأحاديث النهي عن الصلاة الواحدة في اليوم مرتين.

أما إعادة صلاة المغرب، فهي وإن لم تكن في وقت النهي إلا أن عمل الصحابة رضي الله عنهم-كما ذكر في رواية ناعم يدل كذلك على نسخها؛ حيث أن بعضهم لم يعدها مع الإمام، ولم ينكر عليهم الباقون، فدل ذلك على نسخها؛ لأنه لا يجوز أن يكون مثل ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب عليهم جميعاً، حتى يكونوا على خلافه، ولكن كان ذلك منهم لما قد ثبت عندهم فيه من نسخ ذلك القول، ويقويه قول ابن عمر رضي الله عنه

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 422 - بلفظ: (لا تصليان مرتين) -، والطحاوي في شرح معاني الاثار-واللفظ له- 1/ 365. ورجال سند عبد الرزاق رجال الصحيح.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 364، اللباب للمنبجي 1/ 191.

ص: 1093

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إنه لا يوجد دليل يدل على تأخر أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها على الأحاديث التي فيها الأمر بإعادة الصلاة إذا أدركها مع الجماعة، ويوجد ما يدل على تأخّر أحاديث الأمر بالإعادة عليها، وهو حديث يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه، وحديث أم سلمة-رضي الله عنها، أما حديث يزيد فإنه يدل على أن الأمر بالإعادة كان في حجة الوداع، وذلك في السنة العاشرة وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه على من صلى في رحله صلاة الصبح ولم يعدها معه صلى الله عليه وسلم. أما حديث أم سلمة-رضي الله عنها فإنه يدل على أن النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب كان قبل وفد عبد القيس؛ حيث قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل عليّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه قولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه. فلما انصرف قال:«يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»

(1)

. وقدوم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة الوفود سنة

(1)

سبق تخريجه في ص 470.

ص: 1094

تسع

(1)

، قبل حجة الوداع.

فثبت من مجموع الحديثين: أن الأمر بإعادة الصلاة مع الجماعة- ومنها صلاة الصبح- كان بعد النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس.

فكيف يُدّعى نسخ المتأخر بالمتقدم عليه؟ فثبت من ذلك أن القول بنسخ إعادة الصلاة مع الجماعة في أوقات النهي بأحاديث النهي عن الصلاة فيها بعيد كل البعد.

ثانياً: إنه لا يصح كذلك نسخ أحاديث إعادة الصلاة مع الجماعة بأحاديث النهي عن أن تُصلى صلاة واحدة في يوم مرتين؛ لأن الصلاة المعادة نافلة كما هو مصرح به في حديث أبي ذر رضي الله عنه وغيره، والنهي عن أن تُصلى صلاة واحدة مرتين هو أن يصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى يعتقد ذلك، أما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنة وتطوع فليس ذلك بإعادة للصلاة مرتين

(2)

.

على أنه لا يوجد دليل أن النهي عن أن تُصلى صلاة واحدة في يوم مرتين كان بعد الأمر

بإعادة الصلاة مع الجماعة، وقد ثبت أن الأمر بإعادة الصلاة مع الجماعة كان في حجة الوداع، وهو في السنة العاشرة، فكيف

(1)

انظر: فتح الباري 7/ 738؛ تهذيب سيرة ابن هشام ص 237، 243؛ الرحيق المختوم ص 445.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 249؛ المغني 2/ 523؛ نيل الأوطار 3/ 215.

ص: 1095

يُدّعى نسخه؟ ثم كيف يُدّعى نسخه في بعض الصلوات، ويستدل به على إعادة بعض، مع أن الحديث في ذلك واحد؟.

ثالثاً: إن أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وكذلك أحاديث النهي عن أن تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين، عامة، وأحاديث إعادة الصلاة مع الجماعة خاصة، فتكون هذه الأحاديث مقدمة عليها، ومخصصة لعمومها

(1)

.

رابعاً: إن القول بنسخ إعادة صلاة المغرب مع الجماعة بما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم ما أعادوها مع الجماعة، وقول ابن عمر رضي الله عنه أنها والصبح لا تعادان، غير صحيح؛ لأن من لم يعدها فيمكن أنه لم ير إعادتها واجبة، وكذلك من لم ينكر عليهم ذلك، والإعادة غير واجبة عند كثير من أهل العلم

(2)

، لكن قد روي عن غيرهم إعادتها، منهم حذيفة رضي الله عنه، فقد روى عنه أنه أعادها مع الجماعة، وكان ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، وفعله هذا أولى من فعل من خالفه؛ لأن له مستند من عموم الأمر بإعادة الصلاة مع الجماعة.

ثم من يستدل بقول ابن عمر رضي الله عنه في عدم إعادة المغرب قد خالفه في مفهوم قوله في إعادة العصر؛ حيث أن قوله يدل على عدم إعادة المغرب

(1)

انظر: المجموع 4/ 58، 88؛ نيل الأوطار 3/ 215.

(2)

انظر: التمهيد 4/ 252؛ المغني 2/ 523.

(3)

انظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 422؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 76؛ المجموع 4/ 87.

ص: 1096

والصبح فقط.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم فيما يعاد من الصلوات مع الجماعة إذا صلاها المصلي في بيته قبل ذلك على ستة أقوال:

القول الأول: لا يعيد مع الجماعة إلا صلاة الظهر والعشاء.

وهو مذهب الحنفية

(1)

.

القول الثاني: يعيد جميع الصلوات إلا المغرب.

وهو مذهب المالكية

(2)

. وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن

(3)

رضي الله عنهما وأبي مجلز، وإبراهيم النخعي

(4)

.

القول الثالث: يعيد جميع الصلوات.

وهو مذهب الشافعية

(5)

،

(1)

انظر: الجامع الصغير لمحمد بن الحسن 69، الحجة على أهل المدينة 1/ 211، 212؛ الموطأ لمحمد ص 86؛

شرح معاني الآثار 1/ 364؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 297.

(2)

انظر: المدونة 1/ 179؛ التمهيد 4/ 251؛ الاستذكار 2/ 151؛ بداية المجتهد 1/ 275؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 403؛ الشرح الكبير للدردير 1/ 504؛ حاشية الدسوقي 1/ 504.

(3)

هو: النعمان بن مقرن بن عائذ المزني، أبو عمرو، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه معاوية، ومعقل بن يسار، وغيرهما، وكان معه لواء مزينة يوم الفتح، وفتح أصبهان، واستشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين. انظر: الإصابة 3/ 2007؛ تهذيب التهذيب 10/ 407؛ التقريب 2/ 249.

(4)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 77؛ الاستذكار 2/ 151.

(5)

انظر: التنبيه للشيرازي ص 51؛ الوجيز وشرحه العزيز 2/ 148؛ المجموع 4/ 87؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 1/ 402.

ص: 1097

وقول داود

(1)

.

القول الرابع: يستحب إعادة جميع الصلوات إلا المغرب، فإن أعادها شفعها برابعة.

وهو مذهب الحنابلة

(2)

.

وروي إعادة جميع الصلوات وشفع المغرب برابعة عن علي، وأبي موسى الأشعري، و حذيفة، وأنس-رضي الله عنهم

(3)

، وسعيد بن المسيب، والزهري، ومسروق

(4)

.

القول الخامس: يعيد جميع الصلوات إلا المغرب والفجر.

وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه والأوزاعي

(5)

.

القول السادس: يعيد جميع الصلوات إلا العصر والفجر.

وهو قول أبي ثور

(6)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يعيد إلا الظهر والعشاء- بما

(1)

انظر: التمهيد 4/ 252.

(2)

الصحيح من المذهب أنه لا يستحب إعادة المغرب، وفي رواية تستحب. انظر: المغني 2/ 519؛ الشرح الكبير 4/ 281، 282؛ الممتع 1/ 545؛ الإنصاف 4/ 280، 282؛ زاد المستقنع ص 16؛ منتهى الإرادات 1/ 75.

(3)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 76؛ المجموع 4/ 87؛

(4)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 1/ 76؛ المغني 2/ 521؛ المجموع 4/ 78.

(5)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 77؛ التمهيد 4/ 251؛ بداية المجتهد 1/ 275.

(6)

انظر: الاستذكار 2/ 153؛ بداية المجتهد 1/ 275.

ص: 1098

يلي:

أولاً: أما إنه يعيد مع الجماعة الظهر والعشاء فللأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها الأمر بالإعادة.

ثانياً: أما إنه لا يعيد الفجر والعصر فللأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب

(1)

.

ثالثاً: أما إنه لا يعيد المغرب فلقول ابن عمر رضي الله عنه أنها مما لا تعاد.

ولأنه لو أعادها لصلى النافلة وتراً، والنافلة لا تكون وتراً في غير الوتر

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها عامة، وأحاديث إعادة الصلاة مع الجماعة خاصة، فتكون هذه الأحاديث مقدمة عليها، ومخصصة لعمومها، ثم حديث أسود بن يزيد رضي الله عنه نص في موضع الخلاف؛ حيث دل على إعادتها بعد الصبح فهو قاطع للنزاع

(3)

.

ثانياً: أما قول ابن عمر رضي الله عنه فمعارض بقول غيره من الصحابة-رضي الله عنهم، وليس قوله بأولى من قول غيره من الصحابة، مع أن قولهم له مستند من عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: الموطأ لمحمد ص 86؛ شرح معاني الآثار 1/ 364.

(2)

انظر: الموطأ لمحمد ص 86؛ شرح معاني الآثار 1/ 364؛ التمهيد 4/ 251.

(3)

انظر: التمهيد 4/ 255؛ المجموع 4/ 58، 88؛ نيل الأوطار 3/ 215.

ص: 1099

أما أنه لو صلى المغرب فيكون صلى النافلة وتراً، ولا وتر في التطوع غير الوتر، فهذا ليس مجمع عليه، ثم لو شفعها برابعة كما روي ذلك عن غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم لزال هذا الذي يعدونه محظوراً

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يعيد جميع الصلوات إلا المغرب- بما يلي:

أولاً: أما إعادة الصلوات غير المغرب فللأحاديث سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها الأمر بالإعادة.

ثانياً: أما إنه لا يعيد المغرب فلما يلي:

أ-عن ابن عمر-رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل: فقال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة تُوتر له ما قد صلى»

(2)

.

ب-عن طلق بن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا وتران في ليلة»

(3)

.

(1)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 76؛ المجموع 4/ 87.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 196، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، ح (990)، ومسلم في صحيحه 4/ 66، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، ح (749)(145).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 223، كتاب الصلاة، باب في نقض الوتر، ح (1439)، والترمذي في سننه ص 125، أبواب الصلاة، باب ما جاء لا وتران في ليلة، ح (470)، والنسائي في سننه ص 276، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوترين في ليلة، ح (1679)، وأحمد في المسند 26/ 223، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 547، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 342، وابن حبان في صحيحه ص 719، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 53. وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والشيخ الألباني. انظر: نيل الأوطار 3/ 64؛ تحفة الأحوذي 2/ 587؛ صحيح سنن أبي داود ص 223.

ص: 1100

ووجه الاستدلال منهما: أن المغرب إذا أعادها، فإما يشفعها برابعة فيكون قد صلى التطوع أربعاً، وسنة التطوع أن تصلى مثنى مثنى، وإن لم يشفعها برابعة فيكون صلاته وتراً، ولا وتران في ليلة كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه؛ لذلك لا يعيد الوتر مع الجماعة

(1)

.

واعترض عليه: بأن صلاة الليل مثنى مثنى، هو الأفضل، ويجوز غيره، فلو صلى أربعاً فيجوز. وقد روي عن غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم أنه كان يرى إعادة المغرب ويشفعها برابعة، فلو لم يكن ذلك جائزاً لما عملوا به

(2)

.

على أنهم يجوزون إعادة صلاة العشاء مع الجماعة، وهي ليست مثنى مثنى

(3)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أنه يعيد جميع الصلوات كما هي- بما يلي:

(1)

انظر: التمهيد 4/ 256.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 76؛ المجموع 4/ 87؛ فتح الباري 2/ 591.

(3)

انظر: المحلى 2/ 26.

ص: 1101

أولاً: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة»

(1)

.

ثانياً: عن يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال:«عليّ بهما» فجيء بهما تُرعدُ فرائصهما، فقال:«ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال:«فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة»

(2)

.

ثالثاً: عن محجن رضي الله عنه أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُذِّن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم رجع، ومحجن في مجلسه لم يصل معه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟» فقال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا جئت فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت»

(3)

.

ووجه الاستدلال منها: أن هذه الأحاديث عامة لم تفرق بين صلاة

(1)

سبق تخريجه في ص 472.

(2)

سبق تخريجه في ص 676.

(3)

سبق تخريجه في ص 676.

ص: 1102

وصلاة، كما أنها مطلقة فليس فيها أن المغرب يضيف إليها أخرى، فيُعمل بها عامة مطلقة كما وردت

(1)

.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو أنه يعيد جميع الصلوات ويشفع المغرب برابعة-بما يلي:

أولاً: أما إعادة جميع الصلوات فللأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي فيها الأمر بالإعادة.

ثانياً: أما أن المغرب يضيف إليها رابعة:

أ- فلما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنها فعل ذلك أو القول به

(2)

.

ب- ولأنه هذه الصلاة نافلة، ولا يجوز التنفل بوتر غير الوتر

(3)

.

أما القولان الخامس، والسادس- فأدلتهما ووجه الاستدلال من تلك الأدلة وما يعترض عليها، لا تخرج عن أدلة القول الأول، ووجه الاستدلال منها، وما اعترض عليها، لذلك لا داعي لإعادتها.

الراجح

بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي-والله أعلم

(1)

انظر: العزيز 2/ 149؛ المجموع 4/ 88.

(2)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 76؛ المجموع 4/ 87.

(3)

انظر: المغني 2/ 521؛ الممتع 1/ 545.

ص: 1103

بالصواب-ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ إعادة صلاة الفجر والعصر والمغرب مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في بيته، ضعيف بل مردود وغير صحيح؛ لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، بل الأحاديث التي تدل على الإعادة معها ما يدل على تأخرها عن أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وقد سبق بيان ذلك وغيره مما يرد به على القول بالنسخ.

ثانياً: يجوز أن يعيد جميع الصلوات من غير أن يشفع المغرب برابعة؛ وذلك لإطلاق الأحاديث الواردة في الإعادة مع الجماعة، إلا أن الأولى هو أن يشفعها برابعة، وذلك لما روي عن بعض الصحابة- رضي الله عنهم أنهم قالوا بشفعها برابعة

(1)

، وهم أعلم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيرهم، وعمن بعدهم، كما أنهم أولى من يُقتدى بهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.

(1)

فقد روي ذلك عن علي، وأبي موسى الأشعري، وحذيفة-رضي الله عنهم، كما سبق ذلك غير مرة. وانظر: المحلى 2/ 28.

ص: 1104

‌المبحث السابع: في الجمعة والعيدين

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: خطبة الجمعة بعد الصلاة.

المطلب الثاني: تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب.

المطلب الثالث: خروج النساء إلى العيدين.

ص: 1105

‌المطلب الأول: خطبة الجمعة بعد الصلاة

ذهب بعض أهل العلم

(1)

، ومنهم الحازمي

(2)

، وأبو إسحاق الجعبري

(3)

، إلى أن خطبة الجمعة كانت بعد الصلاة، ثم نُسخ ذلك وجعلت قبل الصلاة.

واستدلوا على ذلك بما يلي:

عن مقاتل بن حيان

(4)

قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة

(5)

قدم بتجارة، وكان

(1)

قال الطحطاوي الحنفي في حاشيته على مراقي الفلاح ص 330: (وقد كانت الخطبة في صدر الإسلام بعد الصلاة، كخطبة العيد، ثم نسخ وجعلت قبلها). وانظر كذلك: حاشية الشيرواني على تحفة المحتاج 2/ 444.

(2)

انظر: الاعتبار ص 305.

(3)

انظر: رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار ص 302.

(4)

هو: مقاتل بن حَيّان، النبطي، أبو بسطام البلخي الخراساني، الخزاز، أحد الأعلام، روى عن مجاهد، والشعبي، وغيرهما، وروى عنه ابن المبارك، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهما. ووثقه ابن معين وأبو داود، وقال ابن حجر: صدوق فاضل. وتوفي قبيل الخمسين ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 171؛ تهذيب التهذيب 10/ 250؛ التقريب 2/ 210.

(5)

هو: دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، الكلبي، أول مشاهده الخندق، وقيل: أحد، وكان جبريل عليه السلام ينزل على صورته، وكان رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه منصور بن سعيد، و الشعبي، وغيرهما، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 539؛ تهذيب التهذيب 3/ 185.

ص: 1106

دحية إذا قدم تلقّاه أهله بالدّفاف، فخرج الناس لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، فقدّم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة، وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، فكان من المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل مسلم قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ

الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] الآية)

(1)

.

فهذا يدل على أن الخطبة كانت يوم الجمعة بعد الصلاة، ثم نسخ ذلك وجعلت قبل الصلاة

(2)

.

واعترض عليه: بأن القول بنسخ حكم ما يستلزم ثبوته أولاً، والحديث الذي استُدل به ضعيف لا تقوم به حجة، فلا يثبت النسخ بمثله

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

ولا خلاف بين أهل العلم في أن خطبة الجمعة قبل الصلاة، ولا

(1)

أخرجه أبو داود في المراسيل ص 168، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 305. وهو مرسل، وشاذ، ومعضل. انظر: الاعتبار ص 306؛ فتح الباري 2/ 521.

(2)

انظر: الاعتبار ص 305؛ رسوخ الأحبار ص 301، 302؛ حاشية الطحطاوي ص 330.

(3)

راجع تخريجه.

ص: 1107

يجوز جعلها بعد الصلاة، وهو مذهب الأئمة الأربعة

(1)

.

وذلك لما يلي:

أولاً: عن السائب بن يزيد

(2)

رضي الله عنه قال: (كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء

(3)

(4)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كان بلال يؤذّن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فإذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر،

(1)

انظر: "مختصر القدوري ص 39؛ بدائع الصنائع 1/ 589؛ الاختيار لتعليل المختار 1/ 82"؛ المدونة 1/ 231؛ الكافي لابن عبد البر ص 71؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 528؛ التاج والإكليل 2/ 528"؛ الأم 1/ 219؛ مختصر المزني ص 43؛ المجموع 4/ 267؛ الغرر البهية لزكريا الأنصاري 3/ 41"؛ المغني 3/ 181؛ الإنصاف 5/ 218؛ الإقناع 1/ 296؛ زاد المستقنع ص 19".

(2)

هو: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة، الكندي، وقيل: الأزدي، صحابي صغير، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عبد الله، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى وتسعين، وقيل قبله، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة. انظر: الإصابة 1/ 687؛ تهذيب التهذيب 3/ 392؛ التقريب 1/ 338.

(3)

الزوراء موضع غربي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سوق المدينة المنورة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي (المناخة) فيما بعد. انظر: معجم البلدان 2/ 487؛ الروض المعطار ص 295.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 180، كتاب الجمعة، باب الأذان يوم الجمعة، ح (912).

ص: 1108

وعمر-رضي الله عنهما)

(1)

.

فهذا يدل على أن الخطبة يوم الجمعة سابقة على الصلاة؛ لأن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبقية الخطبة على الصلاة

(2)

.

ثانياً: ولحديث: «صلوا كما رأيتموني أصلي»

(3)

.

والثابت من صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إنما هو بعد الخطبتين

(4)

.

ثالثاً: وللإجماع على ذلك

(5)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 228، كتاب الجمعة، باب الأذان للجمعة، ح (1394)، وابن ماجة في سننه ص 203، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأذان يوم الجمعة، ح (1135). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 228.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 485.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 128، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، ح (631)، من رواية مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

(4)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 589؛ المجموع 4/ 268؛ مغني المحتاج 1/ 486؛ الغرر البهية 3/ 41؛ حاشية الشيرواني 2/ 444.

(5)

انظر: مغني المحتاج 1/ 486؛ حاشية الشيرواني على تحفة المحتاج 2/ 444.

ص: 1109

‌المطلب الثاني تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب

ذهب بعض أهل العلم إلى أن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يجلس ويستمع ولا يصلي ركعتين، وأن حديث صلاة الركعتين يوم الجمعة إذا دخل أحد المسجد والإمام يخطب قد نسخ

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: الطحاوي

(2)

، والكاساني

(3)

.

والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم، لكن السبب الأصلي لاختلافهم في المسألة هو اختلاف الآثار الواردة فيها

(4)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(5)

.

ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: جاء رجل يوم الجمعة-

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 503؛ تحفة الأحوذي 3/ 53.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366، 367؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 337.

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 593.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366 - 369؛ بدائع الصنائع 1/ 593؛ بداية المجتهد 1/ 315؛ نيل الأوطار 3/ 354 - 356.

(5)

سورة الأعراف، الآية (204).

ص: 1110

والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب-بهيئة بَذَّة

(1)

، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أصليت؟» ، قال: لا، قال:«صل ركعتين» ، وحث الناس على الصدقة، فألقوا ثياباً، فأعطاه منها ثوبين، فلما كانت الجمعة الثانية، جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فحث الناس على الصدقة، قال: فألقى أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذّة، فأمرت الناس بالصدقة، فألقوا ثياباً، فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن، فأمرت الناس بالصدقة، فألقى أحدهما» فانتهره، وقال:«خذ ثوبك»

(2)

.

ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت

(3)

(4)

.

(1)

بهيئة بذة: أي رث اللبسة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 116.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه ص 134، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام

يخطب، ح (511)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 230، كتاب الجمعة، باب حث الإمام على الصدقة يوم الجمعة في خطبته، ح (1408)، وأحمد في المسند 17/ 292، وابن خزيمة في صحيه 2/ 872، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 366، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 304. قال الترمذي والشيخ الألباني:(حسن صحيح) انظر: سنن الترمذي 134؛ صحيح سنن الترمذي ص 134.

(3)

أي قلت اللغو، وهو الكلام الملغى الساقط والمطرح، وما لا يعني. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 605؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 161.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 184، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ح (934)، ومسلم في صحيحه 4/ 161، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، ح (851)(11).

ص: 1111

رابعاً: عن عبد الله بن بسر

(1)

رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«اجلس، فقد آذيت»

(2)

.

خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، فليس له جمعة»

(3)

.

سادساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

هو: عبد الله بن بُسر، المازني، أبو بسر، الحمصي، صحابي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو الزاهرية، وخالد بن معدان، وغيرهما، وتوفي بالشام، وقيل بحمص، سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 300؛ الإصابة 2/ 1013.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 175، كتاب الصلاة، باب من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ح (1118)، والنسائي في سننه ص 229، كتاب الجمعة، باب النهي عن تخطي رقاب الناس والإمام على المنبر يوم الجمعة، ح (1399)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 876، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 366. وصححه ابن خزيمة والشيخ اللألباني. انظر: فتح الباري 2/ 502؛ صحيح سنن أبي داود ص 175.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 458، والإمام أحمد في المسند 3/ 475. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 187:(رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية). وقال ابن حجر: رواه أحمد بإسناد لا بأس به. انظر: بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 2/ 107.

ص: 1112

يقول: «إذا دخل أحدكم

المسجد والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام»

(1)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن الأمر بالركعتين، إذا دخل أحد والإمام يخطب، كان قبل نسخ الكلام والأفعال في الخطبة، ثم جاء الأمر بالإنصات والاستماع للخطبة، ونهي عن الكلام إذا خطب الإمام، فنُسخ الكلام والصلاة إذا خطب الإمام بذلك؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تخطّى رقاب الناس بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، وجعل قول الرجل لصاحبه:(أنصت) -وهو من الأمر بالمعروف الذي هو فرض، وزمنه قصير- لغواً، فكيف التشاغل بالتّحيّة مع طول زمنها، وكونها تطوعاً؟، فهذا كله يدل على النهي عن الكلام والصلاة عند خطبة الإمام يوم الجمعة، وعلى نسخ ذلك، ويؤكده رواية ابن عمر:(إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام)

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن حديث ابن عمر رضي الله عنه ضعيف لا تقوم به حجة. أما بقية الأدلة فتدل على الإنصات والاستماع للخطبة، ولكن ليس فيها ما يدل

(1)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 187: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه أيوب بن نهيك، وهو متروك ضعفه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ). وقال ابن حجر في الفتح 2/ 502: (ضعيف، فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله).

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366 - 368؛ بدائع الصنائع 1/ 593؛ فتح الباري 2/ 502؛ عمدة القاري 5/ 102 - 103.

ص: 1113

على النهي عن صلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب إلا بطريق المفهوم. والحديث الذي فيه الأمر بصلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب صريح ونص، فكيف يُنسخ ما هو صريح ونص بالمفهوم مع أنه لا يوجد دليل يثبت أن ما يدل على هذا المفهوم متأخر عن هذا النص الصريح، والذي حصلت له هذه الواقعة وأُمر بالركعتين متأخر الإسلام

(1)

، لذلك ليس القول بالنسخ إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال

(2)

.

ثانياً: إن إسقاط أحد الدليلين أوالقول بالنسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأدلة، والجمع بين الأدلة هنا ممكن؛ وذلك بأن الأدلة التي يُستدل منها على النهي عامة، فتخصص بالأحاديث التي فيها الأمر بصلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب

(3)

.

ثالثاً: إن عدم الأمر بصلاة الركعتين للذي تخطى رقاب الناس، يحتمل أموراً، منها:

أ-أن ذلك كان قبل الأمر بصلاة الركعتين لمن دخل والإمام يخطب.

ب- إنه لم يأمره بالتحية لبيان الجواز؛ فإنها ليست واجبة

(4)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 503؛ تحفة الأحوذي 3/ 53.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 502، 503؛ نيل الأوطار 3/ 357؛ تحفة الأحوذي 3/ 53.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 502؛ نيل الأوطار 3/ 357.

(4)

انظر: فتح الباري 2/ 502؛ نيل الأوطار 3/ 357.

ص: 1114

وقد اختلف أهل العلم في الركعتين لمن دخل يوم الجمعة والإمام يخطب على قولين:

القول الأول: لا يصلي ركعتين، بل يجلس ويستمع للخطبة.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم

(3)

، وعطاء، وشريح، وابن سيرين، وعلقمة، والنخعي، والشعبي، والزهري، وأبي قلابة، ومجاهد، والثوري، والليث

(4)

.

القول الثاني: أنه إذا دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين.

وهو مذهب الشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

، وروي عن أبي سعيد الخدري

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366، 369؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 337؛ مختصر القدوري ص 40؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/ 31.

(2)

انظر: المدونة 1/ 229؛ الإشراف 1/ 328؛ الاستذكار 2/ 27؛ بداية المجتهد 1/ 314؛ الشرح الكبير 1/ 607؛ حاشية الدسوقي 1/ 607.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 369 - 370؛ المغني 3/ 192؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 184؛ عمدة القاري 5/ 105.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 369 - 370؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 337؛ الاستذكار 1/ 27؛ المجموع 4/ 299؛ عمدة القاري 5/ 105.

(5)

انظر: الأم 1/ 217؛ مختصر المزني ص 43؛ الحاوي 2/ 429؛ المجموع 4/ 299.

(6)

انظر: المغني 3/ 192؛ الشرح الكبير 5/ 298؛ شرح الزركشي 1/ 464؛ الإنصاف 5/ 298؛ منتهى الإرادات

1/ 97؛ زاد المستقنع ص 19.

ص: 1115

-رضي الله عنه. وبه قال الحسن،

ومكحول، وإسحاق، والحميدي، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وابن جرير الطبري

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه يجلس، ولا يصلي ركعتين- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: الأدلة التي سبقت في دليل القول بالنسخ؛ فإنها بمجموعها تدل على وجوب الإنصات والاستماع إلى الخطبة، وعدم الشغل بشيء آخر، ومن ذلك الصلاة

(2)

.

ثانياً: عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدّهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى»

(3)

.

ثالثاً: عن نُبيشة

(4)

الهذلي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحداً، فإن لم يجد

(1)

انظر: الاستذكار 2/ 27؛ المغني 3/ 192؛ المجموع 4/ 299؛ فتح الباري 2/ 504.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366 - 368؛ الإشراف 1/ 328؛ الاستذكار 2/ 27؛ بدائع الصنائع 1/ 593.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 175، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، ح (883).

(4)

هو: نُبيشة بن عبد الله بن عمرو بن عتاب، أبو طريف، الهذلي، يعرف بنبيشة الخير، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، و روى عنه: أبو المليح الهذلي، وأم عاصم، وسكن البصرة. انظر: الإصابة 3/ 1990؛ التهذيب 10/ 372.

ص: 1116

الإمام خرج، صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج، جلس فاستمع وأنصت، حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه، إن لم يُغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها، أن تكون كفارة للجمعة التي تليها»

(1)

.

رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجِّر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة. فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون

الذكر»

(2)

.

خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما (أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ جاء رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أيّة ساعة هذه؟ قال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل)

(3)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 34/ 321. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 174: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أحمد، وهوثقة). وراويه عن نبيشة رضي الله عنه عطاء الخراساني، وفيه كلام، قال ابن حجر:(صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس). ورويته عن نبيشة مرسل؛ لأنه لم يسمع من الصحابة-رضي الله عنهم. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 184؛ التقريب 1/ 676؛ نيل الأوطار 3/ 352.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 183، كتاب الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة، ح (929).

(3)

سبق تخريجه في ص 400.

ص: 1117

ويستدل منها على أن الداخل يجلس ولا يصلي إذا كان الإمام يخطب: بأن الحديثين الثاني والثالث يدلان على الجلوس والاستماع إلى الخطبة إذا دخل أو كان في داخل المسجد.

أما الحديث الرابع فإنه يدل على أنه لا عمل إذا خرج الإمام إلا استماع الخطبة، لطيّ الصحف فيما عدا ذلك.

أما الحديث الخامس فإنه يدل كذلك على عدم الصلاة وقت الخطبة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر على الرجل ترك الغسل، ولم يأمره بالصلاة، ولا نقل أنه صلاهما

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن هذه الأدلة تدل على الإنصات والاستماع إلى الخطبة، وليس فيها ما يدل صريحاً على النهي عن صلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب، بخلاف أدلة الاستحباب؛ فإنها صريحة في ذلك، ولا تحتمل غيره.

وعدم الإنكار في بعضها على من دخل ولم يصل، لبيان الجواز، وأنها ليست واجبة

(2)

.

ثانياً: إن الجمع بين هذه الأحاديث ممكن، وذلك بتخصيص عموم الأدلة الدالة على الإنصات والاستماع إلى الخطبة بالأحاديث التي فيها الأمر بالركعتين لمن دخل والإمام يخطب، والجمع بين الأدلة أولى من إسقاط

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 368 - 369؛ الاستذكار 2/ 27؛ عمدة القاري 5/ 102.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 185؛ فتح الباري 2/ 502؛ نيل الأوطار 3/ 356.

ص: 1118

بعضها

(1)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أن الداخل عند خطبة الإمام يصلي ركعتين- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما قال: جاء سليك الغطفاني

(2)

يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له:«يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما» ، ثم قال:«إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما»

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصلّ ركعتين»

(4)

.

ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق، وفيه: جاء رجل يوم

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 502؛ نيل الأوطار 3/ 356، 357.

(2)

هو: سليك بن عمرو، وقيل: ابن هدبة، الغطفاني. وذكر ابن حجر أنه متأخر الإسلام جداً. انظر: أسد الغابة 2/ 289؛ تجريد أسماء الصحابة 1/ 235؛ الإصابة 1/ 760؛ فتح الباري 2/ 503.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 185، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، ح (875)(59).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 229، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ح (1166)، ومسلم في صحيحه 4/ 184، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، ح (875)(57).

ص: 1119

الجمعة-والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب-بهيئة بَذَّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أصليت؟» ، قال: لا. قال: «صل ركعتين» الحديث

(1)

.

ثالثاً: عن أبي قتادة السلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»

(2)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إن حديث أبي قتادة رضي الله عنه عام، فيشمل لمن دخل المسجد والإمام يخطب، أما حديث جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما فهو نص صريح في المسألة لا يتطرق إليه تأويل؛ لذلك يكون القول بموجب هذه الأحاديث متعيناً

(3)

.

واعترض عليه اعتراضات، منها ما يلي:

أ- أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بالركعتين وكلامه له كان قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، فلما نسخ الكلام في الصلاة، نسخ في الخطبة أيضاً؛ لأنها شطر صلاة الجمعة

(4)

.

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الرجل بالركعتين أنصت له حتى فرغ من صلاته-كما جاء ذلك في بعض الروايات

(5)

، -لذلك فلا يكون صلاته

(1)

سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.

(2)

سبق تخريجه في ص 470.

(3)

انظر: الأم 1/ 217؛ المغني 3/ 193؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 185؛ فتح الباري 2/ 505؛ نيل الأوطار 3/ 356.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 366؛ عمدة القاري 5/ 101.

(5)

انظر: سنن الدارقطني 2/ 15، ففي رواية أنس:(وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته) ثم قال الدارقطني: (أسند هذا الشيخ عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس، ووهم فيه، والصواب عن معتمر عن أبيه مرسل، كذا رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر).

ص: 1120

والإمام يخطب.

ج-أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالركعتين كان قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة

(1)

.

وأجيب عنه بما يلي:

أ-إن القول بأن ذلك كان ثم نسخ بنسخ الكلام في الصلاة، فقد سبق ما يرد به على ذلك.

ب- أما القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنصت له حتى فرغ من صلاته، فالرواية التي يدل عليه متكلم فيها

(2)

، ثم هي مخالفة لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ حيث جاء فيه:«فأمره فصلى ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب»

(3)

، وهو أصح منه

(4)

، كما أن حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما» . نص صريح في المسألة، ولا

(1)

انظر: عمدة القاري 5/ 101.

(2)

انظر: سنن الدارقطني 2/ 15؛ فتح الباري 2/ 503.

(3)

سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ. وبهذا اللفظ أخرجه الترمذي في سننه ص 134، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، ح (511). وصححه، وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 134.

(4)

انظر: منتقى الأخبار للمجد بن تيمية مع شرحه نيل الأوطار 3/ 354، 355؛ تحفة الأحوذي 3/ 49، 55.

ص: 1121

يتقوى غيره على معارضته؛ لعدم احتماله للتأويل، بخلاف ما يعارضون به

(1)

.

ج-إن القول بأن الأمر للرجل بالركعتين كان قبل شروع النبي صلى الله عليه وسلم بالخطبة، مخالف لحديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق، كما هو مخالف لأكثر روايات حديث جابر رضي الله عنه.

د- إن جميع ما يعترضون به مردود بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما» ؛ حيث إنه نص صريح لا يتطرق إليه التأويل

(2)

.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ صلاة الركعتين والإمام يخطب ضعيف؛ لما يلي:

أ-لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما سبق ذكره.

ب- إنه يرده عمل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أنه أحد من روى حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الداخل بالركعتين، ثم كان يعمل بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي عنه أنه صلى الركعتين والإمام كان يخطب، ثم قال: ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر: «أن رجلاً جاء يوم الجمعة في هيئة بذّة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فأمره فصلى

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 185؛ نيل الأوطار 3/ 357.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 185؛ فتح الباري 2/ 505؛ نيل الأوطار 3/ 357.

ص: 1122

ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب»

(1)

.

فلو كان ذلك منسوخاً لما صلى ركعتين، ولأُنكر عليه لو كان عند أحد غيره علم بالنسخ، عندما رآه يفعل ذلك.

ثانياً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو أن من دخل والإمام يخطب يوم الجمعة يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يستمع للخطبة، وذلك لما يلي:

أ-لأن الأحاديث الدالة على ذلك نصوص صريحة صحية لا يتطرق إليها التأويل، بخلاف ما يعارضون به تلك الأحاديث

(2)

.

ب-ولأنه يمكن الجمع به بين هذه الأحاديث كلها، وذلك بأن الأحاديث الدالة على الركعتين للداخل يوم الجمعة والإمام يخطب، أحاديث خاصة، والأحاديث التي تدل على المنع عن الكلام والإمام يخطب أحاديث عامة- على أنه لو قدر أن الصلاة كلام ومنهي عنه حالة الخطبة-، فيكون عموم هذه الأحاديث مخصصاً بتلك الأحاديث، ومستثناة من عمومها. والجمع بين الأحاديث المختلفة أولى من إسقاط بعضها

(3)

.

والله أعلم.

(1)

سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ. وهذا لفظ رواية الترمذي.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 185؛ فتح الباري 2/ 505؛ نيل الأوطار 3/ 356.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 502؛ نيل الأوطار 3/ 357.

ص: 1123

‌المطلب الثالث: خروج النساء إلى العيدين

ذهب الطحاوي إلى أن خروج النساء إلى العيدين

(1)

كان في أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد به تكثير سوادهم، فأما إذا كثر المسلمون فلا داعي إلى ذلك، فيكون خروجهنّ منسوخاً

(2)

.

ونصر قوله هذا العيني

(3)

.

والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الواردة فيها، وهل يقاس العيد على الجمعة أم لا سبب آخر لاختلافهم فيها

(4)

.

(1)

العيدين تثنية عيد، وهو من عود، وهو لغة: الرجوع والمعاودة. انظر: مختار الصحاح ص 405؛ تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 62؛ المصباح المنير ص 355.

واصطلاحاً: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر، أو نحو ذلك. اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 496.

أو هو: كل يوم فيه جمع أو تذكار لذي فضل. ومنه عيد الفطر أول يوم من شوال، وعيد الأضحى العاشر من ذي الحجة. التعريفات الفقهية ص 155.

(2)

نسب القول إليه بالنسخ غير واحد. انظر: فتح الباري 2/ 579؛ عمدة القاري 5/ 201؛ سبل السلام 2/ 139؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(3)

انظر: عمدة القاري 5/ 201.

(4)

انظر: بداية المجتهد 1/ 416؛ بدائع الصنائع 1/ 617؛ فتح الباري 2/ 579؛ عمدة القاري 5/ 201.

ص: 1124

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أم عطية

(1)

رضي الله عنها قالت: «أُمرنا أن نخرج الحُيّض يوم العيدين وذوات الخدور

(2)

، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحُيّض عن مصلاهن»، قالت

امرأة: يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب

(3)

، قال:«لتُلبسها صاحبتها من جلبابها»

(4)

.

وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: (كنا نؤمر أن نَخرُج يوم العيد، حتى نُخرج البكر من خدرها، حتى نُخرج الحُيّض، فيكنّ خلف الناس،

(1)

هي: نُسيبة بنت الحارث، وقيل بنت كعب، أم عطية الأنصارية، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: أنس بن مالك، وابن سيرين، وغيرهما، وسكنت البصرة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 329؛ الإصابة 4/ 2727؛ تهذيب التهذيب 12/ 404.

(2)

الخدور جمع خدر، وهو ناحية في البيت يترك عليها ستر، فتكون فيه الجارية البكر، وقيل: الخدر هو الستر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 473؛ المصباح المنير ص 141.

(3)

الجلباب هو: الإزار، والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها، وظهرها، وصدرها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 277؛ المصباح المنير ص 94.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 77، كتاب الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب، ح (351)، ومسلم في صحيحه 4/ 200، كتاب صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، ح (890)(12).

ص: 1125

فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته)

(1)

.

ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل)

(2)

.

ووجه الاستدلال منهما: أن حديث أم عطية-رضي الله عنها يدل على أن خروجهن لم يكن للصلاة بل لتكثير سواد المسلمين، يدل عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج الحُيّض، وهن يعتزلن المصلى ولا تصلين، فثبت أن ذلك كان لتكثير سواد المسلمين، ولإرهاب العدو، وقد زال تلك العلة؛ حيث كثر المسلمون، فيكون خروجهن في العيدين منسوخاً. وحديث عائشة-رضي الله عنها يدل على منعهن المساجد لكثرة ما أحدثن، ولكثرة الفتن، وإذا مُنعن المساجد فالمصلى أولى

(3)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن ما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم يرده كون ابن عباس رضي الله عنه شهد خروجهن العيد، وقد كان ذلك بعد فتح مكة، وقد دخل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 192، كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، ح (971)، ومسلم في صحيحه 4/ 198، كتاب صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، ح (890)(11).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 172، كتاب الأذان، باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، ح (869)، ومسلم في صحيحه 3/ 261، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، ح (445)(144).

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 618؛ فتح الباري 2/ 579؛ عمدة القاري 5/ 201.

ص: 1126

الناس في دين الله أفواجاً، ولم يكن حاجة لخروجهن لقوة الإسلام

(1)

.

ثانياً: إن القول بنسخ خروجهن يرده كذلك ما كانت أم عطية-رضي الله عنها تفتي به من خروجهن في العيدين، وقد كان ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، ولم يخالفها أحد من الصحابة-رضي الله عنهم، وحديث عائشة-رضي الله عنها-لا يدل على المنع، ولا على النسخ، بل فيه دليل كذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعهن

(2)

.

ثالثاً: إن العلة في خروجهن هي ما ذكر في حديث أم عطية-رضي الله عنها، وهو شهودهن الخير، ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم، وطهرته؛ ولذلك خرجت إليه من تصلي وغيرها، وهذه العلة لم تزل، فلذلك يكون القول بنسخ خروجهن مردوداً، وغير صحيح

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في خروج النساء إلى العيدين على ستة أقوال:

القول الأول: يرخص للعجوز في الخروج إلى العيدين، ولا يرخص للشواب.

وهو مذهب الحنفية

(4)

، ونحوه رواية عن الإمام أحمد

(5)

.

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 579؛ سبل السلام 2/ 139؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 580؛ سبل السلام 2/ 139؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(3)

انظر: فتح الباري 2/ 580؛ سبل السلام 2/ 139.

(4)

انظر: الأصل 1/ 382؛ كتاب الآثار لمحمد بن الحسن 1/ 550؛ المبسوط 2/ 41؛ بدائع الصنائع 1/ 617.

(5)

انظر: الفروع 3/ 200؛ الإنصاف 5/ 338.

ص: 1127

القول الثاني: يكره لهن الخروج إلى العيدين.

وهو قول المالكية

(1)

، ورواية عن الإمام أحمد

(2)

، وبه قال إبراهيم النخعي، ويحيى بن سعيد

الأنصاري، والثوري، وابن المبارك

(3)

.

القول الثالث: يستحب للعجائز وغير ذوات الهيئة شهود العيد، أما ذوات الهيئات -وهن اللواتي يشتهين لجمالهن- فيكره حضورهن.

وهو مذهب الشافعية

(4)

.

القول الرابع: إن خروجهن إلى العيدين جائز غير مستحب.

وهو الصحيح من مذهب الحنابلة

(5)

.

القول الخامس: يستحب لهن حضورها.

وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة

(6)

.

القول السادس: حق عليهنّ الخروج للعيدين.

(1)

انظر: المدونة 1/ 246؛ الكافي لابن عبد البر ص 78؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 199؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(2)

انظر: الفروع 3/ 200؛ الإنصاف 5/ 338.

(3)

انظر: سنن الترمذي ص 140؛ المغني 3/ 265؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 199؛

(4)

الأم 1/ 264؛ مختصر المزني ص 49؛ الحاوي 2/ 495؛ المجموع 5/ 10؛ فتح الباري 2/ 579.

(5)

انظر: المغني 3/ 265؛ الشرح الكبير 5/ 328؛ الفروع 3/ 200؛ الإنصاف 5/ 338.

(6)

منهم ابن حامد. انظر: المغني 3/ 263؛ الشرح الكبير 5/ 328؛ الفروع 3/ 200؛ الإنصاف 5/ 338.

ص: 1128

روي ذلك عن جماعة، منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر-رضي الله عنهم

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو جواز شهود العجائز للعيدين، دون غيرها- بما يلي:

أولاً: عموم قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}

(2)

. والأمر بالقرار نهي عن الانتقال

(3)

.

ثانياً: حديث عائشة رضي الله عنها: (لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل)

(4)

.

فهذا يدل على منعهن المساجد لكثرة ما أحدثن، ولكثرة الفتن، وإذا مُنعن المساجد

فالمصلى أولى

(5)

.

ثالثاً: ولأن خروجهنّ سبب الفتنة، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام

(6)

.

أما الرخصة للعجائز في الخروج؛ فلأن المنع من الخروج لأجل الفتنة، وذا

(1)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 3؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 199؛ فتح الباري 2/ 579.

(2)

سورة الأحزاب، الآية (33).

(3)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 617.

(4)

سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.

(5)

انظر: عمدة القاري 5/ 201.

(6)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 617.

ص: 1129

لا يتحقق في العجائز، ثم كثرة خروج الصلحاء والعلماء في العيد يمنع من الوقوع في المأثم

(1)

.

واعترض عليه: بأن تخصيص الشواب بالمنع يأباه صريح الحديث الصحيح؛ حيث جاء فيه الأمر بإخراج ذوات الخدور، كما سبق ذكره، وحديث عائشة-رضي الله عنها-يدل على منع من أحدثت، فينبغي تخصيص المنع بهن دون غيرهن

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل لمن قال بكراهة خروجهن للعيدين، بحديث عائشة-رضي الله عنها-السابق. ولما في خروجهن من الفتنة

(3)

.

واعترض عليه: بأن القول بكراهة خروجهن على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة الصريحة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع

(4)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو استحباب الخروج للعجائز وغير ذوات الهيئات، دون غيرهن- بما يلي:

أولاً: حديث أم عطية-رضي الله عنها. فهو يدل على استحباب

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 617.

(2)

انظر: المغني 3/ 265؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(3)

انظر: المغني 3/ 265.

(4)

انظر: المغني 3/ 265؛ نيل الأوطار 3/ 400.

ص: 1130

خروجهن للعيدين.

ثانياً: حديث عائشة-رضي الله عنها. فهو يدل على كراهة خروجهن؛ لأجل الفتنة. والفتن وأسباب الشر، كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مأمونة، وإنما كثرت ذلك بعد العصر الأول

لذلك كره خروج من هي سبب للفتنة -وهن ذوات الهيئات-دون غيرهن

(1)

.

واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروجهن حتى الحيض وذوات الخدور، وهو مطلق يشمل ذوات الهيئات وغيرهن، وسنة رسول الله أحق أن تتبع

(2)

.

على أنه إذا خرجن فتسترن وتحجبن حجاباً لا يكون معه سفوراً، فإنه يستوي حين ذلك ذوات الهيئات وغيرهن في عدم التسبب في الفتنة. لذلك لو يؤمرن بالخروج للعيدين، ويؤمرن بالحجاب وعدم السفور، يكون في ذلك عملاً بالأدلة كلها، وتجنباً عن الفتنة وأسبابها.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو أن خروجهن إلى العيدين جائز غير مستحب-بما يلي:

أولاً: حديث أم عطية، وحديث عائشة-رضي الله عنها. وقد سبق ذكرهما.

ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا

(1)

انظر: الحاوي 2/ 495؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 199؛ المجموع 5/ 11.

(2)

انظر: المغني 3/ 265؛ نيل الأوطار 3/ 400.

ص: 1131

نساءكم المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ»

(1)

.

ثالثاً: عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها

(2)

أفضل من صلاتها في بيتها»

(3)

.

وجه الاستدلال منها: أن حديث أم عطية-رضي الله عنها فيها الأمر بخروجهن في العيدين، وحديث ابن عمر، وابن مسعود-رضي الله عنهما يدلان على أن صلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد. وحديث عائشة-رضي الله عنها يدل على منعهن من الخروج لما أحدثن من الفتن، فيكون الأمر في حديث أم عطية-رضي الله عنها للجواز فقط؛ لأن

الأفضل لها صلاتها في بيتها كما يدل عليه بقية الأحاديث

(4)

.

واعترض عليه: بأن صلاتها في بيتها أفضل، لكن فد يستثنى من ذلك العيد للأحاديث الواردة في خروجهن في العيدين. على أن خروجهن في العيدين ليس للصلاة فقط، بل لشهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 94، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، ح (567). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 94.

(2)

المخدَع: هو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 475.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه ص 95، كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك، ح (570). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 95.

(4)

انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم ص 112 - 114؛ المغني 3/ 265؛ الشرح الكبير 4/ 334؛ الإنصاف 4/ 334.

ص: 1132

ذلك اليوم وطهرته؛ ولذلك أُمر بخروج الحيض وغيرها

(1)

.

دليل القول الخامس

ويستدل للقول الخامس- وهو استحباب خروجهن للعيدين- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: حديث أم عطية-رضي الله عنها، وقد سبق ذكره.

ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما يقول: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلى قبل الخطبة. قال: ثم خطب فرأى أنه لم يسمع النساء، فأتاهن، فذكّرهنّ، ووعظهنّ، وأمرهنّ بالصدقة، وبلال قائل بثوبه، فجعلت المرأة تلقي الخاتم، والخرص

(2)

، والشيء)

(3)

.

ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما يقول: «قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل، فأتى النساء فذكّرهنّ، وهو يتوكّأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة»

(4)

.

(1)

انظر: فتح الباري 2/ 580؛ سبل السلام 2/ 139.

(2)

الخرص: الحلقة الصغيرة من الحلي، وهو من حلي الأذن. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 481.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 193، كتاب العيدين، باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، ح (979)، ومسلم في صحيحه 4/ 194، كتاب صلاة العيدين، باب صلاة العيدين، ح (884)(2).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 193، كتاب العيدين، باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، ح (978)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 194، كتاب صلاة العيدين، باب صلاة العيدين، ح (885)(3).

ص: 1133

رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بناته ونساءه في العيدين»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها: أن حديث جابر وابن عباس-رضي الله عنهما يدلان على أن النساء كن يخرجن للعيدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أم عطية-رضي الله عنها فيه الأمر بخروجهنّ، وهو وإن كان ظاهراً في الوجوب إلا أنه حمل على الاستحباب للأدلة التي تحث المرأة على عدم الخروج من البيت، ومنها ما جاء فيه أن صلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد

(2)

.

دليل القول السادس

ويستدل للقول السادس- وهو أن الخروج حق عليهنّ للعيدين- بما يلي:

أولاً: الأدلة التي استُدل بها للقول السابق.

ثانياً: عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (حق على ذات نطاق

(3)

الخروج إلى العيدين)

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 232، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء في العيدين، ح (1309)

وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 3، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو مدلس ولذلك ضعفه البوصيري، والشيخ الألباني. انظر: زوائد ابن ماجة ص 195؛ ضعيف سنن ابن ماجة ص 232.

(2)

انظر: المغني 3/ 263 - 265؛ الشرح الكبير 5/ 328 - 330؛ نيل الأوطار 3/ 400.

(3)

النطاق هو: شقة من ملابس النساء. وقيل: هو حبل تشد به المرأة وسطها للمهنة. انظر: مختار الصحاح ص 586؛ المصباح المنير ص 500.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 3. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 579: (وقد ورد هذا مرفوعاً بإسناد لا بأس به أخرجه أحمد أبو يعلى وابن المنذر).

ص: 1134

فهذا يدل على أن الخروج للعيدين حق عليهنّ

(1)

.

واعترض عليه: بأن قوله: (حق) يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكيد الاستحباب، وحمله على الاستحباب أولى؛ للأدلة الصارفة عن الوجوب

(2)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ خروج النساء في العيدين، قول لا دليل عليه، فهو غير صحيح، وقد سبق ما يرد به على هذا القول. كما سبق أن المقصود من خروجهن ليس الصلاة فقط، بل ليشهدن دعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته.

ثانياً: إن الراجح هو استحباب خروج النساء للعيدين، وذلك لما يلي:

أ-لصحة الأحاديث في ذلك وصراحتها، ولعمل الصحابة بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.

ب-ولعدم وجود ما يخالفها أو يعارضها من النبي صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.

(1)

انظر: المحلى 3/ 301 - 303؛ فتح الباري 2/ 579؛ سبل السلام 2/ 138.

(2)

انظر: فتح الباري 2/ 579.

ص: 1135

‌المبحث الثامن قضاء الصلاة، وصلاة الخوف

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: من فاتته الصلاة فقضاها فهل يقضي معها من الغد مثلها.

المطلب الثاني: تأخير الصلاة عن وقتها عند الخوف.

المطلب الثالث: صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين.

ص: 1136

‌المطلب الأول من فاتته الصلاة فقضاها فهل يقضي معها من الغد مثلها

ذهب الطحاوي إلى أن من فاتته الصلاة، فقضاها

(1)

فإنه كان يقضي معها من الغد مثلها ثم نسخ ذلك؛ لذلك من فاتته الصلاة فإنه يقضيها إذا ذكرها، ولا شيء عليه غير ذلك

(2)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف، لكن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم في المسألة هو اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في مفهوم تلك الآثار

(3)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أبي قتادة الأنصاري فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء

(4)

، بهذه القصة، قال: فلم توقظنا إلا الشمس

(1)

للقضاء لغة معان، منها: الحكم، والأداء، والإنهاء. انظر: مختار الصحاح ص 475؛ المصباح المنير ص 413.

واصطلاحاً: فعل الواجب بعد وقته. الدر المختار للحصكفي 2/ 457.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 465، 467.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 464 - 467؛ الاستذكار 1/ 118؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 488.

(4)

قال ابن حجر في الفتح 1/ 561: (ووقع في رواية لأبي داود أن ذلك كان في غزوة جيش الأمراء، وتعقبه ابن عبد البر بأن غزوة جيش الأمراء هي غزوة مؤتة، ولم يشهدها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال، لكن يحتمل أن يكون المراد بغزوة جيش الأمراء غزوة أخرى غير غزوة مؤتة).

ص: 1137

طالعة، فقمنا وهلين

(1)

لصلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «رويداً رويداً» حتى إذا تعالت الشمس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعهما» فقام من كان يركعهما ومن لم يكن يركعهما فركعهما، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالصلاة، فنودي بها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فلما انصرف قال:«ألا إنّا نحمد الله أنّا لم نكن في شيء من أمور الدنيا يشغلنا عن صلاتنا، ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل، فأرسلها أنَّى شاء، فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً، فليقض معها مثلها»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة

(1)

وهلين من الوهل، والوَهَلُ بالتحريك: الفزع. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 886.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 75، كتاب الصلاة، باب فيمن نام عن صلاة أو نسيها، ح (438)، وابن حزم

في المحلى 2/ 59، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 307. ثم ذكر عن البخاري أنه قال:(لا يتابع في قوله: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد) ثم قال البيهقي: (والذي يدل على ضعف هذه الكلمة وإن الصحيح ما مضى من رواية سليمان بن المغيرة أن عمران بن الحصين أحد الركب كما حدث عبد الله بن رباح عنه، وقد صرح في رواية هذا الحديث بأنه لا يجب مع القضاء غيره). وقال الشيخ الألبان في ضعيف سنن أبي داود ص 75: (شاذ).

ص: 1138

الأخرى. فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها»

(1)

.

ثانياً: عن ذي مخبر بن أخي النجاشي

(2)

رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنمنا فلم نستيقظ إلا بحر الشمس، فتنحّينا من ذلك المكان، قال: فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا كان من الغد حين بزغت الشمس-أي طلعت-، أمر بلالاً فأذّن ثم أمره فأقام، فصلى بنا الصلاة، فلمّا قضى الصلاة قال:«هذه صلاتنا بالأمس»

(3)

.

ثالثاً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، أو قال في سرية، فلما كان آخر السحر عرّسنا

(4)

، فما استيقظنا حتى أيقظنا حرّ الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعاً دهشاً

(5)

، فاستيقظ

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 488، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (681)(311).

(2)

هو: ذو مخبر، ويقال: ذو مخمر، الحبشي، ابن أخي النجاشي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه، ثم نزل الشام ومات به. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: جبير بن نفير، وأبو الزاهرية، ويزيد بن صبيح، وغيرهم. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 170؛ الإصابة 1/ 555؛ تهذيب التهذيب 3/ 200.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 465، و أصله في سنن أبي داود، ح (445)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 75.

(4)

التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 181؛ المصباح المنير ص 327.

(5)

دهشاً من دهش، يقال: رجل دهش إذا تحير، أو ذهب عقله من ذهل أو ولهٍ. انظر: المصباح المنير ص 169؛ القاموس المحيط ص 534.

ص: 1139

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا فارتحلنا من مسيرنا، حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذّن، فصلينا ركعتين، فأقام فصلى الغداة، فقلنا: يا نبي الله! ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أينهاكم الله عن الربا، ويقبله منكم»

(1)

.

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»

(2)

.

خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 589، والإمام أحمد في المسند 33/ 179، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 492، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 1/ 400، وابن حبان في صحيحه ص 484، والدارقطني في سننه 1/ 386، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 307، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 256. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 308، عن طريق زائدة بن قدامة عن هشام، عن الحسن أن عمران بن حصين حدثه فذكر معناه. ففي هذه الرواية صرح الحسن بالتحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 2/ 307: (ذكر البيهقي في باب من جعل في النذر كفارة يمين حديثاً من رواية الحسن عن عمران، ثم قال: "منقطع، ولا يصح عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح يثبت مثله"، وخالفه ابن خزيمة، فأخرج في صحيحه حديث هذا الباب من رواية هشام عن الحسن عن عمران، فدل ذلك على صحة سماعه من عمران. وقال صاحب الإمام: رواه الطبراني عن زائدة عن هشام، ورجال إسناده ثقات).

(2)

سبق تخريجه في ص 465.

ص: 1140

خيبر، سار ليلهُ، حتى إذا أدركه الكرى

(1)

عرّس. وقال لبلال: «اكلأ

(2)

لنا الليل» فصلى بلال ما قُدِّر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أي بلال» فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ-بأبي أنت وأمي يا رسول الله- بنفسك، قال:«اقتادوا» فاقتادوا رواحلهم شيئاً. ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح. فلما قضى الصلاة قال:«من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]»

(3)

.

سادساً: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يكلؤنا» فقال بلال: أنا. فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«افعلوا كما كنتم تفعلون» قال: ففعلنا، قال:«فكذلك فافعلوا، لمن نام أو نسي»

(4)

.

(1)

الكرى النوم، والنعاس. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 538؛ المصباح المنير ص 433.

(2)

الكلاءة: الحفظ والحراسة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 557.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 485، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (680)(309).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه ص 76، كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة أو نسيها، ح (447)، والإمام أحمد في المسند 6/ 170، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 310. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 76.

ص: 1141

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما كنا بدهاس

(1)

من الأرض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يكلؤنا الليلة؟» قال بلال: أنا، قال:«إذاً تنام» فنام حتى طلعت الشمس، فاستيقظ فلان وفلان، فقالوا: تكلموا حتى يستيقظ، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي قتادة، وذي مخبر، رضي الله عنهما-يدلان على أن من فاتته صلاة فإنه يقضيها، وإذا صلاها من الغد يقضي معها مثلها.

وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه فيه أن الصحابة لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضوا مع الصلاة الفائتة من الغد مثلها، نهاهم عن ذلك. فدل ذلك أن قضاء المثل من الغد كان قد ثبت عندهم، ثم نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وحديث أبي هريرة، وابن مسعود-رضي الله عنهما يدلان على أن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها إذا ذكرها، ويفعل كما يفعل من

(1)

الدهاس ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملاً. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 591.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 466.

ص: 1142

يصلي أداءً.

وحديث أنس رضي الله عنه يدل على أن من نام عن صلاة أونسيها فإنه يصليها إذا ذكرها، ولا كفارة لها إلا ذلك.

فثبت أن حديث عمران بن حصين، وأبي هريرة، وابن مسعود، وأنس-رضي الله عنهم

وما في معناها ناسخة لحديث أبي قتادة، وذي مخبر-رضي الله عنهما؛ لأنها بعدها، وقد ثبت فيها أنه ليس عليه إلا قضاء ما فاته إذا ذكرها

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في القضاء أكثر من مرة على من فاتته الصلاة بنوم أو نسيان على قولين:

القول الأول: إن من فاتته الصلاة فإنه يقضيها متى ما ذكرها، وليس عليه إعادة مثلها من الغد.

وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة

(2)

.

القول الثاني: إن من فاتته الصلاة فإنه يقضيها، ثم يقضي معها من

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 465 - 467.

(2)

انظر: "شرح معاني الآثار 1/ 467؛ بدائع الصنائع 1/ 562"؛ المدونة 1/ 214 - 217؛ الاستذكار 1/ 115، 118، 121؛ الكافي ص 53؛ المفهم للقرطبي 2/ 316"؛ الأم 1/ 92؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 306 - 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 3/ 488"؛ المغني 2/ 349؛ الشرح الكبير 3/ 193".

ص: 1143

الغد مثلها.

وهو قول قوم من أهل العلم

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يلزمه القضاء أكثر من مرة- بأدلة منها: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، وابن مسعود، وأنس بن مالك-رضي الله عنهم؛ فإنها تدل على أن من فاتته الصلاة لنوم أو نسيان فإنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك، بل هي كفارة ذلك

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يصليها ثم يقضي معها من الغد مثلها-بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي قتادة، وذي مخبر-رضي الله عنهما؛ حيث إنهما يدلان على أن من فاتته الصلاة فإنه يصليها إذا ذكرها، ومن الغد يقضي معها مثلها

(3)

.

واعترض عليه: بأن حديث أبي قتادة رضي الله عنه ورد بألفاظ مختلفة،

(1)

نسبه الطحاوي إلى قوم من أهل العلم، بدون أن يعين أحداً. وذكر ابن حبان والخطابي أن الأمر بإعادتها مرتين أمر فضيلة واستحباب. انظر: شرح معاني الآثار 1/ 465؛ صحيح ابن حبان ص 763؛ معالم السنن للخطابي 1/ 252.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 467؛ الاستذكار 1/ 115، 118، 121؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 306 - 310؛ المغني 2/ 349.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 465.

ص: 1144

بعضها يدل على أنه يقضي معها من الغد مثلها، وبعضها لا يدل على ذلك، وبعضها يحتمل الأمرين، مع أن الواقعة واحدة، فتطرق لحديثه احتمالات؛ لذلك يكون الأولى الأخذ من حديثه بما يوافق مع الأحاديث الكثيرة التي تدل على أن من فاتته الصلاة فإنه يقضيها ولا يلزمه غير ذلك كحديث أنس وعمران بن حصين وأبي هريرة-رضي الله عنهم

(1)

.

وحديث ذي مخبر رضي الله عنه كذلك ورد من طريقين، ففي بعض طرقه ليس ذكر إعادتها مرة ثانية

(2)

، وفي أحد طرقه ذكر ذلك

(3)

، فهو كذلك محتمل، ثم هو مخالف للأحاديث الكثيرة التي فيها أن من فاتته الصلاة فإنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك، وهي أصح منه بلا شك، لذلك فهو لا يقوى على معارضة تلك الأحاديث.

الراجح

بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وأدلتهم، يظهر لي- والله أعلم

(1)

انظر: صحيح مسلم 3/ 488، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، ح (681)(311)، وسنن أبي داود ص 74، ح (437 - 441)؛ التمهيد 1/ 254؛ السنن الكبرى للبيهقي 2/ 306 - 307؛ المفهم للقرطبي 2/ 316.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 75، 76، كتاب الصلاة باب في من نام عن الصلاة أو نسيها، ح (445)، (446).

(3)

رواه الطحاوي، وقد سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.

ص: 1145

بالصواب- أن الراجح هو القول الأول-وهو أنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك-؛ وذلك لما يلي:

أولاً: لكثرة الأحاديث الدالة على ذلك، مع صحتها في الجملة، وليس فيها تعرض للقضاء مرة ثانية.

ثانياً: ولأن أدلة هذا القول لا يتطرق إليها احتمالات، بخلاف ما يعارضها

(1)

.

ثالثاً: ولأن الأحاديث التي تدل على أنه يقضيها، ومن الغد يقضي معها مثلها يتطرق إليها أن تكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك؛ لأن معها ما يدل على تأخرها؛ لما جاء في بعض الروايات أن ذلك كان في غزوة تبوك

(2)

. وهي آخر غزوة غراها النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

. لذلك لو ثبت قضاؤها مرة ثانية، فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء فقط، وأن ذلك هي كفارتها

(4)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المفهم للقرطبي 2/ 316.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 465؛ فتح الباري 2/ 562.

(3)

انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 515؛ الرحيق المختوم ص 436.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 467.

ص: 1146

‌المطلب الثاني: تأخير الصلاة عن وقتها عند الخوف

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يؤخر الصلاة عن وقتها عند الخوف، وأن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عن وقتها يوم الخندق قد نسخ بصلاة الخوف

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي

(2)

، والنووي

(3)

، وأبو حامد الرازي

(4)

.

وذهب بعض أهل العلم، منهم المزني

(5)

، إلى عكس القول السابق؛ حيث قال: إن صلاة الخوف نسخ بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات يوم الخندق

(6)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في

(1)

انظر: الاعتبار ص 304؛ بداية المجتهد 1/ 338؛ مجموع الفتاوى 22/ 29؛ نصب الراية 2/ 249؛ نيل الأوطار 2/ 43.

(2)

انظر: الاعتبار ص 304.

(3)

انظر: المجموع 4/ 223.

(4)

انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 53.

(5)

هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، المزني، أبو إبراهيم، أخذ عن الإمام الشافعي، وغيره، وكان عالماً فقيهاً، و صنف كتباً كثيرة، منها المختصر المشهور (بمختصر المزني) قال الشافعي:(المزني ناصر مذهبي)، وتوفي سنة أربع وستين ومائتين. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 109؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 58.

(6)

انظر: المجموع 4/ 203؛ رسوخ الأحبار ص 308؛ فتح الباري 2/ 536.

ص: 1147

المسألة، وأن السبب الثاني للاختلاف فيها هو اختلاف الأحاديث الواردة فيها

(1)

.

ويستدل لمن قال بنسخ تأخير الصلاة عن وقتها بصلاة الخوف، بما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}

(2)

.

ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم و قبورهم ناراً، شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس»

(3)

.

ثالثاً: عن عبد الله رضي الله عنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً» أو قال: «حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً»

(4)

.

(1)

انظر: الاعتبار ص 304؛ بداية المجتهد 1/ 338؛ المجموع 4/ 203، 223؛ نيل الأوطار 2/ 43.

(2)

سورة البقرة، الآية (238 - 239).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 594، كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ح (2931)، ومسلم في صحيحه 3/ 434، كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، ح (627)(202).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 436، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ح (628)(206).

ص: 1148

رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوِيٍّ من الليل حتى كُفينا، وذلك قول الله تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]، قال:(فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام صلاة الظهر فصلاها، وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاها، وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب، فصلاها كذلك. قال: وذلكم قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239])

(1)

.

خامساً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شُغل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر المشركين فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما فرغ صلاهنّ الأول فالأول، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف).

(2)

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 110، كتاب الأذان، باب الأذان للفائت من الصلوات، ح (661)، والإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 18/ 46، والدارمي في سننه 1/ 430، والحازمي في الاعتبار ص 303. وصححه ابن السكن والشيخ الألباني. انظر: التلخيص الحبير 1/ 195؛ صحيح سنن النسائي ص 110. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 1/ 257: (إسناده صحيح).

(2)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 301. وفي سنده محمد بن كثير الكوفي، وهو ضعيف ضعفه غير واحد من أهل العلم، منهم: الإمام أحمد والبخاري، وابن حجر. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 362؛ التقريب 2/ 127. والحديث له متابع نحوه من رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي في سننه ص 54، ح (179)، وعند أحمد في المسند 6/ 18.

ص: 1149

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شُغلوا

يوم الخندق عن بعض الصلوات حتى خرج وقتها. ثم حديث أبي سعيد، وابن مسعود-رضي الله عنهما-الأخير، يدلان على أن ذلك كان قبل صلاة الخوف، وأن قوله تعالى:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} نزل بعد ذلك. فثبت من ذلك كلها أن تأخير الصلاة عن وقتها عند الخوف قد نسخ بصلاة الخوف

(1)

.

واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع

(2)

، وهي كانت قبل الخندق على ما قاله بعض أهل السير. فلا يكون صلاة الخوف ناسخاً لتأخير الصلاة عن وقتها عند القتال

(3)

.

وأجيب عنه: بأن الصحيح أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد الخندق، يدل عليه آثار كثيرة، منها ما سبق ذكره من حديث أبي سعيد

(1)

انظر: الاعتبار ص 303، 304؛ بداية المجتهد 1/ 338؛ مجموع الفتاوى 22/ 29؛ نيل الأوطار 2/ 43.

(2)

ذات الرقاع، قال النووي في المجموع 4/ 204:(وذات الرقاع-بكسر الراء- موضع قبل نجد، من أرض غطفان).

ونقل ياقوت الحموي عن الواقدي أنه قال: ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة وبئر أرما، على ثلاثة أميال من المدينة. انظر: معجم البلدان 2/ 412.

(3)

انظر: سيرة ابن هشام 2/ 202، 214؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 544؛ فتح الباري 7/ 510؛ تهذيب سيرة ابن هشام ص 147، 148، 151.

ص: 1150

الخدري رضي الله عنه

(1)

.

دليل من قال بنسخ صلاة الخوف

واستدل من قال بنسخ صلاة الخوف بما سبق في دليل القول السابق من حديث علي، وابن مسعود-رضي الله عنهما

(2)

.

ويستدل منهما على النسخ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي كانت قبل الخندق

(3)

، وفي غزوة الخندق فاتته صلوات وأَخَّرها عن وقتها، فلو كانت صلاة الخوف جائزة لفعلها، ولم يفوت الصلاة ولم يؤخرها عن وقتها، فدل ذلك على نسخ صلاة الخوف

(4)

.

واعترض عليه: بأن الصحيح-كما سبق- أن غزوة ذات الرقاع والتي فيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف كانت بعد غزوة الخندق، فغزوة الخندق متقدمة عليه، فيكف ينسخ المتأخر بالمتقدم

(5)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

(1)

انظر: صحيح الإمام البخاري ص 849؛ فتح القدير لابن الهمام 2/ 101؛ فتح الباري 7/ 510؛ عمدة القاري 12/ 159؛ الرحيق المختوم ص 380.

(2)

انظر: المجموع 4/ 203؛ فتح الباري 2/ 536.

(3)

انظر: سيرة ابن هشام 2/ 202، 214؛ فتح الباري 7/ 510؛ تهذيب سيرة ابن هشام ص 147 - 151.

(4)

انظر: المجموع 4/ 203؛ فتح الباري 2/ 536.

(5)

انظر: المجموع 4/ 203؛ فتح القدير لابن الهمام 2/ 101؛ فتح الباري 2/ 536.

ص: 1151

وقد اختلف أهل العلم في تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف وحال القتال على أربعة أقوال:

القول الأول: لا يؤخر الصلاة عن وقتها في الخوف إلا حال القتال والمسايفة فيشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت.

وهو مذهب الحنفية

(1)

.

القول الثاني: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف وحال القتال، بل يصليها على حسب قدرته.

وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

.

القول الثالث: لا يؤخر الصلاة عن وقتها في الخوف، إلا أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير.

وهو رواية عن الإمام أحمد

(5)

.

القول الرابع: أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إذا لم

(1)

انظر: الأصل 1/ 398؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 365؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 544؛ بدائع الصنائع 1/ 559؛ الهداية 2/ 100 - 102.

(2)

انظر: المدونة 1/ 241؛ التمهيد 5/ 277؛ شرح التلقين 3/ 1054؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 2/ 564؛ التاج والإكليل 2/ 564؛ شرح الزرقاني على مختصر خليل 2/ 70.

(3)

انظر: الأم 1/ 244؛ الحاوي 2/ 470؛ حلية العلماء 2/ 258؛ العزيز 2/ 338؛ المجموع 4/ 223.

(4)

انظر: المغني 3/ 316؛ الشرح الكبير 5/ 146؛ الممتع 1/ 622؛ مجموع الفتاوى 22/ 29؛ الإنصاف 5/ 146.

(5)

انظر: الممتع 1/ 623؛ مجموع الفتاوى 22/ 29؛ الإنصاف 5/ 146.

ص: 1152

يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن.

وهو قول طائفة من علماء الشام، منهم مكحول

(1)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه يؤخر الصلاة حال الفتال والمسايفة- بما يلي:

أولاً: الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر بعض الصلوات يوم الخندق، وقد سبق ذكر بعضها.

ولو جازت الصلاة مع القتال لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ-إن غزوة الخندق كانت قبل مشروعية صلاة الخوف، فيكون تأخير الصلاة عن وقتها منسوخاً بصلاة الخوف

(3)

.

ب-إنه لا يصح الاستدلال من تأخير بعض الصلوات يوم الخندق على تأخير الصلوات حال القتال والمسايفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الخندق لم يكونوا في مسايفة توجب قطع الصلاة، أو تأخرها عن وقتها

(4)

.

(1)

انظر: بداية المجتهد 1/ 338؛ فتح الباري 2/ 534؛ نيل الأوطار 2/ 43.

(2)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 559؛ الهداية 2/ 101؛ فتح القدير 2/ 102.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 338؛ المجموع 4/ 223.

(4)

انظر: المغني 3/ 318.

ص: 1153

ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (حضرت عند مناهضة

(1)

حصن تستر

(2)

عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار،

فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، قال أنس: وما يسرّني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها)

(3)

.

فهؤلاء الصحابة أخروا الصلاة عند القتال، وأميرهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو كان قد حضر صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنه يؤخر الصلاة عند القتال والمسايفة

(4)

.

واعترض عليه: بأنه يمكن أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلاً من شدة القتال، أو أنهم عجزوا عن الصلاة حتى بالإيماء

(5)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنهم لا يؤخرون الصلاة عن

(1)

المناهضة من نهض بمعنى المقاومة، وتناهضوا في الحرب أي نهض كل إلى صاحبه، ونهض إلى العدو أي أسرع إليه. انظر: المصباح المنير ص 514؛ القاموس المحيط ص 590.

(2)

تستر بالضم ثم السكون، وفتح التاء الأخرى وراء. وهي أعظم مدن خوزستان. انظر: معجم البلدان 1/ 443.

(3)

ذكره البخاري في صحيحه ص 187، في كتاب الخوف، بدون سند. وقال ابن حجر في الفتح 2/ 535:(وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طرق قتادة عنه، وذكره خليفة في تاريخه، وعمر بن شبة في أخبار البصرة من وجهين آخرين عن قتادة).

(4)

انظر: فتح الباري 2/ 536؛ عمدة القاري 5/ 144.

(5)

انظر: فتح الباري 2/ 535؛ عمدة القاري 5/ 144.

ص: 1154

وقتها ولو في حالة القتال- بما يلي:

أولاً: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}

(1)

.

فهذه الآية عامة تشمل حال القتال وغيره

(2)

.

ثانياً: عن نافع أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما كان إذا سُئل عن صلاة الخوف قال: (يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدوّ لم يصلوا، فإذا صلوا الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين. فإن كان خوف هو أشدّ من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها). قال نافع: لا أُرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: «أن

(1)

سورة البقرة، الآية (239).

(2)

انظر: المغني 3/ 317؛ المجموع 4/ 223.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 935، كتاب التفسير، باب قوله:(فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)، ح (4535)، ومسلم في صحيحه 4/ 149، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، ح (839)(306).

ص: 1155

يكون الإمام يصلي بطائفة معه، فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدوّ، ثم ينصرف الذين سجدوا السجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلوا مع أميرهم سجدة واحدة، ثم ينصرف أميرهم وقد صلى صلاته، ويصلي كل واحد من الطائفتين بصلاته سجدة لنفسه. فإن كان خوف أشدّ من ذلك فرجالاً أو ركباناً» قال: يعني بالسجدة الركعة

(1)

.

فهذا يدل على أنه إذا كان الخوف أشد، فيصلون كيفما أمكنهم رجالاً أو ركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها

(2)

.

ثالثاً: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في غير شدة الخوف، فأمرهم بالمشي إلى وجه العدوّ، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم، وهذا مشي كثير، وعمل طويل، واستدبار للقبلة، وأجاز ذلك من أجل الخوف الذي ليس بشديد، فمع الخوف الشديد أولى

(3)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أنه يجوز حال القتال تأخير الصلاة عن وقتها- بالأدلة التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 224، كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الخوف، ح (1258). قال ابن حجر في الفتح 2/ 531:(إسناده جيد). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 223.

(2)

انظر: المغني 3/ 316، 317.

(3)

انظر: المغني 3/ 317.

(4)

انظر: الممتع 1/ 623.

ص: 1156

واعترض عليه بما يلي:

أ-بأنه كان قبل نزول آية صلاة الخوف

(1)

.

ب-أنه لم ينقل أنهم كانوا في حال المسايفة

(2)

.

دليل القول الرابع

ويستدل للقول الرابع- وهو أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن- بالأدلة التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر بعض الصلوات عن وقتها يوم الخندق

(3)

.

ويعترض عليه بما اعترض به على القول السابق.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ صلاة الخوف غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعد غزوة الخندق، وعمل به أصحابه-رضي الله عنهم بعد

(1)

انظر: المغني 3/ 318؛ الممتع 1/ 623.

(2)

انظر: المغني 3/ 318؛ الممتع 1/ 623.

(3)

انظر: بداية المجتهد 1/ 338.

ص: 1157

وفاته صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال بنسخ المتأخر بالمتقدم؟

(1)

.

ثانياً: إن القول بنسخ تأخير الصلاة في الخوف بصلاة الخوف قول يدل عليه بعض الآثار، منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ويؤكده أن أبا موسى الأشعري، وأبا هريرة رضي الله عنهما-صليا صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهما قد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق

(2)

.

ثالثاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو أنه لا يؤخر الصلاة في الخوف حتى في حال القتال؛ وذلك لصحة أدلته وعدم تطرق الاحتمال إليها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى

(3)

.

ولكن مع هذا إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ولم يقدر الشخص أن يصلي على أي حال فله أن يؤخر الصلاة

(4)

؛ وذلك:

أ- لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(5)

.

ب-ولعمل بعض الصحابة على نحو ذلك، كما رواه أنس رضي الله عنه

(6)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: المجموع 4/ 203؛ فتح الباري 2/ 536.

(2)

انظر: صحيح الإمام البخاري ص 849، 850؛ الاعتبار ص 303، 304؛ فتح الباري 7/ 510 - 513؛ نيل الأوطار 2/ 43.

(3)

راجع ما اعترض به على أدلة تلك الأقوال.

(4)

انظر: الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين 2/ 298.

(5)

سورة البقرة، الآية (286).

(6)

انظر: صحيح الإمام البخاري ص 187؛ فتح الباري 2/ 535.

ص: 1158

‌المطلب الثالث صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين

ذهب بعض أهل العلم، منهم الطحاوي، إلى أن صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، قد نسخ، لذلك لا يصلي بهم إذا كان في سفر إلا ركعة ركعة

(1)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم فيها هو اختلافهم في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل

(2)

.

دليل من قال بالنسخ

قال من ادعى النسخ بان صلاة الإمام بالطائفة الثانية ركعتين، لا تخلو من أن تكون فريضة أو نافلة.

فإن كانت فريضة فيكون الإمام قد صلى الفريضة مرتين، وصلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين قد نسخ.

وإن كانت صلاته بالطائفة الثانية نافلة، فيكون صلاة من خلفه صلاة مفترض خلف متنفل، وهو كذلك قد نسخ.

أما نسخ صلاة الفريضة الواحدة في اليوم مرتين، فدليله:

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 150؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 373؛ سبل السلام 2/ 131؛ نيل الأوطار 3/ 444.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ سبل السلام 2/ 131؛ نيل الأوطار 3/ 444.

ص: 1159

أولاً: عن سليمان بن يسار- مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر على البلاط، وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين»

(1)

.

ثانياً: عن خالد بن أيمن المعافري قال: كان أهل العوالي يصلون في منازلهم، ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، «فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين»

(2)

.

والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة، فدل ذلك أن الفريضة الواحدة كانت تُصلى في اليوم مرتين، ثم نسخ ذلك

(3)

.

أما نسخ صلاة المفترض خلف المتنفل، فدليله:

عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدُوّ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدُوّ، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة»

(4)

.

فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى في صلاة الخوف بكل طائفة ركعة ركعة، فدل ذلك على نسخ صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأنه لو كان جائزاً ولم ينسخ لصلى

(1)

سبق تخريجه في ص 457.

(2)

سبق تخريجه في ص 458.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316.

(4)

سبق تخريجه في ص 720.

ص: 1160

بكل طائفة ركعتين ركعتين

(1)

.

فثبت من هذا كله أن صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، قد نسخ

(2)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الخوف أحياناً بكل طائفة ركعتين ركعتين، لذلك لا يصح الاستدلال من صلاة الخوف بكل طائفة ركعة ركعة، على نسخ أن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين. كما لا يصح الاستدلال منه على نسخ صلاة المفترض خلف المتنفل

(3)

.

ثانياً: أما الاستدلال على نسخ أن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين بالأحاديث التي تدل على النهي عن الصلاة الواحدة في اليوم مرتين، فهو غير صحيح كذلك؛ لأن النهي إن كان عن أن يصلى الفريضة الواحدة في يوم مرتين، فهو لا يشمل صلاة الإمام بالطائفة الثانية ركعتين، ولا صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن الإمام والمتنفل، كل منهما متنفل عندما يصلى مرة ثانية، وليس بمفترض حتى يقال إنه صلى صلاة واحدة مرتين، أما إن كان المراد بالنهي عن الصلاة الواحدة في يوم مرتين: أن من صلى الفريضة

(1)

انظر: التمهيد 5/ 275؛ بدائع الصنائع 1/ 358، 359؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 373.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316؛ فتح القدير لابن الهمام 1/ 373.

(3)

انظر: التمهيد 5/ 275؛ فتح الباري 2/ 243.

ص: 1161

مرة فلا يجوز له أن يصليها مرة ثانية بنية النفل، فهذا ما لا يسلم إطلاقه أحد حتى من قال بنسخ صلاة المفترض خلف المتنفل

(1)

.

ثالثاً: إن ما ذكر من الاستدلال على النسخ مجرد احتمال، ليس عليه دليل؛ إذ لا يعرف أن النهي عن الصلاة الواحدة في يوم مرتين كان بعد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، حتى يستدل منه على النسخ، إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ

(2)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في صلاة الإمام في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين على قولين:

القول الأول: إن الإمام لا يصلي بكل طائفة ركعتين ركعتين إذا كانوا مسافرين، بل يصلي بهم ركعة ركعة.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

.

(1)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 297؛ بداية المجتهد 1/ 275؛ المغني 3/ 68؛ فتح الباري 2/ 243، 244؛ نيل الأوطار 3/ 234.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 150؛ مجموع الفتاوى 23/ 387؛ نيل الأوطار 3/ 444.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 315، 316؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 366؛ بدائع الصنائع 1/ 557؛ فتح القدير 2/ 100.

(4)

انظر: المدونة 1/ 240؛ التفريع 1/ 237؛ الإشراف 1/ 337؛ الاستذكار 2/ 390؛ التاج والإكليل 2/ 562.

ص: 1162

القول الثاني: يجوز أن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة جميع الصلاة ويسلم، ثم بالطائفة الثانية جميع الصلاة كذلك.

وهو مذهب الشافعية

(1)

، والحنابلة

(2)

، وقول الحسن البصري، والأوزاعي، وداود

الظاهري

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يصلي بهم جميع الصلاة- بما يلي:

أولاً: حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما السابق، وقد سبق وجه الاستدلال منه، والرد عليه.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة»

(4)

.

(1)

انظر: مختصر المزني ص 47؛ الحاوي 2/ 474؛ المهذب 1/ 346؛ العزيز 2/ 320؛ المجموع 4/ 204.

(2)

انظر: المغني 3/ 311، 313؛ الشرح الكبير 5/ 137؛ الممتع 1/ 619؛ الإنصاف 5/ 138؛ معونة أولي النهى

2/ 250؛ زاد المستقنع ص 18.

(3)

انظر: الاستذكار 2/ 393.

(4)

سبق تخريجه في ص 698.

ص: 1163

وجه الدلالة منه: أن الحديث يدل على أن الإمام إنما جعل ليؤتم به، والائتمام به هو الاقتداء به في جميع تلك الصلاة، ومن خالفه في نيته فلم يأتم به، كما أن فيه النهي عن الاختلاف عليه، وهو عام، ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات إذ هي ركن العمل، فثبت منه عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، والإمام إذا صلى بالطائفة الثانية كذلك ركعتين فصلاته هذه تطوع، فتكون صلاة من خلفه صلاة مفترض خلف متنفل، وهو لا يجوز

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن المراد بالائتمام وعدم الاختلاف عليه، هو في الأفعال الظاهرة، حيث فسره الحديث بعد ذلك بالأفعال الظاهرة

(2)

.

ثانياً: أنه لو يُسلم أن النهي عن الاختلاف يعم كل اختلاف، فتكون الأدلة الدالة على

جواز أن يصلي المفترض خلف المتنفل-ومنها أدلة جواز صلاة الإمام بالطائفة الثانية في الخوف كامل الصلاة- مخصصة له

(3)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو جواز أن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة كامل الصلاة-بما يلي:

(1)

انظر: الإشراف 1/ 295؛ التمهيد 3/ 237، 5/ 275؛ بدائع الصنائع 1/ 359، 557؛ اللباب للمنبجي 1/ 261.

(2)

انظر: الحاوي 2/ 319؛ التمهيد 3/ 238؛ المغني 3/ 68.

(3)

انظر: نيل الأوطار 3/ 235.

ص: 1164

أولاً: عن جابر رضي الله عنه: (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وصلى بكل طائفة ركعتين)

(1)

.

ثانياً: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصفّ بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدُوّ، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلُّوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، ولأصحابه ركعتين، ركعتين)

(2)

.

ووجه الاستدلال منهما ظاهر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الثانية ركعتين، وقد صلى قبل ذلك بالطائفة الأولى ركعتين، فدل ذلك على جواز أن يصلي الإمام بكل طائفة كامل الصلاة

(3)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: بأنه يحتمل أنه كان حينما كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين، وقد نسخ ذلك، فيكون هذا نحوه

(4)

.

وقد سبق ما يرد به على هذا الاعتراض.

(1)

سبق تخريجه في ص 724.

(2)

سبق تخريجه في ص 724.

(3)

انظر: الحاوي 2/ 474؛ الاستذكار 2/ 393؛ المغني 3/ 313؛ المجموع 4/ 204.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 316.

ص: 1165

ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين؛ لأن ذلك كان في الحضر، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم ركعتين ركعتين، ثم هم أتموا لأنفسهم

(1)

.

وأجيب عنه: بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في الحضر، وسلام النبي صلى الله عليه وسلم في كل ركعتين منها يدل على أنه كان في سفر

(2)

.

الراجح

بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ أن يصلى الإمام بكل طائفة كامل الصلاة قول ضعيف وغير صحيح؛ إذ ليس عليه دليل يثبت ذلك، فهو مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به

(3)

.

ثانياً: إن الراجح هو جواز أن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة كامل الصلاة، وذلك لما يلي:

أ- لنقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع صحة دليله، وكونه ظاهراً.

ب-ولأن أدلة من قال بعدم جواز ذلك، أدلة عامة يمكن تخصيصها بالأحاديث السابقة الدالة على الجواز، على أن تلك الأدلة ليست صريحة في الدلالة على عدم الجواز.

والله أعلم.

(1)

انظر: بدائع الصنائع 1/ 557؛ عمدة القاري 12/ 166.

(2)

انظر: التمهيد 5/ 273، 274؛ الاستذكار 2/ 393.

(3)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 150؛ سبل السلام 2/ 131؛ نيل الأوطار 3/ 444.

ص: 1166

‌المبحث التاسع: الجنائز

وفيه عشرة مطالب:

المطلب الأول: القيام للجنازة.

المطلب الثاني: جلوس من تبع جنازة قبل وضعها.

المطلب الثالث: الصلاة على الجنازة في المسجد.

المطلب الرابع: الزيادة على أربع تكبيرات في الجنازة.

المطلب الخامس: صلاة الجنازة على من مات وعليه دين.

المطلب السادس: صلاة الجنازة على من قتل نفسه.

المطلب السابع: الصلاة على المنافقين.

المطلب الثامن: الاستغفار لموتى المشركين.

المطلب التاسع: النياحة على الميت.

المطلب العاشر: زيارة القبور.

ص: 1167

‌المطلب الأول: القيام للجنازة

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن القيام للجنازة

(1)

كان أولاً، ثم نسخ، لذلك لا يقوم لها أحد

(2)

.

وهو مذهب الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، والشافعية

(5)

، والحنابلة

(6)

.

ويتبين منه ومما يأتي من أدلة الأقوال: أن سبب اختلاف أهل العلم

(1)

الجنازة بالكسر، واحدة الجنائز، وقيل: بالفتح، ومعناه: الميت على السرير. وقيل: بالكسر: الميت نفسه، وبالفتح السرير، وقيل بالعكس. انظر: مختار الصحاح ص 100؛ المصباح المنير ص 100؛ القاموس المحيط ص 456.

(2)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 398 - 400؛ الاعتبار ص 310؛ بداية المجتهد 1/ 447؛ روضة الطالبين ص 228؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275؛ رسوخ الأحبار ص 314.

(3)

انظر: موطأ محمد ص 110؛ شرح معاني الآثار 1/ 488 - 490؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 127.

(4)

انظر: التمهيد 6/ 268 - 269؛ الاستذكار 2/ 585 - 586؛ بداية المجتهد 1/ 447؛ مواهب الجليل 3/ 58؛ التاج والإكليل 3/ 58؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 664.

(5)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 43؛ روضة الطالبين ص 228؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275؛ المجموع 5/ 171.

(6)

المذهب عند الحنابلة أنه لا يقوم للجنازة. وصرح بنسخ القيام لها بعضهم، منهم: ابن قدامة، وعبد الرحمن المقدسي، وزين الدين المنجا. انظر: المغني 3/ 404؛ الكافي 2/ 60؛ الشرح الكبير 6/ 214؛ الممتع 2/ 58؛ الإنصاف 6/ 213.

ص: 1168

في المسألة شيئان: اختلاف الآثار الواردة فيها، والقول بالنسخ

(1)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن علي رضي الله عنه يقول في شأن الجنائز: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، ثم قعد»

(2)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا). يعني في الجنائز

(3)

.

وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس»

(4)

.

وعن أبي مَعْمَر

(5)

قال: كنا عند علي، فمرت به جنازة، فقاموا لها،

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 486 - 490؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 391 - 400؛ الاعتبار ص 310 - 313.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 276، كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة، ح (962)(83).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 276، كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة، ح (962)(84).

(4)

سبق تخريجه في ص 98.

(5)

هو: عبد الله بن سخبرة الأزدي، أبو معمر الكوفي، ثقة، روى عن: عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنه وغيرهم. وروى عنه: مجاهد، وإبراهيم النخعي، وغيرهما. وتوفي في إمارة عبيد الله بن زياد. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 427؛ تهذيب التهذيب 5/ 205 - 206؛ تقريب التهذيب 1/ 495.

ص: 1169

فقال علي: ما هذا؟ قالوا: أمرُ أبي موسى، فقال:«إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودية، ولم يعد بعد ذلك»

(1)

.

وفي رواية أخرى عن أبي معمر، قال: كنا مع علي، فمرّ به جنازة، فقام لها ناس، فقال علي: من أفتاكم هذا؟ فقالوا: أبو موسى. قال: «إنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نُهي انتهى»

(2)

.

ثانياً: عن ابن سيرين قال: مُرّ بجنازة عل الحسن بن عليّ وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال ابن عباس: «قام لها، ثم قعد»

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 309، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، ح (1923)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 396. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 309، وقال في الإرواء 3/ 193: (أخرجه النسائي وابن أبي شيبة بسند صحيح).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 459، وأحمد في المسند 2/ 381. وروى نحوه الطحاوي في شرح معاني الاثار 1/ 489، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 396. وفي سنده ليث ابن أبي سليم، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 30:(رواه أحمد، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة، ولكنه مدلس). وذكر الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/ 193، أنه رواه الطيالسي، وأحمد، -فذكره- ثم قال:(وفيه عندهما ليث بن أبي سليم، وكان قد اختلط).

(3)

أخرجه النسائي في سننه ص 309، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، ح (1925)، ونحوه الإمام أحمد في المسند 3/ 251، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 44، وابن عبد البر في الاستذكار 2/ 587. وقال الألباني في صحيح سنن النسائي ص 309:(صحيح الإسناد)، وقال في الإرواء 3/ 193:(وإسناده صحيح).

ص: 1170

ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم للجنازة، وأنه أمر بذلك، ثم قعد بعد ذلك فلم يكن يقوم لها، وأمر بالجلوس، فثبت أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجلوس، وترك القيام لها، فيكون ذلك ناسخاً للأمر الأول

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في القيام للجنازة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يقوم لها.

وهو مذهب الحنفية

(2)

، والمالكية

(3)

، والشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

.

(1)

انظر: شرح معاني الاثآر 1/ 488 - 490؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 398 - 400؛ الاعتبار ص 310 - 313؛ المغني 3/ 404؛ تحفة الأحوذي 4/ 132 - 133.

(2)

انظر: موطأ محمد ص 110؛ شرح معاني الآثار 1/ 488 - 490؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 127.

(3)

انظر: التمهيد 6/ 268 - 269؛ الاستذكار 2/ 585 - 586؛ بداية المجتهد 1/ 447؛ مواهب الجليل 3/ 58؛ التاج والإكليل 3/ 58؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 664.

(4)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ روضة الطالبين ص 228؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275؛ المجموع 5/ 171.

(5)

انظر: المغني 3/ 404؛ الكافي 2/ 60؛ الشرح الكبير 6/ 214؛ الممتع 2/ 58؛ الإنصاف 6/ 213.

ص: 1171

ورُوي ذلك عن علي، والحسن بن علي، وابن عباس-رضي الله عنهم، وعلقمة، و الأسود، وسعيد بن المسيب، وعروة، والنخعي

(1)

.

القول الثاني: يستحب القيام للجنازة.

وهو قول بعض المالكية

(2)

، وبعض الشافعية

(3)

، رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة

(4)

.

وروي نحوه عن ابن عمر، وأبي مسعود البدري، وأبي سعيد الخدري، وقيس بن سعد

(5)

،

وسهل بن حنيف

(6)

رضي الله عنهم،

(1)

انظر: التمهيد 6/ 586؛ الاعتبار ص 310؛ رسوخ الأحبار ص 314.

(2)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275؛ مواهب الجليل 3/ 58؛ نيل الأوطار 4/ 109.

(3)

انظر: المجموع 5/ 172؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275؛ نيل الأوطار 4/ 109.

(4)

انظر: المغني 3/ 404؛ الشرح الكبير 6/ 213؛ الإنصاف 6/ 213.

(5)

هو: قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، الأنصاري، الخزرجي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عروة، وأبو

ميسرة،، وغيرهما، وكان أحد الفضلاء الجلة، من دهاة العرب، من أهل الحرب والمكيدة في الحرب، مع النجدة والسخاء. وتوفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 20؛ الإصابة 3/ 1634.

(6)

هو: سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، الأنصاري، الأوسي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو وائل، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهما، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وتوفي سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي رضي الله عنه، فكبر عليه ستاً، وقيل: خمساً، وقال: إنه بدري. انظر: الإصابة 1/ 777 - 778.

ص: 1172

وسالم بن عبد الله

(1)

.

القول الثالث: إن القيام وعدمه سواء، فلا بأس بالقعود، وإن قام فلا يُعاب.

وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد

(2)

، وقول إسحاق بن راهوية

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يقوم للجنازة- بالأدلة التي سبقت في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أن من مرت به جنازة فإنه يجلس ولا يقوم لها

(4)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يقوم للجنازة، وأن ذلك مستحب- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع»

(5)

.

ثانياً: عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم

(1)

انظر: التمهيد 6/ 268؛ الاستذكار 2/ 586؛ الاعتبار ص 310؛ نيل الأوطار 4/ 109.

(2)

انظر: المغني 3/ 404؛ الشرح الكبير 6/ 213؛ الإنصاف 6/ 124.

(3)

انظر: الاستذكار 2/ 586؛ الاعتبار ص 310.

(4)

انظر: موطأ محمد ص 110؛ الاستذكار 2/ 586؛ المجموع 5/ 171؛ المغني 3/ 403.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 258، كتاب الجنازة، باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع من مناكب الرجال، ح (1310)، ومسلم في صحيحه 4/ 274، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، ح (959)(77).

ص: 1173

الجنازة فقوموا لها، حتى تخلفكم أو توضع»

(1)

.

ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما قال: مرّت جنازة، فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله إنها يهوديّة، فقال:«إن الموت فزع. فإذا رأيتم الجنازة فقوموا»

(2)

.

فهذه الأحاديث تدل على القيام للجنازة إذا رآها الشخص أو مرت به؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قام لها، كما أمر بالقيام لها

(3)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث تدل على القيام للجنازة، إلا أن الأحاديث الدالة على عدم القيام لها متأخرة عنها؛ لذلك تكون هي ناسخة لما يخالفها

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 257، كتاب الجنازة، باب القيام للجنازة، ح (1307)، ومسلم في صحيحه -واللفظ له-4/ 273، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، ح (958)(73).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 258، كتاب الجنازة، باب القيام للجنازة، ح (1311)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-4/ 274، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، ح (960)(78).

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 487؛ التمهيد 6/ 268؛ المجموع 5/ 172؛ المغني 3/ 404.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 488 - 489؛ الاستذكار 2/ 585؛ الاعتبار ص 313؛ المغني 3/ 404.

ص: 1174

دليل القول الثالث

أما القول الثالث-وهو أن القيام وعدمه سواء- فيستدل له بأدلة القول الأول، وأدلة القول الثاني.

ووجه الاستدلال منها: هو أن بعض تلك الأحاديث يدل على القيام للجنازة، وبعضها يدل على عدم القيام لها؛ لذلك فمن قام لها فلا يعاب، ومن لم يقم فلا بأس

(1)

.

واعترض عليه: بأن بعض هذه الأحاديث يدل على القيام للجنازة، وبعضها يدل على عدمه، لكن التي تدل على عدم القيام لها معها ما يدل على تأخرها، والأخذ بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى؛ لأنه يكون ناسخاً لأمره الأول

(2)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو أن القيام للجنازة قد نسخ؛ وذلك لأن أدلة القول الثاني وإن كانت أكثر، إلا أن أدلة القول بالنسخ معها ما يدل على أنها متأخرة عن أدلة القول الثاني،

(1)

انظر: سنن الترمذي ص 248؛ المغني 3/ 404؛ نيل الأوطار 4/ 109.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 488 - 489؛ الاستذكار 2/ 585؛ الاعتبار ص 313؛ المغني 3/ 404.

ص: 1175

وهي بمجموع رواياتها وطرقها صالحة للاحتجاج بها، وتفيد نسخ القيام للجنازة.

والله أعلم.

ص: 1176

‌المطلب الثاني: جلوس من تبع جنازة قبل وضعها

ذهب بعض أهل العلم

(1)

-وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

- إلى أن النهي عن الجلوس لمن تبع جنازة قبل وضعها قد نسخ؛ لذلك يجوز لمن تبعها أن يجلس قبل وضعها.

وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي

(4)

، و الطحاوي

(5)

، وابن عبد البر

(6)

.

وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم، كما أن اختلاف الآثار الواردة في المسألة، والاختلاف في مفهومها، سبب آخر لاختلافهم فيها

(7)

.

(1)

انظر: التمهيد 6/ 271؛ الاعتبار للحازمي ص 328؛ المجموع 5/ 171؛ رسوخ الأحبار ص 316 - 317؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 312.

(2)

انظر: التمهيد 6/ 269؛ الاستذكار 2/ 586؛ مواهب الجليل 3/ 58؛ الشرح الكبير 1/ 664؛ حاشية الدسوقي 1/ 664.

(3)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ المجموع 5/ 171؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275.

(4)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ المجموع 5/ 171؛ رسوخ الأحبار ص 316.

(5)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 488، 490.

(6)

انظر: التمهيد 6/ 268؛ الاستذكار 2/ 586، 587. وقال به كذلك الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 100.

(7)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 486 - 490؛ التمهيد 6/ 268؛ المجموع 5/ 171؛ المغني 3/ 404 - 405.

ص: 1177

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن علي رضي الله عنه قال: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا). يعني في الجنائز

(1)

.

وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس»

(2)

.

وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى توضع، وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود»

(3)

.

وعن مسعود بن الحكم

(4)

، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ذُكر القيامُ في الجنائز حتى توضع. فقال علي رضي الله عنه:«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد»

(5)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 783.

(2)

سبق تخريجه في ص 784.

(3)

سبق تخريج الحديث في المسألة السابقة، وبهذا اللفظ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 488،

والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 44. ورجال الطحاوي رجال مسلم.

(4)

هو: مسعود بن الحكم بن الربيع بن عامر، الزرقي الأنصاري. ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن حجر أن له رؤية، وعده غيره من جلة التابعين. وروى عن: عن عمر، وعثمان، وغيرهما. وروى عنه أولاده: إسماعيل، وقيس، وغيرهما. انظر: الإصابة 3/ 1909؛ تهذيب التهذيب 10/ 106؛ التقريب 2/ 176.

(5)

أخرج مسلم في صحيحه- بمعناه-4/ 276، كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنائز، ح (962)(82)، وأخرجه الترمذي في سننه-واللفظ له- ص 247، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام لها، ح (1044)، والنسائي في سننه ص 320، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز، ح (1999)، وابن حبان في صحيحه ص 862. وصححه الترمذي، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 247؛ صحيح سنن الترمذي ص 247.

ص: 1178

وفي رواية أخرى عن مسعود بن الحكم، قال: شهدت جنازة بالعراق، فرأيت رجالاً قياماً ينتظرون أن توضع، ورأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشير إليهم: أن اجلسوا «فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالجلوس بعد القيام»

(1)

.

ثانياً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في

(1)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 488، عن إسماعيل بن الحكم بن مسعود الزرقي، عن أبيه. وليس لمسعود بن الحكم الزرقي ابن باسم الحكم، نعم له ابن اسمه إسماعيل، كما تقدم، فلعل ذكر الحكم يكون خطأ من بعض الرواة أو من بعض النساخ، فيكون الرواية لإسماعيل بن مسعود الزرقي عن أبيه، يؤكد ذلك ما في تهذيب التهذيب عند ذكر ترجمته:(عن أبيه عن علي في ترك القيام للجنازة) وإسماعيل هذا ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه ابن حجر:(صدوق) انظر: تهذيب التهذيب 1/ 298؛ التقريب 1/ 99، حاشية أحكام الجنائز للشيخ الألباني ص 101. والحديث قال عنه الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 101:(أخرجه الطحاوي بسند حسن). وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف 3/ 460، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 44، وفي سنده قيس بن مسعود، قال ابن حجر في التقريب 2/ 35:(مجهول) وانظر: إرواء الغليل 3/ 193.

ص: 1179

الجنازة حتى توضع في اللحد

(1)

، فمرّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «اجلسوا،

خالفوهم»

(2)

.

ثالثاً: عن ابن أبي يحيى

(3)

، يقول:(كان ابن عمر-رضي الله عنهما-وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون قبل أن توضع الجنازة)

(4)

.

(1)

اللحد هو: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 590؛ مختار الصحاح ص 522.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 486، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، ح (3176)، والترمذي في سننه ص 242، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع، ح (1020)، وابن ماجة في سننه ص 271، كتاب الجنائز، باب ما جاء في القيام للجنازة، ح (1545)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 489، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 44. قال الترمذي:(هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (قال البخاري: عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية عن أبيه لا يتابع في حديثه). وقال الحازمي في الاعتبار ص 328: (ولو صح لكان صريحاً في النسخ). وقال ابن حجر في الفتح 3/ 223: (أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، فلو لم يكن إسناده ضعيفاً لكان حجة في النسخ). وكذلك ضعفه ابن القيم، والمباركفوري. وحسنه الشيخ الألباني. انظر: تهذيب السنن لابن القيم 4/ 313؛ تحفة الأحوذي 4/ 81؛ صحيح سنن أبي داود ص 486.

(3)

هو: سمعان، أبو يحيى الأسلمي مولاهم، المدني، روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهما. وروى عنه ابناه: محمد وأنيس. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر:(لا بأس به). انظر: تهذيب التهذيب 4/ 215؛ التقريب 1/ 395.

(4)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 490. ورجال سنده من الطحاوي إلى ابن أبي يحيى ثقات.

ص: 1180

ويستدل منها على النسخ بوجهين:

الأول: أن حديث علي رضي الله عنه بمجموع طرقه، يدل على أن النهي عن الجلوس قبل وضع الجنازة كان أولاً، ثم نسخ ذلك بالأمر بالجلوس.

وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه يدل على النسخ كذلك؛ حيث يدل أن الأمر بالجلوس كان بعدما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم لها حتى توضع في اللحد، فلما أخبره اليهودي أنهم يصنعون كذلك، أمر بالجلوس، وبمخالفتهم، فدل ذلك على ثبوت نسخ النهي عن الجلوس قبل وضع الجنازة

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ-إن حديث علي رضي الله عنه صريح في نسخ القيام للجنازة، لكنه في نسخ النهي عن الجلوس قبل وضعها محتمل؛ حيث يحتمل أن يراد به نسخ النهي عن الجلوس قبل وضع الجنازة، ويحتمل أن يراد به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لها ثم قعد، وترك القيام لها. والنسخ لا يثبت بالاحتمال

(2)

.

كما أنه يحتمل أن يكون المراد بالوضع فيه الوضع عن أعناق الرجال، ويحتمل أن يكون المراد به الوضع في اللحد، وإذا أريد به هذا

(1)

انظر: مختصر المزني ص 58؛ شرح معاني الآثار 1/ 488 - 490؛ التمهيد 6/ 267؛ الاعتبار ص 328؛ رسوخ الأحبار ص 317؛ أحكام الجنائز للألباني ص 101.

(2)

انظر: سنن الترمذي ص 248؛ المغني 3/ 405؛ فتح الباري 1/ 745؛ نيل الأوطار 4/ 106.

ص: 1181

الثاني فيكون فيه جواز الجلوس قبل وضعها في اللحد، ويكون معناه ومعنى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه واحداً، ولا يكون فيه نسخ النهي عن الجلوس قبل وضعها عن أعناق الرجال

(1)

.

ب-إن حديث عبادة رضي الله عنه ضعيف لا يقاوم الأحاديث الصحيحة الثابتة التي فيها النهي عن الجلوس لمن تبع جنازة قبل وضعها

(2)

.

كما أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس حتى توضع الجنازة في اللحد، ثم أمر بمخالفة اليهود وأمر بالجلوس قبل وضعها في اللحد، فيكون النسخ لعدم الجلوس قبل وضعها في اللحد، لا للنهى عن الجلوس قبل وضعها عن أعناق الرجال

(3)

.

الوجه الثاني للنسخ: أن ابن عمر-رضي الله عنهما روى عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه حديث النهي عن الجلوس قبل وضع الجنازة، ثم كان هو يجلس قبل وضعها، فدل فعله ذلك على ثبوت نسخ ما رواه عن النهي من الجلوس قبل وضعها

(4)

.

واعترض عليه بما يلي:

(1)

انظر: المبسوط 2/ 58؛ نيل الأوطار 4/ 108؛ تحفة الأحوذي 4/ 81.

(2)

انظر: الاعتبار ص 328؛ رسوخ الأحبار ص 317؛ فتح الباري 3/ 223؛ تحفة الأحوذي 4/ 81.

(3)

انظر: المبسوط 2/ 58؛ تحفة الأحوذي 4/ 81.

(4)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 490.

ص: 1182

أ-إنه كما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يجلس قبل وضع الجنازة، فكذلك روي عنه خلاف ذلك، فعن نافع قال:(كان ابن عمر إذا وضعت الجنائز على الأرض جلس)

(1)

.

وعن ابن سيرين: عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان إذا صحب جنازة لم يجلس حتى يوضع السرير)

(2)

.

ففعل ابن عمر رضي الله عنه الموافق لما رواه أولى، من فعله المخالف لروايته.

ب- إن ما روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من الجلوس قبل وضع الجنازة، يمكن أن يكون المراد به الوضع في اللحد، أي كانوا يجلسون قبل وضع الميت في اللحد، وبهذا لا يكون بين ما روي عنهم من الجلوس، وما روي عنهم من عدم ذلك تعارضاً؛ لأن الجلوس المنهي عنه، هو ما كان قبل وضع الجنازة من أعناق الرجال، وهم ما فعلوا ذلك، بل جلسوا قبل وضعها في اللحد

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الجلوس قبل وضع الجنازة، على قولين:

القول الأول: إن من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال، وأن الجلوس قبل وضعها مكروه.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 462. ورجاله ثقات.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 3.

(3)

انظر آثار الصحابة الدالة على ذلك في مصنف ابن أبي شيبة 3/ 3.

ص: 1183

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والحنابلة

(2)

، واختيار بعض الشافعية

(3)

، وقول أكثر الصحابة، والتابعين

(4)

.

وممن روي عنه ذلك أوقال به: أبو هريرة، والحسن بن علي، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وابن الزبير، رضي الله عنهم، والنخعي، والشعبي، وابن سيرين

والأوزاعي، وإسحاق

(5)

.

القول الثاني: أن من تبع جنازة يجوز له أن يجلس قبل وضع الجنازة، وأنه أولى من القيام لها.

وهو مذهب المالكية

(6)

، والشافعية

(7)

.

(1)

نسب الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 490، إلى أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن القول بالجلوس قبل وضعها، لكن في الأصل لمحمد بن الحسن، وبقية الكتب الناقلة للمذهب أن الجلوس قبل وضع الجنازة عن مناكب الرجال مكروه. انظر: الأصل 1/ 415؛ المبسوط 2/ 58؛ بدائع الصنائع 2/ 46؛ الهداية 2/ 135؛ المختار 1/ 96؛ الدر المختار 3/ 126؛ حاشية ابن عابدين 3/ 127.

(2)

انظر: المغني 3/ 404؛ الشرح الكبير 6/ 212؛ الممتع 2/ 58؛ الإنصاف 6/ 212؛ منتهى الإرادات 1/ 115.

(3)

انظر: المجموع 5/ 172.

(4)

انظر: الأوسط 5/ 392؛ فتح الباري 3/ 220؛ نيل الأوطار 4/ 106.

(5)

انظر: الأوسط 5/ 392 - 393؛ التمهيد 6/ 268؛ الاعتبار ص 328؛ المغني 3/ 404.

(6)

انظر: الإشراف 1/ 362؛ التمهيد 6/ 269؛ الاستذكار 2/ 586؛ مواهب الجليل 3/ 58؛ الشرح الكبير 1/ 664؛ حاشية الدسوقي 1/ 664.

(7)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ الحاوي 3/ 49؛ المجموع 5/ 171؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 275.

ص: 1184

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يجلس حتى توضع الجنازة- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع»

(1)

.

ثانياً: عن كيسان بن سعيد المقبري

(2)

، قال: كنا في جنازة فأخذ أبو هريرة رضي الله عنه بيد مروان

(3)

، فجلسا قبل أن توضع، فجاء أبو سعيد رضي الله عنه فأخذ بيد مروان فقال: قم، فوالله لقد علم هذا:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك» . فقال أبو هريرة رضي الله عنه: «صدق»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه في ص 786.

(2)

هو: كيسان بن سعيد المقبري، المدني، أبو سعيد، مولى أم شريك، ثقة، روى عن عمر، وعلي، وغيرهما، و روى عنه: ابنه سعيد، وابن ابنه عبد الله، وغيرهما، وتوفي سنة مائة. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 395؛ التقريب 2/ 46.

(3)

هو: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي الأموي، اختلف في صحبته، ولم يصح سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه سعيد بن المسيب، وعروة، وغيرهما، وتوفي سنة خمس وستين. انظر: البداية والنهاية 8/ 226؛ تهذيب التهذيب 10/ 83.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 257، كتاب الجنائز، باب متى يقعد إذا قام للجنازة، ح (1309).

ص: 1185

ثالثاً: عن أبي هريرة وأبي سعيد-رضي الله عنهما، قالا: «ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد

جنازة قطُّ فجلس حتى توضع»

(1)

.

رابعاً: عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، حتى تخلفكم أو توضع»

(2)

.

ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ظاهر؛ حيث إنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس قبل وضع الجنازة، وأنه نهى عن الجلوس قبل وضعها؛ فلذلك لا يجلس من تبعها حتى توضع

(3)

.

دليل القول الثاني

أما القول الثاني فيستدل له بالأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس بعدما كان يقوم لها

(4)

.

وقد سبق ما يرد به على الاستدلال من تلك الأدلة.

الراجح

بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أن من تبع جنازة

(1)

أخرجه النسائي في سننه ص 308، كتاب الجنائز، باب الأمر بالقيام للجنازة، ح (1918). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 308:(حسن صحيح).

(2)

سبق تخريجه في ص 786.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 487؛ التمهيد 6/ 268؛ المغني 3/ 404؛ المجموع 5/ 172.

(4)

انظر: الأم 1/ 307؛ مختصر المزني ص 58؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 362؛ التمهيد 6/ 266.

ص: 1186

فلا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال، وذلك لما يلي:

أولاً: لكثرة أدلة القول الأول، مع كونها صحيحة، وصريحة

(1)

.

أما أدلة القول الثاني فبعضها ضعيف، وبعضها روي بطرق مختلفة بين صريح ومحتمل-مع أن القصة واحدة- وهو مما يضعف وجه الاستدلال به

(2)

.

ثانياً: إن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة-رضي الله عنهما قد رويا: أنهما لم يريا النبي صلى الله عليه وسلم شهد جنازة فجلس قبل وضعها.

كما أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لما رأى أبا هريرة ومروان جلسا قبل وضع الجنازة، أمر مروان بالقيام، وبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وصدّقه أبو هريرة رضي الله عنه. وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، وكان كذلك بمشهد من حضر الجنازة، ولم يقل أحد لأبي سعيد أن ذلك قد نسخ.

فثبت من هذا كله: أن من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال، وأن ذلك محكم لم ينسخ.

والله أعلم.

(1)

انظر: تهذيب السنن لابن القيم 4/ 312.

(2)

انظر: الاعتبار ص 238؛ المغني 3/ 405؛ المجموع 5/ 172؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 313؛ نيل الأوطار 4/ 106.

ص: 1187

‌المطلب الثالث: الصلاة على الجنازة في المسجد

ذهب بعض الحنفية منهم الطحاوي، إلى أن الصلاة على الجنازة في المسجد قد نسخ، لذلك يكره الصلاة عليها في المسجد

(1)

.

ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة: أن سبب الاختلاف في المسألة عند أهل العلم أمران: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها

(2)

.

واستدل من قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها أنها أمرت أن يُّمَرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، فتُصلي عليه. فأنكر الناس ذلك عليها. فقالت: ما أسرع ما نسي الناسُ! «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء

(3)

إلا في المسجد»

(4)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى على

(1)

انظر: شرح معاني الاثار 1/ 493؛ نصب الراية 2/ 276؛ حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 394.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 493؛ بداية المجتهد 1/ 464.

(3)

هو: سهيل ابن بيضاء- وبيضاء أمه، واسمها دعد-واسم أبيه: وهب بن ربيعة بن عمرو بن عامر، القرشي. ذكر ابن إسحاق وموسى بن عقبة أنه شهد بدراً، وزعم ابن الكلبي أنه أسر يوم بدر. وذكر ابن إسحاق وابن سعد أنه توفي سنة تسع. انظر: الإصابة 1/ 775، 783.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 285، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، ح (973)(99).

ص: 1188

جنازة في المسجد، فليس له شيء»

(1)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 268، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الجنائز في المسجد، ح (1517)، وأبو داود الطيالسي في مسنده 1/ 165، -وزاد:(قال صالح: وأدركت رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يصلوا في المسجد رجعوا فلم يصلوا) -وعبد الرزاق في المصنف 3/ 527، وأحمد في المسند 15/ 454، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 492، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 86.

وأخرجه أبو داود في سننه ص 488، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، ح (3191) بلفظ:(فلا شيء عليه). وذكر الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 462: أن هذه الرواية شاذة.

والحديث تفرد به صالح بن نبهان مولى التوأمة. وهو وثقه بعض الأئمة، وضعفه البعض، وهو قد اختلط بآخرة، لذلك قال يحيى بن معين، والإمام أحمد، وابن المديني، والجوز جاني، وابن عدي: من سمع منه قبل أن يختلط وخرف فلا بأس به كابن أبي ذئب، فإنه سمع منه قبل الاختلاط. وروي عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه سمع منه بعد الاختلاط. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 303؛ تهذيب التهذيب 4/ 371؛ تقريب التهذيب 1/ 433؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 462.

والحديث المذكور من رواية ابن أبي ذئب عنه، قال الذهبي بعد ذكر هذا الحديث وغيره من طريق ابن أبي ذئب عنه:(فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال). ميزان الاعتدال 2/ 304. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 4/ 87: (وأن الحديث حجة لأنه رواه عنه من سمع منه قبل اختلاطه، وهو ابن أبي ذئب). وقال ابن القيم في زاد المعاد 1/ 501: (وهذا الحديث حسن، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدث به قبل الاختلاط). وكذلك حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 268، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 463.

وضعفه بعض أهل العلم، منهم: الإمام أحمد، وابن المنذر، والخطابي، وابن حبان، وابن عبد البر، والنووي. انظر: معالم السنن 4/ 324؛ الاستذكار 2/ 571؛ التمهيد 6/ 251؛ المجموع 5/ 122؛ التنقيح لابن عبد الهادي 2/ 144؛ نصب الراية 2/ 276.

ص: 1189

ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عائشة-رضي الله عنها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الجنازة في المسجد، ففيه إخبار عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة الإباحة التي لم يتقدمها نهي. كما يدل على أنهم قد كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد، بعد أن كانت تفعل فيه، ولذلك أنكر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم على عائشة الصلاة على الجنازة في المسجد.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على ترك الصلاة على الجنازة في المسجد، ففيه إخبار عن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد تقدمته الإباحة. فيكون حديثه ناسخاً لحديثها، ولذلك أنكروا عليها الصلاة على الجنازة في المسجد، فهو يدل على أنهم علموا في ذلك خلاف ما علمت، ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها

(1)

.

واعترض عليه: بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يقاوم حديث عائشة-رضي الله عنها؛ لما تُكلم فيه

(2)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 493؛ نصب الراية 2/ 276.

(2)

راجع تخريجه.

ص: 1190

أما إنكار من أنكر على عائشة رضي الله عنها الصلاة على الجنازة في المسجد، فلا يصح الاستدلال منه على النسخ؛ لأن الصحابة-رضي الله عنهم صلوا على أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما في المسجد، فلو كانت الصلاة على الجنازة في المسجد منسوخةً لما صلوا عليهما في المسجد، ولا يمكن أن يذهب على جميعهم معرفة ذلك

(1)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على الجنازة في المسجد على قولين:

القول الأول: لا يصلى على الجنازة في المسجد، وأن ذلك مكروه.

وهو مذهب الحنفية

(2)

، والمالكية

(3)

.

القول الثاني: يجوز أن يصلى على الجنازة في المسجد، ولا كراهة في ذلك.

(1)

انظر: مصنف عبد الرزاق 3/ 526؛ معالم السنن 4/ 324؛ السنن الكبرى 4/ 86؛ التمهيد 6/ 249؛ مختصر سنن أبي داود للمنذري 4/ 326.

(2)

انظر: موطأ محمد ص 111؛ شرح معاني الآثار 1/ 493؛ مختصر القدوري ص 48؛ الهداية 2/ 128؛ العناية 2/ 128؛ فتح القدير 2/ 129، الدر المختار مع حاشيته ابن عابدين 3/ 118.

(3)

انظر: المدونة 1/ 254؛ الإشراف 1/ 365؛ التمهيد 6/ 249؛ بداية المجتهد 1/ 464؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 53؛ التاج والإكليل 3/ 53.

ص: 1191

وهو مذهب الشافعية

(1)

، والحنابلة

(2)

. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول-وهو كراهة الصلاة على الجنازة في المسجد- بما يلي:

أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ

(4)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ-بأنه ضعيف، ضعفه غير واحد من أهل العلم، فلا يصلح لمعارضة حديث عائشة

رضي الله عنها-الذي يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد

(5)

.

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 84؛ روضة الطالبين ص 234؛ المجموع 5/ 122؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 59.

(2)

انظر: المغني 3/ 421؛ الشرح الكبير 6/ 196؛ الممتع 2/ 54؛ الإنصاف 6/ 196؛ منتهى الإرادات 1/ 111.

(3)

انظر: التمهيد 6/ 249؛ المغني 3/ 421؛ المجموع 5/ 122.

(4)

انظر: الموطأ لمحمد ص 111؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 365.

(5)

انظر: معالم السنن 4/ 324؛ المجموع 5/ 122.

ص: 1192

وأجيب: بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن لم يكن في درجة حديث عائشة-رضي الله عنها إلا أنه صححه أوحسنه كذلك غير واحد من أهل العلم

(1)

.

ب-إن المراد بقوله: «فلا شيء له» المراد به: «فلا شيء عليه» ، وهو واقع لغة، وورد كذلك في بعض روايات الحديث

(2)

.

وأجيب: بأن الصحيح رواية: «فلا شيء له» . أما حمله على أن المراد به «فلا شيء عليه» فهو مما يرده ما جاء في رواية: «فلا أجر له»

(3)

.

ثانياً: ما جاء في إحدى روايات حديث عائشة-رضي الله عنها: (فبلغهنّ أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد)

(4)

.

فهذا يدل على كراهة دخول الجنائز المسجد، وأن الصحابة-رضي الله عنهم-الذين أنكروا على عائشة-رضي الله عنها-ذلك، قد كانوا

(1)

راجع تخريجه، وانظر: فتح القدير لابن الهمام 2/ 129؛ وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 5/ 462.

(2)

انظر: التمهيد 6/ 251؛ المجموع 5/ 122.

(3)

كما يرده زيادة الطيالسي وغيره عقب الحديث: (قال صالح: وأدركت رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يصلوا في المسجد رجعوا فلم يصلوا). انظر: التمهيد 6/ 250؛ فتح القدير لابن الهمام 2/ 128؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 463.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 285، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، ح (973)(100).

ص: 1193

علموا في ذلك خلاف ما علمت، لذلك أنكروا عليها ذلك

(1)

.

واعترض عليه: بأنه يحتمل أنه أنكر ذلك من لم يكن له علم بالجواز، فلما روت عائشة رضي الله عنها فيه الخبر سكتوا، ولم ينكروه. ثم هو معارض بصلاة الصحابة على أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما-في المسجد، ولم ينكر ذلك أحد، فلو كان ذلك مكروهاً

لأنكروه

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو جواز أن يصلى على الجنازة في المسجد- بما يلي:

أولاً: حديث عائشة-رضي الله عنها الذي سبق ذكره في دليل لقول بالنسخ، فإنه يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد

(3)

.

ثانياً: عن عروة قال: (ما صُلّيَ على أبي بكر إلا في المسجد)

(4)

.

(1)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 493؛ التمهيد 6/ 250؛ اللباب للمنبجي 1/ 320. وفي مسند الطيالسي

-ترتيب البناء- ص 165، قال صالح مولى التوأمة بعد ذكر حديث أبي هريرة:(وأدركت رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يصلوا في المسجد رجعوا فلم يصلوا).

(2)

انظر: التمهيد 6/ 252؛ الاستذكار 2/ 572؛ المحلى 3/ 392؛ زاد المعاد 1/ 501؛ فتح الباري 3/ 245.

(3)

انظر: المغني 3/ 422؛ المجموع 5/ 122.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 526. وسنده صحيح؛ فإنه من رواية عبد الرزاق عن معمر والثوري عن هشام بن عروة عن أبيه. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 86؛ التمهيد 6/ 252؛ المحلى 3/ 391؛ الجوهر النفي لابن التركماني 4/ 86.

ص: 1194

ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: (صُلّيَ على عمر بن الخطاب في المسجد)

(1)

.

فهذه الأدلة تدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد

(2)

.

الراجح

بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ صلاة الجنازة في المسجد غير صحيح؛ لما يلي:

أ-لأن الذين أنكروا على عائشة-رضي الله عنها صلاة الجنازة في المسجد، سكتوا حين روت فيه الخبر، فلو كان ذلك منسوخاً لبينوه ولما سكتوا

(3)

.

ب- ولأن الصحابة-رضي الله عنهم المهاجرون والأنصار، صلوا على أبي بكر، و

عمر-رضي الله عنهما-في المسجد، ولم ينكر ذلك أحد-ومنهم أبو

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 1/ 199، وعبد الرزاق في المصنف 3/ 526، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 492، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 86. وسنده كذلك صحيح، فإنه من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر. وانظر: المحلى 3/ 391.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 492؛ التمهيد 6/ 252؛ المغني 3/ 422.

(3)

انظر: زاد المعاد 1/ 501؛ نصب الراية 2/ 276؛ فتح الباري 3/ 245.

ص: 1195

هريرة رضي الله عنه، ولا بين أحد أن ذلك منسوخ. فلو كان ذلك منسوخاً، وكان عندهم علم بذلك لبينوه

(1)

.

ثانياً: إن الراجح هو جواز الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لما يلي:

أ-لحديث عائشة رضي الله عنها-الذي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.

ب-ولعمل الصحابة-رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ حيث صلوا على أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما في المسجد، فلو لم يكن ذلك جائزاً لما عملوا به.

ثالثاً: إن الأفضل والأولى الصلاة على الجنازة خارج المسجد، وذلك لما يلي:

أ-لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.

ب-ولأنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الجنازة في المسجد، وإنما كان يصلي عليها خارج المسجد، ولذلك خرج بالناس إلى المصلى حين صلى على النجاشي

(2)

.

(1)

انظر: معالم السنن 4/ 324؛ زاد المعاد 1/ 501؛ نصب الراية 2/ 276.

(2)

انظر: التمهيد 6/ 252؛ زاد المعاد 1/ 500؛ فتح الباري 3/ 245؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 462.

ص: 1196

كما أن إنكار من أنكر على عائشة-رضي الله عنها-لما صلت على جنازة في المسجد، قد يكون لذلك.

ج- وخروجاً من خلاف أهل العلم.

والله أعلم.

ص: 1197

‌المطلب الرابع: الزيادة على أربع تكبيرات في الجنازة

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الزيادة على أربع تكبيرات في الجنازة منسوخ

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: الطحاوي

(2)

، وابن شاهين

(3)

، والنووي

(4)

، وزين الدين المنجا

(5)

، وأبو إسحاق الجعبري

(6)

، والعيني

(7)

.

وسبب الاختلاف في المسألة عند أهل العلم شيئان: اختلاف الآثار الواردة فيها، والقول بالنسخ

(8)

.

(1)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 60؛ الاعتبار ص 318؛ الهداية للمرغناني 2/ 123؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 272؛ رسوخ الأحبار ص 322؛ فتح القدير لابن الهمام 2/ 124.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 496.

(3)

انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 368.

(4)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 272.

(5)

هو: المنجا بن عثمان بن أسعد بن منجا، زين الدين التنوخي، سمع من السخاوي، والقرطبي، وغيرهما، وأخذ منه: تقي الدين ابن تيمية، وابن العطار، وغيرهما، ومن مؤلفاته (الممتع في شرح المقنع)، وتوفي سنة خمس وتسعين وستمائة. انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 332؛ شذرات الذهب 5/ 433.

وانظر قوله بالنسخ في كتابه الممتع 2/ 43.

(6)

انظر: رسوخ الأحبار ص 323.

(7)

انظر: عمدة القاري 6/ 160، 161.

(8)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 494 - 498؛ ناسخ الحديث لابن شاهين ص 368؛ بداية المجتهد 1/ 448.

ص: 1198

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 262، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعاً، ح (1333)، ومسلم في صحيحه 4/ 268، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، ح (951)(62).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 262، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعاً، ح (1334)، ومسلم في صحيحه 4/ 270، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، ح (952)(64).

(3)

أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 366، والدارقطني في سننه 2/ 72، والحاكم في المستدرك 1/ 543، والحازمي في الاعتبار ص 319. وفي سنده الفرات بن السائب، قال الدارقطني عقب الحديث: (إنما هو فرات بن السائب متروك الحديث). وقال الحاكم بعد ذكر الحديث: (لست ممن يخفى عليه أن الفرات بن السائب ليس من شرط هذا الكتاب، وإنما أخرجته شاهداً). وقال الذهبي في التلخيص: (فرات ضعيف). ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 61، من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه:(آخر جنازة صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليها أربعاً) ثم قال: تفرد به النضر بن عبد الرحمن، أبو عمر الخزاز، عن عكرمة، وهو ضعيف. وروي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة، إلا أن اجتماع أكثر الصحابة رضي الله عنهم على الأربع كالدليل على ذلك).

ص: 1199

وفي رواية عنه رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد فكبر تسعاً تسعاً، ثم سبعاً سبعاً، ثم أربعاً أربعاً، حتى لحق بالله»

(1)

.

وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر على أهل بدر سبع تكبيرات، وعلى بني هاشم خمس تكبيرات، ثم كان آخر صلاته أربع تكبيرات حتى خرج من الدنيا»

(2)

.

رابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: «آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربعاً»

(3)

.

خامساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على أهل بدر سبع تكبيرات، وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، وكان آخر صلاته أربعاً حتى خرج من الدنيا»

(4)

.

(1)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 38: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده حسن).

(2)

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 38: (رواه الطبراني في الكبير، وإسناده فيه نافع أبو هرمز، وهو ضعيف).

(3)

أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 367. قال ابن حجر في التلخيص 2/ 121: (وروى ابن الجوزي في الناسخ والمنسوخ له من طريق ابن شاهين بسنده إلى ابن عمر، وفيه زافر بن سليمان رواه عن أبي العلاء عن ميمون بن مهران عن ابن عمر كذا، قال: وخالفه غيره ولا يثبت فيه شيء).

(4)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 319، من طريق نافع أبو هرمز، ثم قال:(وهذا الإسناد أيضاً واه، خالفه إبراهيم بن محمد بن الحارث، رواه عن شيبان عن نافع أبي هرمز عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخر صلاته أربع تكبيرات حتى خرج من الدنيا).

ص: 1200

سادساً: عن سليمان بن أبي حثمة

(1)

قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعاً، وخمساً، وستاً، وسبعاً، وثمانياً، حتى جاء موت النجاشيّ، فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه، وكبر عليه أربعاً، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله عز وجل»

(2)

.

سابعاً: عن سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رضي الله عنه قال: (كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً، فاجتمعنا على أربع التكبير على الجنازة)

(3)

.

ثامناً: عن أبي وائل: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله

(1)

هو: سليمان بن أبي حثمة بن غانم بن عامر بن عبد الله، القرشي العدوي. عده ابن حبان، وابن عبد البر، وغيره في الصحابة، وقال ابن منده: لا يصح ذلك. وروى عنه ابنه أبو بكر، والزهري، وغيرهما. واستعمله عمر رضي الله عنه على السوق، وجمع الناس عليه في قيام رمضان. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 237؛ الإصابة 1/ 800.

(2)

أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار 2/ 555، ولم يتكلم عليه بشيء. ونسبه الزيلعي في نصب الراية 2/ 268، وابن حجر في التلخيص 2/ 121، إلى ابن عبد البر، ولم يتكلما عليه بشي. وانظر: طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد للشيخ عبداللطيف 1/ 170.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 60، وذكر ابن حجر في فتح الباري 3/ 249: عن ابن المنذر أنه قال: (والذي نختاره ما ثبت عن عمر)، ثم قال ابن حجر عن ابن المنذر:(ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: (كان التكبير أربعاً وخمساً، فجمع عمر الناس على أربع).

ص: 1201

-صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن التكبير على الجنازة، فأخبر كل واحد منهم بما رأى، وبما سمع، فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلوات صلاة الظهر)

(1)

.

تاسعاً: عن إبراهيم: أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمساً، وستاً، وأربعاً، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبروا بعد ذلك في ولاية أبي أبكر رضي الله عنه حتى قبض أبو بكر رضي الله عنه، ثم ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففعلوا ذلك في ولايته، فلما رأى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(إنكم معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم متى ما تختلفون يختلف من بعدكم، والناس حديث عهد بالجاهلية، فأجمعوا على شيء يجتمع عليه من بعدكم، فأجمع رأي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها النبي صلى الله عليه وسلم حين قبض فيأخذون به، فيرفضون به ما سوى ذلك، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً)

(2)

.

وفي رواية عنه قال: (اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي مسعود الأنصاري، فأجمعوا أن التكبير على الجنازة أربع)

(3)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 480، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 496، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له-1/ 499، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 60. وذكر ابن حجر في الفتح 3/ 249: أن إسناده حسن إلى أبي وائل.

(2)

أخرجه محمد في كتاب الآثار 2/ 83، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 496. وهو منقطع. انظر: نصب الراية 2/ 268.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 61، وهو كذلك منقطع.

ص: 1202

ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بوجهين:

الأول: إن أبا هريرة رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في الصلاة على النجاشيّ أربعاً، وأبو هريرة رضي الله عنه متأخر الإسلام، والنجاشي توفي سنة تسع، فدل ذلك على أن الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعاً متأخرة، وحديث سليمان بن أبي حثمة صريح في ذلك؛ حيث يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة النجاشي أربعاً، ثم ثبت على أربع حتى توفّاه الله عز وجل. فثبت من هذا كله أن التكبير على الجنازة أربعاً ناسخ لما روي من الزيادة عليها. ويؤكد ذلك بقية الأحاديث التي فيها أن التكبير على الجنازة أربعاً آخر شيء، وهي وإن كان فيها ضعفاً إلا أن كثرتها وكثرة طرقها تدل على أن لها أصلاً

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أ- إنه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر على الجنازة أربعاً، كذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كبر عليها أكثر من أربع، وهو كذلك صحيح، والأحاديث التي تدل على أن التكبير على الجنازة أربعاً متأخرة، ليست في درجته؛ لذلك فهي لا تقوى على نسخ ما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ويؤكد ذلك أن بعض الصحابة-رضي الله عنهم عملوا به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 366 - 368؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 60 - 61؛ الاعتبار ص 316 - 320؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 123، 124؛ رسوخ الأحبار ص 322؛ نصب الراية 2/ 269.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 494، 496، 497؛ الاعتبار ص 320 - 321؛ المجموع 5/ 134؛ نصب الراية 2/ 267 - 270؛ نيل الأوطار 4/ 83 - 86؛ الشرح الممتع 2/ 541.

ص: 1203

ب-إن تكبير النبي صلى الله عليه وسلم على آخر جنازة أربعاً، يحتمل أمرين:

1 -

: إنه فعل ذلك ليكون فعله ذلك ناسخاً لغيره.

2 -

إنه فعل ذلك اتفاقاً، لا على قصد إبطال غيره.

والنسخ لا يثبت بالاحتمال

(1)

.

ثانياً -من وجهي النسخ-: إن إجماع الصحابة-رضي الله عنهم على أربع تكبير على الجنازة يدل على نسخ غيرها؛ وذلك لأن الإجماع وإن لم ينسخ به إلا أنه يدل على أن له مستنداً يدل على النسخ، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية إبراهيم أنهم لما اجتمعوا قالوا: انظروا آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً

(2)

.

واعترض عليه: بأنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم-أنه كبر على الجنازة أكثر من أربع، أو أنه كان يرى جواز ذلك، وقد كان بعض ذلك بعد موت عمر رضي الله عنه

(3)

.

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

(1)

انظر: فتح الباري 1/ 745.

(2)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 496؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 272؛ عمدة القاري 6/ 161.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار 1/ 494، 496 - 498؛ المجموع 5/ 135؛ نيل الأوطار 4/ 84 - 85.

ص: 1204

وقد اختلف أهل العلم في عدد التكبير على الجنائز على أقوال أشهرها ثلاثة، وهي:

القول الأول: يكبر على الجنائز أربع تكبيرات.

وهو قول جمهور أهل العلم، منهم أصحاب المذاهب الأربعة

(1)

. و ممن روي عنه أنه فعل ذلك أو قال به: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عمر، وحذيفة، وأبو مسعود، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، والبراء بن عازب، وأبو

هريرة، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وابنا علي الحسن، والحسين-رضي الله عنهم

(2)

.

وبه قال: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعطاء، والشعبي، وعلقمة، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك،

(1)

انظر: " الأصل 1/ 424؛ شرح معاني الآثار 1/ 494؛ مختصر اختلاف العلماء 1/ 388؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 123"؛ الإشراف 1/ 362؛ التمهيد 6/ 228؛ بداية المجتهد 1/ 448؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 12"؛ الأم 1/ 298؛ مختصر المزني ص 58؛ المجموع 5/ 134؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 25"؛ المغني 3/ 410؛ الشرح الكبير 6/ 145؛ المحرر 1/ 195؛ الإنصاف 6/ 145".

(2)

انظر: مصنف عبد الرزاق 3/ 480 - 484؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 494 - 496؛ التمهيد 6/ 228؛ الاعتبار ص 316؛ إعلام العالم بعد رسوخه لابن الجوزي ص 302؛ المجموع 5/ 135.

ص: 1205

وإسحاق، وداود، وابن جرير الطبري

(1)

.

القول الثاني: يكبر على الجنازة خمساً.

قال به ابن أبي ليلى، وروي ذلك عن ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان-رضي الله عنهم

(2)

.

القول الثالث: لا ينقص في التكبير على الجنائز من أربع، ولا يزيد على سبع.

وهو رواية عن الإمام أحمد

(3)

.

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أن التكبير على الجنائز أربع- بأدلة، منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عليها أربعاً، وأن الصحابة اتفقوا على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يكبر على الجنائز خمساً، بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد يكبر على جنائزنا

(1)

انظر: التمهيد 6/ 229؛ الاعتبار ص 316؛ المجموع 5/ 135.

(2)

انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 388؛ الاعتبار ص 315؛ المجموع 5/ 135.

(3)

انظر: الاعتبار ص 316؛ نيل الأوطار 4/ 85. - ولم أجد هذه الرواية في كتب الحنابلة -.

(4)

انظر: الأم 1/ 297 - 298؛ شرح معاني الآثار 1/ 494 - 500؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 362؛ الممتع شرح المقنع 2/ 42.

ص: 1206

أربعاً، وإنه كبر على جنازة خمساً. فسألته فقال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها»

(1)

.

ثانياً: عن حذيفة رضي الله عنه أنه كبر على جنازة خمساً، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله»

(2)

.

والحديثان يدلان على أنه يكبر على الجنائز خمساً

(3)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث يتطرق إليها احتمال النسخ؛ لأن الأحاديث التي تدل على أن التكبير على الجنائز أربع، معها ما يدل على تأخرها على غيرها

(4)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أنه لا ينقص في التكبير على الجنائز من أربع، ولا يزيد على سبع- بأدلة منها ما يلي:

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 272، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، ح (957)(72).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 496، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 494، والداقطني في سننه 2/ 73، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 362. وذكره ابن حجر في التلخيص 2/ 120، وسكت عليه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 37: (ويحيى الجابر فيه كلام). وعيسى مولى حذيفة ضعفه ابن معين، والدارقطني. انظر: التعليق المغني 2/ 73.

(3)

انظر: الاعتبار ص 325؛ رسوخ الأحبار ص 318.

(4)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 272؛ الممتع 2/ 43.

ص: 1207

أولاً: الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعا، وكذلك التي فيها أنه كبر عليها خمساً، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول بالنسخ، وبعضها في دليل القول الثاني.

ثانياً: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «حفظنا التكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد كبر أربعاً، وكبر خمساً، وكبر سبعاً، فما كبر إمامكم فكبروا»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعاً، وكبر خمساً، وكبر سبعاً، فثبت من ذلك أن كل ذلك جائز؛ لذلك فلا يزيد في التكبير عليها عن سبع، ولا ينقص عن أربع

(2)

.

ويعترض عليه بما اعترض به على استدلال القول الثاني.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أنه يكبر على الجنازة أربعاً، وذلك لما يلي:

أولاً: لأن الأحاديث التي فيها التكبير على الجنازة أكثر من أربع، يتطرق إليها احتمال النسخ؛ حيث جاءت روايات كثيرة تدل على أن التكبير أربعاً على الجنازة آخر الأمور. وهي بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، وهو وإن

(1)

أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 363. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 38: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عطاء بن السائب، وفيه كلام، وهو حسن الحديث).

(2)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 363؛ الاعتبار ص 316.

ص: 1208

كان احتمالاً إلا أنه احتمال قوي، يؤكده اتفاق الصحابة على ذلك. وقد سبق بيان ذلك كله.

ثانياً: ولأن التكبير أربعاً هو أشهر وأكثر عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روي عنهم غير ذلك

(1)

.

ثالثاً: ولأن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعوا على الأربع، وما روي عن بعضهم أنه كبر أكثر من أربع على بعض الجنائز، فهو يحتمل التخصيص ببعض الأموات

(2)

.

والله أعلم.

(1)

انظر: إعلام العالم لابن الجوزي ص 301؛ نيل الأوطار 4/ 84.

(2)

انظر: مصنف عبد الرزاق 3/ 480؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 496؛ شرح معاني الآثار 1/ 496 - 498؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 60؛ نيل الأوطار 4/ 85.

ص: 1209

‌المطلب الخامس: صلاة الجنازة على من مات وعليه دين

ذهب بعض أهل العلم إلى أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات وعليه دين، كان أولاً، ثم نسخ ذلك

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: البيهقي

(2)

، والحازمي

(3)

، وابن قدامة

(4)

، والنووي

(5)

، وأبو إسحاق الجعبري

(6)

.

وأهل المذاهب الأربعة وغيرهم من أهل العلم على أنه لا تترك الصلاة على من مات وعليه دين

(7)

.

ومن الأدلة على ذلك ما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالرجل

(1)

انظر: صحيح ابن حبان ص 863؛ الاعتبار ص 326؛ الشرح الكبير للمقدسي 6/ 188؛ فتح الباري 4/ 588؛ رسوخ الأحبار ص 327.

(2)

انظر: السنن الكبرى له 7/ 85.

(3)

انظر: الاعتبار ص 324، 325.

(4)

انظر: المغني 3/ 506.

(5)

انظر: روضة الطالبين ص 1164.

(6)

انظر: رسوخ الأحبار ص 327.

(7)

انظر: "بدائع الصنائع 2/ 47؛ الهداية 2/ 150؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/ 101؛ " الكافي ص 86؛ جامع الأمهات ص 149؛ " السنن الكبرى 7/ 85؛ روضة الطالبين ص 1164؛ " المغني 3/ 506؛ الشرح الكبير 6/ 187؛ الإنصاف 6/ 186". الاعتبار ص 325؛ رسوخ الأحبار ص 327".

ص: 1210

المتوفّى عليه الدين، فيسأل:«هل ترك لدَينه فضلاً؟» فإن حُدّث أنه ترك لدَينه وفاءً صلّى وإلا قال للمسلمين: «صلّوا على صاحبكم» ، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال:«أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفّيَ من المؤمنين فترك ديناً فعلَيّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته»

(1)

.

ثانياً: عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُصلي على رجل مات وعليه دين، فأُتيَ

بميت، فقال:«أعليه دين؟» ، قالوا: نعم، ديناران، قال:«صلّوا على صاحبكم» ، فقال أبو قتادة الأنصاري: هما عليّ يا رسول الله، فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا فتح الله على رسوله قال:«أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته»

(2)

.

ثالثاً: عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُصلي على من مات وعليه دين. ثم قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك ديناً فعلينا قضاؤه» ، ثم صلى عليهم بعد

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 452، كتاب الكفالة، باب الدين، ح (2298)، ومسلم في صحيحه 6/ 135، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، ح (1619)(14).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 511، كتاب البيوع، باب التشديد في الدين، ح (3343)، والنسائي في سننه ص 314، كتاب الجنائز، باب الصلاة على من عليه دين، ح (1962)، وعبد الرزاق في المصنف 8/ 290، وأحمد في المسند 22/ 65. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 511.

(3)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 325، ثم قال:(هذا وإن كان مرسلاً، غير أن له شواهد من الأحاديث الثابتة، تدل على صحته، ثم إجماع الأئمة على خلاف هذا الحكم شاهد له أيضاً).

ص: 1211

رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من مات وعليه دين، فمات رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أعليه دين؟» ، فقالوا: نعم، فقال:«صلّوا على صاحبكم» فنزل جبريل، فقال:«إن الله يقول: إنما الظالم عندي في الديون التي حُملتْ في البغي، والإسراف، والمعصية، فأما المتعفّفُ ذو العيال، فأنا ضامن أن أُؤدّيَ عنه» ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:«من ترك ضياعاً، أو ديناً فإليّ، وعليّ، ومن ترك ميراثاً فلأهله» ، وصلى عليهم

(1)

.

فهذه الأدلة تدل بمجموعها: على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من مات وعليه دين ولم يترك وفاءً، إلا أن يتحمله أحد فيصلي عليه، ثم لما فتح الله عليه الفتوح، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات وعليه دين، بل صلى عليه، وأدّى ما عليه من الدين مما فتح الله عليه. فثبت من ذلك نسخ تركه الصلاة على من مات وعليه دين

(2)

.

والله أعلم.

(1)

أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 326، ثم قال:(هذا الحديث بهذا السياق غير محفوظ، وهو جيد في باب المتابعات). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 588: (هوضعيف).

(2)

انظر: الاعتبار ص 324 - 326؛ رسوخ الأحبار ص 327؛ فتح الباري 4/ 588.

ص: 1212

‌المطلب السادس: صلاة الجنازة على من قتل نفسه

ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يترك الصلاة على من قتل نفسه، وأن ترك الصلاة عليه قد نسخ

(1)

.

والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسالة عند من قال به، إلا أن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم فيها هو اختلافهم في سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه

(2)

.

ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل

(1)

قال الشربيني الشافعي في كتابه مغني المحتاج 2/ 61، -بعد ذكر حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه-:(وأجاب ابن حبان عنه في صحيحه بأنه منسوخ). ولم أجد في صحيح ابن حبان التصريح بالنسخ، وقد ذكر حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه في عدة مواضع من صحيحه، فذكره في باب:(ذكر خبر قد يوهم عالماً من الناس أن القاتل نفسه غير جائز الصلاة عليه)، وذكره في باب:(ذكر ما يستحب للإمام ترك الصلاة على القاتل نفسه من ألم جراحة أصابته). ولم يذكر في أي باب منهما التصريح بالنسخ. وذكر ابن شاهين في كتابه ناسخ الحديث ص 405، حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه، ثم قال في ص 409:(الخلاف في أمر هذه الأحاديث) والله أعلم.

(2)

انظر: بداية المجتهد 1/ 458؛ مغني المحتاج 2/ 61.

ص: 1213

مسلم براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر»

(2)

.

ثانياً: عن واثلة بن الأسقع

(3)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا على كل ميت، و جاهدوا مع كل أمير»

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه ص 385، كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور، ح (2533)، والدارقطني في سننه 2/ 56، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 173، وفي معرفة السنن والآثار 4/ 214، ثم قال:(وهذا إسناد صحيح إلا أن فيه إرسالاً بين مكحول وأبي هريرة). وقال المنذري في مختصره 3/ 380: (هذا منقطع، مكحول لم يسمع من أبي هريرة). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 385.

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 57، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 29. قال الدارقطني:(مكحول لم يسمع من أبي هريرة، ومن دونه ثقات). وقال البيهقي بعد رواية الحديث وذكر كلام الدارقطني: (قد روي في الصلاة على كل بر وفاجر، والصلاة على من قال لا إله إلا الله، أحاديث كلها ضعيفه غاية الضعف، وأصح ما روي في هذا الباب حديث مكحول عن أبي هريرة، وقد أخرجه أبو داود في كتاب السنن إلا أن فيه إرسالاً كما ذكره الدارقطني).

(3)

هو: واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر، الليثي، أسلم قبل تبوك وشهدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو إدريس الخولاني، ومكحول، وغيرهما. وتوفي في خلافة عبد الملك. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 125؛ الإصابة 3/ 2074؛ التقريب 2/ 279.

(4)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 269، كتاب الجنائز، باب في الصلاة على أهل القبلة، ح (1525)، والدارقطني في سننه 2/ 57، وقال:(أبو سعيد مجهول). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 269، وقال في إرواء الغليل 2/ 309 عند كلامه على أبي سعيد:(الظاهر أنه محمد بن سعيد المصلوب الشامي، فإنه من أصحاب مكحول، وكان الرواة يدلسون اسمه ويقلبونه على أنواع كثيرة، جمعها بعض المحدثين فجاوزت المائة، وهو كذاب وضاع).

ص: 1214

ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا على من قال لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله»

(1)

.

رابعاً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصل الدين: الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل أمير ولك أجرك، والصلاة على كل من مات من أهل القبلة»

(2)

.

خامساً: عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من السنة: الصف خلف كل إمام لك صلاتك وعليه إثمه، والجهاد مع كل أمير لك جهادك وعليه شره، والصلاة على كل ميّت من أهل التوحيد وإن كان

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 56. قال الدارقطني-بعد هذا الحديث والحديث السابق، والحديث الآتي-: (وليس فيها شيء يثبت). وقال الألباني: (وهذا سند واهٍ جداً). وفي سند الحديث المذكور: عثمان بن عبد الرحمن، وهو متروك، وكذبه يحيى بن معين. انظر: التعليق المغني على سنن الدارقطني 2/ 56؛ إرواء الغليل 2/ 306.

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 57، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 409، ثم قال الدارقطني:(وليس فيها شيء يثبت). وقال ابن شاهين: (هذا حديث منكر، وليس عليه العمل). ولا يخلو سنده من مجهول ومتهم بالكذب. انظر: التعليق المغني 2/ 57؛ إرواء الغليل 2/ 308.

ص: 1215

قاتل نفسه»

(1)

.

فهذه الأحاديث فيها ضعف إلا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهو صحيح الإسناد، إلا أنه مرسل، والمرسل إذا اعتضد بعمل أكثر أهل العلم يعمل به، وهو موجود هنا. وهي تدل على الصلاة على كل مسلم، سواء كان براً أو فاجراً، ومنهم قاتل نفسه، ونص عليه في الحديث الأخير

(2)

.

فلعل من قال بنسخ حديث ترك الصلاة على من قتل نفسه يرى أن هذه الأحاديث متأخرة عنه، فتكون ناسخة له.

ويعترض عليه: بأن حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه صحيح، وهذه الأحاديث ضعيفة فكيف تكون ناسخة له؟. على أنه لا يوجد ما يدل على أنها متأخرة عنه.

كما أنه لا تعارض بينه وبين هذه الأحاديث؛ لأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه لم يكن لأنه لا يجوز الصلاة عليه، بل زجراً للناس عن ارتكاب مثل فعله، لذلك لم يصل عليه، وصلت عليه الصحابة-رضي الله عنهم

(3)

.

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 57، ثم قال:(عمر بن صبيح متروك). وقال ابن حبان: (يضع الحديث). انظر:

إرواء الغليل 2/ 309.

(2)

حديث أبي هريرة عبر عنه البيهقي بالإرسال، والمنذري بالانقطاع. انظر: سنن الدارقطني 2/ 57؛ معرفة السنن والآثار 4/ 214؛ مغني المحتاج 2/ 61؛ نيل الأوطار 4/ 227؛ التعليق المغني 2/ 57 - 58.

(3)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 409؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 29؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ نيل الأوطار 4/ 67؛ تحفة الأحوذي 4/ 176.

ص: 1216

هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.

وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على من قتل نفسه عمداً على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يُصلّى عليه.

وهو مذهب الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، ورواية عن الإمام أحمد

(4)

، وقول جمهور

أهل العلم، منهم: عطاء، والحسن، والنخعي

(5)

.

القول الثاني: لا يُصلّي عليه الإمام، ويُصلّي عليه سائر الناس.

وهو مذهب الحنابلة

(6)

.

القول الثالث: لا يُصلّى عليه.

(1)

انظر: بدائع الصنائع 2/ 47؛ الهداية 2/ 150؛ فتح القدير 2/ 150؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/ 102.

(2)

انظر: المدونة 1/ 254؛ الإشراف 1/ 367؛ جامع الأمهات ص 141؛ التاج والإكليل 3/ 55.

(3)

انظر: روضة الطالبين ص 234؛ المجموع 5/ 163؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ مغني المحتاج 2/ 61.

(4)

انظر: الفروع 3/ 356؛ الإنصاف 6/ 185.

(5)

انظر: المغني 3/ 505؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292.

(6)

انظر: المغني 3/ 504؛ الشرح الكبير 6/ 186؛ الفروع 3/ 356؛ شرح الزركشي 1/ 566؛ الإنصاف 6/ 185.

ص: 1217

وهو قول أبي يوسف القاضي

(1)

، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي

(2)

،

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه يُصلى عليه- بما يلي:

أولاً: الأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ

(3)

.

ثانياً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص

(4)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما أنا فلا أصلي عليه»

(5)

.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا أصلي عليه) ولم ينه عن الصلاة عليه، وكان ترك الصلاة عليه من النبي صلى الله عليه وسلم زجراً وأدباً، كما جاء في رواية:

(1)

انظر: فتح القدير لابن الهمام 2/ 150؛ حاشية ابن عابدين 3/ 102.

(2)

انظر: المغني 3/ 504؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ نيل الأوطار 4/ 67.

(3)

انظر: المجموع 5/ 164؛ مغني المحتاج 2/ 61.

(4)

المشاقص جمع مشقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض. وقيل: سهم فيه نصل عريض. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 881؛ المصباح المنير ص 262.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه ص 487، كتاب الجنائز، باب الإمام لا يصلي على من قتل نفسه، ح (3185)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 315، كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، ح (1964)، وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 109 - بعد ذكر لفظ أبي داود-:(أخرجه بهذا التمام أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم). والحديث أصله في صحيح مسلم، وسيأتي تخريجه.

ص: 1218

(وكان ذلك منه أدباً)

(1)

. فدل ذلك على أنه

يُصلى عليه

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني-وهو أنه لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه غيره- بما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.

ثانياً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «أُتِيَ النبيُ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقصَ، فلم يصل عليه»

(3)

.

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه، فلا يصلى الإمام عليه، ويصلي عليه سائر الناس للأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ

(4)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث- وهو أن من قتل نفسه فلا يُصلى عليه-بما سبق ذكره في دليل القول الأول من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. فإنه لمّا لم

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 269، كتاب الجنائز، باب الصلاة على أهل القبلة، ح (1526). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 269.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 29؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ مغني المحتاج 2/ 61؛ نيل الأوطار 4/ 67.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 292، كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على القاتل نفسه، ح (978)(108).

(4)

انظر: المغني 3/ 505؛ الشرح الكبير 6/ 187؛ الممتع 2/ 52.

ص: 1219

يصلّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه لا يُصلى عليه

(1)

.

واعترض عليه: بأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لا يدل على أنه لا يجوز الصلاة عليه، بل كان ذلك أدباً وزجراً كما سبق بيانه

(2)

.

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: إن القول بنسخ ترك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه غير صحيح، إذ ليس عليه أي دليل كما سبق ذكره.

ثانياً: إن للإمام أن يترك الصلاة على من قتل نفسه، إذا كان في ذلك زجراً للناس عن ارتكاب مثل فعله، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه. ويصلى عليه سائر الناس؛ لكونه مسلماً، وعدم وجود ما يدل على حرمة الصلاة عليه.

والله أعلم.

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ نيل الأوطار 4/ 67؛ تحفة الأحوذي 4/ 176.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 29؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 292؛ نيل الأوطار 4/ 67؛ تحفة الأحوذي 4/ 176.

ص: 1220

‌المطلب السابع: الصلاة على المنافقين

كانت الصلاة على المنافقين

(1)

جائزة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي ابن سلول

(2)

، رأس المنافقين، لما مات، ثم نسخ الله ذلك، ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم.

وممن صرح بنسخ الصلاة عليهم: الحازمي

(3)

، وأبو إسحاق الجعبري

(4)

.

ولا خلاف بين أهل العلم في عدم جواز الصلاة على المنافقين، ولا على أحد غيرهم من الكافرين

(5)

.

(1)

المراد بالنفاق هنا: النفاق الاعتقادي، وهو: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب. التعريفات للجرجاني ص 245.

والمنافق: هو الذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر. التعريفات الفقهية ص 218.

(2)

هو: عبد الله بن أبيّ بن مالك بن الحارث، الخزرجي، رأس المنافقين، وكان في الجاهلية سيد الخزرج. وتوفي سنة تسع بعد مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده أيام مرضه، ولما توفي صلى عليه، وألبسه قميصه. ثم نهى الله عن الصلاة على المنافقين. انظر: البداية والنهاية 5/ 31؛ الإصابة 2/ 1081؛ عمدة القاري 6/ 74؛ الرحيق المختوم ص 439.

(3)

انظر: الاعتبار ص 322.

(4)

انظر: رسوخ الأحبار ص 323 - 324.

(5)

انظر: "أحكام القرآن للجصاص 3/ 185؛ بدائع الصنائع 2/ 47؛ " أحكام القرآن لابن العربي 2/ 992؛ بداية المجتهد 1/ 457؛ " المجموع 5/ 109، 155؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 8/ 22؛ " المغني 3/ 509؛ الشرح الكبير 6/ 189".

ص: 1221

والدليل على ذلك:

أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}

(1)

.

ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دُعيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله أتُصلي على ابن أبيّ؟ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا، أُعدّدُ عليه قوله. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«أخّر عنّي يا عمر» ، فلمّا أكثرت عليه قال:«إنّي خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» . قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة براءة: 84]. قال: فعجبت بعدُ من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله أعلم)

(2)

.

ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أنه قال: لمّا تُوفّيَ عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله

(3)

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه،

(1)

سورة التوبة، الآية (84).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 269، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، والاستغفار للمشركين، ح (1366).

(3)

هو: عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن مالك بن الحارث، الأنصاري، الخزرجي، ابن أبيّ بن سلول. كان اسمه الحباب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عروة. و استشهد باليمامة في قتال الردة سنة اثنتي عشرة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 321؛ الإصابة 2/ 1081.

ص: 1222

وأمره أن يكفّنه فيه. ثم قام يُصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تُصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ قال:«إنما خيّرني الله، أو أخبرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال: سأزيده على سبعين» . قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه، ثم أنزل الله عليه:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84])

(1)

.

فهذه الأدلة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أبيّ ابن سلول، وكان رأس المنافقين، ثم نهي الله تعالى عن الصلاة على المنافقين، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم، فنُسخت بذلك الصلاة عليهم، فلم يجز لأحد بعد ذلك أن يصلي على منافق

(2)

والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 972، كتاب التفسير، باب {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} ، ح (4672)، ومسلم في صحيحه 8/ 22، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، ح (2400)(25).

(2)

انظر: جامع البيان 6/ 237 - 239؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لأبي جعفر النحاس ص 173؛

نواسخ القرآن لابن الجوزي 2/ 475؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 199؛ الاعتبار ص 322؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 200، 202؛ رسوخ الأحبار ص 324؛ تفسير ابن كثير 2/ 362.

ص: 1223

‌المطلب الثامن: الاستغفار لموتى المشركين

ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لعمه أبي طالب، بعد موته، وقد مات مشركاً، ثم نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين. فنسخ بذلك جواز الاستغفار لهم

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: الحازمي

(2)

، والنووي

(3)

، وابن حجر

(4)

.

ولا خلاف بين أهل العلم في عدم جواز الاستغفار لموتى المشركين

(5)

.

ويدل على ما سبق

أولاً: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ

(1)

انظر: أسباب النزول للواحدي ص 178؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 1021، 1022؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 248؛ رسوخ الأحبار ص 327؛ عمدة القاري 6/ 251.

(2)

انظر: الاعتبار ص 333.

(3)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 60.

(4)

انظر: فتح الباري 8/ 404.

(5)

انظر: جامع البيان 7/ 50؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 1022؛ الاعتبار ص 333؛ المغني 3/ 509؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 248؛ رسوخ الأحبار ص 327؛ فتح القدير للشوكاني 2/ 509؛ أحكام الجنائز للألباني ص 124.

ص: 1224

الْجَحِيمِ}

(1)

.

ثانياً: عن سعيد بن المسيب عن أبيه

(2)

، أنه أخبره أنه لمّا حضرت أبا طالب

(3)

الوفاةُ

جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام

(4)

، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة

(5)

، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: «يا عمّ

(1)

سورة التوبة، الآية (113).

(2)

هو: المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو، القرشي المخزومي، أبو سعيد، له ولأبيه صحبة، وشهد بيعة الرضوان، و روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه سعيد. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 77؛ الإصابة 3/ 1839؛ تهذيب التهذيب 10/ 139.

(3)

أبو طالب هو: عبد مناف بن عبد المطلب- واسمه شيبة- بن هاشم-واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه

المغيرة-عم النبي صلى الله عليه وسلم، تولى كفالة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت عبد المطلب، وكان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدر الله له الإيمان، فتوفي على ملة عبد المطلب، وذلك سنة عشر من النبوة. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 1، 415 - 418؛ البداية والنهاية 3/ 107 - 111؛ تهذيب التهذيب 7/ 284؛ الرحيق المختوم ص 48، 58، 115.

(4)

هو: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله، القرشي، المخزومي، أبو جهل، وفرعون هذه الأمة، كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، في غزوة بدر، وحزّ رأسه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ثم طُرح في قليب بدر، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة. انظر: البداية والنهاية 3/ 251 - 255؛ الإصابة 2/ 1279؛ الرحيق المختوم ص 220 - 221.

(5)

هو: عبد الله بن أبي أمية-واسمه حذيفة وقيل: سهلا- بن المغيرة بن عبد الله، المخزومي القرشي، صهر النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمته عاتكة، وأخو أم سلمة رضي الله عنهم أسلم قبل الفتح، قيل: استشهد بالطائف، وقيل بعد ذلك. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 297؛ الإصابة 2/ 1007.

ص: 1225

قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله». فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أميّة: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله لاستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية [التوبة: 113]

(1)

.

ثالثاً: عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس استغفر إبراهيمُ لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113])

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 267، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ح (1360)، ومسلم في صحيحه 2/ 62، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع، ح (24)(39).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه ص 695، كتاب تفسير القرآن الكريم، باب، ح (3101)، والنسائي في سننه ص 325، كتاب الجنائز، باب النهي عن الاستغفار للمشركين، ح (2036)، والإمام أحمد في المسند 2/ 162، 328، وابن جرير في تفسيره 7/ 53، والحاكم في المستدرك 2/ 365. قال الترمذي:(هذا حديث حسن) وقال الحاكم: (صحيح)، ووافقه الذهبي. وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 695.

ص: 1226

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لأبويه

(1)

وهما مشركان، حتى نزلت:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} إلى قوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]»

(2)

.

فهذه الأدلة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين استغفروا لبعض أقاربهم وهم مشركون، فنهاهم الله تعالى عن الاستغفار لهم، فنُسخ به عملهم ذلك، وحرم الاستغفار للمشركين

(3)

.

والله أعلم.

(1)

أب النبي صلى الله عليه وسلم هو: عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي، الهاشمي. وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أمه صلى الله عليه وسلم فهي: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، الزهرية القرشية. وتوفيت والنبي صلى الله عليه وسلم في السادسة من عمره. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 1، 108، 156، 158، 168؛ الرحيق المختوم ص 48 - 58.

(2)

أخرجه ابن جرير في تفسيره 7/ 53. ورجاله رجال رواية أحمد في الرواية السابقة، إلا أن شيخ أحمد في روايته هو يحيى بن آدم عن سفيان، وشيخ الطبري هو ابن بشار عن يحيى عن سفيان. وابن بشار هو محمد بن بشار الملقب ببندار، وهو من رجال الكتب الستة.

(3)

انظر: جامع البيان 7/ 50 - 54؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 1021 - 1022؛ الاعتبار ص 333؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 248 - 250؛ رسوخ الأحبار ص 327؛ فتح الباري 8/ 404؛ عمدة القاري 6/ 249 - 251؛ أحكام الجنائز ص 122 - 124.

ص: 1227

‌المطلب التاسع: النياحة على الميت

ذهب بعض أهل العلم إلى أن النياحة

(1)

كانت أولاً لا بأس بها، ثم نُسخت فحرمت

(2)

.

ولا خلاف بين أهل العلم في أن النياحة محرمة

(3)

.

واستدل من قال بالنسخ بما يلي:

أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من أحد، سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ، فقال: «لكن حمزةُ

(4)

لا بواكيَ له». فبلغ ذلك نساء الأنصار، فجئن يبكين على حمزة، قال: فانتبه رسول الله

(1)

النوح هو: رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله. سبل السلام للصنعاني 2/ 236. وانظر: المجموع 5/ 200؛ التعريفات الفقهية ص 233.

(2)

صرح بالنسخ الصنعاني في كتابه سبل السلام 2/ 237.

(3)

نقل الإجماع على عدم جواز النياحة ابن عبد البر في الاستذكار 2/ 593، والنووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 249، والصنعاني في سبل السلام 2/ 236. وانظر:"عمدة القاري 6/ 131 - 133؛ حاشية ابن عابدين 3/ 146"؛ الكافي لابن عبد البر ص 87؛ التمهيد 6/ 280"؛ مختصر المزني ص 60؛ المجموع 5/ 200"؛ المغني 3/ 490، 491؛ الممتع 2/ 75؛ الإنصاف 6/ 280".

(4)

هو: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي الهاشمي، أبو عمارة، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، أسلم في السنة السادسة من النبوة، وشهد بدراً، واستشهد بأحد سنة ثلاث من الهجرة. انظر: المستدرك للحاكم 3/ 212؛ الإصابة 1/ 401؛ مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 93.

ص: 1228

-صلى الله عليه وسلم من الليل، فسمعهنّ وهنّ يبكين، فقال:«ويحهُنّ! لم يزلن يبكين بعدُ منذ الليلة؟! مروهُنّ فليرجعن، ولا يبكينَ على هالك بعد اليوم»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكن حمزة لا بواكي له» قال: ثم نام، فاستنبه وهنّ يبكين، قال: «فهُنّ اليوم إذاً يبكين يندُبن

(2)

.......................

بحمزة»

(3)

.

ثانياً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود-رضي الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غشيّة، فقال:«أقد قضى؟» قالوا: لا. يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 279، كتاب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت، ح (1591)، وأحمد في المسند-واللفظ له- 9/ 398، والحاكم في المستدرك 3/ 215، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 116. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين). وقال الذهبي: (على شرط مسلم). وقال الشيح الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 279: (حسن صحيح).

(2)

يندبن من الندب -بفتح النون- وهو البكاء على الميت وتعدد محاسنه. انظر: المغني 3/ 489؛ مختار الصحاح ص 573؛ التعريفات الفقهية ص 226.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 9/ 38. ورجاله نفس رجال الرواية السابقة عند أحمد، إلا أن شيخ أحمد هناك هو صفوان بن عيسى، وشيخه هنا هو: زيد بن الحباب، وكلاهما ثقة.

ص: 1229

بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم»

(1)

.

ثالثاً: حديث ابن عباس رضي الله عنه في موت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: قال: فبكت النساء فجعل عمرُ يضربهنّ بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:«مهلاً يا عمر» ، ثم قال:«ابكِين وإياكنّ ونعيق الشيطان» ثم قال: «إنه مهما كان من العين والقلب، فمن الله، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان، فمن الشيطان»

(2)

.

ويستدل منها على النسخ: بأن الحديث الأول يدل على أن نساء الأنصار بكين على هلكاهنّ وعلى حمزة رضي الله عنه، وكان في هذا البكاء نوح وندبة، يدل عليه الرواية الثانية، وكذلك النهي في آخر الحديث؛ لأن مجرد البكاء غير منهي عنه؛ بدليل الحديث الثاني والثالث، ولم ينههنّ النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم نهاهنّ عن ذلك، فقال:«ولا يبكين على هالك بعد اليوم» ، فنسخ به الجواز السابق، وحرمت النياحة

(3)

.

هذا كان القول بالنسخ، ودليله.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 257، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ح (1304)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 240، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، ح (924)(12).

(2)

أخرجه الإمام أحمد 4/ 31. وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 159، ونحوه الحاكم في المستدرك 3/ 210. قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/ 140: (فيه علي بن زيد وفيه كلام، وهوثقة، وقد أشار إلى الحديث الحافظ في التلخيص وسكت عنه).

(3)

انظر: سبل السلام 2/ 237.

ص: 1230

ويدل على تحريم النياحة أدلة كثيرة، منها- إضافة إلى ما سبق- ما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»

(1)

.

ثانياً: عن أبي مالك الأشعري

(2)

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهنّ: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة» . وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران

(3)

، ودرع من جرب»

(4)

.

ثالثاً: عن أم عطية-رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة: «ألا تَنحْنَ» . فما وَفَتْ منَّا غير خمس، منهنّ أم سليم

(5)

،

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في 2/ 133، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب، ح (67)(121).

(2)

أبو مالك الأشعري، مشهور بكنيته مختلف في اسمه، قيل: اسمه الحارث بن الحارث، وقيل: عمرو، وقيل: عبيد، وقيل: كعب بن عاصم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عبد الرحمن بن غنم، وأبو صالح الأشعري، وغيرهما، وتوفي سنة ثماني عشرة. انظر: الاستيعاب 4/ 175؛ الإصابة 4/ 2348؛ التهذيب 12/ 195.

(3)

القطران: ما يتحلل من شجر الأبهل، ويطلى به الإبل وغيرها. انظر: المصباح المنير ص 414.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 249، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، ح (934)(29).

(5)

هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد، الأنصارية، والدة أنس وزوج أبي طلحة الأنصاري، قيل: اسمها: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل غير ذلك، وكانت من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها أنس، وابن عباس، وغيرهما. انظر: الإصابة 4/ 2705؛ التهذيب 12/ 419.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 257، كتاب الجنائز، باب ما يُنهى من النوح والبكاء، ح (1306)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 250، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، ح (936)(32).

ص: 1231

رابعاً: عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الميّت يعذّبُ في قبره بما نيح عليه»

(1)

.

فهذه الأحاديث ظاهرة في تحريم النياحة على الميت، فيكون فيها كذلك دلالة على نسخ ما يدل على إباحتها

(2)

والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 254، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، ح (1292)، ومسلم في صحيحه 4/ 242، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ح (927)(17).

(2)

انظر: التمهيد 6/ 284 - 285؛ المغني 3/ 490 - 491؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 249؛ سبل السلام

2/ 236 - 237.

ص: 1232

‌المطلب العاشر: زيارة القبور

ذهب جمهور أهل العلم إلى مشروعية زيارة القبور، وأن زيارتها كان منهياً عنها أولاً، ثم نسخ ذلك

(1)

.

وممن صرح بالنسخ: ابن شاهين

(2)

، وابن عبد البر

(3)

، والحازمي

(4)

، وابن قدامة

(5)

، و النووي

(6)

، وأبو إسحاق الجعبري

(7)

، وابن حجر

(8)

.

ويدل على مشروعية زيارة القبور، ونسخ النهي عنها ما يلي:

أولاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة

(1)

انظر: "بدائع الصنائع 2/ 65؛ عمدة القاري 6/ 94؛ الدر المختار و حاشية ابن عابدين 3/ 141"؛ الكافي لابن عبد البر ص 87؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 50؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/ 661"؛ المجموع 5/ 203؛ مغني المحتاج 2/ 66"؛ المغني 3/ 517؛ الشرح الكبير والإنصاف 6/ 264".

(2)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 373، 374.

(3)

انظر: التمهيد 10/ 300؛ الاستذكار 4/ 235.

(4)

انظر: الاعتبار ص 330، 331.

(5)

انظر: المغني 3/ 523؛ الكافي 2/ 81.

(6)

انظر: المجموع 5/ 203؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 291.

(7)

انظر: رسوخ الأحبار ص 332. وانظر كذلك: الشرح الكبير للمقدسي 6/ 266؛ نيل الأوطار 4/ 157.

(8)

انظر: فتح الباري 3/ 182.

ص: 1233

القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً»

(1)

.

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة»

(2)

.

ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت»

(3)

.

ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإن فيها عبرة، ونهيتكم عن النبيذ، ألا فانتبذوا، ولا أحل مسكراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فكلوا

(1)

سبق تخريجه في ص 97.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 495، كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، ح (3235) والترمذي في سننه-و اللفظ له- ص 250، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، ح (1054)، وقال:(حسن صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 250.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 290، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، ح (976)(106).

ص: 1234

وادخروا»

(1)

.

رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنه يُرِقُّ القلب، وتُدمع العين، وتُذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً»

(2)

.

خامساً: عن ابن أبي مليكة

(3)

، أن عائشة-رضي الله عنها-أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، «كان نهى ثم أمر بزيارتها»

(4)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 17/ 429، والحاكم في المستدرك-واللفظ له- 1/ 531، وقال:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 228: (وهو كما قالا). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 61: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح).

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 532، وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 229:(أخرجه الحاكم بسند حسن). وأخرج نحوه الإمام أحمد 21/ 141، والحاكم في المستدرك 1/ 531. قال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 229:(وفيه ضعف، لكنه منجبر بما قبله) يعني به الرواية السابقة للحاكم.

(3)

هو: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة-واسمه زهير-، التيمي، أبو بكر، ويقال أبو محمد، ثقة فقيه، روى عن: عائشة، والعبادلة الأربعة، وغيرهم، وروى عنه: عطاء بن أبي رباح، وحميد الطويل، وغيرهما. وتوفي سنة سبع عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 271 - 272؛ التقريب 1/ 511.

(4)

أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 532، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 131، وابن عبد البر في التمهيد 10/ 301. وصححه الذهبي، والشيخ الألباني. وقال الحافظ العراقي عن إسناد الحاكم إنه جيد. انظر: تلخيص الذهبي على مستدر الحاكم 1/ 532؛ أحكام الجنائز ص 230.

ص: 1235

وفي رواية عنها-رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في زيارة القبور»

(1)

.

فهذه الأحاديث ظاهرة في مشروعية زيارة القبور، ونسخ النهي عن زيارتها؛ لأنها جاء فيها الأمر بالزيارة بعد النهي عنها

(2)

.

هذا وقد اختلف أهل العلم في هذا النسخ، وفي الرخصة في الزيارة هل ذلك مختص بالرجال أم لهم وللنساء كذلك، على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يشرع لهن زيارة القبور، إذا أمنت الفتنة.

وهو قول بعض الحنفية

(3)

، وبعض المالكية

(4)

، وبعض الشافعية

(5)

،

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 275، كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور، ح (1570). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 228:(وإسناد حديث عائشة صحيح رجاله ثقات). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 275.

(2)

انظر: ناسخ الحديث لابن شاهين ص 373، 374؛ المستدرك للحاكم 1/ 530؛ الاعتبار ص 330 - 331؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 291؛ فتح الباري 3/ 182؛ نيل الأوطار 4/ 157.

(3)

انظر: بدائع الصنائع 2/ 65؛ البحر الرائق 1/ 210؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/ 141؛ تحفة الأحوذي 4/ 155.

(4)

انظر: الاستذكار 4/ 235؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 50؛ التاج والإكليل 3/ 50؛ حاشية الدسوقي 1/ 661.

(5)

انظر: المجموع 5/ 203؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 67.

ص: 1236

ورواية عن الإمام أحمد

(1)

. وروي ذلك عن عائشة-رضي الله عنها

(2)

. ونسبه بعض أهل العلم إلى الأكثرين

(3)

.

القول الثاني: يكره لهنّ زيارة القبور.

وهو قول بعض الحنفية

(4)

، وبعض المالكية

(5)

، ....................

ومذهب الشافعية

(6)

، والحنابلة

(7)

.

القول الثالث: يحرم لهنّ زيارة القبور.

وهو قول بعض الحنفية

(8)

، وبعض المالكية

(9)

، وبعض الشافعية

(10)

، ورواية عن الإمام أحمد، واختيار بعض الحنابلة

(11)

.

(1)

انظر: المغني 3/ 523؛ الشرح الكبير 6/ 267؛ الفروع 3/ 411؛ الإنصاف 6/ 266.

(2)

انظر: فتح الباري 3/ 182؛ تحفة الأحوذي 4/ 154.

(3)

نسبه إليهم ابن حجر في فتح الباري 3/ 182، والشوكاني في نيل الأوطار 4/ 158. وانظر: الاعتبار ص 332؛ تحفة الأحوذي 4/ 154.

(4)

انظر: عمدة القاري 6/ 96؛ حاشية ابن عابدين 3/ 141.

(5)

انظر: الكافي ص 87؛ مواهب الجليل 3/ 50؛ حاشية الدسوقي 1/ 661.

(6)

انظر: المجموع 5/ 203؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 67.

(7)

انظر: المغني 3/ 523؛ الشرح الكبير 6/ 266؛ الفروع 3/ 411؛ الإنصاف 6/ 266.

(8)

انظر: البحر الرائق 1/ 210؛ حاشية ابن عابدين 3/ 141.

(9)

انظر: مواهب الجليل 3/ 50؛ حاشية الدسوقي 1/ 661.

(10)

انظر: المجموع 5/ 203؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 67.

(11)

انظر: مجموع الفتاوى 24/ 343؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 348؛ الفروع 3/ 411؛ الإنصاف 6/ 266.

ص: 1237

الأدلة

ويستدل للقول الأول- وهو أنه يشرع لهن زيارة القبور- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث بريدة، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأنس-رضي الله عنهم؛ فإنها عامة تشمل الرجال والسناء.

ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة-رضي الله عنها؛ حيث إنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فلما سُئلت عن زيارة القبور أليس منهياً عنها؟ قالت:«كان نهى ثم أمر بزيارتها» .

ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءَه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع. فلم يلبث إلا ريثما

(1)

ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه

(2)

رويداً. فجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري. ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع، فقام، فأطال القيام. ثم رفع يديه ثلاث مرات. ثم انحرف فانحرفت. فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت.

(1)

ريثما، أي قدر ذلك. النهاية في غريب الحديث 1/ 710.

(2)

أجافه، أي أغلقه. المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 288.

ص: 1238

فأحضر فأحضرت

(1)

، فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: «مالك يا عائش؟ حشياً

(2)

رابية

(3)

، قالت: قلت: لا شيء. قال: «لتخبريني أو ليخبرنّي اللطيف الخبير» قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمّي! فأخبرته. قال: «فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟» قلت: نعم. فلهَدَني في صدري لهدَة

(4)

أوجعتني. ثم قال: «أظننت أن يحيف

(5)

الله عليك ورسوله؟» قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله. نعم. قال: «فإن جبريل أتاني حين رأيت. فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك. وخشيت أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله! قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون»

(6)

.

(1)

الإحضار هو العدو. المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 288.

(2)

الحشا، هو: الربو والنهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه، والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره. النهاية في غريب الحديث 1/ 384.

(3)

الرابية: التي أخذها الربو، وهو النهيج وتواتر النفس الذي يعرض للمسرع في مشيه وحركته. النهاية في غريب الحديث 1/ 632.

(4)

اللّهد: الدفع الشديد في الصدر. النهاية في غريب الحديث 2/ 623.

(5)

الحيف: الجور والظلم. النهاية في غريب الحديث 1/ 460.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 289، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، ح (974)(103).

ص: 1239

رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال:«اتقي الله واصبري» ، قالت: إليك عنّي، فإنّك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوّابين. فقالت: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»

(1)

.

ووجه الاستدلال منها، هو: أن حديث بريدة، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، و

أنس-رضي الله عنهم عام يشمل الرجال والنساء، وحديث عائشة-رضي الله عنها الأول يدل عليه كذلك؛ حيث إنها زارت قبر أخيها، وذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالزيارة بعد النهي.

فمعناه أن الأمر بالزيارة هو للرجال والنساء جميعاً

(2)

.

وحديثها الثاني يدل كذلك على جواز زيارتهن للقبور؛ لأن قولها: (قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله) فهي تعنى إذا زارت القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها:«قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون» .

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 252، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، ح (1283)، ومسلم في صحيحه 4/ 242، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، ح (926)(15).

(2)

انظر: المغني 3/ 523؛ أحكام الجنائز للألباني ص 229 - 230.

ص: 1240

فهو كذلك ظاهر الدلالة على جواز زيارتهنّ القبور

(1)

.

وحديث أنس رضي الله عنه يؤيد الجواز كذلك؛ حيث أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة

(2)

.

فثبت مما تقدم أن النساء يجوز لهن زيارة القبور، وأن النهي عن زيارة القبور نسخ في حقهن كما نُسخ في حق الرجال

(3)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: إن حديث بريدة رضي الله عنه، وما في معناه، أدلة عامة، تدل بعمومها على جواز زيارة القبور للنساء، والأدلة التي تدل على نهي النساء عن زيارة القبور، أدلة خاصة، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة

(4)

.

ثانياً: إن حديث عائشة-رضي الله عنها-جاء في بعض طرقها أنها قالت بعد ما زارت قبر أخيها: (ولو شهدتك ما زرتك)

(5)

. وهذا يدل

(1)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 290؛ التلخيص الحبير 2/ 173؛ أحكام الجنائز ص 232.

(2)

انظر: المجموع 5/ 204؛ فتح الباري 3/ 182؛ أحكام الجنائز ص 234.

(3)

انظر: التمهيد 10/ 300؛ المغني 3/ 523؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 348.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى 24/ 344؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 349.

(5)

أخرجه الترمذي في سننه ص 250، كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور للنساء، ح (1055)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 30. قال المباركفوري في التحفة الأحوذي 4/ 153:(لم يحكم الترمذي على حديث الباب بشيء من الصحة والضعف، ورجاله ثقات، إلا أن ابن جريج مدلس، ورواه عن عبد الله بن أبي مليكة بالعنعنة). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 250.

ص: 1241

على أنه من المستقر المعلوم عندها: أن النساء لا

يشرع لهنّ زيارة القبور؛ لأنه لو شرعت لها، لزارت قبره سواء شهدته أو لم تشهده

(1)

.

وأجيب عنه:

أ-بأن حديث بريدة رضي الله عنه وما في معناه عام إلا أنه يقوى بعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره صلى الله عليه وسلم حجة

(2)

.

ب- أن الأحاديث التي تدل على نهي النساء عن زيارة القبور، جاء بلفظين

(3)

: أحدهما: «زوّارات القبور» . والثاني: «زائرات القبور» . وهذا الثاني ضعيف، وقد روي هو كذلك بلفظ:(زوّارات القبور) والأول صحيح، وهو يدل على نهي النساء اللاتي يكثرن الزيارة. لذلك لا تكون هذه الأدلة معارضة للأحاديث التي تدل على مشروعية عموم الزيارة. وحديث عائشة-رضي الله عنها-وفعلها موافق لهذه الأحاديث؛ حيث إنها زارت قبر أخيها، ولكنها لم تكثر من الزيارة

(4)

.

واعترض على هذا: بأن قوله: «زوارات القبور» يحتمل أن يكون

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 24/ 345؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 350.

(2)

انظر: فتح الباري 3/ 182؛ أحكام الجنائز ص 233.

(3)

سيأتي تخريجهما في دليل القول الثاني.

(4)

انظر: فتح الباري 3/ 183؛ نيل الأوطار 4/ 159؛ تحفة الأحوذي 4/ 153؛ أحكام الجنائز ص 235 - 237.

ص: 1242

المراد به النسبة، أي نسبة الزيارة لهن، أو ذوات زيارة، كما في قوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}

(1)

. أي ليس بذي ظلم، وليس للمبالغة في الزيارة، وإذا كان كذلك فإن زيارتهن يكون منهياً عنها

(2)

.

دليل القول الثاني

ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يكره زيارتهنّ للقبور- بأدلة منها ما يلي:

أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوّارات القبور»

(3)

.

ثانياً: عن حسان بن ثابت

(4)

رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّارات

(1)

سورة فصلت، الآية (46).

(2)

انظر: فضل المدينة وآداب سكناها للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد ص 57، 58.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه ص 250، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، ح (1056)،

وابن ماجة في سننه ص 276، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح (1576)، وأحمد في المسند 14/ 164، والطيالسي في مسنده ص 171، وابن حبان في صحيحه ص 890، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 130. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 250:(حسن)، وذكر في أحكام الجنائز ص 235: أنه صحيح بالشواهد.

(4)

هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، الأنصاري الخزرجي، ثم النجاري. أبو الوليد، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، وعروة، وغيرهما، وتوفي قبل الأربعين، وقيل بعده. انظر: الإصابة 1/ 371.

ص: 1243

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه ص 276، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح (1574)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 31، وأحمد في المسند 24/ 424، والحاكم في المستدرك 1/ 530، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 130. قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 229:(وإسناد حديث حسان بن ثابت صحيح رجاله ثقات). وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 276، وقال في أحكام الجنائز ص 236 - بعد الكلام على أحد رواته-:(فالحديث مقبول).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه ص 495، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، ح (3236)، والترمذي في سننه ص 89، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً، ح (320)، والنسائي في سننه ص 326، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، ح (2043)، وابن ماجة في سننه-بلفظ:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّارات القبور) ص 276، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح (1575)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 30، وأحمد في المسند 3/ 471، والطيالسي في مسنده ص 171، وابن حبان في صحيحه ص 891، والحاكم في المستدرك 1/ 530، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 130. قال الترمذي:(حديث حسن). وتعقبه المنذري في مختصر سنن أبي داود 4/ 348، فقال:(وفيما قاله نظر؛ فإن أبا صالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وهو صاحب الكلبي، وقد قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس. وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة. وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقد نقل عن يحيى بن سعيد القطان وغيره تحسين أمره، فلعله يريد: رضيه حجة، أو قال: هو ثقة). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 137: (رواه أحمد، وأصحاب السنن، والبزار، وابن حبان، والحاكم، من رواية أبي صالح عنه، والجمهور على أن أبا صالح هو مولى أم هانئ، وهو ضعيف، وأغرب ابن حبان فقال: أبو صالح راوي هذا الحديث اسمه ميزان، وليس هو مولى أم هانئ). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 89، وقال عن رواية ابن ماجة:(حسن بما قبله-يعني رواية حسان-).

ص: 1244

فهذه الأحاديث جاءت خاصة في النساء، وهي تدل على نهيهنّ عن زيارة القبور، والأحاديث التي فيها الأمر بزيارة القبور بعد النهي عنه، عامة، فتكون أحاديث النهي مخصصة لعمومها، فلا يكون نسخ النهي الوارد فيها شاملاً للنساء؛ ولذلك يكون زيارتهنّ للقبور مكروهاً

(1)

.

واعترض عليه بما يلي:

أولاً: أن الأمر بالزيارة بعد النهي عام للرجال والنساء، يدل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها، خاصة حديثها الذي قالت فيه بعد رجوعها من زيارة قبر أخيها:«كان نهى ثم أمر بزيارتها» . فهو ظاهر في أن الأمر بالزيارة عام يشمل الرجال والنساء، وأنه متأخر عن النهي عن زيارة القبور

(2)

.

ثانياً: أنه لا تعارض بين الأحاديث التي فيها الأمر بزيارة القبور، وبين الأحاديث التي فيها اللعن على زوّارات القبور؛ لأن اللعن فيها للاتي

(1)

انظر: التمهيد 10/ 300؛ الاعتبار ص 332؛ المغني 3/ 523؛ المجموع 5/ 203، 204.

(2)

انظر: المستدرك للحاكم 1/ 530 - 532؛ الاستذكار 4/ 235؛ المغني 3/ 523، 524؛ أحكام الجنائز للألباني ص 229 - 232.

ص: 1245

يكثرن زيارة القبور؛ حيث جاء لفظ: (زوّارات القبور)، وهو يدل على لعن النساء اللاتي يكثرن الزيارة. بخلاف غيرهنّ فلا يشملهنّ اللعن.

أما ورود الحديث عن بعض الصحابة بلفظ: (زائرات القبور) فهو ضعيف، وقد ورد نفس الحديث بلفظ:(زوّارات القبور). وهو الموافق لغيره من الأحاديث فيكون شاهداً لغيره، موافقاً له، وإن كان ضعيفاً في نفسه.

وإذاً فيكون الأحاديث التي فيها الأمر بزيارة القبور دالة على مشروعية الزيارة لهن، ويكون النهي واللعن على اللاتي يكثرن زيارة القبور. فالأمر بالزيارة عام، واللعن خاص باللاتي يكثرن الزيارة، ولا تعارض بين العام والخاص

(1)

.

وأجيب: بأنه ليس المراد من قوله: (زوارات القبور) المبالغة، بل المراد به النسبة، أي نسبة الزيارة لهن، ولذلك يكون ذلك دليلاً على النهي مطلقاً

(2)

.

دليل القول الثالث

ويستدل للقول الثالث-وهو أن زيارتهنّ للقبور حرام- بما يلي:

أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول الثاني.

ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأحاديث جاء فيها اللعن على زوّارات القبور، واللعن يدل على التحريم. فيكون زيارتهنّ للقبور

(1)

انظر: نيل الأوطار 4/ 159؛ تحفة الأحوذي 4/ 153، 155؛ أحكام الجنائز للألباني ص 236 - 237.

(2)

انظر: فضل المدينة وآداب سكناها للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد ص 57، 58.

ص: 1246

حراماً

(1)

.

ويعترض على هذا الاستدلال بما اعترض به على استدلال القول السابق.

ثانياً: عن أم عطية-رضي الله عنها-قالت: «نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا»

(2)

.

فهذا يدل على نهي النساء عن اتباع الجنائز، - مع ما فيه من الثواب- فزيارة القبور أولى؛ لأنه مختلف في مشروعيته وتحريمه

(3)

.

واعترض عليه: بأن اتباع الجنائز للنساء ليس حراماً عليهنّ، كما هو ظاهر الحديث، وهو قول جمهور أهل العلم

(4)

.

على أن الأمر بزيارة القبور عاماً جاء بعد النهي عنه، أما النهي عن اتباعهنّ الجنائز فلا يوجد ما يدل أنه جاء بعد الأمر باتباع الجنائز.

(1)

انظر: المجموع 5/ 203؛ مجموع الفتاوي 24/ 355؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 348؛ مغني المحتاج 2/ 67. الشرح الممتع 2/ 568.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه ص 251، كتاب الجنائز، باب اتباع النساء الجنازة، ح (1278)، ومسلم في صحيحه 4/ 251، كتاب الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، ح (838)(35).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى 24/ 347، 348؛ تهذيب السنن 4/ 350.

(4)

انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 251؛ فتح الباري 3/ 178؛ عمدة القاري 6/ 78 - 88.

ص: 1247

الراجح

بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:

أولاً: يستحب زيارة القبور للرجال؛ للأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في ذلك، من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وأن النهي عن زيارة القبور قد نسخ بذلك.

ثانياً: يدل على عدم تحريم زيارة النساء للقبور- إذا أمنت الفتنة، ولم يكثرن منه، ولم يترتب على زيارتهنّ ارتكاب محظور من الدعاء لغير الله، وغير ذلك من أمور شركية أو بدعية، وكذلك النياحة وشقّ الجيوب، والسفور والتبرج، وغير ذلك من الأمور المحظورة شرعاً -ما يلي:

أ-عموم الأدلة التي تدل على مشروعية زيارة القبور؛ حيث إنها تشمل الرجال والنساء.

ب-احتمال أن يكون نهيهنّ عن زيارة القبور منسوخاً، ويقوى هذا الاحتمال بعمل عائشة-رضي الله عنها، وروايتها الدال على مشروعية الزيارة بعد النهي عنه، وقد قالت ذلك بعد زيارتها لقبر أخيها.

كما يؤيد ذلك عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة قعودها عند القبر.

ج-إن الأحاديث التي يُستدل منها على النهي، تدل-كما قاله غير واحد من أهل العلم- على نهيهنّ من التكثير من الزيارة، فيكون النهي

ص: 1248

فيها من التكثير من الزيارة، لا عن مطلق الزيارة.

ولكن مع هذا الأولى والأظهر القول بمنع زيارة النساء للقبور، وذلك لما يلي:

أ- لأن حديث بريدة رضي الله عنه، وما في معناه، أدلة عامة، تدل بعمومها على جواز زيارة القبور للنساء، والأدلة التي تدل على نهي النساء عن زيارة القبور، أدلة خاصة، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة

(1)

.

ولا يعترض عليه بأن المراد بالزوارات في الحديث اللواتي تكثرن الزيارة؛ لأنه قد تكون المراد به النسبة إلى الزيارة، لا المبالغة في الزيارة، كما سبق بيانه، ويؤكد هذا الاحتمال كون الحديث جاء في رواية بذكر لفظ:(زائرات القبور).

ب- ولأن أهل العلم اختلفوا في حكم زيارتهنّ للقبور، فقيل بالجواز، وقيل بالتحريم. وما اختلف في جوازه وتحريمه-ولا يوجد ما يدل على القطع- فتركه أولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع

ما يريبك إلى ما لا يريبك»

(2)

.

ج- ولأن القول بالمنع أحوط؛ لأن المرأة إذا تركت الزيارة لا تأثم، وإذا حصلت منها الزيارة تعرضت للعن

(3)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 24/ 344؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 349.

(2)

سبق تخريجه في ص 295.

(3)

انظر: فضل المدينة وآداب سكناها وزيارتها للشيخ عبد المحسن ص 58.

ص: 1249

د-ولأن ارتكاب المحظورات قد كثر عند القبور. كما كثرت الفتن، ولذلك كره كثير من أهل العلم خروجهنّ إلى الصلوات، فالخروج إلى زيارة القبور أولى بالكراهة.

والله أعلم.

ص: 1250