الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني الزكاة، والصوم، والحج وأحكام الحرمين
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الزكاة.
الفصل الثاني: الصوم، والحج وأحكام الحرمين.
الفصل الأول: الزكاة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: وجوب الزكاة، وزكاة بهيمة الأنعام.
المبحث الثاني: زكاة الحبوب والثمار، وقسم الصدقات، وزكاة الفطر.
المبحث الأول وجوب الزكاة، وزكاة بهيمة الأنعام
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حقوق المال سوى الزكاة.
المطلب الثاني: أخذ شطر مال مانع الزكاة.
المطلب الثالث: استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة.
المطلب الرابع: إخراج زكاة البقر بالغنم.
المطلب الأول: حقوق المال سوى الزكاة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن وجوب الزكاة
(1)
نسخ وجوب غيرها من الحقوق
(2)
والصدقات
(3)
.
وممن صرح بالنسخ: الضحاك بن مزاحم
(4)
، وأبو بكر
(1)
الزكاة لغة: النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع إذا زاد ونمى، وتأتي الزكاة كذلك بمعنى: الطهارة، والصلاح، يقال: زكا الرجل يزكو إذا صلح. انظر: المغرب للمطرزي 1/ 366؛ المصباح المنير ص 210؛ القاموس المحيط ص 1163.
والزكاة اصطلاحاً: عرفها الحنفية فقالوا: هي عبارة عن إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص. الاختيار لتعليل المختار 1/ 99؛ التعريفات ص 114.
وقال المالكية: هي إخراج مال مخصوص من مال مخصوص بلغ نصاباً إن تم الملك وحول غير معدن وحرث. الشرح الصغير 1/ 581.
وقال الشافعية: هي اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشرائط. مغني المحتاج 2/ 73. وانظر: كفاية الأخيار ص 251.
وقال الحنابلة: هي حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة بوقت مخصوص. معونة أولى النهي 2/ 551؛ الروض المربع 1/ 358.
(2)
المراد بها الحقوق التي توجبه المال. أما الحقوق التي توجبه أسباب أخر، كالفطر، والقرابة، والزوجية، وغير ذلك، فهي واجبة عند الجميع وليست هي المراد هنا. انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161، 3/ 547؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 60؛ تحفة الأحوذي 3/ 287.
(3)
ذكر أبو المظفر السمعاني أنه مما أجمع عليه الصحابة قولياً. وذكر البيهقي أنه قول أكثر العلماء. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 307؛ قواطع الأدلة 1/ 438؛ شرح الكوكب المنير لابن النجار 3/ 563؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(4)
هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم البلخي، صدوق كثير الإرسال، وروى عن الأسود بن يزيد، وعطاء، وغيرهما، وروى عنه جويبر بن سعيد، والحسن بن يحيى، وغيرهما، وتوفي سنة خمس ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 325؛ تهذيب التهذيب 4/ 417؛ التقريب 1/ 444.
وانظر قوله في: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 56؛ المحلى 4/ 283.
الجصاص
(1)
، .................
والبيهقي
(2)
، وابن عبد البر
(3)
، والسمعاني
(4)
، والمجد ابن تيمية
(5)
. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب
(6)
، وابن عباس
(7)
رضي الله عنهما.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة
(1)
هو: أحمد بن علي، أبو بكر الجصاص الرازي، تفقه على أبي الحسن الكرخي، وأبي سهل الزجاجي، ومن تلاميذه: أحمد بن موسى الخوارزمي، ومحمد بن يحيى، ومن مؤلفاته:(أحكام القرآن)، وتوفي سنة سبعين
وثلاثمائة. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 150؛ سير أعلام النبلاء 16/ 340؛ الجواهر المضية 1/ 220.
وانظر قوله في كتابه: أحكام القرآن 1/ 161.
(2)
انظر: السنن الكبرى له 4/ 307.
(3)
انظر: الاستذكار 3/ 61.
(4)
انظر قوله في: قواطع الأدلة 1/ 438.
(5)
وهو قد ذهب إلى نسخ سائر الصدقات غير الزكاة، إلا أنه ذهب إلى أن ذلك لم ينسخ بالزكاة، بل وافق نسخها عند فرض الزكاة، فحصل النسخ معه لا به. انظر: المسودة ص 229، 230.
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161.
(7)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 547.
شيئان: الاختلاف في مفهوم الأدلة الواردة فيها، والقول بالنسخ
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دُلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: «تعبدُ الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلمّا ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا»
(2)
.
ثانياً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطّوّع» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان» ، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطّوّع» ، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»
(3)
.
ثالثاً: عن خالد بن أسلم
(4)
قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر-رضي الله
(1)
انظر: السنن الكبرى 4/ 307؛ فتح الباري 3/ 329، 333؛ عمدة القاري 6/ 345.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 276، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، ح (1397)، ومسلم في صحيحه 2/ 29، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، ح (14)(15).
(3)
سبق تخريجه في ص 420.
(4)
هو: خالد بن أسلم القرشي، العدوي، أخو زيد بن أسلم مولى عمر رضي الله عنه. وثقه الدارقطني، وقال ابن حجر: صدوق. وروى عن ابن عمر رضي الله عنه، وروى عنه: الزهري، وعبد الله بن سلمة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 73؛ التقريب 1/ 255.
عنهما-، فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، قال ابن عمر:(من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا أُنزلت جعلها الله طُهراً للأموال)
(1)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك»
(2)
.
خامساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شرّه»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 278، كتاب الزكاة، باب ما أُدّي زكاته فليس بكنز، ح (1404).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 156، كتاب الزكاة، باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيبت ما عليك، ح (618)، وابن ماجة في سننه ص 311، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ح (1788)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1183، والحاكم في المستدرك 1/ 548، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 141. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في الفتح 3/ 332: (وهو على شرط ابن حبان). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 156، وضعيف سنن ابن ماجة ص 310.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 548، وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 141، مرفوعاً وموقوفاً، وقال عن الموقوف أنه أصح. وقال ابن حجر في الفتح 3/ 332:(ورجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه، كما عند البزار).
سادساً: عن فاطمة بن قيس
(1)
رضي الله عنها مرفوعاً: «ليس في المال حق سوى
الزكاة»
(2)
.
سابعاً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(3)
.
ثامناً: الإجماع، فقد أجمع الصحابة-رضي الله عنهم على عدم وجوب حق في المال سوى الزكاة
(4)
.
(1)
هي: فاطمة بنت قيس بن خالد، القرشية الفهرية، أخت الضحاك، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: ابن المسيب، وعروة، والشعبي، وغيرهم. وكانت من المهاجرات الأول، وعاشت إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر:
تجريد أسماء الصحابة 2/ 295؛ الإصابة 4/ 2605؛ تهذيب التهذيب 12/ 393.
(2)
أخرجه ماجة في سننه ص 311، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ح (1789). قال النووي في المجموع 5/ 217:(ضعيف جداً لا يعرف). وقال ابن حجرفي التلخيص 2/ 160: (ابن ماجة والطبراني من حديث فاطمة بنت قيس بهذا، وفيه أبو حمزة ميمون الأعور راويه عن الشعبي عنها، وهو ضعيف. قال الشيخ تقي الدين القشيري في الإمام: كذا هو في النسخة من روايتنا عن ابن ماجة، وقد كتبه في باب ما أدي زكاته فليس بكنز، وهو دليل على صحة لفظ الحديث. لكن رواه الترمذي بالإسناد الذي أخرجه منه ابن ماجة بلفظ: (إن في المال حقاً سوى الزكاة). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 311: (ضعيف منكر).
(3)
سبق تخريجه في ص 395.
(4)
ذكر السمعاني أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك، وتبعه غير واحد. انظر: قواطع الأدلة 1/ 438؛ البحر المحيط 5/ 319؛ شرح الكوكب المنير 3/ 563؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مذكرة أصول الفقه ص 91.
لكن روى عن ابن عمر رضي الله عنه أن في المال حقاً سوى الزكاة. انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 412؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 546. لكن قول ابن عمر رضي الله عنه ذلك يحتمل الوجوب، ويحتمل الندب، وعلى احتمال أنه أراد به الندب لا يكون ذلك منافياً للإجماع.
ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:
أولاً: إن الأحاديث الخمس الأول تدل على أن من أدى الزكاة المفروضة فقد قضى ما عليه، وليس عليه شيء غير ذلك إلا أن يتطوع. وأن الزكاة طُهْرة للمال، ويذهب عن الشخص شره. فتكون هذه الأحاديث ناسخة للأحاديث التي تفيد أن في المال حقاً سوى الزكاة؛ لأن مع هذه الأحاديث ما يدل على تأخرها، وهو رواية علي رضي الله عنه
(1)
.
واعترض عليه: بأن رواية علي رضي الله عنه ضعيف
(2)
، لا تقوم به الحجة، ويؤكد ذلك أن بعض الحقوق التي قيل بنسخها ذكرت في بعض الأحاديث مع ذكر الزكاة، كما أن فرض الزكاة متقدم على إسلام بعض من روى هذه الحقوق. فهذا مما يعكر القول بنسخها بالزكاة
(3)
.
ثانياً: -من وجوه النسخ-إن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعوا على أنه ليس في المال حقاً سوى الزكاة، مع أنه قد ورد أحاديث تفيد أن في المال حقاً سوى الزكاة، فدل ذلك على أن الأحاديث التي تدل على أنه ليس في المال
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 141 - 142، 307.
(2)
راجع تخريجه.
(3)
انظر: الفروع 4/ 309؛ فتح الباري 3/ 329.
حقاً سوى الزكاة متأخرة؛ يدل الإجماع على تأخرها؛ فيكون ذلك دليلاً على النسخ
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذا الإجماع فيه نظر؛ إذ روى عن ابن عمر رضي الله عنه القول بأن في المال حقاً سوى الزكاة
(2)
.
وأجيب عنه: بأن قوله ذلك يحتمل أنه أراد به الاستحباب والندب. والمراد بالنسخ هو نسخ الوجوب، فلا يكون ذلك منافياً لإجماع.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في هل يجب في المال حق سوى الزكاة؟ على قولين:
القول الأول: أنه لا يجب في المال صدقة ولا حق مالي سوى الزكاة، لكن إن نزلت حاجة فإنه يجب صرف المال إليها حسب الحاجة والضرورة.
وهو قول جمهور أهل العلم
(3)
، منهم الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
،
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 438؛ البحر المحيط 5/ 319؛ شرح الكوكب المنير 3/ 563؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مذكرة أصول الفقه ص 91.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 412؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 546.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 17؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 307؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 312.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161، 3/ 547؛ النتف في الفتاوى ص 108؛ عمدة القاري 6/ 345.
(5)
انظر: التمهيد 10/ 17؛ الاستذكار 3/ 58، 61، 4/ 11؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 59، 60؛ الجامع
لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 237.
والشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: أنه يجب في المال حقاً سوى الزكاة.
روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه
(3)
، وقال به مجاهد، والشعبي، والحسن، وعطاء، وطاووس. واختاره ابن حزم، وأبو عبد الله القرطبي
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة- بالأدلة التي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أنه لا يجب في المال حق بعد الزكاة
(5)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجب في المال حقاً سوى الزكاة- بأدلة من أهمها ما يلي:
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 307؛ قواطع الأدلة 1/ 438؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 24؛ المجموع 5/ 217؛ البحر المحيط للزركشي 5/ 319.
(2)
انظر: المغني 4/ 7، 7/ 341؛ الفروع 4/ 307.
(3)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 412؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 546؛ المحلى 4/ 283.
(4)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 411، 412؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 546؛ المحلى 4/ 281، 283؛ التمهيد 10/ 17، 18؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 236.
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 547؛ التمهيد 10/ 17؛ الاستذكار 3/ 57؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 141، 307؛ المغني 7/ 341؛ الفروع 4/ 307.
أولاً: قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}
(1)
.
فهذه الآية تدل على أن في المال حقاً سوى الزكاة؛ لأنه جاء فيها ذكر الزكاة بعد قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} فدل أن ذلك غير الزكاة
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
(3)
. فهذا حق غير الزكاة؛ لأن الزكاة فرضت بالمدينة، وهذه الآية مكية؛ لذلك أوله بعض أهل العلم بأنه حق سوى الزكاة
(4)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت، إذا هولم يعط فيها حقها، تطؤُه بأخفافها. وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يعط فيها حقها، تطؤُه بأظلافها وتنطحه بقرونها. قال ومن حقها أن تحلب على الماء.» الحديث
(5)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حق الإبل أن تحلب على
(1)
سورة البقرة، الآية (177).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 237.
(3)
سورة الذاريات، الآية (19).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 546؛ التمهيد 7/ 51؛ فتح القدير للشوكاني 5/ 104.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 277، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، ح (1402)، و مسلم في صحيحه 4/ 307، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، ح (987)(24).
الماء»
(1)
.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يُؤدى حقها، إلا أُقعد لها يوم القيامة بقاعٍ
(2)
قرقرٍ
(3)
، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذٍ جمّاء
(4)
ولا مكسورة القرن». قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها
(5)
، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله» الحديث
(6)
.
فثبت من الحديثين أن في بهيمة الأنعام حقاً سوى الزكاة
(7)
.
خامساً: عن فاطمة بنت قيس-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 470، كتاب المساقاة، باب حلب الإبل على الماء، ح (2378).
(2)
القاع: المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض، يعلوه ماء السماء فيمسكه، ويستوي نباته. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 509؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 307.
(3)
القرقر: هو المكان المستوي. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 443؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 307.
(4)
الجماء هي: التي لا قرن لها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 293.
(5)
المنيحة هي: أن يعطيه ناقة أو بقرة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وشعرها وصوفها زمناً، ثم يردها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 682؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 313.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 313، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، ح (988)(28).
(7)
انظر: التمهيد 7/ 51، 10/ 18؛ فتح الباري 3/ 329.
«إن في المال لحقاً سوى الزكاة» ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177]، الآية
(1)
.
وهذا الحديث نص صريح في أن في المال حقاً سوى الزكاة
(2)
.
واعترض على الاستدلال من هذه الأدلة بما يلي:
أولاً: إن هذه الأدلة تدل على أن في المال حقاً سوى الزكاة، لكنها تحتمل أن تكون قبل أن تفرض الزكاة، فتكون منسوخة به
(3)
.
ثانياً: إنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة وأدلة القول الأول؛ وذلك بحمل هذه الأدلة على الاستحباب والإرشاد إلى الفضل؛ لأن الحقوق منها ما هو
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 166، كتاب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقاً سوى الزكاة، ح (659)، والدارمي في سننه 1/ 471؛ وابن جرير في جامع البيان 2/ 854، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 27، والدارقطني في سننه 2/ 125. قال الترمذي بعد ذكر الحديث:(هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 166. وأبو حمزة في سند الحديث، هو ميمون الأعور، قال الإمام أحمد: متروك الحديث. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 234؛ تحفة الأحوذي 3/ 370.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 236.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 307؛ الاستذكار 3/ 61.
واجب، ومنها ما هو مندوب. فيكون المراد بهذه الأدلة الحقوق المندوبة لا الواجبة؛ وذلك للأدلة الدالة على أن المفروض في الأموال هو الزكاة فقط
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-
ما يلي:
أولاً: إنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه إن نزلت بالمسلمين حاجة، أو وُجد لشخص ذوو أرحام محتاجين وعاجزين عن التكسُّب، أو وُجد جائع مضطر إلى طعام، أنه يجب الإنفاق عليهم، ولو كان ذلك بعد أداء الزكاة، كما أن النفقات الواجبة على الشخص من نفقة الزوجة والأولاد، ومن يعوله، يجب على الشخص في ماله غير الزكاة. وأنه ليس شيء من هذا منسوخاً
(2)
.
ثانياً: إن الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة، وذلك لما يلي:
أ-للأحاديث التي سبقت في أدلة القول بالنسخ، والتي تدل على أن من أدى زكاة ماله فليس عليه فيه غيرها إلا أن يتطوع.
ب-ولأنه يمكن أن يجمع به بين الأحاديث التي تدل على أن في المال حقاً سوى الزكاة، وبين التي تدل على أن من أدى زكاة ماله فلا يجب
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161؛ الاستذكار 3/ 61.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 161؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 60؛ الفروع 4/ 307؛ تحفة الأحوذي 3/ 287.
عليه فيه غيرها، وذلك بحمل النوع الأول من الأدلة على الاستحباب والندب، وحمل ما يخالفها على عدم الوجوب.
ثالثاً: إن القول بأن الزكاة نسخت غيرها من الحقوق والصدقات، قول له وجه واحتمال، -والمراد به نسخ وجوبها-؛ وذلك لما يلي:
أ- ما روى عن علي وابن عباس-رضي الله عنهما من أن الزكاة نسخت غيرها من الحقوق والصدقات في الأموال.
ويقوى ذلك بقول ابن عباس رضي الله عنه: (من أدى زكاة ماله فليس عليه جناح أن لا يتصدق)
(1)
.
ب-الإجماع الذي نقله بعض أهل العلم عن الصحابة-رضي الله عنهم على أن الزكاة نسخت غيرها من الحقوق والصدقات في الأموال.
وقول ابن عمر رضي الله عنه: (إن في المال حقاً سوى الزكاة) ليس مبطلاً للإجماع؛ لأن قوله ذلك يحتمل أنه أراد به الندب والاستحباب، يدل عليه قوله السابق في المراد بالكنز:(من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا أُنزلت جعلها الله طُهراً للأموال)
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 412. ورجاله رجال الجماعة.
(2)
سبق تخريجه في ص 844.
المطلب الثاني: أخذ شطر مال مانع الزكاة
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أخذ شطر مال مانع الزكاة كان في أول الإسلام، ثم نُسخ ذلك، لذلك لا يُؤخذ ممن منع زكاة ماله غرامة مالية، بل يُؤخذ منه الزكاة المقدر في ماله
(1)
.
وممن قال بالنسخ: الإمام الشافعي
(2)
، والطحاوي
(3)
، والبيهقي
(4)
، والسمعاني
(5)
.
ويتبين منه، ومما يُذكر من الأدلة في المسألة، أن سبب اختلاف الفقهاء في المسألة شيئان: الاختلاف في صحة الحديث الدال عليها، والقول بالنسخ
(6)
.
(1)
ذكر ابن القيم في تهذيب السنن 2/ 192، أنه قول أكثر العلماء. وانظر: التمهيد 10/ 129؛ المغني 4/ 8؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 253؛ الفروع 4/ 248؛ البحر المحيط للزركشي 5/ 319؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 176؛ المجموع 5/ 220.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196.
(4)
انظر: السنن الكبرى له 4/ 176.
(5)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439.
(6)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 176؛ تهذيب السنن لابن القيم 2/ 193؛ الفروع 4/ 248.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(1)
.
ثانياً: عن أبي حُرَّة الرقاشي
(2)
، عن عمه
(3)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ
مسلم إلا بطيب نفس منه»
(4)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 39/ 19، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 241؛ وابن حبان في صحيحه ص 1590؛ والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 6/ 165. قال ابن حجر في التلخيص 3/ 46:(حديث أبي حميد أصح ما في الباب).
(2)
هو: حنيفة، أبو حرة الرقاشي، وقيل: اسمه حكيم بن أبي يزيد. روى عن عمه، وعنه: علي بن جدعان، و سلمة بن دينار. وثقه أبو داود، وابن حجر، وضعفه ابن معين. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 621؛ تهذيب التهذيب 3/ 58؛ التقريب 1/ 250.
(3)
قيل: اسمه: حذيم بن حنيفة، وقيل: عمر بن حمزة. وقيل: حنيفة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 59؛ تقريب التهذيب 2/ 625.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 34/ 299، والدارقطني في سننه 3/ 26، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 6/ 166. قال ابن حجر في التلخيص 3/ 46:(وفيه علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف).
(5)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 25، ونحوه الحاكم في المستدرك 1/ 171، وقال:(وقد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتج مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم). وقال الذهبي في التلخيص 1/ 171: احتج البخاري بعكرمة، واحتج مسلم بأبي أويس عبد الله، وله أصل في الصحيح).
رابعاً: حديث فاطمة بنت قيس-رضي الله عنها مرفوعاً: «ليس في المال حق سوى الزكاة»
(1)
.
خامساً: الإجماع، وذلك لأن الصحابة-رضي الله عنهم في زمن أبي بكر رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذوا ممن منع الزكاة، زيادة على الزكاة، ولم ينقل عنهم قول بذلك
(2)
.
ويُستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على أن أنه لا يجوز أخذ مال المسلم إلا بطيب نفس منه، وأن المال ليس فيه حقاً سوى الزكاة، فتكون هذه الأحاديث ناسخة للذي يفيد أخذ شطر مال مانع الزكاة؛ لأنه ليس من الزكاة، ولا يطيب به نفس صاحبه، ويدل على تأخر هذه الأحاديث على ذلك الحديث:
1 -
أن بعض هذه الأحاديث فيها بيان أن هذه الأحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس، وكذلك في بعض طرق حديث أبي حرة الرقاشي.
2 -
عدول الصحابة-رضي الله عنهم عن العمل به؛ حيث لم
(1)
سبق تخريجه في ص 845.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439؛ المغني 4/ 8؛ الفروع 4/ 246.
يأخذوا زيادة على الزكاة ممن منعها؛ فإجماعهم على ترك العمل به دليل على نسخه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم المسألة على قولين:
القول الأول: إنه لا يُؤخذ ممن منع الزكاة زيادة على الزكاة.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أهل المذاهب الأربعة
(2)
.
القول الثاني: إن من منع الزكاة فإنها تُؤخذ منه، وشطر ماله.
وهو القول القديم للإمام الشافعي
(3)
، وقول للإمام أحمد
(4)
، وبه قال إسحاق، و الأوزاعي
(5)
.
الأدلة
أما القول الأول، فيُستدل له بما سبق من الأدلة في دليل القول
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ المهذب للشيرازي مع شرحه المجموع 5/ 217؛ قواطع الأدلة 1/ 439؛
المغني 4/ 7، 8؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ معالم السنن للخطابي 2/ 192؛ السنن الكبرى 4/ 176؛ التمهيد 10/ 129؛ المغني 4/ 7؛ المجموع 5/ 220؛ الفروع 4/ 246؛ نيل الأوطار 4/ 175.
(3)
انظر: المجموع 5/ 220.
(4)
انظر: المغني 4/ 7؛ الفروع 4/ 246؛ تهذيب ابن القيم 2/ 193.
(5)
انظر: المغني 4/ 7؛ تهذيب السنن لابن القيم 2/ 193.
بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أنه لا يُؤخذ ممن منع زكاة ماله غير الزكاة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويُستدل له بحديث معاوية بن حيدة
(2)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في كل سائمة إبل، في أربعين بنت لبون، لا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآل محمد منها شيء»
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ المهذب للشيرازي مع شرحه المجموع 5/ 217؛ المغني 4/ 7.
(2)
هو: معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير، القشيري، له وفادة وصحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه حكيم، وحميد اليزني، وتوفي بخراسان. انظر: الإصابة 3/ 1855.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 243، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح (1575)، والنسائي في سننه ص 380، كتاب الزكاة، باب عقوبة مانع الزكاة، ح (2444)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 18، وأبو عبيد في كتاب الأموال ص 385، وأحمد في المسند 33/ 220، والدارمي في سننه-بلفظ:(فإنا آخذوها أو شطر ماله) - 1/ 486، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1058، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 9، والحاكم في المستدرك 1/ 555، وابن حزم في المحلى 4/ 161، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 176. وصححه ابن خزيمة، والحاكم، والذهبي. وقال الإمام أحمد: هو صالح الإسناد. وقال يحيى بن معين: إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة. وحسنه الشيخ الألباني. انظر: المستدرك 1/ 555؛ المغني 4/ 7؛ فتح الباري 13/ 426؛ نيل الأوطار 4/ 174؛ إرواء الغليل 3/ 263. وقال ابن حزم في المحلى 4/ 162: (هذا خبر لا يصح، لأن بهز بن حكيم غير مشهور العدالة، ووالده حكيم كذلك). وبهز هذا وثقه ابن معين، وابن المديني، والنسائي، وقال أبو زرعة: صالح، وقال أبو داود: هو حجة. واحتج به أحمد وإسحاق. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. وقال ابن حجر: صدوق. وقال كذلك: وثقه خلق من الأئمة. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال البخاري: مختلفون فيه. وقال ابن حبان: يخطئ كثيراً. انظر: الفروع لابن مفلح 4/ 248؛ تهذيب التهذيب 1/ 457؛ التقريب 1/ 139؛ التلخيص الحبير 2/ 161.
والحديث يدل على أن من منع الزكاة فإنها تؤخذ منه، وشطر ماله
(1)
.
واعترض عليه: بأن عدول الصحابة-رضي الله عنهم-عن العمل به، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على نسخه؛ وإلا لما تركوا العمل به
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب-أن الراجح هو القول الأول، وهو أنه لا يؤخذ ممن منع زكاة ماله إلا الزكاة؛ وذلك لما يلي:
أ-لاحتمال أن يكون حديث أخذ شطر مال مانع الزكاة منسوخاً، كما قاله جماعة من أهل العلم.
ب-ولعدول الصحابة رضي الله عنهم عن العمل به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 4/ 7؛ الفروع 4/ 247.
(2)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 439؛ البحر المحيط 5/ 319؛ إرشاد الفحول 2/ 85.
المطلب الثالث استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الآثار التي تدل على استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، إن ثبتت فهي منسوخة
(1)
.
ويدل عليه قول ابن حزم
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الأصلي له هو اختلاف الآثار الواردة فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئل فوقها فلا يعط: -وفيه- «فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون
(4)
، وفي كل
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 20/ 371.
(2)
انظر: المحلى 4/ 136.
(3)
انظر: بداية المجتهد 2/ 513؛ المغني 4/ 21؛ مجموع الفتاوى 20/ 371.
(4)
بنت اللبون: هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة، سميت بذلك لأن أمها حملت بعدها وولدت فصارت ذات لبن. انظر: بدائع الصنائع 2/ 130؛ المجموع 5/ 250.
خمسين حقة
(1)
الحديث
(2)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عُمّاله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه: «في خمس من الإبل شاة-إلى قوله: -فإذا زادت واحدة ففيها حقتان
إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» الحديث
(3)
.
(1)
الحقة: هي التي تمت لها ثلاث سنين، وطعنت في الرابعة، وسميت بذلك إما لاستحقاقها الحمل والركوب، أو لاستحقاقها الضراب. انظر: بدائع الصنائع 2/ 130؛ المجموع 5/ 250.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 289، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، ح (1454).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 241، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح (1568)، والترمذي في سننه ص 158، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، ح (621)، وابن ماجة في سننه ص 312، كتاب الزكاة، باب صدقة الإبل، ح (1798)، وأحمد في المسند 8/ 257، والدارمي في سننه 1/ 464، والدارقطني في سننه 2/ 116، والحاكم في المستدرك 1/ 549، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 148. وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: (هذا حديث كبير في هذا الباب، يشهد بكثرة الأحكام التي في حديث ثمامة عن أنس، إلا أن الشيخين لم يخرجا لسفيان بن الحسين الواسطي في الكتابين، وسفيان بن حسين أحد أئمة الحديث، وثقه يحيى بن معين، ويصححه على شرط الشيخين حديث عبد الله بن المبارك عن يونس عن يزيد عن الزهري، وإن كان فيه أدنى إرسال فإنه شاهد صحيح لحديث سفيان بن حسين). وقال البيهقي: (قال أبو عيسى الترمذي في كتاب العلل: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون محفوظاً، وسفيان بن حسين صدوق). وصححه ابن حزم في المحلى 4/ 129. وقال المنذري في مختصره 2/ 187: (وسفيان بن حسين أخرج له مسلم واستشهد به البخاري إلا أن حديثه عن الزهري فيه مقال، وقد تابع سفيان بن الحسين على رفعه سليمان بن كثير وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه). وذكر ابن حجر في التلخيص 2/ 151، أنه يقال: تفرد بوصله سفيان بن حسين وهو ضعيف في الزهري خاصة، والحفاظ من أصحاب الزهري لا يوصلونه. وأخرجه ابن عدي من طريق سليمان بن كثير، وهو لين في الزهري أيضاً. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 241.
ثالثاً: حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه:«فإذا زادت واحدة-يعني واحدة وتسعين-ففيها حقتان طروقتا الجمل، إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة» الحديث
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فيكون في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حِقّة، وأنه قد استقر العمل على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر شيء في فريضة الإبل؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك ولم يخرجه إلى عُمّاله حتى قبض، فيكون ذلك ناسخاً لما يخالفه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 242، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح (1572)، وابن حزم في المحلى 4/ 137. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 242.
(2)
انظر: المحلى 4/ 112، 136؛ مجموع الفتاوى 20/ 371.
وقد اختلف أهل العلم في استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، على قولين:
القول الأول: أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون في كل خمس من الزيادة شاة وحقتان إلى خمس وأربعين، فيكون فيها حقتان وبنت مخاض، إلى مائة وخمسين فيكون فيها ثلاث حقاق، ثم تُستأنف الفريضة كذلك بالغاً ما بلغ.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، وقول النخعي، والثوري، وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه
(2)
.
القول الثاني: أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فإن الفريضة تستقر، فيكون في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ولا تُستأنف الفريضة.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 412؛ مختصر القدوري ص 52؛ النتف في الفتاوى ص 113؛ بدائع الصنائع 2/ 120؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 2/ 174.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 412؛ التمهيد 7/ 12؛ المغني 4/ 21؛ المجموع 5/ 261.
(3)
انظر: المدونة 1/ 351؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 371؛ الاستذكار 3/ 65؛ بداية المجتهد 2/ 513؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 3/ 88.
(4)
انظر: الأم 2/ 5؛ مختصر المزني ص 61؛ العزيز 2/ 469؛ المجموع 5/ 261؛ مغني المحتاج 2/ 75.
(5)
انظر: المغني 4/ 20؛ المحرر 1/ 214؛ الشرح الكبير 6/ 406؛ شرح الزركشي 1/ 582؛ الإنصاف 6/ 406.
وقال به الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أنه يستأنف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة- بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً
-وفيه-: «فإذا كانت أكثر من ذلك إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، فإذا كانت أكثر من ذلك فاعدد في كل خمسين حقة، وما كان أقل من خمس وعشرين ففي كل خمس شاة، ليس فيها هرمة
(3)
ولا ذات عوار
(4)
من الغنم» الحديث
(5)
.
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 65؛ المغني 4/ 20؛ المجموع 5/ 261.
(2)
هو: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، الأنصاري، المدني، أبو محمد، ثقة، روى عن سالم، وعروة، والزهري، وغيرهم. وروى عنه: الزهري، وابن جريج، والثوري، وغيرهم. وتوفي سنة خمس وثلاثين
ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 147؛ التقريب 1/ 481.
(3)
هرمة: أي كبيرة السن. والهرم الكبر، والضعف. انظر: النهاية في غريب الأثر 2/ 903؛ مختار الصحاح ص 612؛ المصباح المنير ص 523.
(4)
العوار: العيب. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 270؛ مختار الصحاح ص 406.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 5، ومن طريقه ابن حزم في المحلى 4/ 132. وقال: إنه مرسل لا تقوم به حجة. وأصل هذا الحديث-حديث عمرو بن حزم- روي موصولاً ومرسلاً، وضعفه بعض الأئمة، وصححه الآخرون. قال ابن حجر:(وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة). انظر: التلخيص الحبير 4/ 17 - 18؛ إرواء الغليل 1/ 158، 7/ 268.
وفي رواية: «إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود
(1)
شاة، ليس فيها ذكر ولا هرمة ولا ذات عوار من الغنم»
(2)
.
(1)
الذود: الإبل ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 614؛ مختار الصحاح ص 197.
(2)
أخرجه أبو داود في المراسيل- عن حماد قال: قلت لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده، فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج في فرائض الإبل فقص الحديث-. ص 210، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 158، وقال:(وهو منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ويجتنبوه ما يتفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين مع ما فيه من الانقطاع). وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الأثار 4/ 375، وابن حزم في المحلى 4/ 132، وقال: إنه مرسل.
ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: (إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنف بها الفريضة بالحساب الأول)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن حديث عبد الله بن أبي بكر، وكذلك رواية علي رضي الله عنه متكلم فيهما؛ لذلك فهما لا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فتكون في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون
(3)
.
ثانياً: إن حديث عبد الله بن أبي بكر، وكذلك الرواية عن علي رضي الله عنه وردا بالسياق المذكورين، ووردا بأنه إذا زادت الإبل على عشرين ومائة فإنه في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. وبهذا السياق يكونان موافقين لحديث أنس وابن عمر، وغيرهما-رضي الله عنهم-بأن
(1)
أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال ص 372، وابن أبي شيبة في المصنف-ولفظه:(يستقبل بها الفريضة) - 2/ 361، وابن حزم في المحلى 4/ 132، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 155. وتكلم عليه ابن حزم، والبيهقي بالضعف. وقال ابن حجر في الدراية 1/ 251: (إسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على أبي إسحاق).
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 121؛ فتح القدير 2/ 176؛ اللباب للمنبجي 1/ 341.
(3)
راجع الكلام عليهما في تخريجهما.
الإبل إذا زادت على عشرين، فإنه يكون في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، فيكون الأخذ بهذا السياق أولى؛ لموافقته للروايات الأخرى
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة بل يكون في كل خمسين حقة، وكل أربعين ابنة لبون- بالأحا ديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنها تدل على أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فإنه يكون في كل
خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وليس فيها غير ذلك
(2)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني- وهو عدم استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة- وذلك:
أ-لقوة أدلته، وصحتها.
ب-ولأن أدلته لم تختلف رواياته؛ حيث إنها رويت بسياق واحد، وهو أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فإنه يكون في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون. بخلاف أدلة القول الأول؛ حيث إنها اختلفت رواياته؛ حيث رويت بسياق تدل على ما يدل عليه أدلة القول الثاني. ورُويت بسياق
(1)
انظر: المحلى 4/ 131 - 137؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 143 - 159؛ الاعتبار ص 70.
(2)
انظر: المحلى 4/ 129؛ الاستذكار 3/ 63؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 153؛ المغني 4/ 22.
تدل على استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة
(1)
.
ثانياً: إن القول بنسخ ما يدل على استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة-على تقدير ثبوته وصحته- له وجه واحتمال؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل على عدم استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، معها ما يدل على أنها آخر شيء في فريضة الإبل؛ لأن ذكر استئناف الفريضة ورد في حديث عمرو بن حزم
(2)
رضي الله عنه، وقد كتب له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما استعمله على نجران
(3)
.
أما فريضة الإبل في حديث أنس وابن عمر-رضي الله عنهما فإنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك ولم يخرجه إلى عُمّاله حتى قبض، فأخرجه أبو بكر رضي الله عنه إلى عماله، فعملوا به، ثم عمر رضي الله عنه، فيدل ذلك على أن ذلك كان قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك يكون حديث أنس رضي الله عنه وما في معناه ناسخاً لما يخالفه
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المحلى 4/ 131 - 137؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 143 - 159؛ الاعتبار ص 70؛ المغني 4/ 22.
(2)
هو: عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان، الأنصاري، شهد الخندق وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه محمد، وجماعة، وتوفي بعد الخمسين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 404؛ الإصابة 2/ 1324؛ تهذيب التهذيب 8/ 18؛ التقريب 1/ 732.
(3)
انظر: الإصابة 2/ 1324؛ تهذيب التهذيب 8/ 18.
(4)
انظر: المحلى 4/ 112، 136؛ مجموع الفتاوى 20/ 371.
المطلب الرابع: إخراج زكاة البقر بالغنم
ذهب بعض أهل العلم
(1)
إلى أن البقر كانت تزكى بالغنم، فكان في كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بقرة. ثم نسخ ذلك، وجُعل في كل ثلاثين بقرة تبيعاً
(2)
، وفي كل أربعين مسنّة
(3)
.
وممن صرح بالنسخ: أبو حامد الرازي
(4)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
.
وذهب الزهري إلى عكس ذلك، فقال: إن زكاة البقر بالغنم إلى خمس وعشرين هو الناسخ لزكاة البقر بأن يكون في كل ثلاثين تبيعاً، وفي كل أربعين مسنة
(6)
.
وتبين منه، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها
(7)
.
(1)
وقد نسبه إلى الجمهور أبو إسحاق الجعبري في رسوخ الأحبار، ص 337.
(2)
التبيع: هو الذي تم له حول ودخل في الثاني، والأنثى منه: التبيعة. انظر: بدائع الصنائع 2/ 130؛ المجموع 5/ 274.
(3)
المسنة: هي التي تمت لها سنتان وطعنت في الثالثة، والذكر منه: المسن. انظر: بدائع الصنائع 2/ 130؛ المجموع 5/ 274.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 59.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى 20/ 371.
(6)
انظر قوله في: المحلى 4/ 90، 98؛ الاعتبار ص 337.
(7)
انظر: المحلى 4/ 90 - 106؛ الاعتبار ص 336، 337؛ مجموع الفتاوى 20/ 371.
ويستدل لمن قال بنسخ زكاة البقر بالغنم بما يلي:
أولاً: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، «فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أوتبيعة، ومن كل أربعين مُسنّة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافر»
(1)
.
ثانياً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 243، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح (1576)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 158، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح (623)، والنسائي في سننه ص 381، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر، ح (2450)، وابن ماجة في سننه ص 314، كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، ح (1803)، ومالك في الموطأ 1/ 221، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 22، والدارمي في سننه 1/ 465، وابن حبان في صحيحه ص 1325، والدارقطني في سننه 2/ 99، والحاكم في المستدرك 1/ 555، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 165. وحسنه الترمذي. وقال ابن عبد البر في التمهيد 7/ 57:(وقد روي عن معاذ هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس، ذكره عبد الرزاق). وقال نحوه في الاستذكار 3/ 71. وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 3/ 269 - بعد ذكر قول الحاكم والذهبي-: (قلت: وهو كما قالا، وقد قيل إن مسروقاً لم يسمع من معاذ فهو منقطع، ولا حجة على ذلك، وقد قال ابن عبد البر: والحديث ثابت متصل).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 158، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح (622)، وابن ماجة في سننه ص 314، كتاب الزكاة، باب صدقة البقر، ح (1804)، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 362، وابن الجارود في المنتقى ص 145، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 167. قال الترمذي:(وأبو عبيدة بن عبد الله لم يسمع من عبد الله أبيه). وقال البيهقي: (ورواه شريك عن خصيف عن أبي عبيدة عن أمه عن عبد الله، قاله البخاري). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 158.
ثالثاً: حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً، وفيه:«وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على أن البقر ليست فيها صدقة حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، ثم في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة. ثم من هذه الأدلة حديث معاذ رضي الله عنه، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لمّا أرسله إلى اليمن، وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم توفي قبل أن يرجع معاذ رضي الله عنه من اليمن، لذلك تكون هذه الأدلة ناسخة لما يخالفها؛ لأنها آخر شيء
(2)
.
ويستدل لمن قال بأن زكاة البقر بالغنم هو الناسخ لما يخالفه بما يلي:
أولاً: عن محمد بن عبد الرحمن
(3)
، أن في كتاب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم،
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة. وهذا لفظ عبد الرزاق في المصنف 4/ 5.
(2)
انظر: التمهيد 7/ 58؛ الاستذكار 3/ 71، 72؛ الناسخ والمنسوخ للرازي ص 59؛ مجموع الفتاوى 20/ 371؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 829.
(3)
هو: محمد بن عبد الرحمن بن حارثة، الأنصاري، أبو الرجال، ثقة، روى عن: أنس بن مالك، وسالم، وغيرهما، وروى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 255؛ التقريب 2/ 103.
وفي كتاب عمر بن الخطاب: «أن البقر يؤخذ منها ما يؤخذ من الإبل»
(1)
.
ثانياً: حديث معمر مرفوعاً: «فيما سقت السماء والأنهار العشر، وفيما يسقى بالسنا
(2)
نصف العشر، وفي الإبل مثل البقر»
(3)
.
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (في كل خمس من البقر شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي كل عشرين أربع شياه)
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على أنه يجب في البقر مثل ما يجب في الإبل، والإبل يجب في كل خمس شاة إلى خمس
(1)
أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال، ص 387، وعن طريقه ابن حزم في المحلى 4/ 90. قال عنه أبو عبيد:(على أنا قد سمعنا في الأثر شيئاً نراه غير محفوظ، وذلك أن الناس لا يعرفونه).
(2)
السناء: الرفعة، والسانية الناقة التي يستقى عليها. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 818؛ المصباح المنير ص 241.
(3)
أخرجه عبد الرزاق عن معمر، قال: أعطاني سماك بن الفضل كتاباً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى مالك بن كفلانس والمععلس، فقرأته فإذا فيه. الحديث. مصنف عبد الرزاق 4/ 26، وأخرجه ابن حزم في المحلى من طريق عبد الرزاق 4/ 91.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 24؛ وابن حزم في المحلى 4/ 90؛ والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 167، وقال:(هذا حديث موقوف، ومنقطع، وروي من وجه آخر عن الزهري منقطعاً، والمنقطع لا تثبت به حجة).
وعشرين، فكذلك البقر، ثم هذه الأدلة متأخرة عن التي تدل على أن في البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، يدل على تأخرها عليها قول الزهري؛ حيث قال: (وبلغنا أن قولهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «في كل ثلاثين بقرة تبيع، وفي كل أربعين بقرة بقرة» إن ذلك كان تخفيفاً لأهل اليمن، ثم كان هذا بعد
ذلك)
(1)
.
فدل هذا على أن زكاة البقر بالغنم هو الناسخ لما يخالفه
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن الأدلة المخالفة لهذه الأدلة أقوى، وأصح ما يوجد في الباب، لذلك فهذه الأدلة لا تقوى على مقاومتها، فكيف تكون ناسخة لها
(3)
.
ب-إنه لا يوجد دليل على أن هذه الأدلة متأخرة على ما يخالفها، ومجرد القول بأن هذا بعد هذا ليس دليلاً على النسخ
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في إخراج زكاة البقر بالغنم، على أقوال أشهرها قولان:
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 167، وابن حزم في المحلى 4/ 90، والحازمي في الاعتبار ص 337. وذكر البيهقي والحازمي: أنه منقطع.
(2)
انظر: المحلى 4/ 92، 98؛ الاعتبار ص 337.
(3)
راجع تخريج هذه الأدلة، وانظر: الاعتبار ص 337.
(4)
انظر: مناهل العرفان 2/ 227.
القول الأول: أنه ليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإذا بلغت ثلاثين، ففيها تبيع أو تبيعة، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ أربعين، ففيها مسنة، ثم في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول جمهور أهل العلم
(5)
.
وقال أبو عبيد: لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم
(6)
.
القول الثاني: أن البقر تزكى بالغنم فتكون في كل خمس شاة حتى خمس وعشرين، كالإبل.
وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي قلابة، وقتادة، والزهري
(7)
.
(1)
انظر: مختصر القدوري ص 53؛ بدائع الصنائع 2/ 122؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 178؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 188، 189.
(2)
انظر: المدونة 1/ 355؛ التمهيد 7/ 58؛ الاستذكار 3/ 71؛ بداية المجتهد 2/ 516؛ مختصر خليل مع التاج والإكليل 3/ 89.
(3)
الأم 2/ 9؛ مختصر المزني ص 63؛ التنبيه للشيرازي ص 78؛ المجموع 5/ 274.
(4)
انظر: المغني 4/ 31؛ المحرر 1/ 214؛ الشرح الكبير 6/ 423؛ الممتع 2/ 108؛ الإنصاف 6/ 421،
423.
(5)
انظر: الاستذكار 3/ 71؛ بداية المجتهد 2/ 516؛ المغني 4/ 31؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 829.
(6)
كتاب الأموال ص 387.
(7)
انظر: المحلى 4/ 91؛ التمهيد 7/ 58.
الأدلة
أما القول الأول فيستدل له بأدلة، منها ما سبق ذكره في دليل القول بنسخ زكاة البقر بالغنم؛ حيث إنها تدل على أن البقر ليس فيها شيء حتى تبلغ ثلاثين، فيكون فيها تبيع أو تبيعة، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة. ثم في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل له بالأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بنسخ ما يدل على عدم زكاة البقر بالغنم؛ حيث إنها تدل على أن البقر تزكى مثل الإبل، في كل خمس شاة حتى خمس و عشرين
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وهو أن البقر لاشيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، ثم فيها تبيع أو تبيعة، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، ثم في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة. وذلك لما يلي:
أ- لقوة أدلته، فإنها أصح ما يوجد في المسألة
(3)
.
(1)
انظر: الأم 2/ 7؛ الاستذكار 3/ 71؛ بدائع الصنائع 2/ 122؛ المغني 4/ 33.
(2)
انظر: المحلى 4/ 90؛ الاعتبار ص 337.
(3)
انظر: الاستذكار 3/ 71؛ الاعتبار ص 337.
ب- إنه مما عمل به جماعة الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثانياً: إن الأدلة التي تدل على أن في كل خمس من البقر شاة، إلى خمس وعشرين كالإبل، إن صحت فإنها تحتمل أن تكون منسوخة بما يخالفها؛ وذلك لأنه ورد في كتاب الصدقات لأبي بكر، وعمر، وعلي-رضي الله عنهم، وكذلك في حديث معاذ رضي الله عنه، أن البقر لا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فيكون فيها تبيع أو تبيعة. وقد سبق أن كتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقات آخر شيء في الصدقات؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه وتوفي قبل أن يخرجه لعماله، فأخرجه أبو بكر رضي الله عنه وعمل به. كما أن حديث معاذ رضي الله عنه متأخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يرجع معاذ من اليمن
(2)
.
ثالثاً: إنه لا يصح القول بأن الأدلة التي تدل على إخراج زكاة البقر بالغنم هي الناسخة لما يخالفها، وذلك لما يلي:
أ- لأن تلك الأدلة ضعيفة لا تقاوم الأدلة التي تخالفها فضلاً عن أن تكون
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 71.
(2)
انظر: الاستذكار 3/ 71، 72؛ نصب الراية 2/ 350.
ناسخة لها
(1)
.
ب- لأنه لا يوجد ما يدل على أن تلك الأدلة متأخرة على ما يخالفها.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 71؛ الاعتبار ص 337.
المبحث الثاني زكاة الحبوب والثمار، وقسم الصدقات، وزكاة الفطر
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خرص الثمار.
المطلب الثاني: الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم.
المطلب الثالث: حكم صدقة الفطر.
المطلب الأول: خرص الثمار
ذهب بعض أهل العلم
(1)
، ومنهم الطحاوي
(2)
، والعيني
(3)
، إلى أن خرص
(4)
الثمار على أهلها، ثم التخلي بينهم وبينها يفعلون بها ما شاؤوا، ثم يؤدون منها الزكاة على ما خرص عليهم، قد نسخ.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة ثلاثة أشياء: اختلاف الآثار، والاختلاف في مفهومها، والقول بالنسخ
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (أفاء الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة
(6)
فخرصها عليهم، ثم قال لهم: يا معشر اليهود، أنتم
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 40؛ التمهيد 12/ 318؛ الاستذكار 3/ 106؛ إعلام الموقعين 2/ 265.
(2)
انظر قوله في: مختصر اختلاف العلماء 1/ 452.
(3)
انظر قوله في: عمدة القاري 6/ 520.
(4)
الخرص: هو الحرز، وخرص النخل حرز ما على النخل من الرطب تمراً. انظر: مختار الصحاح ص 151؛ المصباح المنير ص 142.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 39، 40؛ الاستذكار 3/ 106؛ بداية المجتهد 2/ 525.
(6)
هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة، الأنصاري، الخزرجي، أبو محمد، كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد حتى استشهد بمؤتة، وروى عنه: أسامة، وأنس بن مالك، وغيرهما، وكان أحد الأمراء في غزوة مؤتة واستشهد فيها سنة ثمان. انظر: الاستيعاب 2/ 293؛ الإصابة 2/ 1044.
أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فليَ. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنَّا)
(1)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه يقول: (خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لمّا خيَّرهم ابن رواحة أخذوا الثمر، وعليهم عشرون ألف وسق)
(2)
.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن رواحة إلى خيبر، يخرص عليهم، ثم خيَّرهم أن يأخذوا أو يردوا، فقالوا: هذا الحق، بهذا قامت السماوات والأرض»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 521، كتاب البيوع، باب في الخرص، ح (3414)، وأحمد في المسند -واللفظ له- 23/ 210، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 38، والدارقطني في سننه 2/ 134، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 207. وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه. انظر: إرواء الغليل 3/ 281؛ صحيح سنن أبي داود ص 521.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 521، كتاب البيوع، باب في الخرص، ح (3415)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 124، وأحمد في المسند 22/ 67. قال الشيخ الألباني في الإرواء 3/ 281، عن سنده: (وهذا سند صحيح على شرط مسلم).
(3)
أخرجه أحمد في المسند 8/ 387، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 38. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/ 281، عن سند رواية أحمد: (رجاله ثقات غير العمري وهو عبد الله بن عمر العمري المكبر، وهو سيء الحفظ، لكن تابعه عبد الله بن نافع، عند الطحاوي، وهو ضعيف أيضاً، غير أن أحدهما يقوي الآخر).
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخرص، وقال:«أرأيتم إن هلك الثمر أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل»
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة). والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالكَرْم كيلاً
(2)
.
خامساً: عن سهل بن أبي حثمة
(3)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال:«ذلك الربا، تلك المزابنة» إلا أنه رخّص في بيع العرية، النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، يأكلونها رطباً
(4)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 41. وفي سنده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، كما أن أبا الزبير-وهو مدلس-قد عنعنه عن جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 427، كتاب البيوع، باب بيع الزبيب بالزبيب، والطعام بالطعام، ح (2171)، ومسلم في صحيحه 6/ 37، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1542)(72).
(3)
هو: سهل بن أبي حثمة-عبد الله- بن ساعدة بن عامر، الأنصاري الخزرجي. صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه محمد، ونافع بن جبير، وغيرهما. وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 243؛ الإصابة 2/ 776؛ تهذيب التهذيب 4/ 225.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أوالفضة، ح (2191)، ومسلم في صحيحه 6/ 35، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1540)(67).
ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: أن حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يدل على أنه كان يخرص الثمار على أهلها، ثم يضمنهم الشطر، وقد اتفق الفقهاء على أن الخرص لا يجعل الثمرة في ضمان أهلها، فدل اتفاقهم على خلافه أنه منسوخ
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن الخرص يكون بعد بدو صلاح الثمر، وذلك للتوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء. ثم يؤدون منه الزكاة على ما خُرص عليهم. فلو أصابت الثمر جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ فلا ضمان على أربابها بإجماع من أهل العلم. أما ما أنفقوها بتصرفاتهم فإنهم يؤدون زكاته على ما خُرص عليهم، وليس في حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه ضمَّنهم الشطر ولو أصابت الثمر جائحة
(2)
.
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 452؛ فتح الباري 3/ 421.
(2)
انظر: الاستذكار 3/ 105؛ فتح الباري 3/ 420؛ تحفة الأحوذي 3/ 346.
ب-إن حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يدل بمجموع طرقه على أن اليهود كانوا يدعون الحيف في الخرص، لذلك كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يخيرهم بعد الخرص إما أن يقبلوا ويأخذوا بما خُرص عليهم، أو أن الثمر يكون للمسلمين على ما خُرص، ويؤدون إلى اليهود نصفها. ولم يكن التضمين بالشطر إلا لليهود، لأنهم غير أمناء. واتفاق أهل العلم على أن الخرص لا يجعل الثمرة في ضمان أهلها، هو في حق المسلمين، لا في حق يهود خيبر، لذلك فاتفاق الفقهاء على خلافه لا يدل على نسخه
(1)
.
ج- إن أهل العلم لم يتفقوا على العمل على خلاف الخرص حتى يقال بنسخه، بل جمهور أهل العلم قالوا بالخرص، وإنما اتفقوا على أن الخرص لا يجعل الثمرة في ضمان أهلها، فإن كان يقال بالنسخ، فينبغي أن يقال بنسخ تضمين أرباب الثمار ما خرص عليهم بالخرص
فقط؛ لأن أهل العلم اتفقوا على خلافه
(2)
.
الوجه الثاني للنسخ: إن أحاديث الخرص تدل على تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله تعالى فيها، وهي رطب، ببدل يأخذونه منهم ثمراً، فهو من بيع الثمر بالتمر، ويسمى بالمزابنة، وهو من الربا، كما يدل عليه حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه وغيره، والربا قد نسخ، فيكون الخرص منسوخاً بنسخ الربا
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن تحريم الربا متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما-فمن بعدهم، فكيف يقال: بأن الخرص نسخ بنسخ الربا
(4)
.
(1)
انظر: عارضة الأحوذي لابن العربي 2/ 142.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 452؛ فتح الباري 3/ 421؛ تحفة الأحوذي 3/ 346.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 40؛ عمدة القاري 6/ 520؛ تحفة الأحوذي 3/ 345.
(4)
انظر: الحاوي 3/ 223؛ إعلام الموقعين 2/ 265؛ فتح الباري 3/ 421.
ب-على تقدير أن الربا نسخ بعد الخرص، فيقال: بأن الخرص مستثنى من النهي عن المزابنة
(1)
.
الوجه الثالث للنسخ: إنه قد ورد ذكر الخرص في غير ما حديث، ثم حديث جابر رضي الله عنه الأخير فيه النهي عن الخرص، فدل ذلك على النسخ؛ لأن الحظر بعد الإباحة علامة النسخ
(2)
.
واعترض عليه: بأن حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن الخرص، هو في الخرص في البيع، لا في خرص الثمار في الصدقات
(3)
، يدل عليه رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه، وهو عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمراً، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟»
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في تقدير النصاب في الثمار بالخرص على قولين:
القول الأول: إن الخرص مكروه، وباطل لا اعتبار له، وإنما على رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده، زاد على الخرص أو نقص منه.
(1)
انظر: بداية المجتهد 2/ 526.
(2)
انظر: عمدة القاري 6/ 520.
(3)
انظر: الحاوي 3/ 224.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 62، كتاب المساقات والمزارعة، باب وضع الجوائح، ح (1554)(14).
وهو مذهب الحنفية
(1)
، وقول الشعبي، والثوري
(2)
.
القول الثاني: إن تقدير الثمار بالخرص في الزكاة سنة ومعمول به.
وهو قول لأبي حنفية، ومحمد بن الحسن
(3)
، ومذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وسهل بن أبي حثمة-رضي الله عنهم
(7)
.
وبه قال القاسم بن محمد، والحسن، وعطاء، والزهري، وعمرو بن
(1)
الأشهر في المذهب هو: نسبة القول ببطلان الخرص وكراهته إلى أبي حنفية وصاحبيه. وقال بعض الحنفية بجواز الخرص، وقالوا: إن المراد بالخرص هو أن يعلم به مقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار، فيؤدي مثله بقدره في وقت الصرام، لكنه ليس بلازم بل هو اعتبار. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 39، 41؛ عمدة القاري 6/ 519، 520؛ معارف السنن شرح جامع الترمذي للشيخ محمد يوسف البنوري 5/ 248؛ الاستذكار 3/ 105؛ بداية المجتهد 2/ 525.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 452؛ الاستذكار 3/ 105؛ المغني 4/ 173؛ عمدة القاري 6/ 519.
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 451؛ التمهيد 12/ 318.
(4)
انظر: المدونة 1/ 379؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 395؛ الاستذكار 3/ 105؛ عقد الجواهر 1/ 310.
(5)
انظر: الأم 2/ 41؛ مختصر المزني ص 70؛ المهذب 1/ 511؛ العزيز 3/ 78؛ المجموع 5/ 326.
(6)
انظر: المغني 4/ 173؛ الشرح الكبير 6/ 546؛ الممتع 2/ 145؛ الإنصاف 6/ 546.
(7)
انظر: الحاوي 3/ 220؛ المغني 4/ 173؛ الشرح الكبير 6/ 546.
دينار، وأبو عبيد، والليث، وداود، وأبو ثور
(1)
، وجمهور أهل العلم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم اعتبار الخرص في الزكاة-بما يلي:
أ-ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث جابر رضي الله عنه والذي فيه النهي عن
الخرص.
ب- الأحاديث التي فيها النهي عن المزابنة، والربا، ومنها حديث ابن عمر، وسهل بن أبي حثمة-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها: هو أن الخرص يؤدي إلى المزابنة والربا، وهو منهي عنه، وحديث جابر رضي الله عنه صريح في النهي عن الخرص. فيكون الخرص مكروهاً وغير معمول به
(3)
.
وقد سبق ما يرد به على هذا الاستدلال في وجوه الاستدلال من هذه الأدلة على النسخ.
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 1/ 452؛ التمهيد 12/ 318؛ الاستذكار 3/ 106؛ الحاوي 3/ 220؛ المغني 4/ 172؛ الشرح الكبير 6/ 546.
(2)
انظر: بداية المجتهد 2/ 525؛ المغني 4/ 173.
(3)
انظر: شرح معاني الاثار 2/ 39، 40؛ عمدة القاري 6/ 520، 521؛ معارف السنن شرح جامع الترمذي 5/ 248.
دليل القول الثاني
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث جابر، وابن عمر-رضي الله عنها؛ حيث فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة لخرص الثمر على يهود خيبر.
ثانياً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلمّا جاء وادي القرى
(1)
إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«اخرصوا» وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها:«أحصي ما يخرج منها» فلمّا أتينا تبوك قال: «أما إنها ستهبُّ الليلة ريح شديدة فلا يقومنّ أحد، ومن كان معه بعير فليعقله» فعقلناها، وهبَّت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبل طيّئ. وأهدى ملك
(2)
أيلة
(3)
للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه برداً، وكتب له ببحرهم، فلمّا أتى وادي القرى قال للمرأة:«كم جاء حديقتك؟» قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث
(4)
.
(1)
وادي القرى: واد بين المدينةالمنورة وتبوك، كثير القرى، وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع بعد فراغه من خيبر، وقيل: إنها من أعمال المدينة، وتبعد عن المدينة (350) كم. انظر: معجم البلدان 4/ 433؛ الروض المعطار ص 602.
(2)
هو: يوحنا بن روبة، ملك أيلة. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 525؛ معجم البلدان 1/ 232؛ فتح الباري 3/ 422.
(3)
أيلة بالفتح: مدينة على ساحل البحر القلزم مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام. انظر: معجم البلدان 1/ 232؛ فتح الباري 3/ 422.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 295، كتاب الزكاة، باب خرص التمر، ح (1481)، ومسلم في صحيحه
7/ 386، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ح (1392)(11).
ثالثاً: عن عتاب بن أسيد
(1)
رضي الله عنه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً، كما تُؤخذ زكاة النخل تمراً»
(2)
.
رابعاً: عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع»
(3)
.
(1)
هو: عتاب بن أسِيد بن أبي العيص بن أمية، الأموي، القرشي، أبو عبد الرحمن، أسلم عام الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهما، قيل: توفي يوم مات أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: توفي سنة اثنين وعشرين، وعليه فيصح سماع سعيد بن المسيب منه. انظر: الإصابة 2/ 1224؛ تهذيب التهذيب 7/ 79؛ التقريب 1/ 651.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 248، كتاب الزكاة، باب في خرص العنب، ح (1603)، والترمذي في سننه ص 163، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخرص، ح (644)، وابن ماجة في سننه ص 317، كتاب الزكاة، باب في خرص النخل والعنب، ح (1819)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1109، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 39، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 205. والحديث من رواية سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد، قال أبو داود بعد رواية الحديث: (وسعيد لم يسمع من عتاب شيء). وقال الترمذي: (حديث حسن غريب، وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. وسألت محمداً عن هذا الحديث فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ. وحديث ابن المسيب عن عتاب بن أسيد أثبت وأصح). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 248.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 248، كتاب الزكاة، باب في الخرص، ح (1605)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 162، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخرص، ح (643)، والنسائي في سننه ص 388، كتاب الزكاة، باب كم يترك الخارص؟، ح (2491)، وأبو عبيد في الأموال ص 486، وأحمد في المسند 24/ 485، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1110، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 39، وابن حبان في صحيحه ص 918، والحاكم في المستدرك 1/ 560، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 208. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 172: (وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل بن أبي حثمة، وقد قال البزار: إنه تفرد به. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد متفق على صحته: أن عمر بن الخطاب أمر به، انتهى. ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً: (خففوا في الخرص، فإن في المال العرية والواطئة والآكلة،) الحديث). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 162.
خامساً: عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه بعثه على خرص التمر، فقال:(إذا أتيت على أرض فاخرصها، ودع لهم قدر ما يأكلون)
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إنها تدل على أن خرص الثمار كان سنة معمولاً بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده
(2)
.
(1)
قال البوصيري في كتابه: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 3/ 23: (رواه مسدد موقوفاً بسند صحيح، وابن حبان في صحيحه، وروي مرفوعاً من حديث سهل). وقال ابن حجر في المطالب العالية 1/ 365، بعد ذكره عن طريق مسدد:(إسناده صحيح، وهو موقوف، وقد أخرجوا بهذا الإسناد عن سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً).
(2)
انظر: الاستذكار 3/ 106، 107؛ الحاوي 3/ 221؛ المغني 4/ 174.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو أن خرص الثمار للصدقات سنة، وذلك لما يلي:
أ-للأحاديث التي سبق ذكرها والتي تدل على الخرص، وهي وإن كان في بعضها كلاماً، إلا أنها صحيحة في الجملة، وتفيد أن خرص الثمار كان سنة معمول به في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ب-ولأن الصحابة رضي الله عنهم عملوا على ذلك في عهد الخلفاء، وبعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك
(2)
.
ثانياً: إن القول بأن خرص الثمار للصدقات منسوخ، قول ضعيف وغير صحيح. وقد سبق ما يُرد به على وجوه استدلاله. وكان أقوى تلك الوجوه هو أن يكون الخرص منسوخاً بالمزابنة، لكنه شذوذ كما قاله ابن عبد البر
(3)
.
ويرده كذلك عمل الخلفاء والصحابة على الخرص بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف فيه، فلو كان الخرص منسوخاً بالمزابنة لما عملوا به
(4)
.
والله أعلم.
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: إعلام الموقعين 2/ 264.
(2)
انظر: الحاوي 3/ 220؛ إعلام الموقعين 2/ 265.
(3)
انظر: الاستذكار 3/ 106.
(4)
انظر: إعلام الموقعين 2/ 265.
المطلب الثاني: الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم
ذهب بعض أهل العلم إلى أن المؤلفة قلوبهم
(1)
، كانوا يعطون من الزكاة، ثم نسخ ذلك، لذلك فلا يعطون الآن شيئاً من الزكاة بسبب التأليف
(2)
.
وقد صرح بالنسخ جماعة من الحنفية، منهم الكاساني
(3)
.
(1)
المؤلفة قلوبهم: كانوا قوماً يتألّفون على الإسلام بما يُعطون من الصدقات. أحكام القرآن للجصاص 3/ 159.
وكان المؤلفة قلوبهم ضربان: كفار، ومسلمون. والكفار كانوا صنفان: الأول: من يُخشى شرّه فيُعطون لدفع معرتهم، وكف أذيتهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين.
الثاني: كفار يُرجى إسلامهم، فيُعطون لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار للدخول في الإسلام، ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام.
أما المؤلفة قلوبهم من المسلمين: فهم قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر، يُعطون لئلا يرجعوا إلى الكفر. انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 159؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 962؛ المجموع 6/ 116؛ المغني 9/ 226.
(2)
نسب ابن الجوزي في التحقيق 2/ 275، القول بالنسخ إلى أبي حنفية والشافعي. ونسبه ابن هبيرة في الإفصاح 1/ 185، إلى الإمام أحمد، وأبي حنفية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 33/ 94: (وبعض الناس ظن أن هذا نُسخ لما روي عن عمر
…
). وانظر كذلك مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 100.
(3)
ونسبه إلى عامة العلماء. كما صرح به ابن الهمام، والطحطاوي. انظر: بدائع الصنائع 2/ 152، فتح القدير 2/ 260، 261؛ حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 473.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: «ادعهم إلى أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة
في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم»
(2)
.
ثانياً: إجماع الصحابة-رضي الله عنهم على سقوط سهمهم؛ حيث إن أبا بكر وعمر-رضي الله عنهما-ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فكان إجماعاً
(3)
.
(1)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة 1/ 185؛ التحقيق لابن الجوزي 2/ 275؛ بدائع الصنائع 2/ 152؛ فتح القدير 2/ 260.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 276، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم في صحيحه 2/ 47، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح (19)(29).
(3)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 153؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 260؛ مجموع الفتاوى 33/ 94؛ الاختيار لتعليل المختار 1/ 118؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 100.
ثالثاً: ما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعيينة بن حصن
(1)
، والأقرع بن حابس
(2)
رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا أرعى الله عليكما إن رعيتما)
(3)
.
وفي رواية عن عمر رضي الله عنه أنه قال-وأتاه عيينة بن حصن-: ({الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
(4)
. أي ليس اليوم مؤلفة)
(5)
.
(1)
هو: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو، الفزاري، أبو مالك، له صحبة، أسلم قبل الفتح وشهدها، وشهد حنيناً والطائف، وكان من المؤلفة، وكان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ثم عاد إلى الإسلام، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 432؛ الإصابة 2/ 1404.
(2)
هو: الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد، التميمي، شهد فتح مكة، وحنيناً والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه. قيل: قتل باليرموك، وقيل: كان أمير جيش، فأصيب هو والجيش بالجوزجان، وذلك في زمن عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 64.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 32. وأشار إليه ابن حجر في التلخيص 3/ 113، ولم يتكلم عليه بشيء. وقال في الإصابة 1/ 65: (روى البخاري في تاريخه الصغير، ويعقوب بن سفيان بإسناد صحيح من طريق محمد بن سيرين، عن عبيدة بن عمرو السلماني، أن عيينة والأقرع استقطعا بأبكر أرضاً-فذكره، ثم قال: - قال علي بن المديني في العلل: هذا منقطع؛ لأن عبيدة لم يدرك القصة، ولا روى عن عمر أنه سمعه منه، قال: ولا يُروى عن عمر بأحسن من هذا الإسناد). وقال في 2/ 1405: (وقال البخاري في التاريخ الصغير: حدثنا محمد-فذكر نحوه إلا أنه قال (والإسلام يومئذ قليل) - بدل (ذليل).
(4)
سورة الكهف، الآية (29).
(5)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 6/ 4298. وذكره ابن حجر في التلخيص 3/ 113، ولم يتكلم عليه بشيء.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث معاذ رضي الله عنه يدل على أن الصدقة تُؤخذ من الأغنياء، وتقسم على الفقراء، وليس فيه ذكر المؤلفة قلوبهم، وهو متأخر عن آية الصدقة؛ لأن معاذ رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في آخر حياته، فيكون هذا الحديث ناسخاً لسهم المؤلفة قلوبهم، ويؤكد ذلك إجماع الصحابة-رضي الله عنهم على عدم إعطائهم من الزكاة، كما يدل ما روى عن عمر رضي الله عنه على سقوط سهمهم
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن عدم ذكر سهم المؤلفة قلوبهم في الحديث لا يدل على نسخه؛ لأنه يحتمل أنه كان في وقت لم يكن محتاجاً إلى التأليف، كما أن الحديث لم يذكر فيه الإعطاء من الزكاة إلا لصنف واحد من الأصناف الثمانية، ولم يقل أحد بنسخ بقية الأسهم غير سهم المؤلفة قلوبهم، فليكن سهم المؤلفة كبقية السهام
(2)
.
ب-إن عدم إعطاء عمر رضي الله عنه والصحابة في زمنه من الصدقات للمؤلفة قلوبهم، هو لعلمهم بأن الإعطاء لهم شرع لسبب وهو الحاجة، وهم قد استغنوا عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فتركوا ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، فهو كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك
(3)
.
(1)
انظر: التحقيق لابن الجوزي 2/ 275؛ مجموع الفتاوى 33/ 94؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 100؛ حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 473.
(2)
انظر: التحقيق 2/ 275؛
(3)
انظر: المغني 7/ 316؛ الشرح الكبير 7/ 234؛ مجموع الفتاوى 33/ 94؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 871؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 100.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنهم لا يعطون من الزكاة، وإن حكمهم قد انقطع.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمشهور من مذهب المالكية
(2)
، وقول للإمام أحمد
(3)
، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، والحسن البصري، والشعبي
(4)
.
القول الثاني: إنهم يعطون من الزكاة، وإن حكمهم باق.
وهو قول في مذهب المالكية، صححه بعضهم
(5)
، ومذهب الحنابلة
(6)
، وقول الزهري، وأبي عبيد، واختاره ابن جرير
(7)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 160؛ بدائع الصنائع 2/ 153؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 259؛ الاختيار لتعليل المختار 1/ 118.
(2)
انظر: الكافي ص 114؛ بداية المجتهد 2/ 541؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 966؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 166؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 772.
(3)
انظر: المغني 9/ 316؛ الشرح الكبير 7/ 236؛ الإنصاف 7/ 232.
(4)
انظر: جامع البيان 6/ 4298؛ تفسير القرآن العظيم 2/ 349.
(5)
انظر: الكافي ص 114؛ جامع الأمهات ص 165؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 3/ 231؛ الشرح الكبير 1/ 772.
(6)
انظر: عمدة الفقه لابن قدامة ص 35؛ المغني 4/ 124، 9/ 316؛ المحرر 1/ 222؛ الشرح الكبير 7/ 231؛ الإنصاف 7/ 232؛ زاد المستقنع ص 26.
(7)
انظر: كتاب الأموال ص 574؛ جامع البيان 6/ 4299؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 871.
القول الثالث: يُعطون مؤلفة القلوب من المسلمين من الصدقات، أما المؤلفة من الكفار فلا يعطون من الصدقات.
وهو مذهب الشافعية
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط، فلا يعطون من الصدقات- بما سبق من الأدلة في دليل القول بالنسخ، فإنها تدل على أنهم لا يُعطون الآن من
الصدقات
(2)
.
وقد سبق ما يرد به على الاستدلال منها على سقوط سهم المؤلفة.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن حكم المؤلفة قلوبهم باق- بما يلي:
(3)
.
(1)
انظر: الأم 2/ 78؛ مختصر المزني ص 216؛ التنبيه للشيرازي ص 90؛ روضة الطالبين ص 315؛ المجموع 6/ 116.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 153؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 259، 260؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 166؛ حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 473.
(3)
سورة التوبة، الآية (60).
ثانياً: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بُعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة
(1)
، وقال:«أتألّفهم» فقال رجل
(2)
: ما عدلت. فقال: «يخرج من ضئضئِ
(3)
هذا قوم يمرقون من الدين»
(4)
.
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قُبّة من أدم، ولم يدع معهم أحداً غيرهم. فلمّا اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما كان حديث بلغني عنكم؟» قال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منّا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً، ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي رجالاً حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال
(1)
وجاء أسماءهم في رواية البخاري رقم (3344)، وهم: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، وعلقمة بن علاثة العامري.
(2)
هو: ذو الخويصرة التميمي، كما هو مصرح به في رواية مسلم رقم (1064)(148).
(3)
الضئضئ: الأصل، أي يخرج من نسله وعقبه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 66.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 971، كتاب التفسير، باب قوله {والمؤلفة قلوبهم} ، ح (4667)، ومسلم في صحيحه 4/ 391، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح (1064)(143).
وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض»
(1)
.
وفي روية عنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أعطي قريشاً أتألفهم، لأنهم حديث عهد بجاهلية»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن الآية المذكورة من سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها رسو الله صلى الله عليه وسلم فأعطى المؤلفة قلوبهم من المسلمين والمشركين، وقد أعطى بعضهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعز أهله. فدل ذلك على بقاء سهم، وأنهم يعطون من الصدقات بعده
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن المؤلفة قلوبهم من المسلمين يعطون من الصدقات، لا المشركين- بما يلي:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 642، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ح (3147)، ومسلم في صحيحه 4/ 383، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، ح (1059)(132).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 641، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، ح (3146)
(3)
انظر: جامع البيان 6/ 4299؛ المغني 9/ 316؛ الشرح الكبير 7/ 233؛ الممتع 2/ 212.
أولاً: قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}
(1)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عباس رضي الله عنه في بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، وفيه: (فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم».
ووجه الاستلال منهما هو: أن الآية الكريمة تدل على إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات، فيُعطون منها، لكن لا يُعطون منها المؤلفة قلوبهم من الكفار؛ للحديث المذكور؛ حيث إنه يدل على أن الزكاة إنما تقسم على فقراء المسلمين، والمؤلفة قلوبهم من الكفار ليسوا منهم؛ لذلك لا يُعطون من الصدقات
(2)
.
واعترض عليه: بأن الآية التي فيها ذكر المؤلفة عامة، تشمل من أسلم وغيرهم، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن لا يدل على أن المؤلفة قلوبهم من غير المسلمين لا يُعطون؛ لأنه يحتمل أنه كان في وقت لم يكن محتاجاً إلى التأليف. كما أن الحديث لم يذكر فيه الإعطاء من الزكاة إلا لصنف واحد من الأصناف الثمانية، ولم يستدل أحد منه على نفي بقية الأسهم غير سهم المؤلفة
(1)
سورة التوبة، الآية (60).
(2)
انظر: الأم 2/ 78؛ السنن الكبرى 7/ 30، 31؛ المجموع 6/ 116.
قلوبهم من المشركين، فينبغي أن يكون سهم المؤلفة قلوبهم كبقية السهام
(1)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن سهم المؤلفة قلوبهم باق، وأنهم يُعطون من الصدقات عند الحاجة إليه، ولا يُعطون عند عدم الحاجة، وذلك لما يلي:
أ- قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}
(2)
. فإنه يدل بعمومه على إعطاء المؤلفة قلوبهم من الصدقات، سواء كانوا من المسلمين أم من المشركين، وليس يوجد في الكتاب والسنة ما يصرح بسقوط سهمهم
(3)
.
ب-الأحاديث الكثيرة-وقد سبق ذكر بعضها- والتي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأنه أعطاهم حتى بعد فتح مكة. فهي تدل على أن سهمهم باق، وأنهم يعطون
من الصدقات، وكذلك من مال الفيء
(4)
.
ج-ما روي من الآثار عن عمر رضي الله عنه، وعمل الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنهم لم يعطوا المؤلفة قلوبهم؛ لأنهم استغنوا عنهم، فهو
(1)
انظر: المغني 7/ 316 - 318؛ التحقيق 2/ 275؛
(2)
سورة التوبة، الآية (60).
(3)
انظر: المغني 7/ 316 - 318.
(4)
انظر: المغني 7/ 317.
يدل على أنهم لا يُعطون عند عدم الحاجة إليه
(1)
.
ثانياً: إن القول بنسخ الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم ضعيف، لما يلي:
أ-لأنه ليس عليه حجة صريحة، لا من الكتاب ولا من السنة
(2)
.
ب- إن عدم إعطاء الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم يحتمل وجهين:
الأول: إنهم لم يعطوا المؤلفة قلوبهم لعدم الحاجة إليه.
الثاني: إنهم لم يعطوهم، لأن الإعطاء لهم من الصدقات قد نسخ، وأن سهمهم قد سقط.
والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة 1/ 185؛ المغني 7/ 317؛ مجموع الفتاوى 33/ 94.
(2)
انظر: المغني 7/ 316.
(3)
انظر: فتح الباري 1/ 745.
المطلب الثالث: حكم صدقة الفطر
ذهب بعض أهل العلم
(1)
، منهم ابن عليّة
(2)
، إلى أن وجوب صدقة الفطر قد نسخ، فهي الآن فعل خير، وليست بواجبة
(3)
.
وقد تبين منه أن القول به أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة
(4)
.
(1)
انظر: التمهيد 7/ 125؛ الاستذكار 3/ 148؛ بداية المجتهد 2/ 547؛ عمدة القاري 6/ 574؛ إرشاد الساري للقسطلاني 3/ 643؛ نيل الأوطار 4/ 254؛ تحفة الأحوذي 3/ 395.
(2)
هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ، فقيه، روى عن حميد الطويل، وابن عون، وغيرهما، وروى عنه شعبة، وابن جريج، وغيرهما. وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 216؛ تهذيب التهذيب 1/ 249؛ التقريب 1/ 90.
هذا وقد نسب ابن حجر في فتح الباري 3/ 449، القول بالنسخ إلى إبراهيم بن علية، وتبعه من جاء بعده ممن نقلوا عنه والذين قاموا بشروح لكتب الحديث، ولعله خطأ؛ لأنه لا يعرف في أهل العلم والفقهاء شخص مسمّى به، وإنما المعروف بابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الأسدي مولاهم. وقد نسب العمراني في البيان 3/ 359، وابن مفلح في الفروع 4/ 210، القول بعدم وجوب صدقة الفطر إلى ابن علية. وهو إسماعيل بن إبراهيم، كما سبق.
(3)
انظر: البيان للعمراني 3/ 359؛ الفروع لابن مفلح 4/ 210؛ فتح الباري 3/ 449؛ عمدة القاري 6/ 574؛ إرشاد الساري 3/ 643؛ نيل الأوطار 4/ 254؛ تحفة الأحوذي 3/ 395؛ أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي 6/ 251.
(4)
انظر: فتح الباري 3/ 449؛ عمدة القاري 6/ 574.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن قيس بن سعد-رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله»
(1)
.
ثانياً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(2)
.
ثالثاً: عن علي رضي الله عنه أنه قال: (نسخ رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ المتعة الطلاق، والعدة والميرات)
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث قيس بن سعد رضي الله عنه يدل على أن الزكاة نزلت بعد صدقة الفطر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بصدقة
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 390، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، ح (2507)، وابن ماجة في سننه ص 318، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، ح (1828)، والحاكم في المستدرك 1/ 569، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 269. وصححه الحاكم على شرط الشيخيين، ووافقه الذهبي. وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 390. وذكر ابن حجر في فتح الباري 3/ 449، أن في إسناده راوياً مجهولاً.
(2)
سبق تخريجه في ص 395.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 505. وفي سنده رجل مجهول، كما فيه الحارث الأعور، وهو متكلم فيه.
الفطر بعد فرضية الزكاة. وما روي عن علي رضي الله عنه يدل على أن الزكاة نسخت كل صدقة، وهو يشمل صدقة الفطر. فيثبت من مجموع ما سبق أن صدقة الفطر نسخت بالزكاة
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن ما روي عن علي رضي الله عنه فهو ضعيف لا يقوى على نسخ الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على وجوب صدقة الفطر
(2)
.
ثانياً: إن حديث قيس بن سعد رضي الله عنه وإن كان يدل أن فرضية الزكاة نزلت بعد صدقة الفطر، إلا أنه لا يصح أن يُستدل منه على نسخ صدقة الفطر؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر
(3)
.
ثالثاً: إن مما لا شك فيه أن الزكاة فرضت قبل فتح مكة، وقد ورد عدة أحاديث تفيد وجوب صدقة الفطر، وكونها بعد فتح مكة، ومنها:
أ-عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكة: «ألا
إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حُرٍّ أو
(1)
انظر: فتح الباري 3/ 449؛ عمدة القاري 6/ 574؛: إرشاد الساري 3/ 643؛ نيل الأوطار 4/ 254؛ تحفة الأحوذي 3/ 395؛ أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي 6/ 251.
(2)
راجع تخريج ما روي عن علي رضي الله عنه، والكلام عليه لمعرفة ضعفه. أما الأحاديث التي تدل على وجوب صدقة الفطر فسيأتي تخريجها في أدلة الأقوال في المسألة.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 269؛ فتح الباري 3/ 449.
عبد، صغير أو كبير: مدان من قمح، أو سواه صاع من طعام»
(1)
.
ب-عن ابن عباس-رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صارخاً ببطن مكة ينادي أن صدقة الفطر حق واحب على كل مسلم، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حُرّ أو مملوك، حاضر أو باد، صاع من شعير أو تمر»
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 169، كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر، ح (674)، والدارقطني في سننه 2/ 141. قال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب). وقال ابن الجوزي في التحقيق 2/ 244، بعد ذكر طرقه:(وأما الحديث السادس: ففي طريقه الأول سالم بن نوح. قال يحيى بن معين: ليس بشيء. وفي طريقه الثاني: علي بن صالح، وقد ضعفوه). وتعقبه ابن عبد الهادي فقال في التنقيح 2/ 248: (وتضعيف المؤلف سالم بن نوح ليس بشيء، فإنه صدوق روى له مسلم في صحيحه، وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق ثقة. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: فيه شيء. ووثقه أبو حاتم ابن حبان) ثم قال: (وكذلك قول المؤلف: وفي طريقه الثاني علي بن صالح وقد ضعفوه، خطأ منه- إلى أن قال: - ولا نعلم أحداً ضعفه، لكنه غير مشهور الحال ولا معروف عند أبي حاتم الرازي). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 169: (ضعيف الإسناد).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 142، والحاكم في المستدرك-واللفظ له- 1/ 569. وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الألفاظ)، وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال:(خبر منكر جداً. قال العقيلي: يحيى بن عباد عن ابن جريج حديثه يدل على الكذب. قال الدارقطني: ضعيف). وقال ابن الجوزي في التحقيق 2/ 243، بعد ذكر رواية ابن عباس من ثلاث طرق:(وأما حديث ابن عباس ففي طريقه الأول: يحيى بن عباد، قال العقيلي: حديث يحيى بن عباد يدلك على الكذب. وفي طريقه الثاني: الواقدي، قال أحمد: هو كذاب. وقال البخاري والرازي والنسائي: متروك. وفي طريقه الثالث: سلام الطويل. فلم يسند هذا الطريق غير سلام، وهو متروك). وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 246، الكلام على هذه الروايات، وقال عن الطريق الثالث:(أما حديث ابن عباس من رواية الحسن عنه، فلم يتكلم عليه المؤلف، ورواته ثقات مشهورون لكن فيه إرسالاً، فإن الحسن لم يسمع من ابن عباس فيما قيل. وقد جاء في مسند أبي يعلى الموصلي في حديث أنه قال: أخبرني ابن عباس، وهو إن ثبت يدل على سماعه منه).
فهذان الحديثان يدلان على وجوب صدقة الفطر، حتى بعد فتح مكة، وهو مما يدل على عدم صحة نسخ صدقة الفطر بوجوب الزكاة.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم صدقة الفطر على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن صدقة الفطر واجبة، وليست مفروضة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني: إن صدقة الفطر واجبة مفروضة.
وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول جمهور
(1)
انظر: مختصر القدوري ص 61؛ المبسوط للسرخسي 3/ 102؛ بدائع الصنائع 2/ 197؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 282.
(2)
انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 411؛ التمهيد 7/ 126؛ بداية المجتهد 2/ 547؛ جامع الأمهات ص 167؛ عقد الجواهر 1/ 239؛ الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1/ 787.
(3)
انظر: الأم 2/ 68؛ الحاوي 3/ 349؛ التهذيب 3/ 120؛ البيان 3/ 359؛ العزيز 3/ 144؛ المجموع 6/ 40.
(4)
انظر: المغني 4/ 281، 283؛ الشرح الكبير 7/ 79، 81؛ الفروع 4/ 210؛ تصحيح الفروع 4/ 210.
أهل العلم
(1)
.
القول الثالث: إن صدقة الفطر ليست واجبة، بل سنة.
وهو قول بعض المالكية
(2)
، وبعض الشافعية
(3)
، وبعض الظاهرية
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن صدقة الفطر واجبة وليست مفروضة- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث عبد الله بن عمرو، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم وقد سبق ذكرهما في الاعتراض على وجه الاستدلال على نسخ صدقة الفطر.
ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحُرّ، والذكر
(1)
انظر: التمهيد 7/ 125؛ بداية المجتهد 2/ 547؛ المغني 4/ 281؛ الفروع 4/ 210؛ فتح الباري 3/ 449؛ عمدة القاري 6/ 574.
(2)
منهم: أبو محمد بن زيد. انظر: التمهيد 7/ 126؛ الاستذكار 3/ 149.
(3)
منهم: ابن اللبان. انظر: البيان 3/ 359؛ العزيز 3/ 144؛ المجموع 6/ 40.
(4)
انظر: التمهيد 7/ 126؛ الاستذكار 3/ 149.
والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر
بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير» قال عبد الله: فجعل الناس عدله مُدّين من حنطة
(2)
.
ثالثاً: عن ثعلبة بن صعير
(3)
رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأمر بصدقة الفطر: صاع تمر، أو صاع شعير، عن كل رأس. أو صاع بُرّ أو قمح بين اثنين، عن الصغير والكبير، والحُرّ والعبد»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 300، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، ح (1503)، ومسلم في صحيحه 4/ 301، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ح (984)(12).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 301، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاعاً من تمر، ح (1507)، ومسلم في صحيحه 4/ 303، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ح (984)(15).
(3)
هو: ثعلبة بن صعير، ويقال: ابن أبي صعير بن عمرو بن زيد، القضاعي العذري، حليف بني زهرة، له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الله. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 67؛ الإصابة 1/ 226؛ تهذيب التهذيب 2/ 21.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 250، كتاب الزكاة، باب من روى نصف صاع من قمح، ح (1620). وعبد الرزاق في المصنف 3/ 318، والدارقطني في سننه 2/ 147. والحديث قال عنه ابن الجوزي في التحقيق 2/ 244:(وأما الحديث السابع: ففيه علي بن صالح أيضاً، وفيه إبراهيم بن مهدي، قال أبو بكر الخطيب: كان ضعيف الحديث. وفيه إبراهيم بن الهيثم، قال ابن عدي: حدث ببغداد فكذبه الناس. قال أحمد بن حنبل: وهذا الحديث يرويه النعمان بن راشد، فيقول: ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه، وغيره لا يرفعه ولا يقول عن أبيه، وليس بمحفوظ. وعامة الحديث ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ولا يعطي قيمته). وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 248، فقال عن علي بن صالح: ولا نعلم أحداً ضعفه، لكنه غير مشهور الحال. ثم قال:(وفي كلام المؤلف في إبراهيم بن مهدي في الحديث السابع ونقله عن الخطيب تضعيفه فخطأ منه، فإن الخطيب إنما ضعف إبراهيم بن مهدي بن عبد الرحمن بن سعيد بن جعفر الأيلي البصري، ويكنى أبا سعيد، ومات سنة ثمان ومائتين، وأما راوي الحديث عن معتمر بن سليمان فهو أقدم من هذا، وهو صدوق مات سنة خمس وعشرين ومائتين، ويقال له المصيصي، وهو بغدادي الأصل سكن المصيصة وذكر البخاري أنه من الأبناء، ووثقه أبو حاتم وغيره. وكذلك كلام المؤلف في إبراهيم بن الهيثم البلدي ليس بشيء، فإنه صدوق وثقه الدارقطني وغيره، وأما ابن عدي فإنه قال فيه: حدث ببغداد بحديث الغار عن الهيثم بن جميل عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبه فيه الناس وواجهوه، وأحاديثه مستقيمة سوى هذا الحديث الواحد الذي أنكروه عليه). وصحح ابن الهمام سند رواية عبد الرزاق، وصحح الشيخ الألباني رواية أبي داود في صحيح سنن أبي داود ص 250.
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأدلة تدل على أن صدقة الفطر واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، والأمر للوجوب، وليست فريضة؛ لأن هذه أخبار أحاد، والفرض لا يثبت إلا بقطعي. أما لفظ:(فرض) الوارد في بعض الأحاديث فهو بمعنى أمر أمر إيجاب، وليس المراد به المعنى الاصطلاحي للفرض
(1)
.
دليل القول الثاني
(1)
انظر: المبسوط للسرخسي 3/ 102؛ بدائع الصنائع 2/ 197؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 282.
ويستدل للقول الثاني- وهو أن صدقة الفطر واجبة مفروضة- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأدلة التي سبق ذكرها والتي استدل بها للقول الأول.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصيام من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات»
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث بعضها فيها لفظ: (فرض)، وبعضها فيها الأمر بها، وبعضها فيها أنها واجبة، فيثبت من جميعها أن صدقة الفطر واجبة مفروضة، ولفظ:(فرض) صريح في أنها مفروضة
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن صدقة الفطر سنة، وليست واجبة- بما يلي:
أولاً: حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وفيه: قال: وذكر له رسول الله
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 249، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، ح (1609)، وابن ماجة في سننه ص 318، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، ح (1827)، والحاكم في المستدرك 1/ 568، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 275. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري)، ووافقه الذهبي فقال على شرط البخاري. وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/ 332.
(2)
انظر: التمهيد 7/ 125؛ التهذيب 3/ 120؛ البيان 3/ 359؛ المغني 4/ 283.
-صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا
ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»
(1)
.
ثانياً: ما سبق ذكره في دليل القول الأول، من حديث ابن عمر رضي الله عنه والذي فيه:«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير» .
ثالثاً: حديث قيس بن سعد رضي الله عنه الذي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها هو: أن الحديث الأول يدل على عدم وجوب غير الزكاة. والحديث الثالث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بصدقة الفطر بعد ما فرضت الزكاة، ومعنى قوله:(فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر) في الحديث الثاني معناه: قدر مقدارها، وليس معناه الفرض المصطلح عليه. فثبت من ذلك أنها غير واجبة
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن صدقة الفطر سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه فهي داخلة تحت الزكاة، وواجبة وجوبها، لذلك ليس بين وجوبها وبين حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه تعارض
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 420.
(2)
انظر: المحلى 4/ 239؛ بداية المجتهد 2/ 548؛ فتح الباري 3/ 449.
(3)
انظر: المحلى 4/ 239؛ بداية المجتهد 2/ 548.
ثانياً: إن القول بأن معنى (فرض) في الحديث بمعنى قدر، تحويل للفظ عن موضوعه بلا دليل، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر كما ورد ذلك في غير حديث، والأمر للوجوب والفرض، فهو يؤكد بقاء معنى فرض على معناه الشرعي
(1)
.
ثالثاً: إن حديث سعد بن قيس رضي الله عنه يدل كذلك على الوجوب؛ لأن فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر، فصارت واجبة، ثم لم ينه عنها، فبقيت واجبة كما كانت، ونزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر
(2)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن صدقة الفطر واجبة مفروضة، كما هو قول جمهور أهل العلم، وذلك لما يلي:
أ-لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
(3)
. وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه وغيره
(4)
.
ب- لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}
(5)
. فقد ثبت أن هذه الآية نزلت
(1)
انظر: المحلى 4/ 239؛ التمهيد 7/ 126؛ التهذيب 3/ 120؛ فتح الباري 3/ 449.
(2)
انظر: المحلى 4/ 239؛ السنن الكبرى 4/ 269؛ فتح الباري 3/ 449.
(3)
سورة النساء، الآية (77).
(4)
انظر: المحلى 4/ 239؛ فتح الباري 3/ 449.
(5)
سورة الأعلى، الآية (14).
في زكاة الفطر
(1)
. وقد سبق في حديث ابن عباس رضي الله عنه أنها طُهرة للصيام من اللغو والرفت.
ج- للأحاديث الكثيرة في زكاة الفطر؛ فإن بعضها فيها التصريح بأنها فريضة، وفي بعضها التصريح بأنها واجبة، وفي بعضها الأمر بأدائها. فيثبت من مجموعها أن صدقة الفطر واجبة مفروضة
(2)
.
ثانياً: إنه لا يصح ادعاء نسخ صدقة الفطر، وذلك لما يلي:
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة الفطر، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على النهي عنها أو على تركها حتى يكون ناسخاً لها
(3)
.
ب-إن نزول الزكاة ووجوبها ليس منافياً ولا معارضاً لصدقة الفطر؛ لذلك لا يصح أن يقال بأنها نسخت بوجوب الزكاة
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 268؛ فتح الباري 3/ 449.
(2)
راجع أدلة القول الثاني، وانظر: مصنف عبد الرزاق 3/ 311 - 319؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 269 - 285.
(3)
انظر: المحلى 4/ 239؛ فتح الباري 3/ 449؛ عمدة القاري 6/ 574.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 269؛ فتح الباري 3/ 449.
الفصل الثاني الصوم، والحج وأحكام الحرمين
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الصوم.
المبحث الثاني: الحج وأحكام الحرمين.
المبحث الأول: الصوم
وفيه ثلاثة عشر مطلباً:
المطلب الأول: الحكم إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان.
المطلب الثاني: النية للصوم الواجب من النهار.
المطلب الثالث: الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء.
المطلب الرابع: السحور بعد طلوع الفجر الثاني.
المطلب الخامس: حكم صوم من أصبح وهو جنب.
المطلب السادس: تخيير مطيق الصيام بينه وبين الإطعام.
المطلب السابع: الفطر بالحجامة.
المطلب الثامن: الصوم في السفر.
المطلب التاسع: الفطر قبل صلاة العيد يوم عيد الفطر.
المطلب العاشر: قضاء الصوم عن الميت.
المطلب الحادي عشر: صوم يوم عاشوراء.
المطلب الثاني عشر: صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
المطلب الثالث عشر: صوم يوم السبت في غير الفريضة.
المطلب الأول الحكم إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان
ذهب الطحاوي إلى أن تقدير الهلال بالحساب إذا غُمّ
(1)
ليلة الثلاثين من شعبان كان أولاً، وهو أن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر بعد طلوعه، فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع ساعة عُلم أنه من تلك الليلة، وإن غاب لمنزلتين عُلم أنه من الليلة الماضية، وأن بينهما يوماً، فقضوا ذلك اليوم. ثم نسخ التقدير بالحساب إذا غم الهلال بالأمر بإكمال العدد
(2)
.
وليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، وإنما السبب في اختلافهم فيها هو اختلافهم في مفهوم حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا
(3)
حتى ترووا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ
(1)
غُمّ الهلال أي سُتر بغيم أو غيره. وغمه الشيء غماً غطّاه. انظر: مختار الصحاح ص 424؛ المصباح المنير ص 369.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار- 2/ 606 - 616؛ مواهب الجليل شرح مختصر خليل 3/ 291.
(3)
الصوم لغة: مطلق الإمساك، فكل من أمسك عن طعام، أو شراب، أو كلام، أو سير، أو نكاح، أو غير ذلك، فهو صائم. انظر: المغرب 1/ 487؛ تحرير ألفاظ التنبيه ص 93؛ المصباح المنير ص 289؛ القاموس المحيط ص 1020.
والصوم اصطلاحاً: إمساك مخصوص، عن شيء مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص. المجموع 6/ 161. وانظر: الاختيار 1/ 125؛ الإنصاف 7/ 323.
عليكم فاقدروا له»
(1)
. هل المراد بالتقدير إكمال العدد ثلاثين، أم المراد به عدّه بالحساب، أم غير ذلك
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُبّيَ
(3)
عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»
(4)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها تقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غُمّ عليه عدّ ثلاثين يوماً ثم صام»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 376، كتاب الصوم، باب إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، ح (1906)، ومسلم في صحيحه 4/ 414، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، ح (1080)(3).
(2)
انظر: بداية المجتهد 2/ 558.
(3)
غبي بالتخفيف، أي خفي، وبالتشديد من الغباء: شبه الغبرة في السماء. النهاية في غريب الحديث 2/ 288.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 377، كتاب الصوم، باب إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، ح (1909)، ومسلم في صحيحه 4/ 418، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، ح (1081)(18).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 354، كتاب الصيام، باب إذا أغمي الشهر، ح (2325)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 922، وابن حبان في صحيحه ص 959، والدارقطني في سننه 2/ 157، والحاكم في المستدرك 1/ 585، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 347. قال الدارقطني:(هذا إسناد حسن صحيح). وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وقال ابن الجوزي في التحقيق 2/ 289 - بعد ذكر قول الدارقطني-: (وهذه عصبية من الدارقطني، كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به). وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 294، فقال:(وأما حديث معاوية بن صالح فرواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن مهدي عن معاوية، ورواته ثقات يحتج بهم في الصحيح. وقد صحح الدارقطني إسناده كما تقدم، ومعاوية بن صالح ثقة صدوق، وثقه عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وغيرهم، وروى له مسلم في صحيحه محتجاً به. وكون يحيى بن سعيد لا يرضاه غير قادح فيه، ويحيى شرطه شديد في الرجال). والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 354. وقال في الإرواء 4/ 8: (على شرط مسلم وحده).
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غياية
(1)
فأكملوا ثلاثين يوماً»
(2)
.
وفي رواية: كان ابن عباس يُنكر أن يُتقدم في صيام رمضان إذا لم يُر هلال شهر رمضان، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تروا الهلال، فاستكملوا
(1)
الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها. النهاية في غريب الحديث 2/ 335.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 172، كتاب الصوم، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له، ح (688)، والنسائي في سننه ص 339، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار في حديث ابن عباس فيه، ح (2130). قال الترمذي:(حديث ابن عباس حديث حسن صحيح). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 172.
ثلاثين ليلة»
(1)
.
رابعاً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تُكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة»
(2)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على أن الهلال إذا غُمّ ليلة الثلاثين من شعبان فإنه لا يُصام ذلك اليوم بل يستكمل شعبان ثلاثين يوماً ثم يُصام رمضان، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحديث ابن عمر رضي الله عنه الدال على تقدير الهلال بالمنازل والعمل بمقتضى ذلك
(3)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث تدل بلا شك على أن الهلال إذا أغمي ليلة الثلاثين فإنه لا يُصام ذلك اليوم، ولا يُعمل بتقدير الهلال، ولا
(1)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 431، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 436، وشرح مشكل الآثار 2/ 619. قال الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 6:(وتابعه زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار به. أخرجه الطحاوي (1/ 209) قلت: وهذا سند صحيح).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 355، كتاب الصيام، باب إذا أغمي الشهر، ح (2326)، والنسائي في سننه ص 339، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على منصور في حديث ربعيّ فيه، ح (2126)، والدارقطني في سننه 2/ 161. قال ابن الجوزي في التحقيق 2/ 289:(والجواب أن أحمد ضعف حديث حذيفة، وقال: ليس ذكر حذيفة فيه بمحفوظ). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 294: (ومن زعم أن حديث حذيفة الذي رواه ربعي عنه أنه مرسل فقد وهم، بل هو متصل، إما عن حذيفة وإما عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالة الصحابي غير قادحة في صحة الحديث، كما ظنه بعضهم). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 8: (وإسناده صحيح).
(3)
انظر: شرح مشكل الآثار- تحفة الأخيار-2/ 609 - 616؛ مواهب الجليل 3/ 291.
بغيره، ولكن هذه الأحاديث لا يصح الاستدلال منها على نسخ تقدير الهلال والحساب بمنازل القمر إذا غم ليلة الثلاثين، وذلك لما يلي:
أ- لأنه مخالف لحديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّا أُمّة أُمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» يعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين
(1)
.
فإن ظاهره يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، ويؤيده قوله:(فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). فيثبت من مجموع الحديثين أن تعليق الحكم بالرؤية أمر ابتدائيّ، لا أنه بعد الأمر بالحساب بمنازل القمر
(2)
.
ب-إنه لا يوجد دليل على أن هذه الأحاديث بعد حديث ابن عمر الذي يُستدل منه على تقدير الهلال بالمنازل إذا غمّ ليلة الثلاثين، والنسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ
(3)
.
ج-إن الأحاديث الدالة على إكمال العدد إذا غم الهلال مفسرة لحديث: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» ، وليس بينهما تعارض حتى تكون تلك الأحاديث ناسخة له
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 377، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا نكتب ولا نحسب)، ح (1913)، ومسلم في صحيحه 4/ 416، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، ح (1080)(13).
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 152؛ مرقات المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 464.
(3)
فإن تأخر الناسخ شرط لصحة النسخ. انظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 216؛ إرشاد الفحول 2/ 55.
(4)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 920؛ الاستذكار 3/ 160؛ مواهب الجليل 3/ 291.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الحكم إذا غُمّ الهلال ليلة الثلاثين من شعبان على أربعة أقوال:
القول الأول: إنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، فإنه لا يُصام ذلك اليوم من رمضان، بل يُكمل به عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
، واختاره جماعة
من الحنابلة، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
.
وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، و محدثيهم
(6)
.
القول الثاني: إنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين فإنه يجب صومه
(1)
انظر: مختصر القدوري ص 62؛ بدائع الصنائع 2/ 220؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 313؛ المختار وشرحه الاختيار 1/ 128.
(2)
انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 425؛ الاستذكار 3/ 162؛ بداية المجتهد 2/ 558؛ التاج والإكليل 3/ 279؛ مواهب الجليل 3/ 277.
(3)
انظر: الأم 2/ 104؛ مختصر المزني ص 82؛ الحاوي 3/ 407؛ العزيز 3/ 173؛ المجموع 6/ 188.
(4)
انظر: المغني 4/ 330؛ الشرح الكبير 7/ 331؛ مجموع الفتاوى 25/ 99؛ شرح الزركشي 2/ 11؛ الإنصاف 7/ 327.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى 25/ 98؛ الفروع 3/ 409؛ شرح الزركشي 2/ 11؛ الإنصاف 7/ 327.
(6)
انظر: الاستذكار 3/ 162؛ بداية المجتهد 2/ 558؛ المغني 4/ 330.
بنية رمضان.
وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
وروي صومه عن عمر، وعلي، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وأبي هريرة، وابن عمر، وأسماء
(2)
، وعائشة-رضي الله عنهم
(3)
.
القول الثالث: إنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين، فإن الناس تبع للإمام، فإن صام ذلك اليوم صام الناس، وإن أفطر أفطروا.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(4)
.
القول الرابع: إنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين فإنه يُرجع في ذلك إلى الحساب بمنازل القمر، فإن تبين منه أن يوم الثلاثين من شعبان أول يوم من رمضان صامه، وإلا فلا.
(1)
انظر: المغني 4/ 330؛ الشرح الكبير 7/ 331؛ الفروع 3/ 406؛ شرح الزركشي 2/ 8؛ الإنصاف 7/ 327.
(2)
هي: أسماء بنت- أبي بكر-عبد الله بن عثمان، التيمية، أسلمت قديماً بمكة، وتزوجها الزبير بن العوام، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها أبناها عبد الله، وعروة، وغيرهما، وتوفيت سنة ثلاث وسبعين. انظر: الإصابة 4/ 2415؛ تهذيب التهذيب 12/ 348.
(3)
حمل بعض الحنابلة ما روي عن الصحابة في صومه على الوجوب، لكن شيخ الإسلام ابن تيمة ذكر أن ذلك كان منهم على الاحتياط، لا على الوجوب. انظر: الاستذكار 3/ 161؛ المغني 4/ 330؛ التحقيق 2/ 285؛ الشرح الكبير 7/ 331؛ مجموع الفتاوى 25/ 99.
(4)
انظر: المغني 4/ 330؛ الشرح الكبير 7/ 332؛ الإنصاف 7/ 328.
روي ذلك عن عبد الله ابن الشخير
(1)
، وقال به بعض أهل العلم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه إذا غم الهلال يكمل شعبان ثلاثين، ولا يصام من رمضان- بأدلة كثيرة، منها:
أولاً: ما سبق ذكره في بداية المسألة من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما وهو: «لا تصوموا حتى ترووا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» .
ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين»
(3)
.
ثالثاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث تدل على إكمال عدد
(1)
هو: عبد الله بن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، العامري، أبو جَزْء البصري، صدوق، روى عن أبي برزة الأسلمي، وروى عنه: حميد بن هلال، وقتادة، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وثمانين. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 33؛ التقريب 1/ 535.
(2)
منهم: ابن قتيبة، وابن سريج. انظر: الاستذكار 3/ 162؛ بداية المجتهد 2/ 558؛ فتح الباري 4/ 147.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 377، كتاب الصوم، باب إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، ح (1907)، ومسلم-نحوه-في صحيحه 4/ 414، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، ح (1080)(4).
شعبان إذا غم الهلال، وهي مفسرة لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ومبينة لمجمله، وهو أن المراد بقوله:«فاقدروا له» أي أكملوا عدد شعبان ثلاثين، كما جاء ذلك مصرحاً في روايات أخري من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين فإنه يجب صومه بنية رمضان- بحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي سبق ذكره، والذي فيه:«فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» .
ويستدل منه على وجهين:
أ- أن ابن عمر رضي الله عنه روى هذا الحديث، ثم روي عنه أنه كان:(إذا كان شعبان تسعاً و عشرين: نُظر له، فإن رُئي فذاك، فإن لم يُر ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة: أصبح مفطراً، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة: أصبح صائماً)
(2)
.
فدل ذلك أن المراد بقوله: (فاقدروا له) أن يصام ذلك اليوم؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد ما رووه
(3)
.
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 920؛ شرح السنة للبغوي 6/ 230؛ الاستذكار 3/ 160؛ بدائع الصنائع 2/ 220.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه-مع حديث ابن عمر السابق- ص 354، كتاب الصيام، باب الشهر يكون تسعاً
وعشرين، ح (2320)، وأحمد في المسند 8/ 71. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 354.
(3)
انظر: المغني 4/ 332؛ التحقيق 2/ 286.
واعترض عليه: بأن قوله: (فاقدروا له) يحتمل التفرقة بين حكم الصحو والغيم، ويحتمل عدم التفرقة، وأن المراد بقوله:(فاقدروا له) توكيد لقوله: (صوموا لرؤيته)، ولكن هذا الاحتمال والتأويل أولى؛ للروايات الأخرى المصرحة بالمراد وهو قوله:(فأكملوا العدة ثلاثين)
(1)
.
كما أن فعل ابن عمر رضي الله عنه ليس فيه ما يدل على الوجوب، وإنما هو احتياط قد عُورض بنهي
(2)
.
ب- أن معنى قوله: (فاقدروا له) أي ضيقوا له العدد. والتضييق له أن يُجعل شعبان تسعاً وعشرين يوماً
(3)
.
واعترض عليه: بأن معنى قوله: (فاقدروا له) ليس التضييق، بل التقدير بإكمال العدد ثلاثين، والمعني: احسبوا له قدره، فهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، وإذا جُعل الشهر ثلاثين فقد قُدّر له قدراً لم يدخل فيه غيره
(4)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن الناس في ذلك تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
انظر: التنقيح 2/ 291، 292؛ فتح الباري 4/ 145، 146.
(2)
انظر: الفروع 4/ 407.
(3)
انظر: المغني 4/ 332؛ التحقيق 2/ 286.
(4)
انظر: شرح السنة للبغوي 6/ 230؛ التنقيح 2/ 292.
«الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تُضَحُّون»
(1)
.
فهذا يدل على أن الصوم والفطر يكون مع الجماعة وعُظْمِ الناس
(2)
.
واعترض عليه: بأنه ليس فيه متى يصوم الإمام والناس إذا غم الهلال، وإنما يدل على عدم مخالفة الجماعة.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع- وهو أنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين فإنه يُرجع في ذلك إلى الحساب بمنازل القمر-بما سبق في بداية المسألة من حديث ابن عمر رضي الله عنه والذي فيه: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» .
ووجه الدالة منه هو: أن معنى قوله: (فاقدروا له) أي عدوا بالحساب ومنازل القمر
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأنه مخالف للإجماع؛ حيث إن الأمة أجمعت على أن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب، فلو كان للحساب ومنازل
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 174، كتاب الصوم، باب ما جاء الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون، ح (697)، وقال:(حديث حسن غريب). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 174.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 174؛ المغني 4/ 330.
(3)
انظر: بداية المجتهد 2/ 558.
القمر اعتباراً في ذلك لما أجمعوا على خلافه
(1)
.
ب-إنه مخالف لما سبق ذكره من حديث ابن عمر رضي الله عنه: «إنا أُمّة أُمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» . فإن ظاهره يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، ويؤيده قوله:(فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يقل: فاسألوا أهل الحساب
(2)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وهو أنه إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإنه يكمل عدد شعبان ثلاثين يوماً، ولا يصام ذلك اليوم؛ وذلك لما يلي:
أ-لقوة أدلته وكثرتها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى
(3)
.
ب-لصراحة أدلته؛ حيث إنها لا تحتمل غير الدلالة على تكميل الشهر ثلاثين يوماً إذا غم الهلال، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى، فهي غير صريحة الدلالة، وتحتمل أكثر من احتمال
(4)
.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 147.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 152.
(3)
انظر: التحقيق 2/ 287؛ التنقيح 2/ 292.
(4)
انظر: فتح الباري 4/ 146؛ مرقات المفاتيح 4/ 464.
ج-لأنه يمكن الجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، بخلاف الأقوال الأخرى
(1)
.
ثانياً: إن القول بالنسخ في المسألة ضعيف وغير صحيح، وذلك لما يلي:
أ- لأنه لا تعارض بين تلك الأحاديث إذا حملت على ما قاله جمهور أهل العلم
(2)
، وبالتالي لا داعي للقول بالنسخ.
ب- قد سبق أن النسخ لا بد فيه من العلم بتأخر الناسخ، ولا يوجد دليل على أن قوله:(فإن غم عليكم فاقدروا له) متقدم على الأحاديث التي فيها الأمر بإكمال العدد إذا غم الهلال، حتى تكون هي ناسخة له.
ج-إنه يظهر من حديث: «إنا أُمّة أُمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب) وغيره من الأحاديث أن الأمر بإكمال العدد إذا غم الهلال، أمر ابتدائي، ولا يوجد ما يدل على أنه كان أولاً الأمر بالتقدير بحساب المنازل، ثم جاء الأمر بإكمال العدد
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: بداية المجتهد 2/ 559؛ التنقيح 2/ 291، 292.
(2)
انظر: بداية المجتهد 2/ 559؛ التنقيح 2/ 291، 292.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 152؛ مرقات المفاتيح 4/ 464.
المطلب الثاني: النية للصوم الواجب من النهار
ذهب بعض أهل العلم، ومنهم الشوكاني
(1)
، إلى أن جواز النية للصوم الواجب من النهار، قد نسخ بما يدل على وجوب نية الصوم من الليل
(2)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف عند من قال به، لكن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم في المسألة هو اختلاف الآثار الواردة فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أن
(1)
هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، الشوكاني ثم الصنعاني، قرأ على والده، وعلى محمد بن أحمد الحرازي وغيرهما، وأخذ عنه ابنه علي، وحسين السبعي، وغيرهما، ومن مؤلفاته: إرشاد الفحول، ونيل الأوطار، وتوفي سنة خمسين ومائتين وألف. انظر: البدر الطالع 2/ 214؛ الأعلام 6/ 298.
أما قوله بالنسخ فإنه قال في نيل الأوطار 4/ 278 - بعد ذكر ما يدل على جواز نية الصوم في النهار-: (وأجيب بأن خبر حفصة متأخر فهو ناسخ لجوازها في النهار).
(2)
قال ابن حجر في فتح الباري 4/ 170: (واستدل بحديث سلمة هذا على صحة الصوم لمن لم ينوه من الليل، سواء كان رمضان أو غيره، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار فدل على أن النية لا تشترط من الليل، وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام عاشوراء كان واجباً، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضاً، وعلى تقدير أنه كان فرضاً فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه وشرائطه). وانظر: الحاوي 3/ 401؛ المجموع 6/ 207.
(3)
انظر: بداية المجتهد 2/ 573؛ فتح الباري 4/ 170؛ نيل الأوطار 4/ 278.
«أذن في الناس: أن من كان أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء»
(1)
.
ثانياً: عن حفصة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجَمِّع الصيام قبل الفجر فلا صيام له»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2007)، ومسلم في صحيحه 4/ 468، كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، ح (1135)(135).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 372، كتاب الصيام، باب النية في الصيام، ح (2454)، والترمذي في سننه ص 181، كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، ح (730)، والنسائي في سننه-بلفظ:(من لم يبيت الصيام) - ص 364، كتاب الصيام، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، ح (2331)، وابن ماجة في سننه ص 297، كتاب الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، والخيار في الصوم، ح (1700)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 931، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 54، والدارقطني في سننه 2/ 172، و البيهقي في السنن الكبرى 4/ 340، وابن حزم في المحلى 4/ 287. قال أبو داود في سننه بعد ذكر الحديث:(رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضاً جميعاً، عن عبد الله بن أبي بكر، مثله، وأوقفه علىحفصة: معمر، والزبيدي، وابن عيينه، ويونس الأيلي، كلهم عن الزهري).
وقال الترمذي في سننه بعد ذكر الحديث: (حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. وقد رُوي عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح. وهكذا أيضاً رُوي هذا الحديث عن الزهري موقوفاً. ولا نعلم أحداً رفعه إلا يحيى بن أيوب).
وقال الدارقطني في سننه بعد روايته للحديث: (رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء، واختلف على الزهري في إسناده).
وقال ابن حزم في المحلى 4/ 288: (وهذا إسناد صحيح، ولا يضر إسناد ابن جريج له أن أوقفه معمر، ومالك، وعبيد الله، ويونس، وابن عيينه، فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ، والزهري واسع الرواية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه، وكلاهما ثقة، وابن عمر كذلك، مرة رواه مسنداً، ومرة روى أن حفصة أفتت به، ومرة أفتى هو به، وكل هذا قوة للخبر).
وقال النووي في المجموع 6/ 196: (وإسناده صحيح في كثير من الطرق، فيعتمد عليه، ولا يضر كون بعض طرقه ضعيفاً أو موقوفاً، فإن الثقة الواصل له مرفوعاً معه زيادة علم فيجب قبولها، كما سبق تقريره مرات). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 280: (حديث حفصة صحيح وقفه كما نص على ذلك الحذاق من الأئمة). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 170: (واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور، منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وروى له الدارقطني طريقاً أخرى، وقال: رجاله ثقات). وصححه الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 27، وذكر له عدة طرق.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 172، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 341. قال الدارقطني بعد ذكر الحديث:(تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بهذا الإسناد، وكلهم ثقات) ونقل البيهقي قول الدارقطني وأقره. وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي 4/ 341، فقال:(كيف يكون كذلك وفي كتاب الضعفاء للذهبي: عبد الله بن عباد البصري ثم المصري، عن المفضل بن فضاله واه. وقال ابن حبان: روى عنه الزنباع روح نسخة موضوعة). وقال الزيلعي في نصب الراية 2/ 434 - بعد نقل كلام الداقطني وإقرار البيهقي له: (وفي ذلك نظر، فإن عبد الله بن عباد غير مشهور، ويحيى بن أيوب ليس بالقوي، وقال ابن حبان: عبد الله بن عباد البصري يقلب الأخبار، روى عن المفضل بن فضالة عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة حديث: من لم يبيت الصيام، وهذا مقلوب، إنما هو عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة، روى عنه روح بن الفرج نسخة موضوعة).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 280: (لا يثبت مرفوعاً). وقال النووي في المجموع 6/ 196: (والحديث حسن يحتج به اعتماداً على رواية الثقات الرافعين، والزيادة من الثقة مقبولة). وذكر في 6/ 207: أنه صحيح.
رابعاً: عن ميمونة بنت سعد
(1)
رضي الله عنها-تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أجمع الصوم من الليل فليصم، ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يدل على جواز النية للصوم من النهار، إلا أنه كان في صوم عاشوراء، وهو قد نسخ، فيكون جواز النية للصوم الواجب من النهار منسوخاً كذلك، ويدل
(1)
هي: ميمونة بنت سعد، ويقال: سعيد، خادمة النبي صلى الله عليه وسلم، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: أيوب بن خالد، وهلال بن أبي هلال، وغيرهما. انظر: الإصابة 4/ 2641؛ تهذيب التهذيب 12/ 403.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 173. وفي سنده الواقدي، وهو متروك وضعيف. انظر: التحقيق 2/ 282؛ التعليق المغني لأبي الطيب 2/ 173.
عليه الأحاديث التي تدل على اشتراط النية من الليل للصوم الواجب؛ لأنها بعده؛ حيث إن عاشوراء كان قد أمر به قبل أن يفرض رمضان، ثم نسخ وجوبه بفرض صوم رمضان
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يلزم من نسخ وجوب صوم عاشوراء نسخ جميع أحكامه وشرائطه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في جواز الصوم بنية من النهار، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن الصوم المتعلق وجوبه بزمان معين، وكذلك صوم النفل، يجوز بنية من النهار، ولا يجوز الصوم المتعلق بالذمة، إلا بنية من الليل.
وهو مذهب الحنفية
(3)
،.
القول الثاني: إنه لا يجوز أي صوم، سواء كان فرضاً أم نفلاً، إلا بنية من الليل.
وهو مذهب المالكية
(4)
، وقول الليث، وداود، وابن حزم
(5)
.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 170؛ نيل الأوطار 4/ 278.
(2)
انظر: عمدة القاري 8/ 74؛ سبل السلام 1/ 312.
(3)
الصوم المتعلق بزمان معين مثل: صوم رمضان، والنذر المعين. والصوم المتعلق وجوبه بالذمة نحو: قضاء رمضان، والنذر المطلق، والكفارات، وصوم الظهار. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 58؛ مختصر القدوري ص 62؛ بدائع الصنائع 2/ 229؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 301 - 309؛ المختار 1/ 126.
(4)
انظر: الإشراف لعبد الوهاب 1/ 423؛ الكافي ص 120؛ بداية المجتهد 2/ 573؛ جامع الأمهات ص 171؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 3/ 336.
(5)
انظر: الاستذكار 3/ 169؛ المحلى 4/ 285، 286.
وروي ذلك عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة-رضي الله عنهم
(1)
.
القول الثالث: إن الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من الليل، أما صوم التطوع فيجوز بنية من النهار.
وهو مذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو جواز النية من النهار للصوم المتعين، والتطوع دون غيرهما- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
ثانياً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث حفصة-رضي الله عنها.
ثالثاً: عن الربيع بنت معوذ
(4)
رضي الله عنها-قالت: أرسل النبي
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 169؛ المحلى 4/ 287.
(2)
انظر: الأم 2/ 113؛ مختصر المزني ص 82؛ الحاوي 3/ 395، 405؛ العزيز 3/ 184؛ المجموع 6/ 196، 199، 207.
(3)
انظر: المغني 4/ 333، 340؛ المحرر 1/ 228؛ الشرح الكبير 7/ 390، 403؛ الفروع 4/ 451؛ شرح الزركشي 2/ 14، 17؛ الإنصاف 7/ 390، 403.
(4)
هي: الربيع بنت معوذ بن عفراء، الأنصارية النجارية، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: سليمان بن يسار، ونافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم، وكانت من المبايعات تحت الشجرة. انظر: تجريد أسماء الصحابة
2/ 267؛ الإصابة 4/ 2502؛ تهذيب التهذيب 12/ 368.
-صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى
قرى الأنصار: «من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم» قالت: فكنا نصومه بعدُ ونُصَوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار
(1)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:«هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا. قال: «فإني إذن صائم» ، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهدي لنا حيس
(2)
. فقال: «أرينيه، فلقد أصبحت صائماً» فأكل
(3)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث عائشة-رضي الله عنها يدل على جواز النية لصوم التطوع من النهار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نوى الصوم من النهار. وحديث سلمة بن الأكوع، والربيع بنت معوذ-رضي الله عنهما يدلان على جواز النية من النهار للصوم المتعلق بزمان بعينه؛ لأن صوم عاشوراء كان صوماً مفروضاً متعيناً، فكل ما كان متعيناً فيصح نيته من النهار كعاشوراء.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 387، كتاب الصوم، باب صوم الصبيان، ح (1960)، ومسلم في صحيحه 4/ 468، كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، ح (1146)(136).
(2)
الحيس هو: الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 458؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 486.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 486، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، ح (1154)(170).
وحديث حفصة-رضي الله عنها يدل على وجوب النية للصوم من الليل، فيكون المراد به الصوم الواجب الغير المتعلق بزمن متعين جمعاً بين هذه الأحاديث كلها
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال من حديث عاشوراء على جواز النية من النهار للصوم الواجب المتعلق بزمن معين؛ لأن النية إنما صحت في نهار عاشوراء، لا لأنه صوم واجب متعلق بزمن معين، بل لأنهم أمروا به من النهار، والرجوع إلى الليل غير مقدور، فهو كما لو بلغ الصبي أو أسلم الكافر أثناء النهار، والخلاف إنما هو فيما كان مقدوراً؛ لذلك لم يصح الاستدلال من حديث عاشوراء على جواز النية من النهار للصوم الواجب سواء كان معيناً أم لا
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه لا يجوز أي صوم، سواء كان فرضاً أم نفلاً، إلا بنية من الليل- بما يلي:
أولاً: حديث حفصة، وعائشة، وميمونة بنت سعد-رضي الله عنهن، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 55 - 58؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 304 - 306؛ اللباب للمنبجي 1/ 393 - 395؛ عمدة القاري 9/ 73.
(2)
انظر: الحاوي 3/ 401؛ المغني 4/ 335؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 894؛ نيل الأوطار 4/ 278.
ثانياً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
(1)
.
ثالثاً: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه ونحوه عن عائشة، وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم قوله:(لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر)
(2)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن هذه الأحاديث والآثار تدل على عدم جواز الصوم إلا بنية من الليل، وهي لم تفرق بين صوم فرض وصوم نفل
(3)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأدلة تدل على وجوب النية للصوم من الليل، لكن خُصِّص عمومها بالصوم المفروض؛ حيث توجد أدلة تدل على جواز صوم التطوع بنية من النهار
(4)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (1)، ومسلم في صحيحه 6/ 534، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية، ح (1907)(155).
(2)
أخرجه-وكذلك قول عائشة وحفصة- مالك في الموطأ 1/ 240، وابن حزم في المحلى 4/ 287. وإسناد الجميع صحيح.
(3)
انظر: المحلى 4/ 286 - 287؛ الإشراف 1/ 423؛ الاستذكار 3/ 169؛ بداية المجتهد 2/ 573.
(4)
انظر: الأم 2/ 113؛ الحاوي 3/ 405؛ المغني 4/ 340.
الليل، أما صوم
التطوع فيجوز بنية من النهار- بما يلي:
أولاً: حديث حفصة، وعائشة، وميمونة بنت سعد-رضي الله عنهن، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: ما سبق ذكره في دليل القول السابق مما روي عن ابن عمر، وعائشة، وحفصة-رضي الله عنهم من قولهم:(لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر).
ثالثاً: حديث عائشة-رضي الله عنها والذي فيه: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:«هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا. قال: «فإني إذن صائم»
(1)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه كان يصبح حتى يظهر، ثم يقول:(والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا)
(2)
.
وروي نحوه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وحذيفة، وأبو طلحة، وأبو هريرة-رضي الله عنهم
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: أن بعض هذه الأدلة يدل على وجوب النية
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 56.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 4/ 272 - 275؛ صحيح البخاري ص 379؛ شرح معاني الآثار 2/ 56 - 57؛ فتح الباري 4/ 169.
للصوم من الليل، وبعضها يدل على جواز النية لها من النهار، فيحمل ما يدل على وجوبها من الليل على الصوم الواجب، ويحمل ما يدل على جوازها من النهار على صوم التطوع، فيحمل حديث حفصة-رضي الله عنها وما في معناه على الصوم الواجب، فيشترط له النية من الليل. ويحمل حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فيه:(إني صائم) وما في معناه، على صوم التطوع، فيجوز أن يصام بنية من النهار، وبهذا يجمع بين هذه الأدلة كلها
(1)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثالث، وهو أن الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من الليل، أما صوم التطوع فيجوز بنية من النهار، وذلك لأن هذا القول يمكن به الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة.
ثانياً: إنه لا حاجة للقول بالنسخ في المسألة، وذلك لأن النية من النهار في صوم عاشوراء حصل لا لكونه أنه واجب معين أو أنه تطوع، بل لأنهم أمروا به من النهار، والرجوع إلى الليل غير مقدور
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الأم 2/ 113؛ الحاوي 3/ 397 - 406؛ بداية المجتهد 2/ 573؛ المغني 4/ 334، 340.
(2)
انظر: المغني 4/ 335؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 894؛ نيل الأوطار 4/ 278.
المطلب الثالث الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء
ذهب جمع من أهل العلم، إلى أنه كان على الصائم الأكل، والشرب، والجماع، بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء الآخرة، محرماً، فأيهما وجد أولاً حصل به التحريم، ثم نسخ ذلك، فأبيح كل ذلك إلى طلوع الفجر
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الزهري
(2)
، وأبو عبيد
(3)
، والبيهقي
(4)
، والسرخسي
(5)
، والنووي
(6)
، وابن الجوزي
(7)
. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه
(8)
.
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 939 - 945؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 274؛ الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص 25؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 337؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 26؛ نواسخ القرأن لابن الجوزي 1/ 231؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 22؛ الناسخ والمنسوخ لابن خزيمة الفارسي ص 282؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 310؛ تفسير القرآن العظيم 1/ 209؛ شرح الكوكب المنير 3/ 560.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ للزهري ص 19.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 42.
(4)
انظر: السنن الكبرى 4/ 337.
(5)
انظر: أصول السرخسي 2/ 77.
(6)
انظر: المجموع 6/ 163.
(7)
انظر: نواسخ القرأن 1/ 130، 231، 232.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 38؛ نواسخ القرآن 1/ 231.
ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة الأكل والشرب والجماع للصائم في ليالي الصيام إلى طلوع الفجر
(1)
.
ويدل على النسخ، وعلى إباحة ما ذكر ما يلي:
(2)
.
ثانياً: عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطارُ فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يُمسيَ. وإن قيس بن صرمة الأنصاري
(3)
كان صائماً فلمّا حضر الإفطارُ أتي امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ فأطلب لك. وكان يومه
(1)
راجع المصادر في الحواشي الخمسة السابقة، وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص 70؛ المغني 4/ 349، 393؛ المجموع 6/ 211.
(2)
سورة البقرة، الآية (187).
(3)
هو: قيس بن صرمة الأنصاري. وقيل: صرمة بن قيس، وقيل: قيس بن مالك أبو صرمة،، وقيل: قيس بن أنس، أبو صرمة. وقيل: هو: أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر، النجاري الأنصاري. وبهذا الأخير جمع ابن حجر في الفتح. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 21؛ الإصابة 2/ 894، 895، 3/ 1636؛ فتح الباري 4/ 156.
يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك. فلمّا انتصف النهار غُشيَ عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . ففرحوا بها فرحاً شديداً. ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية)
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] فكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر، فأراد الله عز وجل أن يجعل ذلك يُسراً لمن بقيَ ورُخصة ومنفعة، فقال سبحانه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وكان هذا مما نفع الله به الناس، ورخص لهم ويسّر)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 378، كتاب الصوم، باب قول الله عز وجل:{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ، ح (1915).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 929، كتاب التفسير، باب {أحلت لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ، ح (4508).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 353، كتاب الصيام، باب مبدأ فرض الصيام، ح (2313)، وابن جرير في جامع البيان 2/ 939، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 338. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 353:(حسن صحيح).
رابعاً: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كانوا يأكلون ويشربون، ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتيان النساء، فكان رجل من الأنصار يُدعى أبا صرمة
(1)
يعمل في أرض له، قال: فلمّا كان عند فطره نام، فأصبح صائماً قد جهد، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مالي أرى بك جهداً؟» فأخبره بما كان من أمره. واختان رجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . إلى آخر الآية
(2)
(3)
.
خامساً: عن كعب بن مالك
(4)
رضي الله عنه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى، فنام، حرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمت، قال: ما
(1)
هو قيس بن صرمة الأنصاري، وقد سبق ترجمه في رواية البراء رضي الله عنه.
(2)
سورة البقرة، الآية (187).
(3)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 2/ 938.
(4)
هو: كعب بن مالك بن أبي كعب-عمرو- بن القين، الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، شهد العقبة وبايع بها، وتخلف عن بدر، وشهد أحداً وما بعدها إلا تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تِيب عليهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أولاده: عبد الله، وعبيد الله، وغيرهما. وتوفي في خلافة علي رضي الله عنه وقيل: في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 33؛ الإصابة 3/ 1696؛ تهذيب التهذيب 8/ 383.
نمت. ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [سورة البقرة: 187])
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على أن الأكل والشرب والجماع كان محرماً في ليالي الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء، ثم نسخ ذلك، وأبيح كل ذلك إلى طلوع الفجر
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 25/ 86، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 41، والطبري
في جامع البيان 2/ 939. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 320: (رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وقد ضعف).
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 939 - 945؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 274؛ الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص 25؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 337؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم ص 26؛ نواسخ القرأن لابن الجوزي 1/ 231؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 22؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 310؛ تفسير القرآن العظيم 1/ 209.
المطلب الرابع: السحور بعد طلوع الفجر الثاني
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السحور كان جائزاً بعد طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس، ثم نسخ ذلك، وأبيح إلى طلوع الفجر الثاني
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(2)
، والحازمي
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
، وأبو إسحاق الجعبري
(5)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلا ف أهل العلم في المسألة ثلاثة أشياء: اختلاف الآثار، والاختلاف في المراد بقوله تعالى:{مِنْ الْفَجْرِ} ، والقول بالنسخ
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
(7)
.
ثانياً: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أُنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
(1)
انظر: الاعتبار ص 362؛ فتح الباري 4/ 162؛ عمدة القاري 8/ 62.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 53، 54.
(3)
انظر: الاعتبار ص 362.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 62.
(5)
انظر: رسوخ الأحبار ص 351.
(6)
انظر: الاعتبار ص 362؛ بداية المجتهد 2/ 564؛ رسوخ الأحبار ص 351.
(7)
سورة البقرة، الآية (187).
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنْ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ:{مِنْ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار)
(1)
.
ثالثاً: عن عدي بن حاتم
(2)
رضي الله عنه قال: لمّا نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي. فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال:«إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 378، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى:{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، ح (1917)، ومسلم في صحيحه 4/ 425، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بعد طلوع الفجر، ح (1091)(35).
(2)
هو: عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد، أبو طريف، الطائي، ثبت على إسلامه في الردة، وشهد فتح العراق، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: سعيد بن جبير، والشعبي، وغيرهما، وتوفي بعد الستين. انظر: الإصابة 2/ 1244؛ تهذيب التهذيب 7/ 147.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 378، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى:{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، ح (1916)، ومسلم في صحيحه 4/ 425، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بعد طلوع الفجر، ح (1090)(33).
رابعاً: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يغرنّكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق»
(2)
.
خامساً: عن حذيفة رضي الله عنه قال: (تسحّرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع)
(3)
.
وفي روية عنه رضي الله عنه قال: (بعد الصبح غير أن الشمس لم تطلع)
(4)
.
سادساً: عن حكيم بن جابر
(5)
قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 429، كتاب الصوم، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، ح (1093)(43).
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في سننه ص 176، كتاب الصوم، باب ما جاء في بيان الفجر، ح (706). وحسنه الترمذي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 176.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 342، كتاب الصيام، باب تأخير السحور، وذكر الاختلاف على زر فيه، ح (2152)، وابن ماجة في سننه-واللفظ له- ص 296، كتاب الصوم، باب ما جاء في تأخير السحور، ح (1695)، وأحمد في المسند 38/ 382، والحازمي في الاعتبار ص 361. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 296:(حسن الإسناد)،
(4)
بهذا السياق أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 52.
(5)
هو: حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي، ثقة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وروى عن: عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه: إسماعيل بن أبي خالد، وبيان، وغيرهما. وتوفي سنة اثنتين وثمانين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 234؛ التقريب 1/ 398.
يتسحّر فقال: الصلاة يا رسول الله! قال: فثبت كما هو يأكل، ثم أتاه فقال: الصلاة وهو حاله، ثم أتاه الثالثة فقال: الصلاة يا رسول الله! قد والله أصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يرحم الله بلالاً، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس»
(1)
.
سابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَحِّرنا يا أنس! إني أريد الصيام فأطعمني شيئاً» فجئته بتمر وإناء فيه ماء بعد ما أذن بلال، فقال:«يا أنس! انظر إنساناً يأكل معي» ، فدعوت زيد بن ثابت، فقال: يا رسول الله! إني شربت شربة من سويق، وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأنا أريد الصيام» فتسحّر معه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم خرج فأقيمت الصلاة)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأنه يظهر من حديث حذيفة، وأنس-رضي الله عنهما، وحكيم بن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تسحر بعد الصبح وطلوع الفجر الثاني. كما يظهر من حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم-رضي الله عنهما: أن بعض الصحابة كانوا يتسحرون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ثم نزل قوله تعالى:{مِنْ الْفَجْرِ} وحرم الأكل
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 231. قال ابن حجر في الفتح 4/ 162: (رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات). ويظهر من ترجمة حكيم أن الحديث مرسل.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 230. ورجاله رجال الجماعة.
والشرب بعد طلوع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير، ويدل عليه كذلك حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم، وسمرة بن جندب-رضي الله عنهم، فتكون الأدلة الدالة على تحريم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير، هي المتأخرة، والناسخة للأدلة التي تفيد جواز الأكل والشرب إلى الإسفار، وقبل طلوع الشمس
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في جواز التسَحُّر بعد طلوع الفجر الصادق، إلى ما قبل طلوع الشمس، على قولين:
القول الأول: يحرم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير.
وهو قول المذاهب الأربعة
(2)
، وجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم
(3)
، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك
(4)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 53، 54؛ الاعتبار ص 362؛ رسوخ الأحبار ص 351 - 352؛ فتح الباري 4/ 162.
(2)
انظر: " شرح معاني الآثار 2/ 54؛ مختصر القدوري ص 62؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 326"؛ المدونة 1/ 265؛ الكافي لابن عبد البر ص 130؛ بداية المجتهد 2/ 564"؛ الأم 2/ 106؛ مختصر المزني ص 82؛ المجموع 6/ 210"؛ المغني 4/ 325؛ الشرح الكبير 7/ 325؛ المحرر 1/ 230".
(3)
انظر: الاعتبار ص 361؛ بداية المجتهد 2/ 564؛ المغني 4/ 325؛ المجموع 6/ 210؛ عمدة القاري 8/ 64.
(4)
انظر: التمهيد 3/ 69؛ المغني 4/ 325؛ شرح الكوكب المنير 3/ 564.
القول الثاني: إنه يجوز الأكل والشرب إلى الإسفار.
وروي ذلك عن جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم منهم حذيفة رضي الله عنه
(1)
.
وقال به بعض التابعين، منهم: معمر، والأعمش
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يجوز السحور بعد طلوع الفجر الثاني- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
(3)
. فإنه بظاهره يدل على تحريم الأكل والشرب بعد تبيين خيط بياض النهار، وهو يحصل بطلوع الفجر
(4)
.
ثانياً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث سهل به سعد، وعدي بن حاتم، وسمرة بن جندب-رضي الله عنهم؛ فإنها تدل على حرمة
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 949 - 952؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 314؛ فتح الباري 4/ 163.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 4/ 230؛ جامع البيان 2/ 949؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 314؛ فتح الباري 4/ 163؛ عمدة القاري 8/ 64؛ تحفة الأحوذي 3/ 444.
(3)
سورة البقرة، الآية (187).
(4)
انظر: بداية المجتهد 2/ 564؛ المغني 4/ 325.
الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذِّنُ بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابنُ أم مكتوم
(2)
. قال: وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت
(3)
.
فإنه يدل على أن السحور لا يكون إلا قبل الفجر، لقوله:«إن بلالاً ينادي بليل» ثم منعهم من ذلك عند أذان ابن مكتوم
(4)
.
رابعاً: عن طلق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا، ولا يُهيدنّكم
(5)
الساطع المُصعد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر»
(6)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 53، 54؛ المجموع 6/ 210.
(2)
هو: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم، القرشي، وقيل اسمه: عبد الله بن عمرو، وقيل غير ذلك، أسلم قديماً بمكة، وكان من المهاجرين الأولين، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الله بن شداد، وابن أبي ليلى، وغيرهما، وخرج إلى القادسية فقيل: استشهد بها، وقيل: رجع بعدها إلى المدينة، وتوفي بها. انظر: الإصابة 2/ 1046، 1313.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 126، كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، ح (617)، ومسلم في صحيحه 4/ 426، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، ح (1092)(36).
(4)
انظر: التمهيد 3/ 69.
(5)
لا يهيدنكم: هو من هاد يهيد، هيداً، وهو: الزجر والإنزعاج، وأصله: الحركة. والمعنى: أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمنعوا به عن السحور. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 921؛ فتح الباري 4/ 163.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه ص 358، كتاب الصيام، باب وقت السحور، ح (2348)، والترمذي في سننه ص 176، كتاب الصوم، باب ما جاء في بيان الفجر، ح (705)، وأحمد في المسند 26/ 219، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 929، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 54، والدارقطني في سننه 2/ 166. قال أبو داود بعد ذكر الحديث:(هذا مما تفرد به أهل اليمامة). وقال الترمذي: (حديث حسن غريب). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 176: (حسن صحيح).
فهذا كذلك يدل على جواز السحور إلى طلوع الفجر الثاني-وهو البياض المعترض الذي لونه الحمرة- وعلى عدم جوازه بعد ذلك
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز السحور إلى الإسفار- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث حذيفة، وأنس-رضي الله عنهما، وحكيم بن جابر. وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(2)
.
ثالثاً: عن علي رضي الله عنه أنه صلى الصبح ثم قال: (الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود)
(3)
.
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 929؛ شرح معاني الآثار 2/ 54؛ فتح الباري 4/ 163؛ تحفة الأحوذي 3/ 443.
(2)
سورة البقرة، الآية (187).
(3)
قال ابن حجر في الفتح 4/ 164: (وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي -فذكره-).
رابعاً: عن سالم بن عبيد الأشجعي
(1)
، أن أبا بكر رضي الله عنه قال له:(اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم أتيته فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ فنظرت فقلت: قد اعترض، فقال: الآن ابلغني شرابي)
(2)
.
ويستدل من هذه الأدلة على جواز السحور إلى الإسفار: بأن المراد بالخيط الأبيض في الآية الكريمة هو ضوء الشمس. وأن حديث حذيفة رضي الله عنه وما في معناه يدل على جواز السحور بعد طلوع الفجر الثاني، كما يدل عليه ما روي عن علي، وأبي بكر-رضي الله عنهما
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن الصحيح في تفسير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو
قوله-كما في حديث عدي بن حاتم-: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار»
(4)
.
(1)
هو: سالم بن عبيد الأشجعي، له صحبة، وكان من أهل الصفة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: خالد بن عرفجة، وهلال بن يساف، وغيرهما. انظر: الإصابة 1/ 677؛ تهذيب التهذيب 3/ 383.
(2)
ذكر ابن حجر في الفتح 4/ 164: أن ابن المنذر روى بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد-فذكره-.
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 949 - 952؛ بداية المجتهد 2/ 565؛ المغني 4/ 325؛ فتح الباري 4/ 164؛ عمدة القاري 8/ 64.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
وهو الموافق للأحاديث الكثيرة الصحيحة والتي تدل على أن آخر وقت السحور هو طلوع الفجر الصادق
(1)
.
ثانياً: إن الأحاديث التي يستدل منها على جواز السحور بعد طلوع الفجر الثاني، لا تقوى على معارضة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث كثيرة والتي تدل على أن آخر وقت السحور هو طلوع الفجر الصادق، ثم هذه الأحاديث التي يستدل منها على جواز السحور إلى الإسفار، ليست صريحة في ذلك، غير حديث حذيفة رضي الله عنه. وحديثه روي عنه بألفاظ مختلفة، بعضها تفيد جواز السحور بعد طلوع الفجر الثاني، وبعضها محتملة له ولغيره، ولذلك يكون الأولى حمل قوله:(هو الصبح) أي هو الصبح شبهاً به وقرباً منه
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول- وهو أنه لا يجوز السحور بعد طلوع الفجر الصادق، وذلك لما يلي:
أولاً: لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(3)
.
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 952؛ فتح الباري 4/ 163.
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 953؛ شرح معاني الآثار 2/ 53، 54؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 278؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 314.
(3)
سورة البقرة، الآية (187).
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار»
(1)
.
وبياض النهار إنما يكون بدايته من طلوع الفجر الصادق. فتكون في هذه الآية، وهذا الحديث دلالة على تحريم السحور بعد طلوع الفجر الصادق
(2)
.
ثانياً: ولكثرة الأحاديث الدالة على أن آخر وقت السحور هو طلوع الفجر الصادق حتى بلغت التواتر، مع صحتها وصراحتها في الدلالة، بخلاف أدلة القول الثاني؛ ولذلك فإنها لا تقوى على معارضتها، مع أنها-أي أدلة القول الثاني- أكثرها محتملة لأكثر من احتمال واحد
(3)
.
ثالثاً: ولأن القول بأن حديث حذيفة رضي الله عنه وما في معناه منسوخ بالأدلة الدالة على تحريم السحور بعد طلوع الفجر الثاني، له وجه واحتمال؛ حيث يظهر من حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم-رضي الله عنهما: أن بعض الصحابة كانوا يتسحرون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود-والمراد به الخيط من شعر ونحوه- ثم نزل قوله تعالى: {مِنْ الْفَجْرِ} ، وبين المراد بالخيط، وحرم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير، ويدل على هذا التحريم كذلك حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم، وسمرة بن جندب-رضي الله عنهم، فتكون الأدلة الدالة على تحريم
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
انظر: بداية المجتهد 2/ 564؛ فتح الباري 4/ 162.
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 953؛ شرح معاني الاثار 2/ 54.
الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير، هي المتأخرة، والناسخة للأدلة التي تفيد جواز الأكل والشرب إلى الإسفار، وقبل طلوع الشمس
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 53، 54؛ الاعتبار ص 362؛ رسوخ الأحبار ص 351 - 352؛ فتح الباري 4/ 162.
المطلب الخامس: حكم صوم من أصبح وهو جنب
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه كان في أول الإسلام عدم صحة صوم من أصبح وهو جنب، ثم نسخ ذلك
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: ابن خزيمة
(2)
، وابن المنذر
(3)
، والخطابي
(4)
، وابن حزم
(5)
، وأبو حامد الرازي
(6)
، وأبو إسحاق الجعبري
(7)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: اختلاف الآثار فيها، والقول بالنسخ
(8)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
(1)
وقد نسب ابن القيم القول بالنسخ إلى الجمهور. انظر: المجموع 6/ 213؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 266؛ فتح الباري 4/ 176.
(2)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 967.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 363؛ فتح الباري 4/ 176.
(4)
انظر: معالم السنن له 3/ 266.
(5)
انظر: الإحكام له 1/ 499.
(6)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 61.
(7)
انظر: رسوخ الأحبار ص 353.
(8)
راجع المصادر في الحواشي السبعة السابقة.
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
(1)
.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُدركه الفجر جنباً في رمضان
من غير حُلُم، فيغتسل ويصوم»
(2)
.
ثالثاً: وعنها-رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله! تُدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تُدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي»
(3)
.
رابعاً: عن أم سلمة-رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً، من غير احتلام، ثم يصوم»
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (187).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 381، كتاب الصوم، باب اغتسال الصائم، ح (1930)، ومسلم في صحيحه 4/ 443، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح (1109)(76).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 445، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح (1110)(79).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 381، كتاب الصوم، باب اغتسال الصائم، ح (1932)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 445، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح (1109)(80).
ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:
أولاً: إنه قد مرّ أن الجماع كان محرماً على الصائم بعد النوم عند ابتداء فرض الصيام، فيحتمل أن يكون ما يدل على عدم صحة صوم من أصبح وهو جنب كان حينئذٍ، ثم أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر، كما يدل عليه الآية الكريمة، فكان للمجامع أن يستمِرّ إلى طلوع الفجر، فيلزم منه أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر. وبذلك تكون الأدلة الدالة على صحة صوم من أصبح وهو جنب ناسخة لما يدل على عدمه
(1)
.
ثانياً: إن في حديث عائشة-رضي الله عنها-ما يدل على أنه متأخر عن ما يدل على خلافه، وهو قوله:(قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)؛ حيث إن فيه إشارة إلى آية سورة الفتح، وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست. أما ابتداء فرض الصوم فقد كان في السنة الثانية من الهجرة. فيدل ذلك على أن ما يدل على صحة صوم من أصبح وهو جنب، متأخر
عن ما يدل خلافه، فيكون ذلك ناسخاً له
(2)
.
ثالثاً: إنه يدل كذلك على تأخر ما يدل على صحة صوم من أصبح وهو جنب: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذا الحكم، ومحال أن يخفى
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 966؛ معالم السنن 3/ 266؛ الاستذكار 3/ 175؛ فتح الباري 4/ 176.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 176.
هذا عليهن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بينهن إلى أن مات، في الصوم والفطر، وقد أخبرن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنباً ثم يصوم، فلو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه ما يخالفه، ولم تحتج بفعله الذي كان يفعله. فثبت منه أن ما يدل على صحة صوم من أصبح وهو جنب متأخر وناسخ لما يخالفه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في صحة صوم من أصبح وهو جنب على أقوال أشهرها خمسة، وهي:
القول الأول: إنه يصح صوم من أصبح وهو جنب، فيغتسل ويصوم.
وهو قول المذاهب الأربعة
(2)
، وعامة أهل العلم من الصحابة والتابعين
(3)
.
وممن روي عنه ذلك أو قال به: علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو ذر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة-رضي الله
(1)
انظر: تهذيب السنن لابن القيم 3/ 266.
(2)
انظر: "شرح معاني الآثار 2/ 103 - 107؛ بدائع الصنائع 2/ 240؛ عمدة القاري 8/ 82؛ "الكافي لابن عبد البر ص 122؛ بداية المجتهد 2/ 574؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 3/ 375؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 832؛ " الأم 2/ 107؛ مختصر المزني ص 82؛ الحاوي 3/ 414؛ المجموع 6/ 212؛ " المغني 4/ 391؛ المحرر 1/ 229؛ الممتع 2/ 260؛ الإنصاف 7/ 432".
(3)
انظر: معالم السنن 3/ 265؛ المغني 4/ 391؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 444.
عنهم-، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو عبيد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن جرير الطبري
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى ارتفاع الخلاف فيه، وأنه مما استقر عليه الإجماع
(2)
.
القول الثاني: إنه لا يصح صوم من أصبح وهو جنب.
وهو المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحُكي عن الحسن بن صالح
(3)
.
القول الثالث: إنه يتم صومه ويقضيه.
حُكي ذلك عن الحسن، وسالم بن عبد الله
(4)
.
القول الرابع: إنه يقضي في الفرض دون التطوع.
وهو رواية عن إبراهيم النخعي
(5)
.
القول الخامس: إنه إن علم بجنابته في رمضان، فلم يغتسل حتى أصبح فلا يصح صومه، وإن لم يعلم فيصح.
وهو رواية عن أبي هريرة، وقول عروة، وطاوس
(6)
.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 329؛ التمهيد 7/ 193؛ الاستذكار 3/ 174؛ الاعتبار ص 345؛ المغني 4/ 391؛ المجموع 6/ 212؛ عمدة القاري 8/ 82.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 444؛ فتح الباري 4/ 175.
(3)
انظر: المغني 4/ 392؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 444؛ تهذيب السنن 3/ 265؛ فتح الباري 4/ 175.
(4)
انظر: المغني 4/ 392؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 265.
(5)
انظر: المغني 4/ 392؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 265.
(6)
انظر: المغني 4/ 392؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 265.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو صحة صوم من أصبح وهو جنب- بأدلة، منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على صحة صوم من أصبح وهو جنب
(1)
.
دليل بقية الأقوال
ويستدل لأصحاب بقية الأقوال بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو قوله: لا، ورب الكعبة ما أنا قلت:«من أصبح وهو جنب فليفطر» محمد صلى الله عليه وسلم قاله
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح، وأحدكم جنب، فلا يصم يومئذٍ»
(3)
.
فهذا الحديث فيه الأمر بالإفطار إذا أصبح الشخص وهو جنب، كما فيه النهي عن الصوم يومئذ، فيدل على عدم صحة صوم من أصبح وهو
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 102 - 106؛ الحاوي 3/ 414؛ المغني 4/ 392؛ المجموع 6/ 213.
(2)
أصله في الصحيحين، وأخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة في سننه ص 297، كتاب الصيام، باب ما جاء في الرجل يصبح جنباً وهو يريد الصوم، ح (1702)، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 260، وعبد الرزاق في المصنف 3/ 181، وأحمد في المسند 12/ 347، وابن عبد البر في التمهيد 7/ 189، والحازمي في الاعتبار ص 343.
وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 297.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 13/ 490، وابن حبان في صحيحه ص 968. وهو على شرط الشيخين.
جنب. فحمله بعضهم على العموم، وبعضهم على المتعمد، وبعضهم على صوم الفرض
(1)
.
واعترض عليه: بأنه رُوي مرفوعاً، ورُوي من فتوى أبي هريرة رضي الله عنه، ثم هو لا يقوى على معارضة ما يخالفه؛ لقوته-أي ما يخالفه- وصحته بلا خلاف. ثم لا يتجاوز كونه منسوخاً؛ حيث يوجد فيما يخالفه ما يدل على تأخره عليه
(2)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح والصحيح هو القول الأول، وهو صحة صوم من أصبح وهو جنب، وذلك لما يلي:
أولاً: لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
(3)
.؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى أباح في هذه الآية الجماع في الليل، وهو يكون إلى بداية النهار، والنهار يبدأ بطلوع الفجر، ففيه دلالة على صحة صوم من أصبح وهو جنب. ويؤكد ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وتقريره، فيما رواه عنه عائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهما
(4)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 344؛ المغني 4/ 392؛ المجموع 6/ 212.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 102 - 106؛ التمهيد 7/ 189؛ الاستذكار 3/ 175؛ الاعتبار ص 346؛ فتح الباري 4/ 174 - 177.
(3)
سورة البقرة، الآية (187).
(4)
انظر: الاستذكار 3/ 175؛ المغني 4/ 392، 393؛ المجموع 6/ 213.
ثانياً: ولقوة وكثرة الأدلة الدالة على صحة صوم من أصبح وهو جنب.
ثالثاً: ولأن القول بنسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه له وجه؛ حيث يوجد في الأدلة المخالفة له ما يدل على تأخرها عليه، كما سبق ذكر ذلكوالله أعلم.
المطلب السادس: تخيير مطيق الصيام بينه وبين الإطعام
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الشخص المطيق للصيام كان مخيراً في أول فرض الصيام بين أن يصوم، وبين أن يفطر ويفتدي عنه لكل يوم مسكيناً، ثم نسخ هذا التخيير بحتم الصيام ووجوبه على كل من يطيقه من غير أصحاب الأعذار
(1)
.
وممن روي عنه ذلك وقال به: ابن عمر
(2)
، وسلمة بن الأكوع
(3)
، ومعاذ بن جبل
(4)
، وابن عباس
(5)
رضي الله عنهم، والشافعي
(6)
، وأبو جعفر النحاس
(7)
، وابن حزم
(8)
، والبيهقي
(9)
،
(1)
انظر: جامع البيان 1/ 898 - 902؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 215؛ الإحكام لابن حزم 1/ 501؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 19؛ نواسخ القرآن 1/ 129؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 65؛ المحصول للرازي 3/ 255؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 207؛ البحر المحيط 5/ 241؛ فواتح الرحموت 2/ 83.
(2)
انظر: صحيح البخاري ص 385؛
(3)
انظر: صحيح البخاري ص 385؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 24.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 215؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 19.
(5)
انظر: سنن أبي داود ص 353؛ معالم السنن للخطابي 3/ 208؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 24.
(6)
انظر: مختصر المزني ص 86.
(7)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 23، 24.
(8)
انظر: الإحكام لابن حزم 1/ 501.
(9)
انظر: السنن الكبرى 4/ 336.
والسمعاني
(1)
، والسرخسي
(2)
، وابن العربي
(3)
، وابن قدامة
(4)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في وجوب وحتم الصيام على كل من يطيقه عاقلاً، بالغاً، من غير أصحاب الأعذار، وعدم صحة أن يفتدي عنه بطعام
(5)
.
ويدل عليه وعلى النسخ ما يلي:
(6)
.
ثانياً: عن سلمة رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)
(7)
.
(1)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429.
(2)
انظر: أصول السرخسي 2/ 62.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 19.
(4)
انظر: روضة الناظر 1/ 146.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة، وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص 70؛ بدائع الصنائع 1/ 225؛ بداية المجتهد 2/ 556؛ المجموع 6/ 162؛ الكافي لابن قدامة 1/ 221 - 225.
(6)
سورة البقرة، الآية (185).
(7)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 929، كتاب التفسير، باب {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، ح (4507)، ومسلم في صحيحه 4/ 474، كتاب الصيام، باب بيان نسخ قوله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية} ، ح (1145)(149).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة: 185]
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أنه قرأ {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة: 184]، قال: هي منسوخة
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: نسخت هذه الآية-يعني: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} - التي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(3)
.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 184]، قال: (كان
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 475، كتاب الصيام، باب بيان نسخ قوله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية} ، ح (1145)(150).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 929، كتاب التفسير، باب {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، ح (4506).
(3)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 1/ 899.
الرجل يصبح صائماً والمرأة في شهر رمضان، ثم إن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، فنسختها:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185])
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكيناً ويفطر كان ذلك رخصة له، فأنزل الله في الصوم الآخر: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين، فنسخت الفدية، وثبت في الصوم الآخر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وهو الإفطار في السفر، وجعله عدة من أيام أخر)
(2)
.
خامساً: عن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: (نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، فأمروا بالصوم)
(3)
.
(1)
أخرجه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 24، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 238، من طريق الإمام أحمد.
(2)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 1/ 900.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن نمير عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، فذكره. صحيح البخاري ص 385، كتاب الصوم، باب {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} . وأخرج نحوه ابن جرير في جامع البيان 1/ 899، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 336. وقال ابن حجر في فتح الباري 4/ 222:(وصله أبو نعيم في المستخرج، والبيهقي من طريقه-فذكر لفظ البيهقي، ثم قال: -وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش، مطولاً في الأذان والقبلة والصيام، واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً، وطريق ابن نمير هذه أرجحها).
فهذه الأدلة تدل على أن الإفطار ممن يطيق الصيام والافتداء عنه بطعام، كان رخصة في أول فرض الصيام، ثم نسخ ذلك وصار الصيام على من يطيقه حتماً واجباً، إذا لم يكن له عذر
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 336؛ الإحكام لابن حزم 1/ 501؛ نواسخ القرآن 1/ 237؛ فتح الباري 4/ 222.
المطلب السابع: الفطر بالحجامة
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن فطر الصوم بالحجامة قد نسخ، لذلك ليست الحجامة من مفطرات الصوم
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي
(2)
، وابن شاهين
(3)
، والبيهقي
(4)
، وابن حزم
(5)
، وابن عبد البر
(6)
، والحازمي
(7)
، وابن العربي
(8)
، وأبو حامد الرازي
(9)
، وأبو إسحاق الجعبري
(10)
، وبدر الدين العيني
(11)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى عكس القول السابق، فقالوا: إن الفطر بالحجامة هو الناسخ لما يخالفه
(12)
.
(1)
ونسب الحازمي القول بالنسخ إلى أكثر أهل العلم. انظر: الاعتبار ص 352؛ المجموع 6/ 254؛ فتح الباري 4/ 210؛ عمدة القاري 8/ 128؛ فتح القدير لابن الهمام 2/ 37.
(2)
انظر: اختلاف الحديث 1/ 197؛ مختصر المزني ص 85؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 446.
(3)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 444.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 445.
(5)
انظر: المحلى 4/ 337.
(6)
انظر: الاستذكار 3/ 207.
(7)
انظر: الاعتبار ص 352.
(8)
انظر: القبس لابن العربي-مع التمهيد والاستذكار-9/ 221.
(9)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 61.
(10)
انظر: رسوخ الأحبار ص 358.
(11)
انظر: عمدة القاري 8/ 128.
(12)
انظر: الشرح الكبير 7/ 421؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 251؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 911.
وممن صرح به: ابن قدامة
(1)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
ويتبين مما سبق، ومما يأتي من أدلة الأقوال أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان:
اختلاف الآثار الواردة فيها، والقول بالنسخ
(3)
.
ويستدل لمن قال بنسخ الفطر بالحجامة بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم»
(4)
.
(1)
انظر: المغني 4/ 351.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 25/ 224، 255.
(3)
راجع المصادر في الحواشي السابقة من بداية المسألة، وانظر: بداية المجتهد 2/ 568.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 383، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، ح (1938). قال ابن حجر في الفتح 4/ 210 - بعد ذكر الحديث-:(هكذا أخرجه من طريق وهيب عن عكرمة عن ابن عباس، وتابعه عبد الوارث عن أيوب موصولاً كما سيأتي في الطب، ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله، وقد بين ذلك النسائي، وقال مهنا: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال: ليس فيه (صائم) إنما هو (وهو محرم) ثم ساقه من طرق عن ابن عباس، لكن ليس فيه طريق أيوب هذه، والحديث صحيح لا مرية فيه). والحديث رواه كذلك يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه، والحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه، وحبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه. روى ذلك كله الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 101. وانظر: الاعتبار ص 353؛ إرواء الغليل 4/ 75.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم»
(1)
.
وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم»
(2)
.
وفي رواية رابعة عنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فيما بين مكة والمدينة،
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 361، كتاب الصيام، باب في الرخصة في ذلك، ح (2373)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 191، كتاب الصوم، باب ما جاء من الرخصة في ذلك، ح (775)، وابن ماجة في سننه ص 294، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، ح (1682)، وأحمد في المسند 3/ 348، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 102. والحديث رواه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس. ورواه الترمذي من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الطحاوي من طريق حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس. ورجال الترمذي ثقات رجال الشيخين. وكذلك رجال الطحاوي ثقات رجال الشيخين إلا شيخه محمد بن خزيمة، وهو ثقة. ولذلك قال الترمذي بعد ذكر الحديث:(هذا حديث حسن صحيح. وهكذا روى وهيب نحو رواية عبد الوارث، وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة مرسلاً). وضعفه أحمد بن حنبل، فقال: ليس فيه: (صائم، وإنما هو محرم)، وذكر أن أصحاب ابن عباس كعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير لا يذكرون فيه:(صائم) انظر: التنقيح لابن عبد الهادي 2/ 325. لكن يقال: رواه كذلك عن ابن عباس-بذكر الصوم- عكرمة، وميمون بن مهران، ومقسم. وهم كذلك من أصحاب ابن عباس رضي الله عنه. وقد صحح الرواية بذكر الصوم: البخاري، والترمذي. انظر: التنقيح 2/ 325.
كما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده-منحة- ص 187، من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 383، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، ح (1939).
وهو محرم صائم»
(1)
.
وفي رواية خامسة عنه رضي الله عنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وهو محرم، من وجعٍ كان به، بماء يقال له: لحيُ جملٍ
(2)
(3)
.
ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم»
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 361، كتاب الصيام، باب في الرخصة في ذلك، ح (2373)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 191، كتاب الصوم، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، ح (777)، وابن ماجة في سننه ص 294، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، ح (1682)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 213، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 101، والدارقطني في سننه 2/ 239. وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس، ويزيد فيه ضعف كما قاله الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 76، لكنه لم ينفرد به؛ حيث يوجد له متابعات، كما يوجد له طرق، منها: رواية أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، رواه الترمذي وغيره. ولذلك قال الترمذي بعد ذكر الحديث: (حديث حسن صحيح)، وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 191:(منكر بهذا اللفظ).
(2)
لحي جمل: موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السُّقْيَا. انظر: معجم البلدان 2/ 76، 4/ 176؛ فتح الباري 4/ 60، 10/ 178؛ أطلس الحديث النبوي ص 125.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1225، كتاب الطب، باب الحجم من الشقيقة والصداع، ح (5700).
(4)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 948، والدارقطني في سننه-واللفظ له- 2/ 182، وابن حزم في المحلى 4/ 337، والحازمي في الاعتبار ص 355. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 173:(رواه البزار والطبراني في الأوسط، إلا أنه قال: (رخص في القبلة والحجامة للصائم) ورجال البزار رجال الصحيح). وقال الدارقطني بعد ذكر الحديث: (كلهم ثقات، ورواه الأشجعي أيضاً وهو من الثقات). وقال ابن حزم بعد ذكر الحديث: (قال علي: إن أبا نضرة، وقتادة أوقفاه عن أبي المتوكل على أبي سعيد، وإن ابن المبارك أوقفه عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل على أبي سعيد؛ ولكن مع هذا لا معنى له إذ اسنده الثقة، والمسندان له عن خالد وحميد ثقتان؛ فقامت به الحجة). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 210: (والحديث المذكور أخرجه النسائي، وابن خزيمة، والدارقطني، ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 74، بعد ذكر كلام ابن حجر:(قلت: قد توبع معتمر عليه- فذكره من طريق الطبراني، وتكلم على رجاله، ثم قال: -فالسند صحيح- ثم إن له عن أبي المتوكل طريق أخرى، فذكرها عن طريق الداقطني، والطبراني، والبيهقي، ثم قال: - قلت: فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شك فيه).
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب
(1)
احتجم وهو صائم، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أفطر هذان» ثم رخّص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم
(2)
.
(1)
هو: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو عبد الله، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، وأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستشهد بمؤتة من أرض الشام، سنة ثمان في جماد الأولى. انظر: الإصابة 1/ 272.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 182، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 432، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 447، والحازمي في الاعتبار ص 354، وابن العربي في القبس 9/ 221. قال الدارقطني-وأقره البيهقي-:(كلهم ثقات، ولا أعلم له علة). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 2/ 326 - بعد ذكر قول ابن الجوزي: (قد قال أحمد بن حنبل: خالد بن مخلد له أحاديث مناكير) -: (وقالوا: هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه شاذ الإسناد والمتن، ولم يخرجه أحد من أئمة الكتب الستة، ولا رواه أحمد في مسنده، ولا الشافعي، ولا أحد من أصحاب المسانيد المعروفة، ولا يعرف في الدنيا أحد رواه غير الدارقطني عن البغوي-إلى أن قال: -وكيف يكون هذا الحديث صحيحاً سالماً من الشذوذ والعلة، ولم يخرجه أحد من أئمة الكتب الستة، ولا المسانيد المشهورة، وهم محتاجون إليه أشد حاجة-إلى أن قال: - وقوله في رواة هذا الحديث: كلهم ثقات ولا أعلم له علة، فيه نظر من وجوه: أحدها: أن الدارقطني نفسه تكلم في رواية عبد الله بن المثنى، وقال: ليس هو بالقوي في حديث رواه البخاري في صحيحه. والثاني: أن خالد بن ملخد القطواني، وعبد الله بن المثنى قد تكلم فيهما غير واحد من الحفاظ، وإن كانا من رجال الصحيح. - إلى أن قال: -الثالث: أن عبد الله بن المثنى قد خالفه في روايته عن ثابت هذا لحديث أمير المؤمنين في الحديث-إلى أن قال: - ثم إن سلم صحة هذا الحديث لم يكن فيه حجة؛ لأن جعفر بن أبي طالب قتل في غزوة مؤتة، وكانت غزوة مؤتة قبل الفتح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان عام الفتح بعد قتل جعفر). ويؤخذ على قول ابن عبد الهادي: (ولا يعرف في الدنيا أحد رواه غير الدارقطني عن البغوي) بأن ابن شاهين رواه كذلك عن طريق البغوي، فلم ينفرد به الدارقطني. كما يؤخذ عليه تعليله للحديث بأنه لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة ولا أحد من أصحاب المسانيد والسنن المشهورة غير الدارقطني. بأن هذا ليس علة قادحة في الحديث. على أن حديث أنس هذا معناه معنى حديث أبي سعيد الخدري السابق، وهو قد رواه بعض أصحاب المصنفات المشهورة. كما أنه يوجد من أصحاب المصنفات المشهورة من روى عن أنس بن مالك ما يوافق معناه مع رواية أنس السابقة،
ومنها الرواية الآتية بعد هذه الرواية.
وقال ابن حجر في الفتح 4/ 210: (رواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك). وذكر الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 73، قول الدارقطني والبيهقي، ثم قال:(وهو كما قالا) ثم ذكر ما قاله ابن حجر، ثم قال:(كذا قال، وليس في المتن، حتى ولا في سياق الحافظ أن ذلك كان في الفتح، فالله أعلم.).
وفي رواية عنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعد ما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجوه الآتية:
أولاً: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، وابن عباس رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم محرماً قبل حجة الوداع، فيكون حجامة النبي صلى الله عليه وسلم هذا ناسخاً لما يدل على الفطر بالحجامة؛ لأن هذا كان سنة عشر، وما يدل على الفطر بالحجامة كان عام الفتح، وهو كان سنة ثمان. والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إنه لا يصح الاستدلال على النسخ من قوله: (احتجم وهو صائم)؛ لأنه لا يدل على تأخره على أحاديث الإفطار بالحجامة.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 173: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه طريف أبو سفيان، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن عدي). وأخرج نحوه الدارقطني في سننه 2/ 182، وقال:(هذا إسناد ضعيف، واختلف عن ياسين الزيات وهو ضعيف). وانظر: إرواء الغليل 4/ 73.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 446؛ الاستذكار 3/ 207؛ الاعتبار ص 353؛ فتح الباري 4/ 210.
أما الاستدلال من قوله: (احتجم وهو محرم صائم) على النسخ، فلا يصح كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعمرة الحديبية سنة ست، وأحرم من العامل القابل بعمرة القضية، وكان ذلك قبل سنة ثمان، ثم دخل مكة ولم يكن محرماً، ثم اعتمر من الجعرانة، ثم حج حجة الوداع، فاحتجامه وهو صائم لم يبين في أي إحراماته كان، وإنما يمكن دعوى النسخ إذا كان ذلك وقع في حجة الوداع، أو عمرة الجعرانة حتى يتأخر ذلك عن عام الفتح الذي بين فيه الفطر بالحجامة، ولا يوجد ما يدل على أن ذلك كان في حجة الوداع أو عمرة الجعرانة حتى يصح الاستدلال منه على النسخ.
وكون ابن عباس رضي الله عنه أنه روى ذلك، وهو لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم محرماً إلا في حجة الوداع، لا يدل على كون ذلك في حجة الوداع؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه لم يقل أنه شهد ذلك أو رآه، فيمكن أن يكون أخذه عن أحد من الصحابة؛ فإن أكثر روايات ابن عباس رضي الله عنه إنما أخذها عن الصحابة-رضي الله عنهم
(1)
.
وأجيب عنه: بأن الأصل في رواية ابن عباس رضي الله عنه، هو كونه أنه شهد ذلك بنفسه، فإن قوله:(احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وهو محرم، من وجعٍ كان به، بماء يقال له: لحيُ جملٍ). مع قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فيما بين مكة والمدينة، وهو محرم صائم) يؤكد ذلك؛ ثم هو لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم لا في عمرة الحديبية، ولا في عمرة القضاء، وإذا كان ذلك
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 25/ 254؛ تهذيب سنن أبي داود 3/ 249 - 251.
كذلك فهو لا يصح إلا أن يكون في حجة الوداع؛ لأنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم محرماً قبل ذلك. كما يدل على تأخر ذلك حديث أبي سعد الخدري، وأنس بن مالك-رضي الله عنهما
(1)
.
ب-إنه ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن الصوم كان فرضاً، ولعله كان صوم نفل خرج منه، ولو ثبت أنه صوم فرض، فالظاهر أن الحجامة كانت للعذر، ويجوز الخروج من صوم الفرض بعذر المرض، والراوي لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي على الصوم، وإنما رآه يحتجم وهو صائم، فأخبر بما شاهده ورآه، ولا علم له بنية النبي صلى الله عليه وسلم ولا بما فعل بعد الحجامة
(2)
.
وأجيب عنه: بأن الحديث إنما ورد هكذا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت منه الحجامة وهو صائم ولم يتحلل من صومه، بل استمرّ فيه، سواء كان الصوم فرضاً أم نفلاً
(3)
.
ثانياً: -من وجوه النسخ-إن حديث أبي سعيد الخدري، وأنس-رضي الله عنهما يدلان على نسخ الفطر بالحجامة؛ لأنه جاء فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم، والرخصة في الغالب لا تكون إلا بعد النهي،
(1)
ونقل ابن حجر عن ابن عبد البر: أن حديث ابن عباس رضي الله عنه جاء في بعض طرقه: أن ذلك كان في حجة الوداع. انظر: الاستذكار 3/ 207؛ الاعتبار ص 353 - 355؛ فتح الباري 4/ 210.
(2)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 945؛ تهذيب السنن 3/ 250؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 912.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 210؛ عمدة القاري 8/ 129.
فثبت من ذلك أن الرخصة متأخرة عن أحاديث الفطر
بالحجامة، فتكون ناسخة لها
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه مختلف في رفعه ووقفه، أما حديث أنس رضي الله عنه ففي سنده كلام، وفي المتن ما ينكر، وهو: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في غزوة مؤتة، وكانت غزوة المؤتة قبل الفتح، وثبت الفطر بالحجامة عام الفتح بعد مقتل جعفر
(2)
.
وأجيب عنه: بأن حديث أبي سعيد رضي الله عنه روي مرفوعاً وموقوفاً، لكن الذي رفعه ثقة، فقامت به الحجة، ولا يضره وقف من وقفه
(3)
.
أما حديث أنس رضي الله عنه فرجال إسناده رجال الصحيح، وصححه غير واحد من أهل العلم
(4)
.
أما أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قتل قبل فتح مكة، فهذا صحيح، لكن حديث أنس رضي الله عنه لا يدل على أن الرخصة كانت قبل فتح مكة، بل فيه:(ثم رخّص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم)، وحرف (ثم) يدل على
(1)
انظر: المحلى 4/ 337؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 447؛ الاعتبار ص 355؛ نصب الراية 2/ 481؛ إرواء الغليل 4/ 73.
(2)
انظر: تهذيب السنن 3/ 251، 252؛ التنقيح 2/ 327.
(3)
انظر: المحلى 4/ 337.
(4)
انظر: سنن الدارقطني 2/ 182؛ فتح الباري 4/ 210؛ عمدة القاري 8/ 128؛ إرواء الغليل 4/ 73.
التراخي
(1)
، فهو يدل على تأخر الرخصة على الفطر بالحجامة، ولا يدل على أن هذه الرخصة كانت قبل الفتح، ورواية أنس رضي الله عنه الثانية تؤكد ذلك؛ حيث بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعد حديث الفطر بالحجامة، فيثبت من مجموع ذلك أن الرخصة في الحجامة للصائم جاءت متأخرة عن أحاديث الفطر بالحجامة، فتكون ناسخة لها
(2)
.
ب-إن القول بأن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي والحظر غير صحيح؛ لأنه قد جاء في غير ما حديث لفظ الرخصة، منها حديث: «أن الماء من الماء كانت رخصة في أول
الإسلام»
(3)
. مع أنه لم يتقدمه حظر
(4)
.
وأجيب عنه: بأن لفظ الرخصة وإن كان لا يدل في كل الحالات على أنه يتقدمه حظر، إلا أنه يدل على ذلك في الغالب، والرخصة في هذه الأحاديث من قبيل هذا الغالب؛ وقد وجد ما يؤكد ذلك؛ حيث جاء في حديث أنس رضي الله عنه:«ثم رخّص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم» . فدل ذلك أن هذه الرخصة بعد حظر سابق، فتكون ناسخة له
(5)
.
ثالثاً: -من وجوه النسخ- أن حديث أنس رضي الله عنه صريح في النسخ؛ حيث
(1)
انظر: الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 1/ 116؛ أصول الفقه الإسلامي للزحيلي 1/ 384.
(2)
انظر: الاعتبار ص 354، 355؛ عمدة القاري 8/ 128؛ إرواء الغليل 4/ 73.
(3)
سبق تخريجه في ص 385.
(4)
انظر: تهذيب السنن 3/ 253.
(5)
انظر: الاعتبار ص 354، 355؛ عمدة القاري 8/ 120؛ إروء الغليل 4/ 73، 75.
جاء فيه أن هذه الرخصة كانت بعد قوله: «أفطر هذان» . فتكون الرخصة متأخرة وناسخة للفطر بالحجامة
(1)
.
ويستدل لمن قال بأن الفطر بالحجامة هو الناسخ لما يخالفه بما يلي:
أولاً: عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه مرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع، لثمانَ عشرةَ خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(2)
.
ثانياً: عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»
(3)
.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 447؛ الاعتبار ص 355؛ نصب الراية 2/ 480؛ إرواء الغليل 4/ 75.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 360، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، ح (2369)، وابن ماجة في سننه ص 294، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، ح (1681)، و عبد الرزاق في المصنف 4/ 209، و ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 306، والإمام أحمد في المسند-واللفظ له- 28/ 336، والطيالسي في مسنده-منحة-ص 187، والدارمي في سننه 2/ 25، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 319، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 99، وابن حبان في صحيحه ص 978، والحاكم في المستدرك 1/ 592. وصححه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، والإمام البخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، والشيخ الألباني. انظر: المستدرك للحاكم 1/ 592؛ المحلى 4/ 339؛ تهذيب السنن 3/ 244؛ التنقيح 2/ 319؛ فتح الباري 4/ 209؛ إرواء الغليل 4/ 69، 70.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 360، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، ح (2367)، وابن ماجة في سننه ص 294، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، ح (1680)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 209، والطيالسي في مسنده-منحة-ص 286، والدارمي في سننه 2/ 25، و النسائي في السنن الكبرى 3/ 318، وابن الجارود في المنتقى ص 160، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 944، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 98، وابن حبان في صحيحه ص 978، والحاكم في المستدرك 1/ 590، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 441. وصححه الإمام أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبخاري، وابن خزيمة، والحاكم، وابن حزم، والذهبي، والشيخ الألباني. انظر: المستدرك للحاكم 1/ 590؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 445؛ المحلى 4/ 336؛ تهذيب السنن 3/ 244؛ فتح الباري 4/ 209؛ إرواء الغليل 4/ 69؛ صحيح سنن أبي داود ص 360.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لثمان عشر خلت من شهر رمضان إلى البقيع، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل يحتجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم و المحجوم»
(1)
.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة في صحيحه 2/ 944، وأخرج نحوه أحمد في المسند 37/ 93، والدارمي في سننه 2/ 25، وابن الجارود في المنتقى ص 162، وابن حبان في صحيحه ص 978، والحاكم في المستدرك 1/ 590، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 441. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين).
ثالثاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»
(1)
.
رابعاً: عن معقل بن سنان الأشجعي
(2)
رضي الله عنه أنه قال: مرَّ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 191، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم، ح (774)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 210، وأحمد في المسند 25/ 148، وابن خزيمة في صحيحه ص 944، وابن حبان في صحيحه ص 979، والحاكم في المستدرك 1/ 591، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 442. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح) وقال الإمام أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج. ونحوه قول علي ابن المديني. وصححه ابن حزم، والشيخ الألباني. انظر: سنن الترمذي ص 191؛ المحلى 4/ 336؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 444؛ تهذيب السنن 3/ 244؛ التنقيح 2/ 318؛ صحيح سنن الترمذي ص 191. وقال يحيى بن معين عن حديث رافع: هو أضعفها. وقال البخاري: هو غير محفوظ. وقال أبو حاتم: هو عندي باطل. انظر: فتح الباري 4/ 209.
(2)
هو: معقل بن سنان بن مظهِّر بن عركيّ، الأشجعي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: مسروق، والشعبي، والحسن-وروايته عنه مرسلة-وغيرهم، وكان حامل لواء قومه يوم فتح مكة، وقتل سنة ثلاث وستين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 87؛ الإصابة 3/ 1871؛ التقريب 2/ 201.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 25/ 238، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 306، والطحاوي في شرح معاني الآثار
2/ 98. وصححه ابن حزم في المحلى 4/ 336. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 172: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط). وقال الزيلعي في نصب الراية 2/ 474: (حديث معقل بن سنان رواه النسائي من حديث محمد بن فضيل عن عطاء قال: شهد عندي نفر من أهل البصرة: منهم الحسن عن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال-فذكره، ثم قال: - ثم أخرجه من حديث سليمان بن معاذ عن عطاء بن السائب به، وقال معقل بن يسار، ثم قال: وعطاء بن السائب كان قد اختلط، ولا نعلم أحداً روى هذا الحديث عنه غير هذين، على اختلافهما عليه فيه). وكذلك قال: (وفي كتاب العلل للترمذي، قلت لمحمد بن إسماعيل: حديث الحسن عن معقل بن يسار أصح، أو معقل بن سنان؟ فقال: معقل بن يسار أصح، ولم يعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب). ثم قال: (وقال صاحب التنقيح: قال علي بن المديني: رواه بعضهم عن عطاء بن السائب عن الحسن عن معقل بن سنان الأشجعي، ورواه بعضهم عن عطاء عن الحسن عن معقل بن يسار، ورواه بعضهم عن الحسن عن أسامة، ورواه بعضهم عن الحسن عن علي، ورواه بعضهم عن الحسن عن أبي هريرة، ورواه التيمي فأثبت روايتهم جميعاً، والحسن لم يسمع من عامة هؤلاء، ولا لقيه-عندنا-منهم ثوبان، ومعقل بن سنان، وأسامة، وعلي، وأبي هريرة). وانظر التنقيح 2/ 320.
وقال الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 72 - بعد ذكر ما قاله الترمذي عن البخاري في الحديث السابق-: (قلت: ويؤيد هذا رواية خالد الحذاء بسنده عن شداد المتقدمة عند السراج، وسندها صحيح، وهي فائدة عزيزة لم أجد من ذكرها، وهي شاهد قوي لحديث معقل هذا، وإن كان في سنده انقطاع بينه وبين الحسن، وكان عطاء قد اختلط، فإن موافقة حديثه لرواية خالد قد دلت على أنه قد حفظ).
خامساً: عن معقل بن يسار
(1)
رضي الله عنه قال: مرّ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم لثمان عشرة خلت من شهر رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(2)
.
(1)
هو: معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر بن حراق، المزني، أبو علي، أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عمرو بن ميمون، والحسن البصري، وغيرهما. وتوفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 88؛ الإصابة 3/ 1872؛ التقريب 2/ 201.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 172: (رواه البزار، والطبراني في الكبير، وفيه عطاء ابن السائب، وقد اختلط). وقد سبق كلام الترمذي عن الإمام البخاري أن هذا الحديث أصح عنده من حديث معقل بن سنان السابق.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً، فغشي عليه. قال: فلذلك كره الحجامة للصائم»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فغشي عليه، فنهى أن يحتجم الصائم»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجوه التالية:
أولاً: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ومحرم، ولكن لا يعرف تاريخه متى كان ذلك، والذي يقوى أن إحرامه الذي احتجم فيه وهو صائم، كان قبل فتح مكة، وإذا كان كذلك فيكون ذلك منسوخاً بأحاديث الفطر بالحجامة؛ لتأخرها؛ لأن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه صريح في ذلك؛ حيث جاء فيه أن قوله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم و المحجوم»
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 101. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 173: (رواه أحمد وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في الكبير، وفيه نصر بن باب، وفيه كلام كثير، وقد وثقه أحمد). ونصر بن باب هو أبو سهل الخراساني المروزي، تركه جماعة. وقال البخاري: يرمونه بالكذب. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وقال ابن حبان لا يحتج به. وقال أحمد بن حنبل: ما كان به بأس، إنما أنكروا عليه حين حدث عن إبراهيم الصائغ. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 250؛ تعجيل المنفعة ص 469.
(2)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 441. وفي سنده محمد ابن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ جداً، قاله ابن حجر في التقريب 2/ 105. وراويه عن ابن عباس هو مقسم، وقد ذكر النسائي في السنن الكبرى 3/ 342، أنه لم يسمعه من ابن عباس.
كان لثمان عشرة خلت من رمضان زمن الفتح
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- بأنه جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، وكذلك في غيره من بعض الأحاديث أن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أفطر الحاجم والمحجوم» كان لثمان عشرة خلت من شهر رمضان. وجاء في بعض طرق هذه الأحاديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع، وفي بعضها: أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يحتجم بالبقيع
(2)
.
وليس في هذه الأحاديث غير حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك كان زمن الفتح؛ ولذلك فليس في هذه الأحاديث غير حديث أوس رضي الله عنه ما يدل على تعيين السنة التي وقع فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، وبالتالي فلا يصح منها الاستدلال على نسخ الأحاديث التي تدل على عدم الفطر بالحجامة؛ لعدم وجود ما يدل على تأخرها عليها.
أما حديث شداد بن أوس رضي الله عنه فجاء فيه ذكر زمن الفتح، وجاء فيه ذكر البقيع، أي أن ذلك الرجل كان يحتجم بالبقيع، وهذا مما ينكر في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفح لعشر خلون من شهر رمضان، ولم يرجع إلى المدينة إلا بعد رمضان إما في ذي القعدة، وإما في ذي الحجة، فكيف يجمع فيه بين ذكر زمن الفتح، وبين أن يرى رجلاً بالبقيع
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 25/ 254، 255؛ تهذيب السنن 3/ 251.
(2)
راجع تخريج الأحاديث السابقة، وانظر: صحيح ابن حبان ص 978 - 979؛ المستدرك للحاكم 1/ 590 - 593؛ التنقيح 2/ 318 - 320.
يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان؟
(1)
.
ب-إن حديث ابن عباس رضي الله عنه وإن لم يكن فيه تصريح بأنه كان بعد الفتح حتى يكون متأخراً عن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، إلا أن حديث أبي سعيد وأنس-رضي الله عنهما يدلان على تأخره عليه؛ حيث إنهما يدلان على تأخر الرخصة على أحاديث الفطر بالحجامة؛ ولذلك لا يصح أن يكون حديث شداد بن أوس رضي الله عنه ناسخاً لحديث ابن عباس رضي الله عنه، بل قد يكون عكس ذلك هو الصحيح
(2)
.
ثانياً: -من وجوه النسخ-إن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على نسخ ما يخالف الفطر بالحجامة؛ لأنه جاء فيه أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، فغشي عليه، فنهى عن أن يحتجم الصائم. فدل ذلك أن النهي عن الحجامة للصائم جاء بعد ما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم. فيكون هذا النهي هو الناسخ لما يخالفه؛ لتأخره عنه
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-أن حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا ضعيف لا تقوم به الحجة، فلا يصح
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 399، 500؛ زاد المعاد 3/ 394؛ الرحيق المختوم ص 399، 422.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 446، 447؛ الاعتبار ص 353 - 355.
(3)
انظر: المغني 4/ 351.
الاستدلال منه على النسخ
(1)
.
ب-إن حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا يدل على كراهة الاحتجام للصائم عند خوف الضعف، وهذه مسألة، والفطر بالحجامة مسألة أخرى، فكم من أهل العلم كرهوا الحجامة
للصائم؛ لأجل التغرير والضعف، ولم يروا أنه يفطر الصائم
(2)
.
ثالثاً: -من وجوه النسخ-إن أحاديث الفطر بالحجامة ناقلة عن الأصل، والأحاديث الدالة على عدم الفطر بالحجامة مبقية عليه، وإذا جُهل التاريخ وتعارض خبران أحدهما ناقل عن الأصل والآخر مبق على الأصل فالأولى والراجح أن يجعل الناقل ناسخاً؛ لئلا يلزم تغيير الحكم مرتين؛ فإنه إذا قدر احتجامه صلى الله عليه وسلم قبل نهيه عن الحجامة لم يغير الحكم إلا مرة، وإن قُدّر بعد ذلك لزم تغييره مرتين؛ لذلك كان الأولى والراجح أن يُجعل أحاديث الفطر بالحجامة هي الناسخة لما يخالفها
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن جعل ما يخالف الأصل ناسخاً لما يخالفه، وكذلك عكس ذلك، غير صحيح عند جمهور أهل العلم؛ لاحتمال أن يكون ما يخالف الأصل
(1)
راجع الكلام عليه عند تخريجه.
(2)
انظر: النوادر والزيادات للقيرواني 2/ 46؛ المجموع 6/ 252؛ البناية للعيني 3/ 642.
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/ 224؛ التنبيه على مشكلات الهداية 2/ 911.
متقدماً على ما يوافقه
(1)
.
ب-إنه إنما يُصار إلى جعل ما يخالف البراءة الأصلية والأصل ناسخاً، إذا لم يوجد ما يدل على تأخر أحد الخبرين والنصين على الآخر. وفي المسألة المتنازع فيها يوجد ما يدل على تأخر أحد الخبرين؛ حيث إن الأحاديث الدالة على عدم الفطر بالحجامة معها ما يدل على تأخرها على أحاديث الفطر بالحجامة-وقد سبق ذكر ذلك-؛ لذلك يكون ترجيح جعل أحاديث الفطر بالحجامة ناسخة لما يخالفها؛ لكونها مخالفة للأصل، غير راجح، وغير صحيح
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في احتجام الصائم هل يفطر صومه أم لا على قولين:
القول الأول: تكره الحجامة للصائم من أجل الضعف، لكنها لا تفطر لا الحاجم ولا المحجوم.
(1)
انظر: التحرير لابن الهمام 3/ 223؛ مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت 2/ 116؛ شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص 122؛ المستصفى ص 103؛ الإحكام للآمدي 2/ 163؛ البحر المحيط 5/ 326؛ شرح الكوكب المنير 3/ 569؛ إرشاد الفحول 2/ 85؛ مناهل العرفان 2/ 227.
(2)
قد سبق ما يدل على تأخر أحاديث عدم الفطر بالحجامة في دليل القول بنسخ أحاديث الفطر بالحجامة، و وجه الاستدلال منها.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
.
والقول بعدم الفطر بالحجامة قول جمهور أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم، وممن روي عنه ذلك أو قال به: سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن أرقم، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، والحسين بن علي، وعائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وعروة، والقاسم، وعكرمة، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وزيد ين أسلم، وأبو العالية، وعطاء بن يسار، والثوري، وداود، و ابن حزم
(4)
.
القول الثاني: إن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم.
وهو مذهب الحنابلة
(5)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 102؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 12؛ الهداية وشرحه فتح القدير 2/ 330؛ البناية شرح الهداية 3/ 642.
(2)
انظر: المدونة 1/ 270؛ التفريع لابن جلاب 1/ 307؛ النوادر والزيادات 2/ 46؛ الإشراف 1/ 442؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 3/ 333.
(3)
انظر: الأم 2/ 107؛ مختصر المزني ص 85؛ الحاوي 3/ 461؛ المجموع 6/ 252؛ مغني المحتاج 2/ 173.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 4/ 212 - 214؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 308 - 309؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 443؛ المحلى 4/ 335؛ الحاوي 3/ 461؛ الاعتبار ص 354؛ المجموع 6/ 252؛ تهذيب السنن 3/ 245؛ البناية شرح الهداية 3/ 643.
(5)
انظر: المغني 4/ 350؛ الشرح الكبير 7/ 420؛ المحرر 1/ 229؛ الممتع 2/ 258؛ الفروع 5/ 7؛ الإنصاف 7/ 419.
وممن روي عنه الفطر بالحجامة أو قال به: علي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري-رضي الله عنهما، والحسن، وعطاء، وابن سيرين، والأوزاعي، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن الحجامة لا تفطر الصائم، لا الحاجم ولا المحجوم- بأدلة، منها ما يلي:
أولاً: حديث ابن عباس، وأبي سعيد، وأنس-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وأنه رخص في الحجامة للصائم؛ فدل ذلك على أن الحجامة لا تفطر الحاجم ولا المحجوم
(2)
.
ثانياً: عن ثابت البناني
(3)
، قال: سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: (لا، إلا من أجل الضعف). وزاد في رواية: على عهد
(1)
انظر: الحاوي 3/ 461؛ الاعتبار ص 352؛ المغني 4/ 350؛ المجموع 6/ 252؛ تهذيب السنن 3/ 246.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 101، 102؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 442؛ الحاوي 3/ 461؛ المجموع 6/ 253.
(3)
هو: ثابت بن أسلم البناني، أبو محمد البصري، ثقة، روى عن أنس، وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه شعبة، ومعمر، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل ثلاث وعشرين. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 3؛ التقريب 1/ 145.
النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة، والمواصلة، ولم يحرمْهما، إبقاء على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله إنك تواصل إلى السحر، فقال:«إني أواصل إلى السحر، وربي يطعمني ويسقيني»
(2)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنها-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام»
(3)
.
فهذه الأدلة بعضها يدل على كراهة الحجامة للصائم، من أجل
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 383، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، ح (1940)
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 361، كتاب الصيام، باب في الرخصة في ذلك، ح (2374)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 212، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 309. قال ابن حجر في الفتح 4/ 210:(إسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 361.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 173: (رواه البزار بإسنادين، وصحح أحدهما، وظاهره الصحة). وروى نحوه أبو داود في سننه ص 361، كتاب الصيام، باب الصائم يحتلم نهاراً في شهر رمضان، ح (2376) من طريق زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الترمذي-نحوه- عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، ثم قال:(حديث أبي سعيد الخدري غير محفوظ).
سنن الترمذي ص 178، كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، ح (719).
الضعف، وهي بجموعها تدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم- بأدلة، من أقواها ما سبق في دليل القول بنسخ ما يخالف الفطر بالحجامة؛ فإنها تدل على أن الحجامة تفطر الحاجم و المحجوم
(2)
.
واعترض عليه: بأن تلك الأحاديث تدل على الفطر بالحجامة، لكن الأحاديث الدالة على عدم الفطر بها معها ما يدل على تأخرها على هذه الأحاديث، لذلك يكون القول بموجبها متعيناً
(3)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الحجامة لا تفطر الصائم، لا الحاجم ولا المحجوم، ولكنها تكره من أجل الضعف، وذلك لما يلي:
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 101، 102؛ البناية للعيني 3/ 642؛ النوادر والزيادات للقيرواني 2/ 46؛ الإشراف لعبد الوهاب 1/ 442؛ الحاوي 3/ 461؛ المجموع 6/ 253، 252.
(2)
انظر: المغني 4/ 351؛ الشرح الكبير 7/ 421؛ التحقيق لابن الجوزي 2/ 318 - 322؛ تهذيب السنن 3/ 244.
(3)
انظر: المحلى 4/ 337؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 446، 447؛ الاستذكار 3/ 207؛ الاعتبار ص 354، 355.
أ- لما صح وثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
ب-ولحديث أبي سعيد الخدري، وأنس-رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم.
ج-ولحديث أنس رضي الله عنه وغيره، من أن الصحابة-رضي الله عنهم-لم يكونوا يكرهون
الحجامة للصائم إلا من أجل الضعف؛ حيث إنه يدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم، ولكنها تكره من أجل الضعف.
د-ولما في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الحجامة، وإنما نهى عنها إبقاء على أصحابه. فهو يدل على أن النهي عن الحجامة ليست للتحريم، بل للكراهة من أجل الضعف.
ثانياً: إن القول بأن الفطر بالحجامة، قد نسخ، صحيح وراجح؛ وذلك لأن حديث ابن عباس رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وإن لم يوجد فيه ما يصرح بأنه كان عام حجة الوداع، إلا أنه يدل على تأخره وأنه ناسخ لغيره ما يلي:
أ-ما جاء في حديث أبي سعيد، وأنس-رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم، والرخصة في الغالب يكون بعد النهي، كما سبق ذكره.
ب-ما جاء من التصريح في حديث أنس رضي الله عنه من أن الرخصة في الحجامة للصائم كانت بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم للحاجم والمحجوم: «أفطر هذان» .
ج-ولأن قول أنس رضي الله عنه أنهم لم يكونوا يكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من أجل الضعف، يقوي القول بنسخ ما يدل على الفطر بالحجامة، ويدل على أن عدم الفطر بالحجامة هو المتأخر. وهو يوافق قوله من أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم بعد قوله للحاجم والمحجوم:«أفطر هذان» . ولو لم يكن الفطر بالحجامة منسوخاً لما قال قوله ذلك، مع أنه ممن خدم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وكان مصاحباً له في أكثر أحواله سفراً وحضراً.
ثالثاً: إن القول بأن الفطر بالحجامة هو الناسخ لما يخالفه، قول ضعيف ومرجوح في نظري- والله أعلم بالصواب- وذلك لما يلي:
أ-لأن الأحاديث الواردة في الفطر بالحجامة مع كثرتها ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عن الأحاديث التي تفيد عدم الفطر بالحجامة، وكون أحاديث الفطر بالحجامة زمن الفتح لا يدل على تأخرها؛ لاحتمال أن يكون ما يدل على عدم الفطر بعد ذلك، ويؤكد ذلك ما جاء فيها من لفظ الرخصة، وأنها كان بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر هذان).
ب- بعد تتبعي لطرق أحاديث الفطر بالحجامة، لم أجد في أي طريق من طرق هذه الروايات ما يدل على تعيين السنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:«أفطر هذان» أو «أفطر الحاجم والمحجوم» إلا في حديثين:
أحدهما: حديث أنس رضي الله عنه في قصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يدل على أنه كان قبل فتح مكة، إما في أواخر السنة السابعة، أو في
بدايات السنة الثامنة؛ لأنه استشهد في غزوة مؤتة، وهي كانت سنة ثمان في جمادى الأولى، قبل فتح مكة، وقد ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في الحجامة، فهو يدل على الفطر بالحجامة وعلى تأخير الرخصة في الحجامة على النهي عنها
(1)
.
ثانيهما: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، لكنه روي بطرق وألفاظ مختلفة، بعضها ليس فيه أي تعرض لذكر زمن الفتح، وبعضها جاء فيه أنه كان في الثامن عشر من رمضان،، وبعضها جاء فيه أن ذلك كان بالبقيع، وكان زمن الفتح في الثامن عشر من رمضان، وفيما يلي بيان أشهر طرق وألفاظ هذا الحديث:
1 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه مرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع، لثمانَ عشرةَ خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي، فقال:«أفطر الحاجم و المحجوم»
(2)
.
2 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(3)
.
(1)
حديث أنس رضي الله عنه تقدم تخريجه في القول بنسخ الفطر بالحجامة، أما تاريخ غزوة مؤتة فانظره في: تهذيب سيرة ابن هشام ص 190؛ الرحيق المختوم ص 387.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 28/ 336، وقد سبق ذكر من خرجه وصححه.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه ص 360، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، ح (2369)، ثم قال:(روى خالد الحذاء عن أبي قلابة بإسناد أيوب مثله). وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 306، وأحمد في المسند 28/ 361، والحاكم في المستدرك 1/ 592، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 442.
3 -
أن شداد بن أوس بينما هو يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، فمرّ على رجل يحتجم،
بعد ما مضى من الشهر ثماني عشرة ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم و المحجوم»
(1)
.
4 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمرّ برجل يحتجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(2)
.
5 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل يحتجم، في ثمان عشرة من رمضان، وأنا معه، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم» . زاد في رواية: (وكان ذلك يوم الفتح)
(3)
.
6 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان عشرة خلت من رمضان، فأبصر رجلاً احتجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(4)
.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة في سننه ص 294، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، ح (1681).
(2)
أخرجه بهذا اللفظ أبو داود الطيالسي في مسنده-منحة-ص 187.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 209، ونحوه ابن حبان في صحيحه ص 978.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 306، وأحمد في المسند 28/ 346، والدارمي في سننه 2/ 25 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 442. إلا أن لفظ غير ابن أبي شيبة:(يحتجم) بدل احتجم.
7 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة لثمان عشرة مضت من رمضان، وهو آخذ بيدي، فمرّ على رجل يحتجم، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(1)
.
8 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة قال: وذاك لثمان عشرة خلون من رمضان، فأبصر رجلاً يحتجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(2)
.
9 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يحتجم في رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(3)
.
10 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ وأنا احتجم في ثمان عشرة
خلون من رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(4)
.
11 -
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعقل بن يسار صبيحة ثماني عشرة من رمضان، وهو يحتجم، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم»
(5)
.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 28/ 351. وسنده على شرط مسلم.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 28/ 352.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 28/ 352، والطحاوي نحوه في شرح معاني الآثار 2/ 99.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند 28/ 354.
(5)
أخرجه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك 1/ 593.
فهذه معظم طرق وألفاظ هذا الحديث، وهي جميعها تتفق في قوله:(أفطر الحاجم والمحجوم).
كما أن معظمها تتفق على أن قوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» كان في رمضان لثمانَ عشرةَ خلت منه، وهي تتفق مع الروايات السابقة من غير رواية شداد رضي الله عنه أن ذلك كان في ثمان عشرة خلت من رمضان.
وجاء في روايتين من هذه الرويات أن الرجل الذي كان يحتجم كان بالبقيع. وهي توافق في ذلك رواية ثوبان رضي الله عنه كما سبق ذكرها.
وجاء في روايتين منها أن ذلك كان بالمدينة. وهي تأكيد للروايات التي تفيد أن ذلك كان بالبقيع.
وجاء في رواية أن ذلك كان زمن الفتح.
وجاء في رواية أن ذلك كان يوم الفتح. وهي تؤكد رواية زمن الفتح.
وجاء في رواية الجمع بين ذكر زمن الفتح، وكونه بالبقيع، لثمان عشر خلت من رمضان.
ويوجد تعارض بين هذه الروايات في ذكر (زمن الفتح، أو يوم الفتح)، وبين ذكر (البقيع، والمدينة)، وكذلك بينها وبين قوله:(لثمان عشرة خلت من رمضان).
وذلك لأن قوله: بالبقيع أو بالمدينة، يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة لثمان عشرة خلت من رمضان، وأن الحاجم كان يحتجم بالبقيع. فهذا الرمضان إما يكون رمضان عام الفتح أو غيره، فإن كان غير رمضان عام الفتح، فهو غير متعين. فيكون تاريخه غير معروف.
وإذن فلا يكون في تلك الروايات أي دليل على نسخ أحاديث عدم الفطر بالحجامة؛ لعدم معرفة تاريخه.
وإن كان هو رمضان عام الفتح، فالنبي صلى الله عليه وسلم في الثامن عشر منه لم يكن بالمدينة. فلا يصح كونه بالمدينة وبالبقيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لغزو مكة قبل ذلك. فقيل: لعشر خلون من رمضان-وهو ما اتفق عليه أهل السير-. وقيل لليلتين خلتا من شهر رمضان. وقيل غير ذلك، إلا أن كل ذلك يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بالمدينة في الثامن عشر من رمضان، وهو تاريخ الحجامة
(1)
.
لذلك يكون الاستدلال على النسخ من قوله (زمن الفتح) أو (يوم الفتح)، موضع نظر، ويكون تاريخ هذا الاحتجام في الثامن عشر من رمضان، كما يؤكده أكثر الروايات لحديث شداد رضي الله عنه، وكذلك حديث ثوبان رضي الله عنه، لكن رمضان عام غير متعين، وبالتالي يكون الاستدلال منه على تأخره وكونه ناسخاً ضعيفاً
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 399؛ زاد المعاد 3/ 394؛ فتح الباري 4/ 214، 7/ 638؛ الرحيق المختوم ص 399.
(2)
وقد أشار ابن التركماني في الجوهر النقي 4/ 446، إلى هذا الاختلاف في التوقيت في حديث شداد رضي الله عنه، فقال:(على أنه قد اختلف التوقيت في حديث شداد، فذكر هنا أنه كان عام الفتح، والنبي صلى الله عليه وسلم كان حيئذٍ بمكة، وأخرج البيهقي فيما مضى في باب الإفطار بالحجامة، من حديث أبي داود أن ذلك كان بالبقيع، وهو بالمدينة، ولم يذكر عام الفتح).
كما أشار إليه أبو إسحاق الجعبري في رسوخ الأحبار ص 356؛ حيث قال: (ويروى «زمن الفتح»، ويروى «بالبقيع»، ويكاد يتناقضان).
المطلب الثامن: الصوم في السفر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن جواز الصوم في السفر قد نسخ، لذلك لا يجوز أن يُصام فرض رمضان في السفر، ومن صامه فلا يجزيه، وعليه القضاء
(1)
.
وممن قال بالنسخ و صرح به: الزهري
(2)
، وابن حزم
(3)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من أدلة الأقوال: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة ثلاثة أشياء: اختلاف الأدلة الواردة فيها، والاختلاف في مفهومها، والقول بالنسخ
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(5)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر). وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 358؛ بداية المجتهد 2/ 576؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/ 287.
(2)
انظر: الاعتبار ص 359؛ رسوخ الأحبار ص 360؛ فتح الباري 4/ 214، 216، 217.
(3)
انظر: المحلى 4/ 399.
(4)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة السابقة.
(5)
سورة البقرة، الآية (185).
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 384، كتاب الصوم، باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر، ح (1944)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-4/ 451، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح (1113) (88). وقوله:(وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون) إلى آخره، هو من قول الزهري، كما هو مصرح به عند مسلم في روايات بعد هذه الرواية.
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال:«ما هذا؟» فقالوا: صائم، فقال:«ليس من البرّ الصوم في السفر»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل في ظل شجرة يُرشُّ عليه الماء، قال:«ما بال صاحبكم هذا؟» قالوا: يا رسول الله! صائم، قال:«إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها»
(2)
.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم
(3)
، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 384، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه: (ليس من البر
الصيام في السفر، ح (1946)، ومسلم في صحيحه 4/ 453، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح (1115)(92).
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 355، كتاب الصيام، باب ما يكره من الصيام في السفر، ح (355)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 62. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 355، وقال في إرواء الغليل 4/ 56: إن إسناده صحيح.
(3)
كراع الغميم، كراع كل شيء طرفه، وكراع الغميم موضع بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال. انظر: معجم البلدان 4/ 124.
الناسُ إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:«أولئك العصاة، أولئك العصاة»
(1)
.
خامساً: عن كعب بن عاصم
(2)
رضي الله عنه يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من البرِّ الصيام في السفر»
(3)
.
سادساً: عن أبي أميَّة الضمري رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فسلمت عليه، فلمّا ذهبت لأخرج، قال:«انتظر الغداء يا أبا أمية!» ، قلت: إني صائم يا نبي الله!
قال: «تعال أخبرك عن المسافر؛ إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية المذكورة تدل على أن الله تعالى
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 452، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح (1114)(90).
(2)
هو: كعب بن عاصم الأشعري، أبو مالك، له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه أم الدرداء، وسكن مصر. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 31؛ الإصابة 3/ 1690؛ تهذيب التهذيب 8/ 378.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 355، كتاب الصوم، باب ما يكره من الصيام في السفر، ح (2255)، وابن ماجة في سننه ص 292، كتاب الصيام، باب في الإفطار في السفر، ح (1664)، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 190، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 278، والدارمي في سننه 2/ 17، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 63، والحاكم في المستدرك 1/ 598. وصححه، ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه النسائي في سننه ص 357، كتاب الصيام، باب ذكر وضع الصيام عن المسافر، ح (2269). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 357.
لم يفرض صوم الشهر إلا على من شهده، ولا فرض على المسافر إلا أياماً أخر غير رمضان، وحديث أبي أميّة الضمري رضي الله عنه يدل على معنى الآية الكريمة؛ حيث بين فيه أن الله وضع عن المسافر الصوم.
وما روي عن جابر رضي الله عنه يدل على أن الصوم في السفر ليس من البر، وأنه يجب قبول رخصة الله التي رخص لعباده، وهو الفطر في السفر، وأن من صام في السفر، فهو من العصاة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر لمّا سافر لفتح مكة، كما يدل عليه حديث ابن عباس، وجابر-رضي الله عنهم ثم أفطر وأمر به، فكان الإفطار آخر الأمرين من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك ناسخاً لجواز الصوم في السفر؛ لأنه يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن المراد بالآية الكريمة أن من أفطر من المسافرين والمرضى فعليه عدة من أيام أخر، وليس المراد بها عدم صحة صوم المسافر، ويدل على ذلك اتفاق المسلمين على أن المريض متى صام أجزأه، ولا قضاء عليه إلا أن يفطر، فالمسافر نحوه؛ لأنهما ذكرا جميعاَ على وجه العطعف
(2)
.
(1)
انظر: المحلى 4/ 397 - 401؛ الاعتبار ص 359؛ فتح الباري 4/ 214، 217؛ نيل الأوطار 4/ 321.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 259؛ الاستذكار 3/ 188؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 78؛ بداية المجتهد 2/ 576.
ب-إن ما جاء في رواية ابن عباس رضي الله عنه: (وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره) فهو مدرج من قول الزهري، وليس من الحديث. و الفطر في السفر، المذكور في هذه الأحاديث ليس آخر الأمرين، بل قد صام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر بعد فتح مكة
(1)
. يدل عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه حيث قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم» . فكانت رخصة، فمنّا من صام، ومنّا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال:«إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» . وكانت عزمة، فأفطرنا. ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين لثمان عشرة خلت من رمضان، فصام طوائف من الناس، وأفطر آخرون، فلم يعب، أو قال: ولم يعب على الصائم صومه، ولا على المفطر إفطاره)
(3)
.
والخروج إلى حنين كان بعد فتح مكة بلا خلاف
(4)
.
ج-إن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لما أمرهم بالإفطار فلم
(1)
انظر: صحيح مسلم 4/ 451؛ فتح الباري 4/ 217؛ نيل الأوطار 4/ 321.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 456، كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، ح (1120)(102).
(3)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 189. ورجاله: هشام، وقتادة، وأبو نضرة، وهم رجال مسلم.
(4)
انظر: تهذيب سيرة ابن هشام ص 208.
يفعلوا، فليس ذلك بأن الصوم في السفر قد نسخ، أو أنه لا يجوز، بل ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم عزمهم عليه فلم يمتثلوا، مع أن بعضهم أصابهم المشقة، وكانوا يحتاجون للفطر للتقوي به على لقاء العدو، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن ترك الرخصة ورغب عنها
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم الصوم في السفر على أقوال أشهرها أربعة، وهي:
القول الأول: إن المسافر مخير بين الصوم والإفطار، إلا أن الصوم أفضل له من الإفطار إذا قوي عليه، ولم يتضرر، ولم يُجهده.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية «3)، والشافعية
(4)
.
وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص
(5)
، رضي الله عنهما، وعروة، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير،
(1)
انظر: الأم 2/ 112؛ فتح الباري 4/ 217؛ نيل الأوطار 4/ 321.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 69 - 71؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 19؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 261؛ مختصر القدوري ص 63؛ بدائع الصنائع 2/ 248.
(3)
انظر: المدونة 1/ 272؛ الإشراف 1/ 443؛ التمهيد 7/ 232؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 3/ 310.
(4)
انظر: الأم 2/ 113؛ الحاوي 3/ 446؛ العزيز 3/ 218؛ المجموع 6/ 176؛ مغني المحتاج 2/ 184.
(5)
هو: عثمان بن أبي العاص بن بشر، الثقفي، الطائفي، أبو عبد الله، أسلم في وفد ثقيف، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، ونافع بن جبير، وغيرهما، وتوفي سنة خمسين، وقيل بعدها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 373؛ الإصابة 2/ 1235؛ تهذيب التهذيب 7/ 114.
وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبي ثور
(1)
.
القول الثاني: إنه يجوز للمسافر الصوم والإفطار، إلا أن الأفضل له هو الإفطار مطلقاً.
وهو مذهب الحنابلة
(2)
. وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والأوزاعي، وإسحاق
(3)
.
القول الثالث: إنه مخير بينهما والأفضل له منهما هو أيسرهما عليه.
وروي ذلك عن مجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة
(4)
.
القول الرابع: لا يجوز الصوم في السفر.
وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر
(5)
.
وروي نحو ذلك عن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس-في رواية-
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 186؛ بدائع الصنائع 2/ 248؛ المجموع 6/ 176.
(2)
انظر: المغني 4/ 407؛ الشرح الكبير 7/ 373؛ الإنصاف 7/ 371؛ الإقناع 1/ 491؛ زاد المستقنع ص 27.
(3)
انظر: المغني 4/ 408؛ المجموع 6/ 176.
(4)
انظر: المغني 4/ 408؛ المجموع 6/ 176.
(5)
انظر: المحلى 4/ 384؛ بداية المجتهد 2/ 575؛ المجموع 6/ 175.
رضي الله عنهم-
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو تفضيل الصوم على الإفطار، إذا لم يتضرر- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ حيث إن بعضها يدل على جواز الصوم والفطر في السفر، وبعضها يدل على كراهة الصوم في السفر؛ حيث كان المشقة والضرر. فيثبت من مجموعها جواز الصوم والفطر للمسافر، وكراهة الصوم إذا أجهده وحصل له المشقة والضرر
(2)
.
(3)
.
ووجه الدلالة منه: أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} خطاب للجميع من المسافرين والمقيمين، فيكون قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} خطاباً لهم جميعاً كذلك؛ لأن الكلام إذا كان معطوفاً بعضه على
(1)
انظر: التمهيد 7/ 232؛ الاعتبار ص 358؛ المغني 4/ 406.
(2)
انظر: الاستذكار 3/ 187؛ بدائع الصنائع 2/ 248؛ المجموع 6/ 177.
(3)
سورة البقرة، الآية (183، 184).
بعض فلا يخص شيء منه إلا بدلالة، وإذا كان كذلك اقتضى ذلك أن يكون صوم المسافر خيراً له من الإفطار؛ لأن قوله:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يشمله كما يشمل غيره
(1)
.
ثالثاً: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة)
(2)
.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنّا الصائم، ومنّا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، والمفطر على الصائم. يرون أن من وجد قوة
فصام، فإن ذلك حسن. ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسن)
(3)
.
خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 261.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 384، كتاب الصوم، باب، ح (1945)، ومسلم في صحيحه 4/ 458، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، ح (1122)(108).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 455، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح (1116)(96).
لكم». فكانت رخصة، فمنّا من صام، ومنّا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال:«إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» . وكانت عزمة، فأفطرنا. ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر
(1)
.
سادساً: عن عبد الله بن أبي أوفى
(2)
رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: «انزل فاجدح
(3)
لي»، قال: يا رسول الله، الشمس. قال:«انزل فاجدح لي» . قال: يا رسول الله، الشمس. قال:«انزل فاجدح لي» . فنزل فجدح له فشرب، ثم رمى بيده ههنا، ثم قال:«إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم»
(4)
.
سابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يوماً في سبيل الله بعَّد اللهُ وجهه عن النار سبعين خريفاً»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 958.
(2)
هو: عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث، الأسلمي، أبو إبراهيم، شهد الحديبية، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه إبراهيم بن مسلم الهجري، والحكم بن عتيبة، وغيرهما، وتوفي سنة سبع وثمانين، وقيل غير ذلك. انظر: الإصابة 2/ 1011؛ تهذيب التهذيب 5/ 135؛ التقريب 1/ 479.
(3)
الجدح: الخلط، وأن يحرك السويق بالماء ويخوض حتى يستوي، وكذلك اللبن ونحوه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 239؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 432.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 384، كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار، ح (1941)، ومسلم في صحيحه 4/ 433، كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، ح (1101)(52).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 577، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، ح (2840)، ومسلم في صحيحه 4/ 485، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، ح (1153)(168).
فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الصحابة-رضي الله عنهم-صاموا في السفر، قبل فتح مكة وبعده، كما تدل على أنهم أفطروا أحياناً عند الضعف أو وجود مشقة، أوللتقوي للجهاد وقتال الأعداء، فثبت منه أن الصوم في السفر أفضل عند عدم الجهد والضرر والمشقة، وإلا لما صام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، ويدل عل هذا ما جاء صريحاً في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:(يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن. ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسن)؛ حيث دل على أن الفطر كان من أجل الضعف، وأن من وجد قوة فصام فإنه كان حسناً عندهم. فثبت من مجموع هذه الأدلة جواز الإفطار في السفر، وأن الصوم فيه عند القوة عليه وعدم الضرر، حسن وأفضل من الإفطار
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الفطر في السفر أفضل من الصوم- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول الأول، والتي تدل على جواز الصوم والفطر في السفر.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 70؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 261؛ التمهيد 7/ 234؛ الاستذكار 3/ 187؛ المجموع 6/ 177؛ فتح الباري 4/ 216.
ثانياً: حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ليس من البرّ الصوم في السفر»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه مرفوعاً: «إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها»
(2)
.
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناسُ إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:«أولئك العصاة، أولئك العصاة»
(3)
.
ربعاً: حديث كعب بن عاصم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«ليس من البرِّ الصيام في السفر»
(4)
.
خامساً: عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
سبق تخريجه في ص 956.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(5)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 292، كتاب الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر، ح (1666)، ثم قال:(قال أبو إسحاق: هذا الحديث ليس بشيء). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 243 - 244: (وإسناد حديث عبد الرحمن بن عوف ضعيف ومنقطع، أسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً). وقال ابن القيم في تهذيب السنن 3/ 285: (رواه النسائي، ولا يصح رفعه وإنما هو موقوف). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 292.
سادساً: عن دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، قال: فلمّا رجع إلى قريته قال: (والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أره؛ إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك)
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 366، كتاب الصيام، باب قدر مسيرة ما يفطر فيه، ح (2431)، وأحمد في المسند-واللفظ له-45/ 206، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 981، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 70، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 406. قال ابن خزيمة قبل ذكر الحديث:(باب الرخصة في الفطر في رمضان في مسيرة أقل من يوم وليلة، إن ثبت الخبر، فإني لا أعرف منصور بن زيد الكلبي هذا بعدالة ولا جرح). وقال الخطابي في معالم السنن 3/ 292: (وليس الحديث بالقوي، وفي إسناده رجل ليس بالمشهور). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (قال الليث: الأمر الذي اجمتع الناس عليه أن لا يقصروا الصلاة ولا يفطروا إلا في مسيرة أربعة برد، في كل بريد اثنا عشر ميلاً. قال الشيخ: قد روينا في كتاب الصلاة ما دل على هذا عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والذي روينا عن دحية الكلبي إن صح ذلك فكأنه ذهب فيه إلى ظاهر الآية في الرخصة في السفر، وأراد بقوله: "رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" أي في قبول الرخصة لا في تقدير السفر الذي أفطر فيه). وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 3/ 293، بعد ذكر كلام الخطابي:(وهو يشير إلى منصور الكلبي، فإن رجال الإسناد جميعهم ثقات محتج بهم في الصحيح سواه، وهو مصري، روى عنه أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، ولم أجد من روى عنه سواه، فيكون مجهولاً، كما ذكره الخطابي).
ووجه الاستدلال منها: أن بعض هذه الأحاديث يدل على جواز الصوم في السفر، وبعضها يدل على كراهة الصوم في السفر، فيثبت من مجموعها جواز الصوم في السفر، وأن الإفطار أفضل منه
(1)
.
واعترض عليه: بأن الزجر عن الصوم في السفر إنما جاء لمن جهده الصوم، أو رد الرخصة، ولم يرها رخصة، أو كان ذلك في واقعة معينة أمروا بالفطر فخالفه بعضهم. والخلاف فيما إذا لم يجهده الصوم ولم يتضرر به، ولم ينكر الرخصة
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن الأفضل من الصوم والفطر أيسرهما عليه- بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(3)
.
فالله سبحانه وتعالى بين أنه يريد بعباده اليسر، فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسركمن يسهل عليه حينئذٍ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقه أفضل
(4)
.
(1)
انظر: المغني 4/ 407 - 408؛ التحقيق لابن الجوزي 2/ 329 - 330؛ الشرح الكبير 7/ 372 - 374.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 70؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 261؛ التمهيد 7/ 234؛ الاستذكار 3/ 187؛ المجموع 6/ 177؛ تهذيب السنن 3/ 287؛ فتح الباري 4/ 216.
(3)
سورة البقرة، الآية (185).
(4)
انظر: المغني 4/ 408؛ فتح الباري 4/ 216.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو عدم جواز الصوم في السفر- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: الأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: ما سبق في دليل القول الثاني من حديث عبد الرحمن بن عوف، ودحية بن خليفة رضي الله عنهما؛ فإنهما كذلك يدلان على عدم جواز الصوم في السفر
(1)
.
وقد سبق ما يعترض به على الاستدلال من الأدلة التي سبقت في القول بالنسخ.
ويعترض بما روي عن عبد الرحمن بن عوف ودحية-رضي الله عنهما: بأن في صحتهما كلام، وخاصة حديث عبد الرحمن بن عوف؛ حيث إنه لا يصح مرفوعاً، وروي عنه موقوفاً وهو مع ذلك منقطع، وعلى تقدير صحة الروايتين فالمراد بذلك هو الرد على من لم يسوغ الفطر، وظن أن الصوم حتم عليه كالمقيم
(2)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول- وهو أنه مخير بين الصوم والفطر، إلا أن الصوم أفضل من الفطر، إذا لم يجهده ولم يتضرر به-؛ وذلك لأن الله
(1)
انظر: تهذيب السنن 3/ 285؛ فتح الباري 4/ 216، 217.
(2)
انظر: تهذيب السنن 3/ 286؛ فتح الباري 4/ 217.
سبحانه وتعالى رخص في كتابه للمسافر أن يفطر في السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر، وقال لمن سأله عن الصوم في السفر-كما في حديث عائشة-رضي الله عنها:«إن شئت فصم وإن شئت فأفطر»
(1)
.
كما روي عنه أنه زجر عن الصوم أحياناً عند وجود المشقة والجهد، كما نسب بعضهم إلى العصيان لما أمرهم بالفطر فلم يفطروا.
لكن عند جمع هذه الأحاديث والنظر فيها وفي سبب ورودها، فإنه يظهر منها ما يلي:
أ- إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، وقد صام في السفر قبل فتح مكة وبعده، يدل على هذا حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء-رضي الله عنهم.
ب-إن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في السفر أحياناً؛ وذلك عند وجود مشقة وجهد، يلحقه هو، أو بعض من معه من الصائمين. فأفطر حتى يفطروا. كما أفطر عند قرب لقاء العدو، وأمرهم بالفطر، وذلك للتقوي على الجهاد. ويدل على هذا حديث ابن عباس، وجابر، وأبي سعيد الخدري-رضي الله عنهم.
ج-إن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض من صام في السفر إلى العصيان، وكذلك قوله:«ليس من البر الصيام في السفر» . لم يكن ذلك على الإطلاق ولا بدون
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 384، كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار، ح (1943)، ومسلم في صحيحه 4/ 457، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، ح (1121)(103).
سبب، بل نسب من صام في السفر إلى العصيان، لمّا أمرهم بالفطر عند قرب لقاء العدو فلم يمتثلوا واستمروا في الصوم، أو لم يروا الرخصة في الفطر. كما أن قوله:«ليس من البر الصيام في السفر» . إنما قاله لمن جهده الصوم في السفر، وتضرر به، ولم يفطر، أو لم يقبل رخصة الفطر. ويدل على هذا حديث جابر، وأبي سعيد الخدري، وغيرهما-رضي الله عنهما
(1)
.
فعلى هذا يكون الصوم في السفر أفضل من الفطر لمن لم يجهده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، وأنه لم يفطر إلا عند حصول جهد له أو لغيره من الصائمين أو لوجود سبب آخر يدعو للفطر، فافطر حتى يفطروا.
وبه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة؛ وذلك بحمل صوم النبي صلى الله عليه وسلم في السفر على الأفضل، وبحمل ما يدل على الفطر على وجود سبب، أو لمشقة وجهد
(2)
.
ثانياً: إن القول بأن الصوم في السفر منسوخ، غير صحيح؛ وذلك لما يلي:
أ- لأنه لا يوجد دليل يدل على تأخر ما يدل على عدم الصوم في السفر على ما يدل على جواز الصوم في السفر. وفطر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في غزوة الفتح ليس آخر الأمرين على الإطلاق، بل صام ثم أفطر، فهو متأخر عن هذا الصوم، لكنه قد صام هو والصحابة في السفر بعد ذلك كما يدل عليه حديث
(1)
انظر: تهذيب السنن لابن القيم 3/ 285 - 287؛ فتح الباري 4/ 216 - 217.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 248؛ المجموع 6/ 177.
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
(1)
.
ب-إنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة، كما سبق بيانه. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة المختلفة فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.
والله أعلم.
(1)
انظر: تهذيب السنن 3/ 286.
المطلب التاسع: الفطر قبل صلاة العيد يوم عيد الفطر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الفطر يوم عيد الفطر قبل صلاة العيد كان حراماً في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك، واستحب الفطر قبل الصلاة
(1)
.
وعلى استحباب الأكل يوم عيد الفطر قبل الصلاة جماعة الفقهاء وجمهور أهل العلم
(2)
. ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(3)
. ولم أجد من قال بتحريمه أو كراهته.
(1)
قد صرح بالنسخ من الحنفية الطحطاوي في كتابه: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، ص 344. ومن الشافعية: يحيى الأنصاري في كتابه: أسنى المطالب في شرح روضة الطالب 2/ 208، والشربيني في كتابه: مغني المحتاج 1/ 535، وإبراهيم البيجوري في كتابه: حاشية الشيخ إبراهيم البيجوري 1/ 429، وابن حجر الهيتمي في كتابه: تحفة المحتاج 1/ 385.
(2)
قال ابن عبد البر في الاستذكار 2/ 379: (ولم يذكر فيه عن أحد رخصة إلا عن ابن عمر، وعن إبراهيم إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل)، وقال في ص 380:(وعن أبي حنفية عن حماد عن إبراهيم، قال: "كانوا يستحبون أن يأكلوا يوم الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى" قال أبو عمر: على هذا جماعة الفقهاء). وقال ابن قدامة في المغني 3/ 259: (وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم علي، وابن عباس، والشافعي، وغيرهم، لا نعلم فيه خلافاً).
(3)
انظر: "عمدة القاري للعيني 5/ 163؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2/ 45؛ حاشية الطحطاوي ص 344؛ " الاستذكار 2/ 378؛ الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1/ 623؛ " الأم 1/ 256؛ العزيز 2/ 360؛ المجموع 5/ 8؛ مغني المحتاج 1/ 535؛ " المغني 3/ 258؛ الشرح الكبير 5/ 322؛ الإنصاف 5/ 321".
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدوا يوم الفطر حتى يأكل تمرات)
(1)
.
ثانياً: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعمُ يوم الأضحى حتى يصلي)
(2)
.
ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الفطر قبل أن يخرج، وكان لا يصلي قبل الصلاة، فإذا قضى صلاته صلى ركعتين)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 189، كتاب العيدين، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج، ح (953).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 140، أبواب العيدين، باب في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، ح (542)، وابن ماجة في سننه ص 305، كتاب الصيام، باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج، ح (1756)، والدارمي في سننه 1/ 455، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 694، وابن حبان في صحيحه ص 800، والدارقطني في سننه 2/ 45، والحاكم في المستدرك 1/ 433. قال الترمذي:(غريب)، وقال الحاكم:(حديث صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي. وصححه كذلك ابن حبان، وابن القطان، والشيخ الألباني. وحسنه النووي. انظر: المجموع 5/ 8؛ التلخيص الحبير 2/ 84؛ بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 2/ 137؛ التعليق المغني 2/ 45؛ صحيح سنن الترمذي ص 140.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 17/ 324، ونحوه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 712. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 202: أن في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق. وذكر ابن حجر في الفتح 2/ 552، أن في إسناده مقالاً.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (من السنة أن لا تخرج يوم الفطر حتى تخرج الصدقة، وتطعم شيئاً قبل أن تخرج)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على سنية واستحباب الفطر والأكل يوم عيد الفطر قبل الخروج إلى الصلاة
(2)
.
ولم أجد دليلاً يدل على أن الفطر وأكل شيء قبل صلاة عيد الفطر كان حراماً في أول الإسلام ثم نسخ، بل هذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الفطر وأكل شيء قبل الخروج إلى الصلاة، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله ما يدل على خلاف ذلك
(3)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 142، ونحوه في المعجم الأوسط 1/ 143. وذكر الهيثمي في مجمع الزوئد 2/ 202: أنه رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وأن إسناده حسن. وذكر ابن حجر في الفتح 2/ 552، أن في إسناده مقالاً.
(2)
انظر: الاستذكار 2/ 378 - 380؛ المغني 3/ 259؛ المجموع 5/ 8؛ عمدة القاري 5/ 163.
(3)
انظر: نيل الأوطار 2/ 402.
المطلب العاشر: قضاء الصوم عن الميت
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من مات وعليه صوم، فإن لوليه أن يُطعم عنه، وليس له أن يصوم عنه؛ لأن قضاء الصوم عن الميت قد نسخ
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(2)
، وابن بطال
(3)
، والعيني
(4)
، وابن الهمام
(5)
.
ويتبين منه ومما يأتي من أدلة الأقوال: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة ثلاثة أمور: اختلاف الآثار الواردة فيها، ومعارضتها للأصول، والقول بالنسخ
(6)
.
(1)
ومنهم: الملا علي القاري، وابن عابدين. انظر: فتح باب العناية 1/ 586؛ حاشية الشيخ الشلبي على تبيين الحقائق 2/ 195؛ حاشية ابن عابدين 3/ 364.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار- 3/ 24.
(3)
هو: علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن القرطبي، روى عن أبي المطرب القنازعي، ويونس بن عبد الله القاضي. ومن مؤلفاته:(شرح صحيح البخاري)، وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة. انظر: شجرة النور الزكية 1/ 115؛ شذرات الذهب 3/ 283.
وانظر قوله في: شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 100.
(4)
انظر: عمدة القاري 8/ 153.
(5)
انظر: فتح القدير شرح الهداية 2/ 359.
(6)
انظر: شرح مشكل الآثار- 3/ 24؛ شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 100؛ بداية المجتهد 2/ 584؛ عمدة القاري 8/ 153؛ نيل الأوطار 4/ 338، 339.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام شهر فليُطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه رمضان لم يقضه فليطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر»
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 178، كتاب الصوم، باب ما جاء في الكفارة، ح (718)، وابن ماجة في سننه ص 305، كتاب الصيام، باب من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه، ح (1757)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 988. قال الترمذي بعد ذكر الحديث:(حديث ابن عمر لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله). وقال ابن خزيمة قبل ذكر هذا الحديث: (باب الإطعام عن الميت يموت وعليه صوم لكل يوم مسكيناً إن صح الخبر، فإن في القلب من أشعث بن سوار-رحمه الله-لسوء حفظه). وقال البيهقي في السنن الكبرى 4/ 424، بعد ذكر الحديث موقوفاً على ابن عمر:(هذا هو الصحيح موقوف على ابن عمر، وقد رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع فأخطأ فيه). وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 209، بعد ذكر كلام الترمذي:(قلت: رواه ابن ماجة من هذا الوجه، ووقع عنده عن محمد بن سيرين، بدل محمد بن عبد الرحمن، وهو وهم منه أو من شيخه، وقال الدارقطني: المحفوط وقفه على ابن عمر، وتابعه البيهقي على ذلك). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 4/ 424: (فهم البيهقي أن محمداً الذي روى عنه أشعث هذا الحديث هو ابن أبي ليلى، وكذا صرح الترمذي به، وقد أخرج ابن ماجة هذا الحديث في سننه بسند صحيح عن أشعث عن محمد بن سيرين عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، فإن صح هذا فقد تابع ابن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه فلقائل أن يمنع الوقف).
(2)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 988، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 424. قال ابن خزيمة قبل ذكر الحديث:(باب قدر مكيلة ما يطعم كل مسكين في كفارة الصوم إن ثبت الخبر، فإن في القلب من هذا الإسناد). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (هذا خطأ من وجهين: أحدهما رفعه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول ابن عمر، والآخر قوله: (نصف صاع) وإنما قال ابن عمر: مداًّ من حنطة). وهذه الرواية في سنده شريك بن عبد الله، ومحمد بن أبي ليلى، وكلاهما متكلم فيهما.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه ولِيُّهُ»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال:«لو كان على أمك دين، أكنت قاضيَه عنها؟» قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يُقضى»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، فقال:«أرأيت لو كان عليها دَين، أكنتِ تقضينه؟» قالت: نعم. قال: «فدين الله أحق
بالقضاء»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 386، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح (1952)، ومسلم في صحيحه 4/ 477، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، ح (1147)(153).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 386، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح (1953)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 478، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، ح (1148)(155).
(3)
أخرجه ومسلم في صحيحه 4/ 477، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، ح (1148)(154).
رابعاً: عن عمرة ابنة عبد الرحمن
(1)
، قالت: سألت عائشة-رضي الله عنها-فقلت لها: إن أمي تُوُفِّيتْ وعليها رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: (لا. لكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك عنها)
(2)
.
خامساً: عن ابن عباس -رضي الله
(1)
هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، الأنصارية المدنية، ثقة، روت عن عائشة، وأم حبيبة، وغيرهما وروى عنها عروة، والزهري، وغيرهما، وكانت من أعلم الناس بحديث عائشة-رضي الله عنها، وتوفيت سنة ثمان وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 12/ 389؛ التقريب 2/ 652.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/ 23. وقال البيهقي في الكبرى 4/ 430: (فيه نظر) وقال ابن حجر في الفتح 4/ 229: إن فيه مقالاً. وصحح سنده ابن التركماني، والعيني. انظر: الجوهر النقي 4/ 430؛ عمدة القاري 8/ 155. وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 215 - بعد ذكر رواية عائشة، وكلام البيهقي وابن حجر: (وضعفه البيهقي ثم العسقلاني، فإن كانا أراد تضعيفه من هذا الوجه، فلا وجه له، وإن عنيا غيره فلا يضره).
عنه- قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة)
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عائشة وابن عباس-رضي الله عنهم يدل على أن الوليّ يصوم عمن مات وعليه صيام، ثم ما روي عنهما من قولهما: يدل على أن من مات وعليه صيام، فإن وليُّه يُطعم عنه، ولا يصوم عنه، ويدل عليه كذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه. فيثبت من ذلك أن قضاء الصوم عن الميت قد نُسخ، وأنه ثبت عند عائشة وابن عباس-رضي الله عنهم نسخ ما روياه؛ وإلا لما أفتيا على خلاف روايتهما، وإلا لكان ذلك جرحاً في عدالتهما، وبالتالي سقوط روايتهما، وحاش لله عز وجل أن يكون ذلك كذلك، بل هما على عدلهما وأنهما لم يتركا ما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما سمعاه منه مما قالاه بعده
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن مخالفة أحد الصحابة-رضي الله عنهم-لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة احتمالات، منها: أن يكون نسي ما رواه، أو أن يخالف ذلك لاجتهاد، كما يحتمل أن تكون الرواية عنه بخلافه وهماً ممن روى ذلك عنه، ومع هذه الاحتمالات لا يصح الاستدلال منه على النسخ، على أن الواجب اتباع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد من البشر قول مع قوله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ثانياً: إنه روي عن غير عائشة وابن عباس-رضي الله عنهما مثل روايتهما، ولم يُنقل عنه أنه أفتى بخلاف روايته، فإن كان قول عائشة وابن
(1)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى 3/ 257، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/ 22، وابن عبد البر في الاستذكار 3/ 223. وصحح سنده ابن التركماني في الجوهر النقي 4/ 430، وابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 209.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 24؛ شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 100؛ عمدة القاري 8/ 155؛ فتح
القدير لابن الهمام 2/ 359.
(3)
انظر: المحلى 4/ 423، 424؛ فتح الباري 4/ 229؛ نيل الأوطار 4/ 338.
عباس-رضي الله عنهما-معارضاً لروايتهما، فما رواه غيرهما سالم عن المعارضة فيؤخذ به
(1)
.
ثالثاً: إن النقل عن ابن عباس-رضي الله عنهما اختلف فيه عليه. وما نُقل عن عائشة-رضي الله عنها-ففيه مقال، فلا يقوى مثل هذا على معارضة الأحاديث الصحيحة ولا ينسخها
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الصوم عمن مات وعليه صيام
(3)
، على أقوال أشهرها ثلاثة وهي:
القول الأول: إن من مات وعليه صيام فإنه لا يُصام عنه، وإنما يُطعم عنه.
وهو مذهب الحنفية «4)، والمالكية،
(5)
والشافعية
(6)
.
(1)
هو حديث بريدة رضي الله عنه وسيأتي ذكره في دليل القول الثالث.
(2)
انظر: الاستذكار 3/ 225 - 226؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 430؛ المجموع 6/ 271؛ فتح الباري 4/ 229؛ التنقيح 2/ 339؛ نيل الأوطار 4/ 338.
(3)
وهذا الخلاف فيما إذا مات بعد إمكان القضاء. أما إن مات قبل إمكان القضاء فجمهور أهل العلم على أنه لا شيء عليه، ولا يلزم عنه شيء، وخالف طاووس وقتادة فأوجبا عنه الإطعام. انظر: المغني 4/ 398؛ المجموع 6/ 272.
(4)
والإطعام عنه ليس بلازم عندهم إلا إذا أوصى، ويكون من ثلث المال. انظر: مختصر اختلاف العلماء 2/ 45؛
الفقه النافع للسمرقندي 1/ 392؛ الهداية 2/ 357؛ تبيين الحقائق للزيلعي 2/ 194؛ فتح باب العناية 1/ 586؛ ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر 1/ 368؛ الدرر المنتقى للحصكفي 1/ 388.
(5)
وعندهم كذلك ليس الإطعام عنه بلازم إلا إذا أوصى، ويكون من ثلث المال. انظر: الموطأ 1/ 251؛ المدونة 1/ 280؛ الاستذكار 3/ 223؛ بداية المجتهد 2/ 583؛ التاج والإكليل 3/ 387.
(6)
والمذهب عندهم وجوب الإطعام عنه، ويكون من تركته. انظر: الأم 2/ 114؛ مختصر المزني ص 85؛ التنبيه ص 97؛ الوجيز وشرحه العزيز 3/ 237؛ المجموع 6/ 268، 272؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 186.
وروي نحو ذلك عن: ابن عمر، وابن عباس، وعائشة-رضي الله عنهم، والأوزاعي، والثوري، والحسن بن حي، وابن علَيَّة
(1)
.
القول الثاني: إن من مات وعليه صيام، فإن كان ذلك صوم رمضان فإنه يُطعم عنه، ولا يصام. وإن كان صوم نذر صام عنه الوليُّ.
وهو مذهب الحنابلة
(2)
، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو قول أبي عبيد، والليث بن سعد، وإسحاق
(3)
.
القول الثالث: إن من مات وعليه صيام فإن وليه يصوم عنه، أي صوم كان.
وهو القول القديم للإمام الشافعي، واختاره جماعة من محدثي الشافعية
(4)
، وقول أبي ثور، وداود، وابن حزم
(5)
. وروي ذلك عن: طاووس،
(1)
انظر: الاستذكار 3/ 223؛ المغني 4/ 398؛ المجموع 6/ 272.
(2)
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 212؛ المغني 4/ 398، 399؛ التحقيق 2/ 338؛ الشرح الكبير 7/ 501، 506؛ تهذيب السنن 3/ 281؛ الإنصاف 7/ 501، 506؛ زاد المستقنع ص 28. وقد رجح هذا القول الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 213 - 215.
(3)
انظر: الاستذكار 3/ 224؛ المغني 4/ 399؛ المجموع 6/ 272؛ تهذيب السنن 3/ 281؛ فتح الباري 4/ 228.
(4)
وعندهم لا يلزم الولي الصوم، بل هو مخير بين الصوم والإطعام. انظر: السنن الكبرى 4/ 428؛ التنبيه ص 97؛ الوجيز وشرحه العزيز 3/ 237؛ المجموع 6/ 268، 272؛ فتح الباري 4/ 228.
(5)
وهو واجب عندهم، وقالوا بعدم إجزاء الطعام. انظر: المحلى 4/ 420؛ الاستذكار 3/ 225؛ المجموع للنووي 6/ 272.
والحسن، والزهري، وقتادة
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بأدلة أهمها ما يلي:
أولاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: «من مات وعليه صيام شهر فليُطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً»
(2)
.
ثانياً: ما روي عن ابن عباس، وعائشة-رضي الله عنهم أن من مات وعليه صيام، فإنه يطعم عنه، ولا يصام
(3)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة: 184]، قال ابن عباس:(ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً)
(4)
.
فقد جعل ابن عباس رضي الله عنه ما يرجع إليه الكبير عند عجزه عن الصيام الفدية عنه، لا صيام غيره عنه. ومن مات وعليه صيام، فإنه قد عجز عن
(1)
انظر: المحلى 4/ 426؛ المجموع 6/ 272. وقد رجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، في الشرح
الممتع 3/ 92.
(2)
سبق تخريجه، والكلام عليه، وأن الصحيح كونه موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
وقد سبق تخريجهما في دليل القول بالنسخ.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 929، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{أياماً معدودات} ، ح (4505).
الصوم، فصار كالشيخ الفاني؛ فيطعم عنه كالشيخ الفاني
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن حديث ابن عمر رضي الله عنه لا يصح مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف عليه، وهو يدل على الإطعام ولا يمنع الصيام
(2)
.
أما الرواية عن ابن عباس رضي الله عنه فاختلف عليه فيه، فكما روي عنه ما يدل على عدم الصوم عن الميت، فقد روي عنه ما يدل على الصوم عنه. أما الرواية عن عائشة-رضي الله عنها فبعضه لا يدل على عدم إجزاء الصيام، وما يدل عليه فهو ضعيف جداً؛ لذلك لا يتم
الاستدلال من هذه الأدلة على عدم إجزاء الصيام خاصة في مقابل أحاديث صحيحة صريحة
(3)
.
ب- إنه قد صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على صيام الولي عمن مات وعليه الصيام، والواجب اتباعه صلى الله عليه وسلم، دون غيره، وليس في قول أحد حجة مع قوله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 22؛ الهداية 2/ 357.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 178؛ المجموع 6/ 270؛ فتح الباري 4/ 229؛ تحفة الأحوذي 3/ 463.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 220؛ المجموع 6/ 271؛ تهذيب السنن 3/ 281؛ فتح الباري 4/ 229.
(4)
انظر: المحلى 4/ 423؛ المجموع 6/ 271.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أنه لا يصام عن الميت صوم رمضان بل يطعم عنه، ويصام عنه صوم النذر- بما يلي:
أولاً: أما أنه لا يُصام عنه في قضاء رمضان، ويطعم عنه؛ فللأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول الأول؛ فإنها تدل على أنه يُطعم عنه، ولا يُصام، وهي في قضاء صوم رمضان لا صوم النذر
(1)
، يدل عليه ما يأتي.
ثانياً: أما أنه يُصام عنه صوم النذر، فلما يلي:
أ-عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دَين فقضيتيه، أكان يؤدَّى ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن امرأة ركبت البحر، فنذرت: إنِ اللهُ نجاها أن تصوم شهراً، فنجاها اللهُ، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها-أو أختها-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها)
(3)
.
(1)
انظر: المغني 4/ 399؛ التحقيق 2/ 338؛ التنقيح لابن عبد الهادي 2/ 339؛ تهذيب السنن 3/ 281.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 478، كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت، ح (1148)(156).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 505، كتاب الأيمان والنذور، باب في قضاء النذر عن الميت، ح (3308)، والنسائي في سننه ص 589، كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر أن يصوم ثم مات قبل أن يصوم، ح (3816)، وأحمد في المسند 3/ 356، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 987، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 428. وقال النووي في المجموع 6/ 269:(رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين). وصححه الشيخ
الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 505.
ب-عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم: أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليُّه)
(1)
.
وجه الاستدلال من هذه الأدلة
ويستدل منها على قضاء صوم النذر عن الميت دون صوم رمضان عنه: بأن المراد بالصوم في قوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» -ونحوه من الأحاديث- صوم النذر، يفسر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ حيث جاء فيه أن ذلك الصوم كان صوم نذر، كما أن فتواه على قضاء صوم النذر عن الميت، والإطعام عنه في صوم رمضان يدل على هذا الفرق، وما روي عنه من قوله:(لا يصوم أحد عن أحد) فهو وإن كان مطلقاً إلا أنه يفسره هذه الرواية، لذلك فلا يكون هو مخالفاً لهذا. كما أن إفتاء عائشة
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 365، كتاب الصيام، باب فيمن مات وعليه صيام، ح (2401). ونحوه عبد الرزاق في المصنف 4/ 240، وابن حزم في المحلى 4/ 426، وصحح إسناده. وصحح الشيخ الألباني رواية أبي داود في صحيح سنن أبي داود ص 365. وقال في أحكام الجنائز ص 215:(أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين).
-رضي الله عنها بالإطعام عمن عليه صوم رمضان ليس مخالفاً لهذا؛ لأنها أفتت في قضاء صوم رمضان، لا صوم النذر
(1)
.
واعترض عليه: بأن رواية عائشة-رضي الله عنها-مطلقة، وليس بينها وبين حديث ابن عباس رضي الله عنه تعارض، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له. أما حديث عائشة-رضي الله عنها-فهو تقرير قاعدة عامة، ويؤكد هذا أن صوم النذر بالنسبة لصوم الفرض قليل ونادر، والأدلة إنما تحمل على الغالب الأكثر، لا على النادر
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه أي صوم كان- بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه ولِيُّهُ»
(3)
.
فإنه بإطلاقه يشمل قضاء صوم رمضان وغيره
(4)
.
ثانياً: حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي سبق ذكره في دليل القول الثاني، فإنه
(1)
انظر: المغني 4/ 399؛ التحقيق 2/ 339؛ الشرح الكبير 7/ 501، 502؛ تهذيب السنن 3/ 281، 282.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 228؛ الشرح الممتع 3/ 93.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
انظر: المحلى 4/ 421؛ فتح الباري 4/ 228؛ الشرح الممتع 3/ 93.
روي بطرق وألفاظ مختلفة، بعضها يدل على قضاء الصوم من غير تقييد، وبعضها يدل على أن السؤال كان عن صوم نذر، والظاهر تعدد الواقعات؛ لذلك يصح الاستدلال مما روي عنه على قضاء مطلق الصيام
(1)
.
ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمّي بجارية، وإنها ماتت. قال:«وجب أجرك، وردها عليك الميراث» ، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال:«صومي عنها» ، قالت: إنها لم تحج قط. أفأحج عنها؟ قال: «حُجّي عنها»
(2)
.
وهذا الحديث كذلك يدل على قضاء الصوم عن الميت، من غير فرق بين صوم وصوم
(3)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إنه يجوز صيام الولي عمن مات وعليه صيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره، كما يجوز أن يطعم عنه؛ وذلك لما يلي:
(1)
انظر: المحلى 4/ 421؛ المجموع 6/ 269؛ فتح الباري 4/ 230.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 479، كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت، ح (1149)(157).
(3)
انظر: المحلى 4/ 421؛ المجموع 6/ 269؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 479.
أ-أما الإطعام فلما روي عن ابن عمر، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على جواز الإطعام ممن مات وعليه الصيام. وهو مما لا خلاف فيه بين أصحاب المذاهب الأربعة، كما سبق بيانه.
ب-أما جواز أن يصوم الولي عمن مات وعليه الصيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره، فلما يلي:
1 -
لعموم حديث عائشة-رضي الله عنها، وعدم تقييد حديث بريدة رضي الله عنه بصوم معين، وتعدد روايات حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ حيث بعضها يفيد جواز صوم النذر عن الميت، و بعضها يفيد جواز مطلق الصيام عنه. فيكون مجموع هذه الأحاديث دالة على أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، سواء كان صوم رمضان أو غيره
(1)
.
2 -
ولأن الأحاديث الدالة على أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، أحاديث صحيحة صريحة، ولا يثبت من النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارض ذلك. وإنما الواجب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد قول مع قوله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
3 -
ولأن الآثار المروية عن الصحابة-رضي الله عنهم-في المسألة منها ما يدل على الإطعام عمن مات وعليه الصيام، ولا ينفي جواز الصيام عنه، ومنها ما يدل على عدم صحة الصيام عنه لكن هذا النوع من الآثار بعضها ضعيف
(1)
انظر: المحلى 4/ 421؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 425 - 429؛ المجموع 6/ 269؛ فتح الباري 4/ 228؛ الشرح الممتع 3/ 93.
(2)
انظر: المحلى 4/ 423؛ التلخيص الحبير 2/ 209.
لا تقوم به الحجة فضلاً عن أن تعارض أحاديث صحيحة صريحة. وبعضها معارض بمثله، وليس الأخذ ببعضها أولى عن ما يعارضها، على أن ما يدل على عدم صحة أن يصوم أحد عن أحد يحتمل أن يكون المراد به في الحياة؛ وبالتالي لا تكون بين تلك الآثار ولا بينها وبين الأحاديث الواردة في المسألة أي تعارض
(1)
.
ثانياً: إن القول بنسخ قضاء الصوم عن الميت ضعيف وغير صحيح، وذلك:
أ-لأنه لا بد في النسخ من تأخر الناسخ، والأحاديث الدالة على قضاء الصوم عن الميت صحيحة وصريحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يعارض ذلك فضلاً عن كونه متأخراً، فبأي شيء تكون منسوخة؟!.
ب- إن عمل الراوي أو فتواه على خلاف مَرْوِيِّهِ له عدة احتمالات، منها: أن يكون ما رواه منسوخاً عنده، وهذا أحد الاحتمالات، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 429؛ المجموع 6/ 271؛ فتح الباري 4/ 228، 229، 11/ 650؛ التلخيص الحبير 2/ 209؛ عمدة القاري 15/ 742، 743.
(2)
انظر: المحلى 4/ 424؛ فتح الباري 1/ 745.
المطلب الحادي عشر: صوم يوم عاشوراء
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن صوم يوم عاشوراء
(1)
، كان واجباً قبل أن يفرض صوم رمضان، فلما فُرض صوم رمضان نُسخ وجوب صوم عاشوراء
(2)
.
وممن قال بهذا أوصرح به: ابن مسعود رضي الله عنه
(3)
، وابن عباس رضي الله عنه
(4)
، والإمام أحمد
(5)
، والأثرم
(6)
، والطحاوي
(7)
، وابن شاهين
(8)
، وابن
(1)
عاشوراء: هو اليوم العاشر من شهر المحرم، على الصحيح، وهو قول المذاهب الأربعة. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 78؛ التمهيد 7/ 273؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 313، 317؛ التاج والإكليل 3/ 317؛ " الحاوي 3/ 473؛ المجموع 6/ 280؛ " المغني 4/ 441؛ الفروع 5/ 90".
(2)
وهذا هو مذهب الحنفية، والمالكية، ووجه عند الشافعية، وقول الإمام أحمد. وظاهر مذهب الشافعية، وقول أكثر الحنابلة أن صوم عاشوراء لم يكن واجباً. انظر:"شرح معاني الآثار 2/ 73 - 79؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 300، 302؛ مسلم الثبوت 2/ 83؛ " التمهيد 7/ 269؛ الاستذكار 3/ 211؛ مقدمات ابن رشد ص 115؛ مواهب الجليل 3/ 314؛ " الحاوي 3/ 473؛ السنن الكبرى 4/ 476 - 480؛ الاعتبار ص 342؛ المجموع 6/ 280؛ الإحكام للآمدي 2/ 108؛ المحصول 3/ 272؛ البحر المحيط للزركشي 5/ 252؛ مغني المحتاج 2/ 199؛ " المغني 4/ 442؛ الشرح الكبير 7/ 522؛ الاختيارت الفقهية ص 110؛ الفروع 5/ 92؛ شرح الكوكب المنير 3/ 530، 550".
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 235.
(4)
انظر: الاختيارات الفقهية ص 110.
(5)
انظر: الفروع لابن مفلح 5/ 92.
(6)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم ص 187 - 188.
(7)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 74، 77.
(8)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 415.
حزم
(1)
، وابن عبد البر
(2)
، والسمعاني
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
، وابن حجر
(6)
.
ولا خلاف بين الجميع في أن صومه الآن مستحب، وليس بواجب
(7)
.
ويدل عليه وعلى النسخ، ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}
(8)
.
فقد روي عن بعض السلف منهم: ابن مسعود رضي الله عنه أن المراد به صيام ثلاثة أيام وعاشوراء، ثم نُسخ ذلك بفرض رمضان بقوله تعالى: {شَهْرُ
(1)
انظر: الإحكام 1/ 495.
(2)
انظر: التمهيد 7/ 269؛ الاستذكار 3/ 211.
(3)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 427.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 60.
(5)
انظر: الاختيارات الفقهية ص 110؛ الفروع 5/ 92.
(6)
انظر: فتح الباري 4/ 291.
(7)
وروي عن بعض السلف أن وجوبه باق، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنه، وطاوس ما يدل على عدم استحباب صومه، لكن أهل العلم بعدهم أجمعوا على استحباب صومه، وعدم الوجوب. انظر: التمهيد 7/ 269، 270، 271؛ الاستذكار 3/ 211؛ الإفصاح 1/ 219؛ الاعتبار ص 340؛ المجموع 6/ 280؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 461. وراجع المصادر في الحاشية الثانية من هذه المسألة.
(8)
سورة البقرة، الآية (183، 184).
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
.
فيكون صوم رمضان ناسخاً لوجوب صوم عاشوراء
(2)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تُستر فيه الكعبة، فلمّا فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه»
(3)
.
وفي رواية عنها رضي الله عنها قالت: (كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرض
رمضانُ ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه)
(4)
.
وفي رواية ثالثة عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم
(1)
سورة البقرة، الآية (185).
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 896؛ نواسخ القرآن 1/ 231.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 317، كتاب الحج، باب قول الله تعالى:{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} ، ح (1592)، ونحوه مسلم في صحيحه 4/ 460، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1125)(113).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2002)، ومسلم في صحيحه 4/ 460، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1125)(113).
عاشوراء، فلما فُرض رمضانُ كان من شاء صام، ومن شاء أفطر)
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضانُ ترك. وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه)
(2)
.
رابعاً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أن «أذن في الناس: أن من كان أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء»
(3)
.
خامساً: عن الربيع بنت معوذ-رضي الله عنها-قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: «من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم» قالت: فكنا نصومه بعدُ ونُصَوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار
(4)
.
سادساً: ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2001).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 374، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، ح (1892)، ومسلم في صحيحه 4/ 462، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1126)(119).
(3)
سبق تخريجه في ص 906.
(4)
سبق تخريجه في ص 910.
اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:«ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال:«فأنا أحق بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتَحَّرَى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا
اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان)
(2)
.
سابعاً: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوارء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فُرض رمضانُ، لم يأمرنا، ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده)
(3)
.
ثامناً: عن معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما-يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2004)، ومسلم في صحيحه 4/ 465، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1130)(127).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2006)، ومسلم في صحيحه 4/ 466، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1132)(131).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 464، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1128)(125).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 395، كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء، ح (2003)، ومسلم في صحيحه 4/ 464، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ح (1129)(126).
فهذه الأحاديث تدل على أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، وتأكد ذلك بالنداء العام، وبأمر من أكل بالإمساك بقية اليوم، كما تأكد ذلك بقول عائشة وابن عمر-رضي الله عنهم:(لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء)؛ لأن استحبابه باق لم يترك، فدل على أن المتروك هو وجوبه
(1)
.
ثم هذه الأحاديث تدل كذلك على نسخ ذلك الوجوب؛ حيث دلت على أن وجوب صوم عاشوراء كان قبل فرض رمضان، وأنه لما فُرض رمضانُ تُرك عاشوراء، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:«من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه» . فثبت بذلك نسخ وجوب صيامه
(2)
.
لكن بقي استحباب صيامه؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صامه بعد نسخ وجوبه، وبعد فرض رمضان، كما يدل عليه حديث ابن عباس ومعاوية-رضي الله عنهم؛ لأنهما إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد فرض رمضان ونسخ وجوب صوم عاشوراء. كما تدل أحاديث كثيرة على فضل صيامه واستحباب ذلك
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم ص 187؛ شرح معاني الاثار 2/ 75؛ الاستذكار 3/ 211؛ الاعتبار ص 340؛ فتح الباري 4/ 291.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(3)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم ص 187؛ شرح معاني الآثار 2/ 75 - 78؛ التمهيد 7/ 270 - 272؛ فتح الباري 4/ 291.
المطلب الثاني عشر: صيام ثلاثة أيام من كل شهر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن يُفرض رمضانُ، فلما فُرض رمضانُ نُسخ ذلك به
(1)
.
وممن صرح به: الحازمي
(2)
، وأبو حامد الرازي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
. وروى نحوه عن ابن مسعود
(5)
، وابن عباس-رضي الله عنهما
(6)
، وقتادة
(7)
، وعطاء
(8)
.
ويستدل له بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(9)
.
فقد ذهب بعض السلف إلى أن المراد به كان صيام ثلاثة أيام من كل
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 896؛ الحاوي 3/ 475؛ المجموع 6/ 282.
(2)
انظر: الاعتبار ص 360.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 61، 62.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 363.
(5)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 235.
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 212؛ نواسخ القرآن 1/ 235.
(7)
انظر: جامع البيان للطبري 2/ 895؛ نواسخ القرآن 1/ 235.
(8)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 212؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 23.
(9)
سورة البقرة، الآية (183).
شهر، ثم نُسخ ذلك بفرض صيام رمضان بقوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
.
فيكون فرض صوم رمضان ناسخاً لوجوب صوم ثلاثة أيام
(2)
.
ثانياً: عن ابن أبي ليلى قال: (وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، ثم أنزل رمضان، وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديداً، فكان من لم يصم أطعم مسكيناً، فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وكانت الرخصة للمريض والمسافر فأمرنا بالصيام)
(3)
.
وفي رواية عنه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إن الله عز وجل فرض
(1)
سورة البقرة، الآية (185).
(2)
انظر: جامع البيان للطبري 2/ 896؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 212؛ الناسخ والمنسوخ في القرأن الكريم للنحاس ص 23؛ نواسخ القرآن 1/ 235.
(3)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 360، ثم قال:(وروى المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، نحوه مختصراً، وقال فيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم عاشوراء، فأنزل الله: {كتب عليكم الصيام} الآية، فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً أجزأه". والحديث الأول رواه معاذ بن معاذ عن شعبة، وذكر فيه أن ذلك كان على وجه التطوع لا على جهة الفرض).
شهر رمضان، فأنزل الله تعالى ذكره:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
(1)
. حتى بلغ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
(2)
. فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}
(3)
. إلى آخر الآية)
(4)
.
فهذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويأمر بذلك، وذلك قبل أن يُفرض رمضان، فلما فُرض صوم شهر رمضان نُسخ به ذلك، فمن شاء صامه ومن شاء تركه
(5)
.
ولا شك أن هذه الأدلة تدل على نسخ صوم ثلاثة أيام من كل شهر بفرض صوم رمضان، لكن في إسنادها شيء من الضعف.
وبقية أهل العلم وإن لم يصرحوا أو لم يقولوا بالنسخ، إلا أنه لا خلاف
(1)
سورة البقرة، الآية (183).
(2)
سورة البقرة، الآية (184).
(3)
سورة البقرة، الآية (185).
(4)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 2/ 898. وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ.
(5)
انظر: جامع البيان 2/ 896، 898؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 212؛ الاعتبار ص 360؛ نواسخ القرآن 1/ 235؛ رسوخ الأحبار ص 363.
بينهم في استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وعدم وجوبه
(1)
.
وذلك لما يلي:
أولاً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطّوّع» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان» ، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطّوّع» الحديث
(2)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم أُنبَّأُ أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟» فقلت: نعم. فقال: «فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمَت
(3)
العين ونَفِهَت
(4)
النفس، صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 1017 - 1019؛ الإفصاح 1/ 219؛ بدائع الصنائع 2/ 218؛ المغني 4/ 445؛ المجموع 6/ 282؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 3/ 329؛ فتح الباري 4/ 268؛ عمدة القاري 8/ 205؛ مواهب الجليل 3/ 329؛ نيل الأوطار 4/ 364.
(2)
سبق تخريجه في ص 420.
(3)
هجمت العين، أي: غارت ودخلت في موضعها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 895؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 494.
(4)
نفهت، أي: أعيت وكلت. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 782؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 495.
صوم الدهر أو كصوم الدهر» قلت: إني أجدني-قال مسعر
(1)
: يعني قوة- قال: «فصم صوم داود عليه السلام، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى»
(2)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر،
وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)
(3)
.
رابعاً: عن معاذة العدوية
(4)
أنها سألت عائشة-رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام
(1)
هو: مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة، الهلالي العامري، أبو سلمة الكوفي، ثقة، ثبت، وروى عن حبيب بن أبي ثابت، وقتادة، وغيرهما، وروى عنه شعبة، والثوري، وغيرهما، وفي سنة ثلاث وخمسين-وقيل: خمس وخمسين-ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 103؛ التقريب 2/ 176.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 703، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وأتينا داود زبوراً}
، ح (3419)، ومسلم في صحيحه 4/ 459، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، ح (1159)(187).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 392، كتاب الصوم، باب صيام البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، ح (1981)، ومسلم في صحيحه 4/ 41، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، ح (721)(85).
(4)
هي: معاذة بنت عبد الله، العدوية، أم الصهباء البصرية. ثقة، روت عن: عائشة، وعلي، وغيرهما. وروى عنها: أبو قلابة، وقتادة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 12/ 401؛ التقريب 2/ 659.
الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم)
(1)
.
خامساً: عن أبي ذر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة»
(2)
.
فهذه الأحاديث تدل على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وعدم وجوبه
(3)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 497، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ح (1160)(194).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 188، كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ح (761)، والنسائي في سننه ص 376، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة من الشهر، ح (2422)، وأحمد في المسند 35/ 345، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1020، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 486. قال الترمذي:(حديث حسن). وكذلك حسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 102، وقال في صحيح سنن الترمذي ص 188:(حسن صحيح).
(3)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 1017 - 1019؛ الإفصاح 1/ 219؛ المغني 4/ 445؛ المجموع 6/ 282؛ فتح الباري 4/ 268؛ عمدة القاري 8/ 205؛ نيل الأوطار 4/ 364؛ الشرح الممتع 3/ 97.
المطلب الثالث عشر: صوم يوم السبت في غير الفريضة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث الذي يدل على النهي عن صوم يوم السبت في غير الفريضة قد نسخ؛ لذلك يجوز أن يُصام يوم السبت في غير الفريضة
(1)
.
وممن صرح بنسخه: أبو داود
(2)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلافهم في تصحيح الحديث الوارد فيه، وفي المفهوم منه، سبب آخر لاختلافهم فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن الصَّمَّاء
(5)
رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء
(6)
عنبة أو
(1)
انظر: بداية المجتهد 2/ 604؛ تهذيب السنن 3/ 299؛ الشرح الممتع 3/ 99.
(2)
انظر: سنن أبي داود ص 368.
(3)
فإنه قال عن الحديث الدال على النهي: (فالحديث شاذ أو منسوخ) انظر: الفروع 5/ 105؛ الإنصاف 7/ 533؛ منار السبيل 1/ 218.
(4)
انظر: بداية المجتهد 2/ 604؛ الشرح الممتع 3/ 99.
(5)
هي: الصماء بنت بسر المازنية-ما زن قيس-، ويقال: اسمها: نهيمة. لها صحبة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: أخوها عبد الله، وغيره. انظر: الإصابة 4/ 2562؛ تهذيب التهذيب 12/ 382؛ التقريب 2/ 648.
(6)
لحاء عنبة: أي قشرها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 595.
عود شجرة فليمضغه»
(1)
.
ثانياً: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصم يوم السبت إلا في فريضة، ولو لم تجد إلا لحاء شجرة فافطر عليه»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 368، كتاب الصيام، باب النهي أن يُخص يوم السبت بصوم، ح (2421)، والترمذي في سننه ص 184، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية صوم يوم السبت، ح (744)، وابن ماجة في سننه ص 301، كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام يوم السبت، ح (1726)، وأحمد في المسند 45/ 7، والدارمي في سننه 2/ 32، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1035، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 80، والحاكم في المستدرك 1/ 601، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 498. قال الترمذي:(حديث حسن). وقال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري)، ووافقه الذهبي، والشيخ الألباني. وكذلك صححه ابن السكن. انظر: المستدرك 1/ 601؛ التخليص الحبير 2/ 216؛ إرواء الغليل 4/ 118.
وقال النووي في المجموع 6/ 311: (وقال مالك: هذا الحديث كذب. وهذا القول لا يقبل؛ فقد صححه الأئمة). وقال ابن مفلح في الفروع 5/ 104: (إسناده جيد).
وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 3/ 300: (وروي هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النسائي: (هذه أحاديث مظطربة). وقال ابن حجر في بلوغ المرام-مع شرحه سبل السلام- 2/ 346: (رواه الخمسة، ورجاله ثقات، إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك). وذكر الشيخ الألباني طرق هذا الحديث، وما قيل فيه من الاضطراب، ثم ذكر ترجيح بعض رواياته منتفياً بذلك الاضطراب الذي يضعف الحديث. انظر: إرواء الغليل 4/ 118 - 124.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 201: (رواه الطبراني في الكبير من طريق إسماعيل ابن عباس عن الحجازيين، وهو ضعيف فيهم).
ثالثاً: عن جُوَيرِيَّة بنت الحارث-رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال:«أصمت أمس؟» قالت: لا. قال: «تريدين أن تصومي غداً؟» قالت: لا. قال: «فأفطري»
(1)
.
رابعاً: عن أم سلمة-رضي الله عنها-إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول:«إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم»
(2)
.
ويستدل من هذه الأحاديث على النسخ: بأن حديث الصماء، وأبي أمامة-رضي الله عنهما-يدلان على النهي عن صوم يوم السبت في غير الفريضة. وحديث جويرية-رضي الله عنها يدل على جواز صومه إذا صيم مع غيره. أما حديث أم سلمة-رضي الله عنها فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد، ويكثر من صيامهما، وذلك مخالفة لأهل الكتاب.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 393، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، (1986).
(2)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 1036، وابن حبان في صحيحه ص 997، والحاكم في المستدرك 1/ 602، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 499. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 201:(رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان). وصحح إسناده الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال ابن مفلح في الفروع 5/ 105:(رواه أحمد والنسائي، وصححه جماعة، وإسناده جيد). وقال ابن حجر في بلوغ المرام-مع شرحه سبل السلام-2/ 347: (أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة). وقال الشيخ الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة-مع تعليقات الأعظمي- 2/ 1035: (إسناده حسن، وصححه ابن حبان).
فيكون النهي عن صوم يوم السبت أول الأمر؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب، ثم كان آخر أمره مخالفتهم، فيكون صومه يوم السبت والأحد متأخراً عن النهي عن صوم يوم السبت، وناسخاً له؛ لأن نهيه عن صومه يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث؛ وذلك بحمل النهي عن صوم يوم السبت إذا أُفرد بالصوم، كصوم يوم الجمعة، وجوازه إذا صيم معه يوم الجمعة أو يوم الأحد، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم السبت منفرداً. والجمع مهما أمكن فهو أولى من القول بالنسخ
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في صوم يوم السبت في غير الفريضة على قولين:
القول الأول: يكره تنزيهاً إفراد يوم السبت بالصوم، إلا أن يوافق عادة، ولا يكره إذا انضم معه غيره.
(1)
انظر: سنن أبي داود ص 368؛ التلخيص الحبير 2/ 217؛ سبل السلام 2/ 347؛ إرواء الغليل 4/ 124.
(2)
انظر: المجموع 6/ 311؛ نيل الأوطار 4/ 362؛ تحفة الأحوذي 3/ 513؛ إرواء الغليل 4/ 125.
وهو قول الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: يجوز صومه بدون كراهة سواء انضم معه غيره أم لا.
وهو قول المالكية
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول، بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث الصماء بنت بسر، وأبي أمامة-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديث جويرية بنت الحارث، وأم سلمة-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما كذلك في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: الأحاديث الدالة على: استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
(1)
هذا ما قاله الكاساني، والحصكفي، وابن عابدين. وقال الطحاوي: فأما من صامه لا لإرادة تعظيمه، ولا لما تريد اليهود بتركها السعي فيه، فإن ذلك غير مكروه. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 81؛ بدائع الصنائع 2/ 218؛ الدر المختار 3/ 302؛ حاشية ابن عابدين 3/ 302.
(2)
انظر: العزيز 3/ 247؛ روضة الطالبين ص 346؛ المجموع 6/ 311؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 201.
(3)
انظر: الإفصاح 1/ 217؛ المغني 4/ 428؛ الشرح الكبير 7/ 530؛ الفروع 5/ 104؛ الإنصاف 7/ 532.
(4)
انظر: الكافي ص 129؛ مقدمات ابن رشد ص 114 - 115؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 3/ 329؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/ 806 - 807.
وعلى استحباب صيام أيام البيض من كل شهر. وكذلك الأحاديث الدالة على فضل صوم يوم وإفطار يوم، وقد سبق جملة من هذه الأحاديث في المطلب السابق.
ووجه الاستدلال منها: هو أن حديث الصماء-رضي الله عنها-وما في معناه، يدل على النهي عن صوم يوم السبت في غير الفريضة، و بقية الأحاديث تدل على جواز صومه، فيجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل ما يدل على النهي على إفراد صومه، وحمل ما يدل على الجواز على أن ينضم معه يوم قبله أو بعده
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز صيام يوم السبت بلا كراهة، ولو منفرداً- بالأحاديث الدالة على فضل صيام التطوع، كصيام يوم وإفطار يوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وغير ذلك؛ فإنها تدل على جواز الصوم وفضله ولو كان ذلك اليوم يوم السبت. قالوا: وما يدل على النهي عن صوم يوم السبت في غير الفريضة فهو غير صحيح، أو شاذ
(2)
، أو منسوخ
(3)
.
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 184؛ شرح معاني الآثار 2/ 80، 81؛ المغني 4/ 428؛ المجموع 6/ 311؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 299؛ حاشية ابن عابدين 3/ 302؛ نيل الأوطار 4/ 362؛ إرواء الغليل 4/ 125.
(2)
الحديث الشاذ هو: أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس. انظر: مقدمة ابن الصلاح ص 100؛ الباحث الحثيث ص 34.
(3)
انظر: بداية المجتهد 2/ 604؛ تهذيب السنن 3/ 297 - 299؛ الفروع 5/ 104 - 105؛ الشرح الممتع 3/ 99.
واعترض عليه: بأن الحديث الوارد في النهي عن صوم يوم السبت صححه جماعة من
أهل العلم
(1)
، ولا يصار إلى النسخ ما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً، وهو هنا ممكن كما سبق ذكره، لذلك يكون القول بالنسخ خلاف الأولى
(2)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وأن النهي عن صوم يوم السبت غير منسوخ، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الحديث الدال على النهي عن صوم يوم السبت قد صححه جمع من أهل العلم، ويمكن جمعه مع الأحاديث التي يُستدل منها على جواز صومه. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فالقول به متعين، ولا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها
(3)
.
ثانياً: ولأنه لا يوجد ما يصرح بالنسخ، وأن ما يدل على الجواز متأخر عن ما يدل على النهي، وما ذكر في وجه الاستدلال على النسخ مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به
(4)
.
والله أعلم.
(1)
راجع تخريجه.
(2)
انظر: المجموع 6/ 311؛ نيل الأوطار 4/ 362؛ تحفة الأحوذي 3/ 513.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: سبل السلام 2/ 347؛ إرواء الغليل 4/ 125.
(4)
انظر: المجموع 6/ 311؛ فتح الباري 1/ 645؛ نيل الأوطار 4/ 362؛ تحفة الأحوذي 3/ 513.
المبحث الثاني: الحج، وأحكام الحرمين
وفيه سبعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: إذا حج الأعرابي قبل الهجرة ثم هاجر فهل عليه حجة أخرى؟.
المطلب الثاني: إذا حج العبد قبل أن يعتق ثم عتق فهل عليه حجة أخرى؟.
المطلب الثالث: كون العقيق ميقات أهل المشرق.
المطلب الرابع: بقاء أثر الطيب بعد الإحرام.
المطلب الخامس: الاشتراط في الحج.
المطلب السادس: دخول المحرم من الأبواب.
المطلب السابع: دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد النسك.
المطلب الثامن: قطع الخفين لمن لم يجد النعلين.
المطلب التاسع: فسخ الحج إلى العمرة.
المطلب العاشر: رفع اليدين عند رؤية البيت.
المطلب الحادي عشر: الرمل بين الركنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة الأول.
المطلب الثاني عشر: من رمى جمرة العقبة ولم يطف بالبيت حتى أمسى، هل يعود محرماً؟
المطلب الثالث عشر: طواف الوداع على الحائض.
المطلب الرابع عشر: قتل الغراب.
المطلب الخامس عشر: استحلال الحرم بالقتال.
المطلب السادس عشر: أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع شجرها.
المطلب السابع عشر: الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها.
المطلب الأول إذا حج الأعرابي قبل الهجرة ثم هاجر فهل عليه حجة أخرى
؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأعرابي
(1)
، إذا حج قبل الهجرة ثم هاجر فإنه لا يجب عليه إعادة الحج
(2)
. وأن الآثار التي تدل على وجوب إعادة الحج عليه قد نسخت.
وممن صرح بالنسخ: أبو بكر الجصاص
(3)
، وابن حزم
(4)
.
(1)
الأعرابي هو: من سكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلا لحاجة، ويكون صاحب نعجة وارتياد للكلأ. والتعرب هو: أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. ومن نزل بلاد الريف، واستوطن القرى العربية وسكن المدن فهو عربي. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 178؛ لسان العرب 9/ 113؛ المصباح المنير ص 326.
(2)
الحج بفتح الحاء وكسرها، لغة: القصد. وقيل: هو من قولك: حججته إذا أتيته مرة بعد أخرى. انظر: المغرب 1/ 180؛ تحرير ألفاظ التنبيه ص 101؛ المصباح المنير ص 108؛ القاموس المحيط ص 167.
والحج اصطلاحاً: قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة. انظر: الاختيار 1/ 139؛ التعريفات للجرجاني ص 82.
وقيل: هو: وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة، وطواف بالبيت سبعاً وسعي بين الصفا والمروة كذلك، على وجه مخصوص. انظر: الشرح الكبير للدردير 2/ 3.
أو هو: قصد الكعبة للنسك. انظر: المجموع 7/ 5؛ الفروع 5/ 201.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 34.
(4)
انظر: المحلى 5/ 3، 15 - 18.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى»
(2)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ المحلى 5/ 15 - 18.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 3/ 209، والجصاص في أحكام القرآن 2/ 34، والحاكم في المستدرك 1/ 655، والبيهقي في السنن الكبرى- واللفظ له- 5/ 533، وابن حزم في المحلى 5/ 15، والخطيب البغداد في تاريخ بغداد 8/ 209. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وكذلك صححه ابن حزم في 5/ 16، وقال:(لأن رواتها ثقات). وقال الخطيب بعد ذكر الحديث: (لم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة، وهو غريب). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد عن سند الطبراني: (رجاله رجال الصحيح).
وأخرجه موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه الشافعي في الأم 2/ 122، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 257، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 533. وصححه الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 156، ونقل تصحيحه كذلك عن ابن حجر. ثم ذكر الشيخ الألباني من أخرجه مرفوعاً ومن تكلم فيه ثم قال: (قلت: يزيد بن زريع احتج به الشيخان، وهو ثقة ثبت، ومثله محمد بن المنهال احتج به الشيخان أيضاً وهو ثقة حافظ كما في التقريب، وكان أثبت الناس في يزيد بن زريع كما قال ابن عدي عن أبي يعلى، فالقلب يطمئن لصحة حديثه، ولا يضره وقف من أوقفه على شعبة). ثم ذكر شواهد ومتابعات له ثم قال: (وخلاصته: أن الحديث صحيح الإسناد مرفوعاً، وموقوفاً، وللمرفوع شواهد ومتابعات يتقوى بها).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: احفظوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس. (أيما عبد حج به أهله ثم أعتق فعليه الحج، وأيما صبي حج به أهله صبياً ثم أدرك فعليه حجة الرجل، وأيما أعرابي حج أعرابياً ثم هاجر فعليه حجة المهاجرين)
(1)
.
ثانياً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صبياً حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً، ولو أن أعرابياً حج عشر حجج ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً، ولو أن مملوكاً حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا طلاق إلا بعد النكاح، ولا يمين في قطيعة، ولا تعرب بعد هجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا يمين
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 355. وذكر ابن حجر في التلخيص 2/ 220، أن هذه الرواية يؤيد صحة رفع الرواية السابقة، وأن ابن عباس رضي الله عنه أراد أن الحديث مرفوع لذلك نهاهم عن نسبته إليه.
(2)
أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 2/ 34. وذكر ابن حجر في التلخيص 2/ 220، أنه أخرجه ابن عدي وسنده ضعيف. وكذلك ذكر الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 158، أنه أخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة حرام ابن عثمان، ثم ذكر أنه ضعيف جداً. ثم قال:(لكنه لم يتفرد به) فذكر أنه أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن طريق اليمان عن أبي عبس عن جابر، ثم قال:(لكن اليمان هذا هو ابن المغيرة ضعفوه كما قال الذهبي في الضعفاء).
لولد مع والد، ولا يمين لامرأة مع زوج، ولا يمين لعبد مع سيده، ولا نذر في معصية الله، ولو أن أعرابياً حج عشر حجج ثم هاجر كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً، ولو أن صبياً حج عشر حجج ثم احتلم كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً، ولو أن عبداً حج عشر حجج ثم عتق كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(2)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده-منحة المعبود-1/ 288، والحارث بن محمد في مسنده كما ذكره البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 143، والهيثمي في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 1/ 439، كما أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده كما في إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري 4/ 143. وكلهم إما رواه من طريق حرام بن عثمان، أو من طريق اليمان. ورواه الطيالسي من طريقهما. وهما ضعيفان كما سبق ذلك في الكلام على الرواية السابقة. وذكره البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 3/ 161، وقال:(رواه أبو داود الطيالسي واللفظ له، وأبو بكر بن أبي شيبة، والبزار، والحاكم، والبيهقي، وإسناد بعضهم ثقات).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 625، كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، ح (3080)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 494، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى "لا هجرة بعد الفتح"، ح (1864)(86).
الفتح، فتح مكة:«لا هجرة، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(1)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا» فقال رجل: أكل عام؟ يا رسول الله! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو قلت نعم لوجبت. ولما استطعتم» ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس-رضي الله عنهما الأول، وكذلك ما روي عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً يدلان على أن الأعرابي إذا حج قبل الهجرة ثم هاجر أنه يجب عليه أن يعيد الحج، فيحج مرة ثانية. وحديث عائشة-رضي الله عنها وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني يدلان على أنه لا هجرة بعد فتح مكة. فثبت من ذلك أن حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول وكذلك ما روي عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، كان قبل فتح مكة، وفي وقت لم يكن الحج واجباً على الأعرابي وكانت الهجرة واجبة عليه، وهو قبل فتح مكة؛ لأنه لا هجرة بعد الفتح. وإذن فيكون
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 493، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى "لا هجرة بعد الفتح"، ح (1353)(85).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 232، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، ح (1337)(412).
وجوب إعادة الحج على الأعرابي إذا حج قبل الهجرة ثم هاجر المذكور في حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول منسوخاً بحديث عائشة-رضي الله عنها وحديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني. كما يكون منسوخاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا» ؛ حيث إن ذلك كان في حجة الوداع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجوب الحج على الناس، وهو يشمل الأعرابي وغيره
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا هجرة بعد الفتح لكن من مكة، فالهجرة باقية ولم تنسخ مطلقاً، وإنما نسخ الهجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها أصبحت دار إسلام
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في إعادة الحج على من حج من الأعراب قبل الهجرة ثم هاجر، على قولين:
القول الأول: أن حجه يجزيه عن حجة الإسلام، وليس عليه إعادة الحج بعد الهجرة.
وهو قول المذاهب الأربعة
(3)
، وقول عطاء، وإبراهيم النخعي،
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ المحلى 5/ 16، 17.
(2)
انظر: المغني 13/ 150، 151.
(3)
صرح بهذا الجصاص من الحنفية، ولم أجد أحداً صرح به من أصحاب المذاهب غير الحنفية، لكنه مقتضى قول الجميع؛ حيث إنهم يذكرون في شروط وجوب الحج: الإسلام، والحرية، والبلوغ، وغير ذلك. ولكنهم لا يشترطون الهجرة، كما أنهم أي أصحاب المذاهب الأربعة يذكرون وجوب إعادة حج الصبي والعبد بعد البلوغ والعتق، ولا يتعرضون لذكر إعادة حج الأعرابي بعد الهجرة. فيثبت من ذلك أنهم لا يقولون بإعادة الحج على الأعراب بعد الهجرة. انظر:" شرح معاني الآثار 2/ 256 - 258؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ بدائع الصنائع 2/ 293 - 294؛ " الكافي لابن عبد البر ص 133؛ بداية المجتهد 2/ 622 - 626؛ جامع الأمهات ص 183، 184؛ " الأم 2/ 142؛ مختصر المزني ص 101؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 531 - 533؛ المجموع 7/ 31 - 33؛ " المغني 5/ 44 - 47؛ شرح الزركشي 2/ 76، 77، 89؛ منتهى الإرادات 1/ 173.
ومجاهد،
وابن حزم
(1)
.
القول الثاني: لا يجزئ الأعرابي حجه قبل الهجرة عن حجة الإسلام، فإذا هاجر فعليه حجة أخرى.
وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، والحسن البصري
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
(3)
.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فقال: «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا» فقال رجل: أكل عام؟ يا
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 354، 355؛ المحلى 5/ 15، 16.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 354، 355؛ المحلى 5/ 15، 16.
(3)
سورة آل عمران، الآية (97).
رسول الله! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو قلت نعم لوجبت. ولما استطعتم»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: «بل مرة، فمن زاد فهو تطوع»
(2)
.
رابعاً: حديث عائشة-رضي الله عنها-ونحوه حديث ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا هجرة بعد الفتح»
(3)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن الآية الكريمة، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدلان بعمومهما على أن الله فرض الحج على الناس من استطاع إليه سبيلاً.
كما يدل حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول على أن الحج إنما يجب مرة في العمر.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 265، كتاب المناسك، باب فرض الحج، ح (1721)، والنسائي في سننه ص 409، كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج، ح (2620)، وابن ماجة في سننه ص 489، كتاب المناسك، باب فرض الحج، ح (2886)، وأحمد في المسند 4/ 151، والدارمي في سننه 2/ 46، والحاكم في المستدرك 1/ 608، وقال:(هذا إسناد صحيح). ووافقه الذهبي في التلخيص. وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 265.
(3)
سبق تخريجهما في دليل القول بالنسخ.
ويدل حديث عائشة-رضي الله عنها، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني على أنه لا هجرة بعد فتح مكة.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن الحج يجب على الأعرابي المسلم إذا استطاع إليه سبيلاً، كما يجب على غير الأعرابي، وأنه إذا حج مرة فلا يجب عليه الحج مرة ثانية، كما لا يجب على غيره من المسلمين البالغين الأحرار. وأن ما يدل على إعادة الحج عليه بعد الهجرة فلعل أن ذلك كان في وقت ما كان الهجرة فرضاً، وقد كان ذلك قبل فتح مكة، فتكون أدلة عموم فرض الحج على المسلمين البالغين من استطاع إليه سبيلاً متأخرة عن ذلك، ويكون القول بمقتضاها لا بما يخالفها
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني بحديث ابن عباس رضي الله عنه، وما روي عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً، وقد مرّ ذكرهما؛ حيث إنهما يدلان على أن الأعرابي عليه إعادة الحج بعد الهجرة
(2)
.
الراجح
بعد ذكر ما قيل في المسألة من الأقوال وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أن الأعراب الذين
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 33 - 35؛ المحلى 5/ 3، 13 - 18؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 142 - 144.
(2)
انظر: المحلى 5/ 15، 16.
حجوا بعد فتح مكة ثم هاجروا فإنهم يجزون ذلك عنهم عن حجة الإسلام، وليس عليهم إعادة الحج بعد الهجرة، وذلك لما يلي:
أولاً: للأدلة السابقة والتي تدل على فرض الحج على المسلمين ممن استطاع إليه سبيلاً، والأعرابي المسلم من جملتهم، مع ما في هذه الأدلة من أن الحج إنما يجب مرة واحدة في العمر.
ثانياً: ولأن أهل العلم اختلفوا في المراد بالأعرابي والهجرة في حديث ابن عباس رضي الله عنه وما في معناه؛ حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأعرابي الكافر، والمراد بالهجرة الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام باسم الهجرة. وإنما سموا مهاجرين؛ لأنهما هجروا الكفار
(1)
.
وإذا كان المراد به أن الكافر إذا حج قبل الإسلام ثم أسلم فإن عليه حجة أخرى فهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن عند الجميع يشترط الإسلام لصحة الحج. فمن حج قبل إسلامه ثم أسلم فعليه أن يعيد الحج، ويحج بعد الإسلام إن استطاع إليه سبيلاً
(2)
.
ثالثاً: إنه يظهر لي-والله أعلم بالصواب- من مجموع طرق حديث
(1)
فسره بذلك أبو الوليد حسان بن محمد، من ولد سعيد بن العاص، وكان إمام أهل الحديث في عصره بخراسان. انظر: الفروع 5/ 214.
كما فسره بذلك الكاساني في البدائع 2/ 294.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 293؛ بداية المجتهد 2/ 622؛ المجموع 7/ 14، 15؛ المغني 5/ 6، 7.
ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم أن المراد بالأعراب الذين عليهم حجة أخرى بعد الهجرة: هم الذين حجوا ثم هاجروا قبل فتح مكة خاصة. وليس المراد الأعراب الذين حجوا بعد فتح مكة؛ وذلك لدليلين:
أ- لما في حديث عائشة وابن عباس-رضي الله عنهم أنه لا هجرة بعد فتح مكة. كما جاء ذكر ذلك في إحدى طرق حديث جابر رضي الله عنه، مع أنه جاء فيه إعادة الحج على الأعرابي بعد الهجرة، فهو وإن كان فيه ضعفاً إلا أن معناه يتقوى بأحاديث أخرى، ويدل على أن المراد بالأعراب الذين عليهم إعادة الحج بعد الهجرة هم الذين حجوا قبل فتح مكة. لا من يحجون بعد فتح مكة ثم يهاجرون؛ لأنه لا هجرة بعد الفتح.
ب- ولأن الحج على قول أكثر أهل العلم إنما فرض سنة تسع أي بعد فتح مكة
(1)
، فيكون حج من حج قبل فتح مكة غير حج الفريضة وغير حجة الإسلام، لذلك يكون عليه
أن يعيد حجه؛ لأن حجه الأول لم يكن حجة الإسلام وحجته المكتوبة.
رابعاً: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع وأذن في الناس بذلك، قدم المدينة بشر كثير، كما في حديث جابر رضي الله عنه حيث قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج. ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
انظر: الفروع 5/ 201؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 400.
ويعمل مثل عمله)
(1)
.
وهؤلاء القادمون إلى المدينة من البشر يشمل الأعراب وغيرهم، ثم لم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الأعراب بالهجرة، أو أن عليهم الحج بعد هجرتهم، وبعد حجتهم تلك.
فهذا، وكذلك ما سبق مما استُدل به على النسخ، يقوى احتمال أن يكون ما يدل على إعادة حج من حج من الأعراب قبل الهجرة منسوخاً إن أريد به عموم الأعراب أي سواء من حج منهم قبل فتح مكة أو بعده ثم هاجر.
والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 92، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح (1218)(147).
المطلب الثاني إذا حج العبد قبل أن يعتق ثم عتق فهل عليه حجة أخرى
؟
ذهب ابن حزم إلى وجوب الحج على العبد إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، وأنه إذا حج ثم أعتق فليس عليها حجة أخرى، وأن الآثار التي تدل على وجوب إعادة الحج عليه قد نسخت
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى»
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(4)
. ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فتح مكة:«لا هجرة، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(5)
.
(1)
انظر: المحلى 5/ 3، 14 - 18.
(2)
انظر: المحلى 5/ 3، 14 - 18.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(4)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(5)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا» فقال رجل: أكل عام؟ يا رسول الله! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو قلت نعم لوجبت. ولما استطعتم»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن العبد إذا حج قبل أن يعتق ثم عتق فعليه حجة أخرى، لكن هذا كان قبل أن يفرض الحج، وقبل فتح مكة؛ لأن هذا الحديث جاء فيه أن الأعرابي إذا حج قبل الهجرة ثم هاجر فعليه حجة أخرى، والهجرة كانت قبل فتح مكة واجبة لا بعد فتحها، كما يدل عليه حديث عائشة وابن عباس-رضي الله عنهم، فإذا كان ذلك قبل فتح مكة فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن الحج يجب على جميع الناس ممن استطاع إليه سبيلاً، وهو عام يشمل العبد والحر، وهذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فهو متأخر، فيكون ذلك ناسخاً لحديث ابن عباس رضي الله عنه في وجوب إعادة حج العبد بعد العتق
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عام يشمل الحر والعبد، وحديث ابن عباس
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
انظر: المحلى 5/ 16 - 18.
-رضي الله عنه خاص، والعام لا ينسخ الخاص، فيكون حديث ابن عباس رضي الله عنه مخصصاً له، ويكون العبد مستثنى من هذا العموم
(1)
.
ب- إن حديث جابر رضي الله عنه جاء في إحدى طرقه الجمع بين عدم الهجرة بعد الفتح وبين وجوب إعادة الحج على العبد إذا أعتق واستطاع إليه سبيلاً، وهو وإن كان فيه ضعفاً إلا أن معناه يتقوى بحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم في عدم الهجرة بعد الفتح، وبحديث ابن عباس رضي الله عنه في إعادة الحج على العبد بعد العتق. وإذا صح ذلك فإنه يدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد الفتح) وقوله في إعادة الحج على العبد إذا أعتق، كان كل ذلك بعد فتح مكة، وبالتالي لا يصح الاستدلال من حديث:(لا هجرة بعد الفتح) على نسخ إعادة الحج على العبد إذا أعتق واستطاع إليه سبيلاً؛ لأن كل ذلك كان بعد فتح مكة. ولا يكون حديث إعادة الحج على العبد بعد العتق قبل فتح مكة.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب إعادة الحج على العبد إذا اعتق واستطاع إليه سبيلاً على قولين:
القول الأول: إن حجه وهو عبد لا يجزئ عن حجة الإسلام، لذلك يجب عليه أن يحج حجة أخرى.
(1)
انظر: الأم 2/ 122؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 107؛ بدائع الصنائع 2/ 294؛ المغني 5/ 45؛ المجموع 7/ 31.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول ابن عباس رضي الله عنه، وعطاء، والحسن، وإبراهيم النخعي
(5)
.
ونقل ابن المنذر إجماع أهل العلم عليه إلا من شذ منهم ممن لا يعتد بخلافه خلافاً
(6)
.
القول الثاني: إن حجه وهو عبد يجزئ عن حجة الإسلام، لذلك ليس عليه إعادة الحج.
وهو قول داود الظاهري، وابن حزم
(7)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
(8)
.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 33؛ مختصر القدوري ص 66؛ بدائع الصنائع 2/ 294.
(2)
انظر: الكافي لابن عبد البر ص 133؛ بداية المجتهد 2/ 626؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 143؛ جامع الأمهات ص 183.
(3)
انظر: الأم 2/ 122؛ مختصر المزني ص 101؛ المجموع 7/ 15، 33.
(4)
انظر: المغني 5/ 44، 45؛ شرح الزركشي 2/ 89؛ منتهى الإرادات 1/ 173.
(5)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 354، 355؛ المحلى 5/ 16.
(6)
انظر: المجموع 7/ 33؛ المغني 5/ 44.
(7)
انظر: المحلى 5/ 3، 16 - 18؛ بداية المجتهد 2/ 626؛ المغني 5/ 44؛ المجموع 7/ 33؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 143.
(8)
سورة آل عمران، الآية (97).
بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه
حجة أخرى»
(1)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صبياً حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً، ولو أن أعرابياً حج عشر حجج ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً، ولو أن مملوكاً حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلاً»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا طلاق إلا بعد النكاح، ولا يمين في قطيعة، ولا تعرب بعد هجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا يمين لولد مع والد، ولا يمين لامرأة مع زوج، ولا يمين لعبد مع سيده، ولا نذر في معصية الله، ولو أن أعرابياً حج عشر حجج ثم هاجر كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً، ولو أن صبياً حج عشر حجج ثم احتلم كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً، ولو أن عبداً حج عشر حجج ثم عتق كانت عليه حجة إن استطاع إليه سبيلاً»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
رابعاً: عن محمد بن كعب القرظي
(1)
، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين، أيما صبي حج به أهله ثم مات أجزأ عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله ثم مات أجزأ عنه، وإن أعتق فعليه الحج»
(2)
.
خامساً: الإجماع؛ حيث نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن العبد إذا حج ثم
أعتق أن عليه حجة أخرى إذا استطاع إليه سبيلاً
(3)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن الآية الكريمة تدل على أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، والعبد غير مستطيع؛ لأن للسيد منعه لحقوقه من هذه العبادة. فيكون قوله:{مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
(1)
هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد، أبو حمزة القرظي، ثقة، روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وغيرهما، وروى عنه: الحكم بن عتيبة، وابن عجلان، وغيرهما، وكان أبوه من سبي قريظة، وتوفي سنة عشرين ومائة، وقيل قبله. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 364؛ التقريب 2/ 128.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 354. ورواه ابن حزم في المحلى 5/ 15، عن طريق ابن أبي شيبة ثم قال: (هذا مرسل، وعن شيخ لا يدرى اسمه ولا من هو). وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 221: (وأخرجه أبو داود في المراسيل عن محمد بن كعب القرظي نحو حديث ابن عباس مرسلاً، وفيه راو مبهم).
(3)
والمسألة فيها الخلاف السابق، لكن من قال بالإجماع فلعله لم يعتد بقول هذا المخالف، أو رأى أن المسألة مجمع عليها قبل وجود هذا المخالف. انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 287؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 142؛ المغني 5/ 44.
مخصصاً لعموم وإطلاق فوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
(1)
.
وحديث ابن عباس رضي الله عنه وما في معناه يؤكد معنى هذه الآية؛ حيث إنه يدل على أن العبد إذا حج قبل أن يعتق ثم عتق أن عليه حجة أخرى إذا استطاع إليه سبيلاً، وأن حجه وهو عبد لا يجزئ عن حجة الإسلام
(2)
.
وأجمع على ذلك الأمة والأئمة
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن العبد إذا حج فهو يجزيه عن حجة الإسلام، وليس عليه إعادة الحج بعد العتق- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
(4)
.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فقال: «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا» فقال رجل: أكل عام؟ يا رسول الله! فسكت
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 33؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 287؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 142.
(2)
انظر: الأم 2/ 122؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 143؛ المغني 5/ 45.
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 287؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 142.
(4)
سورة آل عمران، الآية (97).
حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو قلت نعم لوجبت. ولما استطعتم»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: «بل مرة، فمن زاد فهو تطوع»
(2)
.
رابعاً: حديث عائشة-رضي الله عنها-ونحوه حديث ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا هجرة بعد الفتح»
(3)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن الآية الكريمة، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدلان بعمومهما على أن الله فرض الحج على الناس من استطاع إليه سبيلاً. ولفظ الناس يتناول الحر والعبد.
كما يدل حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول على أن الحج إنما يجب مرة في العمر. وليس فيهما ما يدل على الفرق بين الحر والعبد.
ويدل حديث عائشة-رضي الله عنها، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني على أنه لا هجرة بعد فتح مكة.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن الحج يجب على العبد المسلم إذا استطاع إليه سبيلاً، كما يجب على الحر، وأنه إذا حج مرة فلا يجب عليه الحج مرة ثانية كما لا يجب على غيره من المسلمين البالغين الأحرار. وأن
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجهما في المسألة السابقة.
ما يدل على إعادة الحج عليه بعد العتق فلعل أن ذلك كان في وقت ما كانت الهجرة فرضاً، وقد كان ذلك قبل فتح مكة، فتكون أدلة فرض الحج على المسلمين البالغين من استطاع إليه سبيلاً متأخرة عن ذلك، وهي عامة تشمل العبد والحر في أنهما يجزئ عنهما حجهما عن حجة الإسلام، ولا يجب عليهما إعادته مرة ثانية
(1)
.
واعترض عليه: بأن لفظ الناس في هذه الأدلة وإن كان عاماً يشمل الحر والعبد، إلا أن العبد خرج من هذا العموم بقوله تعالى:{مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . وكذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنه وما في معناه؛ فإنه يدل على أن العبد مستثنى من هذا الحكم العام، فهو دليل خاص، والخاص يقدم على العام ويقضى به عليه، ولا ينسخ الخاص بالعام
(2)
.
الراجح
بعد ذكر ما قيل في المسألة من الأقوال مع بيان أدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو أن العبد إذا حج ثم أعتق أن عليه حجة أخرى إذا استطاع إليه سبيلاً، وذلك:
(1)
انظر: المحلى 5/ 3، 15 - 18.
(2)
انظر: الأم 2/ 122؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 33، 34؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 107، 287؛
الجامع لأحكام القرآن 4/ 142؛ بدائع الصنائع 2/ 294؛ المغني 5/ 45؛ المجموع 7/ 31.
أ- لأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، بخلاف أدلة القول المخالف له، والخاص يقدم على العام ويقضى به عليه
(1)
.
ب- ولأن أهل العلم من الصحابة والتابعين، قرؤوا هذه النصوص وعلموها، ثم قد فهموا منها أن العبد ليس كالحر في هذه العبادة ما دام عبداً، وأن عليه إعادته إذا أعتق. ولا يجوز عليهم تحريف تأويل هذه النصوص
(2)
.
ثانياً: إن ادعاء نسخ حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي يدل على وجوب إعادة الحج على العبد إذا أعتق غير صحيح؛ وذلك:
أ- لأن حديثه موافق للآية الكريمة وكذلك الأحاديث الدالة على فرض الحج؛ لأنه هذه الآية لم توجب حج البيت إلا على من استطاع إليه سبيلاً، والأحاديث المطلقة مقيدة كذلك بهذا القيد، والعبد غير مستطيع. وعليه فيكون حديث ابن عباس رضي الله عنه تفسيراً وبياناً للآية لا أن يكون مخالفاً لها، وبالتالي يكون القول بنسخ حديث ابن عباس رضي الله عنه قولاً بنسخ قيد الاستطاعة المذكورة في هذه الآية. وهو بلا شك غير صحيح.
ب- ولأن الجمع بين هذه الأدلة ممكن، وذلك بحمل الأدلة العامة على ما عدا محل الخصوص، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى نسخ بعضها، كما أن الخاص لا ينسخ بالعام
(3)
.
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 49.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/ 143.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 49.
ج- ولأن هذا الحكم لو كان منسوخاً لما خفي ذلك على سلف هذه الأمة وأئمتها، ولما اتفقوا على القول بموافقته، وإذ ليس الأمر كذلك دل ذلك على بطلان القول بنسخه.
د- ولأن حديث جابر رضي الله عنه جاء في إحدى طرقه الجمع بين عدم الهجرة بعد الفتح وبين إعادة الحج على العبد إذا اعتق واستطاع إليه سبيلاً. فهو يدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) وقوله في إعادة الحج على العبد إذا أعتق، كان كل ذلك بعد فتح مكة، وإذن لا يصح الاستدلال من حديث:(لا هجرة بعد الفتح) على نسخ إعادة الحج على العبد إذا أعتق واستطاع إليه سبيلاً؛ لأن كل ذلك كان بعد فتح مكة، لا أن حديث إعادة الحج على العبد بعد العتق كان قبل فتح مكة.
والله أعلم.
المطلب الثالث: كون العقيق ميقات أهل المشرق
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الحديث الذي يدل على أن العقيق
(1)
ميقات لأهل المشرق للحج والعمرة
(2)
، إن كان له أصل فيشبه أن يكون منسوخاً بجعل ذات عرق
(3)
ميقاتاً لهم
(4)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في صحة إحرام أهل المشرق من ذات عرق، وعدم وجوبه من العقيق، إلا أن بعضهم استحبه من العقيق
(5)
.
(1)
العقيق في اللغة: كل مسيل ماء شقه السيل في الأرض فأنهره ووسعه. والمراد به هنا: العقيق الذي يجري ماؤه من غوري تهامة وأوسطه، وهو موضع قريب من ذات عرق قبلها بمرحلة أو مرحلتين، وقيل: بحذائه. وقال بعضهم: إنه يتصل بعقيق المدينة. انظر: معجم البلدان 3/ 340؛ النهاية في غريب الحديث 2/ 239؛ المصباح المنير ص 344؛ فتح الباري 3/ 479.
(2)
العمرة لغة: الزيارة. انظر: مختار الصحاح ص 399؛ المصباح المنير ص 349.
واصطلاحاً: قصد بيت الله بأفعال مخصوصة. انظر: التعريفات الفقهية ص 152.
(3)
ذات عرق: أرض سبخة على مرحلتين من مكة، مائة كيلو متر تقريبا، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، ويسمى عند أهل نجد الآن:(الضريبة). انظر: معجم البلدان 3/ 316؛ فتح الباري 3/ 477؛ الروض المعطار ص 256؛ مناسك الحج والعمرة والمشروع في الزيارة لابن عثيمين ص 27.
(4)
انظر قوله هذا في: شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 1/ 312.
(5)
انظر: "شرح معاني الآثار 2/ 120؛ مختصر القدوري ص 66؛ المختار وشرحه الإختيار 1/ 141؛ " التمهيد 8/ 71، 72؛ الاستذكار 3/ 334؛ بداية المجتهد 2/ 632؛ الشرح الكبير للدردير 2/ 36؛ " الأم 2/ 150؛ مختصر المزني ص 94؛ العزيز 3/ 333؛ المجموع 7/ 127، 128؛ " المغني 5/ 57؛ الشرح الكبير 8/ 105؛ شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 1/ 302؛ الفروع 5/ 300؛ الإنصاف 8/ 106؛ زاد المستقنع ص 29"؛ المحلى 5/ 52؛ نيل الأوطار 4/ 427".
ودليله وكذلك دليل القول بالنسخ ما يلي:
أولاً: عن أبي الزبير
(1)
، أنه سمع جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-يُسأل عن المُهَلِّ؟ فقال: سمعت (أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة
(2)
، والطريق الآخر الجحفة
(3)
، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل
(1)
هو: محمد بن مسلم بن تدرس، الأسدي مولاهم، أبو الزبير المكي، صدوق لكنه يدلس، وروى عن جابر، وابن عمر، وغيرهما، وروى عنه: عطاء، والزهري، وغيرهما، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة. انظر: ميزان
الاعتدال 4/ 37؛ تهذيب التهذيب 9/ 381؛ التقريب 2/ 132.
(2)
هي: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، ثلاثة عشر كيلو مترا تقريبا، وبينها وبين مكة عشر مراحل قرابة (420) كيلو مترا، ويسمى الآن أبيار علي. انظر: معجم البلدان 2/ 177؛ فتح الباري 3/ 472؛ الفروع 5/ 300؛ الروض المعطار ص 196؛ المعالم الأثيرة ص 103؛ دليل الحاج والمعتمر لطلال بن أحمد العقيل ص 12.
(3)
هي قرية قديمة خربت، وكانت تقع شرق مدينة رابغ على ميل إلى الجنوب، على طريق المدينة إلى مكة، والناس يحرمون اليوم من رابغ، وبينها وبين مكة أربع مراحل، وقيل: نحو ثلاث مراحل، قرابة (186) كيلو مترا، وهي من المدينة على ثمان مراحل قرابة (247) كيلو مترا. انظر: معجم البلدان 2/ 36؛ الفروع 5/ 300؛ فتح الباري 3/ 472؛ الروض المعطار ص 156؛ مناسك الحج لابن عثيمين ص 27؛ دليل الحاج والمعتمر لطلال بن أحمد ص 12.
نجد من قرن
(1)
، ومهل أهل اليمن من يلملم
(2)
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق)
(4)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (لما فتح هذا المصران أتوا
(1)
ويقال له كذلك قرن المنازل، وهو على طريق الطائف من مكة، ويسمى اليوم السيل الكبير، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، قرابة (78) كيلو متراً، وبينه وبين الطائف قرابة (53) كيلو مترا. انظر: معجم البلدان 4/ 38؛ فتح الباري 3/ 472؛ المعالم الأثيرة ص 226؛ مناسك الحج لابن عثيمين ص 27؛ دليل الحاج والمعتمر لطلال ابن أحمد ص 12.
(2)
هو جبل من جبال تهامة، وبينه وبين مكة مرحلتان، قرابة (120) كيلو متراً، ويسمى الآن السعدية. انظر: معجم البلدان 4/ 504؛ فتح الباري 3/ 473؛ الروض المعطار ص 619؛ المعالم الأثرة ص 301؛ مناسك الحج لابن عثيمين ص 27؛ دليل الحاج لطلال ابن أحمد ص 12.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 23، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، ح (1183)(18).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 267، كتاب المناسك، باب في المواقيت، ح (1739)، والنسائي في سننه ص 415، كتاب مناسك الحج، باب ميقات أهل العراق، ح (2656)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 118، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 42، وابن حزم في المحلى 5/ 53. وصححه ابن حزم، والنووي، والشيخ الألباني. انظر: المحلى 5/ 53؛ المجموع 7/ 126؛ صحيح سنن أبي داود ص 267؛ إرواء الغليل 4/ 176. وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة 1/ 304 - بعد ذكر سنده: (وهذا إسناد جيد).
عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شقّ
علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق)
(1)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: (وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 305، كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، ح (1531).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 267، كتاب المناسك، باب في المواقيت، ح (1740)، والترمذي في سننه ص 203، كتاب الحج، باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الأفاق، ح (832)، وأحمد في المسند 5/ 276. وحسنه الترمذي. لكن أعل بعلتين: الأولى: الشك في اتصاله؛ لأنه من رواية محمد بن علي بن عباس عن ابن عباس، كما هو مصرح به في رواية أحمد وأبي داود. ومحمد بن علي بن عباس لا يُعلم له سماع من جده. انظر: تهذيب السنن لابن القيم 3/ 283؛ التلخيص الحبير 2/ 229؛ إرواء الغليل 4/ 180. وذكر الترمذي في سننه بعد ذكر الحديث أن محمداً هذا هو أبو جعفر محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب. ولعله يكون وهماً.
العلة الثانية: هي أن في سنده يزيد بن أبي زياد، وهو متكلم فيه، فقد كان شيعياً، وضعفه غير واحد منهم: ابن معين، وابن المبارك، وابن عدي، وابن قانع، والدارقطني، والمنذري، والنووي، وابن حجر، والشيخ الألباني. وقال جماعة-منهم: أبو حاتم، والحاكم، والبرديجي-ليس بالقوي. انظر: مختصر سنن المنذي 3/ 284؛ المجموع 7/ 126؛ الفروع 5/ 300؛ تهذيب التهذيب 11/ 286؛ إرواء الغليل 4/ 181.
وقد وثقه البعض منهم: أحمد بن صالح المصري، وابن سعد. وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه. وقال ابن حبان: كان صدوقاً إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير وكان يلقن ما لقن فوقعت المناكير في حديثه، فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح. انظر: الفروع 5/ 300؛ تهذيب التهذيب 11/ 286، 287.
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث غير حديث ابن عباس رضي الله عنه صريحة في أن ميقات أهل المشرق هو ذات عرق
(1)
.
وحديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن ميقاتهم هو العقيق، لكنه ضعيف، وعلى تقدير ثبوته يكون منسوخاً، يدل عليه أمران:
الأول: الإجماع؛ حيث إن الناس أجمعوا على صحة إِحْرَامِ مَنْ أَهلَّ من ذات عرق، ولو
كان العقيق ميقاتاً لأهل المشرق لما صح إحرامهم من ذات عرق. والإجماع لا ينسخ لكنه يدل على النسخ وعلى تأخر ما يوافقه
(2)
.
الثاني: إن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع حيث أكمل الله دينه، وابن عباس رضي الله عنه لم يذكر العقيق لما ذكر حديثه المشهور في المواقيت، فيكون إن كان حدث به مرة قد تركه لما علم من نسخه، ولهذا لم يروه عنه إلا ولده الذي قد يقصد بتحديثهم إخبارهم بما قد وقع، لا لأن يبنى الحكم عليه
(3)
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 120؛ الاستذكار 3/ 334؛ المغني 5/ 57؛ المجموع 7/ 127، 128؛ شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 1/ 304 - 313.
(2)
انظر: التمهيد 8/ 72، 73؛ الاستذكار 3/ 334؛ المغني 5/ 57؛ المجموع 7/ 127؛ مختصر ابن الحاجب 4/ 100؛ الإحكام للآمدي 2/ 145؛ شرح الكوكب المنير 3/ 570؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/ 98.
(3)
انظر: شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 1/ 312 - 313.
المطلب الرابع: بقاء أثر الطيب بعد الإحرام
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس ببقاء أثر الطيب بعد الإحرام بالحج أو العمرة، وأن الأمر بغسله كان أولاً، ثم نُسخ ذلك
(1)
.
وممن صرح بالنسخ أو قال به: الإمام الشافعي
(2)
، والحازمي
(3)
، وابن قدامة
(4)
، والرازي
(5)
، وأبو إسحاق الجعبري
(6)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: اختلاف الآثار، والقول بالنسخ
(7)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن يعلى
(8)
رضي الله عنه أنه قال لعمر رضي الله عنه: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يُوحى
(1)
انظر: المجموع 7/ 147؛ الشرح الكبير للمقدسي 8/ 140؛ فتح الباري 3/ 485؛ عمدة القاري 7/ 46؛ سبل السلام 2/ 387.
(2)
انظر: الأم 2/ 167؛ الاعتبار ص 371.
(3)
انظر: الاعتبار ص 366 - 372.
(4)
انظر: المغني 5/ 79؛ الشرح الكبير 8/ 141.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ للرازي ص 63.
(6)
انظر: رسوخ الأحبار ص 374.
(7)
راجع المصادر السابقة في الحواشي: (1، 4 - 6). وانظر: بداية المجتهد 2/ 641.
(8)
هو: يعلى بن أميّة بن أبي عبيدة بن همام، التميمي الحنظلي، حليف قريش، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه الطائف وحنيناً وتبوك، وروى عنه عطاء، ومجاهد، وغيرهما، ومات بعد الأربعين. انظر: الإصابة 3/ 2123؛ تهذيب التهذيب 11/ 348؛ التقريب 2/ 340.
إليه، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ
(1)
بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحيُ فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أُظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الوجه
وهو يَغِطُّ
(2)
، ثم سُرِّي عنه، فقال:«أين الذي سأل عن العمرة؟» فأُتي برجل فقال: «اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك»
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)
(4)
.
(1)
التضمخ هو التلطخ بالطيب وغيره، والإكثار منه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 91.
(2)
يغط من الغطيط، وهو الصوت الذي يخرج مع نفس النائم، وهو ترديده حيث لا يجد مساغاً. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 311.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 306، كتاب الحج، باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، ح (1536)، ومسلم في صحيحه 5/ 14، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه وما لا يباح، ح (1180)(8).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 306، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، ح (1539)، ومسلم في صحيحه 5/ 33، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم قبل الإحرام، ح (1189)(33).
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديَّ بذريرة
(1)
في حجة الوداع للحل وللإحرام)
(2)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كأنّي أنظر إلى وبيص
(3)
الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)
(4)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: (رأيت بصيص
(5)
الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم)
(6)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد
(7)
جباهنا بالسُّكّ
(8)
المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا
(1)
الذريرة نوع من الطيب، مجموع من أخلاط. النهاية في غريب الحديث 1/ 602.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1265، كتاب اللباس، باب الذريرة، ح (5930)، ومسلم في صحيحه 5/ 33، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح (1189)(35).
(3)
الوبيص: البريق. النهاية في غريب الحديث 2/ 818.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 306، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، (1538)، ومسلم في صحيحه 5/ 34، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح (1190)(39).
(5)
بصيص الطيب: أي بريقه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 138.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 205، ونحوه النسائي في سننه ص 421، كتاب مناسك الحج، باب
موضع الطيب، ح (2702)، وابن حزم في المحلى 5/ 72. وصحح إسناد رواية النسائي الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 421.
(7)
الضماد أصله: الشد، يقال: ضمد رأسه وجرحه: إذا شده بالضماد، وهي خرقة يشد بها العضو المؤوف. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 91.
(8)
السك: هو طيب معروف يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 791.
سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا)
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث يعلى رضي الله عنه يدل على غسل أثر الطيب بعد الإحرام، لكن هذا الأمر بالغسل كان عام الفتح سنة ثمان، والأحاديث المروية عن عائشة رضي الله عنها تدل على أنه لا بأس ببقاء أثر الطيب بعد الإحرام؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب وبقي أثره عليه بعد الإحرام، كما أن مِن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مَن تطيبن وبقي أثره عليهن بعد الإحرام، ولم ينههن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وكان هذا عام حجة الوداع سنة عشر، فتكون هذه الأحاديث ناسخة للحديث الدال على غسل الطيب وأثره بعد الإحرام؛ لتأخرها عليه؛ وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في بقاء أثر الطيب بعد الإحرام على قولين:
القول الأول: يستحب التطيب قبل الإحرام، ولا بأس ببقاء أثره بعد الإحرام.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 281، كتاب المناسك، باب ما يلبس المحرم، ح (1830). وحسنه النووي، وصححه الشيخ الألباني. انظر: المجموع 7/ 145؛ صحيح سنن أبي داود ص 281.
(2)
انظر: الأم 2/ 167؛ المحلى 5/ 75؛ الاعتبار ص 368؛ المغني 5/ 79؛ المجموع 7/ 147؛ فتح الباري 3/ 485، 489؛ عمدة القاري 7/ 46.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
،
والحنابلة
(3)
، وقول جمهور أهل العلم من السلف والخلف
(4)
.
وممن روي عنه ذلك أوقال به: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وأبو ذر، والبراء بن عازب، وعائشة وأم حبيبة-رضي الله عنهم، وعروة، والشعبي، والنخعي، وخارجة بن زيد، وابن جريج، والثوري، والأزواعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وابن حزم
(5)
.
وهو رواية عن: الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير
(6)
.
القول الثاني: لا يجوز أن يتطيب قبل إحرامه بما يبقى عليه أثره بعد الإحرام، وإن فعله فعليه أن يغسله.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 131؛ مختصر القدوري ص 66؛ بدائع الصنائع 2/ 335؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3/ 432.
(2)
انظر: الأم 2/ 167؛ مختصر المزني ص 94؛ العزيز 3/ 378؛ المجموع 7/ 144، 146؛ المنهاج وشرحه مغني
المحتاج 2/ 252.
(3)
انظر: المغني 5/ 77؛ الفروع 5/ 324؛ شرح الزركشي 2/ 107؛ الإنصاف 8/ 138.
(4)
انظر: المحلى 5/ 70، 71؛ الاعتبار ص 368؛ المجموع 7/ 146.
(5)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 206، 207؛ المحلى 5/ 70؛ التمهيد 8/ 45؛ الاستذكار 3/ 327، 328؛ المغني 5/ 77؛ المجموع 7/ 147.
(6)
انظر: التمهيد 8/ 328.
وهو مذهب المالكية
(1)
، وقول محمد بن الحسن، والطحاوي من الحنفية
(2)
.
وممن روي عنه ذلك أو قال به: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم، وعطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن وابن سيرين
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو جواز التطيب عند الإحرام، ولا بأس ببقاء أثره بعده-بما يلي:
أولاً: أحاديث عائشة-رضي الله عنها-في تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه ولحله، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديث عائشة-رضي الله عنها في تطيب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينههن عن ذلك، وقد سبق ذكره كذلك في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: عن قتادة: (أن ابن عباس-رضي الله عنهما-كان لا يرى بأساً بالطيب عند إحرامه، ويوم النحر قبل أن يزور)
(4)
.
(1)
انظر: التمهيد 8/ 46؛ الاستذكار 3/ 326؛ بداية المجتهد 2/ 639؛ جامع الأمهات ص 205؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 228؛ التاج والإكليل 4/ 228؛ الشرح الكبير 2/ 96.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 133؛ بدائع الصنائع 2/ 335.
(3)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 207 - 208؛ التمهيد 8/ 46؛ الاستذكار 3/ 326؛ المغني 5/ 77.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 206، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 129.
رابعاً: عن أبي الضّحى
(1)
، قال:(رأيت عبد الله بن الزبير وفي رأسه ولحيته من الطيب وهو محرم ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال)
(2)
.
فهذه الأدلة تدل على استحباب التطيب عند الإحرام، وأنه لا بأس ببقاء أثره بعد الإحرام؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل إحرامه، وبقي عليه أثره بعد الإحرام، ولم ينكر على من تطيبن من أزواجه، وقد بقي عليهن أثر ذلك الطيب بعد الإحرام. كما أن جماعة من أصحابه-رضي الله عنهم عملوا على وفق ذلك بعده صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانوا يتطيبون قبل الإحرام ولا يرون بأساً ببقاء أثره بعد ذلك
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو عدم جواز التطيب عند الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام- بما يلي:
أولاً: حديث يعلى رضي الله عنه وقد مرّ ذكره في دليل القول بالنسخ.
(1)
هو: مسلم بن صُبيح الهمداني مولاهم، أبو الضحى، الكوفي العطار، ثقة، روى عن: ابن عباس، وابن عمر، و غيرهما، وروى عنه الأعمش، والمنصور، وغيرهما، وتوفي سنة مائة. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 120؛ التقريب 2/ 179.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 206، وانظر المحلى 5/ 70.
(3)
انظر: الأم 2/ 167؛ شرح معاني الاثار 2/ 126 - 131؛ المحلى 5/ 69 - 73؛ الاعتبار ص 368 - 372؛ المغني 5/ 78 - 80؛ المجموع 7/ 147.
ثانياً: عن محمد بن المنتشر
(1)
، قال: سمعت ابن عمر-رضي الله عنهما يقول: لأن أصبح مطليّاً بقطران أحب إليّ من أن أصبح محرماً أنضخ طيباً. قال: فدخلت على عائشة رضي الله عنها-فأخبرتها بقوله، فقالت:(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في نسائه، ثم أصبح محرماً)
(2)
.
ثالثاً: عن أسلم
(3)
مولى عمر بن الخطاب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريح طيب وهو بالشجرة
(4)
، فقال:(ممن ريح هذا الطيب؟ فقال معاوية بن أبي سفيان: منّي يا أمير المؤمنين، فقال منك؟ لعمر الله. فقال معاوية: إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: عزمت عليك لترجعنّ فلتغسلنّه)
(5)
.
ويستدل منها على عدم جواز أن يتطيب المحرم بما يبقى عليه أثره بعد
(1)
هو: محمد بن المنتشر بن الأجدع بن مالك، الهمداني، الكوفي، ثقة، روى عن: ابن عمر، وعائشة، وغيرهما، وروى عنه: ابنه إبراهيم، ومجالد، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 406؛ التقريب 2/ 136.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 59، كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب، ح (270)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 37، كتاب الحج، باب استحباب الطيب قبل الإحرام، ح (1192)(49).
(3)
هو: أسلم العدوي مولى عمر رضي الله عنه، أبو خالد، ويقال: أبو زيد، ثقة، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما. وروى عنه ابنه زيد، ونافع، وغيرهما، وتوفي سنة ثمانين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 241؛ التقريب 1/ 89.
(4)
المراد به ذي الحيلفة، كما هو مصرح به في رواية ابن أبي شيبة والطحاوي.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 269، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 207، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 126. ورجال رواية مالك رجال الشيخين.
الإحرام: بأن حديث يعلى رضي الله عنه فيه الأمر بغسل الطيب الذي بقي بعد الإحرام، فيدل على عدم جوازه؛ وإلا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل بغسله. ويؤكد ذلك أثر عمر، وابنه عبد الله-رضي الله عنهما؛ حيث أنكرا التطيب عند الإحرام. أما تطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند الإحرام فقد ذكرت عائشة-رضي الله عنها-أنها طيبته ثم طاف على نسائه. وهو صلى الله عليه وسلم قد اغتسل بعد ذلك، ثم أحرم، فيكون الطيب قد أتى عليه الغسل، فكان إحراماً بعد طيب قد غسله
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن حديث يعلي رضي الله عنه ورد بألفاظ مختلفة، منها ما يدل على أن الرجل المذكور في ذلك الحديث كان متضمخاً بطيب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بغسل ذلك الطيب. وقد سبق ذكره بهذا اللفظ.
وقد ورد بلفظ يدل على أن ذلك الرجل كان عليه أثر خلوق
(2)
، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وانق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 126، 132، 133؛ التمهيد 8/ 53 - 59؛ الاستذكار 3/ 327؛ الاعتبار ص 371؛ نيل الأوطار 4/ 437.
(2)
الخَلوق: طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 526؛ المصباح المنير ص 153.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 354، كتاب العمرة، باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج، ح (1789)، ومسلم في صحيحه 5/ 15، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أوعمرة لبسه، ح (1180)(6).
والخلوق والتزعفر قد جاء النهي عنه للرجال محرماً كان أو غير محرم، فيحتمل أن يكون الأمر بغسل أثر الخلوق لا لكونه طيباً بل لأنه خلوق، وهو منهي عنه حتى في غير الإحرام، فلا يكون في الحديث تعرض للطيب
(1)
.
وعلى تقدير أن الأمر بالغسل كان من أجل أنه طيب، فيكون ذلك منسوخاً، لأن ذلك كان سنة ثمان، ثم في عام حجة الوداع سنة عشر قد تطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإحرام وبقي أثره عليه، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ثانياً: يعترض على القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بعدما تطيب، ثم اغتسل ثم أحرم، فيكون بين إحرامه وطيبه غسل، يعترض عليه بما يلي:
أ- إنه قد بقي على النبي صلى الله عليه وسلم أثر الطيب بعد الإحرام، فالغسل لم ينهِ أثره، يدل عليه ما سبق من حديث عائشة-رضي الله عنها-كما يدل عليه قولها: (يرحم الله أبا عبد الرحمن
(3)
، كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً)
(4)
.
(1)
انظر: الأم 2/ 167؛ شرح معاني الآثار 2/ 126؛ الاعتبار ص 370؛ فتح الباري 3/ 485.
(2)
انظر: الأم 2/ 167؛ فتح الباري 3/ 485.
(3)
هو عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-كما سبق التصريح به في إحدى روايات عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 59، كتاب الغسل، باب إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل
واحد، ح (267)، ومسلم في صحيحه 5/ 37، كتاب الحج، باب استحباب الطيب قبل الإحرام في البدن، ح (1192)(48).
فهذا صريح في بقاء الطيب وأثره على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإحرام
(1)
.
ب-إنه يحتمل أن تكون عائشة-رضي الله عنها-طيبت صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه، ثم طيبته عند الإحرام مرة ثانية، ويدل على ذلك الروايات السابقة والتي جاء فيها أنها رضي الله عنها-طيبته صلى الله عليه وسلم للإحرام
(2)
.
ثالثاً: إن ما روي عن عمر، وابنه عبد الله-رضي الله عنهما من إنكار الطيب عند الإحرام، فيعترض عليه بما يلي:
أ-إن ابن عمر-رضي الله عنهما-سكت لما بلغه قول عائشة أنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم عند الإحرام، كما نُقل عنه أنه قال لما سُئل عن الطيب عند الإحرام:(لا آمر به ولا أنهى عنه)
(3)
.
ب-إن عمر رضي الله عنه روي عنه كذلك أنه شم الطيب من البراء بن عازب رضي الله عنه لما أحرموا فقال له: (إنما الحاج الأذفر
(4)
الأغبر)
(5)
. ولم ينهه عنه، فهو مما يدل على أنه قد توقف فيه
(6)
.
ج- إن عمل هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم-معارض بعمل غيرهم من الصحابة-رضي الله عنهم-كسعد بن أبي وقاص وابن عباس، وغيرهم
(1)
انظر: الاعتبار ص 372؛ فتح الباري 3/ 489؛ نيل الأوطار 4/ 437.
(2)
انظر: الاعتبار ص 372.
(3)
انظر: المحلى 5/ 71.
(4)
الأذفر أي طيب الرائحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 605.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 209.
(6)
انظر: المحلى 5/ 69، 71.
-رضي الله عنهم-فيكون قولهم وعملهم أولى لموافقة ذلك لعمل النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وهو استحباب الطيب عند الإحرام، وأنه لا بأس ببقاء
أثره بعد الإحرام، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب في حجة الوداع قبل الإحرام، وبقي عليه أثره بعد الإحرام، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم ينه من فعل ذلك، بل قررهم عليه، فدل كل ذلك على جواز الطيب واستحبابه عند الإحرام، سواء يبقى أثره بعد الإحرام أم لا. وقد سبق دليل هذا كله
(2)
.
ثانياً: إن الأمر بغسل الطيب وأثره في حديث يعلى رضي الله عنه يحتمل أنه أريد به نوع خاص من الطيب وهو الخلوق، وهو قد جاء النهي عنه في غير الإحرام كذلك، فيكون الأمر بالغسل مختصاً بهذا النوع من الطيب وأثره، ولا يكون شاملاً لمطلق أنواع الطيب.
كما يحتمل أن يكون المراد به مطلق الطيب، وعليه فيكون ذلك منسوخاً؛ لأن ذلك كان سنة ثمان، وقد تطيب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو كان سنة عشر. ولا يقال: إن ذلك مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن زوجاته صلى الله عليه وسلم تطيبن كذلك ولم ينههن عن ذلك، ولا فرق في الطيب بين النساء
(1)
انظر: المحلى 5/ 96 - 73.
(2)
راجع أدلة القول الأول.
والرجال اتفاقاً، كما أن عمل غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما ثبت عنه يؤكد استحباب ذلك وعمومه
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الأم 2/ 167؛ الاعتبار ص 368 - 372؛ فتح الباري 3/ 485.
المطلب الخامس: الاشتراط في الحج
ذهب بعض أهل العلم إلى نسخ حديث الاشتراط في الحج
(1)
.
وممن صرح به: أبو حامد الرازي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما
(4)
.
ويتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن مجاهد قال: (ذكرت ذلك لابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة بنت الزبير أن تشترط أن محلها حيث حبست، فقال: قد كان هذا ولكن نسخ، قلت: وما نسخه؟ قال: نسخه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
(1)
ذكر الحازمي في الاعتبار ص 377، جملة من الفقهاء والمحدثين ممن قالوا بعدم الاشتراط، ثم قال:(وأما حديث ضباعة فقد ذهب بعض هؤلاء إلى أنه منسوخ). وانظر التلخيص الحبير 2/ 288.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 64.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 370.
(4)
قال الحازمي في الاعتبار ص 377: (روينا ذلك عن ابن عباس-ثم ذكر ذلك بالسند ثم قال: -وليس هذا الإسناد بذاك القائم). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 288، ونحوه الشوكاني في نيل الأوطار 4/ 443:(وادعى بعضهم أن الاشتراط منسوخ، روي ذلك عن ابن عباس أيضاً، لكن فيه الحسن بن عمارة وهو متروك).
(5)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة السابقة.
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [سورة البقرة: 196])
(1)
.
ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما أنه كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: (أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حُبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً)
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط في الحج، وأنه السنة، وحديث ابن عباس رضي الله عنه صريح في نسخ الاشتراط في الحج، فيثبت من كل ذلك أن حديث الاشتراط في الحج قد نسخ
(4)
.
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 377، ثم قال:(رواه قيس بن الربيع، عن الحسن نحوه، وليس هذا الإسناد بذاك القائم). وقال الشوكاني في نيل الأوطار 4/ 443: (روي ذلك عن ابن عباس لكن بإسناد فيه الحسن بن عمارة وهو متروك).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 226، كتاب الحج، باب منه، ح (942)، والنسائي في سننه ص 431، كتاب مناسك الحج، باب ما يفعل من حُبس عن الحج ولم يكن اشترط، ح (2769)، ونحوه أحمد في المسند
8/ 487. وصححه الترمذي، والألباني. انظر: سنن الترمذي ص 226؛ صحيح سنن الترمذي ص 226.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 358، كتاب المحصر، باب الإحصار في الحج، ح (1810).
(4)
انظر: الاعتبار ص 377؛ نيل الأوطار 4/ 443.
واعترض عليه: بأن حديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط في الحج، وليس فيه ما يدل على نسخ حديث الاشتراط. أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه فلا يصح الاستدلال منه على النسخ؛ لأمرين هما:
أ- إنه ضعيف فلا يعارض ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوى على نسخه
(1)
.
ب- إن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(2)
. نزل عام الحديبية سنة سبع يدل على ذلك ما جاء في حديث كعب بن عجرة
(3)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال: «أيؤذيك هوامُّك؟» قال: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً
(4)
بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام
(5)
.
(1)
راجع الكلام عليه في تخريجه، وانظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 61.
(2)
سورة البقرة، الآية (196).
(3)
هو: كعب بن عجرة بن أمية بن عدي، الأنصاري المدني، أبو محمد، شهد عمرة الحديبية، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن عمر، وجابر، وغيرهما، وتوفي بعد الخمسين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 31؛ الإصابة 3/ 1691؛ التقريب 2/ 42.
(4)
الفرق مكيال تسع فيه ستة عشر رطلاً. انظر: مختار الصحاح ص 440؛ التعريفات الفقهية ص 164.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 859، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، ح (4159)، ونحوه مسلم في
صحيحه 4/ 52، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ح (1201)(83).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، قال: وكانت لي وفرة
(1)
فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أيؤذيك هوام رأسك؟» قلت: نعم، قال: وأنزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [سورة البقرة: 196]
(2)
.
ويظهر من حديث ضباعة أن حجها الذي أرادته وهي شاكية كان بعد عام الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه-رضي الله عنهم-حجوا بعد فتح مكة. فيكون حديث ضباعة بعد نزول آية الحصر، والسابق لا يكون ناسخاً للاحق؛ لأن من شرط صحة النسخ كون الناسخ متأخراً
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الاشتراط في الحج والعمرة وفائدة ذلك على قولين:
القول الأول: إن من أحرم بنسك فلا يشترط، ومن اشترط فلا يفيده ذلك شيئاً.
(1)
الوفرة: الشعر إلى الأذنين. انظر: المصباح المنير ص 547.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 864، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، ح (4191).
(3)
راجع مطلب شروط النسخ في التمهيد.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، ونحوه قول ابن عمر رضي الله عنه، وعروة، وطاووس، وسعيد بن جبير، والزهري، والثوري
(3)
.
القول الثاني: إن من أحرم بنسك فله أن يشترط، فإن حصل له ما يحبسه عنه حل من الموضع الذي حبس فيه ولا شيء عليه.
وهو مذهب الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وروي نحو ذلك عن: عمر، وعثمان، وعلي، وابن
مسعود، وعمار بن ياسر، وعائشة، وأم سلمة، وابن عباس-رضي الله عنهم، وقال به: علقمة، والأسود، وشريح، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وعطاء بن يسار، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن حزم
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بأدلة منها ما يلي:
(1)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 395؛ الاختيار 1/ 168؛ الفتاوى الهندية 1/ 255؛ إعلاء السنن 10/ 442.
(2)
انظر: التمهيد 8/ 272؛ الاستذكار 3/ 475؛ جامع الأمهات ص 210؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 302؛ التاج والإكليل 4/ 302.
(3)
انظر: التمهيد 8/ 272؛ المغني 5/ 93؛
(4)
انظر: الأم 2/ 172؛ المهذب 2/ 821؛ 1؛ العزيز 3/ 526، 527؛ المجموع 8/ 184، 185.
(5)
انظر: المغني 5/ 92، 93، 204؛ المحرر 1/ 236؛ الشرح الكبير 9/ 328؛ الممتع 2/ 493؛ الفروع
5/ 329؛ الإنصاف 9/ 328.
(6)
انظر: المحلى 4/ 88، 105 - 107؛ التمهيد 8/ 273؛ المغني 5/ 93؛ فتح الباري 4/ 10.
أولاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط، وقد سبق ذكره في أدلة القول بالنسخ.
ثانياً: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
(1)
.
ففي هذه الآية نهى عز وجل عن حلق الرأس قبل ذبح الهدي في محله وهو الحرم، من غير فصل بين من اشترط الإحلال عند الإحرام وبين من لم يشترطه
(2)
.
واعترض عليه: بأن عدم اشتراط النبي صلى الله عليه وسلم في حجه لا ينافي ما أمر به ضباعة-رضي الله عنها-من الاشتراط، ويكون عموم الآية الكريمة مخصصاً بأمره صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا يكون بين هذه الأدلة أي تعارض أو منافاة
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز الاشتراط- بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: «لعلك أردت الحج» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: «حجي واشترطي
قولي: اللهم محِلِّي حيث حبستني»
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (196).
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 395.
(3)
انظر: المحلى 5/ 108؛ المغني 5/ 93؛ التلخيص الحبير 2/ 288.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1105، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، ح (5089)، ومسلم في صحيحه 5/ 60، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، ح (1207)(104).
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب-رضي الله عنها-أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال:«أهلي بالحج واشترطي أن محِلي حيث تحبسني» قال: فأدركت
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن ضباعة أرادت الحج، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط، ففعلت ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه قال: إن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: «قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحِلي من الأرض حيث تحبسني؛ فإن لك على ربك ما استثنيت»
(3)
.
ثالثاً: عن ضباعة-رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاكية، فقال:«أما تريدين الحج العام؟» قلت: إني عليلة يا رسول الله! قال:
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 61، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، ح (1208)(106).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 61، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، ح (1208)(107).
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 431، كتاب الحج، باب الاشتراط في الحج، ح (2766)، والدارمي في سننه 2/ 54. وقال الشيخ الألبان في إرواء الغليل 4/ 186:(صحيح).
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحرمي وقولي: إن محلي
حيث تحبسني، فإن حُبست أومرضت فقد أحللت من ذلك شرطك على ربك عز وجل»
(2)
.
فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على صحة الاشتراط في النسك، وأن من اشترط ثم حبس فإنه يحل من نسكه بدون أن يلزمه شيء، وقد عمل بمقتضى ذلك جمع من الصحابة-رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو جواز الاشتراط لمن خاف الحبس عن أداء النسك، وأن ذلك لم ينسخ، وذلك لما يلي:
أولاً: لصحة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، وعدم صحة ما ينافيه.
ثانياً: ولأنه قول جماعة من الصحابة، منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنهم، ولم يصح إنكار الاشتراط إلا عن ابن عمر رضي الله عنه، ولو لم
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 498، كتاب الحج، باب في الشرط في الحج، ح (2937). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 498:(صحيح).
(2)
أخرجه أحمد في المسند 45/ 348. قال الألباني في إرواء الغليل 4/ 189 - بعد ذكر سنده-: (وهذا سند صحيح رجاله رجال الصحيح).
(3)
انظر: المحلى 5/ 105 - 108؛ السنن الكبرى للبيهقي 5/ 361 - 365؛ المغني 5/ 93؛ المجموع 8/ 183.
يكن في المسألة شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان قول جماعة الصحابة أولى من قول ابن عمر رضي الله عنه، فكيف وقد صح فيها ما سبق ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثالثاً: ولأن القول بنسخ الاشتراط في النسك ضعيف وغير صحيح يدل على ذلك ما يلي:
أ- لأن ما يستدل به على النسخ ضعيف السند؛ لذلك لا يصح الاستدلال منه على نسخ ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله
(2)
.
ب- إن ما يُستدل به على النسخ روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد روي عنه القول بمقتضى حديث ضباعة-رضي الله عنها
(3)
، وهو مما يضعف الرواية عنه بالنسخ.
ج- إنه لا يوجد دليل يدل على أن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(4)
، نزل بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة-رضي الله عنها:«حجي واشترطي» بل الظاهر عكسه كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 5/ 94؛ فتح الباري 4/ 10.
(2)
راجع الكلام عليه عند تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
انظر: المحلى 5/ 106.
(4)
سورة البقرة، الآية (196).
المطلب السادس: دخول المحرم من الأبواب
صرح جمع من أهل العلم، منهم: الحازمي
(1)
، والرازي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
، أن الناس غير الحُمس
(4)
، كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطاً، ولا بيتاً، ولا داراً، من بابه ولم يخرج منه حتى يحل من إحرامه، ويرون ذلك براً، فنسخ الله ذلك وأمر بإتيان البيوت من أبوابها.
ولا خلاف بين أهل العلم في أنه ليس من البر للمحرم إتيان البيوت من ظهورها، وأنه لا يحرم إتيانها من الأبواب في حال من الأحوال
(5)
.
ويدل على ذلك وعلى النسخ ما يلي:
أولاً: عن البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا
(1)
انظر: الاعتبار ص 373، 374.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 64.
(3)
رسوخ الأحبار ص 375 - 377، وانظر: أسباب النزول للواحدي ص 33؛ فتح الباري 3/ 768، 769؛ عمدة القاري 7/ 439 - 441.
(4)
الحمس هم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وجشم، وبني نضر بن معاوية، وبنو عامر بن صعصعة. وسموا حمساً لتشددهم في دينهم. انظر: الاعتبار ص 374؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 343؛ رسوخ الأحبار ص 375.
(5)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة قبل السابقة، وانظر: جامع البيان للطبري 2/ 966 - 969؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 310؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 100، 101؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 342 - 344؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 214.
حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيّر بذلك، فنزلت:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]
(2)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما قال: كانت قريش يدعون الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من الأبواب في الإحرام، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان فخرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري
(3)
، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر؛ إنه خرج معك من الباب، فقال: «ما حملك
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 357، كتاب العمرة، باب قول الله تعالى:{وأتوا البيوت من أبوابها} ، ح (1803)، ومسلم في صحيحه 9/ 267، كتاب التفسير، ح (3026)(23).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 930، كتاب التفسير، باب {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى} ، ح (4512).
(3)
هو: قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو، الأنصاري الخزرجي، أبو زيد، شهد بدراً والعقبة والمشاهد، وكانت معه راية بني سلمة يوم الفتح، قيل: توفي في خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 15؛ الإصابة 3/ 1620.
على ذلك؟» قال: رأيتك فعلت ففعلت كما فعلت، فقال:«إني أحمسي» قال: إن ديني دينك، فأنزل الله عز وجل:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه: ({وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، وإن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوه شيئاً أحرم فأمن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته، واتخذ نقباً من ظهر بيته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجل محرم كذلك، وإن أهل المدينة كانوا يسمون البستان الحُشّ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستاناً فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجل من ورائه: يا فلان إنك محرم وقد دخلت! فقال: «أنا أحمس»، فقال: يا رسول الله إن كنت محرماً فأنا محرم، وإن كنت أحمس فأنا أحمس. فأنزل الله تعالى ذكره: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} إلى آخر الآية. فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها)
(2)
.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 658، والواحدي في أسباب النزول ص 33، والحازمي في الاعتبار ص 373. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص. وذكر ابن حجر في الفتح 3/ 768: أنه أخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما-فذكر سنده- ثم قال: (وهذا الإسناد وإن كان على شرط مسلم لكن اختلف في وصله على الأعمش عن أبي سفيان فرواه عبد بن حميد عنه فلم يذكر جابراً).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان 2/ 968.
رابعاً: عن الزهري قال: (كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته، فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية العمرة فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إني أحمس» قال الزهري: وكانت الحمس لا يبالون ذلك، فقال الأنصاري:"وأنا أحمس" يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على أنه ليس من البر للمحرم إتيان البيوت من ظهورها. وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على قطبة بن عامر خروجه من الباب يدل على أنه كان مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ الله ذلك وأمر بإتيان البيوت من الأبواب؛ لذلك لا يحرم إتيانها من الأبواب في حال من الأحوال
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان 2/ 968، وهو مرسل صحيح. وانظر فتح الباري 3/ 769.
(2)
انظر: جامع البيان للطبري 2/ 966 - 969؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 310؛ أسباب النزول للواحدي ص 33؛ الاعتبار ص 374؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 342 - 344؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 64؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 214؛ رسوخ الأحبار ص 375 - 377؛ فتح الباري 3/ 768، 769؛ عمدة القاري 7/ 439 - 441.
المطلب السابع: دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد النسك
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة، فإن له أن يدخلها بغير إحرام. أما غيرهم فإنهم لا يدخلونها بغير إحرام بالحج أو العمرة وأن ما يدل على دخولها بغير إحرام قد نسخ. وممن صرح به ابن عبد البر
(1)
.
ويتبين منه أن القول به أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الواردة في دخول مكة سبب آخر لاختلافهم فيها
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة فلم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلُّ لأحد بعدي، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار لا يُختلى خلاها
(3)
، ولا يُعْضَد
(4)
شجرها، ولا يُنفر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمعرف». وقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر
(5)
لصاغتنا وقبورنا. فقال:
(1)
ونسبه إلى جميع العلماء. انظر: التمهيد 9/ 308، 310؛ الاستذكار 3/ 704، 705.
(2)
انظر: التمهيد 9/ 306 - 311؛ المغني 5/ 71.
(3)
الخلا بالقصر: النبات الرطب الرقيق ما دام رطباً، واختلاؤه: قطعه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 529؛ المصباح المنير ص 153.
(4)
العضد: القطع. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 218.
(5)
الإذخر: حشيشة طيبة الرائحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 46.
«إلا الإذخر»
(1)
.
ثانياً: عن أبي شريح
(2)
، أنه قال لعمرو بن سعيد
(3)
، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي
أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:«إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 363، كتاب جزاء الصيد، باب لا ينفر صيد الحرم، ح (1833)، ومسلم في صحيحه 5/ 252، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها، ح (1353)(445).
(2)
هو: خويلد بن عمرو بن صخر، وقيل: عمرو بن خويلد، أبو شريح، الخزاعي الكعبي، أسلم قبل الفتح، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: نافع بن جبير، وأبو سعيد المقبري، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وستين. انظر: الإصابة 4/ 2263؛ تهذيب التهذيب 12/ 112؛ التقريب 2/ 414.
(3)
هو: عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد، القرشي الأموي، المعروف بالأشدق، تابعي، ولي إمرة المدينة لمعاوية رضي الله عنه ولابنه، وروى عن: عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه موسى، وأمية، وغيرهما، وقتله عبد الملك بن
مروان سنة سبعين. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 32؛ التقريب 1/ 735.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 28، كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ح (104)، ومسلم في صحيحه 5/ 254، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، ح (1354)(446).
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد. ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما يودى وإما يقاد» الحديث
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح بغير إحرام، و هذه الأحاديت تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعد ما فتح مكة وبين حرمتها، وأنها أحلت له ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها بعد ذلك، والمراد بحلها له صلى الله عليه وسلم هو دخوله إليها بغير إحرام، لذلك تكون هذه الأحاديث ناسخة لدخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام؛ لأنها بعده
(2)
.
واعترض عليه: بأن المقصود بهذه الأحاديث هو عدم جواز القتال بمكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أُحل له القتال بها ساعة من نهار، ثم حرم القتال بها بعد ذلك،
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1443، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ح (6880)، ومسلم في صحيحه 5/ 256، كتاب الحج، باب تحريم مكة وتحريم صيدها وشجرها، ح (1355)(447).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 259 - 262؛ التمهيد 9/ 306 - 309.
كما ينص عليه حديث أبي شريح رضي الله عنه حيث قال لعمرو بن سعيد-وهو يبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي، ووعاه
قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً
…
». فتكون في هذه الأحاديث دلالة على نسخ إباحة القتال بمكة. أما الاستدلال منها على نسخ دخولها بغير إحرام فليس فيها ما يدل على ذلك
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد النسك، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز دخول من هو خارج المواقيت مكة بغير إحرام، ومن دخلها بغير إحرام فعليه حجة أو عمرة.
وهو مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: إنه لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا أن يكون من
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 315؛ المحلى 5/ 308؛ المجموع 7/ 13؛ فتح الباري 4/ 73؛ عمدة القاري 7/ 539؛ الشرح الممتع 3/ 174. وسيأتي في المطلب الرابع عشر بيان نسخ استحلال الحرم المكي عند فتحها.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 259؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 65؛ مختصر القدوري ص 66؛ بدائع الصنائع 2/ 371؛ الدر المختار وحاشيته رد المحتار 3/ 427.
المترددين عليها، أو عاد لها لأمر، ومن دخلها بغير إحرام فقد أساء ولا شيء عليه.
وهو مذهب المالكية
(1)
، وقول للإمام الشافعي
(2)
، ومذهب الحنابلة
(3)
.
وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه، وعطاء، والحكم، والقاسم، ومجاهد
(4)
.
القول الثالث: يجوز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد نسكاً، ولكن المستحب والأفضل له أن يدخلها بإحرام.
وهو الأصح عند الشافعية
(5)
، ورواية عن الإمام أحمد
(6)
، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه، وهو قول الزهري، والحسن البصري، وداود الظاهري، وابن حزم
(7)
.
(1)
انظر: التمهيد 9/ 309؛ جامع الأمهات ص 188؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 56 - 57؛ التاج والإكليل 4/ 57؛ الشرح الكبير 2/ 38 - 39.
(2)
انظر: الأم 2/ 153 - 155؛ العزيز 3/ 388؛ روضة الطالبين ص 387؛ المجموع 8/ 132؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 261.
(3)
انظر: المغني 5/ 71 - 72؛ الشرح الكبير 8/ 121؛ الفروع 5/ 309؛ الإنصاف 8/ 117؛ منتهى الإرادات 1/ 178.
(4)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 209 - 210.
(5)
انظر: مختصر المزني ص 94؛ العزيز 3/ 388؛ روضة الطالبين ص 387؛ المجموع 7/ 13، 8/ 132؛ 285؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 2/ 261.
(6)
انظر: المغني 5/ 72؛ الفروع 5/ 309؛ الإنصاف 8/ 118. ورجحه الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع 3/ 148، 174.
(7)
انظر: التمهيد 9/ 309؛ المحلى 5/ 307؛ الفروع 5/ 309؛ فتح الباري 4/ 70.
الأدلة
ويستدل لمن قال بعدم جواز دخول مكة بغير إحرام-وهم أصحاب القول الأول، والثاني- بأدلة أهما ما يلي:
أولاً: الأحاديث التي تدل على حرمة مكة، وأنها إنما أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة-وقد سبقت جملة منها في دليل القول بالنسخ-فهي تدل على أنها أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار فدخلها بغير إحرام، ثم عادت حرمتها بعد ذلك فلا يدخلها أحد بغير إحرام؛ من أجل أنها حرم
(1)
.
وقد سبق ما يرد به على هذا الاستدلال، ويضاف عليه:
بأنه إذا كان علة وجوب الإحرام على كل من يريد دخول مكة كونها حرماً فينبغي تعميمها لكل من يدخل إليها سواء كان من داخل المواقيت أو من خارجها، وسواء عاد إليها لأمر أم لا؛ لأنها حرم بالنسبة لهم كما هي حرم بالنسبة لغيرهم.
ثانياً: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: (لا يدخل أحد مكة إلا محرماً)
(2)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 259 - 263؛ التمهيد 9/ 308 - 310؛ بدائع الصنائع 2/ 371.
(2)
أما المرفوع فقال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 243: (رواه ابن عدي مرفوعاً من وجهين ضعيفين). وقال ابن مفلح في الفروع 5/ 309: (فيه حجاج ضعيف مدلس، ومحمد بن خالد بن عبد الله الواسطي ضعفه أحمد وابن معين وأبو زرعة، وابن عدي، وقال: لا أعرفه مسنداً إلا من هذا الوجه). أما الموقوف فأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 263، ونحوه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 209. وذكر ابن حجر في التلخيص أن البيهقي أخرجه من حديث ابن عباس نحوه وأن إسناده جيد. كما ذكر أن في رواية ابن أبي شيبة طلحة بن عمرو، وفيه ضعف.
ثالثاً: عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديداً بلغه عن جيش قدم المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام)
(1)
.
ووجه الاستدلال منهما: أن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه يدل على عدم جواز دخول أحد مكة إلا محرماً
(2)
.
أما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه فاستدل منه أصحاب القول الأول وهم الحنفية على أن من كان داخل المواقيت فله أن يدخل مكة بغير إحرام لفعل ابن عمر رضي الله عنه فإنه كان داخل المواقيت فدخلها بغير إحرام
(3)
.
واستدل منه البعض من أصحاب القول الثاني: بأن ذلك فيمن رجع إليها لأمر، أو خوف
(4)
.
واعترض على الاستدلال بما روي عن ابن عباس وابن عمر-رضي الله
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 337، والطحاوي في شرح معاني الآثار-والسياق له-2/ 263. ورجال مالك رجال الجماعة.
(2)
انظر: الأم 2/ 155؛ الفروع 5/ 309.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 263.
(4)
انظر: التمهيد 9/ 309.
عنهم- بما يلي:
أ- إن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً فهو غير صحيح. أما ما روي عنه موقوفاً فيعارضه فعل ابن عمر رضي الله عنه، فإنه لو كان الإحرام واجباً على كل من يريد دخول مكة لما دخلها ابن عمر رضي الله عنه بغير إحرام
(1)
.
ب-إن تخصيص فعل ابن عمر رضي الله عنه بمن كان داخل المواقيت، أو بمن خرج منها ثم عاد إليها لأمر، ليس عليه دليل. كما أن تعليل وجوب الإحرام بكونها حرماً-عند من قال به-
يعارض هذا التخصيص.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد نسكاً- بما يلي:
أولاً: عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام»
(2)
.
ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر
(3)
، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن
(1)
راجع تخريج رواية ابن عباس رضي الله عنه، وانظر: الأم 2/ 155؛ المجموع 7/ 13؛ الفروع 5/ 309.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 259، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام، ح (1358)(451).
(3)
المغفر هو: ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد ونحوه. وقيل هو: ما يلبس تحت البيضة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 312؛ المصباح المنير ص 366.
خطل
(1)
متعلق بأستار الكعبة، فقال:«اقتلوه»
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة. فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة»
(3)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: «بل مرة، فمن زاد فهو تطوع»
(4)
.
(1)
هو: عبد الله بن خطل. وقيل: عبد العزى بن خطل. وقيل: عبد الله بن هلال بن خطل. وهو من بني تيم بن فهر بن غالب. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة؛ لأنه ارتد بعد إسلامه، وقتل النفس التي حرم الله، ثم لحق بدار الكفر بمكة، واتخذ قينتين يغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 409، 410؛ التمهيد 9/ 311؛ فتح الباري 4/ 73.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 366، كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ح (1846)، ومسلم في صحيحه 5/ 258، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام، ح (1357)(450).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 366، كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ح (1845)، ومسلم في صحيحه 5/ 19، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، ح (1181)(11).
(4)
سبق تخريجه في ص 999.
ويستدل من هذه الأدلة على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد النسك بالوجوه الآتية:
أولاً: إن حديث جابر وأنس-رضي الله عنهما-يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح بغير إحرام، فثبت من ذلك عدم وجوب الإحرام على من يدخل مكة ولا يريد النسك
(1)
.
ثانياً: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول يدل على عدم تجاوز المواقيت ودخول مكة بغير إحرام، لمن يريد الحج أو العمرة، فيفهم منه أن من لا يريد الحج أوالعمرة فله أن يتجازها ويدخل مكة بغير إحرام
(2)
.
ثالثاً: إن حديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني يدل على أن الحج فرض في العمر مرة واحدة، وأن ما زاد على ذلك فهو تطوع، وهذا مما لا خلاف فيه. فإيجابه أو إيجاب العمرة على كل من يدخل مكة كل مرة تخالف ظاهر هذا الحديث. ولو كان المرور بالميقات أو دخول مكة موجباً للإحرام على كل أحد لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لدعاء الحاجة إلى بيانه
(3)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي- والله أعلم
(1)
انظر: التمهيد 9/ 308؛ المحلى 5/ 308؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 258؛ فتح الباري 4/ 72؛ عمدة القاري 7/ 539.
(2)
انظر: المحلى 5/ 308؛ فتح الباري 4/ 70؛ عمدة القاري 7/ 535.
(3)
انظر: المحلى 5/ 307؛ المغني 5/ 72؛ الشرح الممتع 3/ 174.
بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثالث وهو استحباب الإحرام لمن يدخل مكة ولا يريد النسك، وعدم وجوبه عليه، وذلك:
أ- لكثرة أدلته مع قوتها وظهورها، بخلاف أدلة الأقوال المخالفة له.
ب-ولعد وجود دليل صريح صحيح يوجب الإحرام على من يدخل مكة ممن لا يريد النسك، ولو كان ذلك واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لمسيس الحاجة إليه
(1)
.
ثانياً: إن القول بأن دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام قد نسخ، غير صحيح؛ لعدم صحة الاستدلال على نسخ ذلك من الأحاديث التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها حرمة مكة وأن حرمتها عادت بعد ما أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة؛ لأن الظاهر من تلك الأحاديث بيان حرمة الاقتتال في مكة وسفك الدماء بها لا الدخول إليها بغير إحرام، كما سبق بيانه
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الشرح الممتع 3/ 174.
(2)
انظر: المحلى 5/ 308؛ المجموع 7/ 13.
المطلب الثامن: قطع الخفين لمن لم يجد النعلين
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من لم يجد نعلين فإن له أن يلبس خفين، ولا يلزمه قطعهما أسفل من الكعبين، وأن الأمر بقطعهما أسفل من الكعبين قد نسخ.
وممن روي عنه ذلك أو قال به: الإمام أحمد
(1)
، وابن قدامة
(2)
، ومجد الدين عبد السلام ابن تيمية
(3)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وابن القيم
(5)
.
وذهب الطحاوي إلى أن لبس الخفين كان جائزاً في الإحرام للرجال عند وجود النعلين وعند عندهما، ثم نسخ ذلك فمُنع لبسهما في حال وجود النعال، وأبيح لبسهما في حال عدم النعال، ثم نسخ ذلك فأبيح لبسهما في الإحرام في حال عدم النعال بعد أن تقطع أسفل من الكعبين
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، والسبب الآخر له هو الاختلاف في قياس المسكوت عنه في بعض الأحاديث على المنطوق به في بعض الآخر
(7)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 21/ 196؛ تهذيب السنن لابن القيم 3/ 348.
(2)
انظر: المغني 5/ 122.
(3)
انظر: منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 5/ 6.
(4)
انظر: شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 2/ 30؛ مجموع الفتاوى 21/ 196.
(5)
انظر: تهذيب السنن 3/ 347.
(6)
انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 389 - 390.
(7)
راجع المصادر السابقة في المسألة، وانظر: بداية المجتهد 2/ 639.
ويستدل للقول بنسخ الأمر بقطعهما أسفل من الكعبين بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر، وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم:«لا تلبسوا العمائم، والقمص، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفين إلا أن يضطر مضطر إليهما فيقطعهما أسفل من الكعبين، ولا ثوب مسه الورس ولا الزعفران»
(2)
.
وروى نافع عنه رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله وهو يخطب وهو بذلك المكان وأشار نافع إلى مقدم المسجد، فقال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: «لا يلبس السراويل، ولا العمامة، ولا القميص، ولا الخفين
…
» الحديث
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 306، كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثيات، ح (1542)، ومسلم في صحيحه 5/ 11، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، ح (1177)(1).
(2)
أخرجه بهذا السياق أحمد في المسند 8/ 474. وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن.
(3)
أخرجه بهذا السياق البيهقي في السنن الكبرى 5/ 78، وانظر سنن الدارقطني 2/ 230.
وفي رواية رابعة عنه رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ قال: «لا تلبسوا القمص، ولا العمائم
…
» الحديث
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: «من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين»
(2)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل»
(3)
.
ويستدل منها على نسخ الأمر بقطعهما أسفل من الكعبين: بأنه يظهر من مجموع روايات حديث ابن عمر رضي الله عنه أن الأمر بقطع الخفين لمن لم يجد النعلين كان بالمدينة قبل أن يحرم الناس بالحج، وحديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم-ليس فيهما الأمر بقطع الخفين لمن لم يجد النعلين، وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم حينما خطب
(1)
أخرجه بهذا السياق النسائي في سننه ص 417، كتاب مناسك الحج، باب النهي عن لبس السراويل في الإحرام، ح (2670). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 417.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 365، كتاب جزاء الصيد، باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ح (1843)، ومسلم في صحيحه 5/ 13، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه وما لا يباح، ح (1178)(4).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 14، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه وما لا يباح، ح (1179)(5).
بعرفات، فيكون حديث ابن عباس، وجابر-رضي الله عنهما-ناسخاً للأمر بقطع الخفين في حديث ابن عمر رضي الله عنه لوجود ما يدل على تأخر حديثهما على حديث ابن عمر رضي الله عنه، وعلى أن ما في حديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهما-شرع جديد شرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعرفات لم يكن شرع بعد بالمدينة، ولو لم يكن كذلك لبين لهم ذلك في خطبته بعرفات؛ لأن أكثر الحاضرين بعرفات لم يشهدوا أمره صلى الله عليه وسلم بقطع الخفين في خطب. ته بالمدينة قبل الحج، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: بأنه قد جاء في بعض طرق رواية ابن عباس، وكذلك في بعض طرق حديث جابر رضي الله عنهما-الأمر بقطع الخفين أسفل من الكعبين، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين»
(2)
.
(1)
انظر: سنن الدارقطني 2/ 230؛ السنن الكبرى للبيهقي 5/ 81؛ المغني 5/ 122؛ مجموع الفتاوى 21/ 195؛ شرح العمدة 2/ 24 - 30؛ تهذيب السنن 3/ 347، 348؛ فتح الباري 3/ 492، 494.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 418، كتاب المناسك، باب الرخصة في لبس الخفين في الإحرام لمن لا يجد نعلين، ح (2679). وذكر ابن التركماني في الجوهر النقي 5/ 81: أن سنده جيد. وقال العيني في عمدة القاري 7/ 60: (هذا إسناد صحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 418: (صحيح دون "وليقطعهما" فإنه شاذ).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجد إزاراً وهو محرم فوجد سراويل فليلبسه، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين»
(1)
.
وبهذا يكون حديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهما-موافقاً لحديث ابن عمر رضي الله عنه في الأمر بقطع الخفين، ولا يكون حديثهما ناسخاً لحديثه
(2)
.
وأجيب عنه: بأن الأمر بالقطع في حديث ابن عباس رضي الله عنه غير صحيح، بل هو وهم من إسماعيل بن مسعود
(3)
، شيخ النسائي؛ يدل عليه أمران:
أ- أن الحديث رواه جمع من الثقات، ولم يذكروا هذه الزيادة
(4)
.
ب-أن حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا روي من طريق عمرو بن دينار، وهو قد روي عنه أمران يعارضان هذه الزيادة ويقدحان فيها، وهما:
1 -
أنه صرح بأنه ليس فيه- أي حديث ابن عباس رضي الله عنه: «وليقطعهما»
(5)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 222: (رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن). وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 196.
(2)
انظر: الجوهر النقي 5/ 81؛ عمدة القاري 7/ 60.
(3)
هو: إسماعيل بن مسعود الجحدري، أبو مسعود البصري، ثقة، روى عن بشر بن المفضل، وخالد بن الحارث، وغيرهما، وروى عنه: النسائي، وأبو حاتم، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 298؛ التقريب 1/ 99.
(4)
انظر: إرواء الغليل 4/ 195.
(5)
انظر: مسند أحمد 3/ 462، ح (2015)، وشرح معاني الآثار 2/ 133، وإرواء الغليل 4/ 195.
2 -
أنه روى كذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه في الأمر بالقطع، ثم كان يقول:(انظروا أيهما قبل حديث ابن عمر أو حديث ابن عباس). فلو كان في حديث ابن عباس رضي الله عنه الأمر بالقطع لما قال قوله ذلك
(1)
.
أما حديث جابر رضي الله عنه الذي فيه ذكر الأمر بقطع الخفين أسفل من الكعبين فلا يصلح للاحتجاج؛ لما في سنده من ضعيف ومجهول
(2)
، وعلى تقدير صحته فليس فيه أن ذلك كان بعرفات حتى يعارض حديث ابن عباس رضي الله عنه.
الثاني: بأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وذلك بحمل المطلق على المقيد، كما أن في حديث ابن عمر رضي الله عنه زيادة وهي صحيحة فينبغي قبولها
(3)
.
وأجيب عنه: بأن هذا ليس من قبيل زيادة الثقة؛ لأنهما حديثان تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بهما في وقتين ومكانين، كما أن احتمال أن يكون ذلك من قبيل المطلق والمقيد بعيد؛ بل الظاهر أن ما في حديث ابن عباس رضي الله عنه شرع جديد مخالف لما سبق منه في حديث ابن عمر رضي الله عنه، وأنهما حديثان يغاير كل منهما عن الآخر، ولو لم يكن الأمر كذلك لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبته بعرفات؛ لأن خطبته بعرفات سمعه أكثر ممن سمع خطبته في المدينة،
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 5/ 81.
(2)
انظر: إرواء الغليل 4/ 196.
(3)
انظر: المجموع 7/ 174؛ فتح الباري 3/ 494؛ نيل الأوطار 5/ 7.
فكان الحاجة داعية لبيان ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ لبس الخفين بدون القطع بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول السابق من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجابر-رضي الله عنهم.
ثانياً: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة
(2)
، قال: خرجت مع عمر إلى مكة ورجل معنا يرتجز، فلما أن طلع الفجر قال له: مه، أذكر الله قد طلع الفجر، ثم التفت فرأى على عبد الرحمن بن عوف خفين وهو محرم، فقال: وخف أيضاً وأنت محرم؟ فقال: (فعلته مع من هو خير منك، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعبه عليّ)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها على النسخ هو:
أ- أن حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدل على جواز لبس الخفين في الإحرام عند وجود النعلين وعند عدمهما، ثم نسخ ذلك فمنعوا من لبسهما
(1)
انظر: شرح العمدة 2/ 28 - 37؛ مجموع الفتاوى 21/ 195؛ تهذيب السنن 3/ 346؛ منار السبيل 1/ 232.
(2)
هو: عبد الله بن عامر بن ربيعة بن مالك، العنزي، حليف بني عدي، عده البعض في الصحابة، والآخرون في التابعين، وروى عن عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه الزهري، ويحيى الأنصاري، وغيرهما، وتوفي بعد الثمانين. انظر: الإصابة 2/ 1073 ..
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 381، 382. وروى نحوه أحمد في المسند كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 222، وفي سنديهما عاصم بن عبيد الله، قال الهيثمي: (وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف).
حال وجود النعال، بدليل:
1 -
حديث ابن عباس، وجابر-رضي الله عنهم. حيث إنهما يدلان على عدم جواز لبس الخفين عند وجود النعلين
(1)
.
2 -
الإجماع، فقد أجمع الناس على نسخ حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
(2)
.
ب-ثم نسخ لبس الخفين بدون القطع على ما في حديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم بالأمر بقطعهما أسفل من الكعبين، على ما في حديث ابن عمر رضي الله عنه
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن الاستدلال من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على جواز لبس الخفين عند وجود النعلين وعند عدمهما، ثم نسخ ذلك بحديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم-غير صحيح؛ لأمرين:
1 -
لأنه ضعيف
(4)
.
2 -
إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لبس الخفين وهو محرم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولما أنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك بين أنه لبسهما مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعبه عليه. وإطلاقه يدل على أنه كان خفاً صحيحاً، ولم يأمره عمر رضي الله عنه بالقطع، ولعله لم
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 389.
(2)
انظر المصدر في الحاشية السابقة.
(3)
انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 389.
(4)
راجع تخريجه.
يكن يجد النعلين، فهو يدل على جواز لبس الخفين بدون قطعهما لمن لم يجد النعلين، فيكون ذلك دليلاً على نسخ الأمر بقطع الخفين لمن لم يجد النعلين، ولا يكون دليلاً على جواز لبس الخفين وإن وجد النعلين حتى يكون منسوخاً بحديث ابن عباس رضي الله عنه، فهو موافق لحديث ابن عباس رضي الله عنه وليس مخالفاً له
(1)
.
ب- إنه لا يصح الاستدلال من حديث ابن عمر رضي الله عنه على نسخ حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن حديث ابن عمر رضي الله عنه متقدم وحديث ابن عباس رضي الله عنه متأخر، كما سبق بيانه، والمتأخر ينسخ المتقدم، ولا خلاف في عدم جواز عكسه؛ لأن من شرط صحة النسخ تأخر الناسخ
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قطع الخفين لمن لم يجد النعلين، على قولين:
القول الأول: يجب قطعهما أسفل من الكعبين.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، ورواية عن
(1)
انظر: شرح العمدة في مناسك الحج والعمرة 2/ 38.
(2)
راجع شروط النسخ في المطلب السادس من المبحث الأول للتمهيد.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 134 - 136؛ مختصر القدوري ص 66؛ بدائع الصنائع 2/ 404؛ الاختيار 1/ 144.
(4)
انظر: المدونة 1/ 464؛ التمهيد 8/ 30؛ الاستذكار 3/ 314؛ بداية المجتهد 2/ 637؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 205؛ التاج والإكليل 4/ 205.
(5)
انظر: الأم 2/ 160؛ مختصر المزني ص 95؛ العزيز 3/ 462؛ المجموع 7/ 173.
الإمام أحمد
(1)
، وقول عروة، ونافع، وإبراهيم النخعي، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر
(2)
.
القول الثاني: لا يجب عليه قطعهما.
وهو مذهب الحنابلة
(3)
، وقول عطاء، وعكرمة، والحسن، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس-رضي الله عنهم
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو وجوب قطع الخفين لمن لم يجد النعلين-بحديث ابن عمر رضي الله عنه، وما ورد في إحدى طريق حديث ابن عباس رضي الله عنه، وكذلك أحد طرق حديث جابر رضي الله عنه من الأمر بالقطع، وقد سبق ذكرها، فقد جاء فيها الأمر بالقطع، وهو يدل على الوجوب
(5)
.
واعترض عليه: بأن ورود الأمر بالقطع في حديث ابن عباس وجابر
(1)
انظر: المغني 5/ 121؛ الشرح الكبير 8/ 248؛ الإنصاف 8/ 246.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 325؛ المغني 5/ 121.
(3)
انظر: المغني 5/ 120؛ الشرح الكبير 8/ 248؛ الممتع 2/ 350؛ الإنصاف 8/ 246؛ منتهى الإرادات 1/ 184.
(4)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 325؛ المغني 5/ 120؛ شرح العمدة 2/ 38؛ تهذيب السنن 3/ 346.
(5)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 404؛ المجموع 7/ 174؛ فتح الباري 3/ 494؛ عمدة القاري 7/ 60.
-رضي الله عنهما غير صحيح كما سبق بيانه. أما الأمر بالقطع في حديث ابن عمر رضي الله عنه فإن حديث ابن عباس رضي الله عنه بعده، لذلك يكون القول بموجبه أولى، وهو يدل على عدم وجوب القطع
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أنه لا يلزم قطعهما-بحديث ابن عباس، وحديث جابر-رضي الله عنهما وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ، وليس فيهما الأمر بالقطع، فلو كان ذلك واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السامعين لخطبته يوم عرفات أكثرهم لم يشهدوا خطبته بالمدينة، فكانت الحاجة داعية إلى البيان، وعدم ذلك يدل على عدم الوجوب؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(2)
.
الراجح
بعد عرض ما قيل في المسألة من الأقوال والأدلة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الأولى قطع الخفين أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين، وذلك:
أ-عملاً بحديث ابن عمر رضي الله عنه، واحتمال حمل إطلاق
(1)
انظر: المغني 5/ 122؛ شرح العمدة 2/ 30 - 38.
(2)
انظر: المغني 5/ 122؛ شرح العمدة 2/ 26 - 38؛ مجموع الفتاوى 21/ 195؛ تهذيب السنن 3/ 346.
حديث ابن عباس رضي الله عنه على المقيد من حديث ابن عمر رضي الله عنه
(1)
.
ب- وخروجاً من الخلاف، وأخذاً بالاحتياط
(2)
.
ثانياً: إنه لا يجب قطعهما، وذلك لحديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهما مع قوة احتمال أن يكون الأمر بالقطع في حديث ابن عمر رضي الله عنه منسوخاً بهما؛ لأنه صح أن حديث ابن عباس رضي الله عنه بعد حديث ابن عمر رضي الله عنه كما سبق بيانه، ويقوي ذلك ما نقل عن أكابر الصحابة مثل عمر، وعلي وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهم-أنهم رخصوا في لبس الخفين وترك قطعهما
(3)
.
ثالثاً: إن القول بنسخ حديثي ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم-والذين يدلان على جواز لبس الخفين بدون القطع عند عدم وجود النعلين-، بحديث ابن عمر رضي الله عنه غير صحيح؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنه متأخر عنه، ولا يجوز نسخ المتأخر بالمتقدم كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 5/ 122؛ فتح الباري 3/ 494.
(2)
انظر: المغني 5/ 122.
(3)
انظر: شرح العمدة 2/ 28 - 38.
المطلب التاسع: فسخ الحج إلى العمرة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن فسخ الحج
(1)
إلى العمرة قد نسخ
(2)
.
وممن قال بالنسخ وصرح به: أبو عبيد القاسم بن سلام
(3)
، والجصاص
(4)
، والكاساني
(5)
، ونسبه ابن حجر
(6)
، والعيني
(7)
، إلى الجمهور.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلافهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين لم يكن معهم الهدى بفسخ الحج إلى العمرة هل كان خاصاً بهم أم لا، سبب آخر لاختلافهم فيها
(8)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(9)
.
(1)
فسخ الحج هو: أن يحرم بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة، فيصير متمتعاً. انظر: فتح الباري 3/ 519.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 35؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 53؛ مجموع الفتاوى 26/ 95؛ زاد المعاد 2/ 187.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 166؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن للنحاس ص 35؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 52.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 352، 354.
(5)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 345.
(6)
انظر: فتح الباري 3/ 529.
(7)
انظر: عمدة القاري 7/ 116.
(8)
راجع المصادر السابقة في المسألة. وانظر: بداية المجتهد 2/ 649.
(9)
سورة البقرة، الآية (196).
ثانياً: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء. فقال: «بم أهللت؟» قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «هل سقت من هدي؟» قلت: لا. قال: «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل» فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي. فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر. فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد. فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا. فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [سورة البقرة: 196]. وإن نأخذ بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلّ حتى بلغ الهدي محله)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 310، كتاب الحج، باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، ح (1559)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 115، كتاب الحج، باب نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، ح (1221)(155).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 342، كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق، ح (1724)، ومسلم في صحيحه 5/ 114، كتاب الحج، باب نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، ح (1221)(154).
ثالثاً: عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما ولي:«يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا»
(1)
.
رابعاً: إن الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسخوا حجهم إلى عمرة، ولم يحلوا من حجهم إلا يوم النحر، وإن عمر رضي الله عنه لما نهى عن الفسخ لم يخالفه أحد من الصحابة-رضي الله عنهم-فكان ذلك إجماعاً منهم على عدم الفسخ وعلى نسخه
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأنه قد ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع كل من أحرم بالحج أو بالحج والعمرة معاً، ولم يسق الهدي أمرهم أن يفسخوا ذلك ويجعلوه عمرة، ثم إن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن فسخ الحج إلى العمرة، ويذكر أن كتاب الله يأمر بالتمام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحلل من حجته حتى بلغ الهدي محله، وذكر كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة بعد ما أحلها. ولم ينكر أحد ذلك على عمر رضي الله عنه. فدل ذلك على أن
(1)
قال ابن القيم في زاد المعاد 2/ 188: (رواه البزار في مسنده) ثم قال: (فهذا الحديث لا سند ولا متن، أما سنده فإنه لا تقوم به حجة علينا عند أهل الحديث، وأما متنه، فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حرمها، لا يجوز فيها غير ذلك البتة، لوجوه
…
).
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 171؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 352؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 35.
فسخ الحج إلى العمرة قد نسخ بالأمر بإتمام الحج. ويؤكد ذلك أن الخلفاء الراشدين-رضي الله عنهم حجوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسخ أحد منهم حجه، فدل ذلك على نسخه
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال من هذه الأدلة على النسخ؛ لأن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(2)
. نزل عام الحديبية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالفسخ كان عام حجة الوداع، وهو بعد عام الحديبية، والمتقدم لا يكون ناسخاً للمتأخر. أما ما روي عن عمر رضي الله عنه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة بعدما أحلها فالظاهر أن المراد به متعة النساء؛ لأن التمتع بالعمرة إلى الحج يجوز بلا خلاف. أما فعل الخلفاء-رضي الله عنهم-فليس هو مما يُنسخ به. وليس في المسألة إجماع؛ فإن ابن عباس رضي الله عنه كان يرى فسخ الحج إلى العمرة
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في فسخ الحج إلى العمرة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة.
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 171؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 352 - 354؛ السنن الكبرى للبيهقي 5/ 63؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 35؛ مجموع الفتاوى 26/ 95؛ فتح الباري 3/ 521، 529.
(2)
سورة البقرة، الآية (196).
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 174؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 53؛ زاد المعاد 2/ 187، 188.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، وقول الثوري، والأوزاعي، وجمهور أهل العلم
(4)
.
القول الثاني: يجوز فسخ الحج إلى العمرة.
وهو مذهب الحنابلة
(5)
، وقول الحسن البصري، ومجاهد
(6)
.
القول الثالث: يجب فسخ الحج إلى العمرة.
وهو مذهب ابن حزم
(7)
، وقول ابن عباس رضي الله عنه، وعطاء
(8)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جواز فسخ الحج إلى العمرة بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(9)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 194، 197؛ بدائع الصنائع 2/ 345؛ الدر المختار 3/ 457؛ حاشية ابن عابدين 3/ 457.
(2)
انظر: التمهيد 8/ 178؛ الاستذكار 3/ 360؛ بداية المجتهد 2/ 648؛
(3)
انظر: الأم 2/ 148؛ المجموع 7/ 104؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 88.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 173؛ التمهيد 8/ 178؛ المغني 5/ 252؛ المجموع 7/ 104.
(5)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة 1/ 229؛ المغني 5/ 252؛ الشرح الكبير 8/ 185؛ شرح الزركشي 2/ 192؛ الإنصاف 8/ 185.
(6)
انظر: التمهيد 8/ 179؛ المغني 5/ 252.
(7)
انظر: المحلى 5/ 88.
(8)
واختاره ابن القيم. انظر: المحلى 5/ 90؛ زاد المعاد 2/ 187، 193.
(9)
سورة البقرة، الآية (196).
ثانياً: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلّ حتى بلغ الهدي محله)
(1)
.
ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب عمر الناس، فقال:(إن الله عز وجل رخّص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإن نبي الله قد مضى لسبيله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله عز وجل، وحصّنوا فروج هذه النساء)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قام عمر رضي الله عنه خطيباً حين استخلف فقال: (إن الله عز وجل كان رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، ألا وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق به، فأحصنوا فروج هذه النساء، وأتموا الحج والعمرة لله، كما أمركم)
(3)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً، فلما قدمنا
مكة، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فلما كان يوم التروية أحرمنا بالحج، فلما كان عمر رضي الله عنه قال:(إن الله عز وجل كان رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما شاء، فأتموا الحج والعمرة)
(4)
.
رابعاً: عن أبي نضرة
(5)
، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 261. ورجال إسناده رجال الصحيح.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 195.
(4)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 195.
(5)
هو: المنذر بن مالك بن قطعة، أبو نضرة العبدي العوقي، ثقة، روى عن علي، وأبي ذر، وغيرهما، وروى عنه سليمان التيمي، وابن أبي هند، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان أو تسع ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 270؛ التقريب 2/ 213.
الزبير ينهى عنها. قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله، فقال: على يديّ دار الحديث. تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عمر قال:(إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله. فأتموا الحج والعمرة لله، كما أمركم الله. وأبِتُّوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة)
(1)
.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال:«حل كله»
(2)
.
سادساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما-قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 89، كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة، ح (1217)(145).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 311، كتاب الحج، باب التمتع والقران، والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ح (1564)، ومسلم في صحيحه 5/ 135، كتاب الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج، ح (1240)(198).
شيء من قبل الناس. فقال: «أيها الناس! أحلوا. فلولا الهدي الذي معي، فعلت كما فعلتم» قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال. حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج
(1)
.
سابعاً: عن بلال بن الحارث
(2)
رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: «بل لكم خاصة»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 87، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح (1216)(142).
(2)
هو: بلال بن الحارث بن عصم، المزني، أبو عبد الرحمن، كان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه الحارث، وعلقمة بن وقاص، وغيرهما، وتوفي سنة ستين. انظر: المستدرك للحاكم 3/ 592؛ تهذيب التهذيب 1/ 460؛ الإصابة 1/ 187.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 278، كتاب المناسك، باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، ح (1807)، والنسائي في سننه ص 436، كتاب المناسك، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي، ح (2808)، وابن ماجة في سننه ص 506، كتاب المناسك، باب من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة، ح (2984)، والإمام أحمد في المسند 25/ 183، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 172، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 194، والدارقطني في سننه 2/ 241، والحاكم في المستدرك 3/ 593، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 63. وفي إسناده الحارث بن بلال، قال المنذري في مختصره 3/ 331: (هو شبه المجهول). وقال ابن حجر في التقريب 1/ 173: (مقبول). وقال الإمام أحمد عن هذا الحديث: (لا أقول به، وليس إسناده بالمعروف، ولم يروه إلا الدراوردي وحده). انظر: ميزان الاعتدال 1/ 432؛ تهذيب السنن 3/ 331. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 278. وقال النووي في المجموع 7/ 105: (وإسناده صحيح إلا الحارث بن بلال، ولم أر في الحارث جرحاً ولا تعديلاً، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه، وقد ذكرنا مرات أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه). ثم ذكر قول الإمام أحمد أنه قال: وقد روى الفسخ أحد عشر صحابياً أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ ثم قال: (قلت: لا معارضة بينكم وبينه حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث بن بلال في إثبات الفسخ للصحابة لكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم).
ثامناً: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (إنما كان فسخ الحج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا خاصة)
(2)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أنه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: (لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 117، كتاب الحج، باب جواز التمتع، ح (1224)(160).
(2)
أخرجه الحميدي في مسنده 1/ 225، برقم (132)، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 172، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 194، والدارقطني في سننه 2/ 242. ورجال إسناد الحميدي رجال الصحيح غير المرقع الراوي عن أبي ذر رضي الله عنه وهو المرقع بن صيفي، وقيل: المرقع بن عبد الله بن صيفي، قال عنه ابن حزم في المحلى 5/ 98: (مجهول). ورد عليه ابن حجر في التهذيب 10/ 81، وقال:(وهو من إطلاقاته المردودة). وقال: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عنه في التقريب 2/ 170: (صدوق). وقال ابن القيم في زاد المعاد 2/ 191 عن المرقع: (ليس ممن تقوم بروايته حجة).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 278، كتاب المناسك، باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، ح (2807). قال المنذري في مختصره 3/ 331:(صحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 278: (صحيح، موقوف شاذ).
وفي رواية رابعة عنه رضي الله عنه قال: (لا، والذي لا إله غيره، ما كان لأحد أن يُهل بحجة ثم يفسخها بعمرة إلا الركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
تاسعاً: عن عثمان رضي الله عنه (أنه سُئل عن المتعة في الحج فقال: كانت لنا ليست لكم)
(2)
.
عاشراً: عن عروة أنه قال لابن عباس رضي الله عنه: أضللت الناس يا ابن عباس. قال: وما ذاك يا عُريّة؟ قال: تفتي الناس أنهم إذا طافوا بالبيت فقد حلوا، وكان أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما-يجيئان ملبيين بالحج فلا يزالان محرمين إلى يوم النحر. قال ابن عباس: بهذا ضللتم؟ أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوني عن أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما؟ فقال عروة: (إن أبا بكر وعمر-رضي الله عنهما-كانا أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك)
(3)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق المرقع الأسدي 2/ 194.
(2)
قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 3/ 182: (رواه إسحاق بن راهوية). وقال ابن القيم في زاد المعاد 2/ 191: (وفي مسند أبي عوانة بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: سُئل عثمان .. ) فذكره. وأخرجه كذلك الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 195، وابن عبد البر في التمهيد 8/ 178.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 189. ورجاله ثقات غير أسد، وهو أسد بن موسى بن إبراهيم الأموي، فإنه وثقه الأكثرون، وضعفه البعض. وقال ابن حجر: صدوق، يغرب، وفيه نصب). انظر: تهذيب التهذيب 1/ 236؛ التقريب 1/ 88.
وفي رواية عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنه: ألا تتقي الله ترخص في المتعة؟ فقال ابن عباس: سل أمك يا عُرَيّة. فقال عروة: أما أبو بكر وعمر، فلم يفعلا، فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر؟ فقال عروة:(لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها منك)
(1)
.
وجه الاستدلال منها هو: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإتمام الحج والعمرة، وقد ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج إلى العمرة، كل من لم يكن معه هدي، لكن كان ذلك الفسخ خاصاً بالصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم بفسخ الحج إلى العمرة بيان جواز العمرة في أشهر الحج، ومخالفة ما كانت الجاهلية عليه من تحريمها فيها، كما يدل على ذلك حديث ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم. ويدل على تخصيص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-حديث أبي سعيد، وجابر، عن عمر رضي الله عنه، وكذلك حديث بلال بن الحارث، وقول عثمان، وأبي ذر-رضي الله عنهم. كما يدل عليه ما روي عن الخلفاء من تركهم فسخ الحج إلى العمرة، ونهي بعضهم عنه، مع أنهم شاهدوا وعلموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ. ولا يمكن أن يكون ذلك منهم إلا
(1)
قال ابن القيم في زاد المعاد 2/ 206: (وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن أيوب، قال: قال عروة .. - فذكره-). وإسناده صحيح.
بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا يجوز لأحد بعدهم فسخ الحج إلى العمرة؛ لأمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- بأن هذه الأدلة منها ما هو غير صريح، ومنها ما هو متكلم فيه، ومنها ما هو موقوف غير مرفوع، لذلك فهي لا تقاوم الأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أمر فيها أصحابه كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى العمرة
(2)
.
وأجيب: بأن الموقوف في هذا في حكم المرفوع، وهي بجموعها من المرفوع والموقوف تصلح للاحتجاج بها، وتبين المراد بها، ثم هي لا تعارض الأحاديث الدالة على الفسخ، بل تبين بأنها كانت خاصة بالصحابة
(3)
.
ب- إن فسخ الحج إلى العمرة كان واجباً في حق الصحابة الذين لم يكن معهم الهدي؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وغضبه على من توقف في المبادرة لامتثاله. وهذه الأدلة إذا دلت على التخصيص بالصحابة فيكون الذي اختصوا
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 170 - 175؛ شرح معاني الآثار 2/ 194 - 196؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 352 - 354؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 35؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 55؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 88؛ المجموع 7/ 105.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 88 - 100؛ زاد المعاد 2/ 189 - 206.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 170 - 175؛ شرح معاني الآثار 2/ 195، 196؛ المجموع 7/ 105، 106.
به هو وجوب الفسخ عليهم حتماً. ويكون الجواز باق لسائر الأمة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو استحباب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث ابن عباس رضي الله عنه وفيه: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال:«حل كله»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة»
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن .. ) الحديث
(4)
.
(1)
انظر: زاد المعاد 2/ 193؛ تهذيب السنن 3/ 331.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 137، كتاب الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج، ح (1241)(203).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 311، كتاب الحج، باب التمتع والقران، والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ح (1561)، ومسلم في صحيحه 5/ 73، كتاب الحج، باب وجوه الإحرام، ح (1211)(120).
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً. فقال لهم:«أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة» فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: «افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم. ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله» ففعلوا
(1)
.
رابعاً: عن عطاء عن جابر رضي الله عنه، وعن طاوس عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قالا: قدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج لا يخلطهم شيء، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى نسائنا، ففشت في ذلك القالة-قال عطاء: فقال جابر: -فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً-فقال جابر بكفه- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً فقال: «بلغني أن قوماً يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، هي لنا أو للأبد؟ فقال:«لا، بل للأبد» قال: وجاء علي بن أبي طالب فقال
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 312، كتاب الحج، باب التمتع والقران، والإفراد بالحج، ح (1568)، ومسلم في صحيحه 5/ 88، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح (1216)(143).
أحدهما يقول: لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: لبيك بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه، وأشركه في الهدي
(1)
.
خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة. وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس:«من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه. ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ويقصر وليحلل ثم ليهل بالحج. فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» . الحديث
(2)
.
سادساً: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً. فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 498، كتاب الرهن، باب الاشتراك في الهدي والبدن، ح (2505، 2506). وأخرج حديث جابر رضي الله عنه مسلم في صحيحه 5/ 86، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح (1216)(141).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 336، كتاب الحج، باب من ساق البدن معه، ح (1691)، ومسلم في صحيحه 5/ 122، كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، ح (1227)(174).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 141، كتاب الحج، باب التقصير في العمرة، ح (1247)(211).
سابعاً: عن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما-قالت: خرجنا محرمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل» فلم يكن معي هدي فحللت. وكان مع الزبير هدي فلم يحلل
(1)
.
وفي رواية عنها رضي الله عنها قالت: (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج .. ) الحديث
(2)
.
وجه الاستدلال منها:
ويستدل من هذه الأحاديث: بأنها تدل على أن رسول الله أمر أصحابه من لم يسق الهدي منهم أن يفسخوا حجهم إلى العمرة، وبين أن متعة الحج ليست مختصة بهم، بل ذلك إلى الأبد وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، فثبت من ذلك استحباب فسخ الحج إلى العمرة وإلا لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنه ليس بواجب؛ للأدلة التي تدل على جواز إفراد الحج
(3)
.
واعترض عليه: بأن قوله: (هي لنا أو للأبد؟ فقال: «لا، بل للأبد)،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 132، كتاب الحج، باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى من البقاء على الإحرام وترك التحلل، ح (1236)(191).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 133، كتاب الحج، باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى من البقاء على الإحرام وترك التحلل، ح (1236)(192).
(3)
انظر: المغني 5/ 252 - 254؛ الشرح الكبير 8/ 185 - 189؛ شرح الزركشي 2/ 192 - 199؛ مجموع الفتاوى 26/ 94 - 96.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة» يحتمل احتمالين:
الأول: أن المراد به فسخ الحج إلى العمرة
(1)
.
الثاني: أن المراد به جواز العمرة في أشهر الحج
(2)
.
وقد فسره الجمهور بالاحتمال الثاني؛ لذلك يكون الاحتمال الأول غير مقطوع به، و تكون أدلة فسخ الحج إلى العمرة يتطرق إليها احتمال أن يكون خاصاً بالصحابة
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو وجوب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي- بالأدلة التي اسُتدل بها للقول السابق.
ووجه الاستدلال منها: أن فيها الأمر بالفسخ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن متعتهم ذلك إلى الأبد، وقد غضب صلى الله عليه وسلم على من لم يتبادر إلى الامتثال، وهذا كله يدل على وجوب ذلك، وعلى أن ذلك ليس مختصاً بهم
(4)
.
ويعترض عليه: بما اعترض به على وجه استدلال القول السابق،
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 177.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 177؛ شرح معاني الآثار 2/ 191؛ المجموع 7/ 106؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 87.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: التمهيد 8/ 176.
(4)
انظر: المحلى 5/ 88 - 100؛ زاد المعاد 2/ 178 - 211.
ويزاد عليه: بأن القول بوجوب فسخ الحج إلى العمرة معارض بالأدلة التي تدل على جواز إفراد الحج، وقد قد نقل الإجماع على جواز ذلك غير واحد من أهل العلم
(1)
.
الراجح
بعد قراءة المسألة في جملة من كتب المذاهب الفقهية، وشروح كتب الأحاديث، وقراءة الأحاديث الواردة في أنواع الحج من تمتع وقران وإفراد، وما روي عن الصحابة-رضي الله عنهم-في ذلك من أقوالهم وأفعالهم، وما فعلوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أقوال أهل العلم بعدهم في المسألة، تبين لي- والله أعلم بالصواب- ما خلاصته ما يلي:
أولاً: إن التمتع في الحج أنواع، منها: أن يهل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، ثم يحل منها بالطواف بالبيت وبين الصفا والمرة، ويحلق أو يقصر، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه
(2)
.
ومنها: أن يحرم بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة، ثم ينشئ الحج بعدها، فيصير متمتعاً
(3)
.
وهذا النوع يسمي بفسخ الحج إلى العمرة.
وعلى كلا النوعين يطلق المتعة، أو متعة الحج في مصطلحات
(1)
انظر: مختصر المزني ص 93؛ معالم السنن 3/ 301؛ الحاوي 4/ 44؛ المغني 5/ 82.
(2)
انظر: بداية المجتهد 2/ 647.
(3)
انظر: فتح الباري 3/ 519.
الصحابة رضي الله عنهم. أما من بعدهم فالأشهر عندهم إطلاق التمتع على النوع الأول، ويعبرون في الغالب عن النوع الثاني بفسخ الحج إلى العمرة.
ثانياً: إن النوع الأول من المتعة لا خلاف في جوازه
(1)
.
أما النوع الثاني وهو فسخ الحج إلى العمرة، فقد صحت الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمر أصحابه الذين لم يهدوا أن يفسخوا حجهم إلى العمرة، ولا خلاف في صحة هذه الأخبار، وأنها تبلغ حد التواتر
(2)
.
لكن اختلف أهل العلم بعد-اتفاقهم على صحة هذه الأخبار-هل كان هذا الفسخ خاصاً بالصحابة، أم هو لهم ولمن بعدهم، اختلفوا فيه على أربعة أقوال: قول بأنه منسوخ. وقول باختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم وعدم جوازه لمن بعدهم. وقول بالجواز مطلقاً أي للصحابة ولمن بعدهم. وقول بالوجوب مطلقاً. وقد سبق ذكر أصحاب هذه الأقوال.
ثالثاً: إن النوع الأول من التمتع، قد نهى عنه بعض الصحابة-رضي الله عنهم، منهم عمر، وعثمان-رضي الله عنهما-لكن لم يكن نهيهم عنه للتحريم، بل كانوا يرونه جائزاً، وإنما كانوا يرون أن الأفضل أن يُؤدى كل من الحج
(1)
انظر: بداية المجتهد 2/ 647.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 170؛ شرح معاني الآثار 2/ 189 - 194؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 352؛ التمهيد 8/ 176؛ بداية المجتهد 2/ 648؛ المغني 5/ 253؛ المجموع 7/ 104.
والعمرة في سفرة مستقلة، وأن يكثر من زيارة البيت
(1)
.
أما النوع الثاني من التمتع، فقد جاء النهي عنه عن جمع من الصحابة-رضي الله عنهم، وصرح بعضهم بأنه مختص بهم، ولم يبق على التمسك به أحد منهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ابن
عباس رضي الله عنه
(2)
.
رابعاً: إن الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة-رضي الله عنهم بفسخ الحج إلى العمرة، أدلة صريحة، وصحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون اختلاف فيها. لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيها لسراقة بن مالك رضي الله عنه حينما قال: يا رسول الله، هي لنا أو للأبد؟ فقال:«لا، بل للأبد»
(3)
. مختلف في المراد به، فقيل: إن المراد به فسخ الحج إلى العمرة، وأنه للأبد
(4)
. وقيل: إن المراد به جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا لا يرون ذلك في الجاهلية
(5)
. كما قيل: إن المراد به هو وجوب العمرة مرة في الدهر
(6)
.
والأحاديث الواردة في وقت سؤال سراقة رضي الله عنه مختلفة ففي رواية جابر رضي الله عنه أن ذلك كان بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بفسخ الحج إلى العمرة، وبعد
(1)
انظر: المجموع 7/ 97 - 99؛ زاد المعاد 2/ 208 - 210.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 174؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 351 - 353.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول الثاني.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 177؛ زاد المعاد 2/ 192، 196.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 177؛ شرح معاني الآثار 2/ 191.
(6)
انظر: التمهيد 8/ 179.
قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: «لا، بل للأبد»
(2)
.
وفي لفظ عنه رضي الله عنه قال: ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة فقال: يا رسول الله، ألنا هذه خاصة؟ قال:«لا، بل للأبد»
(3)
.
أما الأدلة التي تدل على عدم جواز الفسخ، أو اختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم فهي على أنواع كالتالي:
أ- مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصريح في الدلالة، لكنه متكلم فيه، وهو حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه، وقد مرّ ذكره.
ب- ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم، لكنه ليس بصريح فيه، ويحتمل الرفع والوقف، وهو ما رواه أبو سعيد رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه: (إن الله عز وجل رخّص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإن نبي الله قد مضى لسبيله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله عز وجل
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الثاني.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 353، كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، ح (1785).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1516، كتاب التمني، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو استقبلت من أمري ما ستدبرت، ح (7230).
(4)
سبق تخريجه في دليل القول ا لأول.
وفي رواية: (إن الله عز وجل كان رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء)
(1)
.
فهذا يدل على أن فسخ الحج إلى العمرة كان رخصة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ج- ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم، وهو صحيح لكنه موقوف، وهو ما روي عن أبي ذر، وعثمان-رضي الله عنهما.
وهذه الأدلة بمجموعها تصلح للاحتجاج بها.
خامساً: لا يوجد دليل يصح الاستدلال منه على نسخ فسخ الحج إلى العمرة. وقد سبق ما يرد به على من استدل على نسخه بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(2)
. أو استدل عليه بعمل الخلفاء.
كما أن القول بالنسخ يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله سراقة بن مالك رضي الله عنه عن ذلك و قال: يا رسول الله، هي لنا أو للأبد؟ فقال:«لا، بل للأبد»
(3)
. فإن الظاهر منه أن السؤال وقع عن الفسخ
(4)
، وقد أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك للأبد، وهو إخبار باستمراره، وهو مما يستحيل ورود النسخ عليه
(5)
.
سادساً: إن القول باختصاص فسخ الحج بالصحابة-رضي الله عنهم
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
سورة البقرة، الآية (196).
(3)
سبق تخريجه في دليل القول الثاني.
(4)
انظر: زاد المعاد 2/ 216؛ فتح الباري 3/ 752.
(5)
انظر: زاد المعاد 2/ 189.
وإن كان يوجد ما يدل عليه، إلا أن الراجح هو القول بجواز واستحباب فسخ الحج إلى العمرة، وذلك لما يلي:
أ- لأن الأدلة التي يستدل منها على تخصيص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-يمكن أن يكون المراد به وجوب فسخ الحج، فإنه كان واجباً على الصحابة الذين لم يهدوا، ويكون جوازه باقياً لمن بعدهم
(1)
. وبه يجمع بين هذه الأدلة جميعاً.
ب-إن الأدلة الدالة على فسخ الحج إلى العمرة صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وقد بلغت حد التواتر.
أما أدلة القول باختصاص ذلك بالصحابة-رضي الله عنهم فإنها إما متكلم فيها، أو غير صريحة، أو غير مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ج-ولأن الظاهر من سؤال سراقة بن مالك رضي الله عنه أنه كان عن فسخ الحج إلى العمرة، وقد أجابه النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك للأبد، وأن العمرة دخلت في الحج، وإذا كان كذلك فإنه ينافي اختصاص ذلك بالصحابة رضي الله عنهم كما ينافي القول بنسخ فسخ الحج.
والله أعلم.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 26/ 96؛ زاد المعاد 2/ 193.
المطلب العاشر: رفع اليدين عند رؤية البيت
ذهب الطحاوي إلى أن رفع اليدين عند رؤية البيت كان أولاً ثم نسخ ذلك، لذلك يكره رفع اليدين عند رؤيته
(1)
.
وليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، وإنما السبب في اختلافهم فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في صحة تلك الآثار.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه أنه قال حينما سئل عن الرجل يرى البيت يرفع يديه: (ما كنت أرى أحداً يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله)
(2)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 176، 177؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 132.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 286، كتاب المناسك، باب في رفع اليدين إذا رأى البيت، ح (1870)، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1283، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 176. قال الطحاوي في شرح معاني الاثار-بعد ذكر حديث ابن عباس في رفع اليدين في سبعة مواطن، ثم ذكر هذا الحديث- 2/ 177: (فإن هذا الإسناد أحسن من إسناد الحديث الأول). وحسن إسناد حديث جابر رضي الله عنه النووي في المجموع 8/ 11. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 286. وفي سند هذا الحديث مهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن المخزومي، المكي، روى عنه: أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي، ويحيى بن أبي كثير، والزهري. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حجر:(مقبول). وقال الخطابي: (فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وضعف هؤلاء حديث جابر؛ لأن مهاجراً راويه عندهم مجهول). انظر: معالم السنن 3/ 372؛ تهذيب التهذيب 10/ 287؛ التقريب 2/ 217.
وفي لفظ عنه رضي الله عنه قال: (ما كنت أظن أحداً يفعل هذا إلا اليهود؛ حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله)
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقوم مع الناس عشية عرفة، وبجمع، وبين المقامين حين يرمي الجمرة»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر»
(3)
.
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 448، كتاب مناسك الحج، باب ترك رفع اليدين عند رؤية البيت، ح (2895)، وأخرجه الترمذي في سننه-بلفظ:(أفكنا نفعله؟) - ص 208، كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية رفع اليدين عند رؤية البيت، ح (855)، وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 436، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 117. وحسنه النووي في المجموع 8/ 11. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 208. وقال البيهقي بعد ذكر حديث ابن عباس في رفع اليدين في سبعة مواطن، ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه: (الأول مع إرساله أشهر عند أهل العلم، من حديث مهاجر، وله شواهد وإن كانت مرسلة، والقول في مثل هذا قول من
رأى وأثبت).
(2)
سبق تخريجه في ص 540.
(3)
أخرجه البزار في مسنده كما في كشف الأستار 1/ 251، عن طريق محمد بن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البزار: رواه جماعة فوقفوه، وابن أبي ليلى ليس بالحافظ، وإنما قال: ترفع الأيدي، ولم يقل: لا ترفع إلا في هذه المواضع).
وأخرج نحوه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 1282، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 11، ثم قال ابن خزيمة:(لم أجعل لهذا الخبر باباً؛ لأنهم قد اختلفوا في هذا الإسناد). وقال البيهقي: (ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر، مرة موقوفاً عليهما، ومرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (وابن أبي ليلى هذا غير قوي في الحديث).
وأخرجه البخاري في جزء رفع اليدين ص 134، بلفظ:(لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن) ثم قال في ص 135: (قال علي بن مسهر، والمحاربي عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شعبة: إن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث، ليس فيها هذا الحديث، وليس هذا من المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحاب نافع خالفوا، وحديث الحكم عن مقسم مرسل).
وفي لفظ عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السجود على سبعة أعضاء: اليدين، والقدمين، والركبتين، والجبهة. ورفع الأيدي: إذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وبعرفة وبجمع، وعند رمي الجمار، وإذا أقيمت الصلاة»
(1)
.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 452، من طريق عطاء بن السائب عن ابن جبير عن ابن عباس به. وفيه محمد بن السائب، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 241:(قد اختلط).
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 214، من طريق عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً، ولفظه:(عن ابن عباس قال: لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: إذا قام إلى الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي عرفات، وفي جمع، وعند الجمار).
ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ترفع الأيدي في سبع مواطن، في افتتاح الصلاة، وعند البيت، وعلى الصفا، والمروة، وبعرفات، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهم-يدلان على رفع اليدين عند رؤية البيت، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على أن ذلك من فعل اليهود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج لم يرفع يديه عند رؤية البيت. فيكون معنى ذلك: أن رفع اليدين عند رؤية البيت من فعل اليهود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتبع شريعة الأنبياء قبله فيما لم يوح إليه، فلذلك قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ذاك الوقت اقتداء بشريعتهم حتى يحدث الله له شريعة تنسخ شريعتهم، ثم لما حج لم يرفع يديه عند رؤية البيت، وخالف فعل اليهود، فيكون فعله صلى الله عليه وسلم هذا ناسخاً للأمر السابق
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث جابر رضي الله عنه هذا ليس المقصود به أن رفع اليدين عند رؤية البيت من شريعة الأنبياء السابقين، بل الظاهر أن مقصوده الإنكار على من يفعل ذلك، وأنه من فعل اليهود لا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله هذا معارض بما روي عن ابن
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 176، من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر، وقد سبق كلام البزار والبخاري عليه في الرواية قبل السابقة.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 176 - 177؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 132.
عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم مرفوعاً، وموقوفاً عليهما
(1)
.
ب- إن حديث جابر رضي الله عنه هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه عند رؤية البيت في حجة الوداع، والآثار المروية التي تدل على جواز رفع اليدين عند رؤية البيت ليس فيها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها قبل حجة الودع.
ج- إن الآثار التي جاء فيها رفع اليدين عند رؤية البيت، ليس فيها ما يدل على وجوب الرفع، بل هي تدل على الجواز والاستحباب، وحديث جابر رضي الله عنه هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه، وإذاً فليس بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وبين ما يدل على جواز الرفع تعارضاً؛ لأن ترك
العمل بالجائز لا ينافي الجواز.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في رفع اليدين عند رؤية البيت على قولين:
القول الأول: لا يرفع اليدين عند رؤية البيت، وأنه ليس مستحباً.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، وروي ذلك عن جابر رضي الله عنه
(4)
.
القول الثاني: يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت.
(1)
انظر: المغني 5/ 211.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 176 - 179؛ مختصر اختلاف العلماء 2/ 131 - 132؛ حاشية ابن عابدين 3/ 445.
(3)
انظر: المدونة 1/ 165، 420؛ جامع الأمهات ص 199؛ الذخيرة للقرافي 3/ 236.
(4)
انظر: الحاوي 4/ 133.
وهو مذهب الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس-رضي الله عنهم. وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وابن المنذر
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول، بما مرّ في دليل القول بالنسخ من حديث جابر رضي الله عنه؛ حيث إنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه عند رؤية البيت
(4)
.
ويعترض عليه: بأنه من قول جابر رضي الله عنه، ويعارضه ما روي عن ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنها-مرفوعاً مما يدل على جواز رفع اليدين
(5)
.
ويستدل للقول الثاني بما يلي:
أولاً: بما مرّ في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم؛ حيث إنهما يدلان على رفع اليدين عند رؤية البيت.
ثانياً: عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: (اللهم زد هذا البيت
تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، ومهابة، وزد من شرفه،
(1)
انظر: الأم 2/ 185؛ الحاوي 4/ 133؛ المجموع 8/ 10.
(2)
انظر: المغني 5/ 211؛ الشرح الكبير 9/ 75؛ شرح الزركشي 2/ 173؛ الإنصاف 9/ 75.
(3)
انظر: معالم السنن 3/ 372 - 373؛ المغني 5/ 211؛ المجموع 8/ 10.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 176.
(5)
انظر: المغني 5/ 211.
وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً، وتكريماً، وبراً)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على جواز رفع اليدين عند رؤية البيت وعلى استحبابه
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إنه لا يصح الاستدلال من حديث جابر رضي الله عنه على نسخ رفع اليدين عند رؤية البيت، وذلك لما يلي:
أ- لأنه لا يوجد دليل يدل على أن حديث ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما-كان قبل حجة الوداع، حتى يكون حديث جابر رضي الله عنه متأخراً عنه،
(1)
أخرجه الشافعي في الأم 2/ 184، وعن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 118، وقال: (هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر، وقال: اللهم أنت السلام
…
). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 242 - بعد ذكر رواية البيهقي من طريق سفيان الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول-: (وأبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب كذاب
…
)، ثم قال:(وأصل هذا الباب ما رواه الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان-فذكره، ثم قال: -وهو معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي بعد أن أورده: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء، فلا أكرهه ولا استحبه، قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه).
(2)
انظر: المغني 5/ 211؛ المجموع 8/ 11.
وناسخاً له.
ب- إنه يمكن الجمع بين الحديثين؛ وذلك إذا حمل حديث ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما-على الجواز والاستحباب؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لكن عدم فعله صلى الله عليه وسلم هذا لا ينفي جوازه.
أما ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن رفع اليدين عند رؤية البيت من فعل اليهود، فهو من
قوله وظنه، وقد خالفه ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما
(1)
.
ثانياً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو جواز واستحباب رفع اليدين عند رؤية البيت، وذلك لما يلي:
أ- لأنه يمكن أن يجمع به بين هذه الأحاديث، كما سبق بيانه، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها.
ب- ولأنه روي عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون عند رؤية البيت، ورفع اليدين جائز عند الدعاء
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 5/ 211.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 5/ 118؛ الكافي لابن عبد البر ص 139؛ المغني 5/ 211؛ التلخيص الحبير 2/ 242.
المطلب الحادي عشر الرمل بين الركنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة الأول
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الرمل
(1)
لم يكن سنة في الأشواط الثلاثة الأول بين الركنين اليمانيين، ثم نسخ ذلك وجعل سنة من الحجر إلى الحجر.
وممن صرح بنسخه النووي
(2)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من أدلة الأقوال أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: اختلاف الآثار الواردة فيها، والقول بالنسخ
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حُمّى يثرب. قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنهم الحُمّى. ولقوا منها شدة. فجلسوا مما يلي الحجر. وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين. ليرى المشركون
(1)
الرمل هو: أن يمشي في الطواف سريعاً، ويهز في مشيته الكتفين كالمبارز بين الصفين. التعريفات للجرجاني ص 112؛ التعريفات الفقهية ص 106.
أو هو: إسراع المشي مع مقاربة الخطى من غير وثب. المغني 5/ 127.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 152. وأشار إليه ابن قدامة في المغني 5/ 219. وانظر: عمدة القاري 7/ 179؛ تحفة الأحوذي 3/ 698.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
جلدهم. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم. هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس رضي الله عنه: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء
(1)
عليهم)
(2)
.
ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر
ثلاثاً، ومشى أربعاً)
(3)
.
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما-أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف)
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يمشوا بين الركنين، ولم يرملوا بينهما، فهو يدل على عدم مشروعية الرمل بين الركنين، لكن هذا كان في عمرة القضاء قبل فتح مكة سنة سبع، ثم في حجة الوداع رمل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر، بدلالة
(1)
الإبقاء: الرحم والشفقة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 152؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 156.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 319، كتاب الحج، باب كيف كان بدء الرمل، ح (1602)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 156، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، ح (1266)(240).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 152، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، ح (1262)(233).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 153، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، ح (1263)(235).
حديثي ابن عمر، وجابر-رضي الله عنهم، وكان ذلك سنة عشر، فيكون فعله هذا متأخراً، وناسخاً لعدم مشروعية الرمل بين الركنين؛ لتأخره، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
هذا كان القول بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الرمل بين الركنين في الأشواط الثلاثة الأول على قولين:
القول الأول: يرمل في الأشواط الثلاثة بكمالها من الحجر إلى الحجر.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
. وروي ذلك عن: عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن الزبير-رضي الله عنهم. وهو كذلك قول عروة، وإبراهيم النخعي، والثوري، وجمهور أهل العلم
(6)
.
(1)
انظر: المغني 5/ 219؛ شرح صحيح مسلم 5/ 152؛ عمدة القاري 7/ 179؛ تحفة الأحوذي 3/ 698.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 341؛ عمدة القاري 7/ 178؛ الدر المختار 3/ 453؛ حاشية ابن عابدين 3/ 453.
(3)
انظر: الكافي ص 139؛ جامع الأمهات ص 195؛ التاج والإكليل 4/ 153؛ الشرح الكبير 2/ 62.
(4)
انظر: مختصر المزني ص 97؛ الحاوي 4/ 141؛ المجموع 8/ 37؛ مغني المحتاج 2/ 269.
(5)
انظر: المغني 5/ 218؛ الشرح الكبير 9/ 91؛ شرح الزركشي 2/ 177؛ منتهى الإرادات 1/ 199.
(6)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 341؛ المغني 5/ 218.
القول الثاني: لا يرمل بين الركنين.
وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، والحسن، والقاسم، وسالم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أنه يرمل من الحجر إلى الحجر- بحديثي ابن عمر، وجابر رضي الله عنهم، وقد مرّ ذكرهما في دليل القول بالنسخ؛ حيث إنهما يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر. وكان ذلك في حجة الوداع فتعين الأخذ بذلك
(2)
.
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه لا يرمل بين الركنين- بحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي مرّ ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمشي بين الركنين. فدل ذلك على عدم مشروعية الرمل بين الركنين
(3)
.
ويعترض عليه: بأن ما في حديث ابن عباس رضي الله عنه كان في عمرة القضاء، ثم في حجة الوداع رمل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر. وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 341؛ المغني 5/ 218.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 341؛ المغني 5/ 219؛ المجموع 8/ 37.
(3)
انظر: المغني 5/ 219؛ المجموع 8/ 37.
(4)
انظر: المغني 5/ 219؛ المجموع 8/ 37؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 152.
الراجح
لا شك أن الراجح هو القول الأول-وهو مشروعية الرمل من الحجر إلى الحجر-، وذلك لما يلي:
أ- لأن ما يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه من عدم الرمل بين الركنين، كان ذلك سنة سبع في عمرة القضاء. وما يدل عليه حديث ابن عمر، وجابر-رضي الله عنهما من الرمل من الحجر إلى الحجر، كان ذلك سنة عشر في حجة الوداع، فهو متأخر، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ب- إن الرمل في عمرة القضاء أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن يُري المشركين قوتهم وجلدهم، لا لأنه سنة، وكان المشركون ينظرون إليهم جالسين إلى جهة الحجر من البيت، فكانوا لا يرون المسلمين بين الركنين، لذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمشي بين الركنين دون الرمل.
أما الرمل في حجة الوداع فإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سنة من سنن الحج؛ لذلك رمل من الحجر إلى الحجر
(2)
.
والله أعلم.
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 179 - 182.
المطلب الثاني عشر من رمى جمرة العقبة ولم يطف بالبيت حتى أمسى، هل يعود محرماً
؟
ذهب النووي إلى أن الحديث الذي يدل على أن من تحلل يوم النحر، ولم يطف بالبيت حتى أمسى أنه يعود محرماً كما كان قبل رمي الجمرة حتى يطوف، ذهب إلى أنه حديث منسوخ
(1)
.
والقول به أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: كانت ليلتي التي يصير إليّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إليّ فدخل عليّ وهب بن زمعة
(3)
، ومعه رجل من آل أبي أمية متقمِّصَينِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب:«هل أفضت أبا عبد الله؟» قال: لا والله يا رسول الله، قال:«انزع عنك القميص» قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «إن هذا يوم رُخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا» يعني: من كل ما حرمتم منه إلا النساء، «فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا بهذا البيت صرتم
(1)
انظر: المجموع 8/ 127.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 228؛ المحلى 5/ 141؛ المجموع 8/ 127.
(3)
هو: وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب، الأسدي، من مسلمي الفتح، وكان من أجواد قريش. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 130؛ الإصابة 3/ 2091.
حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به»
(1)
.
ثانياً: عن أم قيس بنت محصن
(2)
رضي الله عنها-قالت: دخل عليّ عكاشة بن محصن
(3)
، وآخر في منى مساء يوم الأضحى فنزعا ثيابهما، وتركا الطيب. فقلت: ما لكما؟ فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «من لم
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 305، كتاب المناسك، باب الإفاضة في الحج، ح (1999)، وأحمد في المسند 44/ 153، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1389، والحاكم في المستدرك 1/ 665، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 223. قال النووي عن إسناده:(هذا إسناد صحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 305: (حسن صحيح). وذكره ابن القيم في تهذيب السنن 3/ 427، من طريقين، ثم قال:(وهذا يدل على أن الحديث محفوظ).
وقال ابن حزم في المحلى 5/ 141، بعد ذكره:(ولا يصح؛ لأن أبا عبيدة وإن كان مشهور الشرف والجلالة في الرياسة فليس معروفاً بنقل الحديث، ولا معروفاً بالحفظ).
وأبو عبيدة هذا هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، الأسدي القرشي. أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. وقال ابن حجر عنه:(مقبول). انظر: التقريب 2/ 432.
(2)
هي: آمنة بنت محصن بن حرثان، الأسدية، أخت عكاشة رضي الله عنه، أسلمت قديماً، وهاجرت، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: مولاها عدي بن دينار، ووابصة بن معبد، وغيرهما. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 332؛ الإصابة 4/ 2411، 2739؛ تهذيب التهذيب 12/ 424؛ التقريب 2/ 671.
(3)
هو: عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس، الأسدي، حليف بني عبد الشمس، أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وشهد بدراً. وقيل: استشهد في قتال الردة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 387؛ الإصابة 2/ 1277.
يفض إلى البيت من عشية هذه، فليدع الثياب والطيب»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)
(2)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء»
(3)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 228. وفي سنده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه. لكن أخرج نحوه أحمد في المسند 44/ 154، والحاكم كما في الإصابة 2/ 1278، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 223، من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة. وقد تقدم الكلام عليه في الحديث السابق.
(2)
سبق تخريجه في ص 1016.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 302، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، ح (1978)، وأحمد في المسند 24/ 40، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 1379، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 228، والدارقطني في سننه 2/ 276، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 222. قال أبو داود بعد ذكر الحديث:(هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه). وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 3/ 418: (والحجاج هذا هو ابن أرطاة، قد ذكر غير واحد من الحفاظ أنه لا يحتج بحديثه، وذكر عباد بن العوام، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان أن الحجاج لم يسمع من الزهري شيئاً، وذُكر عن الحجاج نفسه أنه لم يسمع منه شيئاً). لكن الحديث رواه أحمد ومن ذكروا بعده في التخريج، من طريق الحجاج عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة عن عائشة. والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 302.
«إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالسك أفطيب ذاك أم لا؟!
(1)
.
خامساً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة، وعلمهم أمر الحج، وقال لهم فيما قال:(إذا جئتم منى، فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرُم على الحاج، إلا النساء والطيب. لا يمس أحد نساء ولا طيباً حتى يطوف بالبيت)
(2)
.
سادساً: الإجماع؛ حيث لم يقل أحد من أهل العلم بعود من تحلل التحلل الأول محرماً إذا لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر حتى أمسى
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأنه روي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 5، وأخرجه موقوفاً على ابن عباس النسائي في سننه ص 475، كتاب مناسك الحج، باب ما يحل للمحرم بعد رمي الجمار، ح (3084)، وابن ماجة في سننه ص 515، كتاب المناسك، باب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، ح (3041)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 229، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 222. وصحح الشيخ الألباني الموقوف كما في صحيح سنن النسائي ص 475. وقال عن رواية أحمد في صحيح سنن أبي داود 6/ 220:(أخرجه أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أنه منقطع).
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 327، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 231، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 221. وإسناد مالك من أصح الأسانيد.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 5/ 223؛ المجموع 8/ 127.
وآثار عن الصحابة-رضي الله عنهم، من جملتها ما سبق ذكره، تدل على حصول التحلل الأول بعد رمي الجمرة، أو بعد رمي الجمرة والذبح والحلق. ثم ليس في هذه الأدلة كلها ما يدل على أن من أمسى ولم يطف بالبيت أنه يعود محرماً كما كان قبل رمي الجمرة، إلا ما جاء في رواية أم سلمة وأم قيس بنت محصن-رضي الله عنهما. ولم ينقل عن أحد من الصحابة-رضي الله عنهم ثم من بعدهم من أهل العلم، من يقول بما يدل عليه حديثهما من أنه يعود محرماً إذا أمسى ولم يطف بالبيت، فدل ذلك على أن ما يدل عليه حديثهما من عود من تحلل محرماً إذا لم يطف حتى أمسى يوم النحر، قد نسخ، ويدل على نسخه إجماع أهل العلم على عدم القول بموجبه
(1)
.
واعترض عليه: بأن المسألة ليست مما أُجمع عليه، لذلك لا يصح القول على نسخها بدلالة الإجماع
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم فيمن تحلل التحلل الأول، ولم يطف بالبيت يوم النحر هل يعود محرماً كما كان قبل رمي الجمرة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا يعود محرماً.
وهو قول جمهور أهل العلم، منهم أصحاب المذاهب الأربعة، وحكاه
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 5/ 223؛ المجموع 8/ 127.
(2)
انظر: شرح معاني ا لآثار 2/ 228؛ المحلى 5/ 141.
بعض أهل العلم إجماعاً
(1)
.
القول الثاني: إن من تحلل التحلل الأول ولم يطف يوم النحر فإنه لا يحل له اللباس و الطيب ويعود محرماً.
وهو قول بعض أهل العلم، منهم عروة
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بما سبق في دليل القول بالنسخ من الأحاديث والآثار، والتي ليس فيها ما يدل على عود من تحلل التحلل الأول محرماً إذا لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر
حتى أمسى. فلو كان يعود محرماً لجاء له ذكر في هذه الأحاديث، ولبينه الصحابة رضي الله عنهم-قولاً وعملاً
(3)
.
(1)
قال البيهقي في السنن الكبرى 5/ 223: (لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول ذلك). وقال النووي في المجموع 8/ 127 - بعد ذكر حديث أم سلمة، ثم قول البيهقي السابق-:(قلت: فيكون الحديث منسوخاً، دل الإجماع على نسخه). وانظر: " شرح معاني الآثار 2/ 228 - 232؛ مختصر القدوري ص 68؛ بدائع الصنائع 2/ 331؛ " الاستذكار 3/ 656، 657؛ جامع الأمهات ص 201؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 185؛ "مختصر المزني ص 99؛ الحاوي 4/ 189؛ المجموع 8/ 125 - 126؛ " المغني 5/ 307 - 310؛ شرح الزركشي 2/ 217؛ الشرح الممتع 3/ 352 - 353؛ " المحلى 5/ 138 - 141؛ نيل الأوطار 5/ 103.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 228؛ المحلى 5/ 141.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 228 - 232؛ السنن الكبرى 5/ 221 - 223؛ الاستذكار 3/ 656، 657؛ المحلى 5/ 138 - 141؛ المجموع 8/ 125 - 126؛ المغني 5/ 307 - 310.
ويستدل للقول الثاني: برواية أم سلمة وأم قيس بنت محصن-رضي الله عنهما؛ فهما يدلان على أن من تحلل ثم لم يفض يوم النحر فإنه يعود محرماً كما كان قبل رمي الجمرة
(1)
.
الراجح
الذي ظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: للأحاديث الكثيرة التي جاء فيها ذكر التحلل الأول، وليس فيها ما يدل على عود من حصل له ذلك محرماً إذا لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر. كما أن الآثار المروية عن الصحابة-رضي الله عنهم ليس فيها أي ذكر لذلك، مع عموم البلوى به.
ثانياً: إن القول بعوده محرماً لم ينقل عن أحد من الصحابة-رضي الله عنهم-بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لا قولاً ولا عملاً، مما يدل على ترك العمل به.
كما أن ترك العمل به من عامة أهل العلم بعد الصحابة-رضي الله عنهم مما يرجح القول بخلافه.
ثالثاً: إن القول بنسخه ضعيف إلا أنه محتمل؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال به، كما لم يقل به عامة أهل العلم فهو كشبه الإجماع على ترك العمل به. والإجماع ليس مما ينسخ به، لكنه يدل على ناسخ
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 1389؛ شرح معاني الآثار 2/ 228؛ المحلى 5/ 141.
(2)
انظر: السنن الكبرى 5/ 223؛ المجموع 8/ 127.
المطلب الثالث عشر: طواف الوداع على الحائض
ذهب الطحاوي إلى أن ما يدل على وجوب طواف الوداع على الحائض قد نسخ، لذلك يحوز لها أن تنفر وإن لم تطف طواف الوداع إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة
(1)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الأصلي له هو تعارض الآثار الواردة فيها، كما سيظهر ذلك من الأدلة في المسألة.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن الحارث بن عبد الله بن أوس
(2)
صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، قال: فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أرِبَتْ
(3)
يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِكَيْما
(1)
وهو كذلك قول الشيخ الألباني، وذكر ابن حجر قول الطحاوي بالنسخ، ولم ينكره عليه. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 235؛ فتح الباري 3/ 725؛ صحيح سنن أبي داود ص 305.
(2)
هو: الحارث بن عبد الله بن أوس، الثقفي، وقد ينسب إلى جده، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عمرو بن أوس، والوليد بن عبد الرحمن الجرشي. انظر: الإصابة 1/ 321؛ تهذيب التهذيب 2/ 125.
(3)
أربت أي سقطت، ويطلق الإرب كذلك على الحاجة، والعضو. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 48؛ مختار الصحاح ص 11؛ المصباح المنير ص 20.
أخالف!)
(1)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: أن صفية بنت حُيَيّ زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت. قال: «فلا إذاً»
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت. إلا أنه خُفِّفَ عن المرأة الحائض)
(3)
.
رابعاً: عن طاوس قال: كنت مع ابن عباس-رضي الله عنهما إذ قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إمَّا لا. فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 305، كتاب المناسك، باب الحائض تخرج بعد الإفاضة، ح (2004)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 174، وأحمد في المسند 24/ 175، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 232. قال ابن حجر في الإصابة 1/ 321:(وإسناده صحيح). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 305.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 348، كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت، ح (1757)، و مسلم في صحيحه 5/ 215، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، ح (1211)(382).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 348، كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت، ح (1760)، و مسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 214، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، ح (1328)(382).
إلا قد صدقت)
(1)
.
خامساً: قال طاوس: وكان ابن عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول:(تنفر؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهنّ)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الحديث الأول وهو حديث الحارث بن عبد الله رضي الله عنه يدل أن الحائض يجب عليها طواف الوداع، كما يجب على غيرها، وأنها لا تنفر حتى تطوف بالبيت. لكن هذا الحديث منسوخ بالأحاديث المذكورة بعده؛ لأنها بعده، يدل على ذلك لفظ:(رخص)، كما يدل على ذلك رجوع كثير من الصحابة الذين قالوا بوجوب طواف الوداع عليها إلى القول بعدم الوجوب، والرخصة لها بالنفر دون الطواف
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب طواف الوداع على الحائض على قولين:
القول الأول: لا يجب عليها طواف الوداع، فلها أن تنفر بدون أن تطوف.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 215، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، ح (1328)(381).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 71، كتاب الحيض، باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، ح (330).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 233 - 235؛ فتح الباري 3/ 725؛ عمدة القاري 7/ 385؛ صحيح سنن أبي داود ص 305.
وهو قول جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(1)
.
القول الثاني: إنها يجب عليها طواف الوداع، فلا تنفر حتى تطهر فتطوف بالبيت.
وهو قول روي عن عمر رضي الله عنه وعن بعض الصحابة، إلا أنهم رجعوا عنه غير عمر رضي الله عنه
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنها تنفر بدون طواف الوداع- بالأحاديث التي مرّ ذكرها في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن أن تنفر بدون أن تطوف للوداع
(3)
.
ويستدل للقول الثاني- وهو أنها لا تنفر حتى تطهر وتطوف- بحديث
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 173؛ سنن الترمذي ص 226؛ فتح الباري 3/ 724؛ "شرح معاني الآثار 2/ 235؛ بدائع الصنائع 2/ 333؛ حاشية ابن عابدين 3/ 483؛ " الاستذكار 3/ 670 - 671؛ جامع الأمهات ص 202؛ التاج والإكليل 4/ 196؛ " الأم 2/ 198؛ مختصر المزني ص 100؛ المجموع 8/ 143؛ " المغني 5/ 341؛ الشرح الكبير 9/ 265؛ الإنصاف 9/ 265.
(2)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 173؛ شرح معاني الآثار 2/ 232؛ سنن الترمذي ص 226؛ فتح الباري 3/ 724؛
(3)
انظر: الأم 2/ 198؛ شرح معاني الآثار 2/ 232 - 2235؛ الاستذكار 3/ 668 - 670؛ المغني 5/ 341.
الحارث بن عبد الله رضي الله عنه، وقد مرّ ذكره كذلك في دليل القول بالنسخ، فإنه يدل على أنها لا تنفر حتى تطهر وتطوف بالبيت
(1)
.
الراجح
والذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأحاديث الدالة على ذلك أكثر، وأصح من أدلة القول المخالف له، كما سبق بيانه.
ثانياً: إن التعبير بلفظ: (رخص) تدل على أنهن مستثنى عن الحكم العام، وهو أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، كما يدل على أن هذه الرخصة متأخرة على الحكم المخالف لها.
ثالثاً: إن رجوع عدد من الصحابة-رضي الله عنهم-إلى القول بالرخصة لهن يدل على صحة هذا القول وأولويته، وأن هذه الرخصة متأخرة، لذلك رجعوا إليها، وبذلك تكون أدلة الرخصة ناسخة لما يخالفها.
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 2/ 232؛ فتح الباري 3/ 724.
المطلب الرابع عشر: قتل الغراب
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه يجوز قتل الغراب للمحرم، وفي الحرم، وأن ما يدل على عدم قتله فإنه قد نسخ
(1)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز قتل الغربان، إلا أن بعضهم خص جواز القتل بالأبقع
(2)
منها
(3)
.
ويدل على ما سبق ما يلي:
أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عمّا يقتل المحرم؟ قال:
(1)
قال شيخ الإسلام في شرح العمدة 2/ 140 - بعد ذكر الأحاديث التي تدل على ما يجوز قتله للمحرم-: (وقوله في حديث أبي سعيد: (يرمي الغراب ولا يقتله) إما أن يكون منسوخاً، بحديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة؛ لأن الرخصة بعد النهي، لئلا يلزم التغيير مرتين، أو يكون رميه هو الأولى وقتله جائزاً).
(2)
الأبقع ما اختلف لونه، وقيل: ما خالط بياضه لوناً آخر. وقيل: الغراب الأبقع: هو الذي فيه سواد وبياض. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 150؛ مختار الصحاح ص 52؛ المصباح المنير ص 57.
(3)
إلا ما قيل عن مجاهد بعدم قتله، وما روي عن الإمام مالك أنه قال: لا يقتل المحرم الغراب والحدأة إلا أن يضراه. انظر: شرح معاني الآثار 2/ 163 - 168؛ مختصر القدوري ص 73؛ بدائع الصنائع 2/ 428"؛ التمهيد 8/ 228؛ بداية المجتهد 2/ 702؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 253؛ التاج والإكليل 4/ 253"؛ الأم 2/ 199؛ مختصر المزني ص 104؛ المجموع 7/ 220"؛ المغني 5/ 175؛ شرح العمدة لشيخ الإسلام 2/ 135؛ الفروع 5/ 513.
«الحيّة، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسَّبُع العادي»
(1)
.
ثانياً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم فلا جناح عليه: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة»
(2)
.
ثالثاً: عن حفصة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 283، كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح (1848)، وأحمد في المسند 17/ 16. وأخرجه الترمذي في سننه-بدون لفظ:(يرمي الغراب ولا يقتله) - ص 204، كتاب الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح (838). وقال:(هذا حديث حسن). وقال ابن عبد البر في التمهيد 8/ 237 عن حديث أبي سعيد هذا: (ليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر، وسالم عن ابن عمر). وقال ابن حجر في التلخيص 2/ 274: (وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف وإن حسنه الترمذي. وفيه لفظة منكرة وهي قوله: (ويرمي الغراب ولا يقتله). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 283.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 674، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ح (3315)، ومسلم في صحيحه 5/ 47، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح (1199)(72).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 362، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح (1828)، ومسلم في صحيحه 5/ 48، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح (1200)(73).
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحِدَأَة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور»
(1)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث غير حديث أبي سعيد رضي الله عنه صريحة في جواز قتل الغراب
(2)
.
وحديث أبي سعيد رضي الله عنه يدل على عدم قتله، وهو لا يقاومها، وعلى تقدير صحته يكون منسوخاً بها؛ لأنها تدل على الرخصة في قتله، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه يدل على النهي عن قتله، والرخصة يكون بعد النهي، وإلا فليزم التغيير مرتين
(3)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 362، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح (1829)، ومسلم في صحيحه 5/ 46، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح (1189)(68).
(2)
انظر: الأم 2/ 199؛ شرح معاني الآثار 2/ 163 - 168؛ التمهيد 8/ 228؛ بداية المجتهد 2/ 702؛ بدائع الصنائع 2/ 428؛ المغني 5/ 175؛ المجموع 7/ 220؛ شرح العمدة 2/ 135؛ الفروع 5/ 513.
(3)
انظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام 2/ 135.
المطلب الخامس عشر: استحلال الحرم بالقتال
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز القتال في الحرم، وأن استحلال النبي صلى الله عليه وسلم الحرم بالقتال عند فتح مكة قد نسخ.
وممن قال به: الحازمي
(1)
، وأبو حامد الرازي
(2)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قتال المشركين في الحرم، وأن النهي عن القتال فيه قد نسخ
(3)
.
وممن قال بالنسخ وصرح به: قتادة
(4)
، وأبو جعفر الطبري
(5)
، ومكي بن أبي طالب
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن
(1)
انظر: الاعتبار ص 378، 380.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 65.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 29؛ الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه للمكي ص 157؛ المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي ص 19.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ لقتادة ص 33؛ جامع البيان 2/ 973؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 29.
(5)
انظر: جامع البيان 2/ 974.
(6)
وإليه ميل أبي جعفر النحاس. انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 29؛ الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه للمكي ص 157.
اختلاف الأدلة الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول بنسخ استحلال الحرم عند فتح مكة، بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة فلم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلُّ لأحد بعدي، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار لا يُختلى خلاها، ولا يُعضد شجرها، ولا يُنفر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمعرف» . وقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا. فقال:«إلا الإذخر»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي. ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» . الحديث
(3)
.
ثانياً: عن أبي شريح، أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة،
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة.
(2)
سبق تخريجه في ص 1034.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 252، كتاب الحج، باب تحريم مكة، ح (1353)(445).
فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»
(1)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد. ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما يودى وإما يقاد» الحديث
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على عدم جواز القتال بمكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أُحل له القتال بها ساعة من نهار، ثم حرم القتال بها بعد ذلك، ونسخ به ذلك الاستحلال. فعاد حرمتها إلى يوم القيامة. فتكون في هذه الأحاديث دلالة على نسخ إباحة القتال بمكة واستحلال الحرم
(3)
.
ويستدل للقول بأن النهي عن قتال المشركين عند الحرم قد نسخ، بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1035.
(2)
سبق تخريجه في ص 1035.
(3)
انظر: الاعتبار ص 378 - 380؛ الناسخ والمنسوخ للرازي ص 65.
(4)
سورة البقرة، الآية (191).
ثانياً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}
(2)
.
رابعاً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
(3)
.
خامساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:«اقتلوه»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} أن لا يقاتل المشركين عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} . وبغيرها من الآيات السابقة؛ حيث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بقتالهم، وهي آيات عامة تشمل الحل والحرم، وهذه
(1)
سورة البقرة، الآية (193).
(2)
سورة التوبة، الآية (5).
(3)
سورة التوبة، الآية (36).
(4)
سبق تخريجه في ص 1039.
الآيات بعد الآية التي نهى الله فيها عن قتالهم عند المسجد الحرام؛ لأن ذلك كان قبل فتح مكة، وقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . بعد فتح مكة، فيكون النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخاً بهذه الآيات؛ لتأخرها عن ذلك. كما يكون منسوخاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث دخل مكة عام الفتح بغير إحرام، وأمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة، وذلك بحمل قوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} على منع القتل والقتال في الحرم، فهو خاص، وحمل قوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وغيرها من الآيات على العموم غير الحرم، ولا تعارض بين العام والخاص، بل الخاص يقضي على العام. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى نسخ بعضها
(2)
.
أما دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام وأمره بقتل بعض المشركين،
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في كتاب الله لقتادة ص 33؛ جامع البيان 2/ 973 - 974؛ الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي ص 157؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 29 - 30؛ نواسخ القرآن 1/ 251 - 253.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 49؛ نواسخ القرآن 1/ 254؛ المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي ص 19.
فهو من خصوصياته؛ حيث أحل له ذلك ساعة من نهار، ثم أعيد حرمتها إلى يوم القيامة
(1)
.
ب- إن النبي صلى الله عليه وسلم بين حرمة الحرم وأنه لا يجوز القتال فيه، وذكر أن حرمته إلى يوم القيامة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه:(فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة). وما كان هكذا فلا يمكن نسخه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن حرمته مؤبد إلى يوم القيامة.
هذا كان قول من قال بالنسخ، وأدلتهم.
وقد اختلف أهل العلم في جواز بدء القتال المباح في الحرم على قولين:
القول الأول: لا يجوز استحلال الحرم بقتال من يباح قتاله إلا أن يقاتلوا فيُقاتلون.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وقول ابن عباس رضي الله عنه، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وابن حزم
(4)
.
القول الثاني: يجوز بدء قتال من يباح قتاله في الحرم.
(1)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 254؛ المصفى بأكف أهل الرسوخ ص 19.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 315؛ المبسوط 10/ 40؛ بدائع الصنائع 6/ 85.
(3)
انظر: المغني 12/ 409 - 413؛ الشرح الكبير 26/ 222 - 225؛ زاد المعاد 3/ 442 - 446؛ الفروع 10/ 44 - 46؛ الإنصاف 26/ 229.
(4)
انظر: المحلى 5/ 300؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 29؛ المغني 12/ 409؛ نواسخ القرآن 1/ 252؛ زاد المعاد 3/ 444.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، وقول بعض أهل العلم
(3)
.
…
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن من بداخل الحرم لا يُقاتَلون إلا أن يقاتِلوا- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}
(4)
.
ثانياً: قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
(5)
.
ثالثاً: حديث ابن عباس، وأبي شريح، وأبي هريرة-رضي الله عنهم، وقد مرّ ذكرها في دليل القول بنسخ استحلال الحرم بالقتال.
ووجه الاستدلال منها: أن الآية الأولى نص في عدم جواز قتال من لم
(1)
انظر: إكمال المعلم لعياض 4/ 477؛ عارضة الأحوذي لابن العربي 4/ 24؛، الجامع لأحكام القرآن 2/ 349.
(2)
انظر: الأم 4/ 314؛ الأحكام السلطانية للماوردي ص 210؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 252؛ المجموع 7/ 11.
(3)
انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 157؛ الأحكام السلطانية ص 210؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 349؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 252.
(4)
سورة البقرة، الآية (191).
(5)
سورة آل عمران، الآية (97).
يقاتل في الحرم. والآية الثانية تدل على أن من دخل الحرم فهو آمن، لذلك فلا يقاتل ما لم يقاتل. أما الأحاديث فهي ظاهرة في عدم جواز القتال وسفك الدم في الحرم، وأنه لا يجوز ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز بدء قتال من يباح قتاله في الحرم- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
(3)
.
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:«اقتلوه»
(4)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 314 - 315؛ المحلى 5/ 300؛ المغني 12/ 411؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 49؛ نواسخ القرآن 1/ 253، 254؛ زاد المعاد 3/ 443 - 447.
(2)
سورة التوبة، الآية (5).
(3)
سورة التوبة، الآية (36).
(4)
سبق تخريجه في ص 1039.
ووجه الاستدلال منها: أن هذه الآيات عامة يشمل جواز قتال من يباح قتاله سواء كان ذلك في الحرم أو غيره، وحديث أنس رضي الله عنه في قتل ابن خطل يدل كذلك على جواز قتال مباح الدم في الحرم
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الآيات عامة، وأدلة القول السابق أدلة خاصة، ولا تعارض بين العام والخاص، وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. أما حديث أنس رضي الله عنه في قتل ابن خطل فهو كان في الساعة التي رخص الله فيها سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال، لذلك لا يصح الاستدلال منه على العموم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه:«إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»
(2)
. لذلك لا يصح معارضة الأدلة الخاصة بهذه الأدلة
(3)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وأدلتهم، يظهر لي- والله أعلم
(1)
انظر: جامع البيان للطبري 2/ 974؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 30؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 349.
(2)
سبق تخريجه في ص 1035.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 315؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي 1/ 49؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 350؛ زاد المعاد 3/ 445 - 447؛ فتح القدير للشوكاني 1/ 242.
بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو عدم استحلال الحرم بقتال من يباح قتاله إلا إذا
قاتل، وذلك لأن أدلة هذا القول مع كونها صحيحة وصريحة، أدلة خاصة، وأدلة القول المخالف له أدلة عامة، والخاص يقدم على العام ويقضي عليه كما سبق ذكره.
ثانياً: إن استحلال حرم مكة بالقتال عند فتحها كان رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ثم عاد حرمتها بعد ذلك إلى يوم القيامة. وقد عبر عنه بعض أهل العلم بالنسخ، والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة وصريحة، وقد سبق ذكر بعضها ووجه الاستدلال منها.
ثالثاً: إن القول بنسخ النهي عن القتال عند المسجد الحرام غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ- لأن أدلة النهي عن القتال عند المسجد الحرام أدلة خاصة، والأدلة التي تدل على قتال المشركين كافة أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. ولا يصح النسخ بين العام والخاص، بل الخاص يقضي على العام
(1)
.
ب-ولأن الأدلة التي تدل على عدم جواز القتال عند المسجد الحرام صريحة في تأبيد هذا الحكم إلى يوم القيامة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه:(فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة). وما كان هكذا فلا يمكن نسخه؛ لأنه
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 49.
-صلى الله عليه وسلم أخبر أن حرمته مؤبد إلى يوم القيامة، وأخباره صلى الله عليه وسلم صادقة لا خلف لها؛ لذلك يكون القول بالنسخ غير صحيح.
والله أعلم.
المطلب السادس عشر أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع شجرها
ذهب بعض أهل العلم إلى أن أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، قد نسخ، لذلك فلا يؤخذ سلب من فعل شيئا من ذلك، وممن صرح به الطحاوي
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عامر بن سعد
(3)
، أن سعداً رضي الله عنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه
(4)
، فسلبه
(5)
. فلمّا رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال:
(1)
ونحوه قول العيني الحنفي، وأبي الطيب الطبري الشافعي. انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 429؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ المجموع 7/ 290؛ عمدة القاري 7/ 570.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة، وانظر: التمهيد 14/ 304؛ فتح الباري 4/ 100.
(3)
هو: عامر بن سعد بن أبي وقاص، الزهري المدني. ثقة. روى عن أبيه، وعن عثمان، وغيرهما، وروى عنه الزهري، ومجاهد، وغيرهما، وتوفي سنة أربع ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 59؛ التقريب 1/ 460.
(4)
الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها. النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 469.
(5)
السلب هو: ما يأخذ أحد القرنين في الحرب من قرنه مما يكون عليه ومعه من سلاح وثياب ودابة وغيرها. النهاية في غريب الحديث 1/ 793.
(معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى أن يرد عليهم
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدّ حدود الحرم، حرم المدينة فقال:«من وجدتموه يصيد في شيء من هذه الحدود، فمن وجده فله سلبه» فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم غرمت لكم ثمن سلبه، فعلت
(2)
.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير
(3)
، قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال:«يا أبا عمير ما فعل النغير؟» نغر
(4)
كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 263، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، ح (1364)(461).
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 191، وفي شرح مشكل الآثار 3/ 427. وأخرج نحوه أبو داود في سننه ص 310، كتاب المناسك، باب في تحريم المدينة، ح (2037)، وأحمد في المسند 3/ 64،
والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 327. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 310.
(3)
هو: أبو عمير بن أبي طلحة زيد ين سهل، الأنصاري. قيل: اسمه حفص. وتوفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 190؛ الإصابة 4/ 2314.
(4)
النغر: طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار، ويجمع على نغران، ونغير تصغير نغر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 768.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1314، كتاب الأدب، باب الكنية للصبي، ح (6203)، ومسلم في صحيحه 7/ 251، كتاب الآداب، باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير، ح (2150)(30).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كان لأبي طلحة ابن من أم سليم، يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه إذا دخل، وكان له نغير، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبا عمير حزيناً فقال:«ما شأن أبي عمير؟» فقيل: يا رسول الله مات نغيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبا عمير ما فعل النغير؟»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش
(2)
، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، ربض
(3)
فلم يترمرم
(4)
ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، كراهية أن يؤذيه)
(5)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 194.
(2)
الوحش: مالا يستأنس من دواب البر، وجمعه وحوش، وكل شيء يستوحش عن الناس فهو وحش ووحشي. المصباح المنير ص 534.
(3)
ربض أي لصق، يقال: ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وأقام ملازماً له. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 625؛ المصباح المنير ص 180.
(4)
الترمرم: هو أن يحرك الرجل شفتيه بالكلام، وما ترمرم فلان بحرف أي ما نطق. انظر: لسان العرب 5/ 325.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 41/ 320، وإسحاق بن راهوية في مسنده 3/ 617، والطحاوي في شرح معاني
الآثار 4/ 195. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 7: (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، و رجال أحمد رجال الصحيح). وقال العيني في عمدة القاري 7/ 570: (إسناده صحيح). وهو من رواية مجاهد عن عائشة وفي سماعه منها خلاف. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 38 - 39.
رابعاً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يصيد ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم من صيده، فأبطأ عليه، ثم جاءه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما الذي حبسك؟» فقال: يا رسول الله انتفى عنا الصيد، فصرنا نصيد ما بين تيت
(1)
إلى قناة
(2)
. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سعد رضي الله عنه يدل على أخذ سلب من صاد في حرم المدينة، أو قطع من شجرها، ويدل روايته الثانية أن هذا الحكم ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حد حدود حرم المدينة. ثم الأحاديث المذكورة بعد حديث سعد رضي الله عنه يدل على جواز صيد المدينة. وقد أجمع أهل العلم بعد الصحابة-رضي الله عنهم على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، فدل إجماعهم ذلك على نسخه
(4)
.
كما يحتمل أن ذلك كان في وقت جواز العقوبات المالية، ثم نسخ
(1)
تيت: هو اسم جبل على بريد من المدينة أو نحوه، على سمت الشام. انظر: معجم البلدان 1/ 470.
(2)
قناة: واد بالمدينة، وهي أحد أوديتها الثلاثة، وقد يقال لها وادي قناة. انظر: معجم البلدان 4/ 92.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير 7/ 6، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 4/ 195. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 14:(إسناده حسن).
(4)
انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 429؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191.
ذلك بنسخ الربا، فرد الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال، وإلى قيمتها إن كان لا مثل لها، وجعلت العقوبات في انتهاك الحرم في الأبدان لا في الأموال
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا إجماع في المسألة، فقد قال بأخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها جماعة من الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال به الإمام الشافعي في قول، وقال معه وبعده جماعة من أهل العلم. فكيف يكون منسوخاً ويعمل به أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ولا يوجد لهم مخالف في عصرهم؟
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها على قولين:
القول الأول: لا يؤخذ سلبه.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والقول الجديد للإمام
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ شرح مشكل الآثار-تحفة- 3/ 429؛ عمدة القاري 7/ 570.
(2)
انظر: التمهيد 14/ 306؛ المحلى 5/ 302؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ فتح الباري 4/ 100.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ عمدة القاري 7/ 569.
(4)
انظر: التمهيد 14/ 304؛ الاستذكار 7/ 237؛ إكمال المعلم لقاضي عياض 4/ 484.
الشافعي
(1)
، والمذهب عند الحنابلة
(2)
، وقول أكثر أهل العلم بعد الصحابة-رضي الله عنهم ونقل بعضهم اتفاق الفقهاء عليه
(3)
.
القول الثاني: يؤخذ سلبه.
وهو القول القديم للإمام الشافعي اختاره بعض الشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد
(5)
.
وبه قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وروي نحوه عن عمر، وابن عمر-رضي الله عنهما، وهو كذلك قول ابن حزم
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أنه لا يؤخذ سلبه- بما يلي:
أولاً: لأن أخذ سلبه كان حين كانت العقوبات بالأموال، فنسخ بنسخ العقوبات بالأموال
(7)
.
(1)
انظر: العزيز 3/ 522؛ المجموع 7/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264.
(2)
انظر: المغني 5/ 191؛ الشرح الكبير 9/ 65؛ الإنصاف 9/ 65.
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ التمهيد 14/ 304؛ إكمال المعلم 4/ 484.
(4)
انظر: العزيز 3/ 522؛ المجموع 7/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ فتح الباري 4/ 100.
(5)
انظر: المغني 5/ 191؛ الشرح الكبير 9/ 65؛ الإنصاف 9/ 66.
(6)
انظر: التمهيد 14/ 306؛ المحلى 5/ 302؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ فتح الباري 4/ 100.
(7)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ شرح مشكل الآثار 3/ 429؛ المجموع 7/ 290.
ثانياً: الإجماع؛ حيث أجمع الفقهاء على عدم أخذ سلب من فعل ذلك
(1)
.
وقد سبق ما يرد به على هذه الأدلة.
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يؤخذ سلبه- بما يلي:
أولاً: حديث سعد رضي الله عنه، وقد مرّ ذكره في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: عن عمر رضي الله عنه أنه قال لغلام قدامة بن مظعون
(2)
: (أنت على هؤلاء الحطابين، فمن وجدته احتطب من بين لابتي
(3)
المدينة فلك فأسه وحبله). قال: وثوباه؟ قال عمر: (لا. ذلك كثير)
(4)
.
ثالثاً: عن رجل من أهل المدينة قال: (كان سعد وابن عمر إذا وجدا
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 429؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ التمهيد 14/ 304.
(2)
هو: قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهب، القرشي الجمحي، أبو عمرو، كان أحد السابقين الأولين، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، واستعمله عمر رضي الله عنه على البحرين. وتوفي في خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 13؛ الإصابة 3/ 1609.
(3)
اللابة: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها لابات. النهاية في غريب الحديث 2/ 617.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 262، من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق عن عمر، وعبد الكريم ضعيف كما في التقريب 1/ 612. وأخرج نحوه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 328، من طريق أخرى. وضعف ابن عبد البر في التمهيد 14/ 304، إسناد ما روي عن عمر رضي الله عنه.
أحداً يقطع من الحمى شيئاً سلباه فأسه وحبله)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها
(2)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني-وهو جواز أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، وذلك لما يلي:
أ- لصحة الحديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بعض الصحابة-رضي الله عنهم-على وفقه بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ب- ولعدم وجود ما يدفعه أو يعارضه
(4)
.
ثانياً: إن القول بنسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ- لأن سعد رضي الله عنه راوي الحديث عمل به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه أحد، فلو كان ما رواه منسوخاً لما عمل به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأُنكر
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 263. وراويه مجهول.
(2)
انظر: المغني 5/ 192؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264.
(4)
راجع المصدر في الحاشية السابقة.
عليه لو كان عند أحد من الصحابة علم بنسخه.
ب- إن الإجماع الذي استُدل به على نسخ هذا الحديث غير صحيح؛ حيث عمل بهذا الحديث بعض الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال به جماعة من أهل العلم بعدهم، كما سبق ذكره، فكيف يكون ذلك إجماعاً.
والله أعلم.
المطلب السابع عشر: الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها
ذهب الطحاوي إلى جواز الصيد في حرم المدينة، وقطع شجرها، وأن تحريم صيدها والقطع من شجرها قد نسخ
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الأحاديث الواردة في المسألة سبب آخر لاختلافهم فيها
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاها
(3)
أو يقتل صيدها»
(4)
.
ثانياً: عن عامر بن سعد، أن سعداً رضي الله عنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه، فسلبه. فلمّا رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال: (معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى أن يرد عليهم
(5)
.
(1)
ونحوه قول العيني. انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 3/ 429؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ عمدة القاري 7/ 570.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: التمهيد 14/ 304؛ فتح الباري 4/ 100.
(3)
العضاه: شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 221؛ المصباح المنير ص 339.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 262، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، ح (1363)(459).
(5)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدّ حدود الحرم، حرم المدينة فقال:«من وجدتموه يصيد في شيء من هذه الحدود، فمن وجده فله سلبه» فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم غرمت لكم ثمن سلبه، فعلت
(1)
.
ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال:«يا أبا عمير ما فعل النغير؟» نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كان لأبي طلحة ابن من أم سليم، يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه إذا دخل، وكان له نغير، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبا عمير حزيناً فقال:«ما شأن أبي عمير؟» فقيل: يا رسول الله مات نغيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبا عمير ما فعل النغير؟»
(3)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، ربض فلم يترمرم ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت،
(1)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(2)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(3)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
كراهية أن يؤذيه)
(1)
.
خامساً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يصيد ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم من صيده، فأبطأ عليه، ثم جاءه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما الذي حبسك؟» فقال: يا رسول الله انتفى عنا الصيد، فصرنا نصيد ما بين تيت إلى قناة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سعد رضي الله عنه الأول يدل على تحريم الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها، وحديثه الثاني يدل على أخذ سلب من صاد في حرم المدينة، أو قطع من شجرها، ويدل روايته الثالثة على أن هذا الحكم ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حد حدود حرم المدينة. ثم الأحاديث المذكورة بعد حديث سعد رضي الله عنه يدل على جواز صيد المدينة. وقد أجمع أهل العلم بعد الصحابة-رضي الله عنهم على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، فدل إجماعهم ذلك على نسخ تحريم صيدها والقطع من شجرها
(3)
.
كما يحتمل أن ذلك التحريم كان في وقت جواز العقوبات بالأموال، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا، فرد الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال، وإلى
(1)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(2)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(3)
انظر: شرح مشكل الآثار 3/ 429؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191.
قيمتها إن كان لا مثل لها، وجعلت العقوبات في انتهاك الحرم في الأبدان لا في الأموال، فيكون في نسخ أخذ السلب دليلاً على نسخ تحريم صيدها والقطع من شجرها
(1)
.
واعترض عليه: بأن دعوى الإجماع مردودة كما مرّ ذكره في المسألة السابقة، فبطل التعلق به
(2)
.
وكيف يقال بأن أخذ السلب نسخ بنسخ العقوبات بالأموال ويعمل به جماعة من الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد لهم مخالف في عصرهم؟. وكيف يكون تحريم صيدها والقطع من شجرها منسوخاً ويعمل به جمع منهم، ويثبتون تحريم صيدها والقطع من شجرها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في تحريم الصيد في حرم الدينة والقطع من شجرها على قولين:
القول الأول: يجوز الصيد في حرم المدينة والقطع من شجرها، ولا يحرم.
وهو مذهب الحنفية
(4)
. وقول سفيان الثوري، وابن المبارك
(5)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 196؛ شرح مشكل الآثار-تحفة- 3/ 429؛ عمدة القاري 7/ 570.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 100.
(3)
انظر: التمهيد 14/ 306؛ المحلى 5/ 302؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ فتح الباري 4/ 100.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 194، 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ عمدة القاري 7/ 569.
(5)
انظر: عمدة القاري 7/ 569.
القول الثاني: يحرم الصيد في حرم المدينة، وقطع شجرها.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
. وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به
جمهور أهل العلم
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو جواز الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها- بما يلي:
أولاً: حديث أنس رضي الله عنه أن أخوه كان له نغير يلعب به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«يا أبا عمير ما فعل النغير؟» الحديث
(5)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، ربض فلم يترمرم ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت،
(1)
انظر: التمهيد 14/ 306؛ الاستذكار 7/ 237؛ إكمال المعلم 4/ 485؛ القوانين الفقهية ص 107.
(2)
انظر: العزيز 3/ 521؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ المجموع 7/ 290؛ فتح الباري 4/ 100.
(3)
انظر: المغني 5/ 190؛ الشرح الكبير 9/ 62؛ الإنصاف 9/ 61؛ منتهى الإرادات 1/ 197.
(4)
انظر: الاستذكار 7/ 237، 238؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 264؛ فتح الباري 4/ 100.
(5)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
كراهية أن يؤذيه)
(1)
.
ثالثاً: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن هذه الأحاديث تدل على جواز الصيد بالمدينة، وإلا لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخ أنس حبس النغير ولا اللعب به، ولا حبس الوحش لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلق الأبواب دونها. ولما رغب لسلمة رضي الله عنه بالصيد بالعقيق. فثبت أن صيد المدينة والقطع من شجرها ليس محرماً، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم المدينة بقاء زينتها ليستطيبوها ويألفوها. لا أن صيدها والقطع من شجرها محرم كحرمة صيد مكة وقطع شجرها
(3)
.
واعترض عليه: بأن الحديث المروي عن سلمة رضي الله عنه ضعيف لا تقوم به الحجة
(4)
.
أما حديث أنس وعائشة-رضي الله عنهما فيقال عنهما بأن كل منهما يحتمل:
(1)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(2)
سبق تخريجه في المطلب السابق.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 194 - 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 191؛ عمدة القاري 7/ 569.
(4)
لأن في سنده من هو منكر الحديث كما سبق ذكره في تخريجه.
أ- بأن يكون من صيد الحل، ولم يصد في حرم المدينة، وحكم ما صيد خارج حرم
المدينة ثم أدخل إليها مختلف عما أصيد داخل حرم المدينة
(1)
.
ب-بأنه كان قبل تحريم المدينة وقبل تحريم صيدها والقطع من شجرها
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو تحريم صيد المدينة والقطع من شجرها- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاها أو يقتل صيدها»
(3)
.
ثانياً: عن عامر بن سعد، أن سعداً رضي الله عنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه، فسلبه. فلمّا رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال: (معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى أن يرد عليهم
(4)
.
ثالثاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها»
(5)
.
(1)
انظر: التمهيد 14/ 308، 309؛ المغني 5/ 193؛ فتح الباري 4/ 100.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 100.
(3)
سبق تخريجه في ص 1100.
(4)
سبق تخريجه في ص 1094.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 840، كتاب المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه، ح (4084)، ومسلم في صحيحه 5/ 264، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها، ح (1465)(462).
رابعاً: عن عاصم الأحول قال: قلت لأنس: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: (نعم. ما بين كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها. من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
(1)
.
خامساً: عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف
(2)
ولا عدل
(3)
الحديث
(4)
.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين لابتيها حرام»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1532، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثاً، ح (7306)، ومسلم في صحيحه 5/ 265، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها، ح (1366)(463).
(2)
صرف، الصرف: الفريضة، وقيل: التوبة، وقيل: النافلة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 25؛ فتح الباري 4/ 102.
(3)
عدل. العدل: الفدية، وقيل الفريضة، وقيل: النافلة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 25؛ فتح الباري 4/ 102.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 370، كتاب فضل المدينة، باب حرم المدينة، ح (1870)، ومسلم في صحيحه 5/ 267، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها، ح (1370)(467).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 370، كتاب فضل المدينة، باب لابتي المدينة، ح (1873)، ومسلم في صحيحه 5/ 270، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها، ح (1372)(471).
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم المدينة، وتحريم صيدها والقطع من شجرها، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا هذا المعنى من هذه الأحاديث
(1)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو تحريم صيد المدينة والقطع من شجرها، وذلك لما
يلي:
أ- لكثرة أدلة هذا القول، مع صحتها وقوتها، بخلاف أدلة القول الأول.
ب-إن أدلة هذا القول صريحة في المراد بها، وهو تحريم المدينة وتحريم صيدها وشجرها، وقد فهم أصحاب رسول الله منها هذا المعنى، فهي لا تحتمل غير هذا المعنى. بخلاف أدلة القول الأول.
ج- ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين هذه الأحاديث وأدلة القول الأول، وذلك بحمل هذه الأحاديث على تحريم الصيد داخل حرم المدينة، وقطع شجرها. وحمل أدلة القول الأول على ما إذا صاد خارج الحرم ثم أدخله إلى الحرم، فيكون الأول محرماً دون الثاني، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة كان القول به متعيناً؛ جمعاً بين أدلة الشريعة ونفي التضاد منها.
(1)
انظر: التمهيد 14/ 302 - 307؛ المغني 5/ 190 - 192؛ المجموع 7/ 289 - 290.
ثانياً: إن القول بأن أحاديث تحريم الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها قد نسخ، غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ-لأن القول بنسخ تحريم صيد المدينة وقطع شجرها بناها قائلوها على نسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، وقد سبق إبطال هذا الزعم، فيكون ما بُني عليه كذلك باطلاً.
ب- ولأن الصحابة-رضي الله عنهم-عملوا على وفق هذه الأحاديث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يرون تحريم صيد المدينة وقطع شجرها، وقد سلب بعضهم من وجده يصيد فيها أو يقطع من شجرها. ولم يوجد في عصرهم من أنكر عليهم شيء من ذلك، فلو كان هناك نسخ لكان أول من علمه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولما عملوا به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ج- ولأن الجمع بين أدلة القولين ممكن كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى القول بنسخ بعضها، كما مرّ ذكره غير مرة.
والله أعلم.
الباب الثالث الأضاحي، والأيمان، والعقيقة، والصيد والذبائح، والهجرة والجهاد والسير
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الأضاحي والأيمان والعقيقة والصيد والذبائح.
الفصل الثاني: الهجرة والجهاد والسير.
الفصل الأول
الأضاحي، والأيمان، والعقيقة، والصيد، والذبائح
.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأضاحي، والأيمان، والعقيقة.
المبحث الثاني: الصيد والذبائح.
المبحث الأول الأضاحي، والأيمان، والعقيقة
.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال.
المطلب الثاني: الحلف بغير الله.
المطلب الثالث: حكم العقيقة.
المطلب الرابع: تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة.
المطلب الأول: ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي
(1)
فوق ثلاث ليال قد نسخ، لذلك يجوز ادخارها، والأكل منها بعد ثلاث
(2)
.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
(7)
، وبريدة الأسلمي رضي الله عنه
(8)
.
وبه قال: ابن شاهين
(9)
، والحازمي
(10)
، والرازي
(11)
،
(1)
الأضاحي جمع أضحية، وهي: اسم لما يذبح أيام النحر بنية القربة إلى الله تعالى. انظر: التعريفات للجرجاني ص 29، التعريفات الفقهية ص 30.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 292؛ المغني 13/ 381؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 55.
(3)
انظر: الموطأ لمحمد ص 215؛ شرح معاني الآثار 4/ 187، 189؛ بدائع الصنائع 4/ 224؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 9/ 517؛ عمدة القاري 14/ 568 - 573؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 9/ 397.
(4)
انظر: التمهيد 10/ 291، 292؛ الاستذكار 4/ 233؛ المنتقى للباجي 4/ 265؛ جامع الأمهات ص 230.
(5)
انظر: الاعتبار ص 387؛ العزيز 12/ 111؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 54، 55؛ المجموع 8/ 241؛ فتح الباري 10/ 34؛ مغني المحتاج 6/ 167.
(6)
انظر: المغني 13/ 381؛ الشرح الكبير 9/ 428؛ الإنصاف 9/ 426.
(7)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 47.
(8)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 47.
(9)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 525.
(10)
انظر: الاعتبار ص 384، 385.
(11)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 66.
وأبو إسحاق الجعبري
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، و نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً»
(3)
.
ثانياً: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. ثم قال بعد: «كلوا وتزودوا وادخروا»
(4)
.
ثالثاً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء» فلمّا كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: «كلوا وأطعموا وادخروا، فإن
(1)
انظر: رسوخ الأحبار ص 389.
(2)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى.
(3)
سبق تخريجه في ص 97.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 57، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1970)(26).
ذلك العام كان بالناس جَهْد فأردت أن تعينوا فيها»
(1)
.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث» فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالاً وحشماً
(2)
وخدماً. فقال: «كلوا وأطعموا واحبسوا أو ادخروا»
(3)
.
خامساً: عن عائشة-رضي الله عنها-تقول: دفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي» فلمّا كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون
(4)
منها الودك
(5)
. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: «إنما
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1202، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها، ح (5569)، ومسلم في صحيحه 7/ 58، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1974)(34).
(2)
حشم الرجل: خدمه ومن يغضب له. انظر: مختار الصحاح ص 121؛ المصباح المنير ص 121.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 58، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1973)(33).
(4)
يجملون أي يذيبون، يقال: جملت الشحم إذا أذبته واستخرجت دهنه. النهاية في غريب الحديث 1/ 291.
(5)
الودك دسم اللحم والشحم. انظر: مختار الصحاح ص 630؛ المصباح المنير ص 536.
نهيتكم من أجل الدافة
(1)
التي دفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا»
(2)
.
فهذه الأدلة صريحة في أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال كان أولاً، ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في ادخارها إلى ما شاءوا، فنسخ به النهي السابق، وأبيح ادخارها فوق ثلاث
(3)
.
هذا كان القول بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز ذلك، وأن النهي عنه قد نسخ.
وقد سبق أنه قول جمهور أهل العلم، وسبق أدلته كذلك.
القول الثاني: لا يجوز ادخار لحوم الأضاحي والأكل منها فوق ثلاث ليال.
وهو قول علي، وابن عمر-رضي الله عنهما
(4)
.
(1)
الدافة: القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 575؛ المصباح المنير ص 165.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 56، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1971)(28).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 185 - 189؛ التمهيد 10/ 291، 292؛: الاعتبار ص 384، 385؛ المغني 13/ 381؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 54، 55؛ المجموع 8/ 241.
(4)
انظر: المغني 13/ 381؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 55.
القول الثالث: إن النهي عن الادخار كان لحاجة، فلما زالت زال النهي، فلو حصل حاجة فيحرم وإلا فلا.
وهو قول بعض أهل العلم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الثاني بما يلي:
أولاً: عن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث)
(2)
.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام»
(3)
.
ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم النسك
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 55؛ فتح الباري 10/ 33، 34؛ عمدة القاري 14/ 568؛ الإنصاف 9/ 426.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1202، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها، ح (5573)، ومسلم في صحيحه 7/ 54، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1969)(24).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1203، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها، ح (5574)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 7/ 55، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، ح (1970)(26).
فوق ثلاث، فدل ذلك على عدم جواز ادخارها والأكل منها فوق ثلاث ليال
(1)
.
واعترض عليه: بأن الإذن في ادخار لحوم الأضاحي والأكل منها فوق ثلاث ليال كان بعد هذا النهي، كما سبق بيانه في دليل القول بالنسخ؛ لذلك لا يكون الادخار فوق ثلاث ليال منهياً عنه بعد ذلك الإذن، بل يكون النهي منسوخاً به
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو تحريم الادخار عند الحاجة وعدمه عند عدمها- بما يلي:
أولاً: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جَهْد فأردت أن تعينوا فيها»
(3)
.
ثانياً: حديث عائشة-رضي الله عنها وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا»
(4)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 184، 185؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 55.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 357؛ شرح معاني الآثار 4/ 185 - 189؛ التمهيد 10/ 291، 292؛ الاعتبار ص 384، 385؛ المغني 13/ 381؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 54، 55.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
ففي هذين الحديثين دلالة على أن النهي إنما كان من أجل الحاجة، فلما زالت زال النهي. فلو حصل حاجة فيحرم ادخارها فوق ثلاث ليال؛ لأجل الحاجة
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذين الحديثين وإن كانا يدلان على أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال كان للحاجة إلا أن حديث بريدة، وجابر، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم صريح في نسخ ذلك النهي، ثم هي أحاديث مطلقة، فيكون فيها دلالة على النسخ مطلقاً، سواء كان هناك حاجة أم لا
(2)
.
الراجح
بعد عرض ما قيل في المسألة من الأقوال وأدلتها يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو جواز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، وأن النهي عنه قد نسخ؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول فيها تصريح بأن الإذن في ادخارها فوق ثلاث ليال كان بعد النهي عنه، وهو صريح في جواز ادخارها، ونسخ النهي السابق.
ثانياً: ولأن القول الثالث وإن كان له وجه واحتمال، إلا أن أكثر
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 55؛ فتح الباري 10/ 33، 34؛ عمدة القاري 14/ 568؛ الإنصاف 9/ 426.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 57؛ الجامع لأحكام القرآن 12/ 48؛ فتح الباري 10/ 34.
الأدلة التي تدل على جواز الادخار مطلقة، فيكون فيها دلالة على النسخ مطلقاً، كما سبق بيانه.
والله أعلم.
المطلب الثاني: الحلف بغير الله
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأحاديث التي جاء فيها ما يدل على جواز الحلف بغير الله قد نسخت؛ لذلك لا يجوز الحلف بغير الله.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(1)
، و ابن عبد البر
(2)
، والماوردي
(3)
، والحازمي
(4)
، وأبو حامد الرازي
(5)
، وأبو إسحاق الجعبري
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(7)
.
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 6/ 53.
(2)
فإنه قال: إن صح حديث: (أفلح وأبيه إن صدق) فأحاديث النهي عن الحلف بغير الله ناسخ له. انظر: الاستذكار 4/ 204؛ مواهب الجليل 4/ 405.
(3)
نسب القول إليه بالنسخ ابن حجر في فتح الباري 11/ 593.
(4)
ذكر الحازمي حديثاً يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف زمناً فيقول: (لا وأبيك) ثم جاء النهي عنه. وتكلم عليه من حيث الصحة، وذكر له شواهد، ثم قال:(فإن صح الحديث فهو ظاهر في النسخ). انظر: الاعتبار ص 516.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 95.
(6)
انظر: رسوخ الأحبار ص 516.
(7)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة السابقة. وانظر: بداية المجتهد 2/ 789؛ المغني 13/ 438؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 2/ 24؛ فتح الباري 1/ 136، 11/ 590 - 595؛ عمدة القاري 1/ 396.
ويستدل للقول بالنسخ ما يلي:
أولاً: عن يزيد بن سنان
(1)
رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف زمناً فيقول: لا وأبيك حتى نهي عن ذلك. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحلف أحدكم بالكعبة فإن ذلك إشراك، وليقل ورب الكعبة»
(2)
.
ثانياً: عن قُتَيلة
(3)
رضي الله عنها امرأة من جهينة-أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تُندِّدون، وإنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة!. (فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت)
(4)
.
(1)
هو: يزيد بن سنان، مختلف في صحبته، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: يحيى بن جابر، وابن عائذ. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 137؛ الإصابة 3/ 2110.
(2)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 516. وقال: (هذا حديث غريب من حديث الشاميين، وإسناده ليس بذاك القائم، غير أن له شواهد في الحديث تدل على أن الحديث له أصل). وقال ابن حجر في الإصابة 3/ 2110: (وأخرج البغوي من طريق عبد الرحمن بن يحيى بن جابر عن أبيه: سمعت يزيد بن سنان يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا وأبيك» حتى نهي عن ذلك وقال: «لا تحلفوا بالكعبة» . ثم قال: (وروى أوله ابن منده، من طريق محفوظ بن علقمة عن أبيه عن ابن عائذ، قال: قال يزيد بن سنان
…
فذكره) ثم قال: (قال ابن منده: في إسناد حديثه نظر).
(3)
هي: قتيلة بنت صيفي، الجهنية، كانت من المهاجرات الأول، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عبد الله بن يسار. انظر: الإصابة 4/ 2611؛ تهذيب التهذيب 12/ 395.
(4)
أخرجه النسائي في سننه ص 583، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة، ح (3773)، والحاكم في المستدرك 4/ 331. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وصححه كذلك ابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: الإصابة 4/ 2612؛ صحيح سنن النسائي ص 583.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: أتى حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون. قال:«سبحان الله، وما ذاك؟» قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة. قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال:«إنه قد قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة» . ثم قال: يا محمد، نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال:«سبحان الله، وما ذاك؟» قال: تقولون: ما شاء الله وشئت. قال: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال:«إنه قد قال، فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما: ثم شئت»
(1)
.
ثالثاً: حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، وفيه: (فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلح إن صدق»
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 45/ 43، والطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة-6/ 53.
(2)
سبق تخريجه في ص 420.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق» أو: «دخل الجنة وأبيه إن صدق»
(1)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: «نعم، وأبيك لتنبأن. أمك» الحديث
(2)
.
خامساً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»
(3)
.
سادساً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمت عمر يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»
(4)
.
سابعاً: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 24، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، ح (11)(9). وذكر ابن عبد البر في التمهيد 10/ 242، أن قوله:(وأبيه إن صدق) لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يحتج به. كما ذكر أنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح. لكن ابن حجر قال في فتح الباري 1/ 136 عن الحديث: (هو صحيح لا مرية فيه) وذكر في 11/ 593، بعض الروايات التي جاء فيها ذكر الحلف بغير الله، وأنها ثابتة، ثم ذكر الأجوبة عنها، وأحدها أن الحلف بغير الله كان جائزاً ثم نسخ.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 8/ 159، كتاب البر والصلة والأدب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، ح (2548)(3).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1398، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، ح (6646)، ومسلم في صحيحه 6/ 176، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، ح (1646)(3).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1398، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، ح (6647)، ومسلم في صحيحه 6/ 175، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، ح (1646)(1).
بالطواغي
(1)
، ولا بآبائكم»
(2)
.
ثامناً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه: واللات
(3)
والعزى
(4)
، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه:
(1)
الطواغي جمع طاغية، وهي: ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 114؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 178.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 178، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، ح (1648)(6).
(3)
اللات: قال ابن عباس رضي الله عنه: (كان اللات رجلا يلُتّ سويق الحاج). أخرج ذلك عنه البخاري في صحيحه ص 1042، كتاب التفسير، باب {أفرأيتم اللات والعزى} ح (4859). وذكر ابن حجر في الفتح 8/ 529، عن طريق ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال عن اللات: (كان يلت السويق على الحجر، فلا
يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه). وكان اللات بالطائف، وهدمها المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما
أسلمت ثقيف. انظر: فتح الباري 8/ 529.
وقال ابن كثير في تفسيره 4/ 255: (كانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار و سدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش).
(4)
العزى: كانت شجرة بوادي نخلة فوق ذات عرق، وهي بين مكة والطائف، عليها بناء وأستار وكان الذي اتخذها ظالم بن سعد، وكانت قريش يعظمونها، وكان سدنتها وحجبها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عام الفتح فهدمها. انظر: تفسير ابن كثير 4/ 255؛ فتح الباري 8/ 529؛ فتح القدير 5/ 134.
تعال أقامرك، فليتصدق»
(1)
.
ثامناً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»
(2)
.
تاسعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون»
(3)
.
ويستدل من هذه الأدلة على نسخ جواز الحلف بغير الله تعالى: بأن بعض هذه الأحاديث جاء فيها ما يدل على جواز الحلف بغير الله
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1042، كتاب التفسير، باب {أفرأيتم اللات والعزى} ، ح (4860)، و مسلم في صحيحه 6/ 177، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، ح (1647)(5).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 497، كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالآباء، ح (3251)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 363، كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، ح (1535)، وأحمد في المسند 8/ 503؛ وابن حبان في صحيحه ص 1182، والحاكم في المستدرك 1/ 118. قال الترمذي:(حديث حسن) وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين). وقال الذهبي في الكبائر ص 86: (إسناده على شرط مسلم). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 363: (صحيح).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 497، كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالآباء، ح (3248)، والنسائي في سننه ص 583، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالأمهات، ح (3769)، وابن حبان في صحيحه ص 1182، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 51. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 497:(صحيح).
تعالى، وفي بعضها ما يدل على المنع والنهي عنه، فيكون ما يدل على الجواز منسوخاً بما يدل على النهي؛ لأنها متأخرة عما يدل على الجواز، يؤكد ذلك حديث قتيلة-رضي الله عنها، وكذلك حديث يزيد بن سنان رضي الله عنه، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن غيره من الأحاديث يقوي معناه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم الحلف بغير الله تعالى- بعد اتفاقهم على حرمته لو أراد الحالف بحلفه تعظيم المحلوف به كتعظيم الله
(2)
، - على قولين:
القول الأول: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والحنابلة
(4)
. وقول عند المالكية، ورجحه
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة- 6/ 53؛ الاعتبار ص 516؛ المغني 13/ 438؛ رسوخ الأحبار ص 513 - 515؛ فتح الباري 1/ 136، 11/ 593؛ عمدة القاري 1/ 396؛ تحفة الأحوذي 5/ 121.
(2)
وهذا الفرق هو عند المالكية، والشافعية، أما الحنفية، والحنابلة فعندهم يحرم مطلقاً. انظر: مقدمات ابن رشد ص 217؛ التاج والإكليل 4/ 408؛ مواهب الجليل 4/ 408"؛ العزيز 12/ 235؛ روضة الطالبين ص 1868؛ المجموع 19/ 168؛ فتح الباري 11/ 591.
(3)
انظر: موطأ محمد ص 265؛ المبسوط 7/ 28، 8/ 148؛ بدائع الصنائع 3/ 17؛ المختار وشرحه الاختيار 4/ 50، 51؛ حاشية ابن عابدين 5/ 377.
(4)
انظر: المغني 13/ 436، 437؛ الشرح الكبير 27/ 462، 463؛ الفروع 10/ 437؛ الإنصاف 27/ 463.
بعضهم
(1)
، وذكر ابن عبد البر أنه أمر مجتمع عليه
(2)
.
القول الثاني: يكره الحلف بغير الله تعالى، ولا يحرم.
وهو المشهور عند المالكية
(3)
، والمذهب عند الشافعية
(4)
، ووجه عند الحنابلة
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو تحريم الحلف بغير الله تعالى- بأحاديث كثيرة منها: حديث عمر، وابن عمر، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي هريرة-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في أدلة القول بالنسخ. وهي ظاهرة في تحريم الحلف بغير الله تعالى؛
(1)
انظر: القوانين الفقهية ص 118؛ التاج والإكليل 4/ 398، 406؛ مواهب الجليل 4/ 404.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 241.
(3)
وقسم ابن رشد الحلف بغير الله إلى قسمين فجعل الحلف بما يعبد من دون الله حراماً، وجعل الحلف بما لا يعبد من دون الله مكروهة. انظر: المدونة 1/ 583؛ مقدمات ابن رشد ص 217؛ القوانين الفقهية ص 118؛ التاج والإكليل 4/ 406؛ مواهب الجليل 4/ 404.
(4)
انظر: العزيز 12/ 235؛ روضة الطالبين ص 1868؛ تكملة المجموع 19/ 167؛ فتح الباري 11/ 591.
(5)
انظر: المغني 13/ 436؛ الشرح الكبير 27/ 462؛ الفروع 10/ 437؛ الإنصاف 27/ 462.
لأن بعضها جاء فيه لفظ النهي، وبعضها جاء فيه لفظ (لا) الناهية، وبعضها جاء فيه إطلاق الكفر والشرك على الحلف بغير الله تعالى. وكل هذا يدل على التحريم، فيكون الحلف بغير الله تعالى حراماً غير جائز
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الحلف بغير الله مكروه إذا لم يعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله- بما يلي:
أولاً: حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«أفلح وأبيه إن صدق» أو: «دخل الجنة وأبيه إن صدق»
(2)
.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«نعم، وأبيك لتنبأن. أمك»
(3)
.
ثالثاً: حديثا عمر، وابنه عبد الله-رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهما:«إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»
(4)
.
رابعاً: حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم»
(5)
.
(1)
انظر: التمهيد 10/ 241؛ بدائع الصنائع 3/ 17؛ المغني 13/ 437، 438.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجهما في دليل القول بالنسخ.
(5)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
خامساً: حديث ابن عمر-رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»
(1)
.
سادساً: ما جاء في القرآن الكريم من الحلف بغير الله تعالى، كقوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
(2)
. وقوله تعالى: {وَالضُّحَى}
(3)
. وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}
(4)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أنه قد جاء في القرآن الكريم ما يدل على جواز الحلف بغير الله تعالى، وكذلك جاء في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك، كحديث طلحة بن عبيد الله، وأبي هريرة-رضي الله عنهما.
وجاء النهي عن الحلف بغير الله في أحاديث كثيرة، بعضها آكد من بعض، ومنها حديث عمر، وابن عمر، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي هريرة-رضي الله عنهم.
فيحمل ما يدل على تحريم الحلف بغير الله بما إذا اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله من التعظيم.
ويحمل ما سوى ذلك على الجواز مع الكراهة؛ جمعاً بين الأدلة
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
سورة الطارق، الآية (1).
(3)
سورة الضحى، الآية (1).
(4)
سورة التين، الآية (1).
(5)
انظر: مقدمات ابن رشد ص 217؛ المغني 13/ 436، 437؛ العزيز 12/ 235؛ مواهب الجليل 4/ 404، 408.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن ما ذكر في القرآن الكريم من الحلف بغير الله تعالى فيقال فيه:
أ-بأن ما ذكر في القرآن من الحلف بغير الله، فهو مما أقسم الله به، والله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه. لكن العباد لا يجوز لهم أن يحلفوا بغير الله سبحانه وتعالى
(1)
.
ب-بأن الأشياء الواردة في القرآن المقسوم بها، فيها إضماراً، تقديره: ورب السماء. ورب الليل. ورب التين. وهكذا
(2)
.
وإذا كان كذلك فلا يُستدل منها على جواز الحلف بغير الله تعالى.
ثانياً: إن الأحاديث الواردة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى لم تفرق بين حلف وحلف، بل فيها النهي عن الحلف بغير الله مطلقاً، وفي بعضها جعل الحلف بغير الله تعالى كفراً أو شركاً، وهو كذلك مطلق. فيكون في كل ذلك دلالة على تحريم الحلف بغير الله تعالى مطلقاً
(3)
.
ثالثاً: إن ما ورد في بعض الأحاديث من الحلف بغير الله تعالى، فهو يحتمل أموراً، من أقواها: أن ذلك كان قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى؛ لذلك لا يصح الاستدلال منها على جواز الحلف بغير الله تعالى
(4)
.
(1)
انظر: الاستذكار 4/ 202؛ المغني 13/ 438.
(2)
انظر: الاستذكار 4/ 202؛ بداية المجتهد 2/ 789؛ المغني 13/ 438.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 241.
(4)
انظر: الاستذكار 4/ 204؛ فتح الباري 1/ 136؛ عمدة القاري 1/ 396.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم الصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم جواز الحلف بغير الله تعالى مطلقاً؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لكثرة أدلة هذا القول مع أنها صريحة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى، بخلاف أدلة القول الثاني، فإنها تحتمل أكثر من احتمال.
ثانياً: ولأن الأحاديث التي ورد فيها النهي عن الحلف بغير الله تعالى معها ما يدل على تأخرها عن الأحاديث التي ورد فيها ذكر الحلف بغير الله تعالى، فتكون منسوخة بها، ومن ذلك:
أ-حديث يزيد بن سنان رضي الله عنه، وهو ظاهر في أن النهي عن الحلف بغير الله متأخر عما يدل على جواز الحلف بغير الله تعالى؛ حيث جاء فيه:(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف زمناً فيقول: لا وأبيك، حتى نهي عن ذلك)
(1)
.
ب-حديث قتيلة-رضي الله عنها فهو كذلك يدل على أن النهي عن الحلف بغير الله تعالى جاء بعد ما كان بعض المسلمين يحلفون بغير الله تعالى
(2)
.
ج- إن عمر رضي الله عنه حلف بأبيه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، فهو يدل
(1)
انظر: الاعتبار ص 516.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي 6/ 53.
على أن النهي عن الحلف بغير الله تعالى متأخر عما يدل على الجواز؛ إذ لو كان النهي مقدماً على الجواز لما حلف عمر رضي الله عنه بأبيه. ولم يرد بعد النهي إباحة
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 13/ 438.
المطلب الثالث: حكم العقيقة
المذهب عند الحنفية أن العقيقة
(1)
قد نسخت
(2)
، ثم اختلفوا:
فقال محمد بن الحسن: كانت العقيقة تطوعاً، وكان الناس يفعلونها في أول الإسلام، ثم نسخت بالأضحى، فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل
(3)
.
وقال الطحاوي: إنها كانت واجبة في أول الإسلام، ثم نسخ وجوبها إلى الاختيار، فمن أحب أن يفعلها فعلها، ومن شاء أن يتركها تركها
(4)
.
وروي القول بنسخ العقيقة عن محمد ابن الحنفية
(5)
، وأبي
(1)
العقيقة اسم من عقّ، وهو لغة: الشق والقطع. والعقيقة اصطلاحاً: الذبيحة التي تذبح عن المولود يومه السابع. ويقال للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 237، 238؛ المصباح المنير ص 344؛ التعريفات الفقهية ص 150.
(2)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 775، 776؛ بدائع الصنائع 4/ 204؛ أوجز المسالك إلى موطأ مالك لمحمد زكريا الكاندهلوي 10/ 169 - 171؛ إعلاء السنن 17/ 101 - 110.
(3)
انظر: الموطأ لمحمد بن الحسن ص 226؛ الاستذكار 4/ 316؛ بدائع الصنائع 4/ 203؛ فتح الباري 9/ 589؛ عمدة القاري 14/ 463.
(4)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار-6/ 437.
(5)
هو: محمد بن علي بن أبي طالب، أبو القاسم المدني، المشهور بابن الحنفية. ثقة. روى عن أبيه، وعن عثمان، و غيرهما، وروى عنه محمد بن علي بن الحسين، وعطاء، وغيرهما، وتوفي بعد الثمانين. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 306؛ التقريب 2/ 115؛ شذرات الذهب 1/ 88.
وانظر: قوله بما يدل على النسخ في الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 776. و في إسناده انقطاع.
جعفر الباقر
(1)
، وإبراهيم النخعي
(2)
.
وذهب ابن رشد
(3)
إلى أن العقيقة كانت واجبة في أول الإسلام، ثم نسخ وجوبها فصارت سنة
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في
(1)
هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة. روى عن أبيه، وجده الحسين، و غيرهما، وروى عنه: الزهري، وابن جريج، وغيرهما، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 303، 304؛ التقريب 2/ 114.
وانظر ما يدل على قوله بالنسخ في: أحكام القرآن للجصاص 3/ 325؛ المحلى 6/ 241. لكن في رواية الجصاص جابر الجعفي، وهو ضعيف. أما رواية ابن حزم فقال هو عنه: إنه واهية.
(2)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 775.
(3)
هو: محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد، الشهير بابن رشد الجد، الغرناطي القرطبي. قاضي الجماعة بقرطبة ومفتيها، وروى عن أبي علي الغساني، وأبي مروان بن سراج، وغيرهما، من مؤلفاته (المقدمات الممهدات)، وتوفي سنة عشرين وخمسمائة. انظر: الديباج المذهب ص 373، (507)؛ شجرة النور الزكية 1/ 129، (376)؛ شذرات الذهب 4/ 62.
(4)
انظر: المقدمات ص 243.
المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول الأول وهو نسخ وجوب العقيقة وتطوعها بما يلي:
أولاً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(2)
.
ثانياً: عن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة
(3)
بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى»
(4)
.
(1)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة بعد الأولى في هذه المسألة. وانظر: المحلى 6/ 241؛ بداية المجتهد 2/ 893؛ المقدمات ص 243.
(2)
سبق تخريجه في ص 395. وهو ضعيف كما سبق ذلك في تخريجه. وقال ابن حجر في الدراية 2/ 214: (أخرجه الدارقطني، والبيهقي، وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه ضعيف، فإن عبد الرزاق أخرجه موقوفاً على علي رضي الله عنه.
(3)
رهينة، قال ابن الأثير في النهاية 1/ 709:(ومعنى قوله: رهينة بعقيقته أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن)، ثم نقل عن الإمام أحمد أنه قال:(هذا في الشفاعة، يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلاً لم يشفع في والديه).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2838)، والترمذي في سننه ص 360، كتاب الأضاحي، باب من العقيقة، ح (1522)، والنسائي في سننه ص 651، كتاب العقيقة، باب متى يعق، ح (4220)، وابن ماجة في سننه ص 536، كتاب الذبائح، باب العقيقة، ح (3165)، وأحمد في المسند 33/ 356؛ والطحاوي في شرح مشكل الآثار 6/ 424؛ والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 503. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 146: (وصححه الترمذي، والحاكم، وعبد الحق).
وصححه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 394.
ثالثاً: عن سلمان بن عامر الضبي
(1)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى»
(2)
.
رابعاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:«إن الله لا يحب العقوق» ، وكأنه كره الاسم، قالوا: يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد؟ قال: «من أحب
(1)
هو: سلمان بن عامر بن أوس بن حجر، الضبي، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه محمد، وحفصة ولدا سيرين، وغيرهما، وسكن البصرة، وعاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 230؛ الإصابة 1/ 747؛ تهذيب التهذيب 4/ 123.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1183 - معلقاً-كتاب العقيقة، باب إما طة الأذى عن الصبي في العقيقة، ح (5472). وأخرجه مرفوعاً أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2839)، والترمذي في سننه ص 358، كتاب الأضاحي، باب الأذان في أذن المولود، ح (1515)، والنسائي في سننه ص 650، كتاب العقيقة، باب العقيقة عن الغلام، ح (4214)، وابن ماجة في سننه ص 536، كتاب الذبائح، باب العقيقة، ح (3164)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 329؛ وأحمد في المسند 26/ 164، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 994، والطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 6/ 431؛ والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 502. قال الترمذي:(حديث صحيح). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 593: (والحديث مرفوع لا يضره وقف من وقفه). وصححه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 396.
منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة»
(1)
.
خامساً: عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن رجل من قومه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ما ترى في العقيقة؟ فقال: «لا أحب العقوق، ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل»
(2)
.
سادساً: عن محمد بن الحنفية: (أن العقيقة كانت في الجاهلية، فلما جاء الإسلام رفضت)
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن بعض هذه الأدلة جاء فيه الأمر
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 433، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2842)، والنسائي في سننه ص 650، كتاب العقيقة، ح (4212)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 330، وأحمد في المسند-واللفظ له- 11/ 321، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 6/ 436، والحاكم في المستدرك 4/ 265، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 505. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال عنه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 650:(حسن صحيح).
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار-6/ 437، ونحوه الإمام مالك في الموطأ ص 399،
والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 505. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 60: (وفي رواية عن أبيه أو عن عمه. رواه كله أحمد، وفيه رجل لم يسم وبقية رجاله رجال الصحيح). وذكره ابن حجر في الفتح 9/ 589، ثم قال:(وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه أبو داود، ويقوى أحد الحديثين بالآخر).
(3)
أخرجه محمد بن الحسن في الآثار 2/ 776، عن طريق أبي حنيفة عن رجل عن محمد بن الحنفية.
بالعقيقة، وأن الغلام مرتهن بها، فيثبت من ذلك أن العقيقة كانت تفعل في أول الإسلام إما وجوباً أو استحباباً، وبعضها جاء فيه ما يدل على أنها إلى اختيار الشخص؛ حيث جاء فيه:(من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل). ثم رواية زيد بن أسلم يدل على أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع، فيكون هذا الاختيار ناسخاً للأمر الأول، ويدل عليه كذلك ما روي عن علي رضي الله عنه بأن الأضحى نسخ كل ذبح. كما يدل عليه ما روي عن محمد ابن الحنفية. فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن العقيقة كانت تفعل في أول الإسلام ثم نسخت فصارت مباحة
(1)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أولاً: أن حديث علي رضي الله عنه لا يصح الاستدلال منه على نسخ العقيقة؛ لوجهين:
أ-لأنه ضعيف لا تقوم به الحجة، ولا يقوى على نسخ الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ب-إن الأضحية شرعت في أوائل الهجرة
(3)
، ففي حديث أنس رضي الله عنه
(1)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 775، 776؛ الموطأ لمحمد ص 226؛ شرح مشكل الآثار 6/ 435 - 437؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 325؛ بدائع الصنائع 4/ 204؛ أوجز اللمسالك إلى موطأ مالك 10/ 169 - 172؛ إعلاء السنن 17/ 101 - 110.
(2)
راجع الكلام عليه عند تخريجه.
(3)
انظر: أوجز المسالك 10/ 171.
قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:«ما هذان اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر»
(1)
.
فكيف تكون ناسخة للعقيقة؟ والعقيقة روي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله ما يدل على مشروعيتها والعمل بها بعد مشروعية الأضحية. فقد عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين-رضي الله عنهما
(2)
، وولد الحسن رضي الله عنه سنة ثلاث من الهجرة
(3)
، والحسين رضي الله عنه سنة أربع
(4)
.
وعن أم كرز
(5)
رضي الله عنها-قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي فسمعته يقول: «على الغلام شاتان، وعلى الجارية
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 177، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، ح (1134)، والنسائي في سننه ص 257، كتاب صلاة العيدين، باب، ح (1556)، وأحمد في المسند 19/ 65، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 393، والحاكم في المستدرك 1/ 434، والمقدسي في الأحاديث المختارة 5/ 274. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 177.
(2)
سيأتي تخريجه في أدلة الأقوال في المسألة.
(3)
وقيل بعده. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 270.
(4)
انظر: تهذيب التهذيب 2/ 314.
(5)
هي: أم كرز الكعبية، الخزاعية المكية. صحابية، قيل: أسلمت يوم الحديبية. وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وغيرهم. انظر: الإصابة 4/ 2742؛ تهذيب التهذيب 12/ 425.
شاة، لا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً»
(1)
.
فهذا الحديث كان عام الحديبية، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه مشروعية العقيقة، وهذا بعد مشروعية الأضحية بزمان. فثبت منه ومما تقدم بطلان الاستدلال من مشروعية الأضحية على نسخ العقيقة.
ثانياً: إن ما روي عن محمد بن الحنفية، فإنه لا يصلح للاحتجاج به فضلاً من أن ينسخ
الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مع انقطاعه قول له، والنسخ إنما يكون بالكتاب أو بسنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يثبت كونه بعد المنسوخ
(2)
.
كما أن القول بأن العقيقة كانت في الجاهلية فلما جاء الإسلام رفضت غير صحيح؛ لأن الأحاديث السابقة وكذلك ما يأتي ذكرها تدل على أن الإسلام شرعت العقيقة ولم يرفضها.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2835)، والترمذي في سننه ص 359، كتاب الأضاحي، باب الأذان في أذن المولود، ح (1516)، والنسائي في سننه-والفظ له- ص 650، كتاب العقيقة، باب كم يعق عن الجارية، ح (4217)، وابن ماجة في سننه ص 536، كتاب الذبائح، باب العقيقة، ح (3162)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 6/ 428، وابن حبان في صحيحه ص 1435، والحاكم في المستدرك 4/ 265. وصححه الترمذي، والحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 391 - بعد ذكر تصحيح الترمذي والحاكم والذهبي-: (وهو كما قالوا. ورجاله ثقات كلهم رجال الشيخين).
(2)
انظر: المحلى 6/ 241.
ثالثاً: إن الاستدلال من قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل) والمذكور في حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-ورجل من بني ضمرة على النسخ غير صحيح كذلك؛ لوجهين:
أ- أن المراد بالحب في قوله: (من أحب منكم) الحب الشرعي لا الحب الطبيعي، ويكون المعني: من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده اتباعاً للشريعة فليفعل. وإذاً فلا يكون فيه دلالة على نفي مشروعية العقيقة، فإنه لو دل على نفي الفرضية والوجوب فلا يدل على نفي السنية والاستحباب بوجه من الوجوه
(1)
.
ب- إنه لو قدر أن قوله: (من أحب منك) يدل على نفي الاستحباب فهذا استدلال منه بإشارة النص
(2)
، وغيره من الأحاديث يدل على مشروعية العقيقة وسنيتها بعبارة النص
(3)
، وعند التعارض بين
(1)
انظر: التعليق الممجد على موطأ محمد للكنوي 2/ 659؛ نيل الأوطار 5/ 189؛ أوجز المسالك 10/ 172.
(2)
إشارة النص هي: دلالة الكلام على معنى غير مقصود أصالة ولا تبعاً، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته. أصول الفقه الإسلامي 1/ 350. وانظر: أصول السرخسي 1/ 236؛ التعريفات للجرجاني ص 27؛ التعريفات الفقهية ص 24.
(3)
عبارة النص هي: دلالة الكلام على المعنى المقصود منه إما أصالة أو تبعاً. أصول الفقه الإسلامي 1/ 349. وانظر: أصول السرخسي 1/ 236؛ التعريفات للجرجاني ص 146؛ التعريفات الفقهية ص 24.
العبارة والإشارة يقدم عبارة النص بلا خلاف
(1)
.
رابعاً: إن غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم-كان يرى العقيقة ويعمل بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت منسوخة لما عملوا بها
(2)
.
خامساً: إنه متى أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار إلى النسخ، والجمع بين الأحاديث الواردة في العقيقة ممكن، وذلك بحمل حديث سمرة رضي الله عنه وغيره مما يستدل منه على الوجوب على السنية والاستحباب بدليل حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-وغيره مما يستدل منه على نفي الوجوب؛ جمعاً بين الأدلة
(3)
.
ويستدل للقول الثاني وهو أن وجوب العقيقة نسخت فصارت سنة، بما يلي:
أولاً: عن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى»
(4)
.
ثانياً: عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى»
(5)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: سُئل رسول
(1)
انظر: التعليق الممجد 2/ 660؛ أصول الفقه الإسلامي 1/ 358.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 396 - 399؛ المغني 13/ 393 - 395؛ المجموع 8/ 261.
(3)
انظر: المنتقى للباجي 4/ 284؛ المغني 13/ 394، 395؛ المجموع 8/ 248، 249؛ نيل الأوطار 5/ 189.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(5)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:«إن الله لا يحب العقوق» ، وكأنه كره الاسم، قالوا: يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد؟ قال: «من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة»
(1)
.
رابعاً: عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن رجل من قومه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ما ترى في العقيقة؟ فقال: «لا أحب العقوق، ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سمرة وسلمان بن عامر-رضي الله عنهما يدلان على وجوب العقيقة، وحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-ورجل من بني ضمرة يدلان على أنها سنة ومستحبة، فيكون وجوبها منسوخاً بحديثيهما؛ لأن في حديث رجل من بني ضمرة ما يدل على تأخر حديثيهما على حديث سمرة وسلمان بن عامر-رضي الله عنهما
(3)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة، والجمع بين الأحاديث الواردة في العقيقة ممكن، وذلك بحمل حديث سمرة رضي الله عنه وغيره مما يستدل منه على الوجوب على
(1)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(3)
انظر: مقدمات ابن رشد ص 242، 243.
السنية والاستحباب بقرينة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وغيره مما يدل على نفي الوجوب؛ وذلك جمعاً بين الأدلة
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم العقيقة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنها مباحة، وليست بسنة.
وهو مذهب الحنفية
(2)
.
وقد سبق ما استدلوا به، ووجه الاستدلال منه، وما يرد به على تلك الأدلة والاستدلال.
القول الثاني: أن العقيقة سنة ومستحبة، وليست بواجبة.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وقول جمهور
(1)
انظر: المنتقى للباجي 4/ 284؛ المغني 13/ 394، 395؛ المجموع 8/ 248، 249؛ نيل الأوطار 5/ 189.
(2)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 775، 776؛ الموطأ لمحمد ص 226؛ شرح مشكل الآثار 6/ 435 - 437؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 325؛ بدائع الصنائع 4/ 204؛ أوجز اللمسالك إلى موطأ مالك 10/ 169 - 172؛ إعلاء السنن 17/ 101 - 110.
(3)
انظر: الموطأ لمالك 2/ 400؛ المدونة 1/ 554؛ التمهيد 10/ 395؛ بداية المجتهد 2/ 893؛ المقدمات ص 242؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 389، 390.
(4)
انظر: مختصر المزني ص 375؛ التنبيه ص 123؛ روضة الطالبين ص 450؛ المجموع 8/ 249، 261؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 6/ 179.
(5)
انظر: المغني 13/ 393؛ الشرح الكبير 9/ 432؛ الممتع 2/ 524؛ الفروع 6/ 104؛ الإنصاف 9/ 432.
أهل العلم، وروي ذلك عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم
(1)
.
القول الثالث: إن العقيقة واجبة.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقول الحسن البصري، وداود الظاهري، وابن حزم. وروي ذلك عن بريدة رضي الله عنه
(3)
.
الأدلة
يستدل للقول الثاني-وهو أن العقيقة سنة ومستحبة، وليست واجبة بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى»
(4)
.
ثانياً: حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى»
(5)
.
ثالثاً: حديث أم كرز-رضي الله عنها-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على
(1)
انظر: المغني 13/ 393؛ المجموع 8/ 261.
(2)
انظر: الفروع 6/ 104؛ الإنصاف 9/ 432.
(3)
انظر: المحلى 6/ 234، 237؛ التمهيد 10/ 395؛ المغني 13/ 394؛ المجموع 8/ 261.
(4)
سبق تخريجه في ص 1125.
(5)
سبق تخريجه في ص 1126.
الغلام شاتان، وعلى الجارية شاة، لا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً»
(1)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة)
(2)
.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً)
(3)
.
سادساً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن وحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط عن رأسه
(1)
سبق تخريجه في ص 1128.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 358، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة، ح (1513)، وابن ماجة في سننه-واللفظ له-ص 536، كتاب الذبائح، باب العقيقة، ح (3163)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 6/ 429، وابن حبان في صحيحه ص 1435. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 358: (صحيح).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2841)، وابن الجارود في المنتقى ص
339، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 6/ 427، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 508. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 379:(وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري، وقد صححه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى). وأخرجه النسائي في سننه-بلفظ: (كبشين كبشين) ص 651، كتاب العقيقة، باب كم يعق عن الجارية، ح (4219). وذكر الألباني في الإرواء 4/ 380، أنه صحيح وأن إسناده على شرط البخاري.
الأذى)
(1)
.
سابعاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:«إن الله لا يحب العقوق» ، وكأنه كره الاسم، قالوا: يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد؟ قال: «من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة»
(2)
.
ثامناً: عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن رجل من قومه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ما ترى في العقيقة؟ فقال: «لا أحب العقوق، ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل»
(3)
.
فهذه الأدلة وإن كان بعضها يدل على وجوب العقيقة إلا أن البعض الآخر يدل على نفي وجوبها، فيكون ذلك صارفة للأوامر ونحوها عن الوجوب إلى الندب والسنية، ويثبت من مجموعها سنية العقيقة واستحبابها، وعدم وجوبها، وبذلك يجمع بين هذه الأدلة كلها
(4)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 6/ 433، وابن حبان في صحيحه ص 1435، و الحاكم في المستدرك 4/ 265، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 505. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وكذلك صحح سنده ابن حجر في الفتح 9/ 590.
(2)
سبق تخريجه في ص 1126.
(3)
سبق تخريجه في ص 1126.
(4)
انظر: التمهيد 10/ 395؛ المنتقى للباجي 4/ 284؛ المغني 13/ 394، 395؛ المجموع 8/ 248، 249؛ فتح الباري 9/ 588، 589؛ التعليق الممجد 2/ 657؛ نيل الأوطار 5/ 189.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن العقيقة واجبة-بحديث سلمان بن عامر، وسمرة، وأم
كرز، وعائشة-رضي الله عنهم. وقد سبق ذكرها في دليل القول السابق.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأدلة جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعقيقة، والأمر للوجوب، كما أن قوله:(كل غلام مرتهن بعقيقته) يدل على الوجوب. فيثبت من مجموعها أن العقيقة واجبة
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأدلة تدل عل الوجوب، لكن هذه الأحاديث صرفت عن الوجوب إلى السنية والاستحباب لأحاديث أخرى تدل على نفي الوجوب، كحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-وما في معناه. كما أن بعض الصحابة ولد له ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعق عنه، فلو كانت العقيقة واجبة لأمرهم رسول اله صلى الله عليه وسلم بها
(2)
.
الراجح
بعد ذكر الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
(1)
انظر: المحلى 6/ 234 - 236؛ المغني 13/ 394.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 395؛ المغني 13/ 394، 395؛ فتح الباري 9/ 588 - 590؛ نيل الأوطار 5/ 189.
أولاً: إن القول بأن العقيقة نسخت فصارت مباحة غير صحيح، وقد سبق ما يرد به على هذا القول واستدلاله.
ثانياً: إن القول بأن العقيقة كانت واجبة، ثم نسخت فصارت سنة ومستحبة، قول له وجه واحتمال
(1)
، إلا أن الصحيح والأولى من ذلك الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، والجمع بينها ممكن، وقد سبق بيانه ووجه الجمع بينها.
ثالثاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو أن العقيقة سنة ومستحبة، وليست بواجبة؛ وذلك لما يلي:
أ- لكثرة الأدلة التي تدل على ذلك، مع صحتها وثبوتها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
ب- ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، كما سبق بيانه، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 9/ 589.
المطلب الرابع: تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة قد نسخ؛ لذلك لا يخضب رأسه به
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: ابن عبد البر
(2)
، وابن حجر
(3)
، والشوكاني
(4)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف فيها هو الاختلاف في ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويُدمَّى»
(6)
.
(1)
قد صرح به محمد شمس الحق العظيم أبادي، ونسبه ابن رشد الحفيد إلى جميع العلماء. انظر: بداية المجتهد 2/ 897؛ عون المعبود 8/ 29.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 400، 401؛ الاستذكار 4/ 320.
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 595.
(4)
انظر: نيل الأوطار 5/ 193.
(5)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة السابقة.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2837)، وقال بعده:(فكان قتادة إذا سُئل عن الدم كيف يصنع به قال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. قال أبو داود: هذا وهم من همام (ويدمى). قال أبو داود: خولف همام في هذا الكلام، وهو وهم من همام، وإنما قالوا:(يسمى) فقال همام: (يدمى)، قال أبو داود: وليس يؤخذ بهذا). وذكر ابن حزم الحديث من طريق أبي داود في المحلى 6/ 236، ثم ذكر كلام أبي دواد، ثم قال:(بل وهم أبو داود؛ لأن هماماً ثبت، وبين أنهم سألوا قتادة عن صفة التدمية المذكورة فوصفها لهم). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 595، بعد ذكر كلام أبي داود:(واستشكل ما قاله أبو داود بما في بقية رواية همام عنده أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف يصنع به فقال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. فيبعد مع هذا الضبط أن يقال: إن هماماً وهم عن قتادة في قوله: (ويدمى) إلا أن يقال: إن أصل الحديث (ويسمى) وأن قتادة ذكر الدم حاكياً عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، ومن ثم قال ابن عبد البر: لا يحتمل همام في هذا الذي انفرد به، فإن كان حفظه فهو منسوخ اهـ. وقد رجح ابن حزم رواية همام). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 432:(صحيح دون قوله: (ويدمى).
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (سبعة من السنة في الصبي يوم السابع: يسمى، ويختن، ويماط عنه الأذى، وتثقب أذنه، ويعق عنه، ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزن شعره في رأسه ذهباً أو فضة)
(1)
.
ثالثاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران)
(2)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 62: (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات). وذكره ابن حجر في الفتح 9/ 590، ثم قال:(أخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده ضعف).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 433، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2843)، والحاكم في المستدرك 4/ 266، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 509. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 433: (حسن صحيح).
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كانوا في الجاهلية إذا عقّوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا مكان الدم خلوقاً)
(1)
.
خامساً: عن يزيد بن عبد لله المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعق عن الغلام، ولا يمس رأسه بدم»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن تلطيخ رأس الصبي بدم العقيقة كان
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 1435، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 509. وأخرجه أبو يعلى مطولاً كما في إتحاف المهرة للبوصيري 5/ 334. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 61:(رواه أبو يعلى والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أبي يعلى إسحاق فإني لم أعرفه). وذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/ 193، أن حديث عائشة أخرجه كذلك ابن السكن، وأنه صححه هو وكذلك ابن حبان. وقال النووي في المجموع 8/ 248:(رواه البيهقي بإسناد صحيح).
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 536، كتاب الذبائح، باب العقيقة، ح (3166). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 61:(رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه ورجاله ثقات، وقد رواه ابن ماجة عن يزيد بن عبد الله المزني ولم يقل عن أبيه، وهنا عن يزيد بن عبد الله عن أبيه). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 596 - بعد ذكر رواية ابن ماجة-: (وهذا مرسل؛ فإن يزيد لا صحبة له، وقد أخرجه البزار من هذا الوجه فقال: عن يزيد بن
عبد الله المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقالوا: إنه مرسل).
في الجاهلية، كما يدل عليه حديث عائشة وبريدة-رضي الله عنهما. ويدل حديث سمرة، وابن عباس-رضي الله عنهم-على جوازه كذلك في الإسلام. وجاء في غير واحد من الأحاديث النهي عن ذلك. فيكون هذا النهي ناسخاً للجواز؛ لتأخره عنه؛ حيث إن ما يدل على الجواز موافق للحالة الجاهلية والبراءة الأصلية، بخلاف النهي، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل
(1)
.
هذا كان القول بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم تلطيخ رأس الصبي بدم عقيقته على قولين:
القول الأول: لا يجوز تلطيخ رأسه بالدم.
وهو قول أهل المذاهب الأربعة، وجمهور أهل العلم
(2)
.
القول الثاني: يستحب تخضيب رأسه بدم العقيقة.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(3)
، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه، وهو
(1)
انظر: التمهيد 10/ 400، 401؛ الاستذكار 4/ 320؛ بداية المجتهد 2/ 897؛ الاعتبار ص 390؛ فتح الباري 9/ 595، 596؛ نيل الأوطار 5/ 193؛ عون المعبود 8/ 29.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 399؛ بداية المجتهد 2/ 897؛ المغني 13/ 398؛ المجموع 8/ 251؛ الشرح الكبير للمقدسي 9/ 441؛ تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم، ص 30؛ الفروع 6/ 111؛ الإنصاف 9/ 441؛ فتح الباري 9/ 596؛ التعليق الممجد 2/ 656.
(3)
انظر: تحفة المودود بأحكام المولود، ص 31؛ الفروع 6/ 111؛ الإنصاف 9/ 441.
قول قتادة، وابن حزم، ورواية عن الحسن البصري
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز تلطيخ رأس الصبي بدم العقيقة- بما يلي:
أولاً: حديث عائشة، وبريدة رضي الله عنهما-ويزيد بن عبد الله المزني. وقد مرّ ذكرها
في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث عائشة، وبريدة-رضي الله عنهما-ويزيد بن عبد الله المزني يدل على النهي عن تخصيب رأس الصبي بدم العقيقة. وحديث سلمان بن عامر الضبي يدل على إماطة الأذى عن الصبي، وتلطيخه بدم العقيقة إذاء له فيكون فيه كذلك النهي عن تخضيب رأسه بدم العقيقة
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو استحباب تلطيخ رأس الصبي بدم عقيقته-
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 4/ 333؛ المحلى 6/ 234، 236؛ التمهيد 10/ 399؛ بداية المجتهد 2/ 897؛ فتح الباري 9/ 596.
(2)
سبق تخريجه في ص 1126.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 399، 400؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 509؛ المغني 13/ 399؛ فتح الباري 9/ 596؛ نيل الأوطار 5/ 191.
بحديث سمرة وابن عباس-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منهما: أن حديث سمرة رضي الله عنه جاء فيه ما يدل على مشروعية تخصيب رأس الصبي بدم العقيقة، وحديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن ذلك سنة. فيثبت منهما جواز تلطيخ رأسه بدم العقيقة واستحبابه
(1)
.
واعترض عليه: بأن كلا الروايتين متكلم فيهما
(2)
. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على النهي عن تخصيب رأسه بدم العقيقة، فعلى تقدير صحتهما وثبوتهما يكونان منسوخين بالنهي عن مس رأسه بدم
(3)
.
الراجح
بعد ذكر ما قيل في المسألة من الأقوال والأدلة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم جواز تخضيب رأس الصبي بدم عقيقته، وذلك لما يلي:
أولاً: لكثرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على النهي عن مس رأس الصبي بالدم، مع صحتها وصراحتها. بخلاف أدلة القول الثاني؛ حيث إنها لا تخلو من كلام فيها.
(1)
انظر: المحلى 6/ 234، 236؛ المغني 13/ 398.
(2)
انظر الكلام عليهما عند تخريجهما.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 400، 401؛ فتح الباري 9/ 595، 596؛ نيل الأوطار 5/ 193.
ثانياً: ولأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث واحد الأمر بإماطة الأذى عن الصبي، وتخضيب رأسه بالدم يعتبر من الأذى، فيكون في ذلك النهي عن مس رأسه بدم.
ثالثاً: ولأن أدلة القول الثاني على تقدير صحتها تكون منسوخة بالنهي عن مس رأس الصبي بدم؛ حيث إن حديث بريدة وعائشة رضي الله عنهما يدلان على أن ذلك العمل كان قبل، وأنه ترك في الإسلام وجعل بدل الدم الخلوق والزعفران.
والله أعلم.
المبحث الثاني: الصيد والذبائح
.
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: حكم الفرع والعتيرة.
المطلب الثاني: لحوم الخيل.
المطلب الثالث: لحوم الحمر الأهلية.
المطلب الرابع: كسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر.
المطلب الخامس: حصر المحرمات من المطعومات في: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله.
المطلب السادس: قتل الكلاب.
المطلب الأول: حكم الفرع والعتيرة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الفرع
(1)
والعتيرة
(2)
كانا مشروعين، ثم نُسخ مشروعيتهما؛ لذلك لا تُستحب أي واحدة منهما.
وممن صرح بالنسخ: محمد بن الحسن
(3)
، وأبو داود
(4)
، وابن المنذر
(5)
، والجصاص
(6)
، وابن قدامة
(7)
، وابن العربي
(8)
، ومجد الدين ابن تيمية
(9)
، وزين الدين المنجي
(10)
، وأبو حامد الرازي
(11)
، وأبو إسحاق
(1)
الفرع: أول نتاج الناقة، كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 361؛ المصباح المنير ص 382؛ فتح الباري 9/ 599؛ التعريفات الفقهية ص 164.
(2)
العتيرة: شاة تذبح في رجب. وقيل: شاة كانوا يذبحونها في رجب لأصنامهم. وقيل: العتيرة نذر كانوا ينذرونه، من بلغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأساً في رجب. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 157؛ المصباح المنير ص 319؛ فتح الباري 9/ 600؛ التعريفات الفقهية ص 143.
(3)
انظر: الموطأ لمحمد ص 226؛ بدائع الصنائع 4/ 204.
(4)
فإنه قال في سننه ص 245: (العتيرة منسوخة).
(5)
انظر: الاعتبار ص 390؛ إكمال المعلم 6/ 430.
(6)
انظر: أحكام القرآن 3/ 324.
(7)
انظر: المغني 13/ 403.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ ص 236.
(9)
انظر: منتقى الأخبار-مع نيل الأوطار-5/ 197.
(10)
انظر: الممتع في شرح المقنع 2/ 527.
(11)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 67.
الجعبري
(1)
. ونسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور
(2)
.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن مخنف بن سليم
(4)
رضي الله عنه قال: كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: «يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبِيّة»
(5)
.
(1)
انظر: رسوخ الأحبار ص 394.
(2)
انظر: إكمال المعلم 6/ 430؛ المجموع 8/ 260؛ فتح الباري 9/ 600.
(3)
راجع المصادر في الحواشي السابقة بعد حاشية (2).
(4)
هو: مخنف بن سليم بن الحارث بن عوف، الأزدي الغامدي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه حبيب، وعامر أبو رملة، وغيرهما. وسكن الكوفة، واستشهد بعين الوردة سنة أربع وستين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 65؛ الإصابة 3/ 1804؛ تهذيب التهذيب 10/ 71.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 425، كتاب الضحايا، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، ح (2788)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 359، كتاب الأضاحي، باب، ح (1518)، والنسائي في سننه ص 651، كتاب الفرع والعتيرة، باب، ح (4224)، وابن ماجة في سننه ص 530، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا، ح (3125)، وأحمد في المسند 29/ 419. وفي سنده أبو رملة، وهو مجهول، لذلك ضعفه الخطابي، وابن القطان، وعبد الحق. وحسنه الترمذي، وصححه الشيخ الألباني. انظر: فتح الباري 9/ 600؛ تحفة الأحوذي 5/ 94؛ صحيح سنن الترمذي ص 359.
ثانياً: عن نُبيشة رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:«اذبحوا لله عز وجل في أي شهر كان، وبروا لله، وأطعموا» قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا به؟ قال: «في كل سائمة فرع تغذوه ما شيتك، حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه-أُراه قال-على ابن السبيل، فإن ذلك خير»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين بواحدة)
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 431، كتاب الضحايا، باب في العتيرة، ح (2830)، والنسائي في سننه ص 652، كتاب الفرع والعتيرة، باب تفسير العتيرة، ح (4229)، وابن ماجة في سننه-واللفظ له ص 536، كتاب الذبائح، باب الفرع والعتيرة، ح (3167)، وأحمد في المسند 34/ 328، والحاكم في المستدرك 4/ 263، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 524. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الإرواء 4/ 412: (صحيح على شرط الشيخين).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 432، كتاب الضحايا، باب في العتيرة، ح (2833)، وعبد الرزاق في المصنف
-واللفظ له- 4/ 340، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 524، والحازمي في الاعتبار ص 388. قال البيهقي بعد ذكره:(كذا في كتابي، وفي رواية حجاج بن محمد وغيره عن ابن جريج في كل خمس واحدة. ورواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، وقال: (من كل خمسين شاة شاة). ونقل الحازمي في الاعتبار ص 390، عن ابن المنذر أنه قال:(خبر عائشة وخبر نبيشة ثابتان). وصححه ابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: فتح الباري 9/ 600؛ صحيح سنن أبي داود ص 431.
رابعاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن الفرع: «والفرع حق، وأن تتركه حتى يكون شُغزُبّاً
(1)
أو شغزوباً ابن مخاض أو ابن لبون، فتحمل عليه في سبيل الله، أو تعطيه أرملة، خير من أن تذبحه يلزق لحمه بوبره، وتكفئ إناءك، وتوله ناقتك»، وقال: وسئل عن العتيرة فقال: (العتيرة حق»
(2)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فرع ولا عتيرة» والفرع أول النتاج كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عتيرة في الإسلام، ولا فرع»
(4)
.
(1)
شغزباً من شغزب، وأصل الشغزبية: الالتواء، والمكر. والشغزبي: الصعب. وقيل: إنه محرف من: زُخزُبّاً. وهو الذي اشتد لحمه وغلظ. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 876؛ القاموس المحيط ص 95.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 433، كتاب الضحايا، باب في العقيقة، ح (2842)، والنسائي في سننه ص 651، كتاب الفرع والعتيرة، باب، ح (4225)، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 339، وأحمد في المسند-واللفظ له- 11/ 321، والحاكم في المستدرك 4/ 263. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 411.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1183، كتاب العقيقة، باب الفرع، ح (5473)، ومسلم في صحيحه 7/ 61، كتاب الأضاحي، باب الفرع والعتيرة، ح (1976)(38).
(4)
أخرجه أحمد في المسند 12/ 36.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهي عن الفرع والعتيرة)
(1)
.
سابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فرع ولا عتيرة»
(2)
.
ثامناً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن بعض هذه الأحاديث يدل على مشروعية الفرع والعتيرة؛ حيث جاء في البعض بأنهما حق، وجاء في البعض الأمر بالفرع، وجاء في البعض أن على كل أهل بيت كل عام عتيرة، فكل هذا تدل على مشروعية الفرع والعتيرة.
وبعض هذه الأحاديث يدل على النهي عن الفرع والعتيرة، وأنهما ليسا في الإسلام، فيكون ما يدل على النهي ناسخاً لمشروعيتهما؛ لتأخره،
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 651، كتاب الفرع والعتيرة، باب، ح (4223)، وأحمد في المسند-واللفظ له 15/ 173، وأبو داود الطيالسي في مسنده 1/ 231. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ص 651.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 536، كتاب الذبائح، باب الفرعة والعتيرة، ح (3169). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 415:(صحيح رجاله ثقات).
وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 536.
(3)
سبق تخريجه في ص 395.
يدل على ذلك ما يلي:
أولاً: لأن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يُفعل، ولم يقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عنهما ثم أذن فيهما، فدل ذلك أن الفعل كان قبل النهي، ويؤكد ذلك ما في حديث نبيشة رضي الله عنه: إن كنا نعتر عتيرة في الجاهلية، وإنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية. وقد أجمع عوام علماء الإسلام أن استعمالها ذلك وقوف على الأمر بهما. فيكون النهي متأخراً عن الأمر بهما، وناسخاً له
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعيتهما زمن حجة الوداع
(2)
. ففي حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة) سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهم كانوا معه وقوفاً بعرفات. وهذا كان في حجة الوداع.
كما أنه جاء في بعض طرق حديث نُبيشة رضي الله عنه أن حديثه ذلك كان والنبي صلى الله عليه وسلم بمنى
(3)
.
فثبت من ذلك أن ما يدل على مشروعيتهما متأخر كذلك
(4)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 390؛ المغني 13/ 403.
(2)
انظر: عمدة القاري 14/ 470، 471.
(3)
جاء ذكر ذلك في رواية النسائي. راجع تخريج الحديث.
(4)
انظر: نيل الأوطار 5/ 200، 201.
ب-بأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا فرع ولا عتيرة» ونحوه على نفي الوجوب، وحمل غير ذلك على الجواز
(1)
. ومع إمكان الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى القول بالنسخ
(2)
.
ثانياً: إن حديث علي رضي الله عنه يدل على أن الأضحية نسخ كل ذبح، فيدخل فيه الفرع والعتيرة، فتكونان منسوخين بها
(3)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال منه على النسخ لوجهين:
أ- بأنه ضعيف لا يقوى على نسخ الأحاديث الصحيحة
(4)
.
ب-بأن الأضحية شرعت في أوائل الهجرة
(5)
. وبعض ما يدل على مشروعية الفرع والعتيرة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك زمن حجة الوداع وهو كان سنة عشر.
ج- إن الأضحية والعتيرة جاء ذكر ما يدل على مشروعيتهما معاً في حديث واحد وهو حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه. فكيف تكون العتيرة منسوخة بالأضحية؟.
ثالثاً: إن الراوي للنهي عن الفرع والعتيرة أبو هريرة رضي الله عنه، وهو
(1)
انظر: الاعتبار ص 390؛ رسوخ الأحبار ص 394؛ فتح الباري 9/ 599.
(2)
انظر: نيل الأوطار 5/ 200، 201.
(3)
انظر: موطأ محمد ص 226؛ بدائع الصنائع 4/ 204.
(4)
راجع الكلام عليه في تخريجه.
(5)
انظر: أوجز المسالك 10/ 171.
متأخر الإسلام؛ حيث إنه أسلم سنة سبع من الهجرة، والفرع والعتيرة كانتا تفعلان قبل الإسلام، فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه
(1)
.
واعترض عليه: بأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعيتهما زمن حجة الوداع
(2)
. وحجة الوداع كان سنة عشر، فهو بعد إسلام أبي هريرة رضي الله عنه.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم الفرع والعتيرة على قولين:
القول الأول: إن الفرع والعتيرة ليستا واجبتين ولا مستحبتين.
وهو قول جمهور أهل العلم
(3)
، منهم الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
انظر: المغني 13/ 403؛ الشرح الكبير 9/ 449.
(2)
انظر: عمدة القاري 14/ 470، 471.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 324؛ المغني 13/ 402؛ رسوخ الأحبار ص 394.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 324؛ بدائع الصنائع 4/ 203، 204؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 9/ 509؛ عمدة القاري 14/ 470، 471.
(5)
انظر: إكمال المعلم لقاضي عياض 6/ 429، 430؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 236؛ المفهم للقرطبي 5/ 384.
(6)
انظر: المغني 13/ 402، 403؛ الشرح الكبير 9/ 448؛ الممتع 2/ 527؛ الإنصاف 9/ 448.
وهو وجه عند الشافعية
(1)
.
القول الثاني: تستحب الفرع والعتيرة.
وهو مذهب الشافعية
(2)
، وروي نحوه عن ابن سيرين
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم استحباب الفرع والعتيرة- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ، من حديث أبي هريرة وابن عمر-رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«لا فرع ولا عتيرة» .
ثانياً: عن الحارث بن عمرو
(4)
رضي الله عنه أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو على ناقته العضباء، فأتيته من أحد شقيه، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؛ استغفرلي. فقال: «غفر الله لكم» ، ثم أتيته من الشق الآخر-أرجو أن يخصني دونهم-فقلت: يا رسول الله استغفرلي، فقال
(1)
انظر: روضة الطالبين ص 452؛ المجموع 8/ 260.
(2)
انظر: السنن الكبرى 9/ 526؛ روضة الطالبين ص 452؛ المجموع 8/ 260؛ فتح الباري 9/ 599، 600.
(3)
انظر: المغني 13/ 402.
(4)
هو: الحارث بن عمرو بن ثعلبة، ويقال: الحارث بن عمرو بن الحارث بن إياس. السهمي الباهلي، أبو مسقبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عبد الله، وحفيده زرارة بن كريم. انظر: الإصابة 1/ 325؛ تهذيب التهذيب 2/ 139؛ التقريب 1/ 176.
بيده: «غفر الله لكم» ، فقال رجل من الناس: يا رسول الله! العتائر والفرائع؟ قال: «من شاء عتر، ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع، ومن شاء لم يفرع، في الغنم أضحيتها» وقبض أصابعه إلا واحدة
(1)
.
ثالثاً: عن أبي رزين- لقيط بن عامر العقيلي
(2)
رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا نذبح ذبائح في الجاهلية في رجب، فنأكل، ونعطعم من جاءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا بأس به»
(3)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في العتيرة، فقالوا: يا رسول الله! نعتر في رجب؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعتراً كعتر الجاهلية؟ ولكن من أحب منكم أن يذبح لله
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 652، كتاب الفرع والعتيرة، باب، ح (4226)، وأحمد في المسند 25/ 342، والحاكم في المستدرك 4/ 264، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 525. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأقره ابن حجر في الفتح 9/ 600. وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/ 410.
(2)
هو: لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر العامري، أبو رزين العقيلي، وافد بني المنتفق، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن أخيه وكيع بن عدس، وعبد الله بن الحاجب، وغيرهما. انظر: الإصابة 3/ 1729؛ تهذيب التهذيب 8/ 398.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 653، كتاب الفرع والعتيرة، باب تفسير الفرع، ح (4233)، وأحمد في المسند 26/ 118، وابن حبان في صحيحه ص 1568، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 525. قال ابن حجر في الفتح 9/ 600:(صححه ابن حبان). وصححه الشيخ الألباني بحديث نبيشة في صحيح سنن النسائي ص 653.
ويتصدق فليفعل». وكان عترهم أنهم كانوا يذبحون، ثم يعمدون إلى دماء ذبائحهم فيمسحون بها رؤوس نصبهم
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: أن بعض هذه الأحاديث يدل على النهي عن الفرع والعتيرة. وبعضها يدل على أن من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. فيثبت من مجموعها عدم استحبابهما
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو استحباب الفرع والعتيرة- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث مخنف بن سليم، ونبيشة، وعائشة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على مشروعية الفرع والعتيرة، وأنهما حق أي ليس بباطل
(3)
.
ثانياً: عن سمرة رضي الله عنه قال: أتاه يعني النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار يستفتيه عن الرجل ما الذي يحل له، والذي يحرم عليه من ماله، ونسكه، وماشيته، وعتره، وفرعه، من نتاج إبله، وغنمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما مالك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام، غير أن في نتاجك من إبلك فرعاً، وفي نتاجك من غنمك فرعاً تغذوه ماشيتك
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 232. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 31: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة، وثقه ابن معين، وضعفه الناس).
(2)
انظر: بدائع الصنائع 4/ 204؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 236؛ المغني 13/ 402، 403؛ فتح الباري 9/ 600؛ عمدة القاري 14/ 471.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/ 526؛ المجموع 8/ 259.
حتى تستغني، ثم إن شئت فأطعمه أهلك، وإن شئت تصدقت بلحمه، وأمره أن يعتر من الغنم من كل مائة عتيرة»
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإبل فرع، وفي الغنم فرع»
(2)
.
رابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عنها يوم عرفة قال: «هي حق» يعني العتيرة
(3)
.
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية الفرع والعتيرة وعلى استحبابهما، ولا تجبان للأحاديث التي تدل على نفي الوجوب
(4)
.
الراجح
بعد عرض ما قيل في المسألة من الأقوال وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الفرع الذي كان عليه أهل الجاهلية، من ذبح أول النتاج لطواغيتهم، كما هو مذكور في رواية أبي هريرة رضي الله عنه فهو حرام ولا يجوز؛ لأنه
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 7/ 305. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 31: (رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن).
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 31: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات).
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 32: (رواه الطبراني في الأوسط).
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 62؛ المجموع 8/ 260؛ فتح الباري 9/ 600؛ نيل الأوطار 5/ 200، 201.
من الشرك الأكبر، وهو حرام بلا خلاف
(1)
.
كما أن عتيرة الجاهلية التي هي كما في رواية ابن عباس-رضي الله عنهما-أنهم كانوا يذبحون، ثم يعمدون إلى دماء ذبائحهم فيمسحون بها رؤوس نصبهم- حرام لا تجوز؛ لما في ذلك من اعتقاد البركة من النصب، ومن الاحترام لها وللأصنام، وهو مخالف لعقيدة التوحيد والإسلام
(2)
.
فهذا الفرع وهذه العتيرة الجاهليتين محرمان، ويدل على حرمتهما ما سبق من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم. ولا أعلم أحداً من المسلمين يقول بجوازهما
(3)
.
ثانياً: إن الفرع بمعنى ذبح أول النتاج من أجل شكر الله على هذا النتاج الذي هذا أوله، ولتحصل به البركة في المستقبل، فهو مما لا بأس به؛ لما سبق من حديث عبد الله بن عمرو، والحارث بن عمرو-رضي الله عنهم-وغيرهما؛ حيث إنها تدل على أن من شاء فرع ومن شاء لم يفرع.
لكن الأفضل والأولى أن يتركه حتى يكون ابن لبون أو ابن مخاض فيحمل عليه في سبيل الله أو يعطيه أرملة، كما يدل عليه حديث نبيشة،
(1)
انظر: إكمال المعلم 6/ 429؛ المفهم للقرطبي 5/ 383؛ المجموع 8/ 260؛ الشرح الممتع 3/ 459.
(2)
انظر: إكمال المعلم 6/ 429؛ المفهم للقرطبي 5/ 384؛ فتح الباري 9/ 600.
(3)
انظر: إكمال المعلم 6/ 429، 430؛ المجموع 8/ 260؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 62؛ فتح الباري 9/ 600.
وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم-وغيرهما
(1)
.
كما أن العتيرة التي هي بمعنى أن يذبح لله تعالى في رجب ويتصدق لا بأس بها؛ لحديث الحارث بن عمرو، وابن عباس، وأبي رزين العقيلي-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على أن من شاء عتر ومن شاء لم يعتر
(2)
.
لكن الأولى والأفضل هو عدم تخصيص رجب بها؛ لحديث نبشية رضي الله عنه: «اذبحوا لله عز وجل في أي شهر كان، وبروا لله، وأطعموا»
(3)
.
ثالثاً: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفرع والعتيرة، وأنهما حق، كحديث مخنف بن سليم، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وسمرة-رضي الله عنهم، فإن أريد بها الوجوب فهو منسوخ؛ لأن حديث الحارث بن عمرو، وابن عباس-رضي الله عنهم-يدلان على أن الفرع والعتيرة إلى الإختيار والمشيئة، وهو ينفي الوجوب إن لم ينف الاستحباب، ثم في حديث ابن عباس رضي الله عنه ما يدل على أن حديثه ذلك كان بعد فتح مكة، وحديث الحارث بن عمرو رضي الله عنه صريح في أنه سمع ذلك من رسول الله في حجة الوداع. فمعهما ما يدل على تأخرهما على ما يخالفهما.
كما يدل على نسخ ذلك حديث أبي هريرة وابن عمر-رضي
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 4/ 338، 339؛ فتح الباري 9/ 600.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 600.
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 600.
الله عنهم-: «لا فرع ولا عتيرة» ؛ فإن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل
(1)
.
وإن أريد بها غير الوجوب فهي تدل على الجواز، لكن يكون الأولى والأفضل حملها على ما سبق بيانه في الفقرة السابقة؛ جمعاً بين تلك الأحاديث كلها
(2)
.
ويؤيد ذلك ما روي:
أ-عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في الفرعة: (هي حق، ولا تذبحها وهي غراة من الغراء
(3)
تلصق في يدك، ولكن أمكنها من اللبن، حتى إذا كانت من خيار المال فاذبحها)
(4)
.
ب-عن عطاء يقول: كان أهل الجاهلية يذبحون في الفرعة من كل خمسين واحدة، فلما كان الإسلام سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«إن شئتم فافعلوا» . ولم يوجب ذلك
(5)
.
ج-عن طاووس قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع، فقال: «إفرعوا إن شئتم، وأن تدعه حتى يبلغ فيحمل عليه في سبيل الله، أو تصل
(1)
انظر: الاعتبار ص 390.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 600.
(3)
الغراء بالمد والقصر: هو الذي يلصق به الأشياء. النهاية في غريب الحديث 2/ 305.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 338. ورجاله رجال الصحيح.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 337. ورجاله رجال الصحيح، لكنه مرسل.
به قرابة خير من أن تذبحه فيخلط لحمه بشعره»
(1)
.
د- عن صدقة بن يسار
(2)
، قال: قلت لمجاهد: سمعت رجلاً في مسجد الكوفة يقول: (ورب هذا المسجد لقد ذبحت العتيرة في الجاهلية والإسلام)
(3)
.
رابعاً: قد سبق أن الأمر بالفرع والعتيرة إن كان للوجوب فقد نسخ ذلك. وإن لم يكن للوجوب بل للاستحباب فإنه محتمل كذلك للنسخ؛ لأن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ويؤيد ذلك كونهما يفعلان في الجاهلية، وحديث الحارث بن عمرو رضي الله عنه يدل على إباحتهما لا على استحبابهما، وهو كان في حجة الوداع
(4)
.
وبهذا يتبين رجحان قول الجمهور.
والله أعلم.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 338. ورجاله رجال الصحيح، لكنه مرسل.
(2)
هو: صدقة بن يسار الجزري، نزيل مكة، ثقة، وروى عن مالك بن أوس بن الحدثان، وطاووس، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، وابن جريج، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 383؛ التقريب 1/ 436.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 4/ 343. ورجاله ثقات.
(4)
انظر: الاعتبار ص 390؛ فتح الباري 9/ 600.
المطلب الثاني: لحوم الخيل
ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة أكل لحوم الخيل، وأن ما يدل على تحريمها قد نسخ
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: أبو داود
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة ثلاثة أمور: اختلاف الآثار، والاختلاف في صحة ما يدل على تحريم لحوم الخيل، والقول بالنسخ
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن خالد بن الوليد
(5)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن أكل
(1)
انظر: الاعتبار ص 398، 399؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 24؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 70؛ فتح الباري 9/ 664.
(2)
انظر: سنن أبي داود ص 571، بعد حديث (3790).
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 397.
(4)
راجع المصادر في الحواشي الثلاثة السابقة في هذه المسألة.
(5)
هو: خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله، المخزومي، القرشي، سيف الله، أبو سليمان، أسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وجابر، وغيرهما، واستعمله أبو بكر على قتال أهل الردة ومسليمة، وكان أحد أمراء الأجناد الذين ولوا فتح دمشق، وتوفي سنة إحدى وعشرين، وقيل: اثنين وعشرين. انظر: الإصابة 1/ 469؛ تهذيب التهذيب 3/ 113.
لحوم الخيل والبغال والحمير-زاد حيوة
(1)
: -وكل ذي ناب من السباع»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم حمر الأهلية، وخيلها، وبغالها، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير»
(3)
.
(1)
هو: حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي، أبو العباس الحمصي، ثقة، روى عن أبيه، وبقية، وغيرهما، وروى عنه: البخاري، وأبو داود، وغيرهما، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 65؛ التقريب 1/ 252.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 571، كتاب الأطعمة، باب أكل لحوم الخيل، ح (3790)، والنسائي في سننه ص 666، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الخيل، ح (4332)، وابن ماجة في سننه ص 541، كتاب الذبائح، باب لحوم البغال، ح (3198)، وأحمد في المسند 28/ 18، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 210، والدارقطني في سننه 4/ 287، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 550. قال البيهقي بعد ذكر طرقه:(هذا إسناد مضطرب، ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 664: (شاذ منكر). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 517. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 9/ 551: (هذا الحديث أخرجه أبو داود، وسكت عنه، فهو حسن عنده-ثم ذكر سند النسائي، ثم قال: -فهذا سند جيد كما ترى).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 573، كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع، ح (3806)، وأحمد في المسند 28/ 16، والدارقطني-نحوه- في سننه 4/ 288. وضعفه الدارقطني في سننه 4/ 287، وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 151: (وحديث خالد لا يصح، فقد قال أحمد: إنه حديث منكر). وقال في الفتح 9/ 665: (وقد ضعف حديث خالد أحمد، والبخاري، وموسى بن هارون، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق وآخرون). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 573. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 9/ 551 - بعد الكلام على الحديث السابق-: (وقد أخرجه أبو داود من وجه آخر، وسكت عنه-فذكره ثم قال: -ورجال هذا السند ثقات-ثم تعقب على كلام البيهقي إلى أن قال: -وهذا الحديث يدل على أنه شهد خيبر، ولو سلم أنه أسلم بعدها فغاية ما فيه أنه أرسل الحديث، ومراسيل الصحابة في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة كما ذكره ابن الصلاح وغيره).
ثانياً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث خالد رضي الله عنه يدل على تحريم لحوم الخيل، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على حلها، فيكون حديث جابر رضي الله عنه ناسخاً لحديث خالد رضي الله عنه؛ لأنه بعده؛ لأنه ورد فيه لفظ (الرخصة)،
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1193، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل، ح (5520).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 24، كتاب الصيد والذبائح، باب أكل لحوم الخيل، ح (1941)(36).
ولفظ (الإذن)، وهما يدلان على سابقة منع، وتأخر الرخصة والإذن
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يحتمل أن يكون الحكم في الخيل والبغال والحمير على البراءة الأصلية فلما نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال. كما يحتمل ما ذكر في وجه الاستدلال على النسخ. والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم لحوم الخيل على قولين:
القول الأول: يكره لحوم الخيل.
وهو قول أبي حنيفة والمذهب عند الحنفية
(3)
، وقول مالك والمذهب عند المالكية
(4)
، وقول الحكم، والأوزاعي، وأبي عبيد، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه
(5)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 399؛ رسوخ الأحبار ص 397؛ فتح الباري 9/ 664.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 664.
(3)
ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه. انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 785؛ شرح معاني الآثار للطحاوي 4/ 210؛ مختصر القدوري ص 206؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 9/ 501؛ المختار وشرحه الاختيار 5/ 14؛ عمدة القاري 14/ 524.
(4)
وقد عبر بعضهم عنه بالتحريم، وبعضهم بالكراهة. انظر: الموطأ لمالك 1/ 397؛ المعونة 2/ 702؛ الاستذكار 4/ 296؛ التمهيد 11/ 109؛ بداية المجتهد 2/ 908؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 4/ 355؛ التاج والإكليل 4/ 356.
(5)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 785؛ التمهيد 11/ 109؛ المغني 13/ 324؛ المجموع 9/ 6؛ فتح الباري 9/ 663.
القول الثاني: يجوز أكل لحوم الخيل، ولا كراهة فيه.
وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية
(1)
، ومذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وقول جمهور أهل العلم، منهم: عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأم سلمة-رضي الله عنهم-وعلقمة والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، والليث، وابن المبارك، وإسحاق بن راهوية، وأبو ثور، وداود
الظاهري
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو كراهة لحوم الخيل- بما يلي:
أولاً: حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه هـ، وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: لما كان يوم
(1)
انظر: الآثار لمحمد 2/ 785؛ شرح معاني الآثار 4/ 211؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 9/ 501.
(2)
انظر: الأم 2/ 274؛ التنبيه للشيرازي ص 126؛ العزيز 12/ 125؛ المجموع 9/ 6؛ روضة الطالبين ص 470.
(3)
انظر: المغني 13/ 324؛ الشرح الكبير 27/ 216؛ الممتع 6/ 12؛ الإنصاف 27/ 216؛ الإقناع 4/ 306.
(4)
انظر: التمهيد 11/ 110؛ المغني 13/ 324؛ المجموع 9/ 6؛ عمدة القاري 144/ 524.
خيبر أصاب الناس مجاعة فاخذوا الحمر الأهلية فذبحوها وأغلوا منها القدور، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال جابر فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفأنا القدور، وقال:«إن الله سيأتيكم برزق هو أحل لكم من هذا وأطيب» ، قال فكفأنا يومئذ القدور وهي تغلي. قال: (فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الإنسية، ولحوم الخيل، والبغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرم المجثمة
(1)
، و الخلسة
(2)
، والنهبة
(3)
(4)
.
(1)
المجثمة: كل حيوان يُنصب ويرمى ليقتل، إلا أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم في الأرض، أي يلزمها ويلتصق بها. النهاية في غريب الحديث 1/ 235.
(2)
الخلسة هي: ما يستخلص من السبع، فيموت قبل أن يذكى، من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته. النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 517.
(3)
النهبة من النهب، وهي الغارة والسلب. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 808.
(4)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 50: (رواه الطبراني في الأوسط، والبزار باختصار، ورجالهما رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني عمر بن حفص السدوسي، وهو ثقة). وأخرج نحوه عن طريق عكرمة بن عمار الجصاص في أحكام القرآن 3/ 238، وابن حزم في المحلى 6/ 81. ثم قال ابن حزم:(وأما حديث عكرمة بن عمار فعكرمة ضعيف، وقد روينا من طريقه خبراً موضوعاً ليس فيه أحد يتهم غيره).
وقال ابن حجر في الفتح 9/ 664: (وذكر الطحاوي، وأبو بكر الرازي، وأبو محمد بن حزم، من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن جابر، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر، والخيل، والبغال» قال الطحاوي: وأهل الحديث يضعفون عكرمة بن عمار. قلت: ولا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلفاً في توثيقه فقد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال يحيى بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة. وقال البخاري: حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في يحيى. وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب. وهذا أشد مما قبله. ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضاً. وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر. وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فإن الروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالاً وأتقن رجالاً، وأكثر عدداً، وأعل بعض الحنفية حديث جابر بما نقله عن ابن إسحاق أنه لم يشهد خيبر، وليس بعلة؛ لأن غايته أن يكون مرسل صحابي).
ووجه الاستدلال منهما ظاهر؛ حيث إنهما يدلان على تحريم لحوم الخيل
(1)
.
واعترض عليه: بأنهما حديثان ضعيفان لا تقوم بهما حجة، ولا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة في حل لحومها
(2)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
(3)
. وقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(4)
. إلى
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 238؛ الاستذكار 4/ 297؛ الهداية مع شرح فتح القدير 9/ 501.
(2)
راجع الكلام عليهما في تخريجهما. وانظر: التمهيد 11/ 110؛ المجموع 9/ 6.
(3)
سورة النحل، الآية (8).
(4)
سورة الحج، الآية (34).
قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
(1)
. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
(2)
.
ووجه الاستدلال من هذه الآيات: هو أن الله سبحانه وتعالى فرق بين بهيمة الأنعام، وبين الخيل والبغال والحمير، فذكر الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، وذكر الأنعام للركوب والأكل، فلو كان الخيل مما يؤكل لذكر ذلك في سياق ذكره كما ذكر الركوب والزينة، مع أن الأكل من أعلا المنافع، وليس من الحكمة الامتنان بأدنى النعم وترك الامتنان بأعلاها
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن السكوت عن ذكر أكله لا يدل على تحريمه؛ لأنه لم يذكر بيعها والتصرف فيها وفي ثمنها، وذلك جائز بلا خلاف، مع أنه غير مذكور، فكذلك الأكل
(4)
.
ب- إنه لا يسلم أن الركوب والزينة في الخيل أدنى النعمتين بالنسبة للأكل، بل إن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة، لا الأكل، بخلاف
(1)
سورة الحج، الآية (36).
(2)
سورة الغافر، الآية (79).
(3)
انظر: الموطأ لمالك ص 397؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 238؛ المعونة 2/ 702؛ التمهيد 11/ 109؛ الهداية مع شرح فتح القدير 9/ 501؛ الجامع لأحكام القرآن 10/ 70.
(4)
انظر: التمهيد 11/ 110؛ الجامع لأحكام القرآن 10/ 71.
النعم، فإن من أعلا منافعها الأكل والركوب، فذكر في كل نوع أغلب المنفعتين، وترك الأدنى، وهو من الحكمة ودأب اختصارات القرآن
(1)
.
ج-إنه لا يصح الاستدلال من قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
(2)
. على تحريم لحوم الخيل والحمر؛ لأن تحريم لحوم الحمر إنما وقع عام خيبر، والإذن في لحوم الخيل وقع بعد الهجرة، وهذه الآية مكية فلو كانت تفيد التحريم لما قالوا: إن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. ولما أوقدوا النيران على لحومها يوم خيبر. ولو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية التحريم لما أذن في أكل الخيل بعد الهجرة
(3)
.
د-ولأن هذه الآية ليست نصاً في تحريم لحومها، وقد جاءت أحاديث صحيحة صريحة في حل لحمها
(4)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو حل لحوم الخيل بلا كراهة- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث جابر رضي الله عنه الذي مرّ ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإنه يدل على حل لحوم الخيل دون كراهة.
ثانياً: عن أسماء-رضي الله عنها قالت: (نحرنا فرساً على عهد
(1)
انظر: المجموع 9/ 7؛ روح المعاني 8/ 150.
(2)
سورة النحل، الآية (8).
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 665؛ روح المعاني 8/ 150.
(4)
انظر: المغني 13/ 325؛ فتح الباري 9/ 665.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه)
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحوم الخيل أن تؤكل)
(2)
.
فهذه الأحاديث تدل على حل لحوم الخيل بلا كراهة
(3)
.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو حل لحوم الخيل بلا كراهة، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع صحتها صريحة في جواز أكل لحوم الخيل، بخلاف أدلة القول الأول فإن منها ما هو ضعيف ومنها ما هو غير صريح.
ثانياً: إنه لم يرو عن أحد من أصحاب رسول الله أنه كان يكره لحوم الخيل إلا ابن عباس رضي الله عنه والرواية عنه فيه ضعف، وقد روى مرفوعاً
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1193، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل، ح (5519)، ومسلم في صحيحه 7/ 25، كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل، ح (1942)(38).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 290. وذكر ابن حجر في الفتح 9/ 663، أن سنده قوي. وفي سنده محمد بن عبد الله بن سليمان، قال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني 4/ 290:(هو الخراساني. ضعيف). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 50: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح خلا محمد بن عبيد المحاربي، وهو ثقة).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 211؛ المغني 13/ 325؛ المجموع 9/ 7.
ما هو صريح في حل لحومها
(1)
.
أما بقية الصحابة فقد قال عطاء: (لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم)
(2)
.
ثالثاً: ولأن حديث خالد بن الوليد، وجابر-رضي الله عنهما الذين يدلان على تحريم
لحوم الخيل، قد ضعفهما غير واحد من أهل العلم
(3)
، وعلى تقدير صحتهما وثبوتهما فإنهما يحتملان أن يكونا منسوخين بحديث جابر رضي الله عنه؛ حيث جاء فيه لفظ الإذن والرخصة، وهما مما يدل على تأخر الإباحة على الحظر والمنع
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 9/ 663.
(2)
قال ابن حجر في الفتح 9/ 663: (أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال-فذكره-).
(3)
راجع تخريجه. وانظر: تحفة الأحوذي 5/ 513.
(4)
انظر: الاعتبار ص 399؛ رسوخ الأحبار ص 397.
المطلب الثالث: لحوم الحمر الأهلية
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه كان يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية، ثم نهي عنه فنسخ جواز أكلها فصارت محرمة.
وممن صرح بالنسخ: الحازمي
(1)
، وأبو حامد الرازي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
.
وتبين منه أن القول به أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو اختلاف الآثار الواردة فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن غالب بن أبجر
(5)
رضي الله عنه قال: أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم
(1)
انظر: الاعتبار ص 391.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 68.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 399.
(4)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: فتح الباري 9/ 670.
(5)
هو: غالب بن أبجر المزني، ويقال: ابن ديخ، أو ابن ذيخ. له صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه: خالد بن سعد، وعبد لله، ويقال عبد الرحمن بن معقل. انظر: الإصابة 3/ 1555؛ تهذيب التهذيب 8/ 209؛ التقريب 2/ 3.
الحمر الأهلية، فقال: «أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوّالي
(1)
القرية» يعني الجلالة
(2)
.
ثانياً: عن أم نصر المحاربية
(3)
رضي الله عنها-قالت: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، فقال:«أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟» قال: نعم. قال: «فأصب من لحومها»
(4)
.
(1)
جوالي القرية، الجوال جمع جالة، والجلالة الحيوان التي تأكل العذرة، والجلة بالكسر: البعر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 281، 282.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 574، كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الحمر الأهلية، ح (3809). ثم قال:(قال أبو داود: عبد الرحمن هذا هو ابن معقل، قال أبو داود: روى شعبة هذا الحديث عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر، عن ناس من مزينة، أن سيد مزينة أبجر أو ابن أبجر سأل النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 203، والحازمي في الاعتبار ص 392. قال النووي في المجموع 9/ 7: (اتفق الحفاظ على تضعيفه). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 670: (وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 574: (ضعيف الإسناد مضطرب).
(3)
هي: أم نصر المحاربية، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عاصم بن عمر بن قتادة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 336؛ الإصابة 4/ 2758.
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 25/ 161. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 50: (رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 670: (وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية-فذكره ثم قال: -وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة، قال: (سألت) فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم). وقال في الإصابة 4/ 2760:(أخرجه الطبراني، وابن منده، قال أبو عمر: تفرد به إبراهيم بن المختار الرازي عن محمد بن إسحاق، وليس ممن يحتج بحديثه).
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل)
(1)
.
رابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر)
(2)
.
خامساً: عن علي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر، وعن لحوم حمر الإنسية)
(3)
.
سادساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال: أُكلت الحمر، ثم جاءه
جاء فقال: أُكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أُفنيت الحمر، فأمر منادياً فنادى في الناس:«إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس» . فأُكفئت القدور وإنها لتفور باللحم
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1194، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، ح (5521)، ومسلم في صحيحه 7/ 20، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (561)(24).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1194، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، ح (5523)، ومسلم في صحيحه 7/ 19، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (1407)(22).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1194، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، ح (5528)، ومسلم في صحيحه 7/ 23، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (1940)(35).
سابعاً: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلقي لحوم الحمر الأهلية، نيئة ونضيجة، ثم لم يأمرنا بأكله)
(1)
.
ثامناً: عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما يقول: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أن اكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئاً) قال عبد الله: فقلنا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لم تخمس، قال: وقال آخرون: حرمها البتة
(2)
.
تاسعاً: عن أبي ثعلبة
(3)
رضي الله عنه قال: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 22، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (1938)(31).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 643، كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ح (3155)، ومسلم في صحيحه 7/ 21، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (1937)(27).
(3)
هو: أبو ثعلبة الخشني، مشهور بكنيته، وقد اختلف في اسمه، فقيل: جرهم، وقيل: جرثوم، وقيل: جرثومة، وقيل غير ذلك. وكذلك اختلف في اسم أبيه، فقيل اسمه: عمرو، وقيل: قيس، وقيل غير ذلك. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو إدريس الخولاني، وسعيد بن المسيب، وغيرهما. وتوفي سنة خمس وسبعين، وقيل قبل ذلك. انظر: الإصابة 4/ 2177؛ تهذيب التهذيب 12/ 43؛ التقريب 2/ 372.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1194، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، ح (5527).
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن حديث غالب بن أبجر، وأم نصر المحاربية-رضي الله عنهما-يدلان على جواز أكل لحوم الحمر الأهلية، والأحاديث المذكورة بعد حديثيهما تدل على تحريمها، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحديثيهما؛ لأن التحريم جاء بعد ما كانوا يرون حل لحومها، ولذلك ذبحوها وطبخوا لحومها حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها. كما أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ويؤكد تأخر التحريم ما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بأكله بعد النهي، فدل أن النهي آخر الأمرين
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم لحوم الحمر الأهلية على قولين:
القول الأول: إن لحوم الحمر الأهلية محرمة لا يجوز أكلها.
وهو قول جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم
(2)
، ومنهم الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 600 - 602؛ الاعتبار ص 391 - 394؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 68؛ رسوخ الأحبار ص 399؛ فتح الباري 9/ 670.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 106؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 21.
(3)
انظر: الآثار لمحمد 2/ 785؛ شرح معاني الآثار 4/ 210؛ مختصر القدوري ص 206؛ الهداية مع شرح فتح القدير 9/ 500.
(4)
وفي رواية القول بالكراهة. انظر: الموطأ ص 397؛ المعونة 2/ 702؛ التمهيد 11/ 106؛ بداية المجتهد 2/ 908؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 355؛ التاج والإكليل 4/ 355.
(5)
انظر: الأم 2/ 274؛ التنبيه ص 126؛ العزيز 12/ 124؛ المجموع 9/ 7.
(6)
انظر: المغني 13/ 317؛ الشرح الكبير 27/ 197؛ الممتع 6/ 7؛ الإنصاف 27/ 197، 198.
القول الثاني: إن لحوم الحمر الأهلية ليست بحرام.
وهو قول بعض أهل العلم، وروي ذلك عن ابن عباس، وعائشة-رضي الله عنهم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو تحريم لحوم الحمر الأهلية- بأدلة منها: حديث جابر، وعلي، وابن عمر، والبراء بن عازب، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي ثعلبة رضي الله عنهم. وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها صحيحة، وصريحة في تحريم لحوم الحمر الأهلية، والنهي عن أكلها
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو عدم حرمة لحوم الحمر الأهلية- بما يلي:
أولاً: حديث غالب بن أبجر، وأم نصر المحاربية-رضي الله عنهما. وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنهما يدلان على إباحة لحوم الحمر الأهلية
(3)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أ-إن هذين الحديثين قد ضعفهما غير واحد من أهل العلم، لذلك فهما
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 203؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 141؛ التمهيد 11/ 106؛ المغني 13/ 318؛ المجموع 9/ 7.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 204 - 210؛ التمهيد 11/ 106 - 109؛ المغني 13/ 318؛ المجموع 9/ 8.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 203؛ المغني 13/ 318؛ فتح الباري 9/ 670.
لا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية
(1)
.
ب- إنهما لو صحا فيحتملان كونهما في حالة الاضطرار، وعلى تقدير عدم ذلك فقد يكونان قبل تحريم لحوم الحمر الأهلية، فيكونان منسوخين بأحاديث النهي عن لحومها
(2)
.
(3)
.
فإنه يدل على أن ما عدا المذكور في الآية غير محرم، ومنه الحمر الأهلية
(4)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أ- إن الآية جواب لمن سأل عن أشياء بعينها، فوقع الجواب بخصوصها، أي أجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء، وليس المراد حصر
(1)
انظر: التمهيد 11/ 108؛ المغني 13/ 318؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 21؛ فتح الباري 9/ 670.
(2)
انظر: الاعتبار ص 391 - 394؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 21؛ فتح الباري 9/ 670.
(3)
سورة الأنعام، الآية (145).
(4)
انظر: التمهيد 11/ 106؛ المغني 13/ 318؛ المجموع 9/ 7.
جميع المحرمات فيما ذكر في الآية
(1)
.
ب-إن هذه الآية مكية، وعند نزولها كانت المحرمات من المطعومات ما ذكر فيها، ثم في
المدينة بعد الهجرة حرمت أشياء غير المذكورة فيها، وهي غير منافية لها
(2)
.
الراجح
لا شك أن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وهو تحريم لحوم الحمر الأهلية، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع كثرتها-حيث تبلغ مبلغ التواتر- صحيحة وصريحة غير محتملة لأكثر من احتمال واحد. بخلاف أدلة القول الثاني؛ حيث إن منها ما هو متكلم فيه
(3)
، ومنها ما هو مختلف في تأويله، ويحتمل أكثر من احتمال
(4)
.
ثانياً: ولأن حديث غالب ابن أبجر وأم نصر المحاربية-رضي الله عنهما-ضعيفان لا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة
(1)
انظر: جامع البيان 5/ 3608، 3609؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 21؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 670.
(3)
وهو حديث غالب ابن أبجر، وأم نصر المحاربية، راجع الكلام عليهما في تخريجهما في هذه المسألة.
(4)
وهو آية سورة الأنعام، وقد اختلف في تأويلها كما سبق، وكما سيأتي في المسألة بعد التالية. وانظر: فتح الباري 9/ 670.
الدالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية
(1)
، وعلى تقدير صحتهما فيحتملان ما يلي:
أ-أن جواز الأكل من لحوم الحمر الأهلية المستفاد منهما كان لأجل الحاجة و الاضطرار
(2)
.
ب- أنهما كان قبل تحريم لحوم الحمر الأهلية، فيكونان منسوخين بأحاديث التحريم، كما صرح بذلك غير واحد من أهل العلم
(3)
.
ثالثاً: ولأن قوله تعالى:: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية
(4)
. اختلف في تأويلها، فقيل: إنها جاءت جواباً لمن سأل عن أشياء بعينها، فوقع الجواب بخصوصها، فلا يكون فيها دلالة على حصر جميع المحرمات فيما ذكر في الآية
(5)
.
وعلى تقدير أن المراد بها الحصر، فهي مكية، وعند نزولها كانت المحرمات من المطعومات ما ذكر فيها، ثم في المدينة بعد الهجرة حرمت
(1)
انظر: المجموع 9/ 8.
(2)
انظر: المجموع 9/ 9.
(3)
انظر: الاعتبار ص 391 - 394؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 68؛ رسوخ الأحبار ص 399؛ فتح الباري 9/ 670.
(4)
سورة الأنعام، الآية (145).
(5)
انظر: جامع البيان 5/ 3608، 3609؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 21؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103.
أشياء غير المذكورة فيها
(1)
.
ومما سبق يظهر أنه إذا صح حديث غالب ابن أبجر، وأم نصر المحاربية، وأريد بالآية الكريمة حصر المحرمات من المطعومات فيما ذكر فيها، يظهر صحة القول بنسخ ما يدل على جواز أكل لحوم الحمر الأهلية، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بأكله بعد النهي، فدل أن النهي آخر الأمرين
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 9/ 670.
(2)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 600 - 602؛ الاعتبار ص 391 - 394؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 68؛ رسوخ الأحبار ص 399؛ فتح الباري 9/ 670.
المطلب الرابع: كسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر، ثم ترك ذلك وأمر بغسلها، فنُسخ به الأمر بكسرها
(1)
.
وممن صرح به: الحازمي
(2)
، والنووي
(3)
، وابن القيم
(4)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن القدور، والأواني التي طبخ فيها لحوم الحمر أو وضع فيها شيء من المحرمات والنجس إذا كانت مما يطهرها الغسل وينتفع بها، أنها تغسل ولا تكسر
(5)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما أمسوا يوم فتحوا خيبر، أوقدوا النيران، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«علامَ أوقدتم هذه النيران؟» قالوا: لحومِ الحمر الإنسية. قال: «أهريقوا ما فيها، واكسروا قدورها» فقام رجل من القوم فقال: نهريق ما فيها ونغسلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ذاك»
(6)
.
(1)
انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار 3/ 532.
(2)
انظر: الاعتبار ص 395 - 396.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 23.
(4)
انظر: زاد المعاد 3/ 347.
(5)
انظر: المغني 1/ 73 - 75؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 421 - 422، 7/ 22، 23؛ فتح الباري 5/ 146، 9/ 670؛ عمدة القاري 9/ 242.
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1189، كتاب الذبائح والصيد، باب آنية المجوس والميتة، ح (5497)، ومسلم في صحيحه 7/ 22، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، ح (1802)(33).
وفي رواية عنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيراناً توقد يوم خيبر. قال: «علام توقد هذه النيران؟» قالوا: على الحمر الإنسية، قال:«اكسروها وهَرِيقوها» . قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: «اغسلوا»
(1)
.
فهاتان الروايتان تدلان على: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بكسر القدور التي طبخوا فيها لحوم الحمر الإنسية، فلما التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما فيها ويغسلوها، أمرهم بذلك، فنسخ به الأمر بكسرها؛ لأن الأمر بالغسل جاء بعد ذلك؛ لذلك لا تكسر الأواني التي ألقي فيها شيء من النجس والمحرم، بل يلقى المحرم والنجس، ويغسل الإناء إذا كان ينتفع به و يطهره الغسل
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 492، كتاب المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرَّق الزقاق؟، ح (2477).
(2)
انظر: الاعتبار ص 395؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 23؛ فتح الباري 5/ 146؛: شرح الكوكب المنير لابن النجار 3/ 532.
المطلب الخامس حصر المحرمات من المطعومات في: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله
.
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
. الدال على حصر المحرمات من المطعومات في الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله قد نسخ، لذلك ليس المحرمات من المطعومات محصورة في هذه الأربعة
(2)
.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة في المسألة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة ثلاثة أمور: اختلاف الأدلة، والاختلاف في المفهوم من الآية، والقول بالنسخ
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
سورة الأنعام، الآية (145).
(2)
ونسبه ابن عبد البر إلى قوم من فقهاء العراقيين. ورجحه الشيخ محمد أمين الشنقيطي. انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 141؛ التمهيد 10/ 349؛ نفس الصباح في غريب القرآن وناسخه ومنسوخه للخزرجي 1/ 341؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 173؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 765؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103؛ تفسير ابن كثير 2/ 175؛ روح المعاني 10/ 68؛ أضواء البيان 2/ 187.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: بداية المجتهد 2/ 906.
عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير»
(1)
.
ثانياً: الأحاديث الواردة في تحريم لحوم الحمر الأهلية، ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال: أُكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أُكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أُفنيت الحمر، فأمر منادياً فنادى في الناس: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر
الأهلية؛ فإنها رجس» فأُكفئت القدور وإنها لتفور باللحم
(2)
.
ثالثاً: عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)
(3)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية
(5)
والتي تدل
(1)
سبق تخريجه في ص 72.
(2)
سبق تخريجه في ص 1162.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1195، كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، ح (5530)، ومسلم في صحيحه 7/ 13، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ح (1932)(13).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 13، كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ح (1933)(15).
(5)
سورة الأنعام، الآية (145).
على حصر المحرمات من المطعومات فيما ذكر فيها، نزلت بمكة قبل الهجرة، وهذه الأحاديث بمجموعها تدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وعلى تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وهي غير ما ذكر في الآية، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء بعد الهجرة. فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحصر المحرمات المذكورة في الآية؛ لأنها بعدها
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- أن الآية مختلف في تأويلها، فقيل: هي جواب لمن سأل عن أشياء بعينها، فوقع الجواب بخصوصها، أي أجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء، وليس المراد حصر جميع المحرمات فيما ذكر فيها
(2)
.
وعلى هذا فلا يكون للنسخ وجهاً في الآية، بل تكون محكمة، ويضم إليها بالسنة ما فيها من محرم
(3)
.
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 141؛ التمهيد 10/ 349؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 173؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 765؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرزي ص 32؛ مختصر ابن حاجب مع شرحه رفع الحاجب 4/ 82؛ تفسير ابن كثير 2/ 175؛ فتح الباري 9/ 671؛ إرشاد الفحول 2/ 70؛ روح المعاني 10/ 68؛؛ مناهل العرفان 2/ 261؛ أضواء البيان 2/ 187.
(2)
انظر: جامع البيان 5/ 3608، 3609؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 21؛ التمهيد 10/ 349؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103؛ فتح الباري 9/ 672.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 349، 350؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 765.
ب- إن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها، فغير ما ذكر فيها مباح بالبراءة الأصلية، والأحاديث التي ذكر فيها محرمات غيرها، رفعت هذه البراءة، ورفعها لا يسمى نسخاً
(1)
.
وأجيب عن هذا: بأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة المذكورة فيها شرعاً، فتكون إباحة شرعية؛ لدلالة القرآن عليها، ورفع الإباحة الشرعية نسخ
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في تحريم المطعومات غير ما ذكر في الآية كالحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع وغيرها، على قولين:
القول الأول: إن المحرمات ليست محصورة فيما ذكر فيها، بل يحرم غيرها كذلك مما جاء ذكرها في النصوص.
وهو قول جمهور أهل العلم
(3)
، ومنهم الحنفية
(4)
، و المالكية
(5)
،
(1)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 175؛ مناهل العرفان 2/ 262.
(2)
انظر: روح المعاني 10/ 68؛ أضواء البيان 2/ 187.
(3)
انظر: المغني 13/ 319، 322؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 12.
(4)
انظر: الآثار لمحمد 2/ 785؛ شرح معاني الآثار 4/ 209، 210؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 23، 24؛ مختصر القدوري ص 206؛ الهداية مع شرح فتح القدير 9/ 499.
(5)
وعندهم روايتان: التحريم، والكراهة. انظر: الموطأ ص 396؛ المعونة 2/ 702؛ التمهيد 10/ 348، 350، 351؛ بداية المجتهد 2/ 905، 906؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 105؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 355، 356؛ التاج والإكليل 4/ 355، 356.
والشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: إن المحرمات من المطعومات هي ما ذكر فيها.
وهو قول بعض أهل العلم، وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس-رضي الله عنهم
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بأدلة منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عباس، وأنس، أبي هريرة، وأبي ثعلبة-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فدل ذلك على عدم حصر المحرمات فيما ذكر في الآية الكريمة
(4)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو حصر المحرمات من المطعومات فيما ذكر في الآية بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ
(1)
انظر: الأم 2/ 271، 272؛ التنبيه ص 126؛ العزيز 12/ 127؛ المجموع 9/ 13.
(2)
انظر: المغني 13/ 319 - 323؛ الشرح الكبير 27/ 199 - 202؛ الممتع 6/ 6 - 16؛ الإنصاف 27/ 199 - 204؛ الإقناع 4/ 303 - 307.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 141؛ التمهيد 10/ 350؛ المغني 13/ 318؛ فتح الباري 9/ 671.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 24؛ التمهيد 10/ 351 - 356؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 105؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 13؛ المغني 13/ 320.
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُور رَحِيمٌ}
(1)
. فإنه يدل بعمومه على حصر المحرمات فيما ذكر في هذه الآية
(2)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أولاً: إنه اختلف في تأويل هذه الآية، فقيل: هي جواب لمن سأل عن أشياء بعينها. وعليه فلا يكون في الآية دلالة على عدم وجود محرم غير ما ذكر فيها
(3)
.
كما قيل: إن المراد بالآية نفي وجود محرم غير ما ذكر فيها في ذاك الوقت، ثم جاءت الشريعة بمحرمات غير ما ذكر فيها، فهي مضافة إليها، وليس نافية لها
(4)
.
ثانياً: إن هذه الآية الكريمة وإن كانت تدل بعمومها على نفي محرمات من المطعومات غير ما ذكر فيها، إلا أن هذا العموم مخصوص بأدلة من الكتاب والسنة
(5)
.
(1)
سورة الأنعام، الآية (145).
(2)
انظر: التمهيد 10/ 350؛ المغني 13/ 319؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 13.
(3)
انظر: جامع البيان 5/ 3608، 3609؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 21؛ التمهيد 10/ 349؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 103؛ فتح الباري 9/ 672.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 24؛ التمهيد 10/ 350؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 13.
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 24؛ التمهيد 10/ 351؛ روح المعاني 8/ 68.
الراجح
لا شك أن الراجح هو القول الأول-وهو عدم حصر المحرمات فيما ذكر في الآية الكريمة، وذلك لما يلي:
أولاً: لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة تدل على وجود محرمات في الشريعة غير ما ذكر في الآية، منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: إن هذه الآية الكريمة اختلف أهل العلم في تأويلها، فقيل: المراد بها العموم، ولا حرام إلا ما ذكر فيها. وقيل: المراد بها نفي وجود محرم وقت نزولها. وقيل: هي مخصوصة بغيرها من الأدلة.
لكن الأولى من هذه الأقوال القولين الأخيرين؛ جمعاً بين الأدلة كلها.
ثالثاً: ولأنه إن أريد بالآية الكريمة حصر المحرمات في الأربعة المذكورة، ونفي التحريم عمّا عداها في الشريعة مطلقاً، فإن الأظهر القول بنسخ هذا الحصر بالأحاديث التي جاء فيها ذكر محرمات كثيرة؛ لأن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة نزلت الشريعة بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها، منها لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: إكمال المعلم 6/ 367؛ فتح الباري 9/ 671؛ روح المعاني 8/ 68؛ أضواء البيان 2/ 187.
المطلب السادس: قتل الكلاب
نقل بعض أهل العلم الإجماع على قتل الكلب الكلِب
(1)
، والكلب العقور
(2)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر بقتل الكلاب قد نسخ؛ لذلك لا يحل قتل الكلاب التي لا تؤذي، ولا ضرر فيها.
وممن صرح بنسخ ذلك: بعض الحنفية، منهم محمد بن الحسن
(3)
، وبعض المالكية، منهم ابن عبد البر
(4)
، وبعض الشافعية، منهم النووي
(5)
، ويدل عليه كلام بعض الحنابلة، منهم ابن قدامة
(6)
. وقال به كذلك أبو حامد الرازي
(7)
.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة أن سبب الاختلاف في المسألة أمران:
(1)
الكلِب، يقال: كلِب الكلب واستكلب إذا ضري وتعود أكل الناس. وكذلك إذا أكل لحم الإنسان فأخذه لذلك سعار وداء شبه الجنون. انظر: لسان العرب 12/ 135.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80؛ عمدة القاري 10/ 670.
(3)
انظر: الحجة على أهل المدينة 2/ 757؛ شرح معاني الآثار 4/ 55؛ فتح القدير 1/ 109؛ البحر الرائق 1/ 135؛ فتح باب العناية 1/ 103.
(4)
انظر: التمهيد 16/ 170 - 173.
(5)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 78، 80.
(6)
انظر: المغني 6/ 356؛ الشرح الكبير 11/ 46.
(7)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 102.
اختلاف الآثار الواردة فيها، والقول بالنسخ
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله. ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:«عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان»
(2)
.
ثانياً: عن ابن المغفل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب؟» ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم
(3)
.
ثالثاً: عن أبي رافع رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فقال الناس: يا رسول الله، ما أُحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [سورة المائدة: 4]
(4)
.
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة غير الأولى.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 79، كتاب المساقاة والمزارعة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه، ح (1572)(47).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 79، كتاب المساقاة والمزارعة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه، ح (1573)(48).
(4)
أخرجه أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 393، و الحاكم في المستدرك-واللفظ له- 2/ 340، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 393. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فأخذ رداءه فخرج. فقال:«قد أذنّا لك يا رسول الله» . قال: أجل يا رسول الله، ولكن لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. فأمر أبا رافع أن لا يدع كلباً بالمدينة إلا قتله، فإذا بامرأة في ناحية المدينة لها كلب يحرس عليها، قال: فرحمتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بقتله، قال: ثم أتاه ناس من الناس فقالوا: ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [سورة المائدة: 4]
(1)
.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبراً)
(2)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بالوجوه الآتية:
أولاً: إن بعض هذه الأحاديث صريح في أن النهي عن قتل الكلاب جاء بعد الأمر بقتلها، كحديث جابر، وعبد الله بن المغفل-رضي الله
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان 4/ 2869، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 57، وابن عبد البر في التمهيد -واللفظ له- 16/ 174، والواحدي في أسباب النزول ص 127. وفي سنده موسى بن عبيدة، وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 319؛ التقريب 2/ 226. لكنه روي بطرق غير ما سبق، ويستفاد من مجموعها أن له أصلاً.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 37، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، ح (1959)(60).
عنهما-فثبت من ذلك أن الأمر بقتلها
قد نسخ؛ لأنه إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثانياً: إن الأمر بقتل الكلاب كان مطلقاً، سواء كان الكلب كلب صيد أو غيره، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة المائدة:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}
(2)
. كما يدل عليه حديث أبي رافع رضي الله عنه
(3)
.
ثالثاً: إنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، وثبت عنه أنه نهى عن قتل الدواب صبراً كما في حديث جابر رضي الله عنه، وهو يشمل الكلب وغيره، فيكون هذا النهي ناسخاً للأمر بقتل الكلاب
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قتل الكلاب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يقتل الكلاب التي لا ضرر فيها.
وهو قول الحنفية
(5)
، وابن عبد البر من المالكية
(6)
، وإمام الحرمين
(7)
،
(1)
انظر: التمهيد 16/ 171؛ المغني 6/ 356؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
(2)
سورة المائدة، الآية (4).
(3)
انظر: التمهيد 16/ 173.
(4)
انظر: التمهيد 16/ 172.
(5)
انظر: الحجة على أهل المدينة 2/ 757؛ شرح معاني الآثار 4/ 55؛ شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 4/ 211؛ البحر الرائق 1/ 135؛ حاشية الطحطاوي 1/ 485.
(6)
انظر: التمهيد 16/ 173.
(7)
هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد، أبو المعالي، إمام الحرمين، ورئيس الشافعية بنسابور، تفقه على أبيه، وعلى القاضي الحسين، ومن مؤلفاته:(نهاية المطلب في دراية المذهب)، وتوفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. انظر: البداية والنهاية 12/ 141؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 255؛ شذرات الذهب 3/ 358.
من الشافعية
(1)
.
القول الثاني: يقتل الكلاب إلا ما استثني من كلب الصيد وغيره.
وهو مذهب المالكية
(2)
.
وروي نحوه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر-رضي الله عنهم
(3)
.
القول الثالث: لا يقتل الكلاب التي لا ضرر فيها، إلا الأسود البهيم، فإنه يقتل.
وهو قول الحنابلة
(4)
، والقاضي عياض من المالكية
(5)
، والنووي من الشافعية
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بالأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول
(1)
انظر قوله في: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
(2)
انظر: التمهيد 16/ 169؛ المنتقى للباجي 10/ 350؛ إكمال المعلم 5/ 242؛ مواهب الجليل 1/ 491.
(3)
انظر: التمهيد 16/ 168 - 169.
(4)
انظر: المغني 6/ 355، 356؛ الشرح الكبير 11/ 45، 46.
(5)
انظر: إكمال المعلم 5/ 242.
(6)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
بالنسخ؛ فإنها تدل على النهي عن قتل الكلاب
(1)
.
واعترض عليه: بأنه جاء في بعض الأحاديث مع ذكر النهي عن قتل الكلاب الأمر بقتل الأسود منها، لذلك لا يكون النهي عن قتلها شاملاً له
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الكلاب تقتل إلا ما استثنى من كلب الصيد وغيره- بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب)
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية.) فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع. فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعاً
(4)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 55 - 57؛ التمهيد 16/ 171 - 174.
(2)
انظر: المغني 6/ 355؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 676، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، ح (3323)، ومسلم في صحيحه 6/ 78، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، ح (1570)(43).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 78، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، ح (1571)(46).
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أخبرتني ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيح يوما واجماً، فقالت ميمونة-رضي الله عنها: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أم والله ما أخلفني» قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأُخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له:«قد وعدتني أن تلقاني البارحة» قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير)
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها-أن جبريل عليه الصلاة والسلام واعد النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة يأتيه فيها، فذهبت الساعة ولم يأته. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جبريل عليه السلام على الباب، فقال:«ما منعك أن تدخل البيت؟» قال: «إن في البيت كلباً، وإنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلب فأخرج، ثم أمر بالكلاب أن تقتل
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 506.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 54، وأخرج نحوه مسلم بدون قوله:(ثم أمر بالكلاب أن تقتل) صحيح مسلم 7/ 210، كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح (2104)(81).
فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا ما استثنى من كلب الصيد وغيره؛ لذلك تُقتل الكلابُ إلا ما استثني من كلب الصيد وغيره
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث تدل على قتل الكلاب إلا أنه جاء أحاديث أخر بعد هذه الأحاديث تدل على نسخ عموم الأمر بقتل الكلاب، والقول بموجبها متعين؛ لأنه إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أنه لا تقتل الكلاب التي لا ضرر فيها إلا الأسود البهيم فإنه
يقتل- بما يلي:
أولاً: حديث جابر رضي الله عنه، وفيه: ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:«عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان»
(3)
.
ثانياً: عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم»
(4)
.
(1)
انظر: التمهيد 16/ 168 - 169؛ إكمال المعلم 5/ 242.
(2)
انظر: التمهيد 16/ 171 - 173؛ إكمال المعلم 5/ 242؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 433، كتاب الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، ح (2845)، والترمذي في سننه ص 352، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في قتل الكلاب، ح (1486)، والنسائي في سننه ص 659، كتاب الصيد والذبائح، باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها، ح (4280)، وابن ماجة في سننه ص 542، كتاب الصيد، باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية، ح (3205)، وأحمد في المسند 27/ 343. قال الترمذي:(حسن صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 433.
ففي هذين الحديثين دلالة على عدم قتل الكلاب إلا الأسود البهيم؛ لذلك لا تقتل غير الأسود البهيم، ويقتل الأسود البهيم؛ لأن الأمر بقتله جاء مقروناً مع النهي عن قتل غيره
(1)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم الصواب- أن الراجح هو نسخ الأمر بقتل الكلاب إلا الأسود البهيم، فإن الأمر بقتله لم ينسخ؛ لذلك لا تقتل الكلاب التي لا ضرر فيها إلا الأسود البهيم، فإنه يقتل-كما هو القول الثالث-؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ تدل على أن النهي عن قتل الكلاب جاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بقتلها، لذلك يكون هذا النهي ناسخاً لذلك الأمر كما سبق بيانه.
ثانياً: إن الكلب الأسود كان يشمله الأمر بقتل الكلاب، فلما جاء النهي عن قتلها لم يشمله هذا النهي، بل جاء معه الأمر بقتله، فهو مستثنى
(1)
انظر: المغني 6/ 355، 356؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 80.
من هذا النهي، كما يدل عليه حديث جابر، وعبد الله بن مغفل-رضي الله عنهم. ولم يوجد بعد هذا الأمر ما يدل على النهي عن قتلهوالله أعلم.
الفصل الثاني الهجرة، والجهاد والسير
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الهجرة.
المبحث الثاني: الجهاد والسير.
المبحث الأول: الهجرة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الهجرة من مكة إلى المدينة.
المطلب الثاني: تحول من أسلم من داره إلى دار المهاجرين.
المطلب الثالث: الهجرة من دار الكفر.
المطلب الأول: الهجرة من مكة إلى المدينة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الهجرة
(1)
من مكة إلى المدينة
(2)
، كانت فرضاً على من أسلم من أهلها، وقدر عليها قبل فتح مكة، فلما فتح الله مكة على المسلمين نُسخت الهجرة منها.
وممن صرح بالنسخ: الرافعي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
، وابن حجر
(5)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في انقطاع الهجرة من مكة إلى المدينة
(1)
الهجرة من هجر، وهو لغة: المفارقة، والقطع، وضد الوصل. واصطلاحاً: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. انظر: مختار الصحاح ص 608؛ المصباح المنير ص 519، 520؛ المغني 13/ 149؛ التعريفات للجرجاني ص 256.
(2)
وبعضهم عبر عنه بالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: جامع البيان للطبري 4/ 2632؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 313؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 484؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 332.
(3)
هو: عبد الكريم بن محمد بن الفضل بن الحسين، الإمام أبو القاسم القزويني الرافعي. تفقه على والده، وعلى غيره، وسمع الحديث من جماعة، وأخذ منه محمد بن أحمد الإسفراييني، وغيره، ومن مؤلفاته:(العزيز شرح الوجيز)، وتوفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/ 264؛ طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 75؛ شذرات الذهب 5/ 108.
وانظر قوله بالنسخ في: العزيز شرح الوجيز 11/ 341.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 492 - 494.
(5)
انظر: فتح الباري 7/ 282؛ التلخيص الحبير 4/ 88.
بعد فتح مكة
(1)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
(2)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(3)
.
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى والثالثة. وانظر: التمهيد 13/ 261؛ المغني 13/ 151؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 493.
(2)
سورة النساء، الآيات (97 - 99).
(3)
سبق تخريجه في ص 997.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فتح مكة:«لا هجرة، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(1)
.
رابعاً: عن مجاشع بن مسعود السلمي
(2)
رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة، فقال:«إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام، والجهاد، والخير»
(3)
.
ويستدل منها: بأن هذه الآيات المذكورة تدل على وجوب الهجرة إلى المدينة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، لمن قدر عليها. والأحاديث المذكورة بعدها تدل على قطع الهجرة من مكة بعد فتحها.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة نسخ الهجرة وقطعها من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المدينة، بعد فتح مكة
(4)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 997.
(2)
هو: مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب، السلمي. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو عثمان النهدي، وكليب بن شهاب، وغيرهما، وقتل يوم الجمل، وقيل قبله. انظر: الإصابة 3/ 1766؛ تهذيب التهذيب 10/ 34؛ التقريب 2/ 158.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 600، كتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا، ح (2962)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 492، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، ح (1863)(83).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 313؛ معالم السنن 3/ 352؛ التمهيد 13/ 261؛ العزيز 11/ 341؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 329؛ المغني 13/ 149 - 151؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 492، 493؛ رسوخ الأحبار ص 491 - 494؛ التلخيص الحبير 4/ 88؛ عمدة القاري 10/ 79.
المطلب الثاني: تحول من أسلم من داره إلى دار المهاجرين
ذهب بعض أهل العلم إلى أن دعوة من أسلم إلى التحول من داره إلى دار المهاجرين كان أولاً، ثم نسخ ذلك، فإذا أسلم أهل بلد فلا يدعون إلى التحول من دراهم إلى درا المسلمين.
وممن صرح بالنسخ: ابن عبد البر
(1)
، وأبو حامد الرازي
(2)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز ترك الهجرة والتحول من الدار التي أسلم أهلها إلى دار المسلمين
(3)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرِيَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا
(1)
انظر: التمهيد 10/ 194.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 89.
(3)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين. وانظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 34؛ معالم السنن 3/ 352؛ التمهيد 13/ 261؛ المغني 13/ 151؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 493.
أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة
(1)
الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم أن تخفروا
(2)
ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أن تصيب حكم الله فيهم أم لا»
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(4)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية. وإذا
(1)
الذمة: العهد والأمان، وتأتي كذلك بمعنى الحرمة، والحق، والضمان، ويسمى أهل الذمة بأهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 611.
(2)
تخفروا، من خفر، يقال خفرت الرجل إذا أجرته وحفظته، وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 509، 510.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 316، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، ح (1731)(3).
(4)
سبق تخريجه في ص 997.
استنفرتم فانفروا»
(1)
.
رابعاً: عن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة، فقال:«إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام، والجهاد، والخير»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث بريدة رضي الله عنه يدل على أن من أسلم من المشركين فإنه يدعى إلى أن يتحول من داره إلى دار المسلمين، لكن هذا الحكم كان قبل فتح مكة، فلما فتح الله مكة على المسلمين، بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا هجرة بعد فتحها، فيكون حديث عائشة وابن عباس، ومجاشع-رضي الله عنهم-ناسخاً للتحول المذكور في حديث بريدة رضي الله عنه؛ لأنها بعده، وقد بين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاع الهجرة بعد فتح مكة
(3)
.
ولأن الهجرة هي الخروج من بلد الكفار، وإذا فتح بلد وأسلم أهله لم يبق بلداً للكفار، فلا يبقى منه هجرة
(4)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 997.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
انظر: معالم السنن 3/ 352؛ التمهيد 10/ 194؛ الاعتبار ص 482؛ المغني 13/ 150، 151؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 89.
(4)
انظر: المغني 13/ 151.
المطلب الثالث: الهجرة من دار الكفر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الهجرة كانت فرضاً قبل فتح مكة، فلما فتحت مكة نسخ فرض الهجرة وانقطع؛ لذلك لا تجب الهجرة بعد فتح مكة مطلقاً.
نسب ذلك ابن قدامة إلى قوم
(1)
، ويدل عليه إطلاق الخطابي
(2)
، والحازمي
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة: أن سبب الاختلاف في المسألة أمران: القول بالنسخ، واختلاف الأدلة الواردة فيها
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(6)
.
(1)
المغني 13/ 150. وانظر: التمهيد 13/ 261؛ الاعتبار ص 484 - 485.
(2)
انظر: معالم السنن 3/ 352.
(3)
انظر: الاعتبار ص 481، 484.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 89.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة. وانظر: التمهيد 13/ 261، 262؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 493؛ فتح الباري 6/ 49، 242، 7/ 283.
(6)
سبق تخريجه في ص 997.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فتح مكة:«لا هجرة، ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا»
(1)
.
ثالثاً: عن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة، فقال:«إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام، والجهاد، والخير»
(2)
.
رابعاً: عن صفوان بن أمية
(3)
رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! إنهم يقولون: إن الجنة لا
يدخلها إلا مهاجر؟! قال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا»
(4)
.
خامساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 997.
(2)
سبق تخريجه في ص 1183.
(3)
هو: صفوان بن أمية بن خلف بن وهب، الجمحي، شهد وقعة حنين قبل أن يسلم، ثم أسلم، وروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن المسيب، وعطاء، وغيرهما، وتوفي أيام مقتل عثمان رضي الله عنه، وقيل في أول خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة 2/ 900؛ التقريب 1/ 438.
(4)
أخرجه النسائي في سننه ص 643، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، ح (4169)، وأحمد في المسند 24/ 20. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/ 9:(إسناده صحيح).
(5)
أخرجه النسائي في سننه ص 643، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، ح (4171)، وأبو يعلى الموصلي في مسنده كما في اتحاف الخيرة المهرة 5/ 73. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ص 643.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على انقطاع فرض الهجرة بعد فتح مكة؛ لأنها عامة تشمل الهجرة من مكة ومن غيرها من البلاد. وقد كانت الهجرة واجبة قبل فتح مكة، فتكون هذه الأدلة ناسخة لوجوبها؛ لأنها متأخرة عما يدل على وجوب الهجرة
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث عامة لكنها تقيدها أحاديث أخر تدل على بقاء الهجرة ما قوتل العدو، فيكون المراد بهذه الأحاديث انقطاع الهجرة من مكة بعد فتحها، وكذلك من كل بلد أسلم أهلها، لأنها أصبحت دار إسلام، أما الهجرة من بلد لا يستطيع المسلم فيها إظهار دينه وإقامة فرائضه فإن الهجرة فريضة باقية في حقه غير منقطعة ولا منسوخة
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في انقطاع وجوب الهجرة من دار الكفر على قولين:
القول الأول: يجب الهجرة على الشخص إذا لم يستطع إظهار دينه، واستطاع الهجرة.
(1)
انظر: معالم السنن 3/ 352؛ الاعتبار ص 484 - 486؛ المغني 13/ 150.
(2)
انظر: التمهيد 13/ 262؛ المغني 13/ 150؛ عمدة القاري 10/ 79.
وهو قول عامة أهل العلم، منهم أصحاب المذاهب الأربعة
(1)
.
القول الثاني: إن الهجرة قد انقطعت بعد فتح مكة، فلا تجب على أحد.
وهو قول بعض أهل العلم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو وجوب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه إذا استطاع الهجرة- بأدلة منها ما يلي:
(3)
.
ثانياً: عن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع
(1)
انظر: "أحكام القرآن للجصاص 2/ 314؛ عمدة القاري 10/ 79؛ روح المعاني 5/ 186؛ " التمهيد 13/
262؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 484؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 332؛ " السنن الكبرى للبيهقي 9/ 30؛ العزيز 11/ 341؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 251، 6/ 493؛ فتح الباري 6/ 242، 7/ 282؛ " المغني 13/ 150؛ الشرح الكبير 10/ 36، 37؛ الفروع 10/ 237".
(2)
انظر: معالم السنن 3/ 352؛ المغني 13/ 150؛ الشرح الكبير 10/ 36.
(3)
سورة النساء، الآيات (97 - 99).
الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن السعدي
(2)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلت التوبةُ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كل قلبٍ بما فيه، وكُفي الناس العمل»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 376، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت؟ ح (2479)، وأحمد في المسند 28/ 111، والدامي في سننه 2/ 312، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 30. وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/ 33، وقال: (قلت: ورجال إسناده ثقات غير أبي هند فهو مجهول، لكنه لم ينفرد به-ثم ذكره من طريق آخر-وهو الحديث الآتي بعد هذا-، ثم قال: -وهذا إسناد شامي حسن).
(2)
هو: عبد الله بن وقدان بن عبد شمس، وقيل: اسم أبيه عمرو، وقيل: قدامة، القرشي العامري، وقيل له السعدي لأنه كان استرضع في بني سعد بن بكر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عبد الله بن محيريز، ومالك بن يخامر، وغيرهما، قيل: توفي في خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر:
الإصابة 2/ 1059؛ تهذيب التهذيب 5/ 210؛ التقريب 1/ 497.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 206. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 254: (رواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير ذكر حديث ابن السعدي، والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف وابن سعدي فقط، ورجال أحمد ثقات). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 5/ 34: (وهذا إسناد شامي حسن، رجاله كلهم ثقات، وفي ضمضم بن زرعة كلام يسير).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد، كلنا يطلب حاجة، وكنت آخرهم دخولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني تركت من خلفي، وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت؟ قال:«لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار»
(1)
.
رابعاً: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله لمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما»
(2)
.
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 643، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، ح (4172). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 643.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 400، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، ح (2645)، والترمذي في سننه ص 378، كتاب السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، ح (1604)، والطبراني في المعجم الكبير 2/ 343. قال أبو دود بعد ذكره للحديث:(رواه هشيم، ومعتمر، وخالد الواسطي، وجماعة، لم يذكروا جريراً). وقال الترمذي: (حدثنا هناد
…
عن قيس بن أبي حازم، مثل حديث أبي معاوية سواء، ولم يذكر فيه عن جرير، وهذا أصح، وفي الباب عن سمرة. وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، ولم يذكروا فيه عن جرير، ورواه حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير، مثل حديث أبي معاوية، وسمعت محمداً يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 400: (صحيح دون جملة العقل). وقال في إرواء الغليل 5/ 30: (وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين،
لكنهم أعلوه بالإرسال). ثم ذكر له بعض الطرق والشواهد مما يقويه.
خامساً: عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى ناس من خثعم، فاعتصموا بالسجود، فقتلهم، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، ثم قال:«أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين، لا ترايا ناراهما»
(1)
.
سادساً: عن جنادة بن أبي أمية
(2)
رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: الهجرة قد انقطعت، فاختلفوا في ذلك، قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أناساً يقولون: إن الهجرة قد انقطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهادُ»
(3)
.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 4/ 134. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 256: (رواه الطبراني، ورجاله ثقات). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 5/ 31: (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير -فذكر سنده ثم قال: -وهذا سند رجاله ثقات رجال البخاري إلا أن ابن غياث كان تغير حفظه قليلاً كما في التقريب).
(2)
هو: جنادة بن أبي أمية الأزدي، أبو عبد الله الشامي، يقال: اسم أبي أمية: كبير. صحابي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: حذيفة البارقي، وأبو الخير، وغيرهما. انظر: الإصابة 1/ 281؛ تهذيب التهذيب 2/ 107.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 27/ 142. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 254: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح). وصححه ابن حجر في الإصابة 1/ 281.
فهذه الأدلة تدل على بقاء الهجرة من دار الكفر ما كان العدو يقاتل، وأنها لم تنقطع، كما تدل على وجوبها على من لم يستطع إظهار دينه، وإقامة واجباته، واستطاع الهجرة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول القول الثاني-وهو أن الهجرة قد انقطع بعد فتح مكة، فلا تجب على أحد-بالأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ، وقد سبق ما يعترض به على الاستدلال منها.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو أن الهجرة لم تنقطع، ولم تنسخ، وأنها تجب على المسلم الذي يقيم في دار الحرب إذا استطاع الهجرة، ولم يتمكن من إظهار دينه، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين هذه الأحاديث كلها، وذلك بحمل ما يدل على انقطاع الهجرة، على انقطاعها من مكة، ومن كل بلد أسلم أهلها. وحمل ما يدل على عدم انقطاع الهجرة، على عدم انقطاعها من دار الكفر
(2)
.
وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى
(1)
انظر: التمهيد 13/ 262؛ المغني 13/ 151؛ العزيز 11/ 341؛ زاد المعاد 3/ 122.
(2)
انظر: المغني 13/ 150، 151.
القول بالنسخ.
ثانياً: ولأن أدلة هذا القول صريحة في بقاء الهجرة وعدم انقطاعها، ولا تحتمل غير ذلك، أما أدلة القول بالنسخ فإنها تحتمل أن يكون المراد بها انقطاع الهجرة من مكة بعد فتحها، وكذلك كل بلد فتح، وأسلم أهلها، كما تحتمل أن يكون المراد بها انقطاعها مطلقاً. ومع تطرق الاحتمال يضعف الاستدلال.
ثالثاً: ولأن حديث جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه يدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهادُ» قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله: «لا هجرة بعد الفتح» لذلك لما اختلف في ذلك بعض الصحابة، وفهموا منه انقطاع الهجرة مطلقاً، سأل أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تنقطع ما كان الجهاد، ويقاتل العدو.
وبهذا يبطل قول من قال بنسخ الهجرة مطلقاً؛ لأن حديث أمية رضي الله عنه هذا يدل تأخره على ما يخالفه.
والله أعلم.
المبحث الثاني: الجهاد والسير
.
وفيه أربعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: الكف عن القتال.
المطلب الثاني: القتال في الأشهر الحرم.
المطلب الثالث: دعوة المشركين قبل قتالهم.
المطلب الرابع: قتل أولاد المشركين ونسائهم.
المطلب الخامس: ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين.
المطلب السادس: تحريق العدو وتعذيبه بالنار.
المطلب السابع: الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين.
المطلب الثامن: أخذ السلب من غير بينة.
المطلب التاسع: إعطاء النفل من الغنيمة.
المطلب العاشر: المن بأسرى الكفار ومفادتهم.
المطلب الحادي عشر: مبايعة النساء باليد.
المطلب الثاني عشر: حرق متاع الغال.
المطلب الثالث عشر: الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً.
المطلب الرابع عشر: سكنى الكفار بأرض الحجاز.
المطلب الأول: الكف عن القتال
ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أن جهاد
(1)
المشركين وقتالهم كان قبل الهجرة ممنوعاً ومنهياً عنه، ثم نسخ الله ذلك فأذن بقتالهم، ثم أوجب ذلك على المسلين
(2)
.
وممن صرح به: ابن عباس
(3)
، وأبو عبيد
(4)
، وأبو جعفر النحاس
(5)
، والبيهقي
(6)
، وابن حزم
(7)
، وابن السمعاني
(8)
، وابن العربي
(9)
، والقرطبي
(10)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في فرض الجهاد ومقاتلة المشركين إذا
(1)
الجهاد من جهد، وهو لغة: المشقة، والوسع والطاقة. انظر: مختار الصحاح ص 101؛ المصباح المنير ص 101.
واصطلاحاً: هو الدعاء إلى الدين الحق، والقتال مع من امتنع عن القبول بالنفس والمال. العناية على الهداية للبابرتي 5/ 437.
أو هو: قتال مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حضوره له أو دخوله أرضه. مواهب الجليل 4/ 536.
(2)
انظر: جامع البيان 10/ 6196 - 6198؛ أصول السرخسي 2/ 77؛ نواسخ القرآن 1/ 129، 267؛ شرح الكوكب المنير 3/ 550؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 190.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 190 - 201.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 193.
(6)
انظر: السنن الكبرى 9/ 19.
(7)
انظر: الإحكام 1/ 495.
(8)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 429.
(9)
انظر: أحكام القرآن 3/ 1296.
(10)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 66.
توفرت الشروط، وإن اختلفوا في هل هو فرض عين أو على الكفاية
(1)
.
ويدل على ما سبق أدلة منها ما يلي:
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
(3)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
(1)
إلا ما روي عن عبد الله بن حسن أنه تطوع، وهو خلاف شاذ. راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 436، 437؛ العناية على الهداية 5/ 437"؛ بداية المجتهد 2/ 734؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 535، 536"؛ الأم 4/ 173؛ مختصر المزني ص 352"؛ المغني 13/ 6؛ الشرح الكبير 10/ 6؛ الإنصاف 10/ 11.
(2)
سورة النساء، الآية (77).
(3)
سورة الحج، الآية (39).
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}
(1)
.
(2)
.
خامساً: قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}
(3)
.
(4)
.
سابعاً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
(1)
سورة النساء، الآيات (74 - 76).
(2)
سورة التوبة، الآية (5).
(3)
سورة التوبة، الآية (14).
(4)
سورة التوبة، الآية (29).
كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
(1)
.
(2)
.
تاسعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم! إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكن، فنزلت:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فعرفت أنه سيكون قتال. قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال
(3)
.
عاشراً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلة! فقال:«إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا» . فلما حولنا الله إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفُّوا، فأنزل الله
(1)
سورة التوبة، الآية (36).
(2)
سورة البقرة، الآية (216).
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 475، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ح (3085)، والحاكم في المستدرك 2/ 76، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 19. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 475:(صحيح الإسناد).
عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة النساء: 77]
(1)
.
حادي عشر: عن أسامة بن زيد
(2)
رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار، على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد لله بن أبيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلسَ عجاجةُ
(3)
الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول. إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 475، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ح (3086)، والحاكم في المستدرك 2/ 76، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 19، والواحدي في أسباب النزول ص 111. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري)، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في صحيح سنن النسائي ص 475:(صحيح الإسناد).
(2)
هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو هريرة، وابن عباس، وغيرهما، واعتزل الفتن إلى أن مات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة أربع وخمسين. انظر: الإصابة 1/ 33؛ تهذيب التهذيب 1/ 189.
(3)
العجاجة: الغبار. انظر: القاموس المحيط ص 180؛ فتح الباري 8/ 92.
عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتثاورون
(1)
، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أيا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ -يريد عبد الله بن أبيّ- قال كذا وكذا» قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة
(2)
على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة
(3)
، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق
(4)
بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
(1)
يتثاورون من الثور، وهو الوثب والهيجان. ويقال: ثار إذا قام بسرعة وانزعاج. انظر: القاموس المحيط ص 324؛ فتح الباري 8/ 92.
(2)
البحيرة تصغير البحرة، وهي البلد، والقرية. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 106.
(3)
يعصبوه بالعصابة أي يسودوه ويملكوه، وكانوا يسمون السيد المطاع: معصباً، لأنه يعصب بالتاج، أو تعصب به أمور الناس أي ترد إليه وتدار. أو لأنهم يعصبون رؤوسهم بعصابة لا تنبغي لغيرهم. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 212؛ فتح الباري 8/ 92.
(4)
شرق أي غص، يقال: شرق الميت بريقه إذا غص به. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 861.
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية
(1)
. وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية
(2)
، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً فقتل الله به صناديد
(3)
كفار قريش، قال أبيّ بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن مجموع هذه الأدلة تدل على أن قتال الكفار لم يكن مشروعاً قبل الهجرة، بل كان الأمر بالكف، والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين. ثم أذن الله بقتالهم من دون إيجاب، ثم أمر بقتالهم جميعاً وأوجب ذلك. فثبت منها نسخ الكف عن قتالهم،
(1)
سورة آل عمران، الآية (186).
(2)
سورة البقرة، الآية (109).
(3)
صناديد جمع صنديد، وهو العظيم والكبير والرئيس في قومه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 54؛ فتح الباري 8/ 93.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 944، كتاب التفسير، باب {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} ، ح (4566)، ومسلم في صحيحه 6/ 414، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، ح (1798)(116).
وكذلك الإذن غير الموجب لقتالهم، ووجب قتالهم جميعاً
(1)
.
هذا وقد ذهب بعض أهل ا لعلم إلى أن آية الكف عن القتال وكذلك الآيات التي فيها الأمر بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين ليس نسخها نسخاً مطلقاً بمعنى رفع الحكم جملة وبالكلية، وعدم جواز العمل بها في أي وقت، بل إن حصل للمسلمين حالة ضعف في وقت أو في بلدة فلهم أن يعملوا بموجب تلك الآيات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 190؛ جامع البيان 2/ 1160، 10/ 6196 - 6198؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 19 - 21؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 193؛ أصول السرخسي 2/ 77؛ أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1296؛ نواسخ القرآن 1/ 129، 267؛ الجامع لأحكام القرآن 12/ 66؛ شرح الكوكب المنير 3/ 550؛ إرشاد الفحول 2/ 60.
أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
(1)
.
والله أعلم.
(1)
الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 221.
المطلب الثاني: القتال في الأشهر الحرم
لا خلاف بين أهل العلم في جواز القتال في الأشهر الحرم- وهي: ذو القعدة، وذوا الحجة، والمحرم، ورجب-إذا بدأ العدو
(1)
.
واختلفوا في ابتداء القتال فيها، فذهب جمهور أهل العلم، إلى أن القتال في الأشهر الحرم كان منهياً عنه وغير جائز، ثم نُسخ ذلك وصار القتال فيها جائزاً.
وهو مذهب الأئمة الأربعة
(2)
، وقال به كذلك: ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وقتادة، والأوزاعي
(3)
، وابن جرير
(1)
انظر: زاد المعاد 3/ 340؛ الفروع 10/ 47.
(2)
ذكر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 33: أن العلماء أجمعوا على ذلك غير عطاء. ونحوه قول ابن العربي في أحكام القرآن 1/ 147. ونسبه ابن القيم في زاد المعاد 3/ 340، إلى جمهور أهل العلم، وأنه مذهب الأئمة الأربعة. وكذلك نسبه إلى الجمهور القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 3/ 43. وانظر كذلك: أحكام القرآن للجصاص 1/ 390؛ المبسوط للسرخسي 10/ 28؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 19؛ البيان للعمراني 12/ 101؛ نواسخ القرآن 1/ 271؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 5.
(3)
نسب القول بالنسخ إلى ابن عباس، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، وقتادة والأوزاعي. أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ في القرآن ص 33. وانظر قول قتادة في كتابه: الناسخ والمنسوخ في كتاب الله ص 33.
الطبري
(1)
، والجصاص
(2)
، والبيهقي
(3)
، وأبو جعفر النحاس
(4)
، والسرخسي
(5)
، والحازمي
(6)
، وابن الجوزي
(7)
، وأبو حامد الرازي
(8)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف
الأدلة الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(9)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
(10)
.
ثانياً: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 1171.
(2)
انظر: أحكام القرآن له 1/ 390.
(3)
انظر: السنن الكبرى 9/ 19.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 33.
(5)
انظر: المبسوط 10/ 28.
(6)
انظر: الاعتبار ص 498.
(7)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 271؛ المصفى بأكف أهل الرسوخ ص 20.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 91.
(9)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة.
(10)
سورة البقرة، الآية (217).
الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
.
(2)
.
(3)
.
خامساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنيناً، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، قال: فصُفّت الخيل، ثم صُفَّت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، قال: ونحن بشر كثير، قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مُجَنَّبة خيلنا خالد بن الوليد، قال: فجعلت خيلنا تلوى خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس. قال: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يالَ المهاجرين! يالَ المهاجرين!» ، ثم قال: «يالَ الأنصار!
(1)
سورة التوبة، الآية (5).
(2)
سورة التوبة، الآية (29).
(3)
سورة التوبة، الآية (36).
يالَ الأنصار!». قال: قال أنس: هذا حديث عِمِّيَّة
(1)
، قال: قلنا لبيك يا رسول الله! قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فايم الله! ما أتيناهم حتى هزمهم الله، قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة. ثم رجعنا إلى مكة، فنزلنا. قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة من الإبل
(2)
.
سادساً: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر
(3)
، على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة
(4)
، فقُتل دريد، وهزم الله أصحابه، الحديث
(5)
.
(1)
عمية: قيل: معناه: جماعتي. وقيل: معناه: أعمامي. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 386.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 385، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، ح (1059)(136).
(3)
هو: عبيد بن سليم بن حضار، الأشعري، عم أبي موسى الأشعري، هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى أوطاس بعد فتح مكة، واستشهد في تلك الغزوة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 181؛ الإصابة 4/ 2289.
(4)
هو دريد بن الصمة-الحارث- بن بكر بن علقمة، الجشمي، من هوازن، والصمة لقب لأبيه، وكان شجاعاً مجرباً، وقتله ربيعة بن رفيع، وقيل غيره. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 439؛ البداية والنهاية 4/ 293؛ فتح الباري 7/ 684؛ الرحيق المختوم ص 413.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 888، كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، ح (4323)، ومسلم في صحيحه 8/ 120، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين، ح (2498)(165).
سابعاً: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر في شهر المحرم سنة سبع
(1)
.
ثامناً: إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه عند الشجرة بيعة الرضوان على القتال، وأن لا يفروا، وكانت ذلك في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف
(2)
.
تاسعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أي في الشهر الحرام {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي عظيم، فكان القتال محظوراً حتى نسخته آية السيف في براءة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(3)
. فأبيحوا القتال في الأشهر الحرم وفي غيرها
(4)
.
عاشراً: عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من المسلمين، وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي
(5)
، فانطلقوا حتى
(1)
جمهور أهل السير على أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى خيبر في المحرم. وذهب ابن القيم إلى أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كان في أواخر المحرم، وفتحها كان في صفر. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 328؛ زاد المعاد 3/ 339؛ البداية والنهاية 4/ 156؛ فتح الباري 7/ 576؛ الرحيق المختوم ص 365.
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 1171؛ زاد المعاد 3/ 340؛ فتح الباري 7/ 542.
(3)
سورة التوبة، الآية (5).
(4)
أخرجه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 33.
(5)
هو: عبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر الأسدي، حليف بني عبد شمس، أحد السابقين، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وكان أول أمير في الإسلام، ودعا الله يوم أحد أن يرزقه الشهادة، فقتل بها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 302؛ الإصابة 2/ 1020.
هبطوا نخلة، فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي
(1)
، في عير تجارة لقريش، فذكر الحديث في قتل ابن الحضرمي، ونزول قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] قال: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي، وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: 1]
(2)
.
حادي عشر: عن الزهري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام، ثم أحل بعد)
(3)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بالوجوه الآتية:
أولاً: إن الآية الأولى تدل على تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام، وكان نزول هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة، ثم أمر الله بقتال المشركين عامة دون استثناء شهر من غيره، في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
(1)
هو: عبد الله بن عباد بن عمرو بن مالك الحضرمي الكندي. قتله عبد الله بن واقد رضي الله عنه. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 602، 603؛ البداية والنهاية 3/ 217، 218.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 21.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان 2/ 1171، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 271، ورجال الطبري بعد شيخه الحسن بن يحيى إلى الزهري رجال الصحيح.
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}
(1)
.
ففي هذه الآية أمر سبحانه وتعالى بقتال المشركين حيثما وجدوا، ولم يستثن سبحانه وتعالى شهراً حراماً من غيره، ولم يجعل حرمة إلا لزمن التسيير-الأشهر الأربعة- في قوله:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}
(2)
. وهذا هو المراد بالأشهر الحرم في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}
(3)
.
فتكون هذه الآية ناسخة للنهي عن قتال المشركين في الشهر الحرام
(4)
.
ويؤكد صحة ذلك:
أ- ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أي في الشهر الحرام {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي عظيم، فكان القتال محظوراً حتى نسخته آية
(1)
سورة التوبة، الآية (5).
(2)
سورة التوبة، الآية (2).
(3)
سورة التوبة، الآية (5).
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 208؛ جامع البيان 2/ 1171؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 21؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 34؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 147؛ تفسير ابن كثير 2/ 5.
السيف في براءة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(1)
. فأبيحوا القتال في الأشهر الحرم وفي غيرها
(2)
.
وروي عن علي رضي الله عنه نحوه
(3)
.
ب- ما روي عن عروة قوله: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي، وحرم الشهر الحرام
كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: 1]
(4)
.
(5)
. -وغيره من الآيات- يدل على جواز قتال المشركين في كل الشهور.
فتكون هذه الآيات ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام
(6)
.
(1)
سورة التوبة، الآية (5).
(2)
سبق تخريجه في ص 1203.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 270.
(4)
سبق تخريجه في ص 1203.
(5)
سورة التوبة، الآية (29).
(6)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 208؛ جامع البيان 2/ 1171؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 21؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 34؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 147؛؛ نواسخ القرآن 1/ 271؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 43.
واعترض عليه: بأن هذه الآيات عامة في الأزمنة، والآية التي تدل على تحريم القتال في الشهر الحرام خاص، والعام لا ينسخ الخاص
(1)
.
وقد يجاب: بأن نزول العام بعد الحكم الخاص لا يصلح ناسخاً له؛ لإمكان الجمع بينهما، بحمل العام على ما عداء محل الخصوص. إلا أن هذه العمومات لما عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعمومها بعد نزولها على خلاف مقتضى الخاص فإنه يصلح كونه ناسخاً له، لا بمجرد كونه عاماً بل بما اقترن معه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف الحكم الخاص. ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل على خلاف هذا الحكم الخاص ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-وعروة، والزهري. وقد سبق ذكرها.
ثانياً: -من وجوه النسخ- أن قوله تعالى في سورة براءة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
(2)
. ناسخ للنهي عن القتال في الشهر الحرام؛ لأن معناه: لا تظلموا فيهن أنفسكم بالامتناع من قتال المشركين ليجترؤوا عليكم، بل قاتلوهم
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 147؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 43.
(2)
سورة التوبة، الآية (36).
كافة في أشهر الحرم، وفي غيرهن. وهذه الآية بعد آية النهي عن القتال في الشهر الحرام، فتكون ناسخة لها
(1)
.
ثالثاً: -من وجوه النسخ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وأرسل أبا عامر صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس بعد حنين لحرب من بها من المشركين، في بعض الأشهر الحرم؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في شوال، ففتح الله عليه، ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وقيل أربعين ليلة كما في رواية أنس رضي الله عنه، ولا شك أن بعض ذلك كان في ذي القعدة بلا شك. ولو كان القتال في الشهر الحرام حراماً لكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عنه.
وكذلك غزو النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كان في بعض شهر المحرم.
كما أن بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في أول ذي القعدة، بلا خلاف بين أهل السير. فلو كان القتال حراماً في الشهر الحرام لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على قتالهم.
فثبت من كل هذا أن القتال في الشهر الحرام جائز، وأن النهي عنه قد نسخ؛ لأن النهي عنه كان في السنة الثانية، وهذه الغزوات غزاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فلو لم يكن النهي عنه منسوخاً لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغزوات في بعض الأشهر الحرم
(2)
.
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 1171؛ المبسوط للسرخسي 10/ 28.
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 1171، 1172؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 34؛ المبسوط للسرخسي 10/ 28؛ زاد المعاد 3/ 340.
ويؤكد ذلك ما سبق من قول الزهري-وفي معناه قول عروة-: كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام، ثم أحل بعد
(1)
.
واعترض عليه: بأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر كان في أواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر.
أما بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، فإنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان رضي الله عنه وأنهم يريدون قتاله، ولم يكن البيعة على ابتداء القتال الذي
هو محل الخلاف.
أما حصار النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فبعضه كان في ذي القعدة، لكن غزو الطائف كان من تمام غزوة هوازن وهم بدؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال، فلما انهزموا دخل بعضهم مع ثقيف في حصن الطائف محاربين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أن غزوة أوطاس في ذي القعدة كانت من تمام الغزوة التي بدء فيها المشركون بالقتال، وهي غزوة حنين، ولم يكن ابتداء منه صلى الله عليه وسلم لقتالهم في الشهر الحرام
(2)
.
وقد يجاب عن هذا بما يلي:
أ-بأن ما ذكر احتمالات
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1203.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/ 340 - 341؛ الفروع 10/ 47.
(3)
انظر: الفروع 10/ 47.
ب-أن أهل العلم اختلفوا في تاريخ غزوة خيبر، فقيل: كانت في آخر السنة السادسة بعد الحديبية، وعلى هذا فتكون هي في شهر ذي الحجة
(1)
.
وقيل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليها في المحرم، وحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر
(2)
.
وعلى كلا القولين فإن ابتداء القتال يكون في شهر حرام إما ذي الحجة أو محرم
(3)
.
ج-أن الأدلة التي تدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم لا تفرق بين ابتداء القتال فيها، وبين ملاحقة المشركين وقتالهم بعد تفرقهم في البلاد، لإتمام الغزوة التي ابتدؤوها
(4)
.
د-أن المشركين لما انهزموا في حنين، وتفرقوا في البلاد، فملاحقتهم وقتالهم حتى يقتلوا أو أن يسلموا لم يكن واجباً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر
(1)
وهو قول الإمام مالك، وابن حزم. انظر: زاد المعاد 3/ 316؛ فتح الباري 7/ 577.
(2)
وهو قول محمد بن إسحاق وبعض الآخرين، ورجحه ابن حجر. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 328؛ زاد المعاد 3/ 339؛ فتح الباري 7/ 576، 577.
(3)
هكذا يظهر لي- والله أعلم بالصواب- وذكر ابن القيم في زاد المعاد 3/ 339: أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كان في أواخر المحرم، لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر. ولم يذكر دليله، ولا ما يرد به على أقوال الآخرين. ويظهر لي-والله أعلم- أن جوابه عن وقوع غزوة خيبر في شهر حرام من أضعف أجوبته عن أدلة القول بالنسخ.
(4)
انظر: جامع البيان 2/ 1171.
الطائف مدة، وبعض ذلك كان في ذي القعدة، ثم ارتحل عنها قبل أن يفتحها
(1)
، فلو كان ملاحقتهم وقتالهم واجباً حتى يقتلوا أو يسلموا لما تركهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحصار الطويل. فكيف يرتكب المحظور-وهو القتال في الشهر الحرام على القول بعدم نسخه- لأجل أمر لم يكن واجباً؟.
رابعاً: -من وجوه النسخ- أن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
(2)
. لا يدل على حظر قتال المشركين في الشهر الحرام، بل يدل على جوازه، فهو ناسخ للنهي عن قتال المشركين
(3)
؛ وذلك أنه نزل حين قتل بعض المسلمين بعض المشركين في الشهر الحرام، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعير المشركون المسلمين بذلك، فأنزل الله هذه الآية وبين فيها أن ما يفعله المشركون وما هم عليه أكبر من قتلهم في الشهر الحرام، فأباح بذلك قلتهم في الشهر الحرام. ويدل على هذا ما رواه الزهري وغيره عن عروة قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 484؛ الرحيق المختوم ص 419.
(2)
سورة البقرة، الآية (217).
(3)
بنحو هذا قال الحازمي، وأبو حامد الرازي. انظر: الاعتبار ص 498 - 500؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 91.
الأنصار أحد، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحداً. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين، من بني عبد شمس: أبو حذيفة بن ربيعة
(1)
، ومن بني أمية بن عبد شمس ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رياب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حرثان أحد بني أسد بن خزيمة، ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان
(2)
، حليف لهم، ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم، وواقد بن عبد الله
(3)
بن مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع
(1)
هو: أبو حذيفة-مُهَشِّم-بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، القرشي العبشمي، وقيل: اسمه: هاشم، وقيل: هشيم، أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد بدراً، واستشهد يوم اليمامة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 158؛ الإصابة 4/ 2195.
(2)
هو: عتبة بن غزوان بن جابر بن وهيب، حليف بني عبد شمس، أو بني نوفل، أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عتبة بن إبراهيم، وغنيم بن قيس، وغيرهما، وهو الذي اختط البصرة، وتوفي سنة سبع عشرة، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 2/ 1229؛ تهذيب التهذيب 7/ 89؛ التقريب 1/ 653.
(3)
هو: واقد بن عبد الله بن عبد مناف، التميمي الحنظلي، اليربوعي، حليف بني عدي بن كعب، شهد بدراً، وهو أول من قتل قتيلاً بالإسلام من المشركين، وتوفي في أول خلافة عمر رضي الله عنه. انظر: الإصابة 3/ 2076.
ابن حنظلة، وخالد بن البكير
(1)
، أحد بني سعد بن ليث حليف لهم، ومن بني الحرث بن فهر: سهيل بن بيضاء. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه:«إذا نظرت إلى كتابي هذا، فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم» فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى أصحابه معه، فلم يتخلف عنه أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأُدماً، وتجارة من تجارة قريش، فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة
(2)
، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة
(3)
، المخزوميان،
(1)
هو: خالد بن بكير بن عبد ياليل بن ناشب، الليثي، حليف بني عدي بن كعب، أحد السابقين، وشهد بدراً، واستشهد يوم الرجيع. انظر: الإصابة 1/ 456.
(2)
هو: عثمان بن عبد الله بن المغيرة، المخزومي، استأسره المسلمون، ففداه المشركون، ومات كافراً. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 603، 604؛ البداية والنهاية 3/ 218.
(3)
هو: نوفل بن عبد الله بن المغيرة، المخزومي، أخو عثمان بن عبد الله بن نوفل. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 603، 604؛ البداية والنهاية 3/ 218.
والحكم بن كيسان
(1)
، مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عُمّار، فلا بأس علينا منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، فقال القوم: لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام. فتردد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم. وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمس، وذلك قبل أن يفرض الخمس من الغنائم. فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها على أصحابه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه
(1)
هو: الحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة المخزومي، والد أبي جهل، أسره المسلمون، ثم أسلم، وقتل شهيداً ببئر معونة. انظر: الإصابة 1/ 395.
الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. وقالت يهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمرت الحرب، و الحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب. فجعل الله عليهم ذلك، وبهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أي عن قتال فيه، {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى قوله:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم عنه، إذا أنتم أهله وولاته، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين)
(1)
.
(1)
ذكره ابن هشام في السيرة النبوية 1/ 601 - 604، وأخرجه الطبري في جامع البيان 2/ 1165، وأخرج نحوه الحازمي في الاعتبار ص 498 - 500 - موقوفاً على محمد بن إسحاق-. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 21 - مختصراً-. قال الحازمي بعد ذكره:(هذا الحديث وإن كان ابن إسحاق رواه منقطعاً فإن له أصلاً في المسند، وهو مشهور في المغازي متداول بين أهل السيرة، ورواه الزهري عن عروة نحوه، وهو من جيد مراسيل عروة، غير أن حديث ابن إسحاق أتم، وإن صح الحديث فهو من قبيل نسخ السنة بالكتاب).
فهذا يدل على أن حظر قتال المشركين في الشهر الحرام والذي يدل عليه الحديث قد نسخ بهذه الآية؛ حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها قبض العير والأسيرين، فدل ذلك على جواز ما فعله هؤلاء الرهط، ونسخ النهي عن قتال المشركين في الشهر الحرام
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذا الفهم من الآية وهو جواز قتال المشركين في الشهر الحرام، مخالف لفهم جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم؛ حيث إنهم فهموا منها النهي عن القتال في الشهر الحرام
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وفي المسألة قول ثان، وهو: عدم جواز ابتداء القتال في الشهر الحرام، وأنه غير منسوخ.
وهو قول بعض أهل العلم، منهم عطاء بن أبي رباح، واختاره ابن القيم
(3)
.
ويستدل له بما يلي:
(1)
انظر: الاعتبار ص 500؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 91.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 208؛ جامع البيان 2/ 1171؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 21؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 34؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 147؛؛ نواسخ القرآن 1/ 271؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 43.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 207؛ جامع البيان 2/ 1171؛ زاد المعاد 3/ 341؛ تفسير ابن كثير 2/ 5.
أولاً: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}
(2)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى-أو يغزو-فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ)
(3)
.
فهذه الأدلة تدل على تحريم القتال في الشهر الحرام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى. وسورة المائدة من آخر ما نزلت، فدل ذلك على أن تحريم القتال في الشهر الحرام باق، ولم ينسخ
(4)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأدلة تدل على النهي عن القتال في الشهر الحرام، لكن الأدلة التي يستدل منها على النسخ معها ما يدل على تأخرها على هذه الأدلة فتكون هذه الأدلة منسوخة بها كما سبق بيانه.
وسورة المائدة وإن كانت من أواخر ما نزل، فسورة التوبة كذلك
(1)
سورة البقرة، الآية (217).
(2)
سورة المائدة، الآية (2).
(3)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 207، وأحمد في المسند 22/ 438، والطبري في جامع البيان 2/ 1163، والجصاص في أحكام القرآن 1/ 389. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 69:(رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح).
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 207؛ جامع البيان 2/ 1171؛ زاد المعاد 3/ 341.
من أواخر ما نزل
(1)
، ويدل على تأخر ما يدل على نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام على ما يدل على جوازه، أن قوله تعالى في سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
(2)
. يدل على عدم التعرض لمن يريد البيت وإن كان غير مسلم
(3)
، ثم جاء النهي عن أن يحج البيت مشرك في قوله تعالى في سورة التوبة:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(4)
.
(1)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 317؛ فتح الباري 8/ 190، 191.
(2)
سورة المائدة، الآية (2).
(3)
انظر: جامع البيان 4/ 2831 - 2835؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 41، 42؛ تفسير ابن كثير 2/ 6.
(4)
سورة التوبة، الآيات (1 - 3).
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان
(2)
.
فهذا يدل على أن الآية التي تدل على جواز قتال المشركين في جميع الشهور متأخر على آية المائدة التي تدل على عدم جواز القتال في الشهر الحرام
(3)
.
الراجح
بعد سرد القولين في المسألة، وما يستدل به لكل قول، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-
أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
(1)
سورة التوبة، الآية (28).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 968، كتاب التفسير، باب قوله:{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ، ح (4655)، ومسلم في صحيحه 5/ 245، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ح (1347)(435).
(3)
انظر: جامع البيان 4/ 2828 - 2835؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 117.
أولاً: لأن أدلة هذا القول بمجموعها تصلح للاحتجاج بها على نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام.
ثانياً: ولأن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة
(1)
.
وهو وإن كان محل نظر؛ لما سبق من الاختلاف في المسألة، إلا أنه يؤيد القول بالنسخ؛ لأنه كالممتنع أن يذهب أهل العلم كافة- إلا واحد أو اثنان- إلى القول بالنسخ، ولا يكون لقولهم مستند يدل عليه.
قال أبو عبيد: (والناس اليوم بالثغور جميعاً على هذا القول، يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها حلالها وحرامها، لا فرق في ذلك عندهم، ثم لم أر أحد من علماء الشام والعراق ينكره عليهم، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز)
(2)
.
والله أعلم.
(1)
وممن حكاه أبو جعفر الطبري. انظر: جامع البيان 4/ 2835؛ تفسير ابن كثير 2/ 5.
(2)
الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 208.
المطلب الثالث: دعوة المشركين قبل قتالهم
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر بدعوة المشركين إلى الإسلام قبل قتالهم قد نسخ؛ لذلك يباح قتالهم قبل دعوتهم إلى الإسلام إذا كانوا قد بلغتهم الدعوة.
وممن صرح بالنسخ: أبو عوانة
(1)
، والحازمي
(2)
، والرازي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
. ونسبه ابن رشد، والحازمي إلى جمهور أهل العلم
(5)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة أمران: القول بالنسخ، واختلاف الأدلة الواردة فيها
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ، بما يلي:
أولاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرِيَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث
(1)
انظر: مسند أبي عوانة 4/ 209.
(2)
انظر: الاعتبار ص 488.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 89.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 496.
(5)
انظر: بداية المجتهد 2/ 747؛ الاعتبار ص 489.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: المغني 13/ 29 - 31.
خصال (أو خلال) فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله
وقاتلهم» الحديث
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم)
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عون
(3)
، قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال. قال: فكتب إليّ: (إنما كان ذلك في أول الإسلام. قد أغار رسول
(1)
سبق تخريجه في ص 1185.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 16، والدارمي في سننه 2/ 286، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 207، والحاكم في المستدرك 1/ 61، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 181. وصححه الحاكم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 307:(رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح).
(3)
هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، المزني مولاهم، أبو عون البصري، ثقة، روى عن ابن سيرين، والشعبي، و غيرهما، وروى عنه: الثوري، وشعبة، وغيرهما، وتوفي سنة خمسين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 307؛ التقريب 1/ 520.
الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارُّون
(1)
. وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش)
(2)
.
رابعاً: عن البراء بن عازب-رضي الله عنهما-قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الأنصار إلى أبي رافع
(3)
، فدخل عليه عبد الله بن عتيك
(4)
بيته ليلاً، فقتله وهو نائم)
(5)
.
(1)
غارون أي غافلون، والغار الغافل. انظر: القاموس المحيط ص 405.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 504، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، ح (2541)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 313، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة، ح (1730)(1).
(3)
هو: عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال: سلام بن أبي الحقيق، أبو رافع اليهودي، كان أحد من حزب الأحزاب على المسلمين، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه رهطاً من الأنصار من الخزرج، أميرهم عبد الله بن عتيك، فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلاً فقتله. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 273275؛ فتح الباري 7/ 414، 415؛ الرحيق المختوم ص 319.
(4)
هو: عبد الله بن عتيك بن قيس بن الأسود، الخزرجي الأنصاري، شهد أحداً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه محمد، وغيره، واستشهد باليمامة سنة اثنتي عشرة. انظر: الإصابة 2/ 1088.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 613، كتاب الجهاد والسير، باب قتل المشرك النائم، ح (3023).
خامساً: عن الصعب بن جثامة
(1)
رضي الله عنه قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيُصيبون من نسائهم وذراريِّهم؟ فقال: «هم منهم»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث بريدة، وابن عباس-رضي الله عنهم يدلان على وجوب دعوة العدو من المشركين إلى الإسلام قبل القتال.
وحديث نافع عن ابن عمر، وكذلك حديث البراء، والصعب بن جثامة-رضي الله عنهم تدل على جواز قتال العدو قبل الدعوة إلى الإسلام. وقد بين نافع أن الدعوة إلى الإسلام قبل القتال كان في أول الإسلام. فتكون هذه الأحاديث-حديث ابن عمر، والبراء، والصعب بن جثامة-رضي الله عنهم-ناسخة لما يدل عليه حديث بريدة وابن عباس-رضي الله عنهم من وجوب دعوة العدو قبل القتال إلى الإسلام؛ لأن معها ما يدل على تأخرها على ذلك، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر
(1)
هو: الصعب بن جثامة بن قيس بن ربيعة، الليثي، حليف قريش، هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسكن بودان، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة 2/ 897؛ تهذيب التهذيب 4/ 385؛ التقريب 1/ 437.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 610، كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري، ح (3012)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 325، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، ح (1745)(26).
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
واعترض عليه: بأنه إن أريد بحديث بريدة رضي الله عنه وما في معناه، وجوب الدعوة مطلقاً، فيكون ذلك منسوخاً، كما سبق بيانه في وجه الاستلال على النسخ.
لكن يمكن أن يكون تلك الأحاديث في حق من لم تبلغه الدعوة، وعليه فلا يصار إلى القول بالنسخ؛ لأنه إنما يصار إليه عند عدم إمكان الجمع بين الأدلة المختلفة، وفي هذه المسألة يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة فيها؛ وذلك بحمل ما يدل على الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة. وحمل ما يدل على ترك الدعوة، لمن بلغته
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في دعوة المشركين قبل قتالهم على قولين:
القول الأول: إن من لم تبلغهم دعوة الإسلام فإنه يجب دعوتهم قبل القتال، ومن بلغتهم الدعوة فيباح قتالهم بلا تكرار الدعوة لكن تستحب دعوتهم قبل بدء القتال.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وقول
(1)
انظر: بداية المجتهد 2/ 747؛ الاعتبار ص 488 - 491؛ رسوخ الأحبار ص 496.
(2)
انظر: الاعتبار ص 492؛ رسوخ الأحبار ص 496.
(3)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 824؛ شرح معاني الآثار 3/ 210؛ المبسوط للسرخسي 10/ 32؛ بدائع الصنائع 6/ 61، 62؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 444، 445.
(4)
انظر: المهذب وشرحه تكملة المجموع 21/ 101 - 103؛ البيان 12/ 120، 121؛ الاعتبار ص 490؛ العزيز 11/ 380؛ روضة الطالبين ص 1801؛
(5)
انظر: المغني 13/ 29، 30؛ الشرح الكبير 10/ 128؛ الفروع 10/ 236؛ الإقناع 2/ 67.
عند المالكية
(1)
.
القول الثاني: يجب الدعوة قبل القتال، سواء بلغتهم الدعوة أم لا.
وهو قول آخر عند المالكية، قيل هو المشهور
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث بريدة، وابن عباس-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديث ابن عمر، والبراء بن عازب، والصعب بن جثامة-رضي الله عنهم. وقد سبق ذكرها كذلك في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: عن سهل بن سعد رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه» فقاموا يرجون لذلك أيهم يُعطى. فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى. فقال: «أين علي؟» ، فقيل: يشتكي عينيه. فأمر به فدُعي له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء. فقال: نقاتلهم حتى يكون مثلنا؟ فقال: «على رِسْلِك
(3)
حتى تنزل بساحتهم
(1)
انظر: المدونة 1/ 496؛ التمهيد 10/ 192؛ الكافي ص 208؛ جامع الأمهات ص 244؛ القوانين الفقهية ص 109؛ التاج والإكليل 4/ 542.
(2)
انظر: المدونة 1/ 496، 497؛ التمهيد 10/ 192؛ المقدمات ص 184؛ جامع الأمهات ص 244؛ مختصر خليل مع مواهب الجليل 4/ 542؛ الشرح الكبير 2/ 278؛ حاشية الدسوقي 2/ 278.
(3)
الرسل بالكسر: الهينة، والتأَنّي، وعدم الاستعجال، ويقال: افعل كذا وكذا على رسلك أي اتّئد فيه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 656.
ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يُهدي بك رجلٌ واحد خير لك من حمر النعم»
(1)
.
رابعاً: عن أنس رضي الله عنه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح، فنزلنا خيبر ليلاً)
(2)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة هو: أن حديث بريدة، وابن عباس، وسهل بن سعد-رضي الله عنهم-تدل على أن العدو من المشركين يدعون قبل أن يقاتلوا.
وحديث ابن عمر، والبراء بن عازب، والصعب بن جثامة، وأنس-رضي الله عنهم-تدل على جواز قتال المشركين قبل الدعوة.
فيجمع بينها بحمل ما يدل على وجوب الدعوة قبل القتال لمن لم تبلغهم الدعوة. وحمل ما يدل على جواز القتال قبل الدعوة لمن بلغتهم الدعوة
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 597، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ح (2942)، ومسلم في صحيحه 8/ 31، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ح (2406)(34).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 597، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ح (2943).
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار 3/ 210؛ بدائع الصنائع 6/ 61، 62؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 444، 445. "؛ المهذب وشرحه تكملة المجموع 21/ 101 - 103؛ البيان 12/ 120، 121؛ العزيز 11/ 380"؛ المغني 13/ 29، 30؛ الشرح الكبير 10/ 128.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو وجوب الدعوة قبل القتال مطلقاً- بما يلي:
أولاً: حديث بريدة وابن عباس-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يُهدي بك رجلٌ واحد خير لك من حمر النعم»
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث بريدة وابن عباس-رضي الله عنهم يدلان على وجوب الدعوة قبل القتال، من غير تفريق بين من بلغته الدعوة، وبين من لم تبلغه.
وفي حديث سهل بن سعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بالدعوة قبل القتال، ويهود خيبر كان قد بلغتهم الدعوة قبل ذلك.
فيثبت من مجموعها وجوب الدعوة مطلقاً
(2)
.
واعترض عليه:
أ-بأن الأمر بالدعوة في هذه الأحاديث إن كان للوجوب فيكون
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 194؛ المقدمات لابن رشد ص 184؛ الاعتبار ص 489.
منسوخاً بالأحاديث التي تدل على جواز القتال قبل الدعوة؛ لأنها متأخرة عنها، كما سبق بيانه
(1)
.
ب- إن هذه الأحاديث فيها الأمر بالدعوة قبل القتال، فلعله في حق من لم تبلغه الدعوة، فإن كانت في حق من بلغته الدعوة فيكون للاستحباب، بدليل الأحاديث التي تدل على جواز القتال قبل الدعوة، كما سبق بيانه
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول؛ لأن هذا القول يمكن به الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فهو متعين
(3)
.
ثانياً: إن الأحاديث التي جاء فيها الأمر بالدعوة قبل القتال إن حملت على العموم- أي
سواء من بلغته الدعوة ومن لم تبلغه-، وأريد بالأمر الوارد فيها الوجوب، فتكون ذلك منسوخاً؛ لتأخر الأحاديث التي تدل على جواز قتال المشركين الذين بلغتهم الدعوة قبل القتال، كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 489 - 491.
(2)
انظر: المغني 13/ 29، 30.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 195.
المطلب الرابع: قتل أولاد المشركين ونسائهم
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم مطلقاً، وأن ما يدل على جواز قتلهم قد نسخ.
وممن قال به: الزهري
(1)
، وسفيان بن عيينة
(2)
، وابن حبان
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم مطلقاً، وأن ما يدل على عدم جواز قتلهم قد نسخ
(5)
.
وتبين مما سبق أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف أهل العلم فيها، كما أن اختلاف الأدلة الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(6)
.
(1)
انظر: التمهيد 10/ 61؛ فتح الباري 6/ 188.
(2)
هو: سفيان بن عيينة بن ميمون، الهلالي، أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة إمام، روى عن أبي إسحاق السبيعي، وموسى بن عقبة، وغيرهما، وروى عنه شعبة، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 106؛ التقريب 1/ 371؛ شذرات الذهب 1/ 354.
وانظر قوله بالنسخ في: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: صحيح ابن حبان ص 1292.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 90.
(5)
انظر: الاعتبار ص 493؛ فتح الباري 6/ 189.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الثانية.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم مطلقاً، بما يلي:
أولاً: عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيُصيبون من نسائهم وذراريِّهم؟ فقال: «هم منهم»
(1)
.
ثانياً: عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرِيَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:«اغزوا باسم الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم» الحديث
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1217.
(2)
سبق تخريجه في ص 1185.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 611، كتاب الجهاد والسير، باب قتل النساء في الحرب، ح (3015)، ومسلم في صحيحه 6/ 324، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، ح (1744)(25).
رابعاً: عن رباح بن ربيع
(1)
رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال:«انظر علامَ اجتمع هؤلاء؟» ، فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال: «ما كانت هذه لتقاتل!» . قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: «قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً
(2)
(3)
.
خامساً: عن الأسود بن سريع
(4)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية
(1)
هو: رباح بن الربيع بن صيفي، التميمي، أخو حنظلة الكاتب، ويقال: رياح-بالياء- وهو قول الأكثر، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: المرقع بن صيفي، وقيس بن زهير، وغيرهما. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 175؛ تهذيب التهذيب 3/ 209؛ الإصابة 1/ 572.
(2)
العسيف: الأجير. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 206.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 404، كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، ح (2669)، وابن ماجة في سننه-عن حنظلة الكاتب-ص 482، كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، ح (2842)، وأحمد في المسند 25/ 371، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 222، وابن حبان في صحيحه ص 1292، والحاكم في المستدرك 2/ 133، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 140. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 102: (اختلف فيه على المرقع بن صيفي، فقيل عن جده رياح، وقيل عن حنظلة بن الربيع، وذكر البخاري وأبو حاتم: أن الأول أصح. "تنبيه" رياح بالياء المثناة تحت، وقيل بالموحدة، ورجحه البخاري). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 404: (حسن صحيح).
(4)
هو: الأسود بن سريع بن حمير بن عباد، التميمي، السعدي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغزا معه أربع غزوات، وروى عنه: الحسن البصري، والأحنف بن قيس، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وأربعين، وقيل: فقد أيام الجمل. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 19؛ الإصابة 1/ 48، 49.
يوم حنين، فقاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاؤوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملكم على
قتل الذرية؟» قالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين، قال:«أو هل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يعرب عنها لسانها»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فظفرنا بالمشركين، فأسرع الناس في القتل حتى قتلوا الذرية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية ثلاثاً»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه يدل على إباحة قتل أولاد المشركين ونسائهم، وكان ذلك في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/ 122، وأحمد في المسند-واللفظ له- 24/ 354، والحاكم في المستدرك 2/ 134، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 219. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/ 976. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 319: (رواه أحمد بأسانيد، والطبراني في الكبير والأوسط كذلك- إلى أن قال: -وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح). والحديث من رواية الحسن عن الأسود، وقد ذكر البزار أنه لم يسمع منه. انظر: نصب الراية 1/ 90.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الدامي في سننه 2/ 294، ونحوه الحازمي في الاعتبار ص 495.
والأحاديث المذكورة بعد حديث الصعب رضي الله عنه تدل على تحريم قتل أولاد المشركين ونسائهم، وهي متأخرة عنه، يدل على ذلك ما جاء في حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه (بعث سرية يوم حنين)، وحنين كان بعد فتح مكة. كما يدل عليه ما جاء في حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال:«قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً» . فإن أول مشاهد خالد مع النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة الفتح، ثم الحنين بعدها. فتكون أحاديث النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم، ناسخة لحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه والذي يدل على إباحة قتل نساء المشركين وذراريهم؛ لتأخرها عليه
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث؛ لأن حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه
لا يدل على إباحة قتل أولاد المشركين ونسائهم مطلقاً، بل يدل على أنه إذا لم يمكن الوصول إلى الأباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم فلا بأس بقتلهم ذلك
(2)
.
أما أحاديث النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم، فهي تدل على النهي عن قتلهم إذا قصدوا بالقتل، وهم يعرفون متميزين
(3)
.
(1)
انظر: صحيح ابن حبان ص 1292؛ الاعتبار ص 494 - 496؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 90؛ فتح الباري 6/ 188، 189.
(2)
انظر: فتح الباري 6/ 188.
(3)
انظر: الاعتبار ص 497.
وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث تعذر ادعاء النسخ
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم، بما يلي:
أولاً: عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرِيَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:«اغزوا باسم الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم» الحديث
(2)
.
ثانياً: عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيُصيبون من نسائهم وذراريِّهم؟ فقال: «هم منهم»
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: وسألته عن أولاد المشركين فقال: (اقتلهم معهم»
(4)
.
ويستدل منهما على النسخ: بأن حديث بريدة رضي الله عنه فيه النهي عن
(1)
راجع المصدر السابق.
(2)
سبق تخريجه في ص 1185.
(3)
سبق تخريجه في ص 1217.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند 27/ 233.
قتل ولدان المشركين، لكنه كان في أول الأمر، وقصة حديثه تدل على ذلك. وحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه يدل على إباحة قتل أولاد المشركين ونسائهم، وهو متأخر عن حديث بريدة رضي الله عنه؛ لأنه كان في عمرة القضية؛ لذلك يكون حديث الصعب رضي الله عنه ناسخاً لما يدل عليه حديث بريدة رضي الله عنه من
النهي عن قتل ذراري المشركين
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- بأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث؛ وذلك بحمل حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه على إباحة قتل أولاد المشركين ونسائهم إذا لم يمكن الوصول إلى الأباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم فلا بأس بقتلهم ذلك. وحمل أحاديث النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم على النهي عن قتلهم إذا قصدوا بالقتل، وهم يعرفون متميزين. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى القول بالنسخ
(2)
.
ب- إن حديث الصعب رضي الله عنه إن سُلّم أنه بعد حديث بريدة رضي الله عنه، فلا يُسلّم أنه بعد كل الأحاديث التي تدل على النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم؛ لأن حديث الأسود بن سريع، ورباح بن الربيع-رضي الله عنهما فيهما النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم، وكان ذلك في
(1)
انظر: الاعتبار ص 494؛ فتح الباري 6/ 189.
(2)
انظر: الاعتبار ص 497؛ فتح الباري 6/ 188.
غزوة حنين، كما سبق بيانه، وغزوة حنين بعد عمرة القضية بلا شك
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قتل أولاد المشركين ونسائهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز قتل نساء المشركين وأولادهم إن لم يقاتلوا، لكن إن أصيبوا من غير قصد إلى قتلهم في البيات أو في اختلاطهم مع من يجوز قتلهم فلا حرج في ذلك.
وهو قول جمهور أهل العلم
(2)
، منهم الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، و الحنابلة
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 494 - 496؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 90؛ فتح الباري 6/ 188، 189.
(2)
انظر: الاستذكار 4/ 25؛ المحلى 5/ 347، 348؛ بداية المجتهد 2/ 740.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 222؛ المبسوط 10/ 104؛ بدائع الصنائع 6/ 63، 64؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 452.
(4)
انظر: المدونة 1/ 499؛ التمهيد 56، 57، 61؛ الاستذكار 4/ 25؛ بداية المجتهد 2/ 740؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 543؛ التاج والإكليل 4/ 543.
(5)
انظر: المهذب مع تكملة المجموع 21/ 107، 110؛ البيان 12/ 129؛ الاعتبار ص 496، 497؛ العزيز
11/ 390؛ روضة الطالبين ص 1802.
(6)
انظر: المغني 13/ 140، 141؛ الشرح الكبير 10/ 67؛ الممتع 2/ 543، 546؛ الفروع 10/ 255؛ الإنصاف 10/ 67، 68؛ الإقناع 2/ 71، 73.
القول الثاني: لا يجوز قتال أولاد المشركين ونسائهم بحال.
وهو قول بعض أهل العلم
(1)
.
القول الثالث: يجوز قتالهم مطلقاً.
وهو قول طائفة من أهل العلم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم قصداً إلا أن يقاتلوا- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}
(3)
. فإنه عام يشمل قتال جميع من يقاتل المسلمين، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً
(4)
.
ثانياً: حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه، وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: حديث بريدة، وابن عمر، ورباح بن الربيع، والأسود بن سريع-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها قد
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 222؛ الاعتبار ص 493.
(2)
انظر: الاعتبار ص 493. وقال ابن حجر في الفتح 6/ 189: (وحكى الحازمي قولاً بجواز قتل النساء والصبيان، على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب).
(3)
سورة البقرة، الآية (190).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 104.
جاء فيها النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم.
رابعاً: عن كعب بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الذين قتلوا ابن أبي الحقيق حين خرجوا إليه عن قتل الولدان والنسوان)
(1)
.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: خيل من المسلمين وقعت على قوم من المشركين، فقتلوهم، وقتلوا أبناءهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هم مع آبائهم»
(2)
.
سادساً: ما روي عن نافع: (قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارُّون. وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث غير حديث الصعب بن جثامة، وابن عباس، ونافع عن ابن عمر-رضي الله عنهم تدل على عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم. والآية الكريمة تدل على قتال من قاتل من الكفار، وهي بعمومها تشمل النساء والأولاد، كما يدل
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 221، ونحوه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 133، وابن عبد البر
في التمهيد 10/ 47، والحازمي في الاعتبار ص 495. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 318:(رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح).
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 319: (رواه الطبراني، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد، وضعفه الجمهور).
(3)
سبق تخريجه في ص 1216.
حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه بمفهومه على أنهم إن قاتلوا فيجوز قتلهم.
وحديث الصعب بن جثامة، وابن عباس، ونافع عن ابن عمر-رضي الله عنهم تدل على أنهم إن قتلوا من غير قصد وتعمد فلا بأس بذلك.
فيستفاد من مجموع هذه الأدلة عدم جواز قتل نساء المشركين وأولادهم إن لم يقاتلوا، لكن إن أصيبوا من غير قصد وتعمد إلى قتلهم في البيات أو في اختلاطهم مع من يجوز قتلهم فلا حرج في ذلك. وبه يجمع بين هذه الأدلة كلها، ويعمل بمقتضى جميعها
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم بحال- بأدلة منها: حديث بريدة، وابن عمر، ورباح بن الربيع، والأسود بن سريع، وكعب بن مالك-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في دليل القول الأول؛ فإنها تدل على عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم بأي حال
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 221، 222؛ التمهيد 10/ 55 - 61؛ الاعتبار ص 495؛ المغني 13/ 140، 141؛ فتح الباري 6/ 188، 189.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 220 - 222؛ الاعتبار ص 495، 496؛ فتح الباري 6/ 188.
أ-إن هذه الأحاديث تدل بلا شك على عدم جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم، لكن إذا لم يقاتلوا، وتُعمد قتلهم، أما لو قتلوا من غير تعمد أو قاتلوا فيجوز قتلهم؛ للآية الكريمة، ولحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه وما في معناه
(1)
.
ب-إن تلك الأحاديث تدل على النهي عن قتل أولاد المشركين ونسائهم، لكن النهي لا يتوجه إلا إلى القاصد؛ لأن الفاعل لا يستحق اسم الفعل حقيقة إلا بالقصد والنية والإرادة؛ لذلك لا يصح الاستدلال منها على تحريم قتل من قتلوا من أولاد المشركين ونسائهم من غير قصد وإرادة لقتلهم
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو جواز قتل أولاد المشركين ونسائهم مطلقاً- بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه
(3)
، وقد سبق وجه الاستدلال منه، وما يرد به عليه في القول بالنسخ.
الراجح
بعد عرض الأقوال في المسالة وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 222، 223؛ التمهيد 10/ 56 - 61؛ الاعتبار ص 497؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 104.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 61.
(3)
انظر: الاعتبار ص 494.
بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن هذا القول يمكن به الجمع بين جميع الأدلة الواردة في المسالة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى ترك بعضها، ولا يصح فيها ادعاء النسخ
(1)
.
ثانياً: إنه لم يوجد رخصة في قتل نساء المشركين وأولادهم، حتى تكون أحاديث النهي ناسخة لها، أو تكون هي منسوخة بها. وحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه لا يدل على إباحة قتلهم، بل على أنهم إن قتلوا من غير تعمد وقصد فلا جناح في ذلك
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495؛ فتح الباري 6/ 189.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/ 133؛ الاعتبار ص 497.
المطلب الخامس: ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين
ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أنه كان يجب على الواحد من المسلمين الثبات للعشرة من الكافرين في القتال، وكان يحرم عليه الفرار منهم. ثم نسخ الله ذلك وخففه فجعل على الواحد من المسلمين الثبات للاثنين من الكافرين في القتال، وحرم عليه الفرار منهما
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: ابن عباس
(2)
، وعكرمة
(3)
، والحسن
(4)
، وأبو عبيد
(5)
، وابن جرير
(6)
، والجصاص
(7)
، والسرخسي
(8)
، وابن العربي
(9)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في وجوب ثبات الواحد من المسلمين
(1)
انظر: الإحكام للآمدي 2/ 108؛ المحصول للرازي 3/ 243؛ المسودة ص 205؛ البحر المحيط 5/ 242؛ شرح الكوكب المنير 3/ 549.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 193؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 91؛ نواسخ القرآن 2/ 453.
(3)
انظر: جامع البيان 6/ 4155.
(4)
راجع المصدر السابق.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 192.
(6)
انظر: جامع البيان 6/ 4157.
(7)
انظر: أحكام القرآن 3/ 92.
(8)
انظر: أصول السرخسي 2/ 77.
(9)
انظر: أحكام القرآن له 2/ 877.
للاثنين من الكافرين، دون الأكثر منهما، وأن الله خفف في حكم وجوب ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين. وإن اختلفوا في كون هذا التخفيف هل يطلق عليه نسخاً أم لا
(1)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: جامع البيان 6/ 4153 - 4157؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 155.
(2)
سورة الأنفال، الآية (65).
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شق ذلك على المسلمين حين فُرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: فلما خفف الله عنهم من العدَّة نقص من الصبر بقدر ما خُفف عنهم)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة، لا ينبغي له أن يفر منهم، فكانوا كذلك حتى أنزل الله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فنسخ الأمر الأول)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وإن كان لفظه لفظ الخبر، إلا أنه بمعنى الأمر؛ يدل عليه قوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} . لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به، لا في المخبر عنه؛ لذلك كان يجب على المسلمين أن يقاوم الواحد منهم العشرة من المشركين، ويحرم عليه الفرار منهم، ثم نسخ الله ذلك بقوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . فوجب على الواحد من المسلمين مقاومة الاثنين من الكافرين، وحرم عليه الفرار منهما، وأباح له الفرار من
(1)
سورة الأنفال، الآية (66).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 967، كتاب التفسير، باب {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} ، ح (4653).
(3)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 6/ 4154.
أكثر من اثنين، كما يفسره ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه
(1)
.
هذا وقد ذهب بعض أهل العلم منهم أبو جعفر النحاس إلى أن هذا تخفيف وليس نسخاً؛ لأن النسخ رفع حكم المنسوخ، وهنا لم يرفع الحكم الأول؛ لأنه يجوز للواحد مقاومة العشرة إن قدر على ذلك، فهو إلى الاختيار. فهذا تخفيف وليس نسخاً
(2)
.
لكن هذا في نظري- والله أعلم بالصواب- قول ضعيف، قد ضعفه غير واحد من أهل العلم؛ لأنه كان أولاً وجوب مقاومة الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين، ثم رفع هذا الوجوب؛ حيث صار الواجب مقاومة الواحد منهم للاثنين من الكافرين، وهذا هو النسخ، كما صرح به حبر الأمة ابن عباس-رضي الله عنهما-وجماعة من أهل العلم
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: جامع البيان 6/ 4157؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 92؛ نواسخ القرآن 2/ 452؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 877؛ فتح الباري 9/ 186، 187.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 92؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس س 155.
(3)
انظر: جامع البيان 6/ 4154 - 4157؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 92؛ أحكام القرآن لابن العربي 2/ 877؛ نواسخ القرآن 2/ 452.
المطلب السادس: تحريق العدو وتعذيبه بالنار
ذهب بعض أهل العلم إلى أن تحريق العدو وتعذيبه بالنار إذا ظفر به قد نسخ؛ لذلك لا يجوز تحريق وتعذيب من ظفر منهم بالنار.
وممن صرح بالنسخ: الحازمي
(1)
، وأبو إسحاق الجعبري
(2)
، وابن حجر
(3)
، والعيني
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة. كما أن تعارض الأدلة سبب آخر لاختلافهم فيها
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ، بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً
(6)
فأحرقوهما بالنار». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها
(1)
انظر: الاعتبار ص 460، 461.
(2)
انظر: رسوخ الأحبار ص 472.
(3)
انظر: فتح الباري 6/ 192.
(4)
ونسبه العيني كذلك إلى ابن العربي. وقال به كذلك شمس الحق العظيم أبادي. انظر: عمدة القاري 10/ 274؛ عون المعبود 7/ 248.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: بداية المجتهد 2/ 743.
(6)
هما: هبار بن الأسود، ونافع بن قيس، وقد نخسا بعير زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرتها إلى المدينة فأسقطت ومرضت من ذلك. ولم تصبهما السرية، وأسلم هبار فيما بعد. انظر: فتح الباري 6/ 191.
إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية، فقال: «إن وجدتم هبار بن الأسود
(2)
، فاجعلوه بين حزمتي حطب، واحرقوه بالنار»، ثم بعث إليهم فقال:«لا تعذبوا بالنار، لا يعذب بالنار إلا رب النار»
(3)
.
ثانياً: عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق قوماً، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» . ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»
(4)
.
وفي رواية عنه: أن علياً رضي الله عنه قتل قوماً كفروا بعد إسلامهم، وأحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال: لو كنت لقتلتهم ولم أحرقهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بدل-أو قال: من رجع-عن دينه فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله» يعني النار، فبلغ قول ابن عباس رضي الله عنه علياً
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 611، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، ح (3016).
(2)
هو: هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد، القرشي الأسدي، أسلم بعد فتح مكة، وروى عنه عروة، وسليمان بن يسار، وغيرهما. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 117؛ الإصابة 3/ 2042.
(3)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 528.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 611، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، ح (3017).
-رضي الله عنه فقال: ويح ابن عباس
(1)
.
ثالثاً: عن حمزة الأسلمي
(2)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على سريَّة، فخرجت فيها، فقال:«إن أخذتم فلاناً فأحرقوه بالنار» ، فلما وليت ناداني، فقال:«إن أخذتموه فاقتلوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار»
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ورهطاً معه سرية إلى رجل من عدوه، فقال لهم:«إن قدرتم على فلان فأحرقوه بالنار» . فانطلقوا حتى إذا تواروا منه، ناداهم، فأرسل إليهم، فردهم، فقال لهم:«إن قدرتم عليه فاقتلوه، ولا تحرقوه بالنار، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي هريرة، وحمزة الأسلمي رضي الله عنهما يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه بإحراق
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5/ 213. ورجاله رجال الصحيح.
(2)
هو: حمزة بن عمرو بن عويمر، الأسلمي، أبو صالح، المدني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه محمد، وحنظلة بن علي، وسليمان بن يسار، وغيرهم، وتوفي سنة إحدى وستين. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 28؛ التقريب 1/ 242.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 405، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، ح (2673)، وأحمد في المسند-واللفظ له- 25/ 421، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 123. وصححه ابن حجر، والشيخ الألباني. انظر: فتح الباري 6/ 191؛ صحيح سنن أبي داود ص 405.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5/ 215، وأحمد في المسند 25/ 422.
عدو بالنار بعد أخذه وأسره، ثم نهاهم عن إحراقه بالنار بعد ذلك، فيكون هذا النهي ناسخاً لجواز إحراق العدو بالنار بعد أخذه، والظفر به، ويؤكد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ حيث يدل على أن الكافر والمرتد يقتل ولا يحرق بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حرق العدو وتعذيبه بالنار بعد أخذه وأسره على قولين:
القول الأول: لا يجوز إحراق العدو بالنار إذا قُدر عليه.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(2)
. وروى ذلك عن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم
(3)
.
وقال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم)
(4)
.
وذكر ابن قدامة أنه لا يعلم فيه خلافاً بين الناس اليوم
(5)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 460، 461؛ رسوخ الأحبار ص 472، 473؛ فتح الباري 6/ 192؛ عمدة القاري 10/ 274.
(2)
انظر: سنن الترمذي 372؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 195، 196؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 122، 123؛ الاعتبار ص 460، 461؛ العزيز 11/ 410؛ المغني 13/ 138؛ الشرح الكبير للمقدسي 10/ 65؛ فتح الباري 6/ 192؛ عمدة القاري 10/ 274.
(3)
انظر: فتح الباري 6/ 192.
(4)
سنن الترمذي ص 372.
(5)
انظر: المغني 13/ 139.
القول الثاني: يجوز إحراق العدو بالنار إذا قدر عليه.
قال به بعض أهل العلم، وروي ذلك عن أبي بكر، وعلي، وخالد بن الوليد-رضي الله عنهم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بالأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على عدم تحريق العدو بالنار بعد أخذه وأسره، كما سبق ذكره.
دليل القول الثاني
ويستدل لمن قال بجواز تحريق العدو بالنار بعد القدرة عليه، بما يلي:
أولاً: عن أنس رضي الله عنه قال: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، «فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وألقوا في الحر يستسقون فلا يسقون
(2)
.
ثانياً: عن عكرمة (أن علياً رضي الله عنه قتل قوماً كفروا بعد إيمانهم،
(1)
انظر: المغني 13/ 138؛ فتح الباري 6/ 192.
(2)
سبق تخريجه في ص 510.
وأحرقهم بالنار)
(1)
.
ثالثاً: عن عروة قال: حرق خالد بن الوليد ناساً من أهل الردة، فقال عمر لأبي بكر:(أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله؟). فقال أبو بكر: (لا أشيم
(2)
سيفاً سله الله على المشركين)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: أنها تدل على جواز تعذيب العدو بالنار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين المرتدين بالحديد المحمى. وحرقهم علي، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فثبت من ذلك جواز تعذيبهم وإحراقهم بالنار
(4)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن حديث أنس رضي الله عنه في قصة سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين المرتدين بالحديد المحمى كان قبل أحاديث النهي عن المثلة، وأحاديث النهي عن التحريق بالنار مطلقاً، فيكون منسوخاً بها؛ لأن قصة العرنيين كان قبل إسلام أبي هريرة، وقد حضر أبو هريرة الإذن بالتحريق بالنار ثم النهي عنه، فثبت من ذلك تأخر أحاديث النهي عن التحريق بالنار
(5)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
لا أشيم أي لا أغمد، وهو من شيم، يقال: شام سيفه يشيمه إذا غمده، واستله، فهو من الأضداد. انظر: لسان العرب 7/ 236؛ القاموس المحيط ص 1071.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5/ 212. ورجاله رجال الصحيح.
(4)
انظر: المغني 13/ 138؛ فتح الباري 6/ 192؛ عمدة القاري 10/ 334.
(5)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 534؛ فتح الباري 1/ 426، 6/ 192.
ب- إن تجويز علي، وخالد بن الوليد-رضي الله عنهما التحريق بالنار معارض بمنع عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم، وقد أنكر ابن عباس-رضي الله عنهما-على علي رضي الله عنه تحريقه للمرتدين بالنار، لما بلغه ذلك، كما سبق ذكره.
الراجح
الذي يتبين لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم جواز تحريق العدو بالنار إذا أسر وظفر به، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع صحتها صريحة في النهي عن التحريق بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
أما أدلة القول المخالف له فمنها ما هو صحيح ومرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يحتمل أكثر من احتمال. ومنها ما هو عمل صحابي، وهو لا يقوى على معارضة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو معارض بقول صحابي آخر
(1)
.
ثانياً: ولأن قول من قال بنسخ ما يدل على جواز التحريق والتعذيب بالنار، قول صحيح، وله وجه؛ لأن الأحاديث الدالة على تحريم التحريق بالنار معها ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز التحريق بالنار، كما سبق بيانه؛ لذلك تكون أحاديث النهي ناسخة لما
(1)
انظر: فتح الباري 6/ 192.
يدل على الجواز
(1)
.
ثالثاً: ولأن الله كتب الإحسان على كل شيء، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان القتلة، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح .. »
(2)
.
والتحريق بالنار ليس من القتلة الحسن؛ ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 534؛ فتح الباري 1/ 426، 6/ 192.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 34، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، ح (1955)(57).
المطلب السابع: الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال المشركين، إذا كان تدعو الحاجة إلى ذلك، وكانوا ممن يوثق بهم. وأن ما يدل على عدم الاستعانة بالمشركين قد نسخ
(1)
.
وممن صرح به: الإمام الشافعي
(2)
، وأبو حامد الرازي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
، و رجحه ابن حجر
(5)
.
ويتبين منه، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب الاختلاف في المسألة أمران: اختلاف الأدلة، والقول بالنسخ
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل بدر، فلما كان بحرّة الوبرة
(7)
أدركه رجل، قد كان
(1)
انظر: الاعتبار ص 502.
(2)
فإنه قال بالنسخ إن كان بين الأدلة تعارض. انظر: الاعتبار ص 503؛ فتح الباري 6/ 229.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 92.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 503.
(5)
انظر: فتح الباري 6/ 229؛ التلخيص الحبير 4/ 101.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة.
(7)
حرة الوبرة هي حرة المدينة المنورة الغربية، وهي على نحو ثلاثة أميال من المدينة. انظر: معجم البلدان 2/ 142؛ أطلس الحديث النبوي للدكتور شوقي أبو خليل ص 144.
يذكر منه جرأة ونجدة
(1)
. ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تؤمن بالله ورسوله؟» . قال: لا. قال: «فارجع، فلن أستعين بمشرك» . قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال:«فارجع فلن أستعين بمشرك» . قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء
(2)
. فقال له كما قال أول مرة: «تؤمن بالله ورسوله؟» . قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فانطلق»
(3)
.
ثانياً: عن خبيب بن إساف
(4)
رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزواً، أنا ورجل من قومي، ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم. قال: «أو أسلمتما؟» ، قلنا: لا. قال: «فلا نستعين بالمشركين على المشركين» . قال: فأسلمنا وشهدنا معه، فقتلت
(1)
النجدة: الشجاعة والشدة. المصباح المنير ص 485.
(2)
البيداء: اسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة، وتعد من الشرف أمام ذي الحليفة. انظر: معجم البلدان
1/ 411؛ أطلس الحديث النبوي ص 84.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 446، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، ح (1817)(150).
(4)
هو: خُبيب بن إساف-ويقال: يساف- بن عِنَبة بن عمرو، الأنصاري الأوسي، شهد بدراً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن، وتوفي في خلافة عمر رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 156؛ الإصابة 1/ 475.
رجلاً، وضربني ضربة، وتزوجت بابنته بعد ذلك، فكانت تقول: لا عدمت رجلاً وشَّحك هذا الوشاح. فأقول: لا عدمت رجلاً عجل أباك إلى النار
(1)
.
ثالثاً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد، حتى إذا جاوز ثنية الوداع فإذا هو بكتيبة خشناء، فقال:«من هؤلاء؟» قالوا: عبد الله بن أبيّ في ستمائة من مواليه من بني قينقاع
(2)
، فقال:«وقد أسلموا؟» . قالوا: لا، يا رسول الله، قال:«مروهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»
(3)
.
رابعاً: عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فتح
(1)
أخرجه أحمد في المسند 25/ 43، والحاكم في المستدرك 2/ 133، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 64. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 306: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات).
(2)
بنو قينقاع أحد قبائل اليهود الساكنين بالمدينة، وهم رهط عبد الله بن سلام، وقد نكثوا العهد، بعد غزوة بدر، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نزلوا على حكمه، وكانوا حلفاء الخزرج فألح عبد الله بن أبيّ على العفو عنهم، فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 47 - 49؛ الرحيق المختوم ص 238 - 240.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 306: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سعد بن المنذر بن أبي حميد، ذكره ابن حبان في الثقات، فقال: سعد بن أبي حميد، فنسبه إلى جده، وبقية رجاله ثقات). وأخرج نحوه الحاكم في المستدرك 2/ 133، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 64، والحازمي في الاعتبار ص 503. قال البيهقي بعد ذكر الحديث:(وهذا الإسناد أصح).
مكة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة.
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، أن صفوان قال:(والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلىَّ)
(1)
.
خامساً: عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ)
(2)
.
سادساً: عن ذي مخبر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستُصالحون الروم صلحاً آمناً، وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 412، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا، وكثرة عطائه، ح (2313)(59).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 167، كتاب الزكاة، باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم، ح (666)، ثم قال:(حديث صفوان رواه معمر، وغيره عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكأن هذا الحديث أصح وأشبه، إنما هو: سعيد بن المسيب أن صفوان). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 167.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 422، كتاب الجهاد، باب ما جاء في صلح العدو، ح (2767)، وابن ماجة في سننه ص 680، كتاب الفتن، باب الملاحم، ح (4089)، وأحمد في المسند 28/ 33، والحاكم في المستدرك 4/ 467، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 375. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 422.
سابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال: (استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع، فرضخ لهم، ولم يسهم لهم)
(1)
.
ثامناً: عن الزهري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عائشة، وخبيب بن إساف، وأبي حميد الساعدي رضي الله عنهم-تدل على عدم جواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين.
والأحاديث المذكورة بعدها تدل على جواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين؛ لأن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وهو لم يسلم بعد.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 92، ثم قال:(تفرد به الحسن بن عمارة، وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح).
(2)
أخرجه أبو داود في المراسيل ص 354، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 369، كتاب السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم؟، ح (1558)، ونحوه عبد الرزاق في المصنف 5/ 188، وسعيد بن منصور في سننه 2/ 284، والجصاص في أحكام القرآن 2/ 559، وهو مرسل، وذكر ابن حجر في التلخيص 4/ 100، أنه أخرجه كذلك أبو داود في المراسيل، ثم قال:(والزهري مراسيله ضعيفة).
وحديث ابن عباس-رضي الله عنها، ورواية الزهري المرسلة تدل كذلك على جواز الاستعانة بهم لقاتل المشركين.
كما أن حديث ذي مخبر يدل على جواز الاستعانة بهم في قتال الكافرين؛ وإلا لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين غزوهم مع الروم عدواً لهم في آخر الزمان.
وهذه الأحاديث بعد حديث عائشة-رضي الله عنها-وما في معناه؛ لأن في حديث عائشة-رضي الله عنها-أن ذلك كان في غزوة بدر، وصفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وهي بعد بدر بكثير، فيكون حديث عائشة-رضي الله عنها-وما في معناه منسوخاً بحديث صفوان، وذي مخبر، وما في معناه؛ لأنها متأخرة عليها
(1)
.
ويعترض عليه: بأن بعض هذه الأدلة ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها ولا المعارضة بها للأحاديث المعارضة لها، وبعضها غير صريحة في جواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين، بخلاف الأحاديث التي تدل على المنع من الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين
(2)
.
كما أن حديث ذي مخبر ليس ظاهراً -والله أعلم بالصواب- في
(1)
انظر: الأم 4/ 179؛ السنن الكبرى 9/ 63 - 64؛ الاعتبار ص 502، 503؛ رسوخ الأحبار ص 500 - 503؛ فتح الباري 6/ 229؛ التلخيص الحبير 4/ 101.
(2)
انظر: السنن الكبرى 9/ 63، 64، 92؛ الاعتبار ص 502؛ المغني 13/ 99؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 503.
استعانة المسلمين بالكفار على غزو الكفار، بل الظاهر منه أنه في تحالف المسلمين مع الروم على قتال عدو مشترك، وهو مما لا بأس به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاهد في أوائل الهجرة مع اليهود، وكان من بنود المعاهدة بينهم:(وإن بينهم-أي بين المسلمين وبين اليهود-النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين على قولين:
القول الأول: لا يجوز الاستعانة بالكفار على قتال الكفار إلا عند الحاجة والضرورة.
وهو قول بعض الحنفية
(2)
، ومذهب المالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يجوز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين إذا أمن
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 504؛ الرحيق المختوم ص 193.
(2)
يظهر من كلام الكاساني وابن الهمام، والحصكفي أنه هو المذهب. انظر: بدائع الصنائع 6/ 63؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 502؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 183.
(3)
انظر: المدونة 1/ 524؛ جامع الأمهات ص 244؛ القوانين الفقهية ص 109؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 4/ 545؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2/ 281.
(4)
انظر: المغني 13/ 98؛ الشرح الكبير 10/ 121؛ الممتع 2/ 560؛ الإنصاف 10/ 121، 123؛ الإقناع 2/ 83.
المسلمون خيانتهم، وكان لهم حسن رأي في المسلمين.
وهو قول بعض الحنفية
(1)
، و مذهب الشافعية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز الاستعانة بالمشركين على غزو غيرهم من الكفار إلا عند الحاجة والضرورة- بما يلي:
أولاً: حديث عائشة، وخبيب بن إساف، وأبي حميد الساعدي-رضي الله عنهم، -وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ-؛ فإنها نصوص صريحة في عدم الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين
(4)
.
(5)
.
(1)
هذا ما نسبه الجصاص إلى الحنفية؛ حيث قال: (وقال أصحابنا: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر). انظر: أحكام القرآن 2/ 559.
(2)
انظر: الأم 4/ 179؛ مختصر المزني ص 353؛ الحاوي 14/ 131؛ العزيز 11/ 381؛ روضة الطالبين ص 1801.
(3)
انظر: المغني 13/ 98؛ الشرح الكبير 10/ 122؛ الفروع 10/ 247.
(4)
انظر: الحاوي 14/ 131؛ المغني 13/ 98، 99؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 503.
(5)
سورة المائدة، الآية (57).
فهذه الآية تتضمن المنع من التأييد والاستنصار بالكافرين؛ لأن الأولياء هم الأنصار
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين- بما يلي:
أولاً: حديث صفوان بن أمية، وذي مخبر، وابن عباس-رضي الله عنهم، والزهري، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على جواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين
(2)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال من هذه الأدلة عند الاستدلال منها على النسخ.
(3)
.
فهو على عمومه يشمل الاستعانة بالمشركين
(4)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 559؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 210.
(2)
انظر: الحاوي 14/ 131؛ المغني 13/ 98؛ العزيز 11/ 381؛ رسوخ الأحبار ص 502، 503.
(3)
سورة الأنفال، الآية (60).
(4)
انظر: الحاوي 14/ 131.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بالقوة في الآية ففي رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي»
(1)
.
فهذا نص وصريح في تفسير الآية
(2)
.
ب- أن الآية وإن كانت عامة إلا أنها تستثنى منها الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لا يستعين بالمشركين على قتال المشركين، كما سبق ذكره.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل ممن يدَّعي الإسلام: «هذا من أهل النار» . فلما حضر القتالُ قاتل الرجلُ قتالاً شديداً فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إلى النار» . قال: فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله» ثم أمر بلالاً فنادى بالناس: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 543، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، ح (1917)(167).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 36؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 543.
وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»
(1)
.
فهذا الحديث يظهر منه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن هذا الرجل أنه من أهل النار، ومع ذلك لم يمنعه من الخروج والغزو معه، بل أشار إلى أن غزوه مع المسلمين وقتله الكافرين من تأييد الدين بالرجل الفاجر
(2)
.
ويعترض عليه: بأن هذا الرجل كان يدعي الإسلام، كما يدل عليه ظاهر الحديث، وما يدل على النهي عن الاستعانة بالمشركين محمول على من يظهر الكفر
(3)
.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم جواز
الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين عند عدم الحاجة والضرورة، وجوازه عند الضرورة والحاجة إذا أمن المسلمون خيانتهم، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأدلة التي تدل على النهي عن الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين صريحة وظاهرة في ذلك، بخلاف أدلة القول المخالف له، كما سبق بيانه.
ثانياً: ولأن الاستعانة بهم يلزم منه مفاسد، أو يفضي إليها
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 621، كتاب الجهاد والسير، باب إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر، ح (3062)، ومسلم في صحيحه 2/ 189، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، ح (111)(178).
(2)
انظر: فتح الباري 6/ 229، 7/ 586؛ عمدة القاري 10/ 393.
(3)
انظر: فتح الباري 7/ 586؛ عمدة القاري 10/ 393.
(4)
انظر: الفروع 10/ 248؛ الإنصاف 10/ 123.
ثالثاً: إن أقوى أدلة القول الثاني من جهة الاستدلال خروج صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، مع أنه لم يسلم بعد، كما ذكره غير واحد من أهل العلم
(1)
، لكن يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من الخروج معه لأنه كان من مؤلفة القلوب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في إسلامه وهدايته؛ ولذلك أعطى له النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيئاً كثيراً حتى أدخل الله عليه الإسلام، ولم يكن المراد من خروجه مع المسلمين الاستعانة به
(2)
.
رابعاً: إن خروج صفوان بن أمية رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة حنين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن خرج معه ولم يسلم:«فارجع، فلن أستعين بمشرك» . كان في غزوة بدر وغزوة أحد، وغزوة حنين بعد بدر وأحد بلا شك
(3)
، لكن في الاستدلال منه على النسخ نظر؛ لأن خروج صفوان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم محتمل لأمور، وليس متعيناً أن ذلك كان للاستعانة به، بل لم يكن شهوده الغزو بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
أما الأحاديث التي جاء فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان ببعض الكافرين على قتال المشركين، فهي غير صحيحة
(5)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الأم 4/ 179؛ فتح الباري 6/ 229؛ عمدة القاري 10/ 393.
(2)
انظر: عمدة القاري 10/ 393.
(3)
انظر: الاعتبار ص 502.
(4)
انظر: التمهيد 11/ 123.
(5)
انظر: المغني 13/ 99.
المطلب الثامن: أخذ السلب من غير بينة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السلب لا يُعطى القاتل بغير بينة، وأن ما يدل على جواز الإعطاء من غير بينة قد نسخ.
وممن قال بنحو هذا: أبو حامد الرازي
(1)
، وأبو إسحاق الجعبري
(2)
. ونسبه الحازمي إلى طائفة من أهل الحديث
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الأدلة سبب آخر لاختلافهم فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سعد رضي الله عنه قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو، فهب لي هذا السيف، قال:«إن هذا السيف ليس لي ولا لك» . فذهبت وأنا أقول: يُعطاه اليوم من لم يبل بلائي! فبينما أنا إذ جاءني الرسول، فقال: أجب، فظننت أنه نزل فيّ شيء بكلامي، فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«إنك سألتني هذا السيف، وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي، فهو لك» ثم
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 92، 93.
(2)
انظر: رسوخ الأحبار ص 508.
(3)
انظر: الاعتبار ص 507.
(4)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 338؛ فتح الباري 6/ 313.
قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إلى آخر الآية [سورة الأنفال: 1])
(1)
.
وفي رواية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قتلت سعيد بن العاص-وقال غيره: العاص بن سعيد
(2)
، قال أبو عبيد: هذا عندنا هو المحفوظ، قتل العاص- قال:
وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قُتل أخي عمير
(3)
قبل ذلك-فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به فألقه في القبض» فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله، من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 417، كتاب الجهاد، باب في النفل، ح (2740)، والترمذي في سننه ص 690، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنفال، ح (3079)، وأحمد في المسند 3/ 118، والطبري في جامع البيان 6/ 4016، والحاكم في المستدرك 2/ 144. قال الترمذي:(حسن صحيح)، وكذلك صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 417:(حسن صحيح).
(2)
هو: العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، من بني عبد شمس، قتله سعد بن أبي وقاص، وقيل: قتله علي بن
أبي طالب. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 708؛ الإصابة 2/ 1381.
(3)
هو: عمير بن أبي قاص-مالك- بن أهيب بن عبد مناف، القرشي، الزهري، أخو سعد رضي الله عنه، أسلم قديماً، وشهد بدراً واستشهد بها. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 425؛ الإصابة 2/ 1381.
سورة الأنفال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اذهب فخذ سيفك»
(1)
.
ثانياً: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين، فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه. فأقبل عليّ فضمّني ضمّة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال:«من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» ، فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال الثالثة مثله، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مالك يا أبا قتادة؟» فاقتصصت عليه القصة. فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلبه عندي فأرضه عنّي. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لاها الله
(2)
، إذاً لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق» فأعطاه، فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً
(3)
في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته
(4)
في الإسلام
(5)
.
(1)
أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال ص 314، والإمام أحمد في المسند 3/ 129، والواحدي في أسباب النزول ص 155، والحازمي في الاعتبار ص 506.
(2)
لاها الله، قسم بمعنى: والله. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 335.
(3)
المخرف البستان، وحائط نخل. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 483.
(4)
تأثلته أي أصلته وجمعته واقتنيته. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 38.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 640، كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمّس الأسلاب، ح (3142)، و مسلم في صحيحه 6/ 334، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح (1751)(41).
ثالثاً: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينما نحن نتضحّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه، ثم انتزع طلقاً
(1)
من حقبه فقيد به الجمل. ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظَّهْر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه، فأثاره، فاشتد به الجمل، فأتبعه رجل على ناقة ورقاء
(2)
. قال سلمة: وخرجت أشتد، فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل، فندر
(3)
، ثم جئت بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه. فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال:«من قتل الرجل؟» قالوا: ابن الأكوع. قال: «له سلبه أجمع»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سعد رضي الله عنه يدل على أخذ السلب من غير بينة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه بينة، وحديث أبي
(1)
الطلق بالتحريك: قيد من جلود. النهاية في غريب الحديث 2/ 119.
(2)
ورقاء من أورق، وهو الأسمر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 841.
(3)
ندر أي سقط ووقع. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 725.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 340، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح (1754)(45).
قتادة، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما-يدلان على أن السلب لا يعطى للقاتل إلا ببينة، فيكون حديث أبي قتادة وسلمة بن الأكوع-رضي الله عنهما-ناسخاً لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ لأن أخذه السلب من غير بينة كان في غزوة بدر، وحديث أبي قتادة وسلمة بن الأكوع-رضي الله عنهما كان في غزوة حنين، وهي بعد بدر، فيكون أخذ السلب من غير بينة في حديث سعد رضي الله عنه منسوخاً بحديثهما
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في أخذ السلب من غير بينة على قولين:
القول الأول: لا يُعطى السلب للقاتل إلا بينة.
وهو مذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وقول الليث بن سعد، وجمهور أهل العلم
(4)
.
القول الثاني: يُعطى القاتل السلب ولا يُسأل عن بينة.
وهو قول بعض أهل العلم، منهم الأوزاعي
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم استحقاق القاتل السلب إلا ببينة-
(1)
انظر: الاعتبار ص 506، 507؛ رسوخ الأحبار ص 506 - 508.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 334؛ فتح الباري 6/ 313.
(3)
انظر: المغني 13/ 74؛ الشرح الكبير 10/ 165؛ الإقناع 2/ 89.
(4)
انظر: التمهيد 10/ 96؛ الاستذكار 4/ 64؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 12؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 334؛ فتح الباري 6/ 313؛ عمدة القاري 10/ 489.
(5)
انظر: الاستذكار 4/ 64؛ الاعتبار ص 506؛ المغني 13/ 74.
بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» . فإنه صريح على أن السلب للقاتل إذا كان له بينة، ومفهومه أنه إذا لم تكن له بينة فلا يقبل قوله، ولا يعطى السلب، وسياق واقعة أبي قتادة رضي الله عنه يدل على ذلك
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن السلب للقاتل وإن لم تكن له بينة- بما يلي:
أولاً: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإنه يدل على إعطاء السلب للقاتل ولا يطلب منه بينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السيف ولم يطلب منه بينة
(2)
.
ويعترض عليه بما يلي:
أ-بأن إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه السيف يحتمل أنه كان لأنه القاتل ويستحق سلب المقتول، لكنه يحتمل كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السيف نفلاً، لا لكونه سلباً، وهذا يدل
عليه ظاهر الحديث، وللأمير أن ينفل لمن يراه مستحقاً، بما يراه مستحقاً به
(3)
.
(1)
وذكر القاضي عياض أنه قول المالكية. انظر: الاستذكار 4/ 64؛ إكمال المعلم 6/ 62؛ المغني 13/ 74؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 334؛ فتح الباري 6/ 313.
(2)
انظر: الاعتبار ص 506.
(3)
انظر: الاعتبار ص 504؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 329.
ب- إنه على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه على أنه سلب ولم يطلب منه بينة، فهو متقدم؛ حيث كان ذلك في غزوة بدر، وحديث أبي قتادة رضي الله عنه يدل على أن القاتل يعطى السلب بالبينة، فيكون حديث أبي قتادة رضي الله عنه ناسخاً له
(1)
.
ثانياً: حديث أبي قتادة رضي الله عنه السابق.
ووجه الاستدلال منه هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى السلب لأبي قتادة رضي الله عنه بغير شهادة رجلين
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إنه جاء في بعض الروايات أنه شهد له بذلك بعض الناس
(3)
.
ب-إن النبي صلى الله عليه وسلم علم بطريق من الطرق أنه القاتل، وقد صرح بالبينة فلا تلغى
(4)
.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
(1)
انظر: الاعتبار ص 507؛ رسوخ الأحبار ص 508.
(2)
انظر: الاستذكار 4/ 64؛ فتح الباري 6/ 313.
(3)
قال ابن حجر في فتح الباري 6/ 313: (لأنه وقع في مغازي الواقدي أن أوس بن خولي شهد لأبي قتادة). وانظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 12.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 334؛ فتح الباري 6/ 313.
أولَا: لأن دليل هذا القول صريح في أن القاتل لا يُعطى السلب إلا ببينة، بخلاف دليل القول الثاني؛ حيث إنه يحتمل أكثر من احتمال كما سبق بيانه.
ثانياً: إن دليل القول الثاني على تقدير صحة الاستدلال منه يحتمل أن يكون منسوخاً؛ لأن حديث أبي قتادة رضي الله عنه بعده كما سبق بيانه في وجه الاستدلال منه على النسخ.
والله أعلم.
المطلب التاسع: إعطاء النفل من الغنيمة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن النفل
(1)
يُعطى من خمس الخمس، ولا يُعطى من الغنيمة؛ لأن ذلك كان لكنه نسخ.
وممن صرح به: الحازمي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسالة، لكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو اختلاف الأدلة والاختلاف في مفهومها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل قبل أن تنزل فريضة الخمس في المغنم، فلما نزلت الآية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [سورة الأنفال: 41] ترك النفل الذي كان ينفل، وصار
(1)
النفل: الزيادة. ويطلق على الغنيمة. وشرعاً: اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات. والمراد به هنا: ما يعطى الغازي زيادة على سهمه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 781؛ المصباح المنير ص 506؛ التعريفات للجرجاني ص 245؛ أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء لقاسم بن عبد الله القونوي ص 55.
(2)
فإنه قد ذكر ما يدل على إعطاء النفل من الغنيمة، ثم قال:(هذا منقطع، فإن صح فهو من قبيل نسخ السنة بالكتاب). انظر: الاعتبار ص 504.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 505.
(4)
راجع المصدرين في الحاشيتين السابقتين. وانظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 330؛ الجامع لأحكام القرآن 7/ 318؛ فتح الباري 6/ 302 - 303.
ذلك إلى خمس الخمس، من سهم الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثانياً: عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس
مردود فيكم»
(2)
.
ثالثاً: حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد هوازن لما جاءه مسلمين، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن مسك بشيء من هذا الفيء فإن له به ست فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا» ، ثم دنا-يعني النبي صلى الله عليه وسلم من بعير، فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفيء شيء، ولا هذا» ورفع إصبعيه «إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمِخْيَط» الحديث
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 512، موصولاً، وأخرجه أبو داود في المراسيل-عن عمرو بن شعيب عن أبيه- ص 356، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 504، ثم قال الحازمي:(هذا منقطع، فإن صح فهو من قبيل نسخ السنة بالكتاب).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 420، كتاب الجهاد، باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، ح (2755)، والحاكم في المستدرك 3/ 714، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 420.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 409، كتاب الجهاد، باب فداء الأسير بالمال، ح (2694)، والنسائي في سننه ص 638، كتاب قسم الفيء، ح (4139)، وأحمد في المسند 11/ 341، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 548. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 191:(رواه أحمد، ورجال أحد إسناديه ثقات). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 638: (حسن صحيح).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-الأول يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي النفل من الغنيمة، فلما نزل قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ترك النفل من الغنيمة، وأعطاه من خمس الخمس، فدل ذلك على أن إعطاء النفل من الغنيمة قد نسخ بذلك، ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عمرو الثاني، وكذلك حديث عمرو بن عبسة-رضي الله عنهم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد غزوة حنين: إنه ليس له من الغنيمة إلا الخمس، وأن الخمس مردود عليهم. فثبت من ذلك أن النفل يُعطى من خمس الخمس، وهو الذي كان حقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعطى من الغنمية؛ لأن ذلك قد نسخ
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي استدل منه على النسخ يدل على ذلك، لكنه حديث مختلف في رفعه وانقطاعه، والأحاديث المعارضة له أقوى منه وأصح بلا خلاف؛ لذلك
فهو لا يقوى على معارضتها فكيف ينسخها
(2)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 504؛ رسوخ الأحبار ص 503 - 505.
(2)
انظر: الاعتبار ص 504. وراجع تخريج بقية الأحاديث.
ب- إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه هذا جاء فيه أن النفل جُعل من خمس الخمس بعد نزول قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
(1)
. وهذه الآية نزلت بعد غزوة بدر
(2)
، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك النفل من غير خمس الخمس، فهو مما يضعف الاستدلال من ذلك الحديث على النسخ.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في النفل هل يعطى من الغنيمة أم من الخمس أم من غيره، على أقوال أشهرها أربعة، وهي:
القول الأول: إن النفل قبل إحراز الغنيمة، يكون من أصل الغنيمة بعد الخمس، وبعد إحراز الغنيمة، يكون من الخمس.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، ونحوه قول أبي عبيد
(4)
.
القول الثاني: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة، ولا نفل إلا من الخمس.
وهو مذهب المالكية
(5)
.
(1)
سورة الأنفال، الآية (41).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 66؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 6.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 243؛ مختصر القدوري ص 234؛ بدائع الصنائع 6/ 86؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 510، 511؛ حاشية ابن عابدين 6/ 188.
(4)
انظر: كتاب الأموال ص 318، 319، 325، 329.
(5)
انظر: المدونة 1/ 517؛ التمهيد 10/ 74؛ المقدمات الممهدات ص 186؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 570؛ التاج والإكليل 4/ 570.
القول الثالث: يجوز النفل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، ولا يكون إلا من خمس الخمس.
وهو الأصح عند الشافعية
(1)
.
القول الرابع: يجوز النفل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، ويكون من أصل الغنيمة بعد إخراج الخمس منها.
وهو مذهب الحنابلة
(2)
، وقول الحسن البصري، و إسحاق بن راهوية، والأوزاعي، و أبي ثور
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن النفل قبل إحراز الغنيمة، يكون من أصل الغنيمة بعد الخمس، وبعد إحراز الغنيمة، يكون من الخمس- بما يلي:
أولاً: حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم»
(4)
.
(1)
انظر: الأم 4/ 153، 154؛ مختصر المزني ص 201؛ البيان 12/ 197، 198؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 330؛ فتح الباري 6/ 302.
(2)
انظر: المغني 13/ 60؛ الشرح الكبير 10/ 141؛ الممتع 2/ 587؛ الإنصاف 10/ 133، 242.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 77؛ المغني 13/ 60؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 330.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: ثم دنا-يعني النبي صلى الله عليه وسلم من بعير، فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفيء شيء، ولا هذا» ورفع إصبعيه «إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمِخْيَط» الحديث
(1)
.
ثالثاً: حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه»
(2)
.
رابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قِبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونُفِّلنا بعيراً بعيراً، فرجعنا بثلاثة عشر بعيراً)
(3)
.
خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله)
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 892، كتاب المغازي، باب السرية التي قبل نجد، ح (4338)، ومسلم في صحيحه 6/ 331، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال، ح (1749)(36).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 638، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ح (3135)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 332، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال، ح (1750)(40).
سادساً: عن حبيب بن مسلمة
(1)
رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفَّل الثلث بعد الخمس في رجعته)
(2)
.
سابعاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما يدلان على أن الأمير ليس له أن يتصرف
(1)
هو: حبيب بن مسلمة بن مالك بن وهب، القرشي الفهري، نزيل الشام، مختلف في صحبته، والصحيح ثبوتها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: زياد بن جارية، وعوف بن مالك، وغيرهما، وتوفي سنة اثنتين وأربعين. انظر: الإصابة 1/ 352؛ تهذيب التهذيب 2/ 176؛ التقريب 1/ 186.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 419، كتاب الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل، ح (2750)، وابن ماجة في سننه ص 484، كتاب الجهاد، باب النفل، ح (2853)، وأحمد في المسند-واللفظ له-29/ 10، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 239، وابن حبان في صحيحه ص 1305، والحاكم في المستدرك 2/ 145، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 512. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 418.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه ص 369، كتاب السير، باب في النفل، ح (1561)، وابن ماجة في سننه ص 484، كتاب الجهاد، باب النفل، ح (2852)، وأبو عبيد في كتاب الأموال ص 326، والدارمي في سننه 2/ 300، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 240، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 511. قال الترمذي:(حديث حسن). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 369.
في الغنيمة بعد إحرازها إلا في الخمس؛ لأن أربعة أخماسه صارت للمقاتلين، فله أن ينفل من الخمس لا من أصل الغنيمة.
وحديث ابن عمر رضي الله عنه الأول يدل على أنهم نفلوا من الخمس بعد إحراز الغنيمة.
وحديث أبي قتادة، وحبيب بن مسلمة، وعبادة بن الصامت-رضي الله عنهم، وكذلك حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-الثاني تدل على أن للأمير أن يجعل وينفل شيئاً من الغنيمة قبل إحرازها، لمن يراه مستحقاً له حسب اجتهاده؛ وذلك تحريضاً على القتال والجهاد، لكن بعد إخراج الخمس منه.
فيثبت من مجموع هذه الأحاديث: أن النفل قبل إحراز الغنيمة، يكون من أصل الغنيمة بعد إخراج الخمس منها، وبعد إحراز الغنيمة، يكون من الخمس
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن النفل يكون بعد إحراز الغنيمة، ولا يكون إلا من الخمس- بما يلي:
أولاً: حديث عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو، و أبي قتادة-رضي
(1)
انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 325، 329؛ شرح معاني الآثار 3/ 240 - 243؛ مختصر القدوري ص 234؛ بدائع الصنائع 6/ 86؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 510، 511.
الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ذكرها في دليل القول السابق.
ثانياً: حديث ابن عمر-رضي الله عنهما (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قِبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونُفِّلنا بعيراً بعيراً، فرجعنا بثلاثة عشر بعيراً)
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: (لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرُدُّ المسلمون قويُّهم على ضعيفهم)
(2)
.
رابعاً: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
(3)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث أبي قتادة وابن عمر-رضي الله عنهما-يدلان على أنه يجوز للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة، لكن يكون ذلك من الخمس؛ لأن حديثي عبد الله بن عمرو، وكذلك حديث عمرو بن عبسة-رضي الله عنهم-تدل على أن الإمام ليس له التصرف
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 484، كتاب الجهاد، باب النفل، ح (2853)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 484.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 571، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ح (2810)، ومسلم في صحيحه 6/ 530، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ح (1904)(149).
إلا في الخمس، فالخمس مردود قسمته إلى اجتهاد الإمام، فله أن ينفل منه، أما غير الخمس فلا ينفل منه لأن أهله معينون.
أما أنه لا ينفل قبل إحراز الغنيمة؛ فلئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، والجهاد إنما هو لإعلاء كلمة الله كما يدل عليه حديث أبي موسى رضي الله عنه
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة، ومن غير الخمس، بدليل حديث حبيب بن مسلمة، وعبادة بن الصامت-رضي الله عنهما وغيرهما، وذلك للتحريض على القتال
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-هو جواز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، ولا يكون إلا من خمس الخمس- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث عمرو بن عبسة، وبمعناه حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم»
(3)
.
ثانياً: حديث ابن عمر رضي الله عنه (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قِبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونُفِّلنا بعيراً بعيراً، فرجعنا بثلاثة
(1)
انظر: المدونة 1/ 517؛ التمهيد 10/ 75؛ المقدمات ص 186، 187.
(2)
انظر: الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 510؛ المغني 13/ 61.
(3)
سبق تخريجهما في دليل القول بالنسخ.
عشر بعيراً)
(1)
.
ثالثاً: حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفَّل الثلث بعد الخمس في رجعته)
(2)
.
رابعاً: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث)
(3)
.
خامساً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل قبل أن تنزل فريضة الخمس في المغنم، فلما نزلت الآية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [سورة الأنفال: 41] ترك النفل الذي كان ينفل، وصار ذلك إلى خمس الخمس، من سهم الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديثي ابن عمرو، وحبيب بن مسلمة، وعبادة-رضي الله عنهم تدل على جواز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعده، لكن يكون ذلك من خمس الخمس؛ لأن الإمام ليس له أن يتصرف في غير الخمس لحديث عمرو بن عبسة وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم، ثم أربعة أخماس الخمس لمن سمى الله تعالى،
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
فيكون النفل من خمس الخمس الذي هو سهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الأخير
(1)
.
واعترض عليه: بأنه يجوز التنفيل من غير خمس الخمس، يدل عليه حديث عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو، وحبيب بن مسلمة، وعبادة-رضي الله عنهم
(2)
، كما يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنه؛ حيث أن سهم كل واحد منهم كان اثني عشر بعيراً، ونفلوا بعيراً بعيراً، فقد نفلوا نصف السدس، وهو أكثر من خمس الخمس
(3)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو أن النفل يكون من أصل الغنيمة بعد إخراج الخمس منها-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفَّل الثلث بعد الخمس في رجعته)
(4)
.
ثانياً: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في
(1)
انظر: الأم 4/ 153، 154؛ مختصر المزني ص 200؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 511 - 513؛ البيان 12/ 197 - 198.
(2)
انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 325، 329؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 510، 511؛ المغني 13/ 61.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 74؛ فتح الباري 6/ 302.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
البدأة الربع، وفي القفول الثلث)
(1)
.
ثالثاً: حديث ابن عمر-رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله)
(2)
.
رابعاً: عن معن بن يزيد
(3)
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس»
(4)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن حديث ابن عمر، وحبيب بن مسلمة، وعبادة-رضي الله عنهم تدل على جواز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعدها.
وحديث ابن عمر، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد-رضي الله
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(3)
هو: معن بن يزيد بن الأخنس بن حبيب السلمي، أبو يزيد المدني، له ولأبيه ولجده صحبة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو الجويرية، وعتبة بن رافع، وغيرهما، وقتل سنة أربع وستين. انظر: الإصابة 3/ 1876؛ تهذيب التهذيب 10/ 228؛ التقريب 2/ 204.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 419، كتاب الجهاد، باب في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم، ح (2753)، وأحمد في المسند 25/ 194، وأبو عبيد في كتاب الأموال ص 325، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 242، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 512. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 419.
عنهم-تدل على أن النفل يكون بعد إخراج الخمس من الغنيمة.
فيثبت من مجموعها جواز التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس منها، وجواز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعدها
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث ابن عمر رضي الله عنه (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قِبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونُفِّلنا بعيراً بعيراً، فرجعنا بثلاثة عشر بعيراً)
(2)
. يدل على أنهم أعطوا النفل من الخمس؛ لذلك يكون الفرق بين إعطاء النفل قبل إحراز الغنيمة من الغنيمة بعد الخمس، وبين إعطائه من الخمس بعد إحراز الغنيمة أولى؛ لأنه يمكن أن يجمع به بين هذه الآثار كلها
(3)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو جواز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، وأن ما كان قبل إحراز الغنيمة فإنه يخرج من الغنيمة بعد الخمس، وما كان بعد إحراز الغنيمة فإنه يكون من الخمس؛ وذلك لأن
(1)
انظر: المغني 13/ 61؛ الشرح الكبير 10/ 141، 142.
(2)
سبق تخريجه في أدلة القول الأول.
(3)
انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 325، 329؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 510، 511.
هذا القول يمكن أن يجمع به بين هذه الأحاديث؛ حيث إن حديث حبيب بن مسلمة، وعبادة-رضي الله عنهما-يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية الربع في البدأة، والثلث في الرجوع، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل سرية من الجيش في الخروج للغزو، فيقول لهم: إن ما غنمتم فلكم ربعه بعد الخمس. ويرسل سرية من الجيش عند الرجوع من الغزو، فيقول لهم: إن ما غنمتم فلكم ثلثه بعد الخمس
(1)
.
فهذا تنفيل قبل إحراز الغنيمة، وهو من الغنيمة بعد الخمس، وليس من الخمس
(2)
.
أما إذا أحرزت الغنائم، وأراد الأمير أن ينفل أحداً، فينفله من الخمس؛ لأن حق المقاتلين قد تعينت في أربعة أخماس الغنيمة، وله أن يتصرف في الخمس، كما يدل عليه حديث عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما-رضي الله عنهم
(3)
.
قال أبو عبيد: (وفي هذا النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى.
فإحداهن في النفل الذي لا خمس فيه. والثانية: في النفل الذي يكون
(1)
انظر: معالم السنن 4/ 58؛ تحفة الأحوذي 5/ 165.
(2)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 510، 511؛ المغني 13/ 61.
(3)
انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 325، 329؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 510، 511.
من الغنيمة بعد إخراج الخمس. والثالثة: في النفل الذي يكون من الخمس نفسه. والرابعة: في النفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء.
فأما الذي لا خمس فيه فإنه السلب، وذلك أن ينفرد الرجل بقتل المشرك، فيكون له سلبه مسلماً، من غير أن يخمس أو يشركه فيه أحد من أهل العسكر.
وأما الذي يكون من الغنيمة بعد الخمس، فهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب فتأتي بالغنائم، فيكون للسرية مما جاءت به الربع، أو الثلث بعد الخمس.
وأما الثالث فأن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه بقدر ما يرى.
وأما الذي يكون من جملة الغنيمة فما يُعطى الأدلاء على عورة العدو، ورعاء الماشية والسواق لها، وذلك أن هذا منفعة لأهل العسكر جميعاً)
(1)
.
ثانياً: إن القول بأن إعطاء النفل من الغنيمة قد نسخ بالإعطاء من خمس الخمس، فهو وإن كان حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي استدل منه على النسخ يدل على ذلك، لكنه قول ضعيف، وذلك لما يلي:
أ-لأن ذلك الحديث مختلف في رفعه وانقطاعه، أما الأحاديث المخالفة له فهي أقوى منه وأصح بلا خلاف؛ لذلك فهو لا يقوى
(1)
كتاب الأموال ص 318، 319.
على معارضتها
(1)
.
ب- إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي استدل منه على النسخ، جاء فيه أن النفل جُعل من خمس الخمس بعد نزول قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
(2)
.
وهذه الآية تزلت بعد غزوة بدر
(3)
، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك النفل من غير خمس الخمس كما يدل عليه بعض الأحاديث السابقة، وهو مما يضعف الاستدلال من ذلك الحديث على النسخ.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 504. وراجع تخريج بقية الأحاديث.
(2)
سورة الأنفال، الآية (41).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 66؛ الجامع لأحكام القرآن 8/ 6.
المطلب العاشر: المن بأسرى الكفار ومفادتهم
ذهب بعض أهل العلم إلى أن أسرى الكفار لا يُمَنُّ عليهم ولا يفادون، وأن ما يدل على مفادتهم أو المن بهم قد نسخ.
وممن صرح بالنسخ: ابن جريج
(1)
، والسدي
(2)
، وقتادة
(3)
، والجصاص
(4)
، والمرغيناني
(5)
. وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الأدلة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(7)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
(1)
انظر: جامع البيان 13/ 7824؛ نواسخ القرآن 2/ 583.
(2)
انظر: جامع البيان 13/ 7824؛ نواسخ القرآن 2/ 583.
(3)
انظر: جامع البيان 13/ 7824.
(4)
انظر: أحكام القرآن له 3/ 521.
(5)
هو: علي بن أبي بكر عبد الجليل، الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن، من شيوخه: عمر بن محمد النسفي، ونجم الدين عمر. وممن تفقه عليه: شمس الأئمة الكردري محمد بن عبد الستار. ومن مؤلفاته: (الهداية) وتوفي سنة ثلاث وتسعين وخمسائة. انظر: تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة لعبد القادر بن محمد ص 48 - 51؛ الفوائد البهية ص 36 - 37.
وانظر قوله بالنسخ في كتابه: الهداية-مع شرحه فتح القدير- 5/ 476.
(6)
انظر: جامع البيان 13/ 7824.
(7)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الخامسة. وانظر: بداية المجتهد 2/ 738.
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
(2)
.
(3)
.
رابعاً: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الأولى تدل على أن الكفار إذا أسرهم المسلمون، فيجوز لهم أن يمنوا عليهم ويطلقوا سراحهم، ويجوز لهم أن يفادوا بهم، والآيات الثلاثة بعدها فيها الأمر بقتل المشركين، فتكون الآية الأولى منسوخة بها؛ لأنها في سورة محمد، والآيات الثلاثة في سورة الأنفال والتوبة، وهما بعد سورة محمد، فيكون الأمر بقتل المشركين والكافرين ناسخاً لجواز المن بهم، أو أن يفادوا بهم
(5)
.
(1)
سورة محمد، الآية (4).
(2)
سورة الأنفال، الآية (57).
(3)
سورة التوبة، الآية (5).
(4)
سورة التوبة، الآية (36).
(5)
انظر: جامع البيان 13/ 7824، 7825؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 521؛ نواسخ القرآن 2/ 584، 585؛ الجامع لأحكام القرآن 15/ 194.
واعترض عليه: بأن هذه الأدلة التي يستدل منها على النسخ عامة، والأدلة التي تدل على جواز المنّ والفداء على أسرى الكفار خاصة، والعام لا يُنسخ به الخاص؛ لأن الجمع بينهما ممكن، وذلك بتنزيل العام على ما عدا المخصوص، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة تعذر ادعاء النسخ
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في المنّ والفداء على أسرى الكفار على قولين:
القول الأول: لا يمنّ عليهم، ولا يفادون بالمال، ويفادى بهم أسارى المسلمين.
وهو قول الحنفية
(2)
.
القول الثاني: إن للإمام أن يمنّ على أسرى الكفار، وأن يفادى بهم بالمال أو بأسرى المسلمين.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وقول
(1)
انظر: جامع البيان 13/ 7826؛ المقدمات ص 192؛ المغني 13/ 47؛ الاعتبار ص 495.
(2)
قال أبو يوسف ومحمد: للإمام أن يفادى بهم أسارى المسلمين، وهو رواية عن الإمام أبي حنفية، قيل هو
أظهر الروايتين عنه، وفي رواية عنه: لا يفادى بالأسارى. وعلى هذا مشى صاحب القدوري والهداية. انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 520؛ مختصر القدوري ص 232؛ بدائع الصنائع 6/ 95؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 474؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 172.
(3)
انظر: المقدمات ص 192؛ بداية المجتهد 2/ 737؛ جامع الأمهات ص 245؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 4/ 555، 556؛ التاج والإكليل 4/ 555.
(4)
انظر: الأم 4/ 311؛ البيان 14/ 147؛ العزيز 11/ 410؛ روضة الطالبين ص 1806.
(5)
انظر: المغني 13/ 44؛ الشرح الكبير 10/ 80؛ الممتع 2/ 548؛ الفروع 10/ 257؛ الإنصاف 10/ 80.
الأوزاعي، وأبي ثور
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن الإمام ليس له المن بأسرى الكفار ولا الفداء بالأموال- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره من قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(2)
. وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(3)
. و قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
(4)
.
ثانياً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عُقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عُقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال: يا محمد! فأتاه فقال: «ما شأنك؟» فقال: بم أخذتني؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال إعظاماً لذلك: «أخذت بجريرة حلفائك ثقيف» ، ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد! وكان
(1)
انظر: المغني 13/ 44.
(2)
سورة التوبة، الآية (5).
(3)
سورة التوبة، الآية (29).
(4)
سورة التوبة، الآية (36).
رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فرجع إليه فقال:«ما شأنك؟» قال: إني مسلم. قال: «لوقلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح» ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال: «ما شأنك» قال إني جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني. قال:«هذه حاجتك» ففُدي بالرجلين. الحديث
(1)
.
ثالثاً: عن سلمة
(2)
رضي الله عنه قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر، أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا. فلما كان بيننا وبين الماء ساعة، أمرنا أبو بكر فعرسنا، ثم شنّ الغارة فورد الماء، فقتل من قتل عليه، وسبى، وأنظرُ إلى عنق
(3)
من الناس، فيهم الذراري. فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا. فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم، (قال: القشع النطع) معها ابنة لها من أحسن العرب. فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر. فنفلني أبو بكر ابنتها. فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً. فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال:«يا سلمة هب لي المرأة» فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوباً. ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 171، كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد، ح (1641)(8).
(2)
هو سلمة بن الأكوع، كما هو مصرح به في رواية ابن ماجة، (2846).
(3)
عنق من الناس أي جماعة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 264.
فقال لي: «يا سلمة! هب لي المرأة، لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله! فوالله ما كشفت لها ثوباً. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسروا بمكة
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن الآيات المذكورة تدل على وجوب قتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، والمن عليهم بإطلاق سراحهم، أومفادتهم بالمال ينافي ذلك. وما يدل على المن عليهم أو فدائهم بالمال فإنه قد نسخ، لذلك لا يمن الإمام عليهم ولا يفادوهم بالمال، لكن يجوز مفادتهم بأسرى المسلمين، بدليل الأحاديث المذكورة
(2)
.
واعترض عليه: بأن الآيات المذكورة عامة، والأدلة التي تدل على جواز المنّ والفداء على أسرى الكفار خاصة، والجمع بينهما ممكن، بحمل العام على ما عدا محل الخصوص، كما حمل على الخصوص في الفداء بالأسارى من المسلمين؛ لذلك لا يصح ادعاء النسخ، ولا التعارض بين الأدلة الواردة في المسألة
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجوز للإمام المن بأسرى الكفار
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 341، كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، ح (1755)(46).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 521؛ بدائع الصنائع 6/ 95؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 474؛ حاشية ابن عابدين 6/ 172.
(3)
انظر: جامع البيان 13/ 7826؛ المقدمات ص 192؛ المغني 13/ 47؛ الاعتبار ص 495.
وفداؤهم بأسرى المسلمين، وبالمال- بأدلة منها ما يلي:
(1)
.
ثانياً: حديث عمران بن حصين، وسلمة بن الأكوع-رضي الله عنهما-الدالان على جواز فداء أسرى الكفار بأسارى المسلمين، وقد سبق ذكرهما في دليل القول السابق.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال
(2)
، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«ما ذا عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسله منه ما شئت، فتُرك حتى كان الغد، ثم قال له:«ما عندك يا ثمامة؟» ، فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:«ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك. فقال: «أطلقوا ثمامة» فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد،
(1)
سورة محمد، الآية (4).
(2)
هو: ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة، الحنفي، أبو أمامة اليمامي، صحابي، أسلم قبل فتح مكة، وثبت على الإسلام لما ارتد أهل اليمامة، وشارك في قتال المرتدين، وقتل فيها. انظر: الإصابة 1/ 230.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الحديث
(1)
.
رابعاً: عن جبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي
(2)
حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»
(3)
.
خامساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [سورة الفتح: 24]
(4)
.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة)
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 900، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، ح (4372)، ومسلم في صحيحه 6/ 358، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه، ح (1764)(59).
(2)
هو: المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، القرشي النوفلي، والد جبير رضي الله عنه، وكان قد أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه. وتوفي قبل غزوة بدر مشركاً. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 381؛ الإصابة 1/ 259.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 639، كتاب فرض الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس، ح (3139).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 436، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى:{وهو الذي كف أيديهم عنكم} ، ح (1808)(133).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 408، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، ح (2691)، والحاكم في المستدرك 2/ 135. قال الحاكم:(صحيح على شرطهما» ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 408: (صحيح دون الأربع مئة).
ووجه الاستدلال منها هو: أن الآية الكريمة تدل على جواز المن بأسرى الكفار، وفداؤهم بالمال أو بالأسارى.
وحديث عمران بن حصين، وسلمة بن الأكوع-رضي الله عنهما-يدلان على جواز فداء أسرى الكفار بأسارى المسلمين.
وحديث أبي هريرة، وجبير بن مطعم، وأنس-رضي الله عنهم-تدل على جواز المن بأسرى الكفار.
وحديث ابن عباس-رضي الله عنهما-يدل على جواز فداء أسرى الكفار بالمال.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن للإمام أن يمن بأسرى الكفار ويطلق سراحهم، وله أن يفاديهم بالمال، أو بالأسارى من المسلمين
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو أنه يجوز للإمام إذا رأى المصلحة أن يمن على أسرى الكفار، فيطلقهم بدون أي عوض، أو أن يطلق سراحهم مقابل عوض مالي، أو أسارى مسلمين، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع كثرتها وصحتها، صريحة في الدلالة على المراد بها، بخلاف أدلة القول الأول؛ حيث إنها تدل على قتل
(1)
انظر: المقدمات لابن رشد ص 192؛ البيان للعمراني 14/ 149 - 151؛ المغني 13/ 45 - 47.
المشركين، أو فداء أسراهم بأسرى المسلمين، وليست صريحة في النهي عن المن على أسراهم أو فدائهم بالمال.
ثانياً: ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة كلها، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.
ثالثاً: ولأن القول بنسخ ما يدل على المن على أسرى الكفار أو فدائهم بالمال ضعيف، لما يلي:
أ-لأنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة يتعذر إدعاء النسخ
(1)
.
ب- ولأن قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(2)
. ونحوه مما سبق ذكره وإن كان بعد قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
(3)
. إلا أنه لا يسلم أن جميع الأدلة التي تدل على جواز المن بأسرى الكفار وافتدائهم بالمال، متقدمة على تلك الآيات حتى تكون هي ناسخة لها، بل كان من سيرته صلى الله عليه وسلم منذ أن أذن الله له بحرب الكفار إلى أن قبضه الله، قتل بعض أسرى الكفار، ومنّ على بعضهم، وأخذ الفداء من بعضهم
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495؛ المغني 13/ 47.
(2)
سورة التوبة، الآية (5).
(3)
سورة محمد، الآية (4).
(4)
انظر: جامع البيان 13/ 7826.
المطلب الحادي عشر: مبايعة النساء باليد
ذهب بعض أهل العلم إلى أن ما يدل على جواز مبايعة النساء باليد-إن ثبت- فهو منسوخ؛ لذلك لا يجوز مبايعتهن باليد، وإنما يُبايعن بالقول.
وممن صرح به: الحازمي
(1)
، وأبو حامد الرازي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
.
وجمهور أهل العلم وإن لم يذهبوا إلى القول بالنسخ، إلا أنه لا خلاف بين الجميع في أن مبايعة النساء يكون بالقول لا باليد
(4)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن عامر الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء، فيضع ثوباً على يده، فلما كان بعد، كُنّ يجئن النساء فيقرأ هذه الآية عليهن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا
(1)
انظر: الاعتبار ص 513 - 514.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 94.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 512.
(4)
قد ذكر غير واحد من أهل العلم الأحاديث الواردة في مبايعة النساء، ولم أجد من قال بجواز مبايعتهن باليد. راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: جامع البيان 14/ 8399 - 8403؛ التمهيد 16/ 293، 303؛ الاستذكار 7/ 555، 557؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 495؛ فتح الباري 8/ 559 - 560؛ عمدة القاري 13/ 396.
يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]. فإذا أقررن، قال:«قد بايعتكن» حتى جاءت هند
(1)
امرأة أبي سفيان
(2)
أم معاوية، فلما قال:«ولا يزنين» قالت: أو تزني الحرة؟ لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية فكيف في الإسلام، فقال:«ولا يقتلن أولادهن» فقالت: أنت قتلت آباءهم وتوصينا بأولادهم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«ولا يسرقن» فقالت: يا رسول الله إني أصيب من مال أبي سفيان، قال: فرخص لها
(3)
.
ثانياً: عن معقل بن يسار رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح النساء من
(1)
هي: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، القرشية، والدة معاوية بن أبي سفيان، أسلمت يوم الفتح، وتوفيت في خلافة عمر رضي الله عنه وقيل خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 310؛ الإصابة 4/ 2657.
(2)
هو: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأموي، أبو سفيان، مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح، وشهد حنيناً والطائف، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس، وقيس بن حازم، وغيرهما، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قيل سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 263؛ الإصابة 2/ 889، 890.
(3)
أخرجه أبو داود في مراسيله-مختصراً-ص 427، والحازمي في الاعتبار-واللفظ له- ص 513، وقال في ص 514:(وحديث الشعبي الذي بدأنا بذكره منقطع، فلا يقاوم هذه الأحاديث الصحاح، فإن كان ثابتاً ففيه دلالة على النسخ، وله شاهد في بعض الأحاديث). وقال ابن حجر في الفتح 8/ 560: (وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب، أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي).
تحت الثوب)
(1)
.
ثالثاً: عن إبراهيم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء وعلى يده ثوب)
(2)
.
رابعاً: عن أم عطية-رضي الله عنها-قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، فأرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم علينا، فرددنا عليه السلام، ثم قال: أنا رسول رسول الله إليكنّ، قالت: فقلنا: مرحباً برسول الله، وبرسول رسول الله، فقال:(تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً ولا تزنين ولا تسرقن) الآية، قالت: فقلنا: نعم، قالت:(فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت)، ثم قال:(اللهم اشهد)، قالت: وأمرنا بالعيد وأن نخرج فيه الحيض والعتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنازة)
(3)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 42: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عتاب بن حرب، وهو ضعيف). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 170: (وروى الطبراني من حديث معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح النساء في بيعة الرضوان من تحت الثوب). وعتاب بن حرب قال عنه أبو حفص الفلاس: (ضعيف جداً) أنظر: المغني في الضعفاء 2/ 38.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 9، ورجاله إلى إبراهيم رجال الصحيح. وهو مرسل. وانظر: فتح الباري 8/ 559.
(3)
أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 859، والطبري في جامع البيان 14/ 8402. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 41:(رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني، ورجاله ثقات).
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]. ونهانا عن النياحة. فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها
(1)
.
خامساً: عن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء، قالت: ما مس رسول الله بيده امرأة قطُّ إلا أن يأخذ عليها، فإذا أخذ عليها فأعطته، قال:«اذهبي فقد بايعتك»
(2)
.
سادساً: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمتحنهنّ بقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12]. إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهنّ، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«انطلقن فقد بايعتكنّ» ولا، والله ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط. غير أنه يبايعهنّ بالكلام.
قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1051، كتاب التفسير، باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} ، ح (4892).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 496، كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء، ح (1866)(89).
الله تعالى، وما مسّت كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط. وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن:«قد بايعتكنّ» كلاماً
(1)
.
سابعاً: عن أميمة بنت رقيقة
(2)
رضي الله عنها أنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال:«فيما استطعتنّ وأطقتنّ» ، قال: قلنا: الله ورسوله أرحم بنا؛ هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة-أو مثل قولي لامرأة واحدة-»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1951، كتاب التفسير، باب {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} ، ح (4891)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 495، كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء، ح (1866)(88).
(2)
هي: أميمة بنت بجاد بن عبد الله بن عمير، القرشية التيمية، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه، وروى عنها بنتها حكيمة، ومحمد بن المنكدر. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 248؛ الإصابة 4/ 2426، 2428.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه ص 377، كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، ح (1597)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 645، كتاب البيعة، باب بيعة النساء، ح (4181)، وابن ماجة في سننه ص 487، كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، ح (2874)، ومالك في الموطأ ص 749، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 514. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 645.
ويستدل منها على النسخ: بأن ما روي عن معقل بن يسار رضي الله عنه، والشعبي، وإبراهيم النخعي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء باليد، ويضع عليه ثوباً.
وما روي عن أم عطية-رضي الله عنها-يحتمل كذلك مبايعة النساء باليد؛ حيث جاء فيما روي عنها: مد اليد، وقبضه
(1)
.
وما روي عن عائشة، وأميمة-رضي الله عنهما-يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبايع النساء باليد، بل إنما كان يبايعهن بالكلام.
فيكون ما يدل على النهي عن مبايعة النساء باليد ناسخاً لما يدل على جوازه؛ لتأخره عليه، يدل على ذلك حديث الشعبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء، فيضع ثوباً على يده، فلما كان بعد، كن يجئن النساء فيقرأ هذه الآية عليهن:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]. فإذا أقررن، قال:«قد بايعتكن»
(2)
.
ولا خلاف بين أهل العلم- كما سبق-أن مبايعة النساء يكون بالكلام لا باليد؛ لحديث عائشة، وأميمة-رضي الله عنهما-وغيره، لكن بعض أهل العلم لم يصحح ما روي في بيعة النساء باليد، لذلك لم يتعرض
(1)
انظر: فتح الباري 8/ 559، 560؛ التلخيص الحبير 4/ 170؛ عمدة القاري 13/ 396.
(2)
انظر: الاعتبار ص 513، 514؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 94؛ رسوخ الأحبار ص 510 - 512.
إلى القول بالنسخ في المسألة، لكن مجموع ما روي في المسألة يقوى بعضه بالبعض، وبالتالي يتقوى احتمال أن بيعة النساء كان باليد، ثم نسخ بالبيعة بالكلام
(1)
والله أعلم.
(1)
انظر: جامع البيان 14/ 8399 - 8403؛ التمهيد 16/ 293، 303؛ الاستذكار 7/ 555، 557؛ الاعتبار
ص 513، 514؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 495؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 94؛ رسوخ الأحبار ص 510 - 512؛ فتح الباري 8/ 559 - 560؛ عمدة القاري 13/ 396؛ تحفة الأحوذي 5/ 212.
المطلب الثاني عشر: حرق متاع الغال
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الغال
(1)
لا يحرق متاعه، وأن ما يدل على حرق متاعه إن صح يحتمل أنه كان حين كانت العقوبات في الأموال، وقد نسخ ذلك، فيكون حرق متاع الغال مثله
(2)
.
وممن صرح به: الطحاوي
(3)
، وابن العربي
(4)
، والرافعي
(5)
.
وتبين منه أن القول به أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو تعارض ظواهر الآثار، والاختلاف في صحة بعضها
(6)
.
(1)
الغال من الغلول، وهو لغة الخيانة، سواء كان في المغنم أو غيره. واصطلاحاً: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة فبل القسمة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 316؛ المصباح المنير ص 368؛ التعريفات الفقهية ص 159.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/ 109؛ تهذيب سنن أبي داود مع مختصر المنذري 2/ 192.
(3)
ونقل كلامه ابن عبد البر، وأقره عليه، وكذلك النووي. انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 10/ 129؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 463؛ فتح الباري 6/ 239.
(4)
انظر: أحكام القرآن له 1/ 302.
(5)
انظر: العزيز 11/ 438.
(6)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ التمهيد 10/ 129؛ بداية المجتهد 2/ 763؛ المغني 13/ 168، 169؛ العزيز 11/ 438؛ زاد المعاد 3/ 109؛ فتح الباري 6/ 238؛ التلخيص الحبير 4/ 114.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه»
(1)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 412، كتاب الجهاد، باب في عقوبة الغال، ح (2713)، والترمذي في سننه ص 346، كتاب الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به، ح (1461)، وأحمد في المسند 1/ 289، والدارمي في سننه 2/ 303، والحاكم في المستدرك 2/ 139، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 175. قال الإمام البخاري عن هذا الحديث فيما نقله عنه ابن حجر في الفتح 6/ 238:(باطل ليس له أصل، وراويه لا يعتمد عليه). وذكره أبو داود بعد الرواية السابقة موقوفاً ثم قال: (وهذا أصح الحديثين). وقال عنه الترمذي: (هذا الحديث غريب). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وضعفه البيهقي. وذكر النووي في شرح مسلم 6/ 463، أن الجمهور ضعفوا هذا الحديث. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 114:(لم يصح). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 412. وفي سنده صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد، قال البخاري: (منكر الحديث). وتكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال ابن حجر: أحد الضعفاء. انظر: سنن الترمذي ص 346؛ مختصر المنذري 4/ 40؛ فتح الباري 6/ 238؛ نيل الأوطار 7/ 410.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 413، كتاب الجهاد، باب في عقوبة الغال، ح (2715)، والحاكم في المستدرك 2/ 142، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 174. وأخرجه أبو داود بعد الحديث السابق موقوفاً على عمرو بن شعيب. قال الحاكم:(غريب صحيح). ووافقه الذهبي. وضعفه البيهقي في سننه 9/ 174، والشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 413. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 114:(لم يصح)، ورجح في فتح الباري 6/ 238، الموقوف على عمرو بن شعيب.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة
(1)
، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هو في النار» . فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً ولا فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مدعم
(3)
، أهداه له أحد بني الضباب
(4)
، فبينما هو يحطُّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر
(5)
حتى أصاب ذلك العبد. فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
هو: كركرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان نوبياً، أهداه له هوذة بن علي الحنفي اليمامي. وأعتقه رسول لله صلى الله عليه وسلم، وقيل: توفي وهو مملوك. انظر: الإصابة 3/ 1685.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 624، كتاب الجهاد والسير، باب القليل من الغلول، ح (3074).
(3)
هو: مدعم الأسود، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مولداً من حسمى، أهداه رفاعة بن زيد الجذامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل بعد فتح خيبر. انظر: الإصابة 3/ 1806.
(4)
هو: رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبي، ويقال: الضبني. انظر حديث مسلم برقم (115)(183) وفتح الباري 7/ 599.
(5)
عائر، السهم العائر هو السهم الذي لا يُدرى من رماه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 278؛ المصباح المنير ص 358.
«بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً» . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«شراك أو شراكان من النار»
(1)
.
خامساً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(2)
.
سادساً: عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
(3)
.
سابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه
…
»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الحديثين الأول والثاني-إن صحا وثبتا-تدلان على حرق متاع الغال.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 872، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ح (4234)، ومسلم في صحيحه 2/ 194، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، ح (115)(183).
(2)
سبق تخريجه في ص 852.
(3)
سبق تخريجه في ص 853.
(4)
سبق تخريجه في ص 853.
ويستفاد من الأحاديث الثلاثة الأخيرة عدم العقوبة بالمال؛ حيث إنها تدل على عدم جواز أخذ مال المسلم إلا بطيب نفس منه.
فتكون هذه الأحاديث وما في معناها ناسخة لحرق متاع الغال، ويؤيد ذلك الحديث الثالث والرابع؛ حيث لم يذكر فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق متاع كركرة، ومدعم
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يوجد ما يصرح بالنسخ، وما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حرق متاع الغال على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يعاقب الغال بالتعزير، ولا يحرق متاعه.
وهو قول جمهور أهل العلم، منهم: الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
،
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ التمهيد 10/ 129؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 251؛ العزيز 11/ 438؛ زاد المعاد 3/ 109؛ تهذيب سنن أبي داود 2/ 192.
(2)
انظر: التلخيص الحبير 4/ 114.
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ المبسوط للسرخسي 10/ 50؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 76.
(4)
انظر: التمهيد 10/ 128؛ الاستذكار 7/ 93؛ بداية المجتهد 2/ 763؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 301؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 253؛ التاج والإكليل 4/ 549؛ مواهب الجليل 4/ 549؛ الشرح الكبير 2/ 283.
والشافعية
(1)
، والليث بن سعد
(2)
.
القول الثاني: يلزم حرق متاع الغال كله إلا المصحف وما فيه الروح.
وهو مذهب الحنابلة
(3)
، ونحوه قول الحسن، ومكحول، والأوزاعي، وإسحاق
(4)
.
القول الثالث: إن تحريق متاع الغال من باب التعزير الراجع إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى الإمام المصلحة في التحريق حرق متاعه، وإلا فلا.
وهو اختيار بعض الحنابلة، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم تحريق متاع الغال- بما يلي:
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/ 173، 174؛ العزيز 11/ 438؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 463.
(2)
انظر: التمهيد 10/ 128؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 253؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 463؛ تفسير ابن كثير 1/ 400.
(3)
انظر: المغني 13/ 168؛ الشرح الكبير 10/ 294؛ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص 207؛ الفروع 10/ 292؛ شرح الزركشي 4/ 191؛ الإنصاف 10/ 294.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 5/ 247؛ التمهيد 10/ 129؛ الجامع لأحكام القرآن 4/ 253؛ المغني 13/ 168.
(5)
وصوبه ابن القيم، والمرداوي، وقال ابن المفلح:(وهذا أظهر). انظر: مجموع الفتاوى 28/ 110، 596؛ زاد المعاد 3/ 109؛ الفروع 10/ 293؛ الإنصاف 10/ 294؛ الشرح الممتع 3/ 484.
أولاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هو في النار» . فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها
(1)
.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في فتح خيبر وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً» . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«شراك أو شراكان من النار»
(2)
.
ثالثاً: الأحاديث الدالة على عدم حل مال المسلم إلا بطيب نفس منه، ومنها:
أ-حديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(3)
.
ب-حديث أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
(4)
.
ج-حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في ص 852.
(4)
سبق تخريجه في ص 853.
حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه
…
»
(1)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن الحديثين الأولين ليس فيهما ذكر تحريق متاع الغال، ولو كان الغال يحرق متاعه لذكر فيهما ذلك، وهما أصح من الأحاديث التي جاء فيها ذكر تحريق متاع الغال
(2)
.
والأحاديث الثلاثة الباقية تدل على عدم التعرض لمال المسلم إلا بطيب نفس منه، فيستدل منها على عدم العقوبة بالمال، وهي عامة تشمل الغال وغيره
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن الغال يحرق متاعه إلا المصحف والحيوان- بحديث عمر بن الخطاب، وحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ؛ فإنهما يدلان على حرق متاع الغال؛ لأن حديث عمر رضي الله عنه يدل على أن
(1)
سبق تخريجه في ص 853.
(2)
انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/ 238؛ السنن الكبرى للبيهقي 9/ 174؛ التمهيد 10/ 128؛
الجامع لأحكام القرآن 4/ 251.
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ التمهيد 10/ 129؛ العزيز 11/ 438؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 463.
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحرق متاع الغال، وحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر-رضي الله عنهما-حرقوا متاع الغال
(1)
.
واعترض عليه: بأن كلا الحديثين صريحين في الدلالة على المسألة، لكنهما ضعيفان؛ ضعفهما غير واحد من الأئمة، وعلى تقدير أن يكونا صحيحين فإنهما يحتملان أن يكونا منسوخين بالأحاديث الدالة على تحريم التعرض لمال المسلم من غير طيب نفس منه
(2)
.
وأجيب عنه: بأن من أهل العلم من صححهما. أما ما ذكر من نسخهما، فهو احتمال والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن تحريق متاع الغال من باب التعزير، فإن رأى الإمام المصلحة في التحريق حرق متاعه، وإلا فلا-بما يلي:
أولاً: حديثا عمر، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم-الدالان على تحريق متاع الغال. وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: حديثا عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رضي الله عنهم-والذين جاء فيهما ذكر من غل، ولم يذكر فيهما تحريق متاع الغال. وقد سبق ذكرهما في أدلة القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن الحديثين الأولين يدلان على تحريق
(1)
انظر: المغني 13/ 169؛ الشرح الكبير 10/ 296.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ التمهيد 10/ 129؛ العزيز 11/ 438؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 463.
(3)
فقد سبق في تخرجهما أن الحاكم والذهبي صححهما. وانظر: التلخيص الحبير 4/ 114.
متاع الغال. و الحديثان الأخيران يدلان على ترك التحريق. فيثبت من مجموعها أن تحريق متاع الغال إلى رأي الإمام فإن رأى المصلحة في التحريق حرق وإلا فلا
(1)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثالث، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث المختلفة، كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث تعين المصير إليه، ويتعذر معه ادعاء النسخ
(2)
.
ثانياً: ولأن القول بنسخ ما يدل على حرق متاع الغال بأحاديث النهي عن التعرض لمال المسلم أو بغيرها احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(3)
.
ثالثاً: ولأن القول بنسخ تحريق متاع الغال، أساسه القول بنسخ العقوبات المالية، لكن يقال: إن القول بنسخ العقوبات المالية ليس متفقاً عليه، ولا مجمعاً عليه، لذلك يكون في الاستلال منه على نسخ تحريق متاع الغال نظراً
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 110، 596؛ زاد المعاد 3/ 109؛ الفروع 10/ 293؛ الإنصاف 10/ 294.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: التلخيص الحبير 4/ 114.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/ 253؛ مجموع الفتاوى 28/ 110؛ تهذيب سنن أبي داود 3/ 391؛ زاد المعاد 3/ 109؛ إعلام الموقعين 2/ 75؛ الطرق الحكمية ص 207.
المطلب الثالث عشر الصلح مع المشركين على أن يُرد إليهم من جاء منهم مسلماً
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز اشتراط رد النساء إلى الكفار في الصلح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً، سواء كان رجلاً أو امرأة، لكن نسخ الله ذلك الحكم في النساء؛ لذلك لا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار
(1)
.
وممن صرح بنسخ ذلك: الإمام الشافعي
(2)
، وابن قدامة
(3)
، وابن القيم
(4)
، ونسبه القرطبي إلى أكثر العلماء
(5)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يُرد إلى المشركين من جاء منهم مسلماً، سواء كان رجلاً أو امرأة، ولا يصح اشتراط ذلك في
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 243؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 56؛ العزيز 11/ 565؛ فتح الباري 5/ 405.
(2)
انظر: الأم 4/ 205، 206.
(3)
انظر: المغني 13/ 160.
(4)
انظر: زاد المعاد 3/ 308.
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 18/ 57.
الصلح، وأن ما يدل على جواز ذلك قد نسخ
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(2)
، والجصاص
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
، وأبو إسحاق الجعبري
(5)
.
وتبين منه أن القول به أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن الاختلاف في المفهوم من الأدلة الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(6)
.
ويستدل لمن قال بنسخ جواز اشتراط ردهن إلى الكفار بما يلي:
(7)
.
ثانياً: عن عروة بن الزبير: أنه سمع مروان، والمسور بن مخرمة
(8)
رضي الله عنه
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 243؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 57؛ فتح الباري 5/ 407.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 262؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 449، 450.
(3)
انظر: أحكام القرآن له 3/ 521.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 93.
(5)
انظر: رسوخ الأحبار ص 513.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة.
(7)
سورة الممتحنة، الآية (10).
(8)
هو: المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب، القرشي الزهري، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم المدينة بعد الفتح سنة ثمان، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: عروة، وعلي بن الحسين، وغيرهما، ومات سنة أربع أو خمس وستين. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 77؛ الإصابة 3/ 1838.
يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كاتب سهيل بن عمرو
(1)
يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا
(2)
منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل
(3)
إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً. وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
(4)
ممن خرج إلى
(1)
هو: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، القرشي العامري، خطيب قريش، تولى أمر الصلح بالحديبية، وأسلم عام الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالشام في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة. انظر: الإصابة 1/ 785، 786.
(2)
امتعضوا من معض، أي شق عليهم ذلك وعظم، يقال: معض من شيء سمعه وامتعض إذا غضب وشق عليه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 667.
(3)
هو: أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، القرشي العامري، قيل: اسمه عبد الله، كان من السابقين إلى الإسلام، وكان أقبل مع المشركين في غزوة بدر فانحاز إلى المسلمين، ثم أسر بعد ذلك وعذب ليرجع عن دينه، واستأمن لأبيه يوم فتح مكة، واستشهد باليمامة. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 156؛ الإصابة 4/ 2183.
(4)
هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، الأموية، أسلمت قديماً، وبايعت، وخرجت إلى المدينة مهاجرة تمشي،
فتبعها أخواها: عمارة والوليد ليرداها فلم ترجع، ولم تكن تزوجت قبل الهجرة، فتزوجها زيد بن حارثة. وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ولداها: حميد وإبراهيم. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 33؛ الإصابة 4/ 2745.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]
(1)
.
ويستدل منهما على النسخ: بأن الحديث المذكور يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً، فنسخ الله ذلك الحكم في النساء، يدل عليه آخر الحديث والآية الكريمة؛ حيث نهى الله تعالى عن رد المؤمنات إلى الكفار
(2)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ذلك في الرجال والنساء جميعاً بما يلي:
أولاً: الآية المذكورة في دليل القول السابق.
ثانياً: حديث مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنه وقد سبق ذكره في دليل القول السابق.
ثالثاً: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 544، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة، ح (2711، 2712).
(2)
انظر: الأم 4/ 206؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 57؛ العزيز 11/ 565؛ زاد المعاد 3/ 308.
خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله لمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما»
(1)
.
رابعاً: عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى ناس من خثعم، فاعتصموا بالسجود، فقتلهم، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، ثم قال:«أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين، لا ترايا ناراهما»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنه يدل على جواز اشتراط أن يرد إلى الكفار من جاء منهم مسلماً رجلاً كان أو امرأة، ثم نسخ الله ذلك بالنهي عن رد المؤمنات إلى الكفار، كما يدل عليه الآية الكريمة، وآخر ذلك الحديث.
كما نسخ ذلك بحديث جرير بن عبد الله وخالد بن الوليد-رضي الله عنهما؛ لأن في رد المسلم إلى الكفار دلالة على جواز إقامته معهم، وحديثا جرير وخالد-رضي الله عنهما يدلان على النهي عن الإقامة مع المشركين. وخالد رضي الله عنه أسلم بعد صلح الحديبية، فتكون في حديثيهما دلالة على نسخ رد المسلم إلى الكفار إذا جاء مسلماً؛ لدلالتهما على النهي عن الإقامة مع المشركين
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1190.
(2)
سبق تخريجه في ص 1191.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 262؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 449، 450؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 521؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 243، 252؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 57؛ فتح الباري 5/ 407؛ عمدة القاري 9/ 610.
واعترض عليه: بأن القول بنسخ ذلك في الرجال احتمال، وليس صريحاً في ذلك، وإذا كانت المصلحة في رده، والحاجة داعية، فليس ما يصرح بالنهي عن ذلك
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الصلح مع المشركين على أن يُرد إليهم من جاء منهم مسلماً على قولين:
القول الأول: لا يجوز رد أحد إلى الكفار إذا جاء مسلماً، ولا يجوز اشتراط ذلك في الصلح، وأن ما يدل على جواز ذلك فإنه قد نسخ.
وهو مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: لا يجوز رد من جاء من النساء إلى الكفار، ولا يصح اشتراط ذلك في الصلح، ويجوز اشتراط رد الرجال في الصلح إذا دعت الحاجة، وكان في الرد مصلحة.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
(1)
انظر: المغني 13/ 161؛ زاد المعاد 3/ 308.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 262؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 449؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 521؛ فتح القدير 5/ 460؛ عمدة القاري 9/ 610.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 252؛ أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1787؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 58؛ القوانين الفقهية ص 115، 116.
(4)
إلا أنهم قالوا: إن الصبيان والمجانين في حكم النساء فلا يردون. انظر: الأم 4/ 206 - 208؛ مختصر المزني ص 366؛ الحاوي 14/ 356، 357؛ البيان 12/ 311، 312؛ العزيز 11/ 564، 573.
(5)
لكنهم قالوا بعدم جواز اشتراط رد الصبيان كالنساء. انظر: المغني 13/ 160 - 162؛ الشرح الكبير 10/ 385؛ الفروع 10/ 313؛ الإنصاف 10/ 385؛ الإقناع 2/ 124.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بالآية والأحاديث التي سبق ذكرها في دليل من قال بنسخ ما يدل على جواز اشتراط رد المسلم إلى الكفار سواء كان رجلاً أو امرأة.
وقد سبق كذلك وجه الاستدلال منها، وما يرد به عليه.
ويستدل للقول الثاني كذلك بالآية وحديث مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنه.
ووجه الاستدلال منهما: أن ذلك الحديث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة، ونهى فيها المسلمين عن رد المسلمات إلى الكفار، فبقي الرجال على ما صالح عليه، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم من جاء منهم مسلماً من الرجال. فثبت من ذلك جواز الصلح مع الكفار على رد من جاء منهم مسلماً من الرجال دون النساء، إذا اقتضاه المصلحة، ودعت إليه الحاجة
(1)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم
(1)
انظر: الحاوي 14/ 356، 357؛ البيان 12/ 310، 311؛ المغني 13/ 160، 161؛ الشرح الكبير 10/ 382، 385؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 56، 57.
بالصواب-أن الراجح هو أن جواز اشتراط رد النساء إلى الكفار نسخ، ولم ينسخ اشتراط رد من جاء من الرجال إلى الكفار في الصلح، كما هو القول الثاني، وذلك لما يلي:
أولاً: لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط مع المشركين رد من جاء منهم مسلماً إليهم، ثم جاء النهي بعد ذلك عن رد النساء، فنسخ به ردهن، ولم يأت ما يصرح على النهي من رد الرجال إذا اشترط ذلك في الصلح، كما سبق بيانه.
ثانياً: ولأن ما استدل به أصحاب القول الأول في نسخ رد الرجال، ليس صريحاً في النسخ، وإنما يدل على النهي عن الإقامة مع المشركين، ولا يلزم منه نسخ رد الرجال عند الضرورة والمصلحة؛ لأن النهي عن الإقامة مع المشركين متقدم على صلح الحديبية؛ لأن الهجرة ومفارقة دار الكفر لمن لا يستطيع إظهار دينه والعمل به فُرض قبل صلح الحديبية بزمن طويل.
ثالثاً: ولأنه يحتمل أن يكون جواز اشتراط رد من جاء منهم مسلماً من الرجال مستثنى من عموم النهي عن الإقامة مع المشركين.
والله أعلم.
المطلب الرابع عشر: سكنى الكفار بأرض الحجاز
ذهب الإمام الشافعي إلى أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من إقرار بعض الكفار بسكنى الحجاز قد نسخ؛ لذلك لا يترك أحد من الكفار يسكن في الحجاز لا بالصلح ولا بغيره، ولا يجوز الصلح معهم على ذلك
(1)
.
وبقية أهل العلم وإن لم يصرحوا بالنسخ إلا أنه لا خلاف بين الجميع في إخراج الكفار- سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم- من الحجاز
(2)
، وعدم تمكينهم من السكنى بها، وأضاف بعضهم فقال: بل يُخرجون من جزيرة العرب
(3)
كلها. ولا يتركون يسكنون فيها
(4)
.
(1)
انظر: الأم 4/ 191.
(2)
الحجاز: قال الإمام الشافعي: الحجاز: مكة، والمدينة واليمامة، ومخاليفها كلها. وعند الحنابلة أن الممنوع من سكناهم من أرض العرب هو: المدينة، ومكة، واليمامة، وخيبر، وينبع، وفدك، ومخاليفها وما والاها. انظر: الأم 4/ 191؛ المغني 13/ 242؛ الإنصاف 10/ 468.
(3)
اختُلف في تحديد جزيرة العرب، فقال الإمام مالك: هي: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن. وقال الأصمعي: جزيرة العرب هي: من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام. وقال أبو عبيدة: هي: ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فمن بير يبرين إلى منقطع السماوة. وقال بعض أهل العلم: إنما قيل لبلاد العرب جزيرة؛ لإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارها وأطرافها، فصاروا فيها في مثل جزيرة من جزائر البحر. انظر: التمهيد 14/ 331 - 332؛ 243؛ معجم البلدان 2/ 56؛ المغني 13/ 243؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 165؛ عمدة القاري 10/ 382.
(4)
قالوا: ويجوز لهم دخول الحجاز بالإذن للتجارة والحاجة، ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام. انظر: الموطأ لمحمد بن الحسن ص 311 - 312؛ بدائع الصنائع 6/ 85؛ عمدة القاري 10/ 382، 516 "؛ موطأ مالك ص 680، 681؛ التمهيد 14/ 329 - 335؛ الاستذكار 7/ 247 - 250"؛ الأم 4/ 191؛ مختصر المزني ص 364؛ المهذب مع شرحه المجموع-تكميل المطيعي-21/ 244 - 246؛ روضة الطالبين ص 1830؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 165"؛ المغني 13/ 242 - 244؛ الشرح الكبير 10/ 468 - 470؛ الإنصاف 10/ 468 - 471؛ الإقناع 2/ 132، 142.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«انطلقوا إلى يهود» فخرجنا معه، حتى جئناهم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم، فقال:«يا معشر يهود! أسلموا تسلموا» فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك أريد، أسلموا تسلموا» . فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك أريد» فقال لهم الثالثة، فقال:«اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله»
(1)
.
ثانياً: عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بلَّ دمعه الحصى. فقلت: يا ابن
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 646، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، ح (3167)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 359، كتاب الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز، ح (1765)(61).
عباس، وما يوم الخميس؟ قال: اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال:«ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي» ، فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه؟ قال: «دعوني، فالذي أنا فيه خير. أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فأنسيتها
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما: (أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير، وأقر قريظة ومَنّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا أن بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم: بني قينقاع (وهم قوم عبد الله بن سلام)، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة)
(2)
.
رابعاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود و النصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 646، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، ح (3168)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 162، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، ح (1637)(20).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 827، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، وخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (4028)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 359، كتاب الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز، ح (1766)(62).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 360، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصاري من جزيرة العرب، ح (1767)(63).
خامساً: عن أبي عبيدة
(1)
رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بعض اليهود والنصاري في الحجاز وجزيرة العرب، ثم أخرج يهود المدينة منها، وأراد أن يخرج جميع المشركين من الحجاز وجزيرة العرب، لكنه صلى الله عليه وسلم توفي قبل إخراجهم منها، فأوصى بإخراجهم، وأن لا يبقى في جزيرة العرب غير المسلم.
فيثبت منها نسخ سكنى الكفار بالحجاز، وأنهم لا يقرون بها للسكنى، بل يخرجون منها
(3)
.
والله أعلم.
(1)
هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال، القرشي الفهري، أبو عبيدة بن الجراح، مشهور بكنيته، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبو أمامة، وسمرة رضي الله عنهما-وغيرهما، وتوفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة بالشام. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 285؛ الإصابة 2/ 977 - 979.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 221، والدارمي في سننه 2/ 306، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 350، وابن عبد البر في التمهيد 14/ 330. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 328:(رواه أحمد بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما).
(3)
انظر: الأم 4/ 191؛ التمهيد 14/ 329 - 331؛ بدائع الصنائع 6/ 85؛ المغني 13/ 242، 243.