الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع البيوع، والنكاح، وما يتعلق بهما
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: البيوع، والمزارعة، والمساقاة.
الفصل الثاني: الهبة، والهدية، والوصية، والفرائض، وأحكام العبيد.
الفصل الثالث: النكاح، والرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، والعدة.
الفصل الأول البيوع، والمزارعة، والمساقاة
.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الخيار، والسلم، والربا، والعرايا، والعارية.
المبحث الثاني: الرهن، والإجارة، والبيوع المنهي عنها.
المبحث الثالث: المزارعة، والمساقاة.
المبحث الأول الخيار، والسلم، والربا، والعرايا، والعارية
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: خيار المجلس.
المطلب الثاني: رد المصراة مع صاع من تمر.
المطلب الثالث: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
المطلب الرابع: استقراض الحيوان.
المطلب الخامس: حصر الربا في النسيئة.
المطلب السادس: بيع العرايا.
المطلب السابع: العارية.
المطلب الأول: خيار المجلس
ذهب بعض أهل العلم إلى أن البيع
(1)
ينعقد ويتم بالإيجاب والقبول؛ لذلك لا يكون لأي واحد من البائع والمشتري حق خيار المجلس في رد البيع بعد ذلك ما لم يشترطه أحدهما، سواء تفرقا بالأبدان أم لا، وأن ما يدل على ثبوت الخيار لهما ما لم يتفرقا قد نسخ.
وممن صرح به: أشهب
(2)
، وابن رشد
(3)
. ونسبه بعض أهل العلم منهم ابن حجر، إلى طائفة من الحنفية والمالكية
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن الاختلاف في المفهوم من الأدلة الواردة في المسألة سبب آخر
(1)
البيع هو: تمليك مال بمال. أو هو: مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً. أو هو: مبادلة المال المتقوم تمليكاً وتملكاً. انظر: طلبة الطلبة ص 226؛ المغني 6/ 5؛ أنيس الفقهاء ص 72؛ التعريفات الفقهية ص 47.
(2)
هو: مسكين بن عبد العزيز بن داود، القيسي العامري، أبو عمرو، وأشهب لقبه. تفقه على مالك، وروى عنه، وعن الليث، وغيرهما، وروى عنه: الحارث بن مسكين، وسحنون، وغيرهما، وتوفي سنة أربع ومائتين. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 155؛ ترتيب المدارك 3/ 262؛ شذرات الذهب 2/ 2.
وانظر قوله بالنسخ في المدونة 3/ 223؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/ 141.
(3)
انظر: المقدمات الممهدات ص 426.
(4)
انظر: الاستذكار 5/ 484؛ المقدمات ص 425؛ فتح الباري 4/ 397؛ شرح الزرقاني على موطأ مالك 3/ 322؛ سبل السلام 3/ 62؛ نيل الأوطار 5/ 265.
لاختلافهم فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
(3)
.
ثالثاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «المسلمون على شروطهم»
(4)
.
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: الموطأ لمحمد بن الحسن ص 277؛ شرح معاني الآثار 4/ 13 - 15؛ التمهيد 12/ 216 - 219؛ المغني 6/ 10 - 12.
(2)
سورة البقرة، الآية (282).
(3)
سورة المائدة، الآية (1).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 544، كتاب القضاء، باب في الصلح، ح (3594)، وابن الجارود في المنتقى ص 246، والدارقطني في سننه 3/ 27، والحاكم في المستدرك 2/ 57. والحديث قال عنه ابن حزم في المحلى 8/ 132:(خبر فاسد؛ لأنه إما عن كثير بن زيد-وهو هالك-و إما مرسل). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 23، وأبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني 3/ 27:(ضعفه ابن حزم وعبد الحق، وحسنه الترمذي). وفي سنده كثير بن زيد، قال الذهبي في التلخيص 2/ 57:(لم يصححه-يعني الحاكم- وكثير ضعفه النسائي، ومشاه غيره، وللخبر مشاهد). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/ 143، بعد ذكر كلام الذهبي:(قلت: فمثله حسن الحديث إن شاء الله تعالى ما لم يتبين خطؤه، كيف وهو لم ينفرد به كما يأتي). وقال في صحيح سنن أبي داود ص 544: (حسن صحيح).
رابعاً: عن عبد الملك بن عبيد
(1)
، قال: حضرنا أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود، أتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال أحدهما: أخذتها بكذا وبكذا، وقال هذا: بعتها بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة: أُتي ابن مسعود في مثل هذا، فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي في مثل هذا، (فأمر البائع أن يستحلف، ثم يختار المبتاع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك)
(2)
.
(1)
هو: عبد الملك بن عبيد، ويقال: ابن عبيدة، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وخرينق بنت حصين، وروى عنه: إسماعيل بن أمية، ويزيد بن عياض. قال عنه ابن حجر: مجهول الحال. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 358؛ التقريب 1/ 617.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 709، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن، ح (4649)، وأحمد في المسند 7/ 441، 443، والحاكم في المستدرك 2/ 56، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 543. قال الحاكم:(هذا حديث صحيح إن كان سعيد بن سالم حفظ في إسناده عبد الملك بن عبيد). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 30: (رواه أحمد عن الشافعي، والنسائي، والدارقطني من طرق أبي عبيدة أيضاً وفيه انقطاع على ما عرف من اختلافهم في صحة سماع أبي عبيدة من أبيه، واختلف فيه على إسماعيل بن أمية، ثم على ابن جريج في تسمية والد عبد الملك هذا الراوي عن أبي عبيدة، فقال يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية: عبد الملك بن عمير، كما قال سعيد بن سالم، ووقع في النسائي: عبد الملك بن عبيد، ورجح هذا أحمد والبيهقي، وهو ظاهر كلام البخاري، وقد صححه ابن السكن والحاكم، وروى الشافعي في المختصر عن سفيان عن ابن عجلان عن عون عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود نحوه بلفظ الباب وفيه انقطاع، ورواه الدارقطني عن طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده، وفيه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة). وقال الشيح الألباني في صحيح سنن النسائي ص 708: (صحيح).
خامساً: ولأن أهل المدينة استمروا على ترك العمل بما يدل على ثبوت خيار المجلس
(1)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجوه التالية:
أولاً: إن الآية الأولى فيها الأمر بالإشهاد عند البيع، ولو ثبت خيار المجلس لكانت الآية غير مفيدة؛ لأن الإشهاد إن وقع قبل التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع بعد التفرق لم يصادف محلاً.
والآية الثانية فيها الأمر بالوفاء بالعقود، والراجع عن موجب العقد قبل التفرق لم يف به.
والحديث الأول يفيد إثبات الشروط، وثبوت خيار المجلس بعد لزوم العقد يفسد الشرط.
والحديث الثاني يفيد التحالف عند اختلاف المتبايعين، وذلك يستلزم لزوم العقد، ولو ثبت خيار المجلس لكان كافياً في رفع العقد.
فهذه الأدلة تعارض ما يدل على ثبوت خيار المجلس، فتكون ناسخة له؛ لأنها لا خلاف في العمل بها، ولم يقل أحد بنسخها، وسورة المائدة من آخر ما نزل، وكل هذا مما يدل على تأخرها على ما يدل على ثبوت خيار المجلس
(2)
.
(1)
انظر: المدونة 3/ 223؛ التمهيد 12/ 216؛ المقدمات الممهدات ص 426.
(2)
انظر: المدونة 3/ 223؛ فتح الباري 4/ 397؛ سبل السلام 3/ 62؛ نيل الأوطار 5/ 265.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن ما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
ب- إن الجمع بين هذه الأدلة وبين ما يدل خيار المجلس ممكن بدون تكلف، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار معه إلى القول بالنسخ ولا إلى الترجيح
(2)
.
ثانياً: إن أهل المدينة استمروا على خلاف العمل بما يدل على ثبوت خيار المجلس، فهو مما يدل على نسخه
(3)
.
واعترض عليه: بأنه لم يتفق أهل المدينة على ترك العمل بما يدل على ثبوت خيار المجلس؛
حيث إن بعض أهل المدينة، منهم: سعيد بن المسيب، والزهري يريان العمل بما يدل على ثبوت خيار المجلس
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في ثبوت خيار المجلس للمتبايعين على قولين:
القول الأول: إنه لا خيار إذا وجبت الصفقة.
وهو مذهب الحنفية
(5)
، والمالكية
(6)
، وقول إبراهيم النخعي، وربيعة بن
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 397؛ سبل السلام 3/ 62؛ نيل الأوطار 5/ 265.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 397؛ نيل الأوطار 5/ 265.
(3)
انظر: المقدمات ص 426.
(4)
انظر: التمهيد 12/ 217؛ الاستذكار 5/ 488.
(5)
انظر: الموطأ لمحمد ص 277؛ شرح معاني الآثار 4/ 17؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 220؛ الهداية وشرحه فتح القدير 6/ 257.
(6)
انظر: المدونة 3/ 222؛ المعونة 2/ 1043؛ الاستذكار 5/ 485؛ المقدمات ص 424؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3/ 141.
أبي عبد الرحمن
(1)
.
القول الثاني: إن كل واحد من المتبايعين بالخيار في إمضاء البيع أو رده ما لم يتفرقا.
وهو مذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وقول جمهور أهل العلم، وممن روي عنه ذلك أو قال به: عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأبو برزة، وأبو هريرة-رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وشريح القاضي، والشعبي، وعطاء، والحسن البصري، وطاوس، والزهري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم ثبوت خيار المجلس للمتبايعين- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
(5)
.
(1)
انظر: الاستذكار 5/ 485؛ فتح الباري 4/ 397.
(2)
انظر: الأم 3/ 4؛ مختصر المزني ص 107؛ الحاوي 5/ 30؛ البيان 5/ 16؛ روضة الطالبين ص 541.
(3)
انظر: المغني 6/ 10؛ الشرح الكبير 11/ 263؛ الممتع 3/ 71؛ الإنصاف 11/ 263؛ الإقناع 2/ 197.
(4)
انظر: التمهيد 12/ 219، 220؛ البيان للعمراني 5/ 16؛ المغني 6/ 10؛ نيل الأوطار 5/ 264.
(5)
سورة البقرة، الآية (282).
ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(2)
.
رابعاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم»
(3)
.
خامساً: حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (فأمر البائع أن يستحلف، ثم يختار المبتاع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك)
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادَّان»
(5)
.
(1)
سورة المائدة، الآية (1).
(2)
سورة النساء، الآية (29).
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 533، كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم، ح (3511)، والنسائي في سننه ص 708، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن، ح (4648)، وابن ماجة في سننه ص 376، كتاب البيوع، باب البيعان يختلفان، ح (2186)، وأحمد في المسند-واللفظ له- 7/ 445، وابن الجارود في المنتقى ص 242، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 544. والحديث روي موصولاً وروي منقطعاً، وقد تكلم في كل طرقه، لكن بعضها يقوي البعض. قال ابن عبد البر في التمهيد 12/ 234: (هذا الحديث وإن كان في إسناده مقال من جهة الانقطاع مرة، وضعف بعض نقلته أخرى فإن شهرته عند العلماء بالحجاز والعراق يكفي ويغني). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 31، عن أحد طرقه:(ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه عن أبيه). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/ 167 عن أحد طرقه: (وهذا إسناد حسن متصل على الراجح-فذكر كلام ابن حجر السابق ثم قال: -قلت: قد أثبت سماعه منه إمام الأئمة البخاري، والمثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم، لا سيما إذا كان مثل البخاري، وتابعه معن بن عبد الرحمن، وهو ثقة أيضاً من رجال الشيخين). وقال في صحيح سنن أبي داود ص 532: (صحيح).
سادساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ويقبضه»
(1)
.
سابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر
(2)
فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع»
(3)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة هو: أن الآية الأولى فيها الأمر
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 420، كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي، ح (2126)، ومسلم
في صحيحه-واللفظ له- 6/ 20، كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل قبضه، ح (1526)(35).
(2)
تؤبر من التأبير، وهو التلقيح. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 30.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 470، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شِرب في حائط أو في نخل، ح (2379)، ومسلم في صحيحه 6/ 40، كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر، ح (1543)(80).
بالإشهاد عند البيع، وهو ينافي ثبوت خيار المجلس؛ لأن الإشهاد إن وقع قبل التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع بعد التفرق لم يصادف محلاً.
والآية الثانية فيها الأمر بالوفاء بالعقود، ومن رجع عن موجب العقد قبل التفرق لم يف به.
والآية الثالثة تقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق؛ لأن عقد البيع هو الإيجاب والقبول.
والحديث الأول يفيد إثبات الشروط، وثبوت خيار المجلس بعد لزوم العقد يفسد الشرط.
والحديث الثاني يفيد التحالف عند اختلاف المتبايعين، وذلك يستلزم لزوم العقد، وثبوت خيار المجلس مناف له؛ لأنه كاف في رفع العقد.
والحديث الثالث والرابع كذلك ينافيان ثبوت خيار المجلس؛ لأن الأول منهما يدل على جواز البيع بعد القبض قبل التفرق.
أما الحديث الثاني منهما فإن فيه جُعلت الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق، ومحال أن يملكها المشتري قبل ملك الأصل المعقود عليه، فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة عدم ثبوت خيار المجلس للمتبايعين؛ لأنها منافية له
(1)
.
(1)
انظر: المدونة 3/ 223؛ شرح معاني الآثار 4/ 17؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 220 - 225؛ المقدمات ص 425؛ فتح الباري 4/ 397.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن هذه الأدلة أدلة عامة وغير صريحة في نفي خيار المجلس، وما يدل على ثبوت خيار المجلس أدلة خاصة وصريحة في ثبوت خيار المجلس، لذلك لا تعارض بينهما؛ لإمكان حمل العامة على ما عدا محل الخصوص
(1)
.
ب- إن ما يَرِدُ من هذه الأدلة على ثبوت خيار المجلس، يرد منه ذلك على ثبوت خيار الشرط، ومنكروا خيار المجلس يثبتون خيار الشرط، فما يكون جوابهم من ذاك فهو الجواب ممن يثبت خيار المجلس
(2)
.
دليل القول الثاني:
ويستدل للقول الثاني-وهو ثبوت خيار المجلس للمتبايعين- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»
(3)
.
ثانياً: عن حكيم بن حزام
(4)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم
(1)
انظر: المغني 6/ 11، 12؛ فتح الباري 4/ 397؛ نيل الأوطار 5/ 265.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 222.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 417، كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح (2111)، ومسلم في صحيحه 6/ 23، كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ح (1531)(43).
(4)
هو: حكيم بن حزام بن حكيم بن خويلد بن أسد، الأسدي القرشي، أسلم عام الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه حزام، وعروة، وغيرهما، وتوفي سنة خمسين، وقيل: أربع وخمسين، وقيل بعدها. انظر: الإصابة 1/ 396؛ تهذيب التهذيب 2/ 400؛ التقريب 1/ 234.
يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله»
(2)
.
رابعاً: عن أبي الوضيّ
(3)
، قال: غزونا عزوة لنا، فنزلنا منزلاً، فباع صاحب لنا فرساً لغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل قام إلى فرسه يسرجه بسرجه وندم، فأتي الرجلُ وأخذه
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 417، كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح (2110)، ومسلم في صحيحه 6/ 25، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، ح (1532)(47).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 526، كتاب البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح (3456)، والترمذي في سننه
ص 297، كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، ح (1247)، والنسائي في سننه ص 687، كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، ح (4483)، وأحمد في المسند 11/ 330، والدارقطني في سننه 3/ 50، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 445. قال الترمذي:(حديث حسن). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 297: (حسن صحيح).
(3)
هو: عباد بن نُسيب، القيسي، أبو الوضي، مشهور بكنيته، ثقة، وروى عن علي وأبي برزة-رضي الله عنهما، وروى عنه: جميل بن مرة، وبديل بن ميسرة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 96؛ التقريب 1/ 469.
بالبيع، فأبي الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقالا له هذه القصة، فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل نصاً على أن كل واحد من المتبايعين بالخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا إلا أن يختارا البيع
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن المراد بالتفرق في هذه الأحاديث التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت منك، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، وإطلاق التفرق على التفرق بالأقوال وارد في الشرع كما في قوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(3)
،
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 526، كتاب البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح (3457)، وابن ماجة في سننه ص 375، كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح (2182)، والشافعي في الأم 3/ 4، وأحمد في المسند 33/ 48، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 13، والدارقطني في سننه 3/ 6، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 443. قال المنذري في مختصر سنن أبي داود 5/ 96:(رجال إسناده ثقات). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 526.
(2)
انظر: الأم 3/ 4، الحاوي 5/ 31 - 33؛ المغني 6/ 10، 11؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 23؛ فتح الباري 4/ 397.
(3)
سورة آل عمران، الآية (105).
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}
(1)
. وبذلك يجمع بين هذه الأدلة وما يدل على عدم ثبوت خيار المجلس؛ لأنها لا تكون مخالفة لها
(2)
.
وأجيب عنه بما يلي:
أ-إن هذا الفهم مخالف للمتبادر من التفرق بين البائعين، وقد حمله ابن عمر وأبو برزة-رضي الله عنهم على التفرق بالأبدان، ولا مخالف لهما من الصحابة، وأصحاب رسول الله أعلم بمراد ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ب- إن ذلك يبطل فائدة الحديث؛ إذ قد عُلم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه، أو تركه
(4)
.
ج- يقال لمن يقول بأن المراد بالتفرق في هذه الأحاديث التفرق بالأقوال، يقال لهم:(خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع، وتم به البيع، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره؟ فإن قالوا: هو غيره، فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل؛ لأنه ليس ثم كلام غير ذلك، وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه، قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا به افتراقا به نفسه، هذا عين المحال والفاسد من المقال)
(5)
.
(1)
سورة النساء، الآية (130).
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 277؛ شرح معاني الآثار 4/ 13؛ التمهيد 12/ 218؛ المقدمات ص 425؛ فتح الباري 4/ 399.
(3)
انظر: المغني 6/ 11؛ فتح الباري 4/ 397.
(4)
انظر: المغني 6/ 11.
(5)
التمهيد 12/ 222. وانظر: المغني 6/ 11؛ فتح الباري 4/ 399.
ثانياً: إن المراد بالمتبايعين في هذه الأدلة المتساومين، وأطلق عليهما المتبايعين لمباشرتهما للبيع
(1)
.
وأجيب عنه: بأن حمل المتبايعين على المتساومين في هذه الأدلة تؤدي إلى خلوها من فائدة؛ لأنه معلوم أن المتساومين بالخيار كل واحد منهما على صاحبه ما لم يقع الإيجاب بالبيع والعقد والتراضي، فكيف ترد هذه الأخبار بما لا يفيد فائدة؟ وهذا مما لا يظنه ذو لب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الثاني، وهو أن كل واحد من المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، وأن ذلك ليس بمنسوخ، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع صحتها نصوص صريحة تدل على أن كل واحد من المتبايعين بالخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا، بخلاف أدلة القول المخالف له؛ فإنها أدلة عامة، وليست نصاً في نفي خيار المتبايعين، كما أنه لا يوجد ما يصرح على نسخ ما يدل على ثبوت خيار المتبايعين، كما سبق بيانه.
ثانياً: إنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة كلها، كما سبق بيانه، وإذا
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 225؛ التمهيد 12/ 219؛ المقدمات ص 425؛ فتح الباري 4/ 398.
(2)
انظر: التمهيد 12/ 222.
أمكن الجميع بين الأدلة لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها
(1)
.
ثالثاً: أن أدلة القول الأول أدلة عامة كما سبق بيانه، والاستدلال منها على نفي خيار المتبايعين لا يخلو من تكلف وتعسف، لذلك لا يجوز معارضتها للأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت خيار المتبايعين لكل واحد منهما ما لم يتفرقا؛ ولذلك قال ابن عبد البر:(قد أكثر المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج لمذهبهما في رد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب لا يحصل منه على شيء لازم لا مدفع له)
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 397.
(2)
التمهيد 12/ 217.
المطلب الثاني: رد المصراة مع صاع من تمر
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من اشترى شاة مصراة
(1)
، أو بقرة، أو لقحة مصراة، فإنه ليس له ردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب. وأن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على ردها بالعيب مع صاع من تمر فإنه قد نسخ.
وممن قال بذلك: أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن
(2)
، والطحاوي
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن تعارض حديث المصراة مع الأصول المتفق عليها سبب آخر للاختلاف فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
المصراة من التصرية، وهي لغة: القطع، والحبس، والجمع. والمراد بالمصراة الشاة أو البقرة، أو الناقة يصرى اللبن في ضرعها أي يجمع ويحبس. وقال الإمام الشافعي: المصراة هي التي تصر أخلافها ولا تحلب أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 28، 29؛ فتح الباري 4/ 437.
(2)
انظر قولهما في: شرح معاني الآثار 4/ 19.
(3)
وهو كذلك قول محمد بن شجاع، وعيسى بن أبان. انظر: شرح معاني الآثار 4/ 19 - 21؛ عمدة القاري 8/ 445.
(4)
راجع المصدرين في الحاشية السابقة. وانظر: التمهيد 12/ 287؛ بداية المجتهد 3/ 1247؛ المبسوط 13/ 41؛ فتح الباري 4/ 441 - 443.
«المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»
(1)
.
ثانياً: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»
(2)
.
ثالثاً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا
أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(3)
.
رابعاً: عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
(4)
.
خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه»
(5)
.
سادساً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجه في ص 852.
(4)
سبق تخريجه في ص 853.
(5)
سبق تخريجه في ص 853.
«الخراج بالضمان»
(1)
.
سابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) يعني" الدين بالدين"
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 533، كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله، ثم وجد به عيباً، ح (3508)، والترمذي في سننه ص 305، كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشترى العبد ويستغله ثم يجد به عيباً، ح (1285)، والنسائي في سننه ص 688، كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، ح (4490)، وابن ماجة في سننه ص 385، كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، ح (2243)، وابن الجارود في المنتقى ص 243، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 21، والحاكم في المستدرك 2/ 18. قال الترمذي:(حسن صحيح). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 532:(حسن).
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 21، والدارقطني في سننه 3/ 71، والحاكم في المستدرك 2/ 65، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 474. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (موسى هذا هو ابن عبيدة الربذة، وشيخنا أبو عبد الله قال في روايته عن موسى بن عقبة، وهو خطأ، والعجب من أبي الحسن الدارقطني شيخ عصره، روى هذا الحديث في كتاب السنن عن أبي الحسن علي بن محمد المصري هذا فقال: عن موسى بن عقبة، وشيخنا أبو الحسين رواه لنا عن أبي الحسن المصري في الجزء الثالث من سنن المصري فقال: عن موسى غير منسوب). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 26: (وصححه الحاكم على شرط مسلم فوهم، فإن راويه موسى بن عبيدة الربذي لا موسى بن عقبة-ثم ذكر كلام البيهقي ثم قال: -ورواه ابن عدي من طريق الدراوردي عن موسى بن عبيدة، وقال: تفرد به موسى بن عبيدة. وقال أحمد بن حنبل: لا تحل عندي الرواية عنه ولا أعرف هذا الحديث عن غيره، وقال أيضاً: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين). وقال في فتح الباري 4/ 441: (ضعيف باتفاق المحدثين). وضعفه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/ 220.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بالوجوه التالية:
أولاً: إن حديث المصراة يدل على بقاء الخيار بعد التفرق، وحديثا ابن عمر، وحكيم بن حزام-رضي الله عنهما-يدلان على قطع الخيار بعد التفرق إلا عن بيع الخيار، فيكون حديث قطع الخيار بعد التفرق ناسخاً لحديث المصراة
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن الخيار الذي في المصراة من خيار الرد بالعيب، وخيار الرد بالعيب لا تقطعه الفرقة
(2)
.
ب-بأن ما ذكر احتمال، ولا يوجد ما يدل على تأخرها على حديث المصراة، والنسخ لا يثبت بمثله
(3)
.
ثانياً: بأن حديث المصراة كان حين كانت العقوبات بالذنوب يؤخذ بها الأموال، وقد نسخ ذلك؛ لأن حديث أبي حميد وابن عباس-رضي الله عنهم وما في معناه يدل على عدم حل مال المسلم إلا بطيب نفس منه، فيكون
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 19؛ فتح الباري 4/ 442؛ عمدة القاري 8/ 445.
(2)
راجع المواضيع في المصادر السابقة.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 441.
حديث المصراة منسوخاً بما نسخ به العقوبات المالية
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا يصح الاستدلال من نسخ العقوبات المالية على نسخ حديث المصراة؛ لأن الذنب وهو التصرية وجدت من البائع، فكان اللازم على قانون العقوبات المالية معاقبة البائع وتغريمه؛ لأنه المذنب، وحديث المصراة إن فرض أنه من العقوبات المالية يقتضي تغريم المشترى ومعاقبته، وهو ليس معتد، بل هو معتدى عليه فافترقا
(2)
.
ثالثاً: إن حديث المصراة يدل على تغريم المشتري بدل اللبن الذي حلبه، فيكون منسوخاً بحديث:(الخراج بالضمان)؛ لأن اللبن فضلة من فضلات المصراة، ولو هلكت لكان من ضمان المشترى، فكذلك فضلاتها تكون له، فلا يغرم بدلها للبائع، وهو خبر قد تلقاه العلماء بالقبول
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إنه لا دليل على أن حديث (الخراج بالضمان) متأخر على حديث المصراة، حتى يكون ناسخاً له
(4)
.
ب-إنه إنما يصار إلى القول بالنسخ عند التعارض وعدم إمكان الجمع، ولا تعارض بين حديث المصراة وحديث (الخراج بالضمان)؛ لأن المشتري في حديث المصراة لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه، بل بغرامة اللبن الذي ورد
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 20؛ فتح الباري 4/ 441؛ عمدة القاري 8/ 445.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 442.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 21، 22؛ فتح الباري 4/ 441.
(4)
انظر: فتح الباري 4/ 441.
عليه العقد ولم يدخل في العقد
(1)
.
رابعاً: إن حديث المصراة منسوخ بحديث النهي عن بيع الدين بالدين؛ لأن لبن المصراة يصير ديناً في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر نسيئة صار ديناً بدين
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن هذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، فلا يقوى على نسخ الحديث الصحيح باتفاق، وهو حديث المصراة
(3)
.
ب-إن التمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء كان اللبن موجوداً أو غير موجود، فلم يتعين في كونه من الدين بالدين
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم فيمن اشترى مصراة فحلبها فلم يرض بها على قولين:
القول الأول: ليس للمشترى رد المصراة بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 441.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 21؛ فتح الباري 4/ 441.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 441.
(4)
راجع المصدر في الحاشية السابقة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني: إن من اشترى مصراة ولم يعلم تصريتها ثم علم فهو بالخيار بين إمساكها وبين ردها مع صاع من تمر.
وهو قول أبي يوسف
(2)
، ومذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
. وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس-رضي الله عنهم
(6)
، وقال به عامة أهل العلم
(7)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(8)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 19؛ المبسوط 13/ 40؛ عمدة القاري 8/ 445؛ الدر المختار 7/ 163؛ حاشية ابن عابدين 7/ 163، 164.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 19؛ عمدة القاري 8/ 445.
(3)
انظر: المعونة 2/ 1073؛ التمهيد 12/ 279؛ بداية المجتهد 3/ 1247؛ مختصر خليل وشرحه التاج والإكليل 6/ 349.
(4)
انظر: مختصر المزني ص 117؛ الحاوي 5/ 236؛ البيان 5/ 265؛ روضة الطالبين ص 555.
(5)
انظر: المغني 6/ 216؛ الشرح الكبير 11/ 348، 352؛ الفروع 6/ 227؛ الإنصاف 11/ 346، 351؛ الإقناع 2/ 210.
(6)
انظر: البيان 5/ 265؛ المغني 6/ 216؛ فتح الباري 4/ 440.
(7)
انظر: الحاوي 5/ 236؛ المغني 6/ 216؛ فتح الباري 4/ 440.
(8)
سورة النحل، الآية (126).
فهذه الآية تدل على أن المعاقبة تكون بالمثل، والأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلاً
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- بأن الآية عامة، وحديث المصراة خاص فيستثنى منه
(2)
.
ب- إن رد الصاع في لبن المصراة ليس من باب القيمة، بل ذلك عبادة لقطع شعب الخصومة؛ ولذلك جعل الصاع في لبن كل من الشاة، والبقرة، والناقة مع اختلاف كمية اللبن
(3)
.
ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان»
(4)
.
فهذا الحديث يدل على أن الخراج بالضمان، واللبن فضلة من فضلات المصراة، ولو هلكت لكان من ضمان المشترى، فكذلك فضلاتها تكون له، فلا يغرم بدلها للبائع
(5)
.
واعترض عليه: بأن المشتري في حديث المصراة لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد
(6)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن من اشترى مصراة فإن شاء أمسكها وإن
(1)
انظر: المبسوط 13/ 41؛ بداية المجتهد 3/ 1247؛ عمدة القاري 8/ 446.
(2)
انظر: بداية المجتهد 3/ 1248.
(3)
انظر: الاستذكار 5/ 550.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 21، 22؛ فتح الباري 4/ 441.
(6)
انظر: فتح الباري 4/ 441.
شاء ردها وصاعاً من تمر- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعدُ فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر»
(1)
.
ثانياً: عن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد، ومن اشترى مصراة فهو فيها بآخر النظرين، إن ردها رد
معها صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر»
(2)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعاً من تمر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تلقى البيوع)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 423، كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة، ح (2148)، ومسلم في صحيحه 6/ 11، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم النجش، وتحريم التصرية، ح (1515)(11).
(2)
أخرجه أحمد في المسند 31/ 119؛ والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 521. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 85: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 440: (رواه أحمد بإسناد صحيح).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 424، كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة، ح (2149). قال ابن حجر في الفتح 4/ 444:(هكذا رواه الأكثر عن معتمر بن سليمان موقوفاً، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن معاذ عن معتمر مرفوعاً وذكر أن رفعه غلط، ورواه أكثر أصحاب سليمان عنه كما هنا حديث المحفلة موقوف من كلام ابن مسعود، وحديث النهي عن التلقي مرفوع. وخالفهم أبو خالد الأحمر عن سليمان التيمي فرواه بهذا الإسناد مرفوعاً أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى وهمه أيضاً). وقال البيهقي في السنن الكبرى 5/ 522: (قال الإسماعيلي: حديث المحفلة من قول عبد الله، وقد رفعه أبو خالد عن التيمي-فذكر البيهقي سنده ثم قال: -قال الإسماعيلي: رواه ابن المبارك، ويحيى بن سعيد، وابن أبي عدي، ويزيد بن زريع، وهشيم، وجرير، وغيرهم موقوفاً على ابن مسعود حديث المحفلة). هذا ما ذكره البيهقي وابن حجر، إلا أن الماوردي قال في الحاوي 5/ 237: (وأما حديث ابن مسعود فرواه الشافعي عن يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشترى محفلة
…
).
فهذه الأحاديث تدل نصاً على أن من اشترى مصراة وحلبها، ثم أراد أن يردها فإنه يرد معها صاعاً من تمر
(1)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي-والله أعلم بالصواب-أن الراجح هو أن من اشترى مصراة فحلبها ولم يرضها فإنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، وأن ذلك ليس بمنسوخ، كما هو القول الثاني، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع صحتها نصوص صريحة على أن من اشترى مصراة فحلبها فلم يرضها أنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، بخلاف أدلة
(1)
انظر: التمهيد 12/ 284 - 288؛ الاستذكار 5/ 547؛ الحاوي 5/ 237؛ البيان 5/ 266؛ المغني 6/ 216، 217.
القول المخالف له؛ حيث إنها أدلة
عامة، والنص الصحيح الصريح مقدم عليها
(1)
.
ثانياً: ولأنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة؛ لأن حديث المصراة دليل خاص، وما يعارض به ذلك أدلة عامة، فيحمل العام على ما عدا محل الخصوص
(2)
.
ثالثاً: ولأن القول بأن حديث المصراة قد نسخ غير صحيح، وذلك:
أ-لأنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معها إلى النسخ، والجمع بين الأدلة هنا ممكن كما سبق بيانه
(3)
.
ب-ولأنه لا يوجد دليل يدل على أن ما استُدل به على النسخ متأخرة على حديث المصراة، وما ذكر من وجوه النسخ تشغيب ومجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: أصول الفقه الإسلام للزحيلي 1/ 324.
(2)
انظر: بداية المجتهد 3/ 1248؛ فتح الباري 4/ 441 - 443.
(3)
انظر: بداية المجتهد 3/ 1248؛ الاعتبار ص 495؛ فتح الباري 4/ 397، 441 - 443.
(4)
انظر: التمهيد 12/ 287؛ فتح الباري 4/ 441.
المطلب الثالث: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وأن ما يدل على جواز ذلك فإنه قد نسخ
(1)
.
وممن صرح بنسخه: الطحاوي
(2)
.
وتبين منه، ومما يأتي من الأدلة في المسألة أن سبب الاختلاف في المسألة شيئان: القول بالنسخ، واختلاف الآثار
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ من قلائص
(4)
الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)
(5)
.
(1)
ونسبه ابن عبد البر إلى العراقيين. ونسبه الصنعاني إلى الحنفية والحنابلة. انظر: التمهيد 12/ 258؛ العناية على الهداية 7/ 76؛ شرح الزركشي 2/ 318؛ فتح الباري 5/ 68؛ سبل السلام 3/ 75؛ تحفة الأحوذي 4/ 499.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60، 61.
(3)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين. وانظر: بداية المجتهد 3/ 1176.
(4)
قلائص جمع قلوص، وهي الناقة الشابة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 484.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 513، كتاب البيوع، باب الرخصة في ذلك، ح (3357)، وأحمد في المسند 11/ 164، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60، والدارقطني في سننه 3/ 70، والحاكم في المستدرك 2/ 65، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 471. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وقال الخطابي في معالم السنن 5/ 29: (وفي حديث عبد الله بن عمرو أيضاً مقال). ونقل الزيلعي في نصب الراية 4/ 47، عن ابن القطان أنه قال:(هذا حديث ضعيف مضطرب الإسناد-إلى أن قال: -ومع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال، ومسلم بن جبير لم أجد له ذكراً، ولا أعلمه في غير هذا الإسناد، وكذلك مسلم مجهول الحال أيضاً إذا كان عن أبي سفيان، وأبو سفيان فيه نظر). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 513.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، قال عبد الله بن عمرو: وليس عندنا ظهر، قال: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهراً إلى خروج المصدق، فابتاع عبد الله بن
عمرو البعير بالبعيرين إلى خروج المصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(2)
.
ثالثاً: عن سمرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة»
(3)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 69، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 471. وصحح النووي إسناده في المجموع 9/ 302. وقال ابن حجر في الفتح 4/ 510:(أخرجه الدارقطني وغيره وإسناده قوي). وقال في بلوغ المرام: (رجاله ثقات) انظر بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 3/ 79.
(2)
سورة البقرة، الآية (278).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 513، كتاب البيوع، باب في الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (3356)، والترمذي في سننه ص 294، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (1237)، والنسائي في سننه ص 704، كتاب البيوع، باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (4620)، وابن ماجة في سننه ص 389، كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (2270)، وأحمد في المسند 33/ 394، والدارمي في سننه 2/ 331، وابن الجارود في المنتقى ص 238، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 472. قال الخطابي في معالم السنن 5/ 29:(وقد أثبت أحمد حديث سمرة). وقال الترمذي بعد ذكر الحديث: (حديث سمرة حديث حسن صحيح، وسماع الحسن عن سمرة صحيح، هكذا قال علي بن المديني وغيره). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 510: (رجاله ثقات إلا أنه اختلف في سماع الحسن عن سمرة)، وقال في 5/ 68:(وأخرجه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة، وفي سماع الحسن عن سمرة اختلاف، وفي الجملة هو حديث صالح للحجة). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 513.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
(1)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/ 20، وابن الجارود في المنتقى ص 238، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60، والدارقطني في سننه 3/ 71، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 474. وهذا الحديث روي موصولاً، وروي مرسلاً، فصحح البيهقي المرسل، وذكر أن الموصول وهم، وروى كذلك عن ابن خزيمة أنه صحح المرسل، وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي 5/ 473، فقال: (حاصله أنه اختلف في الثوري فيه، فرواه عنه الفريابي مرسلاً، ورواه عنه الزبيري والذماري متصلاً، واثنان أولى من واحد، كيف وقد تابعهما أبو داود الحفري فرواه عن سفيان موصولاً، كذا أخرجه عنه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
فظهر بهذا أن رواية من رواه عن الثوري موصولاً أولى من رواية من رواه عنه مرسلاً، واختلف أيضاً على
معمر فيه، فرواه عنه عبد الرزاق وعبد الأعلى مرسلاً على أن عبد الرزاق رواه أيضاً عنه متصلاً. كذا رأيت في نسخة جيدة من نسخ المصنف له. ورواه عن معمر بن طهمان، والعطار موصولاً، وتأيدت روايتهما بالرواية المذكورة عن عبد الرزاق وبما رجح من رواية الثوري، فظهر أن رواية من رواه عن معمر موصولاً أولى، ومعمر أحفظ من علي بن المبارك، فروايته عن يحيى موصولاً أولى من رواية ابن المبارك عنه مرسلاً، وبالجملة فمن وصل حفظ وزاد، فلا يكون من قصر حجة عليه، وقد أخرج البزار هذا الحديث، وقال: ليس في هذا الباب حديث أجل إسناداً منه). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 108: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في الفتح 5/ 68: (أخرجه ابن حبان والدارقطني وغيرهما، ورجال إسناده ثقات، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله).
خامساً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئاً ولا بأس به يداً بيد»
(1)
.
سادساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 294، كتاب البيوع، باب كراهية ما جاء في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (1238)، وابن ماجة في سننه ص 389، كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة، ح (2271)، وأحمد في المسند 22/ 234، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60. قال الترمذي:(حديث حسن). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 294. وقال ابن حجر في الفتح 4/ 510: (إسناده لين). وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي 4/ 500: (في سنده الحجاج بن أرطاة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، وروي هذا الحديث عن أبي الزبير بالعنعنة).
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 108: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن دينار، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن معين).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-يدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وفيه المعنى الذي حُرم به الربا، والأحاديث المذكورة بعده تدل على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فتكون آية الربا وهذه الأحاديث ناسخة لما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما؛ لأن النص الموجب للحظر يكون متأخراً عن النص الموجب للإباحة
(1)
.
واعترض عليه: بأن الاستدلال من هذه الأدلة على النسخ احتمال، وليس صريحاً فيه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة على أقوال أشهرها ثلاثة، وهي:
القول الأول: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
، وقول محمد بن
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60؛ العناية على الهداية 7/ 76؛ عمدة القاري 8/ 555.
(2)
انظر: نيل الأوطار 5/ 292؛ تحفة الأحوذي 4/ 499.
(3)
انظر: موطأ محمد ص 283؛ شرح معاني الآثار 4/ 60 - 63؛ المبسوط 12/ 125؛ النتف في الفتاوى للسغدي ص 289؛ العناية على الهداية 7/ 76؛ فتح القدير 7/ 77.
(4)
انظر: المغني 6/ 65؛ الشرح الكبير 12/ 102؛ الإنصاف 12/ 101.
الحنفية، وعطاء، والثوري، والحسن بن حي. وروي ذلك عن عمار، وابن عمر-رضي الله عنهم. ونسبه الترمذي إلى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم
(1)
.
القول الثاني: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إلا أن تختلف الأغراض فيجوز.
وهو مذهب المالكية
(2)
، وقول ابن سيرين، وقتادة
(3)
.
القول الثالث: يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وهو مذهب الشافعية
(4)
، والصحيح من المذهب عند الحنابلة
(5)
، وقول سعيد بن المسيب، والزهري، وأبي ثور، وداود. وروي ذلك عن ابن عباس، ورافع بن خديج رضي الله عنهم
(6)
. وذكر النووي أنه قول جمهور أهل
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 294؛ الاستذكار 5/ 428 - 429؛ المغني 6/ 65.
(2)
انظر: الموطأ لمالك ص 506؛ الاستذكار 5/ 425؛ بداية المجتهد 3/ 1175؛ القوانين الفقهية ص 191.
(3)
انظر: الاستذكار 5/ 425.
(4)
انظر: الأم 3/ 120، 121؛ مختصر المزني ص 109؛ البيان 5/ 170؛ المجموع 9/ 301 - 303؛ 305.
(5)
انظر: المغني 6/ 64، 66؛ الشرح الكبير 12/ 100، 104؛ الممتع 3/ 155؛ شرح الزركشي 2/ 317، 318؛ الإنصاف 12/ 100.
(6)
انظر: الاستذكار 5/ 427، 428.
العلم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة- بما سبق في دليل القول بالنسخ من آية الربا والأحاديث التي جاء فيها النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إنها تدل على تحريم الربا وعدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إذا اتفق المنافع، وجوازه عند اختلاف المنافع-بالأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ.
ووجه الاستدلال منها: هو أن حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-يدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وحديث سمرة رضي الله عنه
(1)
انظر: المجموع 9/ 305.
(2)
انظر: موطأ محمد ص 283؛ شرح معاني الآثار 4/ 60 - 63؛ المبسوط 12/ 125؛ فتح القدير 7/ 77.
وما في معناه يدل على عدم جوازه، فيجمع بينهما، وذلك بحمل حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-على الجواز عند اختلاف المنافع، وحديث سمرة رضي الله عنه وما في معناه على المنع إذا اتفقت المنافع
(1)
.
ويعترض عليه: بأن كلا النوعين من تلك الأدلة ليس فيها ما يدل على الفرق بين اختلاف الأغراض والمنافع وعدمها.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة- بما يلي:
أولاً: حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكره في دليل القول في النسخ.
ثانياً: ما روي: (أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه باع جملاً له يُدعى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل)
(2)
.
ثالثاً: عن نافع: (أن ابن عمر-رضي الله عنهما-اشترى راحلة بأربعة
(1)
انظر: الاستذكار 5/ 429؛ بداية المجتهد 3/ 1176.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ ص 505، والشافعي في الأم 4/ 121، وعبد الرزاق في المصنف 8/ 22، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 471. وذكر النووي في المجموع 9/ 302: أن إسناده صحيح لكنه منقطع لأن حسين بن محمد بن علي لم يدرك علياً رضي الله عنه. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 5/ 471: (ذكر ابن الأثير في شرح مسند الشافعي أن هذا الحديث مرسل؛ لأن الحسن لم يلق جده علياً، وقد جاء عن علي خلاف هذا. قال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن ابن قسيط عن ابن المسيب عن علي أنه كره بعيراً ببعيرين نسيئة، فإن صح الأول يحمل على أنه فعله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل التحريم).
أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه معارض بأحاديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهي أكثر وأقوى بمجموعها من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
(3)
.
ب- إن ما روي عن بعض الصحابة من الآثار التي تدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فهي معارض بمثلها
(4)
؛ فقد روي عن علي رضي الله عنه: (أنه كره بعيراً ببعيرين نسيئة)
(5)
.
وعن طاووس: (أنه سأل ابن عمر رضي الله عنه عن بعير ببعيرين نظرة، فقال: لا، وكرهه، فسأل ابن عباس رضي الله عنه فقال: قد يكون البعير خيراً من البعيرين)
(6)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي- والله
(1)
أخرجه مالك في الموطأ ص 505، والشافعي في الأم 4/ 121. وإسناده من أصح الأسانيد.
(2)
انظر: الأم 4/ 120، 121؛ البيان 5/ 170؛ المغني 6/ 64؛ المجموع 9/ 302.
(3)
انظر: نيل الأوطار 5/ 293؛ تحفة الأحوذي 4/ 499.
(4)
انظر: الاستذكار 5/ 428.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/ 22. قال ابن عبد البر في الاستذكار 5/ 428: (حديث مالك عن علي أثبت من هذا، والأسلمي ليس بالقوي).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/ 21. ورجاله ثقات.
أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول-وهو عدم جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة- وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول بمجموعها أقوى وأصح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
الذي يدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
(1)
.
ثانياً: ولأن الأحاديث الدالة على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة صريحة في ذلك ولا تحتمل أكثر من احتمال، بخلاف ما يدل على جوازه حيث يحتمل أن يكون ذلك قبل النهي عنه فيكون قد نسخ به
(2)
.
ثالثاً: ولأن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وحديث سمرة رضي الله عنه وما في معناه يد على عدم جوازه، وعند تعارض الحاظر والمبيح يقدم الحاظر على المبيح
(3)
.
رابعاً: ولأن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مظنة الربا، فكان تركه أولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(4)
.
والله أعلم.
(1)
راجع تخريج هذه الأحاديث، وانظر: نيل الأوطار 5/ 293؛ تحفة الأحوذي 4/ 499.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60؛ العناية على الهداية 7/ 76؛ عمدة القاري 8/ 555؛ شرح الزركشي 2/ 318.
(3)
انظر: روضة الناظر 2/ 292؛ نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر لابن بدران 2/ 292.
(4)
سبق تخريجه في ص 295.
المطلب الرابع: استقراض الحيوان
ذهب بعض أهل العلم
(1)
، إلى عدم جواز استقراض الحيوان، وأن ما يدل على جواز ذلك فإنه قد نسخ. وممن صرح به: الطحاوي
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(4)
.
ثانياً: عن سمرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة»
(5)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
(6)
.
رابعاً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنان بواحد لا
(1)
نسبه غير واحد إلى جماعة من أهل العلم. انظر: التمهيد 12/ 258؛ الاستذكار 5/ 530؛ فتح الباري 5/ 68؛ عمدة القاري 8/ 556؛ سبل السلام 3/ 75.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60، 61.
(3)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين.
(4)
سورة البقرة، الآية (278).
(5)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(6)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
يصلح نسيئاً ولا بأس به يداً بيد»
(1)
.
خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن آية الربا تحرم كل فضل خال عن العوض، وتحرم كل
قرض جر منفعة، وقرض الحيوان نوع من البيع يوجد فيه المعنى الذي حرم من أجله الربا. فيكون ما يدل على جواز استقراض الحيوان منسوخاً بآية الربا، وبالنهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن ما ذكر لا دليل عليه، وإنما هو احتمال والنسخ لا يثبت به
(4)
.
ب-إن الاستقراض لا يراد به البيع؛ يدل عليه أن بيع الحنطة بعضها ببعض نسيئة لا يجوز؛ لما فيه من الربا، ويجوز استقراضها بلا خلاف، ولم يدخل أحد ذلك في الربا ولم ينسخه به، فكذلك الحيوان
(5)
.
ج-على تقدير أن استقراض الحيوان يشمله النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فإنه يكون ما يدل على استقراضه مخصصاً لعموم النهي،
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسالة السابقة.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60؛ فتح الباري 5/ 68؛ عمدة القاري 8/ 555، 556؛ نيل الأوطار 5/ 328.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 116؛ فتح الباري 5/ 68؛ سبل السلام 3/ 75.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 61.
ومستثنى منه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في استقراض الحيوان على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز استقراض الحيوان.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، وقول الثوري، وروي ذلك عن ابن مسعود، وحذيفة، وعبد الرحمن بن سمرة-رضي الله عنهم
(3)
.
القول الثاني: يجوز استقراض الحيوان إلا الإماء لمن يملك وطأها.
وهو مذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وقول الليث، والأوزاعي، وجمهور أهل العلم
(7)
.
(1)
انظر: نيل الأوطار 5/ 328.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 60 - 63؛ عمدة القاري 8/ 556؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين 7/ 293.
(3)
انظر: التمهيد 12/ 258؛ الاستذكار 5/ 530.
(4)
انظر: التمهيد 12/ 260؛ الاستذكار 5/ 533؛ جامع الأمهات ص 374؛ مختصر خليل مع شرحه مواهب الجليل 6/ 528، 529؛ التاج والإكليل 6/ 529.
(5)
انظر: الأم 3/ 120، 124؛ المهذب مع شرحه المجموع-تكملة المطيعي-12/ 212؛ البيان 5/ 461، 462؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 116؛ فتح الباري 5/ 68.
(6)
المذهب عند الحنابلة عدم جواز القرض في الرقيق بدون فرق فيه بين الإماء والعبيد، وفي قول يصح قرض العبيد دون الإماء. انظر: المغني 6/ 432، 433؛ الشرح الكبير 12/ 326؛ الفروع 6/ 346؛ الإنصاف 12/ 326.
(7)
انظر: التمهيد 12/ 260؛ الاستذكار 5/ 533؛ فتح الباري 5/ 68.
القول الثالث: يجوز استقراض الحيوان بدون فرق بين الإماء وغيرها.
وهو وجه عند الحنابلة
(1)
، وقول داود الظاهري، وابن جرير الطبري
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز استقراض الحيوان- بما سبق في دليل القول بالنسخ، وقد سبق وجه استدلالهم منها، وما يرد به عليه.
ومما عللوا به قولهم كذلك هو: أن الحيوان مما لا يمكن صفته، ولا يوقف على مثله؛ لذلك لا يجوز استقراضه
(3)
.
واعترض عليه: بأن القول بأن الحيوان لا يمكن صفته غير مسلم، بل هو ممكن ويأتي الواصف منها بما يدفع الإشكال، ويوجب الفرق بين الموصوف وغيره كسائر الموصوفات من غير الحيوان
(4)
.
كما أنه هذا التعليل يرده الأحاديث التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض جملاً ورد خيراً منه عند قضائه
(5)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز استقراض الحيوان إلا الإماء لمن يلك
(1)
انظر: المغني 6/ 433؛ الفروع 6/ 347؛ الإنصاف 12/ 327.
(2)
انظر: التمهيد 12/ 261؛ الاستذكار 5/ 533؛ البيان 5/ 462.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 61 - 63؛ التمهيد 12/ 260؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 7/ 293.
(4)
انظر: التمهيد 12/ 260؛ فتح الباري 5/ 68.
(5)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 116.
وطأها- بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهمّ به أصحابه فقال:«دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه» ، وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه قال: «اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّاً فأعطى سنّاً فوقه، وقال:«خياركم محاسنكم قضاء»
(2)
.
ثانياً: عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعيّاً، فقال:«أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء»
(3)
.
فهذه الأدلة تدل على جواز استقراض الحيوان، إلا أن الأمة لا يجوز استقراضها لمن يملك وطأها؛ لأن الفروج محظورة لا تستباح إلا بنكاح أو
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 472، كتاب الاستقراض، باب استقراض الإبل، ح (2390)، ومسلم في صحيحه 6/ 115، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، ح (1601)(120).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 115، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، ح (1601)(121).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 115، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، ح (1600)(118).
ملك يمين، واستقراضها قد يؤدي إلى وطئها بغير نكاح ولا ملك يمين؛ لأن القرض ليس بعقد لازم من جهة المقترض، لأنه يرده متى شاء، فأشبه الجارية المشتراة بالخيار، ولا يجوز وطؤها بإجماع حتى تنقضي أيام الخيار
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو جواز استقراض الحيوان بدون استثناء أي نوع منه- بما سبق من حديث أبي هريرة، وأبي رافع-رضي الله عنهما؛ حيث إنهما يدلان على جواز استقراض الحيوان. وملك المستقرض صحيح يجوِّز له فيه التصرف كله، ولم يحظر الله استقراض الإماء، ولا رسوله، ولا اتفق الجميع على المنع منه، والأصل الإباحة حتى يصح المنع من وجه لا معارض له.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-أن الراجح ما يلي:
أولاً: إنه لا بأس باستقراض الحيوان، وذلك:
أ-لحديث أبي هريرة، وأبي رافع-رضي الله عنهما، وعدم وجود ما يعارض ذلك صريحاً.
ب-لأن الإقراض فعل من أفعال البر، ويراد به البر، ولا يراد به الربح؛ لذلك يكون ما جره من النفع ربا إذا اشترطه المقرض، بخلاف البيع فإنه إنما يراد به الربح لذلك يكون بيع الحنطة-مثلاً-بعضها ببعض نسيئة غير جائز لما
(1)
انظر: التمهيد 12/ 260، 261؛ البيان 5/ 461، 462؛ المغني 6/ 433.
فيه من الربا بخلاف ما لو استقرض حنطة فلا يكون فيه رباً، وبهذا يفرق بين البيع والاستقراض
(1)
.
ثانياً: لا يصح ادعاء نسخ ما يدل على جواز استقراض الحيوان، وذلك لما يلي:
أ-لأنه ليس عليه دليل، وإنما هو احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(2)
.
ب-إنه لا تعارض بين ما يدل على جواز استقراض الحيوان، وبين ما يدل على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة حتى يكون ذلك النهي ناسخاً للجواز؛ لأن الاستقراض غير البيع، كما سبق بيانه، وعلى تقدير أن استقراض الحيوان يشمله النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فإنه يكون ما يدل على استقراضه مخصصاً لعموم النهي، ومستثنى منه
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 61؛ البيان 5/ 455.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 116؛ فتح الباري 5/ 68؛ سبل السلام 3/ 75.
(3)
انظر: نيل الأوطار 5/ 328.
المطلب الخامس: حصر الربا في النسيئة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الربا
(1)
كما يكون في النسيئة يكون كذلك في الفضل، ولو كان يداً بيد، وأن ما يدل على حصر الربا في النسيئة قد نسخ.
وممن صرح به: الحميدي
(2)
، وابن شاهين
(3)
، والماوردي
(4)
، والحازمي
(5)
، والنووي
(6)
، وأبو حامد الرازي
(7)
، وأبو إسحاق الجعبري
(8)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأحاديث الدالة على حصر الربا في النسيئة سبب آخر
(1)
الربا لغة: الفضل والزيادة. انظر: مختار الصحاح ص 203؛ المصباح المنير ص 181.
واصطلاحاً: عرفه ابن قدامة فقال: (هو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة) المغني 6/ 51.
وعرفه الجرجاني فقال: (هو فضل خال عن عوض شرط لأحد المتعاقدين) التعريفات ص 109.
وقال قاسم الرومي: (هو فضل أحد المتجانسين على الآخر من مال بلا عوض) أنيس الفقهاء ص 77.
(2)
انظر: مسند الحميدي 1/ 575؛ الاعتبار ص 408.
(3)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 488، 491.
(4)
انظر: الحاوي 5/ 77.
(5)
انظر: الاعتبار ص 408.
(6)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 105.
(7)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 71.
(8)
انظر: رسوخ الأحبار ص 416.
للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات
(2)
أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، فقلت له: إن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله تعالى؟ فقال: كل ذلك لا أقول وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكنّي أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا ربا إلا في النسيئة»
(3)
.
ثانياً: عن عطاء بن أبي رباح أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لقي ابن عباس رضي الله عنه فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم شيئاً وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: كلاً لا أقول، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: شرح معاني الآثار 4/ 64، 65.
(2)
هو: ذكوان، أبو صالح السمان الزيات، المدني، مولى جوريرية بنت الأحمس الغطفاني، ثقة ثبت، روى عن أبي هريرة وأبي سعيد، وغيرهما، وروى عنه: عطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم، وغيرهما، وتوفي سنة إحدى ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 195، 196؛ التقريب 1/ 287.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 428، كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء، ح (2178، 2179)، ومسلم في صحيحه 6/ 105، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح (1596)(101).
حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنما الربا في النسيئة»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا فيما كان يداً بيد»
(2)
.
رابعاً: عن أبي المنهال
(3)
قال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «ما كان يداً بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردوه»
(4)
.
وفي رواية عن أبي المنهال قال: باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل، فقلت: ما أرى هذا يصلح. فقال: لقد بعتها في السوق فما عاب ذلك عليّ أحد. فأتيت البراء بن عازب فسألته، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 106، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح (1596)(104).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 106، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح (1596)(103).
(3)
هو: عبد الرحمن بن مطعم البناني، أبو المنهال المكي، ثقة، روى عن ابن عباس، والبراء، وزيد بن أرقم، وغيرهم-رضي الله عنهم، وروى عنه: عمرو بن دينار، وسليمان الأحول، وغيرهما، وتوفي سنة ست ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 241؛ التقريب 1/ 590.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 496، كتاب الشركة، باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف، ح (2497، 2498)، ومسلم في صحيحه 6/ 98، كتاب المساقاة، باب النهي عن بيع الورق بالذهب ديناً، ح (1589)(86).
وتجارتنا هكذا، فقال:«ما كان يداً بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فلا خير فيه» وأت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته فذكرت
ذلك له، فقال: صدق البراء
(1)
.
خامساً: عن فضالة بن عبيد
(2)
الأنصاري رضي الله عنه يقول: أُتيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب وزناً بوزن»
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوُقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تبيعوا الذهب إلا وزناً بوزن»
(4)
.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في مسنده 1/ 574، ومن طريقه الحازمي في الاعتبار ص 408، كما أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار-4/ 222. والحميدي أحد شيوخ البخاري، ورجال السند بعد الحميدي رجال الشيخين.
(2)
هو: فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس، الأنصاري الأوسي، أبو محمد، أسلم قديماً وشهد أحداً فما بعدها، وبايع تحت الشجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ثمامة بن شفي، وعلي بن رباح، وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وخمسين، وقيل قبلها. انظر: الإصابة 3/ 1583، 1584؛ التقريب 2/ 10.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 99، كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، ح (1591)(89).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 100، كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، ح (1591)(91).
سادساً: عن أبي الأشعث
(1)
قال: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى). فرد الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة. ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم). ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء
(2)
.
وفي رواية عن عبادة رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالفضة العين، قال: وقال:
(1)
هو: شراحيل بن آدة، أبو الأشعث الصنعاني، ويقال: شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن آدة، ثقة، روى عن عبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وغيرهما، وروى عنه: أبو قلابة، ومسلم بن يسار، وغيرهما، وشهد فتح دمشق. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 291؛ التقريب 1/ 414.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 96، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، ح (1587)(80).
«ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين»
(1)
.
سابعاً: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصرف قبل موته بشهرين)
(3)
.
ثامناً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز»
(4)
.
تاسعاً: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الدينار
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 407.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 427، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب، ح (2175)، ومسلم في صحيحه 6/ 98، كتاب المساقاة، باب النهي عن بيع الورق بالذهب ديناً، ح (1590)(88).
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 119: (قلت: له في الصحيح أنه نهى عن الذهب بالذهب من غير ذكر تاريخ-رواه البزار، وفيه بحر بن كنيز السقاء، وهو ضعيف). وأخرجه الحازمي في الاعتبار ص 407 - بلفظ: (قبل موته بشهر) -. ثم قال: (هذا الحديث واهي الإسناد، وبحر السقا لا تقوم به الحجة).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 428، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، ح (2177)، و مسلم في صحيحه 6/ 92، كتاب المساقاة، باب الربا، ح (1584)(75).
بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين»
(1)
.
عاشراً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزناً بوزن، مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا»
(2)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن حديث ابن عباس رضي الله عنه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه بمجموع طرقه وألفاظه يدل على حصر الربا في النسيئة، وينفي أن يكون في الفضل رباً. وبنحوه يدل إحدى طرق رواية أبي المنهال عن البراء رضي الله عنه، لكنه يدل كذلك على أن ذلك كان تجارتهم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
(3)
.
ويدل حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وكذلك إحدى رواية حديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربا الفضل يوم خيبر.
وحديث أبي بكرة رضي الله عنه يدل على النهي عن ربا الفضل، وهو قد أسلم بعد فتح مكة، وإحدى روايتيه تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربا الفضل قبل موته بشهرين.
وبقية الأحاديث تدل على أن الربا في الفضل كما في النسيئة وأنه مما نهي عنه.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 94، كتاب المساقاة، باب الربا، ح (1585)(78).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 97، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، ح (1588)(84).
(3)
انظر: الحاوي 5/ 77.
فيثبت من مجموع هذه الأحاديث أن ما يدل على نفي الربا في الفضل، وحصره في النسيئة، كان قبل النهي عن ربا الفضل، وأن أحاديث النهي عن ربا الفضل متأخرة عليها فتكون هي ناسخة للأحاديث الدالة على حصر الربا في النسيئة
(1)
.
ويؤكد كونها ناسخة إجماع أهل العلم بعد عصر الصحابة على ترك العمل بظاهر ما يدل على حصر الربا في النسيئة
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد أجمع أهل العلم بعد عصر الصحابة-رضي الله عنهم على تحريم ربا الفضل كتحريم ربا النسيئة. مستدلين بأحاديث كثيرة بلغت التواتر تدل على تحريم ربا الفضل، ومنها بعض ما سبق في دليل القول بالنسخ
(3)
.
وقد كان بعض الصحابة-رضي الله عنهم-لا يرون الربا في الفضل،
(1)
انظر: مسند الحميدي 1/ 575؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 483 - 491؛ الحاوي 5/ 77؛ الاعتبار ص 402 - 408؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 71؛ رسوخ الأحبار ص 413 - 416.
(2)
انظر: الإجماع لابن المنذر ص 54؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 105؛ المغني 6/ 52.
(3)
انظر: "الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 735، 736؛ الموطأ لمحمد ص 291، 292؛ شرح معاني الآثار 4/ 65 - 71؛ المبسوط 12/ 113، 114؛ " المدونة 3/ 21 - 22؛ التمهيد 12/ 146؛ بداية المجتهد 3/ 1284؛ " الأم 3/ 14، 15؛ مختصر المزني ص 108، 109؛ الإجماع لابن المنذر ص 54؛ الحاوي 5/ 76؛ البيان 5/ 172؛ "
المغني 6/ 52، 53؛ الشرح الكبير 12/ 6؛ الممتع 3/ 136؛ الإنصاف 12/ 8، 9؛ الإقناع 2/ 245.
ويرون حصره في النسيئة، حُكي ذلك عن ابن عباس، وأسامة، وزيد بن أرقم، وابن الزبير-رضي الله عنهم؛ وذلك لبعض الروايات التي سبقت في دليل القول بالنسخ، منها حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ربا إلا في النسيئة» .
والمشهور من ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه، وقد اختلف في رجوعه عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فنقل غير واحد من أهل العلم أنه قد رجع قبل موته إلى قول الجماعة
(1)
.
الراجح
ولا شك أن الراجح هو قول جمهور أهل العلم، وهو أن ربا الفضل محرم كما يحرم ربا النسيئة، وليس الربا منحصراً في النسيئة، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول مع صحتها، وكثرتها حتى بلغت التواتر، نصوص صريحة تدل على حرمة ربا الفضل، ولا تحتمل غير ذلك. بخلاف أدلة من يقول بحصر الربا في النسيئة، فإن تلك الأدلة وردت بألفاظ مختلفة، وتحتمل أموراً منها:
أ-قال الإمام الشافعي: (قد يكون أسامة بن زيد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسالُ عن الصنفين المختلفين مثل الذهب والورق، والتمر والحنطة، أو ما اختلف جنسه متفاضلاً يداً بيد، فقال: إنما الربا في النسيئة. أو تكون المسألة
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 295؛ شرح معاني الآثار 4/ 71؛ التمهيد 12/ 146؛ الحاوي 5/ 77؛ المبسوط للسرخسي 12/ 113، 114؛ البيان للعمراني 5/ 173؛ الاعتبار ص 406؛ المغني 6/ 52.
سبقته بهذا فأدرك الجواب، فروى الجواب ولم يحفظ المسالة، أو شك فيها)
(1)
.
ب-قال الطحاوي: (
…
وكانت الحجة لهم في تأويل حديث ابن عباس-رضي الله عنهما عن أسامة رضي الله عنه الذي ذكرنا في الفصل الأول أن ذلك الربا إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدين، فيقول له: أجلني منه إلى كذا وكذا بكذا وكذا درهماً أزيدكها في دينك، فيكون مشترياً لأجل بمال، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(2)
. ثم جاءت السنة بعد ذلك بتحريم الربا في التفاضل، في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وسائر الأشياء المكيلات والموزونات على ما ذكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رويناه عنه فيما تقدم من كتابنا هذا في" باب بيع الحنطة بالشعير" فكان ذلك ربا حرم بالسنة، وتواترت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قامت بها الحجة.
والدليل على أن ذلك الربا المحرم في هذه الآثار، هو غير الربا والذي رواه ابن عباس عن أسامة-رضي الله عنهم-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوع ابن عباس-رضي الله عنهما إلى ما حدثه به أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما قد ذكرناه في هذا الباب.
فلو كان ما حدثه به أبو سعيد رضي الله عنه من ذلك في المعنى الذي كان أسامة رضي الله عنه حدثه به إذاً لما كان حديث أبي سعيد عنده بأولى من حديث أسامة رضي الله عنه.
(1)
الاعتبار ص 405.
(2)
سورة آل عمران، الآية (130).
ولكنه لم يكن علم بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربا حتى حدثه به أبو سعيد رضي الله عنه. فعلم أن ما كان حدثه به أسامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ربا غير ذلك الربا)
(1)
.
ثانياً: إن ما يُستدل منه على حصر الربا في النسيئة ونفيه عن الفضل قد ورد بألفاظ مختلفة، لكن إن كان المقصود به حصر الربا في النسيئة، ونفيه عن الفضل فإنه يكون منسوخاً بالأحاديث الدالة على حرمة الربا في الفضل؛ لتأخرها عليه؛ لأن إحدى طرق حديث البراء رضي الله عنه جاء فيه ما يدل على أن ذلك-أي عدم الربا في الفضل-كان في أوائل الهجرة حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد جاء في حديث فضالة بن عبيد، وعبادة بن الصامت-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربا الفضل بعد فتح خيبر. والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم
(2)
.
ثالثاً: ولأن أهل العلم بعد عصر الصحابة-رضي الله عنهم أجمعوا على حرمة ربا الفضل كحرمة ربا النسيئة، كما سبق بيانه، وإجماعهم ذلك يدل على أحد أمرين:
إما لأن ما يستدل منها على حصر الربا في النسيئة، ليس المقصود منها الحصر ونفي الربا في الفضل.
وإما أنها تدل على ذلك إلا أنها قد نسخت فأجمع أهل العلم على ترك العمل بها.
والله أعلم.
(1)
شرح معاني الآثار 4/ 65.
(2)
انظر: الحاوي 5/ 77؛ الاعتبار ص 407 - 408.
المطلب السادس: بيع العرايا
ذهب بعض الحنفية إلى أن بيع العرية
(1)
بمعنى أن يبع صاحب العرية ثمرة عريته بالتمر خرصاً، قد نسخ؛ لذلك لا يجوز بيع العرايا
(2)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلاف أهل العلم فيها هو اختلافهم في المفهوم من الأحاديث الواردة في العرايا
(3)
.
(1)
العرية عرفها الحنفية فقالوا: هي أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله فلا يسلم ذلك إليه حتى يبدو له، فرخص له أن يحبس ذلك، ويعطيه مكانه خرصه تمراً. شرح معاني الآثار 4/ 31.
وعند المالكية هي: أن يهب الرجل من حائطه خمسة أوسق فما دونها، ثم يريد أن يشتريها من المعرى عند طيب الثمر فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمراً عند الجذاذ. التمهيد 12/ 47.
وعند الشافعية هي: أن يشتري الرجل ثمر النخلة فأكثر بخرصه من التمر، بأن يخرص الرطب ثم يقدر كم ينقص إذا يبس ثم يشتري بخرصه تمراً. فتح الباري 4/ 474. وانظر الأم 3/ 57.
وعند الحنابلة هي: أن يُوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق، فيبيعها بخرصها من التمر لمن يأكلها رطباً. مختصر الخرقي مع شرحه المغني 6/ 119.
(2)
نسب القول بالنسخ إليهم ابن المنذر. انظر: فتح الباري 4/ 467، 470؛ عمدة القاري 8/ 489. وقال العيني في عمدة القاري 8/ 486:(ونقل ابن المنذر عن بعض الحنفية غير صحيح).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 28 - 34؛ التمهيد 12/ 42 - 51؛ فتح الباري 4/ 474 - 476؛ عمدة القاري 8/ 474 - 475.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الثمر حتى يبدوَ صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة). والمزابنة
(2)
بيع الثمر بالتمر كيلاً،
وبيع الكرم بالزبيب كيلاً
(3)
.
ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة). والمزابنة اشتراء الثمر في رؤوس النخل، والمحاقلة
(4)
كراء الأرض
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2183)، ومسلم في صحيحه 6/ 33، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1539)(59).
(2)
قال ابن الأثير في النهاية 1/ 717: (هي: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه). وما جاء تفسيره في رواية الحديث أعم مما قاله ابن الأثير.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2185).
(4)
اختلف في تأويل المحاقلة، فقيل: هي: اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هي: المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي: بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: هي: بيع الزرع قبل إدراكه. انظر: التمهيد 12/ 99 - 101؛ النهاية في غريب الحديث 1/ 406.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2186)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 48، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1546)(105).
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن المزابنة والحقول). فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: المزابنة الثمر بالتمر، والحقول كراء الأرض
(1)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)
(2)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبتاعوا الثمر حتى يبدوَ صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على النهي عن بيع الثمر بالتمر، وهو يشمل العرية؛ لأنها يكون فيها بيع الرطب خرصاً بالتمر كيلاً. لذلك يكون ما يدل على جواز بيع العرية منسوخاً بهذه الأحاديث
(4)
.
واعترض عليه: بأن الرخصة في بيع العرية متأخر عن النهي عن بيع الثمر بالتمر، والمنسوخ لا يكون بعد الناسخ
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 47، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1536)(103).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2187).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 31، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ح (1538)(58).
(4)
انظر: فتح الباري 4/ 467، 470.
(5)
انظر: فح الباري 4/ 467، 470.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولم يختلف أهل العلم في صحة الأحاديث الواردة في الرخصة في بيع العرايا و تواترها
(1)
، إلا أنهم اختلفوا في تأويل ذلك على قولين:
القول الأول: إن بيع المعرى له ثمرته على رؤوس النخل خرصاً بالتمر كيلاً على المعري أو على غيره لا يجوز؛ لأنه من المزابنة، وهي منهي عنها لما يؤدي إلى الربا.
وإنما العرية التي جاءت الرخصة ببيعها هي: أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله، ويأذن له في أخذها، فلا يفعل حتى يبدو لصاحب النخلة أن يمنعه من ذلك، ويعوضه منها خرصها تمراً. فرخص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه خرصه تمراً؛ لأن المعرى لم يكن ملكه، فهي رد لعطية لم يقبضها الموهوب له، وإبدالها بغيرها، وهو جائز. وسمي بيعاً لإعطاء العوض عما حبسه.
وهذا هو مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: إنه يجوز للمعرى بيع العرية بخرصها تمراً.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
. وقول الأوزاعي،
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 30.
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 267؛ شرح معاني الاثار 4/ 31؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 102؛ الهداية وشرحه فتح القدير 6/ 415؛ العناية 6/ 415.
(3)
انظر: المدونة 3/ 284 - 286؛ التمهيد 12/ 46؛ الاستذكار 5/ 328؛ بداية المجتهد 3/ 1323؛ جامع الأمهات ص 366.
(4)
انظر: الأم 3/ 57؛ مختصر المزني ص 115؛ الحاوي 5/ 214؛ البيان 5/ 204؛ روضة الطالبين ص 595.
(5)
انظر: المغني 6/ 119، 120؛ الشرح الكبير 12/ 63 - 65؛ الفروع 6/ 304؛ الإنصاف 12/ 63.
وإسحاق وابن المنذر، وجمهور أهل العلم
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز بيع المعرى عريته خرصاً بالتمر كيلاً- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، وابن عباس، وأبي هريرة-رضي الله عنهم والتي تدل على النهي عن المزابنة، وبيع الثمر
بالتمر. فهي تشمل بيع المعرى له عريته خرصاً بالتمر كيلاً.
ثانياً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الثمر حتى يبدوَ صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر»
(2)
.
قال سالم: وأخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره)
(3)
.
وفي رواية عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب
(1)
انظر: المغني 6/ 119.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2184)، ومسلم في صحيحه 6/ 33، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1539)(59).
العرية أن يبيعها بخرصها من التمر)
(1)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً)
(2)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب، ولا يُباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا)
(3)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق)
(4)
.
خامساً: عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال:«ذلك الربا، تلك المزابنة» إلا أنه رخص في بيع العرية
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، ح (2188)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 33، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1539)(60).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 33، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1539)(61).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة، ح (2189)، ومسلم في صحيحه 6/ 42، كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح (1536)(81).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة، ح (2190)، ومسلم في صحيحه 6/ 36، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1541)(71).
النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، يأكلونها رطباً
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أن هذه الأحاديث تدل على جواز بيع العرية، وما سبق في دليل القول بالنسخ يدل على منعها، فيجمع بينهما بأن يحمل ما يدل على الجواز على أن يعري الرجلُ الرجلَ ثمر نخلة من نخله، ويأذن له في أخذها، فلا يفعل حتى يبدو لصاحب النخلة أن يمنعه من ذلك، ويعوضه منها خرصها تمراً. فرخص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه تمراً؛ لأن المعرى لم يكن ملكه، فهي رد لعطية لم يقبضها الموهوب له، وإبدالها بغيرها، وهو جائز. وسمي بيعاً لإعطاء العوض عما حبسه
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إنه يفهم مما ذكر أن العرية هي العطية وأنه لا تطلق على غيرها، وهذا غير صحيح؛ لأن العرية لها صور كثيرة، منها:
1 -
أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمرات نخلات بأعيانها بخرصها من التمر، فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر، ويسلم إليه النخلات بالتخلية فينتفع برطبها.
2 -
أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري منه رطبها بقدر خرصه
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 429، كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة، ح (2191)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 35، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، ح (1540)(67).
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 267؛ شرح معاني الآثار 4/ 31؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 102؛ الهداية وشرحه فتح القدير 6/ 415، 416؛ العناية 6/ 415.
بتمر يعجله له.
3 -
أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمراً، ولا يحب أكلها رطباً لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر يأخذه معجلاً.
4 -
أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عفي له عن خرصها في الصدقة، وسميت عرايا لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة، فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها
5 -
أن يعري رجل رجلاً تمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها، وهذه هي هبة مخصوصة.
وجميع هذه الصور صحيحة عند جمهور أهل العلم، وبالتالي يكون العرية بالهبة والعطية كما يكون بالبيع، وذلك رخصة من الشارع، ومستثناة من المزابنة وبيع الثمر بالتمر، كما يفيده غير ما حديث
(1)
.
ب-ولأنه عبر عن بيع العرية بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا بعد
(1)
انظر: التمهيد 12/ 42 - 49؛ الاستذكار 5/ 324 - 330؛ فتح الباري 4/ 474، 475؛ نيل الأوطار 5/ 285 - 287.
ممنوع، والمنع إنما كان في البيع لا الهبة
(1)
.
ج- إن حمل الرخصة في العرية على الهبة بعيد؛ لتصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع
(2)
.
د-إن الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو مادونها، والهبة لا تتقيد
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز بيع العرية- بما سبق من حديث زيد بن ثابت، وأبي هريرة، وجابر، وسهل بن أبي حثمة-رضي الله عنهم في دليل القول السابق.
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إن بعضها يدل على أن بيع العرية رخصة رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مع نهيه عن بيع المزابنة وبيع الثمر بالتمر.
وبعضها يدل على أن الرخصة في بيع العرايا كان بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر.
وبعضها يدل على أن بيع العرايا مستثناة من النهي عن بيع المزابنة وبيع الثمر بالتمر.
ثم جملة تلك الأحاديث صريحة في بيع العرية. وبعضها يدل على أن من صورها هي: أن يشتري أهل البيت ثمر النخل بخرصها تمراً ليأكلوها رطباً
(4)
.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 475؛ نيل الأوطار 5/ 287.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 475؛ نيل الأوطار 5/ 287.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 475؛ نيل الأوطار 5/ 287.
(4)
انظر: الاستذكار 5/ 325 - 330؛ الحاوي 5/ 213 - 216؛ المغني 6/ 120 - 124؛ فتح الباري 4/ 466 - 476؛ نيل الأوطار 5/ 285 - 288.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو جواز بيع العرايا، كما هو القول الثاني، وذلك لما يلي:
أ-لأن أدلة هذا القول ظاهرة وصريحة في الدلالة على جواز بيع العرايا، وأنه مستثنى من النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر.
ب-ولأن من أدلة هذا القول ما يدل على أن العرية ليست منحصرة في الهبة والعطية، بل منها ما يكون بشراء الرطب خرصاً بالتمر كيلاً، ليأكلها أهل البيت رطباً. وهو ينافي وجه استدلال القول الأول حيث حصروا العرية في العطية والهبة، وقالوا: إن المراد ببيع العرية هي رد العطية وإعطاء عوض عنها.
ج-ولأن حمل الأحاديث الدالة على بيع العرايا على إرجاع الهبة والعطية، بدليل توافقها مع أحاديث النهي عن المزابنة غير صحيح، لما يلي:
1 -
لأنه ترك لحقيقة اللفظ وصريحه وحمل له على احتمال بعيد كل البعد
(1)
.
2 -
ولأنه لا تعارض بين الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا وبين أحاديث النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر؛ لأن مع الأحاديث الدالة على
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 475.
جواز بيع العرايا ما يدل على أنه مستثنى ومخصوص من المزابنة، وأن بيع العرايا رخصة رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن المزابنة أو بعد النهي عن المزابنة، كما يدل عليه بعض الأحاديث.
ثانياً: إن القول بأن الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا منسوخة بالنهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ- لأن مع الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا ما يدل على أن ذلك كان بعد النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر، ولا يصح كون المتقدم ناسخاً للمتأخر بلا خلاف
(1)
.
ب- إنه لا تعارض بين أحاديث النهي عن المزابنة وأحاديث جواز بيع العرايا حتى تكون ناسخة لها؛ لأن بيع العرايا رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النهي عن المزابنة، فهو مستثنى من عموم النهي عن المزابنة، فيحمل العام على ما عدا محل الخصوص.
والله أعلم.
(1)
انظر: فح الباري 4/ 467، 470.
المطلب السابع: العارية
ذهب بعض أهل العلم إلى أن العارية
(1)
كانت واجبة في أول الإسلام، ثم نسخ وجوبها فصارت مستحبة
(2)
.
وممن صرح بالنسخ: الروياني
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو تعارض الأدلة
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
(5)
.
(1)
العارية: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال. المغني 7/ 340.
أو هي: تمليك منفعة بلا بدل. التعريفات الفقهية ص 141.
(2)
انظر: بحر المذهب 9/ 5؛ مغني المحتاج 3/ 306؛ المبدع 5/ 72؛ إعانة الطالبين 3/ 219؛ حاشية البجيرمي 3/ 487.
(3)
هو: عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد، القاضي أبو المحاسن الروياني، أحد أئمة الشافعية، تفقه على ناصر العمري، وغيره، وبرع في المذهب، ومن مؤلفاته:(بحر المذهب)، وتوفي سنة اثنين، وقيل: إحدى وخمسمائة. انظر: البداية والنهاية 12/ 186؛ العقد المذهب ص 113؛ شذرات الذهب 4/ 4.
وانظر قوله في: بحر المذهب 9/ 5؛ مغني المحتاج 3/ 306؛ إعانة الطالبين 3/ 219.
(4)
راجع المصادر في الحاشية الأولى. وانظر: بداية المجتهد 4/ 1505؛ المغني 7/ 340؛ الجامع لأحكام القرآن 20/ 196، 197.
(5)
سورة الماعون، الآية (7).
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دُلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: «تعبدُ الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلمّا ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا»
(1)
.
ثالثاً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن
الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطّوّع» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان» ، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطّوّع» ، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»
(2)
.
رابعاً: عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، قال ابن عمر:(من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمّا أُنزلت جعلها الله طُهراً للأموال)
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 843.
(2)
سبق تخريجه في ص 420.
(3)
سبق تخريجه في ص 844.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك»
(1)
.
سادساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شرّه»
(2)
.
سابعاً: عن فاطمة بن قيس-رضي الله عنها مرفوعاً: «ليس في المال حق سوى الزكاة»
(3)
.
ثامناً: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الكريمة تدل على وجوب العارية؛ حيث ذم الله
سبحانه وتعالى من يمنع العارية؛ لأن الماعون العارية وما فيه منفعة من الفأس، والقدر، والدلو، ونحوه
(5)
.
والأدلة المذكورة بعد الآية الكريمة تدل على أنه ليس في المال حقاً سوى الزكاة، وهي عامة تشمل العارية وغيرها، فتكون تلك الأدلة ناسخة لوجوب العارية؛ لأن تلك الآية الكريمة مكية، ووجوب الزكاة كان بعد الهجرة
(6)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 844.
(2)
سبق تخريجه في ص 844.
(3)
سبق تخريجه في ص 845.
(4)
سبق تخريجه في ص 395.
(5)
انظر: جامع البيان 15/ 8870.
(6)
انظر: بحر المذهب 9/ 5؛ المغني 7/ 340، 341؛ الشرح الكبير للمقدسي 15/ 64؛ مغني المحتاج 3/ 306؛ المبدع 5/ 72؛ إعانة الطالبين 3/ 219؛ حاشية البجيرمي 3/ 487.
واعترض عليه: بأن الآية الكريمة اختلف في تأويلها، فقيل: المراد بها العارية، وقيل: المراد بها الزكاة، والصدقة المفروضة. كما قيل أن الآية وردت في المنافقين. ثم إن العارية قد تجب عند الضرورة على ما قاله غير واحد من أهل العلم
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم العارية على قولين:
القول الأول: العارية مستحبة ومندوب إليها، وليست واجبة على الأصل.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(2)
.
القول الثاني: العارية واجبة.
وهو قول بعض أهل العلم
(3)
.
(1)
انظر: جامع البيان 15/ 8864 - 8871؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 643؛ الجامع لأحكام القرآن 20/ 196 - 197؛ المغني 7/ 341؛ الشرح الكبير للمقدسي 15/ 64؛ مغني المحتاج 3/ 307؛ الشرح الممتع 3/ 379.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 643؛ مختصر القدوري ص 133؛ بدائع الصنائع 5/ 319؛ الهداية 9/ 3"؛ بداية المجتهد 4/ 1505؛ جامع الأمهات ص 407؛ مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل 7/ 296، 297"؛ بحر المذهب 9/ 5؛ روضة الطالبين ص 796؛ مغني المحتاج 3/ 306؛ إعانة الطالبين 3/ 219"؛ المغني 7/ 340؛ الشرح الكبير 15/ 64؛ الفروع 7/ 197؛ الإنصاف 15/ 67"؛ المحلى 8/ 136.
(3)
انظر: بداية المجتهد 4/ 1505؛ المغني 7/ 340.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن العارية مستحبة، وليست واجبة- بأدلة منها الأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على أن المال لا يجب فيه حق سوى الزكاة، وهي عامة تشمل العارية وغيرها، إلا أنها تجب أحياناً عند الضرورة، إلا أن الأصل فيها هو عدم الوجوب
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن العارية تجب- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
(2)
. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هو العواري: القدر والدلو، والميزان)
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه قال لما سُئل عن الماعون: (ما يتعاطى الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك)
(4)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يُؤدى حقها، إلا أُقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذٍ
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 643؛ المحلى 8/ 136، 137؛ بحر المذهب 9/ 5؛ المغني 7/ 341؛ الشرح الكبير 15/ 64.
(2)
سورة الماعون، الآية (7).
(3)
رواه ابن حزم في المحلى 8/ 136، من طريق ابن أبي شيبة، وأخرج نحوه ابن جرير في جامع البيان 15/ 8868.
(4)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 15/ 8869.
جمّاء ولا مكسورة القرن». قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال:«إطراق فحلها، وإعارة دلوها. ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله» الحديث
(1)
.
ووجه الاستدلال منهما: هو أن الله ذم مانع العارية، وتوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر في الخبر، فدلا على وجوب العارية
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن الآية الكريمة اختلف في تأويلها، فبعض أهل العلم أولها بالزكاة والصدقات المفروضة، وبعضهم جعلها أعم من ذلك، ثم يمكن أن يكون المراد بالذم فيها من يمنع العارية عند الضرورة، كما تحتمل الحديث هذا الاحتمال
(3)
.
ب- إنهما على تقدير أن يراد بهما وجوب العارية فإنهما تحتملان أن يكونا منسوخين بالأدلة التي تدل على أن المال لا يجب فيه حق سوى الزكاة؛ لأن هذه الآية مكية، وتلك الأدلة بعد وجوب الزكاة، وهو كان بعد الهجرة
(4)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم
(1)
سبق تخريجه في ص 848.
(2)
انظر: بداية المجتهد 4/ 1505؛ المغني 7/ 341؛ الشرح الكبير 15/ 64.
(3)
انظر: جامع البيان 15/ 8865 - 8871؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 643؛ المحلى 8/ 136؛ المغني 7/ 341.
(4)
انظر: بحر المذهب 9/ 5؛ المغني 7/ 340، 341؛ الشرح الكبير للمقدسي 15/ 64؛ مغني المحتاج 3/ 306؛ المبدع 5/ 72؛ إعانة الطالبين 3/ 219؛ حاشية البجيرمي 3/ 487.
بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: للأدلة التي تدل على أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة، واحتمال أن يراد بأدلة القول الثاني وجوب العارية عند الضرورة، وهو لا ينافي استحبابها؛ لأن الأصل فيها هو الاستحباب، وقد تجب عند الضرورة لأجل الضرورة.
ثانياً: ولاحتمال أن يكون ما يستدل منها على وجوبها منسوخاً بما يستدل منها على عدم وجوبها، كما قرره بعض أهل العلم، وقد سبق بيانه.
والله أعلم.
المبحث الثاني الرهن، والإجارة، والبيوع المنهي عنها
.
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الرهن يركب ويحلب بنفقته.
المطلب الثاني: كسب الحجام.
المطلب الثالث: بيع الحر في الدين.
المطلب الرابع: بيع الحاضر للباد.
المطلب الخامس: بيع الكلب.
المطلب الأول: الرهن يركب ويحلب بنفقته
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن
(1)
، وأن ما يدل على جواز انتفاعه من الرهن بالركوب والحلب مقابل نفقة الرهن وعلفه فإنه منسوخ.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(2)
، وأبو بكر الجصاص
(3)
، وابن عبد البر
(4)
، والسرخسي
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(7)
.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أنزلت الآيات في سورة البقرة في الربا خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر)
(8)
.
(1)
الرهن لغة: الدوام والثبوت. انظر: مختار الصحاح ص 228؛ المصباح المنير ص 201.
واصطلاحاً: حبس الشيء بحق يمكن أخذه منه كالدين. التعريفات للجرجاني ص 113.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 99 - 100؛ مختصر اختلاف العلماء 4/ 308.
(3)
انظر: أحكام القرآن 1/ 645.
(4)
انظر: التمهيد 16/ 186.
(5)
انظر: المبسوط 21/ 101.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى.
(7)
سورة البقرة، الآية (275).
(8)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 98، كتاب الصلاة، باب تحريم تجارة الخمر في المسجد، ح (459)، ومسلم في صحيحه 6/ 87، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، ح (1580)(69).
وفي رواية عنها رضي الله عنها-قالت: (لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر)
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تُؤتى مشربتُه فتكسر خزانته فينتقل طعامه؟ فإنما
تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه»
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة»
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت الدابة مرهونة
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 936، كتاب التفسير، باب {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، ح (4540).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 482، كتاب في اللقطة، باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه، ح (2435)، ومسلم في صحيحه 6/ 307، كتاب اللقطة، باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها، ح (1726)(13).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 499، كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب، ح (2512).
فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشربه نفقته، ويركب»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجوه التالية:
أولاً: إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن للمرتهن أن يشرب من لبن الرهن، ويركب ظهره مقابل نفقته، وهذا هو من القرض الذي يجر نفعاً، فيكون حديث أبي هريرة رضي الله عنه في وقت كان الربا مباحاً، ولم ينه عن القرض الذي يجر نفعاً، ثم حرم الربا، وحرم كل قرض جر نفعاً، فيكون حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخاً بنسخ الربا والنهي عن القرض الذي يجر نفعاً
(2)
.
قالوا: ويؤيد ذلك: أن الشعبي وهو الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث انتفاع المرتهن بالرهن، قد رُوي عنه أنه قال:(لا ينتفع من الرهن بشيء)
(3)
. فدل مخالفته ذلك لما رواه من الحديث أنه منسوخ عنده وإلا لما خالفه وإلا لكان قدحاً في عدالته، فيرد به ما رواه من الحديث
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 12/ 23، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 99، والدارقطنبي في سننه 3/ 34. ورجال أحمد رجال الشيخين. وقال ابن حجر في الفتح 5/ 173، بعد ذكر الحديث من طريق الطحاوي:(وطريق هشيم المذكور زعم ابن حزم أن إسماعيل بن سالم الصائغ تفرد عن هشيم بالزيادة وأنها من تخليطه، وتعقب بأن أحمد رواها في مسنده عن هشيم، وكذلك أخرجه الدارقطني من طريق زياد بن أيوب عن هشيم).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 99؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 645؛ التمهيد 16/ 186؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 392.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الاثار 4/ 100.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 99؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 645.
ثانياً: من وجوه النسخ: إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن للمرتهن أن يشرب من لبن الرهن ويركب ظهره بدون إذن الراهن، وحديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على النهي عن أن يحلب أحد ماشية أحد بغير إذنه، فيكون حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخاً بحديث ابن عمر رضي الله عنه
(1)
.
ويعترض على وجهي النسخ بما يلي:
أ- إنه لا يعرف أن حديث ابن عمر رضي الله عنه أوالنهي عن الربا جاء بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه حتى يكون منسوخاً بذلك، وما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت به
(2)
.
ب- إن النهي عن الربا وعن القرض الذي يجر نفعاً، وكذلك عن أن يحلب أحد ماشية أحد بغير إذنه أدلة عامة، وحديث انتفاع المرتهن من الرهن بالحلب والركوب مقابل نفقته خاص، فيحمل العام على ما عدا محل الخصوص، فلا يكون بينهما تعارض ولا يكون هناك داعياً للنسخ
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في ركوب المرتهن الرهن وحلبه إياه مقابل نفقته على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالركوب ولا
(1)
انظر: التمهيد 16/ 186.
(2)
انظر: فتح الباري 5/ 173؛ سبل السلام 3/ 96؛ نيل الأوطار 5/ 334؛ تحفة الأحوذي 4/ 526 - 528.
(3)
انظر: فتح الباري 5/ 173؛ سبل السلام 3/ 96؛ نيل الأوطار 5/ 334.
بالحلب ولا بغيره.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
، وقول جمهور
أهل العلم
(5)
.
القول الثاني: للمرتهن أن ينفق عليه، ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك.
وهو مذهب الحنابلة
(6)
، وقول إسحاق بن راهوية
(7)
.
القول الثالث: إن الراهن إذا امتنع عن الإنفاق على الرهن فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر النفقة، وإن لم يمتنع عن الإنفاق فليس له ذلك.
وهو قول الأوزاعي، والليث، وأبي ثور
(8)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 100؛ المبسوط 21/ 101؛ بدائع الصنائع 5/ 212؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 10/ 70.
(2)
انظر: المدونة 4/ 146؛ المعونة 2/ 1163؛ التمهيد 16/ 186؛ بداية المجتهد 4/ 1439.
(3)
انظر: الأم 3/ 171؛ مختصر المزني ص 137؛ السنن الكبرى 6/ 65؛ العزيز 4/ 491؛ روضة الطالبين ص 646، 647؛ فتح الباري 5/ 172.
(4)
انظر: المغني 6/ 511؛ الشرح الكبير 12/ 490؛ الممتع 3/ 238؛ الإنصاف 12/ 491.
(5)
انظر: التمهيد 16/ 186؛ فتح الباري 5/ 172.
(6)
انظر: المغني 6/ 511؛ الشرح الكبير 12/ 490؛ الممتع 3/ 237، 238؛ الفروع 6/ 378؛ الإنصاف 12/ 490.
(7)
انظر: المغني 6/ 511؛ فتح الباري 5/ 172.
(8)
انظر: فتح الباري 5/ 173؛ سبل السلام 3/ 96؛ نيل الأوطار 5/ 334.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز انتفاع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب وبغيره- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من الآية الكريمة وحديث عائشة-رضي الله عنها-الدالان على تحريم الربا. وكل قرض جر نفعاً فهو ربا.
ثانياً: حديث ابن عمر-رضي الله عنها-الدال على نهي أن يحلب أحد ماشية أحد بغير إذنه، وقد سبق ذكره كذلك في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن له غنمه، وعليه غرمه»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لا يغلق الرهن، والرهن لمن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 1579، والدارقطني في سننه 3/ 32، والحاكم في المستدرك 2/ 58، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 67. قال الدارقطني:(وهذا إسناد حسن متصل). وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في بلوغ المرام:(رواه الدارقطني والحاكم، ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله). بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 3/ 97.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 33، والحاكم في المستدرك 2/ 59. قال الزيلعي في نصب الراية 4/ 320:(وأخرجه أيضاً-يعني الدارقطني- عن عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي ثنا شبابة-فذكر سنده ثم قال: -وصححه عبد الحق في أحكامه من هذه الطريق، قال ابن القطان: وأراه إنما تبع في ذلك أبا عمر بن عبد البر، فإنه صححه، وعبد الله بن نصر هذا لا أعرف حاله، وقد روى عنه جماعة، وذكره ابن عدي في كتابه ولم يبين من حاله شيئاً، إلا أنه ذكر له أحاديث منكرة منها هذا).
ووجه الاستدلال منها: أن انتفاع المرتهن من الرهن بالركوب أو الحلب من القرض الذي يجر نفعاً وهو من الربا، وهو منهي عنه، كما أن فيه حلب ماشية الغير بغير إذنه، وهو كذلك منهي عنه. ولبن الرهن والركوب عليه من غنمه، وهو للراهن كما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فيثبت من مجموع هذه الأدلة عدم جواز انتفاع المرتهن من الرهن بشيء؛ لأنه للراهن، وله غنمه، وعليه غرمه
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه أدلة عامة، وما يدل على أن للمرتهن أن يركب ويحلب الرهن مقابل نفقته خاص، فيخص عمومها به
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن للمرتهن أن ينفق على الرهن، ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على أن للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالركوب وشرب اللبن مقابل نفقته، وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ؛ فإنه صريح في الدلالة عليه
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 99، 100؛ التمهيد 16/ 186؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 392؛ نيل الأوطار 5/ 336.
(2)
انظر: فتح الباري 5/ 173 ح سبل السلام 3/ 96.
(3)
انظر: المغني 6/ 511؛ الشرح الكبير 12/ 491.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن الراهن إذا امتنع عن الإنفاق على الرهن فللمرتهن أن
يركب ويحلب بقدر النفقة، وإن لم يمتنع عن الإنفاق فليس له ذلك-بأدلة القولين السابقين.
وذلك بحمل أدلة القول الأول على ما إذا لم يمتنع الراهن من الإنفاق على الرهن، وحمل دليل القول الثاني على ما إذا امتنع عن الإنفاق عليه
(1)
.
ويعترض عليه: بأن الحديث مطلق وليس فيه ما يدل على أن ذلك يكون عند امتناع الراهن من الإنفاق على الرهن
(2)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو أن للمرتهن أن ينفق على الرهن، ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك، وذلك لأن دليل هذا القول مع صحته صريح في الدلالة عليه، وهو دليل خاص، فيكون مخصصاً لعموم ما يخالفه
(3)
.
ثانياً: إن القول بنسخ ما يدل على أن للمرتهن أن ينفق على الرهن،
(1)
انظر: فتح الباري 5/ 173؛ سبل السلام 3/ 96؛ نيل الأوطار 5/ 334.
(2)
انظر: سبل السلام 3/ 96.
(3)
انظر: المغني 6/ 511، 512؛ فتح الباري 5/ 173؛ نيل الأوطار 5/ 334.
ويركب ويحلب بقدر نفقته غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ- لأنه لا يعرف أن ما يدل على عدم جواز انتفاع المرتهن من الرهن بالحلب والركوب مقابل النفقة متأخر عما يدل على جوازه
(1)
.
ب- إن الجمع بين تلك الأدلة كلها ممكن كما سبق بيانه، ومع إمكان الجمع بين الأدلة يتعذر ادعاء النسخ
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 5/ 173؛ سبل السلام 3/ 96؛ نيل الأوطار 5/ 334؛ تحفة الأحوذي 4/ 526 - 528.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة، وانظر: الاعتبار ص 495.
المطلب الثاني: كسب الحجام
ذهب بعض أهل العلم إلى أن كسب الحجام حلال، وأن ما يدل على أنه خبيث أو حرام فإنه قد نسخ.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(1)
، وابن عبد البر
(2)
، ومحمد بن أحمد القرطبي
(3)
، والرازي
(4)
، وأبو إسحاق الجعبري
(5)
. ونسبه الحازمي إلى أكثر أهل العلم
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن تعارض الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(7)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثمن الكلب خبيث، ومهر البغِيِّ خبيث، وكسب الحجام خبيث»
(8)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 131، 132؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 95.
(2)
انظر: التمهيد 16/ 219 - 221.
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/ 175.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 74.
(5)
انظر: رسوخ الأحبار ص 431.
(6)
انظر: الاعتبار ص 422.
(7)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: بداية المجتهد 4/ 1348؛ المغني 8/ 118.
(8)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 76، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، ح (1568)(41).
ثانياً: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام)
(1)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، وكسب البغِيِّ،
وثمن الكلب) الحديث
(2)
.
رابعاً: عن عون بن أبي جحيفة
(3)
، قال: رأيت أبي
(4)
اشترى حجاماً فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 373، كتاب التجارات، باب كسب الحجام، ح (2165). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 302:(وإسناد أبي مسعود صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 373.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 712، كتاب البيوع، باب بيع ضراب الجمل، ح (4673)، وأحمد في المسند-و اللفظ له- 13/ 355. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 712.
(3)
هو: عون بن أبي جحيفة-وهب-بن عبد الله، السوائي الكوفي، ثقة، روى عن: أبيه، ومسلم بن رباح، وغيرهما، وروى عنه: شعبة، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة ست عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 8/ 145؛ التقريب 1/ 760.
(4)
هو: وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة، أبو جحيفة السوائي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه عون، والشعبي، والسبيعي، وغيرهم، وتوفي سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك. انظر: الإصابة 3/ 2092؛ تهذيب التهذيب 11/ 145؛ التقريب 2/ 292.
الدم، وثمن الكلب، وكسب الأمة، ولعن الواشمة
(1)
والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور)
(2)
.
خامساً: عن محيِّصة
(3)
رضي الله عنه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام، فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: «اعلفه ناضحك
(4)
وأطعمه رقيقك»
(5)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في كسب الحجام فمنعه إياه من
أجل أنه ثمن الدم، فلم يزل يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذن له
(1)
الواشمة من الوشم، وهو: أن يغرز الجلد بإبرة، ثم يُحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 852.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 439، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، ح (2238).
(3)
هو: محيِّصة بن مسعود بن كعب بن عامر، الأنصاري الخزرجي، أبو سعد المدني، شهد أحداً وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن سعد، وبشير بن يسار، وغيرهما. انظر: الإصابة 3/ 1798؛ تهذيب التهذيب 10/ 59، 60.
(4)
الناضح واحد نواضح، وهي الإبل التي يُستقى عليها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 754.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 522، كتاب البيوع، باب في كسب الحجام، ح (3422)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 303، كتاب البيوع، باب ما جاء في كسب الحجام، ح (1277)، وابن ماجة في سننه ص 373، كتاب التجارات، باب كسب الحجام، ح (2166)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 131. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 564: (رجاله ثقات). وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود ص 522.
أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه)
(1)
.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه، ولو كان حراماً لم يعطه)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجره، وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته، ولو كان سحتاً لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
سابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً حجاماً فحجمه، وأمر له بصاع أو صاعين، أو مد أو مدين، وكلم فيه فخُفف من ضريبته)
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث رافع بن خديج، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وأبي جحيفة-رضي الله عنهم-يدل على النهي عن كسب الحجام وعلى تحريمه. وحديث ابن عباس، وأنس-رضي الله عنهم-يدل على حله، فيكون ما يدل على الحل ناسخاً لما يدل على النهي والتحريم؛ لأن ما يدل على الحل متأخر؛ يدل على ذلك حديث محيصة؛ حيث إنه يدل
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 422.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 416، كتاب البيوع، باب ذكر الحجام، ح (2103).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 85، كتاب المساقاة، باب حل أجر الحجامة، ح (1202)(66).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 447، كتاب الإجارة، باب من كلم موالي العبد أن يخففوا عنه من خراجه، ح (2281)، ومسلم في صحيحه 6/ 85، كتاب المساقاة، باب حل أجرة الحجامة، ح (1577)(62).
على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن كسب الحجام أولاً، ثم أمره بأن يعلفه ناضحه ورقيقه، فدل ذلك على حله؛ لأن ما يحل أكله للرقيق يحل أكله للأحرار، فثبت منه حل كسب الحجام وتأخره على النهي والتحريم، فيكون ذلك ناسخاً له
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في كسب الحجام وأجره على قولين:
القول الأول: أن أجر الحجام وكسبه جائز وحلال، وإن التنزه عنه أولى.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وقول ابن عباس رضي الله عنه، و عكرمة، والقاسم، وربيعة، ويحيى الأنصاري، وجمهور
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 129 - 132؛ التمهيد 16/ 219 - 221؛ الاعتبار ص 421 - 423؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 175؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 73، 74؛ رسوخ الأحبار ص 429 - 431.
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 342؛ شرح معاني الآثار 4/ 132؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 95؛ عمدة القاري 8/ 378.
(3)
انظر: التمهيد 16/ 219 - 220؛ الاستذكار 7/ 525؛ المنتقى للباجي 10/ 371؛ بداية المجتهد 4/ 1348.
(4)
انظر: مختصر المزني ص 376؛ العزيز 12/ 155، 156؛ روضة الطالبين ص 474؛ فتح الباري 4/ 564.
(5)
قالوا: ويكره للحر أكل أجرته. انظر: المغني 8/ 118؛ الشرح الكبير 14/ 387؛ الممتع 3/ 463، 464؛ الإنصاف 14/ 389.
أهل العلم
(1)
.
القول الثاني: إن كسب الحجام وأجره حرام.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقول بعض أهل الظاهر ونفر من المحدثين
(3)
. وروى كراهة كسب الحجام عن: عثمان، وأبي هريرة، والحسن، والنخعي
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو حل كسب الحجام وأجره- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عباس، وأنس، ومحيصة رضي الله عنهم؛ حيث إن تلك الأحاديث تدل على أن كسب الحجام وأجره مباح غير حرام؛ إذ لو كان حراماً لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يؤكِّل إلا ما يحل أكله، كما يدل على حله الأمر بإطعامه الرقيق، وهم آدميون يحرم عليهم أكل ما حرمه الله كما يحرم على الأحرار، كما أن الأحرار متعبدون فيهم كما تعبدوا في أنفسهم
(5)
.
(1)
انظر: المغني 8/ 118؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 77؛ فتح الباري 5/ 564.
(2)
انظر: المغني 8/ 118؛ الإنصاف 14/ 389.
(3)
انظر: الاعتبار ص 422.
(4)
انظر: المغني 8/ 118.
(5)
انظر: مختصر المزني ص 376؛ شرح معاني الآثار 4/ 129 - 132؛ التمهيد 16/ 219، 220؛ المغني 8/ 118، 119.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو تحريم كسب الحجام وأجره-بأدلة منها ما سبق في دليل القول
بالنسخ من حديث رافع بن خديج، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وأبي جحيفة-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على النهي عن كسب الحجام، وعلى أنه خبيث، وهو ظاهر في التحريم
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن تسمية كسب الحجام خبيثاً لا يلزم منه التحريم، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين، مع أنهما مباحان
(2)
.
وأن النهي قد يكون للتنزيه لا التحريم، وحمله عليه هنا أولى؛ للأحاديث الدالة على الجواز والحل
(3)
.
ب- إنه على تقدير أن المراد بتلك الأحاديث التحريم فإنها تكون منسوخة بما يدل على الحل والجواز؛ لأن معه ما يدل على تأخره كما سبق بيانه
(4)
.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي -والله أعلم بالصواب- أن
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 129؛ الاعتبار ص 421، 422؛ المغني 8/ 118.
(2)
انظر: المغني 8/ 119.
(3)
انظر: التمهيد 16/ 220، 221؛ المغني 8/ 119.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 129 - 132؛ التمهيد 16/ 219 - 221؛ الاعتبار ص 421 - 423.
الراجح هو القول الأول، وهو أن كسب الحجام وأجره مباح وحلال مع أن التنزه عنه أولى، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول تدل على حل كسب الحجام وأجره، وهي صحيحة وغير محتملة إلا هذا المعنى. بخلاف أدلة القول الثاني، فإنها تحتمل أن يكون المراد بها التحريم، وتحتمل أن يكون المراد بها التنزيه كما سبق بيانه، وحمله على هذا الاحتمال أولى جمعاً بين الأدلة كلها.
ثانياً: إن أدلة القول الثاني إن كان المراد بها التحريم فإنها تكون منسوخة بما يدل على إباحة كسب الحجام وأجره. ويدل على تأخر ما يدل على الجواز حديث محيصة رضي الله عنه؛ حيث إن الأمر فيه بإطعامه الرقيق كان بعد النهي عن أجره، كما سبق بيانه.
ثالثاً: ولأن بعض أهل العلم حكى الإجماع على حل كسب الحجام وأجره، وهو وإن كان موضع نظر لما سبق من الاختلاف في المسألة، إلا أنه يقوى احتمال كون ما يدل على النهي أن يكون منسوخاً أو محمولاً على الكراهة التنزيهية
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: التمهيد 16/ 221؛ المنتقى للباجي 10/ 371.
المطلب الثالث: بيع الحر في الدين
.
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه كان في أول الإسلام يُباع من عليه دين فيما عليه من الدين إذا لم يكن له مال يقضي به دينه، ثم نسخ ذلك؛ لذلك لا يجوز بيع الحر ولا استرقاقه في الدين
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(2)
، وابن الهمام
(3)
.
وجمهور أهل العلم وإن لم يصرحوا بالنسخ أولم يذهبوا إليه إلا أنه لا خلاف بينهم جميعاً في أنه لا يباع الحر في الدين ولا يسترق فيه
(4)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(5)
.
ثانياً: عن عبد الرحمن بن البيلماني
(6)
، قال: كنت بمصر فقال لي رجل:
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 82، 83؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 84؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 353.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 157.
(3)
انظر: فتح القدير 5/ 21.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 157؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 82، 92؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 83 - 84؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 84، 85؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 353، 354؛ المغني 6/ 359؛ المجموع 9/ 175؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 21.
(5)
سورة البقرة، الآية (280).
(6)
هو: عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر، وقيل: عبد الرحمن بن أبي زيد. ضعيف. روى عن سرق، وابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهم-وغيرهم، وروى عنه: ابنه محمد، ويزيد بن طلق، وربيعة، وغيرهم. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 136؛ التقريب 1/ 563.
ألا أدلك على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب بي إلى رجل، فقلت: ممن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا سُرق
(1)
، فقلت: رحمك الله، ما ينبغي لك أن تسمى بهذا الاسم وأنت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماني سرق، فلن أدع ذلك أبداً. قلت: ولم سماك سرق؟ قال: لقيت رجلاً من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما، فابتعتهما منه، وقلت له: انطلق معي حتى أعطيك، فدخلت بيتي، ثم خرجت من خلف لي، وقضيت بثمن البعيرين حاجتي، وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج. فخرجت والأعرابي مقيم، فأخذني فقدمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما حملك على ما صنعت؟» قلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله، قال:«فاقضه» قال: قلت: ليس عندي، قال:«أنت سرق، اذهب به يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك» . قال: فجعل الناس يسوِّمونه فيَّ ويلتفت إليهم فيقول: ما ذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نبتاعه منك. قال: فوالله إن منكم أحد أحوج إليه مني، اذهب فقد أعتقتك
(2)
.
(1)
هو: سرق بن أسد الجهني، وقيل: الديلي، ويقال: الأنصاري، صحابي نزل مصر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن البيلماني. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 696؛
تهذيب التهذيب 3/ 398؛ التقريب 1/ 341.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 157، والحاكم في المستدرك 4/ 114، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 83. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري)، وقال الذهبي في التلخيص:(كذا قال، وعبد الرحمن بن البيلماني لين، ولم يحتج به البخاري). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 145: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه جماعة).
ثالثاً: عن زيد بن أسلم، قال: لقيت رجلاً بالأسكندرية، يقال له سُرق، فقلت: ما هذا الاسم؟ فقال: سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدمت المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أنت سرق» فباعني بأربعة أبعرة، فقال له غرماؤه: ما يصنع به؟ قال: أعتقه. قالوا: ما نحن بأزهد في الأجر منك، فأعتقوني
(1)
.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حراً أفلس)
(2)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 157، والدارقطني في سننه 3/ 62؛ والحاكم في المستدرك 2/ 62، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 84. قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري) ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: (ورواه مسلم بن خالد الزنجبي عن زيد بن أسلم، عن ابن البيلماني، عن سرق، قال الإمام أحمد: ورواه شيخنا في المستدرك فيما لم نقرأ عليه، عن أبي بكر بن عتاب العبدي، عن أبي قلابة، عن عبد الصمد، عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني، قال: رأيت شيخاً في الأسكندرية. فذكره أتم من حديث ابن بشار، ومدار حديث سرق على هؤلاء، وكلهم ليسوا بأقوياء، عبد الرحمن بن عبد الله وابنا زيد، وإن كان الحديث عن زيد عن ابن البيلماني، فابن البيلماني ضعيف في الحديث، وفي إجماع العلماء على خلافه وهم لا يجمعون على ترك رواية ثابتة دليل على ضعفه أو نسخه إن كان ثابتاً).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 83، ثم قال:(ورواه غيره عن حجاج بن محمد بالشك في إسناده).
خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تصدقوا عليه» فتصدق الناس عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك»
(1)
.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه. ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره»
(2)
.
ويستدل منها على عدم جواز بيع الحر، وعلى نسخ بيعه في الدين: بأن ما روي عن سرق وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما-يدلان على أن الحر كان يباع في الدين إذا لم يكن له مال يوفي منه دينه، فنسخ الله ذلك وأمر بالانتظار إلى ميسرته، ويؤكد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الأخير؛ حيث إن الرجل الذي أصيب في ثمار ابتاعها وكثرت ديونه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه:«خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» ، كما يدل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على عدم جواز بيع الحر.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 64، كتاب المساقاة، باب استحباب وضع الدين، ح (1556)(18).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 437، كتاب البيوع، باب إثم من باع حراً، ح (2227).
فيثبت من مجموع هذه الأدلة عدم جواز بيع الحر، وأن ما يدل على جواز بيعه في الدين قد نسخ
(1)
.
هذا وإن الأحاديث التي رويت في بيع الحر في الدين وإن صحح بعضها بعض أهل العلم، إلا أن جميعها متكلم فيها، فإن صح منها شيء فتكون منسوخة بالأدلة التي تدل على أن المفلس والمديون الذي لا يجد من المال ما يوفى منه ديونه لا يباع في الدين، بل إن الغرماء
يأخذون ما يجدون، وينتظرون ميسرته فيما لا يجدون، وأنه ليس لهم إلا ذلك
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 157؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 82، 92؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 83 - 84؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 84، 85؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 353، 354؛ المغني 6/ 359؛ المجموع 9/ 175؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 21.
(2)
انظر: السنن الكبري 6/ 84؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 85.
المطلب الرابع: بيع الحاضر للباد
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز بيع الحاضر للباد، وأن النهي عنه قد نسخ
(1)
.
نسب ذلك إلى عطاء، ومجاهد، وأبي حنيفة: النووي
(2)
، وابن حجر
(3)
، وأيده العيني
(4)
. ويدل على نحوه رواية عن الإمام أحمد
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن تعارض عموم حديث النصيحة للمسلمين مع أحاديث النهي عن بيع الحاضر للبادي سبب آخر للاختلاف فيها
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» . قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»
(7)
.
(1)
انظر: الحاوي 5/ 246؛ سبل السلام 3/ 39؛ نيل الأوطار 5/ 235.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15؛ تحفة الأحوذي 4/ 469.
(3)
انظر: فتح الباري 4/ 448.
(4)
انظر: عمدة القاري 8/ 460.
(5)
انظر: المغني 6/ 309، 310.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: التمهيد 12/ 274 - 278؛ بداية المجتهد 3/ 1230.
(7)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 116، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، ح (55)(95).
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» ثلاث مرار. قالوا: يا رسول الله لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم»
(1)
.
ثالثاً: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط عليّ: «والنصح لكل مسلم»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقَّنني: فيما استطعت، والنصح لكل مسلم)
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث فيها بيان أن الدين النصيحة، وهي عامة تشمل بيع الحاضر للباد وغيره، فتكون هذه الأحاديث ناسخة للنهي عن بيع الحاضر للباد، ويؤيد ذلك أن هذه الأحاديث عمل بها جميع الأمة، بخلاف ما يدل على النهي عن بيع الحاضر للباد؛ حيث لم يعمل الكل بها، فهو مما يدل على نسخها
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 440، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في النصيحة، ح (1925)، وأحمد في المسند 13/ 335. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 440.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 545، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام
والمبايعة، ح (2714).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 119، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، ح (56)(99).
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15؛ فتح الباري 4/ 448؛ عمدة القاري 8/ 460؛ نيل الأوطار 5/ 235.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إنه إنما تصح دعوى النسخ عند العلم بتأخر الناسخ، وليس في هذه المسألة ما يدل على أن أحاديث النصيحة متأخرة على أحاديث النهي عن بيع الحاضر للباد
(1)
.
ب-إنه إنما تصح دعوى النسخ عند عدم إمكان الجمع بين الأدلة، وهنا يمكن الجمع بينها فلا حاجة لدعوى النسخ؛ وذلك لأن أحاديث النصيحة عامة، وأحاديث النهي عن بيع الحاضر للباد خاصة، والخاص يقضي على العام، فيعمل على العام فيما عدا محل الخصوص
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في بيع الحاضر للباد على قولين:
القول الأول: يكره يبع الحاضر للبادي إن كان فيه ضرر على أهل البلد، وإلا فلا بأس به.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
، ونحوه قول عطاء، ومجاهد
(5)
.
(1)
انظر: سبل السلام 3/ 40؛ نيل الأوطار 5/ 235.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 448؛ نيل الأوطار 5/ 235.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 11، 12؛ مختصر القدوري ص 84؛ الاختيار لتعليل المختار 2/ 26؛ العناية على الهداية 6/ 478؛ عمدة القاري 8/ 460، 461.
(4)
انظر: المغني 6/ 309؛ الشرح الكبير 11/ 183؛ الإنصاف 11/ 184.
(5)
انظر: المغني 6/ 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15؛ فتح الباري 4/ 448.
القول الثاني: لا يجوز بيع الحاضر للبادي.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
وروى ذلك عن طلحة بن عبيد الله، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس بن مالك-رضي الله عنهم. وقال به عمر بن عبد العزيز، والليث، وأكثر أهل العلم
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو جواز بيع الحاضر للبادي إلا أن يكون فيه ضرر على أهل البلد فيكره- بما يلي:
أولاً: الأحاديث التي فيها أن الدين النصيحة، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول بالنسخ.
ثانياً: الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الحاضر للبادي، ومنها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبع حاضر لباد)
(5)
.
(1)
انظر: المعونة 2/ 1033؛ التمهيد 12/ 275؛ بداية المجتهد 3/ 1229، 1230؛ جامع الأمهات ص 350.
(2)
انظر: مختصر المزني ص 125؛ الحاوي 5/ 346، 347؛ البيان 5/ 350؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15؛ روضة الطالبين ص 532.
(3)
انظر: المغني 6/ 309، 310؛ الشرح الكبير 11/ 184؛ الممتع 3/ 54؛ الإنصاف 11/ 184.
(4)
انظر: المحلى 7/ 381 - 383؛ المغني 6/ 309؛ فتح الباري 4/ 448.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 425، كتاب البيوع، باب من كره أن يبيع حاضر لباد، ح (2159).
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أن الأحاديث التي فيها أن الدين النصيحة، عامة، تشمل بيع الحاضر للباد وغيره، لذلك يجوز للحاضر أن يبيع للبادي نصحاً له، لكن إن كان في بيعه له ضرر على أهل البلد فيكره بيعه له؛ للأحاديث التي جاء فيها النهي عن بيع الحاضر للباد
(1)
.
ويعترض عليه: بأن الأحاديث التي فيها أن الدين النصيحة عامة، وأحاديث النهي عن بيع الحاضر للبادي خاصة، والخاص يقضي على العام، والنهي يكون للتحريم إلا أن يوجد ما يصرفه عنه، وليس هنا ما يصرف النهي عن التحريم إلى غيره
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو عدم جواز أن يبيع حاضر للبادي-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث ابن عمر-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكره في دليل القول السابق.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبع حاضر لباد»
(3)
.
(1)
انظر: مختصر القدوري ص 84؛ الاختيار لتعليل المختار 2/ 26؛ العناية على الهداية 6/ 478؛ عمدة القاري
8/ 460، 461.
(2)
انظر: المغني 6/ 309، 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15؛ فتح الباري 4/ 448.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 425، كتاب البيوع، باب يشتري حاضر لباد بالسمسرة، ح (2160)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 14، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، ح (1520)(18).
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلقَّوُا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» . قال: قلت لابن عباس: ما قوله: «لا يبع حاضر لباد» ؟ قال: لا يكون له سمساراً
(1)
.
رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه)
(2)
.
خامساً: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبع حاضر لباد. دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض»
(3)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل على نهي وتحريم أن يبيع حاضر لباد، حتى وإن كان أباه أو أخاه
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 425، كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ ح (2157)، ومسلم في صحيحه 6/ 14، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، ح (1521)(19).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 425، كتاب البيوع، باب يشتري حاضر لباد بالسمسرة، ح (2161)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 15، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، ح (1523)(21).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 15، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، ح (1522)(20).
(4)
انظر: المحلى 7/ 381، 382؛ الحاوي 5/ 346، 347؛ المغني 6/ 309، 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 15.
الراجح
بعد ذكر الأقوال في المسألة وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو عدم جواز أن يبيع حاضر لباد، وذلك لما يلي:
أ-لأن أدلة هذا القول نصوص صريحة تدل على عدم جواز أن يبيع حاضر لباد، بخلاف أدلة القول الأول.
ب-لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين هذه الأدلة كلها، وذلك لأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، وأدلة القول الأول أدلة عامة، فيعمل على العام فيما عدا محل الخصوص
(1)
.
ثانياً: إن القول بأن ما يدل على نهي أن يبيع حاضر لباد منسوخ غير صحيح؛ وذلك لما يلي:
أ-لأنه يمكن الجمع بين الأدلة في المسألة، كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة تعذر ادعاء النسخ
(2)
.
ب- إنه لا يوجد دليل يدل على أن أحاديث الدين النصيحة متأخرة على أحاديث النهي عن بيع الحاضر للباد، ودعوى النسخ إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 4/ 448.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: سبل السلام 3/ 40؛ نيل الأوطار 5/ 235.
المطلب الخامس: بيع الكلب
ذهب جمع من الحنفية إلى جواز بيع الكلب وحل ثمنه
(1)
، وأن ما يدل على حرمة ثمنه قد نسخ.
وممن صرح به: محمد بن الحسن
(2)
، والطحاوي
(3)
، والمرغناني
(4)
، والعيني
(5)
، وأيده ابن الهمام
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن تعارض الأدلة سبب آخر لاختلافهم فيها
(7)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله. ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:«عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان»
(8)
.
ثانياً: عن ابن المغفل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. ثم
(1)
وقد قيد بعضهم الكلب بما ينتفع به، وبعضهم أطلق.
(2)
انظر: الحجة 2/ 757، 758.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 53 - 59.
(4)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 7/ 120.
(5)
انظر: عمدة القاري 8/ 575.
(6)
انظر: فتح القدير 7/ 121.
(7)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة. وانظر: المحلى 7/ 496؛ بداية المجتهد 3/ 1162؛ فتح الباري 4/ 519.
(8)
سبق تخريجه في ص 1174.
قال: «ما بالهم وبال الكلاب؟» ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم
(1)
.
ثالثاً: عن أبي رافع رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فأخذ رداءه فخرج. فقال:«قد أذنّا لك يا رسول الله» . قال: أجل يا رسول الله، ولكن لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. فأمر أبا رافع أن لا يدع كلباً بالمدينة إلا قتله، فإذا بامرأة في ناحية المدينة لها كلب يحرس عليها، قال: فرحمتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بقتله، قال: ثم أتاه ناس من الناس فقالوا: ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [سورة المائدة: 4]
(2)
.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ثمن الكلب والسنور)
(3)
.
خامساً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
سبق تخريجه في ص 1175.
(2)
سبق تخريجه في ص 1175.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه ص 529، كتاب البيوع، باب في ثمن السنور، ح (3479)، وأصله في مسلم 6/ 77، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب، ح (1569)(42).
نهى عن ثمن السنور، والكلب، إلا كلب صيد)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 661، كتاب البيوع، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، ح (4295)، والدارقطني في سننه 3/ 73. قال النسائي:(وحديث حجاج عن حماد بن سلمة ليس هو بصحيح). و أخرجه برقم (4668)، ثم قال:(هذا منكر). وذكره الدارقطني مرفوعاً وموقوفاً، ثم ذكر أن الموقوف أصح من المرفوع. وقال ابن حزم في المحلى 7/ 495:(هذا الحديث لم يذكر فيه أبو الزبير سماعاً من جابر، ولا هو مما عند الليث، فصح أنه لم يسمعه من جابر، فحصل منقطعاً). وقال البيهقي في سننه 6/ 11: (ورواه الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بالقوي. والأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء). وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي فقال: (الاستثناء روي من وجهين جيدين، من طريق الوليد بن عبيد الله، عن عطاء عن أبي هريرة، ومن طريق الهيثم، عن حماد عن أبي الزبير، عن جابر، وقد أخرجه الدارقطني من طريق الهيثم، ثم أخرجه من رواية سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير عن جابر، قال: نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد. ولم يذكر حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أصح من الذي قبله، وهذا لفظ الدارقطني. وقد قدمنا أن هذا في حكم المرفوع، فقد تابع سويد الهيثم، وتابعه أيضاً عبد الواحد بن غياث كما ذكر البيهقي، وتابعهم أيضاً الحجاج بن محمد مع التصريح بالرفع-ثم ذكره من طريق النسائي، ثم قال: -وهذا سند جيد، فظهر أن الحديث بهذا الاستثناء صحيح، والاستثناء زيادة على أحاديث النهي عن ثمن الكلب فوجب قبولها). وقال ابن حجر في الفتح 4/ 519: (أخرجه النسائي بإسناد رجاله ثقات إلا أنه طعن في صحته). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 711.
إلا الكلب المعلم)
(1)
.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، وكسب البغِيِّ، وثمن الكلب) الحديث
(2)
.
سابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد)
(3)
.
ثامناً: عن جابر رضي الله عنه: (أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد)
(4)
.
تاسعاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: (أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وقضى في كلب ماشية بكبش)
(5)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر أولاً بقتل
(1)
أخرجه أحمد في المسند 22/ 302، والدارقطني في سننه 3/ 73، من طريق الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر، قال الدارقطني:(الحسن بن أبي جعفر ضعيف).
(2)
سبق تخريجه في ص 1354.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه ص 304، كتاب البيوع، باب، ح (1281)، ثم قال:(هذا حديث لا يصح من هذا الوجه، وأبو المهزّم اسمه يزيد بن سفيان، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج، وضعفه، وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، ولا يصح إسناده أيضا). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 304: (حسن).
وأخرجه الدارقطني في سننه 3/ 72، 73، من طريقين أخريين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:(وثمن الكلب إلا الكلب الضاري) وبلفظ: (وثمن الكلب إلا كلباً ضارياً سحت). وفي إسناد الأول الوليد بن عبيد الله، قال الدارقطني:(ضعيف). وفي الثاني المثنى، قال الدارقطني:(ضعيف). كما ضعفهما البيهقي في السنن الكبرى 6/ 10.
(4)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 58.
(5)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 58.
الكلاب، فكان بيعها وثمنها حراماً للأمر بقتلها وعدم الانتفاع بها، ثم نهى عن قتلها، وأذن في كلب صيد وماشية وزرع، فصارت منتفعاً بها فحل بيعها وثمنها، ونسخ بذلك عدم جواز بيعها، وحرمة ثمنها.
ويؤكد ذلك ما جاء في بعض الروايات من استثناء ثمن كلب الصيد والكلب المعلم. وقضاء عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في الكلاب المقتولة بالقيمة، فلو لم ينسخ حرمة ثمنها لما قضى فيها بذلك.
كما يؤكد نسخ حرمة ثمنها وعدم جواز بيعها ما روي عن جابر رضي الله عنه موقوفاً من استثناء ثمن كلب الصيد، مع أنه روى حديث حرمة ثمن الكلب، فدل ذلك أنه علم نسخ حرمة ثمنها
(1)
.
ويعترض عليه: بأن الأمر بقتل الكلاب قد نسخ، لكن الاستدلال منه على نسخ عدم جواز بيعها وحرمة ثمنها احتمال، ولا يوجد ما يصرح به.
وما جاء فيه استثناء ثمن كلب الصيد أو المعلم من حرمة ثمن الكلاب، فإنه متكلم فيه، والأحاديث التي جاء فيها حرمة ثمنها مطلقاً أصح منه وأقوى، ثم الاستثناء جاء في ثمن كلب الصيد، وليس عاماً في جميع الكلاب. وما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول وقضاء كل من خالفه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
(1)
انظر: الحجة 2/ 757، 758؛ شرح معاني الآثار 4/ 52 - 59؛ التمهيد 12/ 191؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 7/ 120؛ عمدة القاري 8/ 575؛ فتح القدير 7/ 121.
(2)
راجع الكلام على تخريج ما سبق مما يستدل منه على جواز بيع الكلاب وحل ثمنها. وانظر: الأم 3/ 11 - 14؛ سنن الترمذي ص 304؛ المحلى 7/ 493 - 497؛ التحقيق لابن الجوزي 2/ 581، 582؛ المغني 6/ 353، 354؛ المجموع 9/ 166.
وقد اختلف أهل العلم في جواز بيع الكلب وحل ثمنه على أقوال أشهرها أربعة وهي:
القول الأول: يجوز بيع الكلب، ويحل ثمنه.
وهو مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني: لا يجوز بيع الكلب، ولا يحل ثمنه.
وهو قول عند المالكية
(2)
، ومذهب الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول الحسن، وربيعة، وحماد، والأوزاعي، وداود، وجمهور أهل العلم
(5)
.
القول الثالث: يجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها فقط.
وهو قول آخر عند المالكية
(6)
.
(1)
وقد سبق أن بعضهم قيد الكلب بما ينتفع به، وبعضهم أطلق. انظر: الحجة 2/ 757، 758؛ شرح معاني الآثار 4/ 52 - 59؛ الهداية 7/ 118؛ العناية على الهداية 7/ 118؛ عمدة القاري 8/ 574؛ فتح القدير 7/ 118.
(2)
المذهب عندهم عدم جواز بيع الكلاب التي لا ينتفع بها، أما ما ينتفع بها ففي بيعها قولان: الكراهة، والتحريم. انظر: المدونة 2/ 508؛ المعونة 2/ 1040؛ التمهيد 12/ 186؛ الاستذكار 5/ 439؛ بداية المجتهد
3/ 1162؛ جامع الأمهات ص 349.
(3)
انظر: الأم 3/ 11، 12؛ مختصر المزني ص 126؛ الحاوي 5/ 375؛ المجموع 9/ 165.
(4)
انظر: المغني 6/ 352؛ الشرح الكبير 11/ 43؛ الممتع 3/ 20؛ الإنصاف 11/ 43.
(5)
انظر: المغني 6/ 352؛ المجموع 9/ 165.
(6)
انظر: المدونة 2/ 508؛ المعونة 2/ 1040؛ التمهيد 12/ 186؛ الاستذكار 5/ 439؛ بداية المجتهد 3/ 1162؛ جامع الأمهات ص 349.
القول الرابع: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.
روي ذلك عن جابر رضي الله عنه، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو جواز بيع الكلاب وحل ثمنها- بالأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
وقد سبق كذلك وجه الاستدلال منها، وما يعترض به عليه.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم جواز بيع الكلب، وعدم حل ثمنه- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث جابر، وأبي هريرة-رضي الله عنهما من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب.
ثانياً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثمن الكلب خبيث، ومهر البغِيِّ خبيث، وكسب الحجام خبيث»
(2)
.
ثالثاً: عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى حجاماً فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب الأمة، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا
(1)
انظر: المغني 6/ 352؛ المجموع 9/ 165؛ عمدة القاري 8/ 574.
(2)
سبق تخريجه في ص 1353.
وموكله، ولعن المصور)
(1)
.
رابعاً: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغِيّ، وحلوان
(2)
الكاهن
(3)
(4)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغيِّ»
(5)
.
سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الخمر، ومهر البغِيِّ، وثمن الكلب، وقال:«إذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، فاملأ كفيه تراباً»
(6)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1354.
(2)
حلوان الكاهن هو: ما يُعطاه من الأجر والرشوة على كهانته. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 426.
(3)
الكاهن هو: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 573.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 438، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، ح (2237)، ومسلم في صحيحه 6/ 75، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب، ح (1567)(39).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 530، كتاب البيوع، باب في أثمان الكلاب، ح (3484)، والنسائي في سننه ص 661، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن ثمن الكلب، ح (4293). قال ابن حجر في الفتح 4/ 519: إن إسناده حسن. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 530.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه-مختصراً- ص 530، كتاب البيوع، باب في أثمان الكلاب، ح (3482)، وأحمد في مسنده-واللفظ له- 4/ 382. وصحح إسناده النووي في المجموع 9/ 166، وابن حجر في الفتح 4/ 519، و الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 529.
ووجه الاستدلال منها ظاهر؛ حيث إن بعض هذه الأحاديث يدل على أن ثمن الكلب خبيث، وبعضها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن ثمنه، وبعضها يدل على أن ثمنه لا يحل.
فيثبت من مجموعها حرمة بيعها، وعدم حل ثمنها
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو جواز بيع الكلاب التي ينتفع بها فقط- بما يلي:
أولاً: حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور، والكلب، إلا كلب صيد)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا الكلب المعلم)
(3)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد)
(4)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه: (أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد)
(5)
.
(1)
انظر: الموطأ 2/ 508؛ الأم 3/ 11؛ الحاوي 5/ 376؛ المغني 6/ 353؛ المجموع 9/ 166.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(5)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
رابعاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: (أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وقضى في كلب ماشية بكبش)
(1)
.
ووجه الاستدلال منها هو: أن هذه الأدلة تدل على حل ثمن الكلب المعلم، وكلب الصيد، وكلب الماشية.
فيثبت منها أن ما ينتفع بها من الكلاب يحل بيعها وثمنها. أما ما لا ينتفع بها فلا يحل بيعها ولا ثمنها؛ للأحاديث التي جاء فيها النهي عن ثمنها
(2)
.
واعترض عليه: بأن الروايات التي جاء فيها استثناء ثمن كلب الصيد أو المعلم من حرمة ثمن الكلاب، فإنها متكلم فيها، والأحاديث التي جاء فيها حرمة ثمنها مطلقاً أصح منها وأقوى. أما ما روي عن بعض الصحابة مما يدل على حل ثمن بعض الكلاب، فإن ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول وقضاء كل من خالفه
(3)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع- وهو حل ثمن كلب الصيد فقط- بما سبق من حديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ حيث إنهما
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
انظر: المعونة 2/ 1040؛ الاستذكار 5/ 440 بداية المجتهد 3/ 1162.
(3)
راجع الكلام على تخريج ما سبق مما يستدل منه على جواز بيع الكلاب وحل ثمنها. وانظر: الأم 3/ 11
-14؛ سنن الترمذي ص 304؛ المحلى 7/ 493 - 497؛ التحقيق لابن الجوزي 2/ 581، 582؛ المغني 6/ 353، 354؛ المجموع 9/ 166.
يدلان على حل ثمن كلب الصيد دون غيره
(1)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال منهما.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إنه لا يجوز بيع الكلب، ولا يحل ثمنه، وذلك لما يلي:
أ- للأحاديث الدالة على عدم حل ثمن الكلب، وعلى النهي عنه مطلقاً، مع صحة تلك الأحاديث وكثرتها حتى بلغت التواتر
(2)
.
ب-ولأن الأحاديث التي جاء فيها استثناء ثمن كلب الصيد أو الكلب المعلم من حرمة ثمن الكلاب خاصة، وليست عامة في جميع الكلاب، ثم هي متكلم فيها؛ لذلك فهي لا تقوى على معارضة الأحاديث الكثيرة الصحيحة الدالة على النهي عن ثمن الكلاب مطلقاً
(3)
.
ج-ولأن الحظر يقدم على الإباحة عند تعارضهما
(4)
.
ثانياً: إنه لا يصح دعوى نسخ النهي عن ثمن الكلب، وذلك لما يلي:
أ- لأن الاستدلال على نسخ النهي عن ثمن الكلب بنسخ الأمر بقتله
(1)
انظر: المغني 6/ 353؛ المجموع 9/ 166.
(2)
انظر: المحلى 7/ 493؛ المجموع 9/ 166.
(3)
انظر: المحلى 7/ 495؛ المجموع 9/ 166.
(4)
انظر: الاعتبار ص 88.
احتمال، ولا يوجد ما يصرح به، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
ب-ولأن الأحاديث المعارضة لما يستدل منه على النسخ أقوى وأصرح منه؛ حيث لم يختلف أحد في صحتها ولا في الدلالة على المراد منها، بخلاف ما يستدل منه على النسخ؛ لذلك فما يستدل منه على النسخ لا يقوى على نسخها.
والله أعلم.
(1)
انظر: المحلى 7/ 496؛ فتح الباري 1/ 745.
المبحث الثالث: المزارعة، والمساقاة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المزارعة.
المطلب الثاني: المساقاة.
المطلب الثالث: تلقيح النخل.
المطلب الأول: المزارعة
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز المزارعة
(1)
وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وأن ما يدل على جوازها فإنه قد نسخ.
وممن نقل عنه القول بالنسخ أوصرح به: الإمام أبو حنفية، وزفر
(2)
، والإمام الشافعي
(3)
، والحازمي
(4)
، ومحمد بن أحمد القرطبي
(5)
، وأبو حامد الرازي
(6)
، وأبو إسحاق الحعبري
(7)
.
وذهب ابن حزم إلى نسخ ما يدل على النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها
(8)
.
(1)
المزارعة هي: دفع الأرض إلى من يزرعها، ويعمل عليها، والزرع بينهما. المغني 7/ 555.
وعرفت بأنها: معاقدة دفع الأرض إلى من يزرعها على أن الغلة بينهما على ما شرطا. التعريفات الفقهية ص 202.
(2)
انظر: الاستذكار 6/ 45.
(3)
انظر: التمهيد 12/ 102؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 352.
(4)
انظر: الاعتبار ص 419، 420.
(5)
فإنه حكى قول الإمام الشافعي بالنسخ، ثم صححه. انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 352.
(6)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 72.
(7)
انظر: رسوخ الأحبار ص 428.
(8)
انظر: المحلى 7/ 48.
وذهب ابن قدامة
(1)
، وابن القيم
(2)
، إلى أن ما يدل على عدم جواز المزارعة مطلقاً إن تعذر الجمع بينه وبين ما يدل على الجواز، فإنه يجب حمل ما يدل على عدم الجواز على أنه منسوخ.
وتبين مما سبق، ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان هما: اختلاف الآثار، والقول بالنسخ
(3)
.
ويستدل للقول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة بما يلي:
أولاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى. فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً. وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا. (نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يَزرعها أو يُزرِعها، وكره كراءها وما سوى ذلك)
(4)
.
(1)
انظر: المغني 7/ 559.
(2)
انظر: تهذيب السنن 5/ 60.
(3)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: شرح معاني الآثار 4/ 105 - 114.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 462، كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر، ح (2339)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 51، كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالطعام، ح (1548)(113).
ثانياً: عن جابر رضي الله عنه قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه»
(1)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبي فليمسك أرضه»
(2)
.
رابعاً: عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدراً من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه وأنا معه، فسأله فقال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع) فتركها ابن عمر بعدُ. وكان إذا سُئل عنها بعدُ قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 462، كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر، ح (2340)، ومسلم في صحيحه 6/ 44، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1536)(89).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 462، كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر، ح (2341)، ومسلم في صحيحه 6/ 47، كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالطعام، ح (1544)(102).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 463، كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر، ح (2343، 2344)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 49، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1547)(109).
خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة). والمزابنة اشتراء الثمر في رؤوس النخل، والمحاقلة كراء الأرض
(1)
.
سادساً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن المزابنة والحقول). فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: المزابنة الثمر بالتمر، والحقول كراء الأرض
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(3)
والمحاقلة والمزابنة وعن بيع الثمر حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا). قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر. وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالتمر كيلاً. والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك، يبيع الزرع القائم بالحب كيلاً
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1334.
(2)
سبق تخريجه في ص 1334.
(3)
المخابرة، قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع. وقيل: المخابرة مشتقة من الخبير وهو الأكار أي الفلاح. وقيل مشتقة من الخبار وهي الأرض اللينة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 468؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 42.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 470، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ح (2381)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 42، كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، ح (1536)(82).
سابعاً: عن سعيد بن المسيب قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأساً، حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث، فأتاه فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعاً في أرض ظهير
(1)
، فقال:«ما أحسن زرع ظهير!» قالوا: ليس لظهير. قال: «أليس أرض ظهير؟» قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان، قال:«خذوا زرعكم، وردوا عليه النفقة» . قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة
(2)
.
ثامناً: عن رفاعة بن رافع بن خديج
(3)
، أن رجلاً كانت له أرض فعجز عنها أن يزرعها، فجاءه رجل فقال له: هل لك أن أزرع أرضك فما خرج منها من شيء كان بيني وبينك؟ فقال: نعم حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فلم يرجع إليه شيئاً، قال: فأتيت
(1)
هو: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد، الأنصاري الأوسي، الحارثي، شهد العقبة وبدراً. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 280؛ الإصابة 2/ 965.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 519، كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك، ح (3399)، والنسائي في سننه ص 598، كتاب المزارعة، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، واختلاف ألفاظ الناقلين للخبر، ح (3889). وذكره البوصيري في اتحاف الخيرة المهرة 3/ 386، من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، ثم قال:(هذا إسناد رجاله ثقات). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 519: (صحيح الإسناد).
(3)
هو: رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاري، الحارثي المدني، ثقة، روى عن أبيه، وتوفي في ولاية الوليد بن عبد الملك. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 250؛ التقريب 1/ 301.
أبا بكر وعمر، فقلت لهما. فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانية فسألته فلم يرد عليّ شيئاً، فرجعت إليهما فقالا: انطلق فازرعها، فإنه لو كان حراماً نهاك عنه، قال: فزرعها الرجل حتى اهتز زرعه واخضرّ، وكانت الأرض على طريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بها يوماً فأبصر الزرع، فقال:«لمن هذه الأرض؟» فقالوا: لفلان زارع بها فلاناً، فقال:«ادعوهما إليّ جميعاً» قال: فأتياه، فقال لصاحب الأرض:«ما أنفق هذا في أرضك فرده عليه، ولك ما أخرجت أرضك»
(1)
.
تاسعاً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة) قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع
(2)
.
ويستدل من هذه الأحاديث على نسخ جواز المزارعة بوجهين كما يلي:
الأول: إن بعض هذه الأحاديث يدل على أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم-عملوها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسائر الأحاديث المذكورة تدل على النهي عن المزارعة؛
(1)
أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده، كما في اتحاف الخيرة المهرة للبوصيري 3/ 386، وأخرجه الحازمي في الاعتبار ص 420، والسياق له. وهو حديث مرسل؛ لأن رفاعة ليس من الصحابة، ولعله أخذه عن أبيه؛ لأنه بمعنى الحديث السابق.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 520، كتاب البيوع، باب في المخابرة، ح (3407). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 520.
حيث جاء بعض الأحاديث بلفظ النهي عن كراء الأرض، وبعضها بلفظ النهي عن المحاقلة، وبعضها بلفظ النهي عن المخابرة. فيثبت من جميعها عدم جواز المزارعة وأنها منهي عنها. ويكون هذا النهي ناسخاً لجوازها؛ لتأخر النهي على الجواز؛ بدليل رواية ابن عمر وفعله، ورواية رفاعة بن رافع
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر ودفع أرضها إليهم على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفي، ثم عمل به أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه حتى أجلى اليهود من خيبر، والنسخ إنما يكون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته، فإن كان هناك نسخ فما مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم يكون ناسخاً لما يخالفه
(2)
.
ب-إنه يمكن الجمع بين ما ورد في المزارعة كله بما يلي:
1 -
بحمل ما يدل على النهي عن المزارعة وكراء الأرض على خلاف الأولى، وحمل ما يخالف ذلك على الجواز
(3)
.
2 -
حمل ما يدل على النهي على بعض أنواع المزارعة، وهي التي كان
(1)
انظر: الاستذكار 6/ 45؛ الاعتبار ص 415 - 420؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 352؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 72؛ رسوخ الأحبار ص 428.
(2)
انظر: المحلى 7/ 48؛ المغني 7/ 559؛ تهذيب السنن 5/ 58.
(3)
انظر: معالم السنن 5/ 53؛ فتح الباري 5/ 29.
فيها الجور والظلم والغرر
(1)
.
وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى نسخ بعضها
(2)
.
الوجه الثاني-للنسخ-: إن بعض هذه الأحاديث جاء فيه النهي عن المخابرة، والمراد بها سنة خيبر وما عامل النبي صلى الله عليه وسلم به مع أهل خيبر من المزارعة، فيكون أحاديث النهي عن المخابرة ناسخة لسنة خيبر، وهي المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إنه لا يصح اشتقاق المخابرة من خيبر؛ لأن لفظ المخابرة كان قبل خيبر، ولو كان اشتقاقها من خيبر ونهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد معاملة خيبر لترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل بها مع يهود خيبر بعد ذلك ولما عمل بها أبو بكر ولا عمر-رضي الله عنهما-بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
ب- إنه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المزارعة كما سبق بيانه، ومع إمكان الجمع بين الأحاديث يتعذر ادعاء النسخ.
ويستدل للقول بنسخ ما يدل على عدم جواز المزارعة بما يلي:
أولاً: عن نافع أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أخبره (أن النبي
(1)
انظر: معالم السنن 5/ 54؛ تهذيب السنن 5/ 59؛ فتح الباري 5/ 29.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: التمهيد 12/ 102؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 352.
(4)
انظر: المحلى 7/ 54؛ التمهيد 12/ 102؛ المغني 7/ 559.
-صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسق تمر، وعشرون وسق شعير). فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهنّ، فمنهن من اختار الأرض، ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض
(1)
.
ثانياً: عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (أفاء الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم)
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء، قال: أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك)
(3)
.
ويستدل منها على نسخ ما يدل على النهي عن المزارعة: بأن هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أعطى أرض خيبر لما افتتحها لليهود
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 459، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه، ح (2328)، ومسلم في صحيحه 6/ 56، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، ح (1551)(2).
(2)
سبق تخريجه في ص 870.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 520، كتاب البيوع، باب في المساقاة، ح (3410)، وابن ماجة في سننه ص 317، كتاب الزكاة، باب خرص النخل والعنب، ح (1820). قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 520:(حسن صحيح).
على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقتضى ذلك حتى توفي، ثم عمل به أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه حتى أجلى اليهود من خيبر. فيكون عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ناسخاً لما يدل على النهي عن المزارعة؛ لتأخره عليه؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم استمر عليه حتى الموت
(1)
.
ويعترض عليه: بأنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة كلها كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى نسخ بعضها
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في المزارعة وكراء الأرض على أقوال من أشهرها ما يلي:
القول الأول: يجوز المزارعة وكراء الأرض بالدراهم والدنانير، وما أشبههما من العروض ولا يجوز ببعض ما يخرج منها.
وهو قول أبي حنفية
(3)
، ونحوه مذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
.
(1)
انظر: المحلى 7/ 48؛ المغني 7/ 557، 559؛ تهذيب السنن 5/ 60.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 746؛ شرح معاني الآثار 4/ 117؛ مختصر القدوري ص 143؛ المبسوط 23/ 19؛ بدائع الصنائع 5/ 254؛ الهداية وشرحه العناية 9/ 462.
(4)
انظر: الموطأ 2/ 547؛ المعونة 2/ 1139؛ التمهيد 12/ 334؛ القوانين الفقهية ص 210.
(5)
إلا أنهم أجازوها تبعاً للمساقاة. انظر: الأم 4/ 12؛ مختصر المزني ص 174؛ التنبيه للشيرازي ص 178؛ العزيز 6/ 55؛ روضة الطالبين ص 874؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 57.
وروي مثل ذلك عن ابن عمر، ورافع بن خديج، وأبي هريرة-رضي الله عنهم
(1)
.
القول الثاني: يجوز المزارعة وكراء الأرض بالدينار والدراهم، وببعض ما يخرج منها إذا كان الخارج بينهما مشاعاً.
وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية
(2)
، واختاره جماعة من الشافعية
(3)
،
وهو مذهب الحنابلة
(4)
. وروي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب، وسعد، وابن مسعود، وعمار بن ياسر-رضي الله عنهم، والقاسم، وعروة، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والزهري، وطاوس
(5)
.
القول الثالث: لا يجوز المزارعة وكراء الأرض إلا بالدراهم والدينار.
وهو قول سعيد بن المسيب، وربيعة
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 415.
(2)
وذكر صاحب الهداية أن الفتوى على قولهما. انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 746؛ شرح معاني الآثار 4/ 117؛ مختصر القدوري ص 143؛ المبسوط 23/ 19؛ بدائع الصنائع 5/ 254؛ الهداية وشرحه العناية 9/ 462، 464.
(3)
قال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 48: (وبهذا قال ابن سريج وابن خزيمة والخطابي وغيرهم
من محققي أصحابنا، وهو الراجح المختار).
(4)
انظر: المغني 7/ 555؛ الشرح الكبير 14/ 230؛ الممتع 3/ 433؛ الإنصاف 14/ 230؛ زاد المستقنع ص 45.
(5)
انظر: الاعتبار ص 414؛ المغني 7/ 555.
(6)
انظر: التمهيد 12/ 333؛ الاستذكار 6/ 65؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 48.
القول الرابع: لا يجوز المزارعة وكراء الأرض بحال.
روي ذلك عن الحسن البصري، وطاوس
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جواز المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الدال على النهي عن المحاقلة وكراء الأرض بالثلث الربع، ونحوه حديث جابر، وأبي هريرة-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكر هذه الأحاديث في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة.
ثانياً: حديث أبي سعيد، وجابر-رضي الله عنهما-في النهي عن المحاقلة، وهي كراء الأرض كما ذكرها أبو سعيد وجابر-رضي الله عنهما. وسبق ذكر هذين الحديثين كذلك في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة.
ثالثاً: حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في النهي عن المخابرة، وهي أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع، كما ذكره زيد رضي الله عنه. وقد سبق ذكر حديثه في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة.
رابعاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه يقول: (كنا أكثر الأنصار حقلاً، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج
(1)
انظر: الاستذكار 6/ 65؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 47.
هذه، فنهانا عن ذلك. وأما الورق فلم ينهنا)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات
(2)
، وأقبال الجداول
(3)
، وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا. فلم يكن للناس كراء إلا هذا. فلذلك زُجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)
(4)
.
خامساً: عن سعد رضي الله عنه قال: (كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع وما سعِد بالماء منها، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة)
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 53، كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالذهب والورق، ح (1547)(117).
(2)
الماذيانات جمع ماذيان، وهو النهر الكبير. وقيل هي: مسايل المياه، وقيل: ما ينبت على حافتي مسيل الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 646؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 47.
(3)
الجداول جمع جدول، وهو النهر الصغير. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 244؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 47.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 53، كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالذهب والورق، ح (1547)(116).
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 518، كتاب البيوع، باب في المزارعة، ح (3391)، والنسائي في سننه ص 599، كتاب المزارعة، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع واختلاف ألفاظ الناقلين للخبر، ح (3894). وحسنه الشيح الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 517.
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث هو: أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الأخير، وكذلك حديث سعد رضي الله عنه يدلان على جواز المزارعة وكراء الأرض بالذهب والفضة. وما أشير إلى الأحاديث قبلهما تدل على النهي عن المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. فيثبت من مجموعها عدم جواز المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وجوازها بالذهب و الفضة وغيرهما من العروض
(1)
.
واعترض عليه: بأن المحاقلة وكذلك المخابرة اختلف في تأويلهما، لذلك ليس تفسيرهما بالمزارعة واكتراء الأرض بالثلث أو الربع بقطعي
(2)
.
أما الأحاديث التي جاء فيها النهي عن المزارعة واكتراء الأرض بالثلث أو الربع، فإما النهي فيها للتنزيه وأن منحها للمحتاجين أفضل من إعطاءها بالأجر، أو أن النهي فيها عن بعض أنواع المزارعة كما هو مذكور في حديث رافع بن خديج، وسعد-رضي الله عنهما؛ لذلك فلا يكون بين هذه الأحاديث وبين ما يدل على جواز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها تعارضاً
(3)
.
(1)
انظر: المعونة 2/ 1139؛ شرح معاني الآثار 4/ 117؛ التمهيد 12/ 334؛ الاعتبار ص 415 - 420؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 9/ 463؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 48.
(2)
راجع تعريف المحاقلة والمخابرة.
(3)
انظر: معالم السنن للخطابي 5/ 56؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 48؛ تهذيب السنن 5/ 57.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز المزارعة وكراء الأرض بالدينار والدراهم، وببعض ما يخرج منها إذا كان الخارج بينهما مشاعاً- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بنسخ ما يدل على النهي عن المزارعة من حديث ابن عمر، وجابر، وابن عباس-رضي الله عنهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر ليهود خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
ثانياً: ما سبق في دليل القول الأول من حديث رافع بن خديج، وسعد-رضي الله عنهما-الدالان على جواز المزارعة بالذهب والفضة، وعدم جوازها بجزء معين من الأرض كالماذيانات والسواقي.
ثالثاً: عن عمرو عن طاوس أنه كان يخابر، قال عمرو: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو! أخبرني أعلمهم بذلك (يعني ابن عباس) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها، إنما قال:«يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجاً معلوماً»
(1)
.
وفي رواية عن عمرو، عن طاوس قال: حدثني أعلمهم بذلك، يعني ابن عباس-رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أرض تهتز زرعاً، فقال: «لمن
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 460، كتاب الحرث والمزارعة، باب، ح (2330)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-6/ 54، كتاب البيوع، باب الأرض تمنح، ح (1550)(121).
هذه؟» فقالوا: اكتراها فلان. فقال: «أما إنه لو منحها إياه كان خيراً له من أن يأخذ عليها أجراً معلوماً»
(1)
.
رابعاً: عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما قال أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتتلا، فقال:«إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع» فسمع رافع بن خديج قوله: «فلا تكروا المزارع»
(2)
.
فهذه الأدلة يثبت من مجموعها جواز المزارعة واكتراء الأرض بالذهب والفضة وببعض ما يخرج منها إذا كان مشاعاً، وأن منحها خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً، ويحرم ذلك إذا كان على جزء معين من الأرض كالماذيانات والسواقي
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 523، كتاب الهبة وفضلها، باب فضل المنيحة، ح (2634)
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 517، كتاب البيوع، باب في المزارعة، ح (3390)، والنسائي في سننه ص 604، كتاب المزارعة، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، ح (3927)، وابن ماجة في سننه-واللفظ له- ص 420، كتاب الرهون، باب ما يكره من المزارعة، ح (2461)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 222. قال ابن حزم في المحلى 7/ 55:(لا يصح). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 420. وضعفه في ضعيف سنن أبي داود ص 517.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 105 - 117؛ معالم السنن 5/ 53 - 55؛ مختصر القدوري ص 143؛ المغني 7/ 557 - 560.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو عدم جواز المزارعة وكراء الأرض إلا بالذهب والفضة- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها من حديث رافع بن خديج، وأبي هريرة، وجابر، وأبي سعيد، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهم؛ حيث إن تلك الأحاديث تدل على عدم جواز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها.
ثانياً: ما سبق في دليل القول الأول من حديثي رافع بن خديج، وسعد-رضي الله عنهما-الدالان على جواز المزارعة بالذهب والفضة.
ثالثاً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال:«إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرعها، ورجل استكرى أرضاً بذهب أو فضة»
(1)
.
فهذه الأدلة يثبت من مجموعها جواز المزارعة واكتراء الأرض بالذهب
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 519، كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك، ح (3400)، والنسائي في سننه ص 599، كتاب المزارعة، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، ح (3890)، وابن ماجة في سننه ص 418، كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع، ح (2449)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 106، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 219. قال النسائي بعد ذكر الحديث:(ميزه إسرائيل عن طارق، فأرسل الكلام الأول وجعل الأخير من قول سعيد). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 519.
والفضة، وعدم جوازها ببعض ما يخرج منها
(1)
.
ويعترض على هذا الاستدلال بما اعترض به على وجه استدلال القول الأول.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو عدم جواز المزارعة بحال- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها من حديث رافع بن خديج، وأبي هريرة، وجابر، وأبي سعيد، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهم؛ حيث إن بعض تلك الأحاديث يدل على عدم جواز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وبعضها يدل على عدم جواز المزارعة واكتراء الأرض مطلقاً.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ)
(3)
.
(1)
انظر: التمهيد 12/ 333.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 44، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1536)(87).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 45، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1536)(90).
ثالثاً: عن نافع قال: ذهبت مع ابن عمر-رضي الله عنهما-إلى رافع بن خديج رضي الله عنه، حتى أتاه بالبلاط، فأخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)
(1)
.
فهذه الأحاديث بعضها يدل على النهي عن المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وبعضها يدل على النهي عن كراء الأرض مطلقاً، فيثبت من مجموعها عدم جواز المزارعة وكراء الأرض بأي حال
(2)
.
ويعترض عليه: بأن المزارعة ثبتت من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المزارعة وكراء الأرض وإن جاء مطلقاً في بعض الأحاديث إلا أن الأحاديث الأخر قد جاءت مفسرة ومبينة للصور المنهي عنها من المزارعة وكراء الأرض، فيجب حمل ما أطلق منها على المقيدة والمفسرة، كما أن النهي في بعض الأحاديث قد يكون للتنزيه وأن منحها أولى من أن يؤخذ عليها خراجاً معلوماً
(3)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 50، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1547)(110).
(2)
انظر: التمهيد 12/ 329 - 331؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 47.
(3)
انظر: التمهيد 12/ 335 - 338؛ المغني 7/ 557 - 560؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 48.
أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الأولى والأفضل لمن معه فضول أراضين أن يمنحها أخاه ولا يأخذ عليها خراجاً وأجرة معلومة؛ وذلك لحديث ابن عباس-رضي الله عنهما، وقد سبق بيانه.
ثانياً: إن من معه أرض ويريد المزارعة واكترائها، فالأفضل من اكترائها ببعض ما يخرج منها اكترائها بالثمن والنقود؛ وذلك:
أ-لحديث رافع بن خديج من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، وأنه لا بأس به.
ب-لقلة الاختلاف في هذا النوع من المزارعة واكتراء الأرض، كما يظهر ذلك من
الأقوال في المسألة.
ثالثاً: يجوز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها إذا كان ذلك مشاعاً، ولم يكن بجزء معين من الأرض كالماذيانات والسواقي؛ وذلك جمعاً بين ما يدل على النهي عن المزارعة واكتراء الأرض وبين ما يدل على جوازها، بحمل ما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم من إعطاء خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع على الجواز، وحمل ما جاء فيها النهي عن المزارعة واكتراء الأرض: إما على أن منحها أفضل من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً. وإما حمل ذلك على ما إذا كان ذلك بجزء معين من الأرض كالماذيانات والسواقي، كما جاء ذلك مفسراً في بعض الروايات، وقد سبق ذكرها.
ومما سبق يظهر رجحان القول الثاني؛ حيث يجمع به بين جميع ما ورد في المزارعة واكتراء الأرض، من الأحاديث الدالة على النهي، والأحاديث الدالة
على الجواز.
رابعاً: إن القول بنسخ ما يدل على جواز المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرجها غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ-لأن الجمع بين ما ورد في النهي عن المزارعة واكتراء الأرض وبين ما ورد في جوازها ممكن كما سبق بيانه. ومع إمكان الجمع بين الأدلة يتعذر ادعاء النسخ
(1)
.
ب- إن من شرط الناسخ تأخره على ما يخالفه، وهذا مما لا يصح ادعاؤه في هذه المسألة؛ لإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر ليهود خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وعمله بذلك حتى الموت، والنسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته
(2)
.
خامساً: إن القول بنسخ ما يدل على النهي عن المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها غير صحيح؛ لأن الجمع بين ما ورد في النهي عن المزارعة واكتراء الأرض وبين ما ورد في جوازها ممكن كما سبق بيانه. ومع إمكان الجمع بين الأدلة لا يصح ادعاء النسخ، كما سبق ذكره.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495.
(2)
انظر: المغني 7/ 557 - 560.
المطلب الثاني: المساقاة
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز المساقاة بجزء من الثمر، وأن ما يدل على جوازها فإنه قد نسخ.
نسب ذلك ابن عبد البر إلى أبي حنفية، وزفر
(1)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن مخالفة ما يدل على جواز المساقاة للأصول سبب آخر للاختلاف فيها
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة). والمزابنة اشتراء الثمر في رؤوس النخل، والمحاقلة كراء الأرض
(3)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن المزابنة والحقول). فقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: المزابنة الثمر بالتمر، والحقول كراء الأرض
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة وعن بيع الثمر حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا
(1)
انظر: التمهيد 12/ 103؛ الاستذكار 6/ 45.
(2)
راجع المصدرين في الحاشية السابقة. وانظر: شرح معاني الآثار 4/ 115 - 117؛ بداية المجتهد 4/ 1382؛ المغني 7/ 530.
(3)
سبق تخريجه في ص 1334.
(4)
سبق تخريجه في ص 1334.
العرايا). قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر. وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالتمر كيلاً. والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك، يبيع الزرع القائم بالحب كيلاً
(1)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)
(2)
.
رابعاً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة) قلت: وما المخابرة؟
قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع
(3)
.
خامساً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال:«إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرعها، ورجل استكرى أرضاً بذهب أو فضة»
(4)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما تخرجه أرض خيبر من الزرع والثمر، وقد جاء في هذه الأحاديث النهي عن المخابرة، والمراد بها سنة خيبر. كما جاء فيها النهى عن المزابنة وهي بيع الثمر بالتمر كيلاً، وهي تشمل المساقاة بجزء من الثمر. فتكون أحاديث النهي عن المخابرة والمزابنة ناسخة لسنة خيبر وهي
(1)
سبق تخريجه في ص 1380.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 46، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح (1545)(104).
(3)
سبق تخريجه في ص 1381.
(4)
سبق تخريجه في ص 1392.
المساقاة والمعاملة على بعض ما تخرجه الأرض من الثمر؛ لتأخر النهي على ما يدل على الجواز
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر ودفع أرضها إليهم على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفي، ثم عمل به أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه حتى أجلى اليهود من خيبر، والنسخ إنما يكون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته؛ فلذلك لا يصح ادعاء النسخ من هذه الأحاديث لسنة خيبر
(2)
.
ب- إنه لا يصح اشتقاق المخابرة من خيبر؛ لأن لفظ المخابرة كان قبل خيبر، ولو كان اشتقاقها من خيبر ونهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد معاملة خيبر لترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل بها مع يهود خيبر بعد ذلك ولما عمل بها أبو بكر، ولا عمر-رضي الله عنهما-بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، دليله.
وقد اختلف أهل العلم في المساقاة على جزء من الثمر على قولين:
القول الأول: لا يجوز المساقاة بجزء من الثمر.
(1)
انظر: التمهيد 12/ 103؛ الاستذكار 6/ 45؛ بداية المجتهد 4/ 1382.
(2)
انظر: المغني 7/ 559؛ تهذيب السنن 5/ 58.
(3)
انظر: المحلى 7/ 54؛ التمهيد 12/ 102؛ المغني 7/ 559.
وهو قول أبي حنيفة، وزفر
(1)
.
القول الثاني: يجوز المساقاة بجزء من الثمر مشاعاً.
وهو قول أبي يوسف ومحمد من الحنفية
(2)
، ومذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين. وقال به سعيد بن المسيب، وسالم، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وجمهور أهل العلم
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم جواز المساقاة بجزء من الثمر-بما سبق
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 117؛ مختصر القدوري ص 144؛ بدائع الصنائع 5/ 269؛ الهداية وشرحه العناية 9/ 478، 479؛ نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لأحمد بن قودر، تكملة فتح القدير 9/ 478.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 117؛ مختصر القدوري ص 144؛ المبسوط 23/ 101؛ بدائع الصنائع 5/ 269؛ الهداية وشرحه العناية 9/ 478، 479.
(3)
انظر: المعونة 2/ 1131؛ التمهيد 12/ 320؛ الاستذكار 5/ 45؛ بداية المجتهد 4/ 1381؛ جامع الأمهات ص 429.
(4)
انظر: الأم 4/ 10، 11؛ مختصر المزني ص 168؛ التنبيه ص 177؛ العزيز 6/ 50؛ روضة الطالبين ص 866.
(5)
انظر: المغني 7/ 530؛ الشرح الكبير 14/ 181؛ الممتع 3/ 421؛ الإنصاف 14/ 181؛ الإقناع 2/ 478.
(6)
انظر: التمهيد 12/ 103؛ الاستذكار 6/ 45؛ المغني 7/ 530؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 57.
ذكره من الأحاديث في دليل القول بالنسخ، والتي فيها النهي عن المخابرة والمزابنة.
وقد سبق وجه الاستدلال منها، وما يرد به عليه.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز المساقاة بجزء من الثمر مشاعاً- بما يلي:
أولاً: عن نافع أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أخبره (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) الحديث
(1)
.
وفي رواية عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها)
(2)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء، قال: أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك)
(3)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل
(1)
سبق تخريجه في ص 1383.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 58، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، ح (1551)(5).
(3)
سبق تخريجه في ص 1383.
خيبر على شطر ما يخرج من أرض خيبر من ثمر وزرع، فدل ذلك على جواز المساقاة بجزء من الثمر
(1)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو جواز المساقاة بجزء من الثمر إذا كان مشاعاً، كما هو القول الثاني، وأن القول بنسخ المساقاة غير صحيح، وذلك لما يلي:
أ-لأن أدلة القول الثاني تدل على جواز المساقاة صراحة وهي غير محتملة لغير ذلك، بخلاف أدلة القول الأول؛ حيث إنها اختلف فيما يراد بها كما سبق بيانه في المسألة السابقة.
ب- إن جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم رأوا جواز المساقاة مستدلين على ذلك بعمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر، مع علمهم أو روايتهم للأحاديث التي فيها النهي عن المخابرة والمزابنة. فلو كانت هذه الأحاديث مخالفة لما يدل على جواز المساقاة أو ناسخة لها لما عملوا بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ج- إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته، والمساقاة عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر حتى الموت، ثم عمل بها أبو بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر رضي الله عنه حتى أجلا اليهود من خيبر. وهذا مما يبطل قول من قال بأن ما يدل على جواز المساقاة قد نسخوالله أعلم.
(1)
انظر: الاستذكار 5/ 54؛ المغني 7/ 530، 531؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 57.
المطلب الثالث: تلقيح النخل
ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهى عن تلقيح
(1)
النخل، ثم أذن فيه، فنُسخ به النهي السابق
(2)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز تلقيح النخل، ولكنهم اختلفوا في هذا الأمر هل كان من النبي صلى الله عليه وسلم حكماً شرعياً فنسخ؟ أم كان من رأي في أمور الدنيا، فلا يتصف بالنسخ؟ والأظهر رجحان الأمر الثاني
(3)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال:«ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئاً» قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب
(1)
تلقيح النخل هو: وضع طلع الذكر، في طلع الأنثى أول ما ينشق. النهاية في غريب الحديث 2/ 609.
(2)
انظر: الاعتبار ص 409 - 412؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 71؛ رسوخ الأحبار ص 417 - 418.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: شرح معاني الآثار 3/ 48؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 451 - 452.
على الله عز وجل»
(1)
.
ثانياً: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل، يقولون: يلقحون النخل، فقال:«ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال:«لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً» ، فتركوه، فنفضت أو نقصت. قال: فذكروا ذلك له، فقال:«إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»
(2)
.
ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون، فقال:«لو لم تفعلوا لصلح» ، قال: فخرج شيصاً
(3)
. فمرّ بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»
(4)
.
رابعاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يلقّحون، فقال:«ما للناس؟» قالوا: يلقحون، فقال: «لا لقاح، أو لا أرى اللقاح
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 451، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، ح (2361)(139).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 452، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، ح (2362)(140).
(3)
الشيص: التمر الذي لا يشتد نواه ويقوى، وقد لا يكون له نوى أصلاً. وقيل: هو البسر الرديء الذي إذا يبس صار حضفاً. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 905؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 453.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 7/ 452، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، ح (2363)(141).
شيئاً»، فقال: فتركوا اللقاح، فخرج ثمر الناس شيصاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما شأنه؟» . قالوا: كنت نهيت عن اللقاح، فقال:«ما أنا بزارع ولا صاحب نخل، لقّحوا»
(1)
.
استدل منها من قال بالنسخ: بأن حديث جابر رضي الله عنه جاء فيه لفظ النهي: (كنت نهيت عن اللقاح) ثم الأمر والإذن بالتلقيح، فيكون ما يدل على الإذن بالتلقيح ناسخاً للنهي الأول
(2)
.
وقال من لم يقل بالنسخ في هذه المسألة: بأن الأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ظنّ ظناً بأن ترك التلقيح قد يكون أنفع وأصلح، ولم يكن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة كونه حكماً شرعياً، والمنسوخ لا بد أن يكون حكماً شرعياً، ولم يرد في هذه الأحاديث لفظ النهي، وما ورد فيه لفظ النهي ففيه ضعف
(3)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 409. وفي سنده مجالد بن سعيد، قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 184: (قد اختلط).
(2)
انظر: الاعتبار ص 410؛ رسوخ الأحبار ص 418.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 48؛ الاعتبار ص 409 - 412؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 451 - 452؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 71؛ رسوخ الأحبار ص 417 - 418.
الفصل الثاني الهبة، والهدية، والوصية، والفرائض، وأحكام الرقيق
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الهبة، والهدية، والوصايا، والفرائض.
المبحث الثاني: أحكام الرقيق.
المبحث الأول الهبة، والهدية، والوصايا، والفرائض
.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: العمرى.
المطلب الثاني: قبول الهدية من المشركين.
المطلب الثالث: الوصية للوالدين والأقربين الوارثين.
المطلب الرابع: التوارث بالمعاقدة والحلف.
المطلب الأول: العمرى
ذهب جمع من المالكية إلى أن العمرى
(1)
ترجع للمعطي، وأن ما يدل على أنها لمن أعطيها ولا ترجع إلى المعطي فإنه قد نُسخ
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي للاختلاف فيها هو تعارض الآثار الواردة فيها، ومعارضة العمل لها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «المسلمون على شروطهم»
(4)
.
ثانياً: عن عبد الرحمن بن القاسم
(5)
أنه سمع مكحولاً الدمشقي يسأل
(1)
العمرى: هبة شيء مدة عمر الموهوب له أو الواهب، بشرط الاسترداد بعد موت الموهوب له. التعريفات للجرجاني ص 157. وانظر: أنيس الفقهاء ص 96؛ التعريفات الفقهية ص 152.
وقال الباجي المالكي في المنتقي 8/ 379: (معنى العمرى: هبة منافع الملك مدة عمر الموهوب له أو مدة عمره وعمر عقبه). وانظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 51.
(2)
انظر: التمهيد 13/ 197.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 90 - 94؛ التمهيد 13/ 197؛ بداية المجتهد 4/ 1540؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 145؛ فتح الباري 5/ 282، 283.
(4)
سبق تخريجه في ص 1296.
(5)
هو: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، أبو محمد المدني، ثقة، روى عن أبيه، وعن سالم، وغيرهما. وروى عنه: الزهري وابن عجلان، وغيرهما، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة، وقيل بعدها. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 227؛ التقريب 1/ 586؛ شذرات الذهب 1/ 171.
القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها، فقال القاسم بن محمد:(ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم، وفيما أُعطوا)
(1)
.
ثالثاً: عن مالك قال: رأيت محمداً
(2)
وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فسمعت عبد الله يعاتب محمداً، ومحمد يومئذ قاض، فيقول له: مالك لا تقضي بالحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرى حديث ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر
(3)
؟ فيقول له محمد: (يا أخي لم أجد الناس على هذا، وأباه الناس، فهو يكلمه ومحمد يأباه)
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن العمرى هبة مشروطة، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن للمشترط ما شرطه، ويؤيده قول القاسم بن محمد بأنه أدرك الناس على ذلك. فيكون حديث أبي هريرة رضي الله عنه ناسخاً لما
(1)
أخرجه مالك في الموطأ ص 579.
(2)
هو: محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، الأنصاري، أبو عبد الملك، قاضي المدينة، سمع أباه
وجماعة، وروى عنه: ابن عيينة، والثوري، وغيرهما، وتوفي سنة اثنين وثلاثين ومائة. انظر: الكاشف للذهبي 3/ 23.
(3)
سيأتي تخريج حديث جابر رضي الله عنه في أدلة الأقوال في هذه المسألة.
(4)
قال ابن عبد البر في التمهيد 13: 197: (رواه ابن القاسم وغيره عن مالك).
يدل على أن العمرى تكون لمن أعطيه ثم لعقبه، ولا تعود للمعطي؛ ويؤكد ذلك ترك الناس العمل به كما يدل عليه قول محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على اعتبار الشروط لكن الشروط منها ما اعتبره الشارع، ومنها ما ألغاه، واشتراط المعمر عود العمرى له بعد موت المعمَر أو عقبه شرط ألغاه الشارع ولم يعتبره، لذلك لا يصح الاستدلال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه على نسخ ما يدل على أن العمرى هبة مبتوتة وأنها لا ترجع للمعطي
(2)
.
ب- إن الأحاديث الدالة على أن العمرى هبة مبتوتة وأنها لا ترجع للمعطي أبداً أحاديث صحيحة ثابتة، فلا يعترض عليها بقول فلان وفلان، فإن النسخ إنما يثبت بما لا مدفع فيه، لا بمثل هذه الأقوال والادعاءات
(3)
.
ج- إن الناس لم يتركوا العمل بالأحاديث التي تدل على أن العمرى لمن أعطيه وأنها لا ترجع للمعطي، بل عمل به جمهور أهل العلم ومنهم بعض أهل المدينة؛ لذلك فلا يصح الاستدلال من ترك بعض الناس العمل به على
(1)
انظر: التمهيد 13/ 197؛ الاستذكار 6/ 246، 247؛ المنتقى للباجي 8/ 411.
(2)
انظر: الأم 4/ 68؛ شرح معاني الآثار 4/ 90؛ التمهيد 13/ 198؛ المغني 8/ 284.
(3)
انظر: الأم 4/ 68؛ التمهيد 13/ 197؛ المغني 8/ 284.
النسخ أوترك العمل بها
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في العمرى هل تعود للمعطي أم هي لمن أعطيها ولعقبه بعد موته على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن العمرى هبة مبتوتة، فتنقل الملك فيها إلى المعمَر، فهي لمن أعطيها ثم لعقبه من بعد موته ولا ترجع للمعطي.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
. وروى ذلك عن علي، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم
(5)
.
وقال به شريح، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وطاوس والثوري، وأبو عبيد، والحسن بن حي، وابن حزم
(6)
.
القول الثاني: إن العمرى ترجع للمعطي إذا مات المعطى له وكان المعطي حياً، فإن كان ميتاً فترجع إلى ورثته، فهي هبة للمنافع طول عمر الموهوب له، فإذا مات رجعت إلى الواهب إن كان حياً وإلى ورثته إن كان ميتاً.
(1)
انظر: الأم 4/ 68؛ التمهيد 13/ 200؛ المغني 8/ 284.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 94؛ المبسوط 12/ 97؛ عمدة القاري 8/ 451، 454.
(3)
انظر: الأم 4/ 67؛ مختصر المزني ص 181؛ التنبيه ص 201؛ روضة الطالبين ص 959؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 145.
(4)
انظر: المغني 8/ 283؛ الشرح الكبير 17/ 48؛ الممتع 4/ 161؛ الإنصاف 17/ 47.
(5)
انظر: المحلى 8/ 130، 131؛ التمهيد 13/ 197؛ المغني 8/ 283.
(6)
انظر: المحلى 8/ 130، 131؛ التمهيد 13/ 197؛ المغني 8/ 283.
وهو مذهب المالكية
(1)
، وقول الليث، والقاسم بن محمد
(2)
.
القول الثالث: إن العمرى تكون ملكاً للمعمَر ولا ترجع للمعطي إذا قال المعمِر: هي لك ولعقبك. فإن لم يذكر العقب عادت العمرى بعد موت المعمَر إلى المعطي أو لورثته.
وهو قول الزهري، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي ثور، وداود الظاهري
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن العمرى لمن أعطيه ولا ترجع للمعطي- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له)
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمرى عمرى فهي للذي أعمرها حياً
(1)
انظر: المدونة 4/ 451؛ المعونة 3/ 1606؛ التمهيد 13/ 196؛ الاستذكار 6/ 246؛ بداية المجتهد 4/ 1540.
(2)
انظر: التمهيد 13/ 197؛ المغني 8/ 283.
(3)
انظر: التمهيد 13/ 202؛ بداية المجتهد 4/ 1540.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 522، كتاب الهبة، باب ما قيل في العمرى والرقبى، ح (2625)، ومسلم في صحيحه 6/ 145، كتاب الهبات، باب العمرى، ح (1625)(25).
وميتاً، ولعقبه»
(1)
.
ثانياً: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أُعمر شيئاً فهو لمعمَره محياه ومماته، ولا ترقبوا فمن أُرقب شيئاً فهو سبيله»
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عمرى ولا رقبى، فمن أُعمر شيئاً أو أُرقبه فهو له حياته ومماته»
(3)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عمرى، فمن أُعمر شيئاً فهو له»
(4)
.
فهذه الأدلة تدل على أن العمرى لمن وهبت له ثم لعقبه، وأنها لا ترجع
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 146، كتاب الهبات، باب العمرى، ح (1625)(26).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 539، كتاب البيوع، باب في الرقبى، ح (3559)، والنسائي في سننه ص 577، كتاب العمرى، باب، ح (3723)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 291. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 539:(حسن صحيح الإسناد).
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 578، كتاب العمرى، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى، ح (3732). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 578.
(4)
أخرجه النسائي في سننه ص 580، كتاب العمرى، باب ذكر اختلاف يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو على أبي سلمة فيه، ح (3753)، وابن ماجة في سننه ص 406، كتاب الهبات، باب العمرى، ح (2379)، و الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 92. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 580:(حسن صحيح).
للمعطي
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن العمرى ترجع للواهب والمعطي بعد موت المعمَر-بالأدلة السابقة في دليل القول بالنسخ.
وقد سبق وجه الاستدلال منها، وما يرد به عليه.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن العمرى ترجع للمعطي إن لم يذكر العقب، فإن ذكر العقب فهي لمن أعطيه ثم لعقبه- بحديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث»
(3)
.
فهذا الحديث مفسر يرتفع معه الإشكال؛ حيث جعل لذكر العقب
(1)
انظر: الأم 4/ 68؛ شرح معاني الآثار 4/ 93؛ المغني 8/ 283؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 145.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 145، كتاب الهبات، باب العمرى، ح (1625)(33).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 144، كتاب الهبات، باب العمرى، ح (1625)(22).
حكماً، وللسكوت عنه حكماً، فثبت منه أن العمرى ترجع للمعطي عند عدم ذكر العقب، ولا ترجع إليه عند ذكره للعقب
(1)
.
واعترض عليه: بأن الرواية الأولى من قول جابر رضي الله عنه نفسه. وقيل: إنه من كلام الزهري بعد ذكر (ولعقبك). وقوله في الرواية الثانية: (من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) فهو زيادة من كلام أبي سلمة بن عبد الرحمن، كما يفسره الروايات الأخرى
(2)
.
وقد روى غير الزهري الحديث عن جابر رضي الله عنه مطلقاً، فالأخذ به أولى لموافقته روايات غيره من الصحابة كما سبق بيانها في دليل القول الأول
(3)
.
الراجح
بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول-وهو أن العمرى لمن وهبت له وأنها لا ترجع للمعطي- وذلك لما يلي:
أ-لأحاديث كثيرة وصحيحة-وقد سبق ذكر بعضها-تدل على أن العمرى لمن وهبت له مطلقاً، وأنها لا ترجع للمعطي، وأن اشتراط رجوعها
(1)
انظر: التمهيد 13/ 202؛ بداية المجتهد 4/ 1541.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 94؛ التمهيد 13/ 195؛ المغني 8/ 286.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 94؛ المغني 8/ 285.
للمعطي بعد موت الموهوب له شرط أبطله الشارع
(1)
.
ب- إن بعض ألفاظ حديث جابر رضي الله عنه وإن كان يدل على أن العمرى تعود للمعطي إذا لم يذكر العقب، إلا أن تلك الألفاظ مختلف في رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين كونها من زيادة بعض الرواة كما سبق ذكره؛ لذلك يكون الأولى الأخذ بألفاظ حديث جابر رضي الله عنه التي تدل على أنها لا ترجع للمعطي مطلقاً؛ لمطابقتها للأحاديث التي رواها جمع من الصحابة-رضي الله عنهم غير جابر رضي الله عنه، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول الأول.
ثانياً: إن القول بنسخ الأحاديث التي تدل على عدم عودة العمرى للمعطي قول ضعيف وغير صحيح، وقد سبق بيان ذلك في الرد على وجه الاستدلال على النسخ.
والله أعلم.
(1)
انظر: الأم 4/ 68؛ شرح معاني الآثار 4/ 90؛ التمهيد 13/ 198؛ المغني 8/ 284، 285.
المطلب الثاني: قبول الهدية من المشركين
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز قبول الهدية من أهل الشرك، وأن ما يدل على جواز قبولها منهم فإنه قد نسخ
(1)
.
وعكس ذلك بعض أهل العلم، فذهب إلى جواز قبولها من أهل الشرك، وأن ما يدل على عدم قبولها منهم فإنه مما نسخ
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن تعارض الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(3)
.
ويستدل لمن قال بنسخ جواز قبول الهدية من المشركين بما يلي:
أولاً: عن عياض بن حمار
(4)
رضي الله عنه قال: أهديتُ للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال:
(1)
قال الترمذي بعد ذكر ما يدل على منع قبول هداياهم: (واحتمل أن يكون هذا بعد ما كان يقبل منهم ثم نهي عن هداياهم). انظر: سنن الترمذي ص 373؛ التمهيد 10/ 123؛ الاستذكار 4/ 89؛ فتح الباري 5/ 273.
(2)
قال الخطابي بعد ذكر ما يدل على المنع: (يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً؛ لأنه قبل هدية غير واحد من المشركين). انظر قوله في النهاية في غريب الحديث 1/ 716؛ عمدة القاري 9/ 436. وأيد هذا القول المباركفوري في تحفة الأحوذي 5/ 189. وانظر: فتح الباري 5/ 273.
(3)
راجع المصادر في الحواشي السابقة، وانظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 604.
(4)
هو: عياض بن حمار بن أبي حمار بن ناجية، التميمي المجاشعي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: مطرف بن عبد الله، وعقبة بن صهبان، وغيرهما. وسكن البصرة. انظر: الإصابة 2/ 1396؛ تهذيب التهذيب 8/ 172.
«أسلمت؟» قلت: لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني نهيت عن زبد
(1)
المشركين»
(2)
.
ثانياً: عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك
(3)
قال: جاء ملاعب الأسنة
(4)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإني لا أقبل هدية مشرك»
(5)
.
(1)
زبد، الزبد: الرفد والعطاء. النهاية في غريب الحديث 1/ 716.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 468، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في الإمام يقبل هدايا المشركين، ح (3057)، والترمذي في سننه ص 373، كتاب السير، باب في كراهية هدايا المشركين، ح (1577)، وابن عبد البر في التمهيد 10/ 122. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وبنحوه قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 468، وصحيح سنن الترمذي ص 373. وقال ابن حجر في الفتح 5/ 272:(صححه الترمذي وابن خزيمة).
(3)
هو: عبد الرحمن بن كعب بن مالك، الأنصاري السلمي، أبو الخطاب المدني، ثقة، روى عن أبيه، وجابر، وغيرهما، وروى عنه: ابنه كعب، وأبو أمامة بن سهل، وغيرهما، وتوفي في خلافة سليمان بن عبد الملك. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 232؛ التقريب 1/ 588.
(4)
هو: عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، العامري الكلابي، المعروف بملاعب الأسنة، قال الدارقطني: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة. انظر: الإصابة 2/ 984.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10/ 447، وابن عبد البر في التمهيد 10/ 122. وأخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 604، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: جاء ملاعب الأسنة، فذكره. قال ابن حجر في الفتح 5/ 272: (أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم- فذكره ثم قال: - رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح). وقال في الإصابة 2/ 984: (وروى سعيد بن أشكاب من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه في رجال من أهل العلم حدثوه أن عامر بن مالك الذي يقال له: ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«إنا لا نقبل هدية مشرك» ورواه أكثر أصحاب الزهري، فلم يقولوا فيه: عن أبيه، وهو المحفوظ، وكذا لم يقولوا: بتبوك، أخرجه الذهلي في الزهريات من طرق، وكذا أخرجه ابن البرقي، وابن شاهين، وأخرجه من طريق ضعيفة عن الزهري فقال أيضاً: عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه.
والذي في مغازي موسى بن عقبة، قال: كان ابن شهاب يقول: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم: أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم وهو مشرك، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام فأبى، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إني لا أقبل هدية مشرك» فقال له عامر بن مالك: ابعث معي من شئت من رسلك فأنا لهم جار، فبعث رهطاً
…
فذكر قصة بئر معونة). وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 184.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 155: (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار إبراهيم بن عبد الله الجنيد، وهو ثقة، ورواه من طريق عن عبد الرحمن بن كعب أن عامر بن مالك، والطريق الأولى عن عبد الرحمن بن كعب عن عامر بن مالك قال، وصله ابن المبارك وأرسله عبد الرزاق).
ثالثاً: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم أحب رجل إلىّ في الجاهلية، فلما تنبأ وخرج إلى المدينة شهد حكيم بن حزام الموسم وهو كافر،
فوجد حلة لذي يزن
(1)
تباع، فاشتراها بخمسين ديناراً ليهديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم بها عليه المدينة، فأراده على قبضها هدية فأبى، قال عبد الله
(2)
: حسبته قال: «إنا لا نقبل شيئاً من المشركين، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن» . فأعطيته حين أبى علىّ الهدية
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على المنع من قبول هدايا المشركين، فتكون ناسخة لما يدل على جواز قبول هداياهم
(4)
.
(1)
ذو يزن لقب لملوك اليمن، وقد أسلم بعضهم، منهم: زرعة بن عفير بن الحارث بن النعمان، وهو المشهور بزرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري، وهو من مشاهير الملوك. وقد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك. انظر: الإصابة 1/ 661، 662.
ومنهم: ذو يزن: مالك بن مرارة الرهاوي، بطن من اليمن، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم من عند زرعة بن سيف بإسلامهم وإسلام ملوك اليمن. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الإصابة 1/ 557، 3/ 1757.
(2)
لم أجد ما أميزه به عن غيره.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 154: (رواه أحمد، والطبراني في الكبير وزاد:"فلبسها فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئاً أحسن منه فيها يومئذ، ثم أعطاها أسامة بن زيد، فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة أنت تلبس حلة ذي يزن؟ قال: نعم، والله لأنا خير من ذي يزن، ولأبي خير من أبيه. قال حكيم: فانطلقت إلى أهل مكة أعجبهم بقول أسامة" وإسناده رجاله ثقات، وله طريق في علامات النبوة أحسن وأبين من هذه في صفته صلى الله عليه وسلم.
(4)
انظر: سنن الترمذي ص 373؛ التمهيد 10/ 123.
واعترض عليه: بأن ما يدل على قبول هداياهم أكثر وأقوى من هذه الأحاديث، على أنه ليس فيها ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز قبول هداياهم، وإنما هو احتمال والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم جواز قبول هدايا المشركين بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلمّا جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«اخرصوا» وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها:«أحصي ما يخرج منها» فلمّا أتينا تبوك قال: «أما إنها ستهبُّ الليلة ريح شديدة فلا يقومنّ أحد، ومن كان معه بعير فليعقله» فعقلناها، وهبَّت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبل طيّئ. وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه برداً، وكتب له ببحرهم، فلمّا أتى وادي القرى قال للمرأة:«كم جاء حديقتك؟» قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث
(2)
.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه: (أن أُكيدر
(3)
دومة الجندل أهدى لرسول الله
(1)
انظر: الاستذكار 4/ 89؛ فتح الباري 5/ 273؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(2)
سبق تخريجه في ص 875.
(3)
هو: أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن، رجل من كندة كان ملكا عليها، وكان نصرانياً، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالداً رضي الله عنه فأسره، وقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله. قيل: إنه أسلم، وقيل: لم يسلم، وقيل: أسلم ثم ارتد. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 526؛ الإصابة 1/ 140.
-صلى الله عليه وسلم حُلَّة
…
)
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر-رضي الله عنهما-قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء رجل مشرك مشعان
(2)
طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبيعاً أم عطية؟» أو قال: «أم هبة؟» قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاة
(3)
.
رابعاً: عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى بنت أسعد
(4)
، من بني مالك بن حسل على ابنتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها بهدايا ضباباً وسمناً وإقطاً، فأبت أسماء أن تأخذ منها وتقبل منها وتدخلها منزلها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 520، كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، ح (2616)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له-8/ 89، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه، ح (2469)(127).
(2)
المشعان: الطويل جداً فوق الطول، وقيل: هو الطويل مع شعث الرأس،، وقيل: المشعان الجافي الثائر الرأس. وقيل: مشعان أي منتفش الشعر ومتفرقه. ويقال: مشع القطن إذا نفشه بيده. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 153؛ لسان العرب 13/ 115؛ فتح الباري 5/ 274.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 434، كتاب البيوع، باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب، ح (2216)، ومسلم في صحيحه 7/ 153، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، ح (2056)(175).
(4)
هي قُتيلة بنت عبد العزى بن أسعد، القرشية العامرية، وقيل: إن اسمها: قيلة بنت عبد العزي. واختلف في إسلامها، وأكثر أهل العلم على أنها ماتت مشركة. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 328؛ فتح الباري 5/ 276.
فأخبرته فأمرها أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها، فأنزل الله عز وجل:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8، 9] إلى آخر الآيتين
(1)
.
خامساً: عن عبد الله الهوزني
(2)
، قال: لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب
(3)
، فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي أَلى ذلك منه، منذ بعثه الله إلى أن توفي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق، فأستقرض له واشتري له البردة فأكسوه، وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال يا بلال إن
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده-منحة المعبود-2/ 25، وأحمد في المسند 26/ 37، وابن جرير في تفسيره 14/ 8385، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 242، والحاكم في المستدرك- والسياق له- 2/ 527، والواحدي في أسباب النزول ص 284. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي في التلخيص. وأصله في الصحيحين.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 155: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، وجوده، فقال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى، وفيه مصعب بن ثابت، ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبان).
(2)
هو: عبد الله بن لُحيّ الحميري، أبو عامر الهوزني الحمصي، ثقة، روى عن عمر، وبلال، وغيرهما، وروى عنه ابنه أبو اليمان، وراشد بن سعد، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 5/ 331؛ التقريب 1/ 526.
(3)
حلب: مدينة في شمال سورية، كانت قصبة جند قنسرين، بينها وبين قنسرين اثنا عشر ميلا، فتحت على يد أبي عبيدة عام خمس عشرة. انظر: معجم البلدان 2/ 166؛ أطلس الحديث النبوي ص 149.
عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت. فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما أن رآني قال: يا حبشيُّ! قلت: يا لبَّاه، فتجهمني
(1)
وقال لي قولاً غليظاً، وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك!، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس. حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه، فأذن لي، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبِق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني! فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حتى أتيته، فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبشر فقد جاء الله بقضائك» ثم قال: «ألم تر الركائب المناخات الأربع؟» فقلت: بلى، فقال: «إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداه إلىّ عظيم فدك
(2)
، فاقبضهن واقض دينك»
(1)
فتجهمني، أي لقيني بالغلظة والوجه الكريه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 317.
(2)
فدك قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة أيام، فتحت صلحاً سنة سبع بعد خيبر. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 353؛ معجم البلدان 3/ 417؛ أطلس الحديث النبوي ص 292.
ففعلت، فذكر الحديث ..
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث تدل على جواز قبول هدايا المشركين، فتكون ناسخة لما يدل على المنع من قبول هدياهم؛ لأن مع هذه الأحاديث ما يدل على تأخرها على ما يدل على المنع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية من المشركين في غزوة تبوك وبعدها كما يدل على ذلك حديث أنس، وأبي حميد الساعدي-رضي الله عنهما. وغزوة تبوك كانت سنة تسع من الهجرة
(2)
.
أما ما يدل على المنع، فمنه حديث ملاعب الأسنة، وقد جاء في بعض طرقه ما يدل على أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل واقعة بئر معونة، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يسلم، وواقعة بئر معونة كانت بعد أحد سنة أربع من الهجرة
(3)
.
ومنه حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، وقد صرح فيه أنه قدم على رسول الله
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 468، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في الإمام يقبل هدايا المشركين، ح (3055)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 133. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 467:(صحيح الإسناد).
(2)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 515؛ الرحيق المختوم ص 429.
(3)
وملاعب الأسنة وإن كان جاء كذلك في بعض طرق روايته أن ذلك كان في غزوة تبوك، لكن تلك الرواية غير محفوظة كما قاله ابن حجر. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 183، 184؛ الإصابة 2/ 984.
-صلى الله عليه وسلم ليهديه حلة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقبل فتح مكة، فلم يقبل منه الهدية؛ لأنه لم يكن أسلم بعد، وإنما أسلم عام الفتح
(1)
.
فيثبت من مجموع ما سبق: أن ما يدل على جواز قبول الهدية من المشركين متأخر فيكون ناسخاً لما يدل على المنع منه؛ لتأخره عليه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد ذهب جمهور أهل العلم-منهم أصحاب المذاهب الأربعة- إلى جواز قبول هدية الكافر
(3)
.
مستدلين بأحاديث كثيرة منها ما سبق ذكره في دليل القول بنسخ ما يدل على منع قبول هدايا الكفار
(4)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى منع وكراهية قبول الهدية منهم
(5)
.
(1)
راجع تخريج حديث حكيم رضي الله عنه، وانظر: الإصابة 1/ 397.
(2)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 604؛ النهاية في غريب الحديث 1/ 716؛ نيل الأوطار 6/ 6؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(3)
انظر: التمهيد 10/ 123، 124؛ الاستذكار 4/ 88، 89؛ المغني 13/ 200؛ الشرح الكبير 10/ 302، 303؛ الفروع 10/ 287؛ فتح الباري 5/ 272؛ عمدة القاري 9/ 436 - 438؛ التاج والإكليل 4/ 553؛ مواهب الجليل 4/ 553، 554؛ نيل الأوطار 6/ 6؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(4)
انظر: فتح الباري 5/ 272؛ عمدة القاري 9/ 436 - 438؛ نيل الأوطار 6/ 6؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(5)
انظر: سنن الترمذي ص 373؛ التمهيد 10/ 122، 123؛ فتح الباري 5/ 272.
مستدلين بالأحاديث السابقة في دليل القول بنسخ ما يدل على جواز قبول هداياهم؛ فإنها تدل على النهي من قبول هداياهم
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى امتناع قبول هداياهم فيما أهدي له صلى الله عليه وسلم خاصة، والقبول فيما أهدي للمسلمين
(2)
.
وذلك بحمل ما يدل على النهي من قبول هداياهم فيما أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحمل ما يدل على الجواز فيما أهدي للمسلمين
(3)
.
واعترض عليه: بأن من جملة أدلة الجواز ما وقعت الهدية فيه له صلى الله عليه وسلم خاصة
(4)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز قبول الهدية ممن يريد بها التودد والموالاة، وجواز قبولها ممن يُرجى من قبول هديته تأنيسه وتأليفه على الإسلام
(5)
.
وذلك بحمل ما يدل على النهي على الحالة الأولى، وحمل ما يدل على الجواز على الحالة الثانية
(6)
.
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(2)
نسب هذا القول ابن حجر وغيره إلى الطبري. انظر: فتح الباري 5/ 272؛ عمدة القاري 9/ 438؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(4)
انظر: فتح الباري 5/ 272.
(5)
انظر: فتح الباري 5/ 272؛ عمدة القاري 9/ 438؛ تحفة الأحوذي 5/ 189.
(6)
ارجع المصادر في الحاشية السابقة.
واعترض عليه: بأن الأحاديث الدالة على النهي من قبول هدايا المشركين مطلقة، ولا يوجد ما يدل على أن علة عدم قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض الكفار كان من أجل أنه كان يريد بها التودد والموالاة.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قبول الهدية من كفار أهل الكتاب، وعدم قبولها ممن سواهم من الكافرين والمشركين
(1)
.
وهؤلاء حملوا الأحاديث التي جاء فيها قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من الكفار على كفار أهل الكتاب، وحملوا ما يدل على منع قبول هدايا الكفار على الكفار غير أهل الكتاب
(2)
.
واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنها-أن تقبل هدية أمها، وهي لم تكن من أهل الكتاب، بل كانت من المشركين
(3)
.
الراجح
بعد ذكر ما سبق من الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-أن الراجح هو جواز قبول الهدية من الكافرين والمشركين إذا لم يكن يترتب على ذلك أي ضرر أو مفسدة للإسلام أو المسلمين؛
(1)
انظر: معالم السنن 4/ 258؛ فتح الباري 5/ 273؛ عمدة القاري 9/ 438؛ نيل الأوطار 6/ 6.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(3)
انظر: فتح الباري 5/ 273؛ نيل الأوطار 6/ 7.
وذلك لما يلي:
أولاً: لأحاديث كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية من الكافرين، وأنه صلى الله عليه وسلم أذن في قبولها منهم.
ثانياً: ولأن من تلك الأحاديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية منهم في غزوة تبوك وبعدها. ويوجد مع بعض ما يدل على عدم قبول هداياهم أن ذلك كان قبل فتح مكة؛ لذلك فاحتمال أن تكون أحاديث المنع منسوخة بأحاديث الجواز احتمال راجح وقوي.
ثالثاً: إن القول بنسخ ما يدل على جواز قبول هديا المشركين قول ضعيف وغير صحيح، وذلك لما يلي:
أ-لأن ما يدل على جواز قبول هداياهم أكثر وأصح مما يدل على المنع والنهي.
ب- إنه لا يوجد ما يدل على أن ما يدل على النهي متأخر على ما يدل على الجواز، حتى يكون ناسخاً له، والقول بعكسه أولى لما سبق.
والله أعلم.
المطلب الثالث: الوصية للوالدين والأقربين الوارثين
ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أنه كان قبل نزول آية المواريث تجب الوصية للوالدين والأقربين، فلما نزلت آية المواريث نُسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين؛ فلذلك لا وصية لوارث
(1)
.
وممن صرح بنسخه: ابن عباس
(2)
، وابن عمر
(3)
رضي الله عنهم، والحسن
(4)
، وسعيد بن جبير
(5)
، والإمام الشافعي
(6)
، وأحمد بن حنبل
(7)
، وأبو داود السجستاني
(8)
، وأبو بكر الجصاص الرازي
(9)
، وابن عبد البر
(10)
، وابن حزم
(11)
.
(1)
انظر: التمهيد 13/ 233؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 254، 259؛ تفسير ابن كثير 1/ 200.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 201؛ التمهيد 13/ 233؛ نواسخ القرآن 1/ 223.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 6/ 434؛ نواسخ القرآن 1/ 224.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 6/ 433؛ نواسخ القرآن 1/ 224.
(5)
انظر: التمهيد 13/ 233؛ نواسخ القرآن 1/ 225.
(6)
انظر: الأم 4/ 106.
(7)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 220؛ المغني 8/ 396.
(8)
انظر: سنن أبي داود ص 436.
(9)
انظر: أحكام القرآن 1/ 202 - 203؛ المبسوط 27/ 148.
(10)
انظر: التمهيد 13/ 233.
(11)
انظر: الإحكام شرح أصول الأحكام 1/ 505.
وسبب الاختلاف في المسألة هو اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
(1)
. هل المراد به الوالدين والأقربين الوارثين أم المراد به غير الوارثين؟
فالجمهور على أن المراد به الوالدين والأقربين الوارثين، وأن الوصية كانت لهم واجبة، ثم نُسخت ذلك لما نزلت المواريث
(2)
.
وذهب البعض إلى أن المراد به الوالدين والأقربين غير الوارثين، وأن الوصية لهم باقية لم تنسخ
(3)
.
ويُستدل للقول بالنسخ بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
(4)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (كان المال للولد، وكانت
(1)
سورة البقرة، الآية (180).
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 6/ 432، 433؛ التمهيد 13/ 233، 237، 239؛ بداية المجتهد 4/ 1546؛
المغني 8/ 396؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 259؛ تفسير ابن كثير 1/ 201؛ فتح الباري 5/ 440.
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 879 - 880؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 259.
(4)
سورة البقرة، الآية (180).
الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحبّ فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميرات)
(2)
.
ثالثاً: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
(3)
.
رابعاً: عن عمرو بن خارجة
(4)
رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على راحلته،
وإنها لتقصع
(5)
بجرتها
(6)
، وإن لعابها ليسيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 556، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ح (2746).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 437، كتاب الوصايا، باب ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين، ح (2869)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 434. قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 436:(حسن صحيح).
(3)
سبق تخريجه في ص 70.
(4)
هو: عمرو بن خارجة بن المنتفق، الأسدي حليف آل أبي سفيان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: مجاهد، وشهر بن حوشب، وغيرهما. انظر: الإصابة 3/ 1328؛ تهذيب التهذيب 8/ 22.
(5)
القصع: شدة المضغ وضم بعض الأسنان على البعض. وقيل: قصع الجرة خروجها من الجوف إلى الشدق ومتابعة بعضها بعضاً. وأصله من تقصيع اليربوع، وهو إخراجه تراب قاصعاته، وهو جحره. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 462.
(6)
الجرة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه، ثم يبلعه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 254.
خطبته: «إن الله قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية»
(1)
.
خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (نسختها آية الميراث يعني {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
(2)
.
فهذه الأدلة تدل على أنه كان أولاً وجوب الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ الله ذلك فجعل لكل واحد منهم نصيباً مفروضاً، وأعطى كل ذي
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 479، كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ح (2121)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 567، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية لوارث، ح (3642)، وابن ماجة في سننه ص 461، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ح (2712)، وأحمد في المسند 29/ 210، والدارمي في سننه 2/ 511، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 432. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 478، وصحيح سنن النسائي ص 567. وقال ابن حجر في الفتح 5/ 439:(وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي، وعن أنس عند ابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني، وعن جابر عند الدارقطني أيضاً، وقال: الصواب إرساله. وعن علي عند ابن أبي شيبة. ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل جنح الشافعي في "الأم" إلى أن هذا المتن متواتر).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 434، ونحوه ابن جرير في جامع البيان 2/ 883، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 224.
حق حقه؛ لذلك فلا وصية للوالدين والأقربين الوارثين
(1)
.
وجمهور أهل العلم ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة على أن الوصية للوالدين والأقربين
الوارثين قد نُسخ؛ لذلك لا وصية لوارث بدون إذن الورثة
(2)
.
وذلك لأدلة كثيرة منها ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ
(3)
.
وذهب بعض أهل العلم منهم ابن جرير الطبري: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين والمذكورة في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
(4)
. غير منسوخة، وأن الآية وإن كانت عامة إلا أن المراد بها
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 882؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 201، 202؛ التمهيد 13/ 233، 237؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 431؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 221 - 229؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 259.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة، وانظر: المبسوط 27/ 181؛ الهداية وشرحه العناية 10/ 423؛ عمدة القاري 10/ 21"؛ الاستذكار 6/ 272؛ بداية المجتهد 4/ 1546"؛ الأم 4/ 106؛ فتح الباري 5/ 440"؛ المغني 8/ 396؛ الشرح الكبير 17/ 222؛ الممتع 4/ 199".
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 882؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 201، 202؛ التمهيد 13/ 233، 237؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 431؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 221 - 229؛ فتح الباري 5/ 439، 440؛ عمدة القاري 10/ 20.
(4)
سورة البقرة، الآية (180).
البعض أي الوالدين والأقربين الذين لا يرثون؛ فلذلك يشرع الوصية لهم
(1)
.
قالوا: والأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ ليست منافية ولا معارضة للآية حتى يقال فيها بالنسخ، بل هي مخصصة لعمومها؛ حيث إنها بينت أن الوصية لا تجوز للوارث، أما من لا يرث من الوالدين والأقربين فيوصى له لأجل هذه الآية
(2)
.
واعترض عليه: بأن ما ذكر احتمال، وابن عباس رضي الله عنه قد ذكر أنه كان أولاً وقبل نزول المواريث المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ الله من ذلك ما أحب، وجعل المواريث مقدرة. وقوله هذا وإن كان موقوفاً لفظاً إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول آية المواريث، فيكون ذلك في حكم المرفوع، فلا يعدل عن تفسيره وقوله هذا؛ ولذلك أخذ به جمهور أهل العلم، وذهبوا إلى نسخ الوصية المذكورة في الآية الكريمة، بل حكاه بعضهم إجماعاً كما سبق ذكره
(3)
.
الراجح
والراجح عندي-والله أعلم بالصواب- هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين قد نسخ، لذلك
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 879 - 880؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 259.
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 879 - 880.
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 200، 201؛ فتح الباري 5/ 439؛ عمدة القاري 10/ 21.
فلا وصية لهم، وذلك لما يلي:
أولاً: للأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على أنه لا وصية لوارث، ويستفاد من بعضها أنه كان في وقت ما مشروعية الوصية لهم، ثم جاء النهي عن ذلك؛ لأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. وإذا كان ذلك كذلك فإن تلك الوصية المشروعة في وقت ما تكون منسوخة بالنهي اللاحق
(1)
.
ثانياً: ولما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما من تأويل الآية وقوله بنسخ الوصية المذكورة فيها. وبمعنى قوله ما روي عن ابن عمر-رضي الله عنهما، وهما أعلم بتفسير كتاب الله وما يراد به ممن بعدهما. وقد ذكرا أن الوصية المذكورة في الآية كانت قبل نزول المواريث، وأنها نسخت بعد نزولها. وبوفق قولهما قال جمهور أهل العلم، بل ذهب البعض إلى أنه إجماع كما سبق ذكره.
ثالثاً: ولأن الظاهر من آية الوصية وجوب الوصية للوالدين والأقربين
(2)
، وقد أجمع أهل العلم على أن وجوب الوصية للوالدين
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 202، 203؛ التمهيد 13/ 233؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 259.
(2)
انظر: جامع البيان 2/ 878؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 200؛ تفسير ابن كثير 1/ 201.
والأقربين منسوخ
(1)
، وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون المراد بالوالدين والأقربين في الآية الوالدان والأقربين الذين يرثون؛ لأنه لا يوجد ما يدل على وجوب الوصية لهم غير هذه الآية. وإذا كان المراد بها الوالدان والأقربين الوارثين فإن الوصية المذكورة فيها تكون منسوخة بآيات المواريث والأحاديث التي جاء فيها النهي عن الوصية للوارث، وبالإجماع الذي نقله غير واحد من أهل العلم.
والله أعلم.
(1)
انظر: التمهيد 13/ 239؛ الاستذكار 6/ 272؛ تفسير ابن كثير 1/ 201.
المطلب الرابع: التوارث بالمعاقدة والحلف
ذهب جمع من أهل العلم إلى أن التوارث بالمعاقدة
(1)
، والحلف
(2)
، كان في أول الإسلام، ثم نُسخ ذلك، وجعل التوارث بالنسب والقرابة.
وممن صرح بالنسخ وقال به: ابن عباس
(3)
رضي الله عنه، والحسن
(4)
، وقتادة
(5)
، وسفيان الثوري
(6)
، والأوزاعي
(7)
، ومالك
(8)
، والشافعي
(9)
، وأحمد بن حنبل
(10)
، وأبو داود السجستاني
(11)
، و الببيهقي
(12)
، وابن السمعاني
(13)
، وابن قدامة
(14)
.
(1)
المعاقدة هي: المعاهدة والميثاق. النهاية في غريب الحديث 2/ 233.
(2)
الحلف بالكسر: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد، والتساعد، والاتفاق. النهاية في غريب الحديث 1/ 415.
(3)
انظر: جامع البيان 4/ 2411، 2413؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 233؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 429؛ نواسخ القرآن 2/ 369؛ فتح الباري 4/ 583.
(4)
انظر: جامع البيان 4/ 2411؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 108.
(5)
انظر: جامع البيان 4/ 2411؛ نواسخ القرآن 2/ 368.
(6)
انظر: نواسخ القرآن 2/ 369.
(7)
انظر: نواسخ القرآن 2/ 369.
(8)
وكذلك صرح به عبد الوهاب المالكي. انظر: المعونة 3/ 1649؛ نواسخ القرآن 2/ 369.
(9)
انظر: الأم 4/ 86؛ مختصر المزني ص 191؛ نواسخ القرآن 2/ 369.
(10)
انظر: نواسخ القرآن 2/ 369.
(11)
انظر: سنن أبي داود ص 444.
(12)
انظر: السنن الكبرى 6/ 428.
(13)
انظر: قواطع الأدلة 1/ 428.
(14)
انظر: المغني 9/ 255.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن التوارث بالمعاقدة والحلف ليس بمنسوخ من الأصل، ولكن جُعل ذوى الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فنُسخ ميراثهم في حال وجود القرابات، وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه. وممن قال بهذا: أبو بكر الجصاص الرازي
(1)
.
ويظهر مما سبق أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة هو اختلافهم في مفهوم الأدلة التي تدل على نسخ التوارث باالمعاقدة والحلف، هل هو نسخ له مطلقاً أو هو نسخ له عند عدم وجود غيرهم من الورثة؟
ويستدل للقول بنسخ الميراث بالموالاة والمعاقدة مطلقاً بما يلي:
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(3)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 233؛ نواسخ القرآن 2/ 370؛ عمدة القاري 8/ 657.
(2)
سورة النساء، الآية (33).
(3)
سورة الأنفال، الآية (75).
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}
(1)
.
رابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسخت، ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر والرفادة
(2)
والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له)
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: (كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت)
(4)
.
(1)
سورة الأحزاب، الآية (6).
(2)
الرفادة من الرفد، وهو الإعانة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 672.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 948، كتاب التفسير، باب {ولكل جعلنا موالي} ، ح (4580).
(4)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 4/ 2413. ورجاله رجال البخاري غير أن شيخ البخاري هو الصلت بن محمد، وشيخ الطبري هو أبو كريب.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك الأنفال، فقال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: 75]
(1)
.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنها قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [سورة الأحزاب: 6]. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف
(2)
.
فهذه الأدلة تدل على أنه كان الرجل في أول الإسلام يتوارث بالمعاقدة والحلف والإخاء، ثم نسخ الله ذلك وجعل التوارث بالرحم والنسب والقرابة، وبقي للأولياء والحلفاء فعل المعروف من النصر والرفادة والنصيحة والوصية
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 444، كتاب الفرائض، باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، ح (2921)، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 429. قال المنذري في مختصر سنن أبي داود 4/ 188:(في سنده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 444: (حسن صحيح).
(2)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 4/ 2411؛ والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 108.
(3)
انظر: سنن أبي داود ص 444؛ جامع البيان 4/ 2411 - 2413؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 109؛ السنن الكبرى للبيهقي 6/ 428؛ نواسخ القرآن 2/ 367 - 369؛ تفسير ابن كثير 1/ 464، 465.
هذا وقال ابن حجر في الفتح 8/ 111: (ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين: الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة، فنزلت: {ولكل} وهي آية الباب فصاروا جميعاً يرثون، وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب، وخص الميراث بالعصبة، وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل بقية الآثار. وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضاً لكن لم يذكر الناسخ الثاني، ولا بد منه).
ويستدل لمن قال بنسخ التوارث بالمعاقدة والحلف عند وجود القرابات، وعدم نسخه عند عدمهم بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}
(2)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنها قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [سورة الأحزاب: 6]. يقول: إلا
(1)
سورة النساء، الآية (33).
(2)
سورة الأحزاب، الآية (6).
أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف
(1)
.
رابعاً: عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما السنة في رجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: «هو أولى الناس بمحياه ومماته»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1422.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 444، كتاب الفرائض، باب في الرجل يسلم على يدي الرجل، ح (2918)، والترمذي في سننه ص 476، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي الرجل، ح (2112)، وابن ماجة في سننه ص 468، كتاب الفرائض، باب في الرجل يسلم على يدي الرجل، ح (2752)، وابن أبي شيبة في مسنده 2/ 319، وأحمد في المسند 28/ 144، والدارمي في سننه 2/ 472، والحاكم في المستدرك 2/ 238. وصححه أبو زرعة الدمشقي كما في الفتح 12/ 53. والحاكم في المستدرك 2/ 238. وقال ابن القيم في تهذيب السنن 4/ 186:(وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحط عن أدنى درجات الحسن، وقد عضده المرسل، وقضاء عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد ا لعزيز برواية الفرائض، وإنما يقتضي تقديم الأقارب عليه، ولا يدل على عدم توريثه إذا لم يكن له نسب). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 444: (حسن صحيح).
وقال الشافعي في الأم 4/ 83: (ليس بثابت، إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب عن تميم الداري، وابن الموهب ليس بالمعروف عندنا ولا نعلمه لقي تميماً). وانظر مختصر السنن للمنذري 4/ 185 ونقل ابن حجر في الفتح 12/ 53، عن البخاري أنه جزم في التاريخ بأنه لا يصح لمعارضته حديث:"الولاء لمن أعتق". وقال الخطابي في معالم السنن 4/ 186: (وضعف أحمد بن حنبل حديث تميم هذا). وقال الترمذي في سننه ص 477: (هو عندي ليس بمتصل).
ويستدل من هذه الأدلة على نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة عند وجود القرابات وعدم النسخ عند عدم القرابات: بأن بعض هذه الأدلة يدل على أنه كان في أول الإسلام التوارث بالحلف والمعاقدة، ثم نسخ الله ذلك فجعل التوارث بالنسب والقرابة، لكن هذا النسخ لم يكن كلياً بل جعل أولوا الأرحام أولى منهم؛ حيث قال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . فدل ذلك أن عند وجود أولي الأرحام لا يتوارث الحلفاء؛ لأن أولوا الأرحام أولى منهم، أما عند عدم وجود القرابة وأولي الأرحام فإن الحلفاء يرثون، بدلالة هذه الآية، وكذلك بدلالة حديث تميم المذكور؛ حيث جاء فيه:(هو أولى الناس بمحياه ومماته)، فهو يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه، إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث
(1)
.
واعترض عليه: بأن التوارث الذي كان في الجاهلية وأول الإسلام بالحلف والمعاقدة والإخاء قد نسخ، ولا حلف بعد ذلك في الإسلام، فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة»
(2)
.
وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: «فوا بحلف، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 233، 234.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 8/ 140، كتاب فضائل الصحابة، باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، ح (2530)(206).
حلفاً في الإسلام»
(1)
.
وإذا جاء النهي عن الحلف في الإسلام فكيف يتوارث به؟
(2)
.
وأجيب عنه: بأن النهي إنما جاء عن الحلف بمعنى حلف الجاهلية، أما غيره فليس بمنهي عنه، بدليل الأحاديث الأخرى
(3)
.
واعترض على هذا الجواب: بأن الأحاديث التي جاء فيها ما يدل على جواز الحلف في الإسلام، فإنها تحتمل أن تكون منسوخة بالأحاديث التي تدل على أنه لا حلف في الإسلام
(4)
.
أما حديث تميم رضي الله عنه فمع ما فيه من كلام لأهل العلم- ليس بصريح في التوارث، بل قوله:(هو أولى الناس بمحياه ومماته) يحتمل أن يراد به رعي الذمام والإيثار بالبر، ونحوهما من الأمور
(5)
.
وأجيب عن هذا: بأنه يحمل النهي عن الحلف في الإسلام بما كان بمعنى حلف الجاهلية، ولا يكون النسخ لمطلق الحلف والمعاقدة بدليل أحاديث الجواز؛ وذلك جمعاً بين هذه الأحاديث كلها.
وأن حديث تميم الداري رضي الله عنه وإن ضعفه بعض أهل العلم فقد صححه
(1)
أخرجه أحمد في المسند 11/ 516، والطبري في جامع البيان-واللفظ له- 4/ 2416، وابن الجارود في المنتقى ص 388، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 54.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 1/ 464، 465؛ فتح الباري 4/ 583.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 234، 235.
(4)
انظر: فتح الباري 4/ 583؛ تحفة الأحوذي 6/ 293.
(5)
انظر: معالم السنن 4/ 185؛ تهذيب السنن 4/ 185.
بعض الآخرين، وهو وإن لم يكن صريحاً في أحقية الحليف بالميراث إلا أن احتمال ذلك احتمال أقوى وأولى من غيره؛ حيث ابتدر هذا الاحتمال إلى فهم الأكثرين، وقضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في التوارث بالحلف والمعاقدة بعد اتفاقهم على عدم التوارث به ما دام يوجد أحد من الأقارب وذوي الأرحام
(2)
، على قولين:
القول الأول: يُتوارث بالحلف والمعاقدة إذا لم يوجد الوارث من الأقارب وذوي الأرحام.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد
(4)
، وقول الحكم، وحماد، وإسحاق بن راهوية. وروى نحوه عن عمر بن الخطاب وابن مسعود-رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم النخعي
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 234، 235؛ تهذيب السنن 4/ 186؛ فتح الباري 11/ 53.
(2)
انظر: جامع البيان 4/ 2411 - 2415؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 233، 234؛ المعونة 3/ 1649؛ نواسخ القرآن 2/ 367 - 372.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 233؛ مختصر القدوري ص 247؛ عمدة القاري 8/ 657؛ الدر المختار مع تكملة حاشية ابن عابدين 10/ 415.
(4)
انظر: المغني 9/ 254؛ الشرح الكبير 18/ 8؛ الإنصاف 18/ 8؛ التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية للشيخ الفوزان ص 40.
(5)
انظر: معالم السنن 4/ 185؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 233، 234؛ المغني 9/ 254، 255؛ تهذيب السنن 4/ 185، 186؛ فتح الباري 11/ 54.
وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم
(1)
.
القول الثاني: لا يتوارث به.
وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وقول جمهور أهل العلم
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو التوارث بالحلف والمعاقدة عند عدم وجود أحد من القرابات وذوي الأرحام- بأدلة منها ما سبق في دليل القول بنسخ التوارث بالحلف والمعاقدة عند وجود أحد من الأقارب وذوي الأرحام.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأدلة تدل على التوارث بالحلف والمعاقدة إلا أنه جُعلت الأقاربُ وذووا الأرحام أولى منهم، فدل ذلك على توارثهم عند عدم وجود أحد من الأقارب وذوي الأرحام
(6)
.
(1)
انظر: تهذيب السنن 4/ 186؛ الفروع 8/ 7؛ الإنصاف 18/ 8.
(2)
انظر: المعونة 3/ 1649؛ بداية المجتهد 4/ 1595؛ القوانين الفقهية ص 285.
(3)
انظر: الأم 4/ 83، 86؛ مختصر المزني ص 191؛ روضة الطالبين ص 997؛ فتح الباري 11/ 54.
(4)
انظر: المغني 9/ 255؛ الشرح الكبير 18/ 7؛ الفروع 8/ 7؛ الإنصاف 18/ 7.
(5)
انظر: بداية المجتهد 4/ 1595؛ المغني 9/ 254؛ فتح الباري 12/ 54.
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 233، 234؛ المغني 9/ 255؛ الشرح الكبير 18/ 8؛ تهذيب السنن 4/ 186.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم التوارث بالحلف والمعاقدة-بأدلة منها ما سبق في دليل القول بنسخ ما يدل على التوارث بالحلف والمعاقدة.
ووجه الاستدلال منها هو: أن تلك الأدلة تدل على أن التوارث بالحلف والمعاقدة قد نسخ، لذلك فلا يُتوارثُ به
(1)
.
الراجح
بعد ذكر القولين في المسألة وأدلة كل قول يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو التوارث بالحلف والمعاقدة عند عدم وجود الأقارب وذوي الأرحام، كما هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة جميعاً؛ وذلك بحمل ما يدل على نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة على ما إذا كان يوجد أحد من الأقارب وذوي الأرحام، وحمل ما يدل على التوارث به على ما إذا لم يوجد أحد منهم. والجمع بين الأدلة أولى من إلغاء بعضها. كما أن النسخ لا يصار إليه عند إمكان الجمع بين الأدلة
(2)
.
ثانياً: إن التوارث به جاء فيه بعض الآثار، وعضد ذلك قضاء عمر
(1)
انظر: الأم 4/ 86؛ مختصر المزني ص 191؛ المعونة 3/ 1649؛ بداية المجتهد 4/ 1597؛ المغني 9/ 255؛ نواسخ القرآن 2/ 369.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 186؛ فتح الباري 4/ 397.
بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مما يدل على أن التوارث بالحلف والمعاقدة لم ينسخ مطلقاً، بل يُتوارث به عند فقد الأقارب وذوي الأرحام، وإلا لما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
.
ثالثاً: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام» قاله صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة، كما جاء التصريح به في بعض الروايات، وحديث تميم الداري بعده؛ لأن تميم الداري رضي الله عنه أسلم سنة تسع
(2)
، ويظهر من روايات حديثه أنه سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فيكون فيه دلالة على أن نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة ليس مطلقاً وكلياً، بل عند وجود أحد من الأقارب وذوي الأرحام، وأنه يتوارث به عند عدم وجود أحد منهم.
والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 234؛ الشرح الكبير 18/ 8؛ تهذيب السنن لابن القيم 4/ 186.
(2)
انظر: تهذيب التهذيب 1/ 471؛ الإصابة 1/ 207؛ فتح الباري 12/ 53.
المبحث الثاني: أحكام الرقيق
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: عتق العبد إذا اسلم ومولاه كافر.
المطلب الثاني: بيع أمهات الأولاد.
المطلب الأول: عتق العبد إذا اسلم ومولاه كافر
ذهب ابن حزم إلى أن العبد إذا أسلم وسيده كافر فإنه يصير حراً، وأن عدم عتق سلمان الفارسي رضي الله عنه حين أسلم وسيده كافر حتى كاتب مولاه، قد نُسخ
(1)
.
ولم أجد من صرح بالنسخ في المسألة غير ابن حزم، لكن لا خلاف بين أهل العلم في أن العبد إذا أسلم قبل سيده ولحق بالمسلمين أنه يصير حراً
(2)
.
وإن أسلم رقيق أهل الذمة فيجب عليهم بيعهم، ولا يبقون تحت ملكهم
(3)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(4)
.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه: حدثني سلمان الفارسي، فذكر حديثاً طويلاً وفيه: فقدم رجل من بني قريظة فابتاعني، ثم ذكر خبراً وفيه: فأسلمت وشغلني الرق حتى فاتتني بدر، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب
(5)
. فسألت صاحبي ذلك، فلم أزل به حتى كاتبني على أن أحيي
(1)
انظر: المحلى 8/ 226.
(2)
انظر: المدونة 2/ 567؛ الأم 4/ 206؛ مختصر القدوري ص 232؛ زاد المعاد 3/ 503، 504؛ الفروع 10/ 269؛ الإنصاف 10/ 386.
(3)
انظر: الإجماع لابن المنذر ص 27؛ المحلى 8/ 226.
(4)
سورة النساء، الآية (141).
(5)
كاتب، الكتابة هي: إعتاق المملوك يداً حالاً ورقبة مآلاً حتى لا يكون للمولى سبيل على إكسابه. التعريفات للجرجاني ص 183. وانظر: أنيس الفقهاء ص 61.
له ثلاثمائة نخلة، وبأربعين أوقية
(1)
من ذهب، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال لي: «اذهب ففقر
(2)
لها، فإذا أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني فأكون أنا الذي أضعها بيدي» قال: فقمت بتفقيري وأعانني أصحابي حتى فقرت لها سربها ثلاثمائة سربة
(3)
، وجاء كل رجل بما أعانني به من النخل، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يضعه بيده ويسوي عليها ترابها ويبرك حتى فرغ منها، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية
(4)
، وبقيت الذهب فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابها من بعض المعادن، فقال عليه الصلاة والسلام:«ما فعل الفارسي المسكين المكاتب؟ أدعوه لي» فدعيت فجئت، فقال:«اذهب بهذه فأدها بما عليك من المال» فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ؟ فقال: «إن الله سيؤدي عنك ما عليك من المال» قال: فوالذي نفسي بيده لقد وزنت له منها أربعين أوقية حتى أوفيته الذي
(1)
الأوقية هي: أربعون درهماً، ومن المثقال: سبعة ونصف. التعريفات الفقهية ص 38.
(2)
ففقر لها، من التفقير، والمراد فقير النخلة، وهو: حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 385.
(3)
السربة: المسلك والطريق. النهاية في غريب الحديث 1/ 767.
(4)
ودية واحد من الودي بتشديد الياء، وهو صغار النخل. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 387.
عليّ، قال: فأُعتق سلمان، وشهد الخندق وبقية مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فخرج إليه عبدان فأعتقهما، أحدهما أبو بكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم)
(3)
.
رابعاً: عن الشعبي، عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة، فأبى علينا وقال:«هو طليق الله، وطليق رسوله»
(4)
.
ووجه الاستلال منها هو: أن حديث سلمان رضي الله عنه يدل على عدم عتق العبد إذا أسلم ومولاه كافر، والآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً. والأحاديث المذكورة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتق من أسلم من عبيد الكفار ولحق بالمسلمين قبل أن يسلم موالاه. فتكون الآية الكريمة وهذه الأحاديث ناسخة لما يدل عليه
(1)
أخرجه ابن حزم في المحلى 8/ 225.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 66، ونحوه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 278. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 248:(فيه الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة لكنه مدلس).
(3)
قال ابن القيم في زاد المعاد 3/ 503: (قال سعيد بن منصور: حدثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج، عن مقسم عن ابن عباس-فذكره).
(4)
أخرجه أحمد في المسند 29/ 71، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 279. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 248:(رواه أحمد، ورجاله ثقات).
حديث سلمان رضي الله عنه؛ لتأخرها عليه؛ لأن ما يدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه كان قبل غزوة الخندق، وحديث ابن عباس رضي الله عنه والشعبي جاء فيه ذكر الطائف، وهو كان بعد فتح مكة. فثبت منه نسخ ما يدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه، وأن العبد إذا أسلم قبل مولاه ولحق بالمسلمين أنه يصير حراً
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المدونة 2/ 567؛ الأم 4/ 206؛ الإجماع لابن المنذر ص 27؛ المحلى 8/ 225، 226؛ مختصر القدوري ص 232؛ بدائع الصنائع 6/ 11؛ المغني 13/ 160؛ زاد المعاد 3/ 503؛ الفروع 10/ 269؛ الإنصاف 10/ 386؛ مواهب الجليل 4/ 591.
المطلب الثاني: بيع أمهات الأولاد
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز بيع أمهات الأولاد
(1)
، وأن ما ورد مما يدل على جواز بيعهن فإنه قد نسخ.
وممن صرح بنسخه: النووي
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(3)
.
(1)
أمهات الأولاد جمع لأم الولد، وأم الولد: هي التي ولدت من سيدها في ملكه. انظر: المغني 14/ 580.
(2)
انظر: المجموع 9/ 176. وقال الخطابي في معالم السنن 5/ 415: (وقد يحتمل ذلك أن يكون مباحاً في العصر الأول، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل خروجه من الدنيا، ولم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه لأن ذلك لم يحدث في أيامه لقصر مدتها، ولانشغاله بأمور الدين، ومحاربة أهل الردة، واستصلاح أهل الدعوة، ثم بقي الأمر على ذلك في عصر عمر رضي الله عنه مدة من الزمان، ثم نهى عنه عمر رضي الله عنه حين بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا عنه).
وقال ابن الجوزي في التحقيق 3/ 572، بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري:(ثم من الجائز أن يكون هذا خفي على أبي سعيد وغيره من الصحابة، وأن يكون النهي ورد بعد ذلك).
وممن أشار إلى نسخ ما يدل على جواز بيع أمهات الأولاد: الملا علي القاري الحنفي في مرقاة المفاتيح 6/ 568، وأحمد بن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج 4/ 517، والخطيب الشربيني في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/ 678، وعثمان بن محمد الدمياطي في حاشية إعانة الطالبين 4/ 557.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: المبسوط 7/ 147؛ بداية المجتهد 4/ 1643، 1644؛ المغني 14/ 585 - 588؛ العزيز 13/ 584 - 586.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه يقول: (كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا، والنبي صلى الله عليه وسلم فينا حيّ، لا نرى بذلك بأساً)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا)
(2)
.
وفي رواية ثالثة عنه رضي الله عنه قال: (كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ثم ذُكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك، وكان عمر يشتد في بيعهن)
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 429، كتاب العتق، باب أمهات الأولاد، ح (2517)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 288، وأحمد في المسند-واللفظ له- 22/ 340، وأبو يعلى الموصلي مسنده 4/ 161، وابن حبان في صحيحه ص 1174، والدارقطني في سننه 4/ 135، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 582. وصحح سنده النووي في المجموع 9/ 177. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 189: إنه صحيح متصل على شرط مسلم.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 593، كتاب العتق، باب في عتق أمهات الأولاد، ح (3954)، وابن حبان في صحيحه ص 1174، والحاكم في المستدرك 2/ 23، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 582. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم). ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 189 بعد ذكر قول الحاكم والذهبي:(هو كما قالا). وصححه كذلك النووي في المجموع 9/ 176.
(3)
قال عبد الحق الإشبيلي في كتابه الأحكام الوسطي 4/ 23: (وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا معاوية بن هشام، نا أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: كنا نبيع أمهات الأولاد-فذكره ثم قال: - أيوب ضعيف ولكن ذكر أبو حاتم أن كتاب أيوب عن يحيى صحيح). وذكره مسنداً من طريق ابن أبي شيبة كذلك ابن الملقن في البدر المنير في تخريج أحاديث وآثار الشرح الكبير 9/ 760، ثم ذكر كلام عبد الحق السابق. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 5/ 467:(رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى الموصلي). وذكر نحوه في مختصر إتحاف السادة المهرة 4/ 177. وقال في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة 3/ 293، بعد ذكر رواية ابن ماجة: (ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من طريق أبي سلمة عن جابر به، وزاد: (ثم ذكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك، وكان عمر يشتد في بيعهن). ولم أجده في مسند أبي يعلى بهذه الزيادة، وإنما هو فيه إلى قوله:(لا نرى بذلك بأساً). أما مسند ابن أبي شيبة فالمطبوع منه موجود في مجلدين، وقد اطلعت عليهما من أولهما إلى آخرهما، ولم أجد فيهما أي حديث لجابر رضي الله عنه فضلا عن هذا الحديث، فلعل النسخة المطبوعة تكون ناقصةوالله أعلم.
لكن عبد الحق ذكره بسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة، كما ذكر أن أيوب بن عتبة أحد رواته وأنه ضعيف. وهو قد ضعفه جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وابن المديني. وقال الإمام أحمد مرة: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير. وقال ابن معين مرة: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: (أما كتبه فصحيحة، ولكن يحدث من حفظه فيغلط). وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة قال لي سليمان بن داود بن شعبة اليمامي: وقع أيوب بن عتبة إلى البصرة، وليس معه كتب، فحدث من حفظه وكان لا يحفظ، فأما حديث اليمامة ما حدث به ثمة فهو مستقيم. قال: وسمعت أبي يقول: أيوب بن عتبة فيه لين، قدم بغداد ولم يكن معه كتب، وكان يحدث من حفظه على التوهم فيغلط، وأما كتبه في الأصل فهي صحيحة عن يحيى بن أبي كثير، قال لي هذا الكلام سليمان بن داود بن شعبة، وكان عالماً بأهل اليمامة، فقال: هو أروى الناس عن يحيى وأصح الناس كتاباً عنه). انظر: ميزان الاعتدال 1/ 290؛ تهذيب التهذيب 1/ 371 - 372.
ثانياً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل ولدت أمته منه فهي معتقة عن دبر منه»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 17/ 256، والدارقطني في سننه 4/ 136، والحاكم في المستدرك 2/ 23، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 582. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 189: (إسناده ضعيف). وفي سنده زيد ابن الحواري العمي، وهو قد ضعفه غير واحد من أهل العلم. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 355؛ التقريب 1/ 328.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 429، كتاب العتق، باب أمهات الأولاد، ح (2515)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 290، وأحمد في المسند 4/ 484، والدارمي في سننه 2/ 334، والدارقطني في سننه 4/ 130، والحاكم في المستدرك 2/ 23، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 579. قال الحاكم:(صحيح). وتعقبه الذهبي فقال: (حسين متروك). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس الهاشمي ضعفه أكثر أصحاب الحديث). وقال الضياء المقدسي في السنن والأحكام عن المصطفى صلى الله عليه وسلم 5/ 80 بعد ذكر الحديث: (حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقال يحيى بن معين في رواية: يكتب حديثه ليس به بأس). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 217: (وفي سنده الحسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف حداً). وكذلك ضعف إسناده الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 185.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ذُكرت أم إبراهيم
(1)
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعتقها ولدها»
(2)
.
خامساً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع أمهات الأولاد، لا يبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع بها سيدها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة)
(3)
.
(1)
هو: إبراهيم بن محمد-رسول الله- بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، ولد بالمدينة سنة ثمان، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر. وأمه هي مارية القبطية. انظر: تهذيب الأسماء للنووي 1/ 26، 102.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 429، كتاب العتق، باب أمهات الأولاد، ح (2516)، والدارقطني في سننه 4/ 131، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 579. وفي إسنادهم حسين بن عبد الله، وقد سبق الكلام عليه في الحديث السابق.
وأخرجه ابن حزم في المحلى 8/ 215، من طريق قاسم بن أصبغ، نا مصعب بن محمد، نا عبيد الله بن عمر-هو الرقي- عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس-فذكره ثم قال ابن حزم: -فهذا خبر جيد السند كل رواته ثقة). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 218، بعد ذكر كلام ابن حزم:(وتعقبه ابن القطان بأن قوله: عن محمد بن مصعب خطأ، وإنما هو عن محمد وهو ابن وضاح، عن مصعب، وهو ابن سعيد المصيصي، وفيه ضعف).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 135، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً، وأخرجه كذلك عنه موقوفاً على عمر رضي الله عنه. ورجح ابن القطان المرفوع فقال:(وعندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه)، وقال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى 4/ 22:(هذا يروى من قول ابن عمر، ولا يصح مسنداً). يعنى أن الصواب أنه موقوف، وإليه ذهب الدارقطني، والبيهقي، والخطيب البغدادي، والشيخ الألباني. انظر: نصب الراية 3/ 289؛ البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن 9/ 755؛ التلخيص الحبير 4/ 217؛ العليق المغني على سنن الدارقطني 4/ 135؛ إرواء الغليل 6/ 188.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبعها، ولا يهبها، ولا يُوَرِّثُها، وهو يستمتع بها، فإذا مات فهي حرة)
(1)
.
سادساً: عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه أعتق أمهات الأولاد، وقال عمر: «أعتقهن النبي صلى الله عليه وسلم)
(2)
.
وفي رواية عنه أنه قال لما قيل له: أعمر أعتق أمهات الأولاد؟ قال:
(1)
أخرجه مالك في الموطأ ص 594، وعبد الرزاق في المصنف-نحوه-7/ 292، والدارقطني في سننه 4/ 134، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 574. وسند رواية مالك من أصح الأسانيد. وقال النووي في المجموع 9/ 176:(رواه مالك والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 136. وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، قال أبو الطيب في التعليق المغني على سنن الدارقطني 4/ 136: (في إسناده الإفريقي، وهو غير محتج به. قال القطان: وسعيد عن عمر منقطع. ونقل عبد الحق في أحكامه عن ابن أبي حاتم أنه قال: قال أحمد بن حنبل: سعيد بن المسيب عن عمر عندنا حجة).
(لا، ولكن أعتقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
ويستدل منها على نسخ جواز بيع أمهات الأولاد بالوجهين التاليين:
أولاً: إن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وكذلك الرواية الأولى والثانية لحديث جابر رضي الله عنه يدل على جواز بيع أمهات الأولاد، وبقية الأحاديث تدل على عدم الجواز، فتكون أحاديث النهي ناسخة لما يدل على الجواز؛ لأن مع أحاديث النهي ما يدل على تأخرها على أحاديث الجواز؛ وهو ما جاء في إحدى طرق حديث جابر رضي الله عنه:(ثم ذُكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك)
(2)
.
ثانياً: إن الأحاديث السابقة بعضها يدل على جواز بيع أمهات الأولاد، وبعضها يدل على عدم الجواز، فيكون ما يدل على عدم الجواز ناسخاً لما يدل على الجواز؛ لأن الصحابة-رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه أجمعوا على منع بيع أمهات الأولاد، وما روي عن علي رضي الله عنه من القول بالجواز في عهد خلافته فإنه قد رجع عن ذلك
(3)
، كما أجمع أهل العلم
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 293، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 577. وفي سنده كذلك عبد
الرحمن الإفريقي. قال البيهقي: (تفرد الإفريقي برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف).
(2)
انظر: معالم السنن 5/ 415؛ التحقيق 3/ 572؛ مرقاة المفاتيح 6/ 568؛ تحفة المحتاج 4/ 517؛ الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/ 678؛ حاشية إعانة الطالبين 4/ 557.
(3)
انظر: المغني 14/ 587؛ العزيز 13/ 585؛ المجموع 9/ 176؛ البدر المنير لابن الملقن 9/ 760؛ التلخيص الحبير 4/ 219.
في عصر التابعين على عدم جواز بيعهن، وانعقاد الإجماع على خلاف حكم ثابت يدل على نسخه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في بيع أمهات الأولاد على قولين:
القول الأول: لا يجوز بيعهن.
وهو قول جمهور أهل العلم ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(2)
.
وممن روي عنه أو قال به: عمر، وعثمان، وعائشة-رضي الله عنهم، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وسالم، وإبراهيم النخعي، والزهري، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، والحسن بن حي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن حزم
(3)
.
القول الثاني: يجوز بيع أمهات الأولاد.
وهو قول داود الظاهري. وممن روي عنه ذلك أو قال به: علي، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري-رضي
(1)
انظر: المغني 14/ 587؛ المجموع 9/ 176؛ البدر المنير 9/ 760؛ مرقاة المفاتيح 6/ 569، 572؛ تحفة المحتاج بشرح المنهاج 4/ 517؛ الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/ 678.
(2)
انظر: "الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 661؛ الموطأ لمحمد ص 282؛ المبسوط 7/ 147؛ مختصر القدوري ص 178؛ " المدونة 2/ 540؛ المعونة 3/ 1489؛ الاستذكار 6/ 337؛ بداية المجتهد 4/ 1643؛ " مختصر المزني ص 434، 435؛ العزيز 13/ 585؛ المجموع 9/ 176؛ روضة الطالبين ص 2119؛ " المغني 14/ 584؛ الشرح الكبير 19/ 436؛ الممتع 4/ 542؛ الإنصاف 19/ 435".
(3)
انظر: الاستذكار 6/ 337؛ المحلى 8/ 212، 214؛ المغني 14/ 585؛
الله عنهم-
(1)
.
الأدلة
أما القول الأول فيستدل لها بأدلة، منها ما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من الأدلة التي تدل على عدم جواز بيع أمهات الأولاد
(2)
.
ثانياً: إن الصحابة-رضي الله عنهم-أجمعوا على عدم جواز بيع أمهات الأولاد في عهد عمر رضي الله عنه، فعن عبيدة السلماني قال: سمعت علياً يقول: (اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن). قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة-أو قال في الفتنة- قال: فضحك علي
(3)
.
وفي رواية عنه قال: خطب علي الناس فقال: (شاورني عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن). قال عبيدة: فرأي
(1)
انظر: الاستذكار 6/ 337؛ المحلى 8/ 214؛ المغني 14/ 585.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/ 574 - 582؛ المحلى 8/ 215؛ الاستذكار 6/ 337؛ المغني 14/ 587.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 291، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 583. قال ابن حجر في التلخيص 4/ 219، بعد ذكر هذا الأثر من طريق عبد الرزاق: (وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد).
عمر وعلي في الجماعة أحب إليّ من رأي عليّ وحده
(1)
.
ففي هذا الأثر أن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعوا على عدم جواز بيع أمهات الأولاد، في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا الإجماع وإن لم يكن من الإجماع المقطوع به؛ حيث خالفه البعض بعد ذلك، إلا أنه حجة، ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو جواز بيع أمهات الأولاد-بحديث جابر، وأبي سعيد الخدري-رضي الله عنهما-وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ؛ فإنهما يدلان على جواز بيع أمهات الأولاد
(3)
.
ويعترض عليه: بأن ما يدل على الجواز يحتمل أنه كان قبل النهي عن بيعهن، ثم جاء النهي عن بيعهن، كما يدل على ذلك بعض الروايات، وإجماع الصحابة-رضي الله عنهم على عدم جواز بيعهن في عهد عمر
(1)
قال ابن حزم في المحلى 8/ 212: فروينا من طريق سعيد بن منصور، نا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبي، عن عبيدة السلماني قال-فذكره-). وذكر ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 319، نحوه من طريق ابن أبي شيبة.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/ 583؛ المغني 14/ 587، 588؛ المجموع 9/ 176؛ الإنصاف 19/ 435.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/ 582؛ الاستذكار 6/ 337؛ المغني 14/ 586.
-رضي الله عنه يقوى هذا الاحتمال
(1)
.
الراجح
بعد عرض القولين في المسألة وما استدل به لكل قول يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو عدم جواز بيع أمهات الأولاد، وذلك لما يلي:
أ- لأن الأدلة التي يستدل بها لهذا القول من الأخبار المرفوعة وإن كان كل منها لا تخلو من مقال، إلا أنها بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، ويقويها أثر عمر رضي الله عنه، وكذلك اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم على وفقها في زمنه.
ب- ولأن الصحابة-رضي الله عنهم-أجمعوا على عدم جواز بيعهن في عهد عمر رضي الله عنه، كما سبق ذكره، وهو وإن لم يكن من الإجماع القطعي إلا أنه حجة، ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره
(2)
.
(1)
انظر: المغني 14/ 587؛ المجموع 9/ 176؛ البدر المنير 9/ 760؛ مرقاة المفاتيح 6/ 569، 572؛ تحفة المحتاج بشرح المنهاج 4/ 517؛ الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/ 678.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/ 583؛ المغني 14/ 587، 588؛ المجموع 9/ 176؛ الإنصاف 19/ 435.
ج- ولأن الأحوط أن يجتنب عن بيعهن؛ لأن أقل أحواله أن يكون من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقّافون عندها
(1)
؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(2)
.
ثانياً: إن القول بنسخ ما يدل على جواز بيعهن، له وجه واحتمال قوي؛ لأن مع الأدلة التي تدل على عدم جواز بيعهن ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز بيعهن، فتكون ناسخة له، وهو ما جاء في إحدى طرق حديث جابر رضي الله عنه (ثم ذُكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك)، ويقوى هذا باتفاق الصحابة-رضي الله عنهم-على عدم جواز البيع في عهد عمر رضي الله عنه؛ والإجماع لا ينسخ به، لكنه يدل على وجود ناسخ، كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: نيل الأوطار 6/ 138.
(2)
سبق تخريجه في ص 295.
الفصل الثالث النكاح، والرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، والعدة
.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النكاح، والرضاع.
المبحث الثاني: الطلاق، والخلع، والظهار، والعدة.
المبحث الأول: النكاح، والرضاع
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
المطلب الثاني: المرأة إذا نكحت نفسها بغير ولي.
المطلب الثالث: نكاح المتعة.
المطلب الرابع: حكم العزل.
المطلب الخامس: ضرب النساء.
المطلب السادس: مقدار الرضاع المحرم.
المطلب السابع: الحرمة برضاع الكبير.
المطلب الثامن: حضانة الكافرة للولد المسلم.
المطلب الأول: عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
.
ذهب بعض أهل العلم إلى أن عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
(1)
. قد نسخ، وأن المحرمات نكاحهن
(2)
ليست محصورة فيما ذكر في هذه الآية وفيما قبلها من الآيات.
وممن صرح بالنسخ أو روي عنه: عطاء
(3)
، وأبو جعفر النحاس
(4)
، وابن الهمام
(5)
.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن المحرمات نكاحهن المذكورات في هذه الآيات ليست كل المحرمات نكاحهن، وأن السنة جاءت فيها زيادة على المحرمات المذكورات في هذه الآيات. لكنهم اختلفوا في هذه الزيادة هل هو نسخ لعموم هذه الآية، أو تخصيص له
(6)
.
(1)
سورة النساء، الآية (24).
(2)
النكاح يطلق على الوطء، وعلى العقد دون الوطء. وأصله الضم والجمع. انظر: طلبة الطلبة ص 85؛ المصباح المنير ص 511؛ القاموس المحيط ص 223.
واصطلاحاً: عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصداً. التعريفات للجرجاني ص 246.
وقيل: هو: عقد التزويج. المغني 9/ 339.
(3)
انظر قوله في: نفس الصباح للخزرجي 1/ 278.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 103.
(5)
انظر: فتح القدير 3/ 217.
(6)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين، وانظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 169، 170؛ المبسوط 4/ 191؛ الهداية 3/ 213 - 217"؛ بداية المجتهد 3/ 1005؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 385 - 389؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 119 - 122 "؛ الأم 5/ 5 - 7؛ روضة الطالبين ص 1205 - 1210"؛ المغني 9/ 522 - 524؛ الممتع 5/ 79 - 80؛ نواسخ القرآن 2/ 361.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
(1)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها»
(2)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها)
(3)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (221).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1110، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، ح (5109)، ومسلم
في صحيحه 5/ 309، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، ح (1408)(33).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1110، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، ح (5108).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 631، كتاب فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهن، ح (3105)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 365، كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، ح (1444)(1).
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: «لا تحل لي، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة»
(1)
.
ويستدل من هذه الأدلة على النسخ بالوجهين التاليين:
أولاً: أن قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ناسخ لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ؛ لأن عمومه يدل على جواز نكاح المشركات، ولا خلاف في عدم جواز نكاح المشركات الآن، فيثبت منه نسخ عمومه به؛ إذ لو تقدم قوله {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} على قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فإنه يلزم منه حل المشركات وهو منتف، أو تكرار النسخ وحاصله خلاف الأصل
(2)
.
ثانياً: أن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يدل بعمومه على جواز نكاح غير من ذكرن في الآيات السابقة على هذه الآية، وقد
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 526، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، ح (2645)، ومسلم في صحيحه 5/ 369، كتاب الرضاع، باب تحرم ابنة الأخ من الرضاعة، ح (1447)(13).
(2)
انظر: فتح القدير 3/ 217؛ العناية على الهداية 3/ 217.
جاء في هذه الأحاديث محرمات زائدة على المذكورات في تلك الآيات، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لعموم هذه الآية
(1)
.
واعترض عليهما: بأن عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} خص بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وبالأحاديث السابقة التي جاء فيها ذكر محرمات غير ما ذكر في الآيات السابقة على الآية المذكورة، وهذا تخصيص وليس نسخاً
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم نكاح من ذكرن في الآيات القرآنية وما ثبت في الأحاديث النبوية الصحيحة
(3)
.
وذلك لأدلة كثيرة، منها ما ذكر في دليل القول بالنسخ
(4)
.
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 103، 104.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 170؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 387؛ نواسخ القرآن 2/ 361؛ فتح القدير للشوكاني 1/ 565.
(3)
وقد ذكر بعض أهل العلم أن طائفة من الخوارج ترى إباحة الجمع بين من عدا الأختين، لكنه لا اعتبار لاختلافهم. راجع المصادر في الحاشية السابقة، وانظر: المبسوط 4/ 191؛ الهداية 3/ 213 - 217"؛ بداية المجتهد 3/ 1005؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 119 - 122 "؛ الأم 5/ 5 - 7؛ روضة الطالبين ص 1205 - 1210"؛ المغني 9/ 513 - 524؛ الممتع 5/ 79 - 80".
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 169؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 385 - 387؛ المغني 9/ 513 - 523.
الراجح
والذي يترجح عندي-والله أعلم بالصواب-هو أن تخصيص عموم الآية بغيرها من الأدلة أولى من القول بالنسخ؛ لأنه لا تعارض بين العام والخاص، فيعمل بالعام إلا فيما خص منه، وبذلك يجمع بين تلك الأدلة كلها، وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 170؛ الاعتبار ص 495؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 119؛ نواسخ القرآن 2/ 361.
المطلب الثاني: المرأة إذا نكحت نفسها بغير ولي
ذهب بعض الحنفية إلى جواز أن تنكح المرأة نفسها بغير وليها، وأن ما يستدل منه على عدم جواز ذلك فإن بعضه محتمل لأكثر من احتمال، وبعضه منسوخ
(1)
.
وذهب ابن حزم إلى عدم جواز أن تنكح المرأة نفسها بغير وليها، وأن ما يستدل منه على جواز ذلك فإنه منسوخ
(2)
.
وظهر منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن السبب الآخر لاختلافهم فيها هو تعارض الأدلة، وكونها محتملة لأكثر من معنى، والخلاف في صحة بعضها
(3)
.
ويستدل للقول بنسخ ما يستدل منه على عدم جواز أن تنكح المرأة نفسها بغير ولي بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا
(1)
أشار إلى قولهم ذلك ابن حزم في المحلى 9/ 29، وصرح به البابرتي في شرحه العناية على الهداية 3/ 258.
(2)
انظر: المحلى 9/ 37.
(3)
انظر: الأم 5/ 13، 14؛ المحلى 9/ 25 - 36؛ بداية المجتهد 3/ 949؛ المغني 9/ 345، 346؛ العناية للبابرتي 3/ 258؛ فتح القدير 3/ 258؛ فتح الباري 9/ 103 - 105.
فالسلطان وليّ من لا وليّ له»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 316، كتاب النكاح، باب في الولي، ح (2083)، والترمذي في سننه-واللفظ له-ص 260، كتاب النكاح، باب، ح (1102)، وابن ماجة في سننه ص 327، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، ح (1879)، والشافعي في الأم 5/ 14، وعبد الرزاق في المصنف 6/ 195، والدارمي في سننه 2/ 185، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 7، وابن الجارود في المنتقى ص 267، وابن حبان في صحيحه ص 1107، والدارقطني في سننه 3/ 221، والحاكم في المستدرك 2/ 182، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 168. و صححه ابن معين كما قاله الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 246. وقال الترمذي:(حديث حسن). وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين). وقال الذهبي في التلخيص: (سمعه أبو عاصم منه، وعبد الرزاق، ويحيى بن أيوب، وحجاج بن محمد من ابن جريج، مصرحين بالسماع من الزهري، فلا يعلل هذا، فقد ينسى
الثقة).
وقال ابن الجوزي في التحقيق 3/ 143: (هذا الحديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 113: (هو حديث صحيح).
وأعل هذا الحديث: بأنه جاء في بعض الروايات أن ابن جريج راويه قال: (ثم لقيت الزهري فسألته فأنكره). انظر: سنن الترمذي ص 260؛ شرح معاني الآثار 3/ 8؛ المستدرك للحاكم 2/ 183؛ التلخيص الحبير 3/ 156.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
أن ابن معين قال: لم يذكر هذا عن ابن جريج غير ابن علية، وضعف يحيى رواية ابن علية عن ابن جريج. انظر: سنن الترمذي ص 260؛ المستدرك 2/ 184؛ المحلى 9/ 29؛ التلخيص الحبير 3/ 157.
2 -
أن هذا الحديث له متابعات وشواهد، كما أنه روى من غير طريق ابن جريج، والزهري. كما أنه يمكن أن يكون الزهري نسي، ولا يكون ذلك قدحاً في صحة الحديث. انظر: المستدرك للحاكم 2/ 182 - 185؛ المحلى 9/ 29؛ التلخيص الحبير 3/ 157.
وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 157: (وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم، وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه). وهذا الحديث صححه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 243.
ثانياً: عن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة
(1)
، فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول الله إنه ليس أحد من أوليائي شاهداً، فقال:«إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك» قالت: قم يا عمر، فزَوِّج النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها
(2)
.
(1)
هو: عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله، أبو سلمة المخزومي القرشي، ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدراً وأحداً، وتوفي في صفر سنة أربع. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 320؛ الإصابة 2/ 1080.
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 504، كتاب النكاح، باب إنكاح الابن أمه، ح (3254)، وأحمد في المسند 44/ 150، وأحمد بن منيع وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما-كما في اتحاف الخيرة المهرة للبوصيري 4/ 116، 117 - ، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 12، والحاكم في المستدرك 4/ 18، -ومختصرا في 2/ 195 - ، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 212. وهذا الحديث رواه الطحاوي والحاكم في المستدرك 2/ 195، وأحمد بن منيع، وأبو يعلى الموصلي-كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 116، 117 - من طريق ثابت البناني عن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة، كما جاء في أثناء الحديث في رواية أحمد بن منيع: (قال ثابت لابن أم سلمة
…
)؛ حيث يظهر منه ويؤكد أن ثابت البناني سمع هذا الحديث ورواه عن عمر ابن أبي سلمة. ورواه النسائي، وأحمد، والبيهقي وغيرهم من طريق ثابت البناني عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة، بزيادة ابن عمر بن أبي سلمة في الإسناد، لذلك اختلف فيه فقال الحاكم في 2/ 195:(صحيح على شرط مسلم)، وقال في 4/ 18:(هذا حديث صحيح الإسناد، قال: ابن عمر بن أبي سلمة الذي لم يسمه حماد بن سلمة في هذا الحديث سماه غيره سعيد بن عمر بن أبي سلمة)، ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال ابن حزم في المحلى 9/ 36:(وهذا خبر إنما رويناه من طريق ابن عمر بن أبي سلمة، وهو مجهول). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن النسائي ص 504. وذكر في إرواء الغليل 6/ 220، طرقه ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه قال: (سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه جعفر بن ثابت عن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها. الحديث؟، فقال أبي وأبو زرعة: رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الحديثين، زاد فيه رجلاً، قال أبي: أضبط الناس لحديث ثابت وعلي بن زيد حماد بن سلمة، بين خطأ الناس). لكن قد يعقب على هذا: بأنه كما روي حماد بن سلمة عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه، فكذلك جاء عنه أنه رواه عن ثابت البناني عن عمر بن أم سلمة عن أم سلمة، بدون ذكر ابن عمر بن أبي سلمة، كما في رواية الطحاوي والحاكم في 2/ 195. وثابت البناني قد روى عن عمر بن أبي سلمة كما روى عن ابن عمر بن أبي سلمة، بل هو أشهر بروايته عن عمر بن أبي سلمة عن ابنه، والله أعلم.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم، جعلت أمرها إلى العباس، فأنكحها إياه)
(1)
.
رابعاً: عن أنس رضي الله عنه: (أن أبا طلحة رضي الله عنه خطب أم سليم، فقالت: يا
(1)
أصله في الصحيحين، وأخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه ص 507، كتاب النكاح، باب الرخصة في نكاح المحرم، ح (3273).
أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد خشبة نبتت من الأرض نجّرها حبشي بني فلان؟ إن أنت أسلمت لم أرد منك من الصداق غيره. قال: حتى أنظر في أمري. قال: فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا أنس زوج أبا طلحة)
(1)
.
خامساً: عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجت حفصة بنت عبد الرحمن
(2)
، المنذر بن الزبير
(3)
، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يصنع هذا به؟ ومثلي يفتات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير، فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت لأرُدّ أمراً
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 196، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 213. قال الحاكم:(صحيح الإسناد على شرط مسلم). ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في الإصابة 4/ 2705 في ترجمة أم سليم: (فتزوجت بعده أبا طلحة فروينا في مسند أحمد بعلو في الغيلانيات من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، وإسماعيل بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك: أن أبا طلحة خطب أم سليم-فذكر نحو رواية البيهقي، ثم قال ابن حجر: -ولهذا الحديث طرق متعددة).
(2)
هي: حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، زوجة المنذر بن الزبير، ثقة، روت عن أبيه، وعن عائشة وغيرهما، وروى عنها: عراك بن مالك، ويوسف بن ماهك، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 12/ 361؛ التقريب 2/ 636.
(3)
هو: المنذر بن الزبير بن العوام، الأسدي، شقيق عبد الله، روى عن أبيه، وذكره ابن حبان في الثقات، وغزا القسطنطنية مع يزيد بن معاوية، وقتل بمكة في حصارها مع أخيه سنة أربع وستين. انظر: البداية والنهاية 8/ 216؛ تعجيل المنفعة ص 457.
قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقاً)
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أم سلمة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم -يدل على صحة نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها؛ لأن العباس رضي الله عنه لم يكن ولياً لميمونة-رضي الله عنها، وعمر بن سلمة وأنس-رضي الله عنهما-كانا صغيرين فلم يكن لهما ولاية
(2)
.
وحديث عائشة-رضي الله عنها-يدل على عدم صحة نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها، لكن عائشة عملت على خلافه؛ حيث زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وذلك بغير إذن عبد الرحمن، فيكون في ذلك دلالة على صحة أن تتزوج المرأة بغير إذن وليها، وأن ما يدل على عدم جواز ذلك قد نسخ؛ لذلك عملت عائشة رضي الله عنها بخلافه، كما أن الراوي لما يدل على عدم الصحة هو الزهري، وهو كذلك ممن يرى صحة نكاح المرأة بغير إذن وليها، فهوكذلك مما يستدل منه على النسخ، وإلا لما خالفا لما ثبت عندهما من النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن حديث أنس في نكاح أم سليم كان قبل الهجرة، أما ما روي
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 436، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 8. وسنده صحيح. وصححه بعض أهل العلم وأقر ذلك ابن حزم في المحلى 9/ 28، 30.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 12؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 486؛ المحلى 9/ 36، 37.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 12؛ المحلى 9/ 29؛ العناية 3/ 258.
في نكاح زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح أن جميعهن زوجهن أولياؤهن وأهاليهن غير زينب-رضي الله عنها
(1)
، فعن أنس رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة
(2)
يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«اتق الله وأمسك عليك زوجك» قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه. قال: فكانت زينب
(3)
تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات)
(4)
.
ب- أن ما روي عن عائشة-رضي الله عنها من تزويجها حفصة بنت عبد الرحمن بغير إذن أبيها، فليس فيه ما يدل على أن يكون ما روته منسوخاً عندها؛ لاحتمال أنها أمرت أحد الرجال من أوليائها فأنكحها؛
(1)
انظر: المحلى 9/ 37.
(2)
هو: زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي الكعبي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين إلى الإسلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أسامة ابنه، والبراء بن عازب، وغيرهما، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، واستشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان وكان هو أميرها الأول. انظر: الإصابة 1/ 644؛ تهذيب التهذيب 3/ 350.
(3)
هي: زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر الأسدية، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وكانت قبله عند زيد بن حارثة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: أم حبيبة بنت أبي سفيان، وزينب بنت أبي سلمة، وغيرهما، وكانت أول من ماتت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وكان وفاتها سنة عشرين. انظر: الإصابة 4/ 2517؛ تهذيب التهذيب 12/ 371.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1555، كتاب التوحيد، باب {وكان عرشه على الماء} ، ح (7420).
وذلك لما روي عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة-رضي الله عنها-أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها جارية من بني أخيها، فضربت بينهما بستر ثم تكلمت، حتى إذا لم يبق إلا النكاح أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: «ليس إلى النساء النكاح)
(1)
.
فإن كانت عائشة زوجت بنت عبد الرحمن بغير إذن الولي فيكون ما في هذه الرواية رجوعاً عن عملها الأول، وإن كانت زوجها بإذن أحد أوليائها فليس بين ما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما عملت مخالفة، ولا يصح الاستدلال من جميع ذلك على ثبوت النسخ عندها
(2)
.
ج-أن الحديث الذي يدل نصاً على بطلان النكاح بغير إذن الولي لم يروها عائشة-رضي الله عنها-فحسب، بل روي عن أكثر من عشرة من الصحابة-رضي الله عنهم، ثم روي القول عن أكثرهم على وفق موجبه، فكيف يكون فعل عائشة مع أن فعلها ذلك محتمل لأكثر من احتمال أولى أو دالاً على النسخ؟ وإن النسخ لا بد فيه من تيقن وجود الناسخ وكونه صريحاً ومتأخراً، وهذا كله مما لا وجود له هنا
(3)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 10، وابن حزم في المحلى 9/ 31، وأخرج عبد الرزاق في المصنف
6/ 210، بلفظ:(يا فلان أنكح فإن النساء لا ينكحن). وذكر ابن حجر في الفتح 9/ 103، أن ذلك صحيح عن عائشة.
(2)
انظر: المحلى 9/ 30، 31.
(3)
انظر: المستدرك للحاكم 2/ 188؛ المحلى 9/ 30، 31؛ نصب الراية 3/ 184، 185.
ويستدل للقول بنسخ ما يستدل منه على جواز أن تنكح المرأة نفسها بغير وليها بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}
(2)
.
ثالثاً: حديث عائشة-رضي الله عنها-في بطلان نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها، وقد سبق ذكره في دليل القول السابق.
رابعاً: عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي»
(3)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (221).
(2)
سورة النور، الآية (32).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 316، كتاب النكاح، باب في الولي، ح (2085)، والترمذي في سننه-ص 260، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، ح (1101)، وابن ماجة في سننه ص 327، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، ح (1881)، والدارمي في سننه 2/ 185، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 9، وابن الجارود في المنتقى ص 267، وابن حبان في صحيحه ص 1108، والحاكم في المستدرك 2/ 184، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 173، وابن حزم في المحلى 9/ 27. قال الحاكم في المستدرك 2/ 185، بعد ذكر عدة طرق للحديث: (هذه الأسانيد كلها صحيحة، وقد علونا فيه عن إسرائيل، وقد وصله الأئمة المتقدمون الذين ينزلون في رواياتهم عن إسرائيل مثل عبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وغيرهم، وقد حكموا لهذا الحديث بالصحة). ووافقه الذهبي في التلخيص فقال: (صحيح).
وقال ابن حزم في المحلى 9/ 31: (واعترضوا في رواية أبي موسى أن قوماً أرسلوه؟ فقلنا: فكان ما ذا، إذا صح الخبر مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قامت الحجة به، ولزمنا قبوله فرضاً، ولا معنى لمن أرسله، أو لمن لم يروه أصلاً، أو لمن رواه من طريق أخرى ضعيفة؟ كل هذا كأن لم يكن).
وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 156: (وقد اختلف في وصله وإرساله).
وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 237 - بعد ذكر كلام الترمذي على هذا الحديث-: (وأقول: لا شك أن قول الترمذي أن الأصح رواية الجماعة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعاً، هو الصواب، فظاهر السند الصحة، ولذلك صححه جماعة منهم علي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذهلي، كما رواه الحاكم عنهما، وصححه هو أيضاً، ووافقه الذهبي، ومنهم البخاري كما ذكر ابن الملقن في الخلاصة
…
).
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها»
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 237، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، ح (1882)، والدارقطني في سننه 3/ 227، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 178. ولفظ الدارقطني مرفوعاً-ونحوه في رواية عند البيهقي-:«لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها» وكنا نقول: إن التي تزوج نفسها هي الفاجرة. فيظهر منه أن قوله: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وليس من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 327:(صحيح دون جملة الزانية). وقال ابن حجر في بلوغ المرام: (رواه ابن ماجة والدارقطني ورجاله ثقات). انظر بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام 3/ 232.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بإذن وليٍّ مرشد أو سلطان»
(1)
.
سابعاً: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فجاءت امرأة تعرض نفسها عليه، فخفَّض فيها البصر ورفعه فلم يردها. فقال رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله، قال:«أعندك من شيء؟» قال: ما عندي من شيء، قال:«ولا خاتم من حديد؟» قال: ولا خاتم، ولكن أشُقُّ بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف. قال:«لا، هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، قال:«اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن»
(2)
.
ثامناً: ما سبق ذكره في دليل القول السابق من حديث أم سلمة، وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآيتين المذكورتين، وكذلك حديث عائشة وأبي موسى وأبي هريرة، وابن عباس-رضي الله عنهم-تدل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، وأن نكاحها باطل
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 289: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 110: (وأخرجه سفيان في جامعه، ومن طريقه الطبراني في الأوسط بإسناد آخر حسن عن ابن عباس بلفظ-فذكر اللفظ المذكور-).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1115، كتاب النكاح، باب إذا كان الولي هو الخاطب، ح (5132)، و مسلم في صحيحه 5/ 330، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، ح (1425)(76).
إن فعلت ذلك، وأن اختيار تزويجها إنما هو لوليها.
وحديث سهل بن سعد، وأم سلمة، وابن عباس، وأنس-رضي الله عنهم-يدل على أن المرأة يجوز لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها
(1)
.
فتكون هذه الأحاديث وما في معناها منسوخة بما يدل على بطلان أن تزوج المرأة نفسها بغير إذن وليها
(2)
.
واعترض عليه: بأنه ليس مع ما يُستدل منه على بطلان نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها ما يدل على أنه متأخر على ما يُستدل منه على صحة تزويجها بغير إذن وليها، مع أن من شرط صحة القول بالنسخ وجود ما يدل على تأخر الناسخ عن المنسوخ
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها على أقوال من أشهرها ما يلي:
(1)
وذلك لأنه ليس في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه ذكر الولي للمرأة التي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن. أما حديث أم سلمة-رضي الله عنهما-فإنما جاء فيها أنها قالت لابنها عمر أن يزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن أبي سلمة كان صغيراً لم يبلغ، فليس له ولاية التزويج. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه ففيه أن العباس رضي الله عنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة-رضي الله عنها-والعباس رضي الله عنه ليس من أوليائها. انظر: شرح معاني الآثار 3/ 12؛ المحلى 9/ 36، 37.
(2)
انظر: المحلى 9/ 37.
(3)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 136؛ الاعتبار ص 56.
القول الأول: يستحب أن لا تتزوج المرأة إلا بإذن وليها، فإن تزوجت بغير إن وليها فإنه يصح النكاح، لكن إن زوجت نفسها من غير كفء فلوليها فسخ النكاح.
وهو قول أبي حنفية، وظاهر المذهب عند الحنفية
(1)
. وروي نحوه عن الزهري، والشعبي
(2)
.
القول الثاني: لا تُزوج المرأة نفسها، ولا يعقد نكاحها إلا وليها.
وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن
(3)
، ومذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، و الحنابلة
(6)
.
(1)
وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد. انظر: موطأ محمد بن الحسن ص 182؛ شرح معاني الآثار 3/ 13؛ مختصر القدوري ص 146؛ المبسوط 5/ 13؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 255، 256؛ الاختيار 3/ 90؛ حاشية ابن عابدين 4/ 115.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 30؛ بداية المجتهد 3/ 949.
(3)
هذا هو قول محمد المشهور، وذكر الطحاوي أنه قول أبي يوسف الأخير، وذكر بعض الحنفية عنه عكس ذلك. انظر: الموطأ لمحمد ص 182؛ شرح معاني الآثار 3/ 13؛ مختصر القدوري ص 146؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 255، 256.
(4)
انظر: المعونة 2/ 727؛ التمهيد 11/ 24؛ بداية المجتهد 3/ 949؛ جامع الأمهات ص 255؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2/ 349.
(5)
انظر: الأم 5/ 21؛ مختصر المزني ص 224؛ التنبيه ص 223؛ روضة الطالبين ص 1181، 1182؛ مغني المحتاج 4/ 349.
(6)
انظر: المغني 9/ 345؛ الشرح الكبير 20/ 155؛ الممتع 5/ 40؛ الإنصاف 20/ 155؛ الإقناع 3/ 322.
وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم. وإليه ذهب سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، والنخعي، وجابر بن زيد، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، وعبيد الله العنبري، و
إسحاق، وأبو عبيد، وابن جرير الطبري، وابن حزم
(1)
.
وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك
(2)
.
القول الثالث: إن النكاح لا يصح إلا بإذن الولي، فإن تزوجت بغير إذن وليها كان نكاحها موقوفاً على إجازة الولي، فإن أجاز نفذ وإلا فلا.
وهو قول لمحمد بن الحسن
(3)
، وروي ذلك عن ابن سيرين، والقاسم بن محمد، والحسن
(4)
.
القول الرابع: إن البكر لا يزوجها إلا وليها، والثيب لها أن تتزوج بغير إذن وليها.
وهو قول داود الظاهري
(5)
.
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 260؛ التمهيد 11/ 24؛ المحلى 9/ 25، 32؛ المغني 9/ 345.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 105.
(3)
انظر: المبسوط 5/ 13؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 3/ 259.
(4)
انظر: المحلى 9/ 33؛ المغني 9/ 345.
(5)
انظر: المحلى 9/ 33؛ بداية المجتهد 3/ 494.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو صحة النكاح بغير إذن الولي إن تزوجت من كفء- بأدلة منها ما يلي:
(1)
.
فهذه الآية تدل على صحة نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن الولي؛ لأنه سبحانه وتعالى أضاف إليها النكاح في قوله: (حتى تنكح زوجاً غيره) كما أضاف إليها رجعتها إلى الزوج الأول بنكاح جديد بعد مفارقة الزوج الثاني وانقضاء العدة
(2)
.
واعترض عليه: بأن المراد بالنكاح في الآية هو الإنكاح بعقد الولي، كما جاءت السنة ببيان ذلك، وإنما أضيف إليها النكاح لأنها محل ذلك وسببه، لا لأن لها أن تعقد على نفسها بغير إذن الولي
(3)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (230).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 437؛ بدائع الصنائع 2/ 515؛ روح المعاني للألوسي 2/ 213.
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 198، 199؛ سبل السلام 3/ 233.
(4)
سورة البقرة، الآية (232).
فهذه الآية تدل على صحة نكاح المرأة إذا تزوجت بغير إذن الولي؛ لأنه سبحانه و تعالى نهى عن العضل إذا تراضى الزوجان، وأضاف إليها النكاح في قوله:(أن ينكحن أزواجهن)
(1)
.
واعترض عليه: بأنه ليس المراد بنكاحهن أن تعقد المرأة على نفسها، بل المراد به هو ما يعقده لهن أولياؤهن، كما يدل عليه سبب نزول الآية الكريمة
(2)
، وإنما أضيف النكاح إليهن لأنهن محله
(3)
.
وإن نهي الأولياء عن العضل ليس دليلاً على نفي الولاية عنهم، بل هو دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى
(4)
.
(5)
.
هذه الآية كذلك مما يدل على جواز أن تعقد المرأة على نفسها من غير إذن الولي؛ حيث دلت على جواز فعلها في نفسها من غير شرط الوليّ، وفي إثبات شرط الوليّ في صحة العقد نفي لموجب الآية
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 484؛ بدائع الصنائع 2/ 515.
(2)
وهو ما ورد في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وسيأتي تخريجه في دليل القول الثاني.
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 198، 199؛ سبل السلام 3/ 233.
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 201؛ فتح الباري 9/ 105.
(5)
سورة البقرة، الآية (234).
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 484.
واعترض عليه: بأن الآية وإن كانت عامة في اختيار الأزواج وعقد النكاح وغيره، إلا
أنه خص من عمومها عقد النكاح بدليل الأحاديث الدالة على أن عقد النكاح من خصوصيات الأولياء
(1)
.
رابعاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ من حديث أم سلمة، وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.
وقد سبق وجه الاستدلال منها، كما سبق ما يعترض به عليه.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأيِّم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للوليّ مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر وصمتها إقرارها»
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 212؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 177.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 323، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، ح (1421)(66).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 318، كتاب النكاح، باب في الثيب، ح (2100)، والنسائي في سننه ص 505، كتاب النكاح، باب استئذان البكر في نفسها، ح (3263)، وعبد الرزاق في المصنف 6/ 145، والدارقطني في سننه 3/ 239، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 192. هذا الحديث بهذا اللفظ رواه معمر، ورواه غيره بغير هذا للفظ؛ لذلك قال الدارقطني بعد ذكر الحديث بغير هذا اللفظ: (تابعه سعيد بن سلمة عن صالح بن كيسان، وخالفهما معمر في إسناده فأسقط منه رجلاً، وخالفهما إيضاً في متنه فأتي بلفظ آخر وهم فيه؛ لأن كل من رواه عن عبد الله بن الفضل، وكل من رواه عن نافع بن جبير مع عبد الله بن الفضل خالفوا معمراً، واتفاقهم على خلافه دليل على وهمه). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (قال علي: سمعت النسابوري يقول: الذي عندي أن معمراً أخطأ فيه، وكذا قال علي). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 318.
ووجه الاستدلال منهما هو: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها» يمنع أن يكون للوليّ حق في منع الأيم العقد على نفسها، والأيم اسم لامرأة لا زوج لها. وقوله صلى الله عليه وسلم:«ليس للوليّ مع الثيب أمر» يسقط اعتبار الوليّ في العقد. فيكون في الحديثين دلالة على جواز أن تعقد المرأة على نفسها من غير إذن وليها
(1)
.
واعترض عليه: بأن ورود الحديث بلفظ: (ليس للوليّ مع الثيب أمر» مختلف فيه
(2)
، والصحيح وروده بلفظ:(الأيم أحق بنفسها من وليها) وبلفظ: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأمر، وإذنها سكوتها»
(3)
.
والأيم وإن كان يطلق على كل من لا زوج له، إلا أن الروايات تفسر بعضها البعض، فالرواية الثانية للحديث تبين أن المراد بالأيم الثيب
(4)
.
وكون الأيم أو الثيب أحق بنفسها من وليها يحتمل احتمالين:
الأول: أنها أحق من وليها بكل شيء من عقد وغيره.
الثاني: أنها أحق من وليها بالرضا، أي أنها لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر فإن سكوتها إذنها.
لكن يتعين الاحتمال الثاني لحمل الحديث عليه؛ للأحاديث الدالة على اشتراط الوليّ كحديث: «لا نكاح إلا بوليّ» وغيره
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 486؛ بدائع الصنائع 2/ 515، 516.
(2)
راجع الكلام عليه في تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 323، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، ح (1421)(67)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 320، 321.
(5)
انظر: سنن الترمذي ص 262؛ المحلى 9/ 36؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 70؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 321؛ فتح الباري 9/ 111، 113؛ تحفة الأحوذي 4/ 254 ..
ويؤكد صحة هذا الاحتمال أن الراوي لهذا الحديث هو ابن عباس رضي الله عنه وهو كذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نكاح إلا بإذن وليٍّ مرشد أو سلطان»
(1)
.
كما كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (لا نكاح إلا بوليّ)
(2)
.
سادساً: إنه روي عن علي رضي الله عنه أنه أقر النكاح بغير إذن الولي، فعن القعقاع
(3)
، قال: (إنه
تزوج رجل امرأة منا يقال لها بحرية
(4)
، زوجتها إياه أمها، فجاء أبوها فأنكر ذلك، فاختصما إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فأجازه)
(5)
.
وعن الهزيل
(6)
: (أن امرأة زوجتها أمها وخالها، فأجاز عليّ نكاحها)
(7)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل قول من قال بنسخ ما يدل على عدم اشتراط الولي في النكاح.
(2)
انظر: سنن الترمذي ص 262.
(3)
هو: القعقاع بن شَور، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 392.
(4)
هي: بحرية بنت هاني بن قبيصة، كما جاء ذكر نسبها هكذا في إحدى روايات الدارقطني في سننه 3/ 323، وهي مجهولة، قاله الدارقطني في 3/ 324، والبيهقي في الكبرى 7/ 182. ولم أجد لها ترجمة في كتب التراجم.
(5)
أخرجه ابن حزم في المحلى 9/ 32.
(6)
هو: الهزيل بن شرحبيل، الأودي، الكوفي، ثقة، روى عن عثمان، وعلي، وغيرهما، وروى عنه: أبو إسحاق السبيعي، وأبو قيس عبد الرحمن بن ثوران، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 30؛ التقريب 2/ 265.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 197، والدارقطني في سننه 3/ 324، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 181، وابن حزم في المحلى 9/ 32. قال البيهقي في 7/ 182 - بعد طرق وألفاظ هذا الأثر-:(وهذا الأثر مختلف في إسناده ومتنه، ومداره على أبي قيس الأودي، وهو مختلف في عدالته، وبحرية مجهولة، واشتراط الدخول في تصحيح النكاح إن كان ثابتاً، والدخول لا يبيح الحرام، والإسناد الأول عن علي رضي الله عنه في اشتراط الولي إسناد صحيح، فالاعتماد عليه). وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي فقال: (احتج به البخاري، وصحح الترمذي حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقد تقدم في باب مس الفرج ببطن الكف توثيقه عن غير واحد، ولا أعلم أحداً من أهل هذا الشأن قال فيه أ نه مختلف في عدالته غير البيهقي. وقد جاء ذلك من وجه آخر قال ابن أبي شيبة: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن الحكم، قال: كان عليّ إذا رفع إليه رجل تزوج امرأة بغير ولي فدخل بها أمضاه. فقد روي ومن وجوه يشد بعضها بعضاً).
واعترض عليه بما يلي:
أ- أن في ثبوت ذلك عن علي رضي الله عنه نظراً
(1)
، وقد صح عنه أنه قال:(أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، لا نكاح إلا بإذن وليّ)
(2)
.
ب-أنه جاء في بعض تلك الروايات أن والد تلك المرأة كان نصرانياً
(3)
؛ وإذ كان كذلك فلا يجوز حكمه فيها؛ لذلك جعل عليّ رضي الله عنه الأمر إليها، وهي قد رضيت، ولا يجوز لها أن تزوج نفسها إلا بوليّ، وعليّ رضي الله عنه كان حينئذ
(1)
راجع الكلام عليه في تخريج ما روي عنه.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 180، وقال:(هذا إسناد صحيح. وقد روي عن علي رضي الله عنه بأسانيد أخر وإن كان الاعتماد على هذا دونها). وأخرج نحوه الدارقطني في سننه 3/ 229.
(3)
انظر: سنن الدارقطني 3/ 323؛ أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/ 411.
السلطان فأجاز ذلك وليها
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن المرأة لا تزوج نفسها، ولا يعقد نكاحها إلا وليها-بأدلة منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}
(3)
.
ففي هاتين الآيتين دلالة على أن الرجل هو الذي يتولى عقد النكاح لا المرأة؛ لأنه سبحانه وتعالى خاطب في الآية الأولى أولياء النساء بأن لا يُنكحوهن المشركين حتى يؤمنوا، وفي الآية الثانية خاطب سبحانه وتعالى الرجال بإنكاح الأيامى والرقيق
(4)
.
واعترض عليه: بأن الآية الأولى مترددة بين أن تكون خطاباً للأولياء أو لأولي الأمر، ثم هو خطاب بالمنع، والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء
(1)
انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/ 411، 412.
(2)
سورة البقرة، الآية (221).
(3)
سورة النور، الآية (32).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 69؛ مجموع الفتاوى 32/ 132؛ فتح الباري 9/ 101؛ سبل السلام 3/ 234.
وغيرهم
(1)
.
وأما الآية الثانية فقيل: إن الخطاب في قوله: (وأنكحوا) للأزواج، فلا يكون فيها دليل لاعتبار الوليّ في النكاح ولا نفيه
(2)
.
وأجيب عنه: بأن الخطاب في الآية الأولى إما يكون خطاباً لجميع المؤمنين، فيكون المراد به أنهن لا ينكحهن من إليه الإنكاح من الأولياء، وإما يكون الخطاب للأولياء ومنهم الأمراء عند فقدهم أو عضلهم، لما سبق من الحديث:(فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له). فعلى التقديرين يكون اختيار الإنكاح إلى الأولياء لا إلى النساء
(3)
.
أما القول بأن الخطاب في الآية خطاب بالمنع، والمنع بالشرع فيستوي فيه الأولياء و غيرهم. فهو قول ساقط؛ لأن المنع بالشرع هنا للأولياء الذين يتولون العقد إما جوازاً كما يقوله الحنفية، أو شرطاً كما يقوله غيرهم، فالأجنبي بمعزل عن المنع؛ لأنه لا ولاية له على بنات زيد مثلاً، فما معنى نهيه عن شيء ليس من تكليفه، فهذا تكليف يخص الأولياء، فهو كمنع الغني عن السؤال
(4)
.
أما الاعتراض على الاستدلال من الآية الثانية فيجاب عنه: بأن الخطاب فيها للأولياء لا للأزواج؛ لأنه لو أراد الأزواج لقال: (وانكحوا) بألف
(1)
انظر: بداية المجتهد 3/ 951.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 218.
(3)
انظر: سبل السلام 3/ 234.
(4)
انظر: سبل السلام 3/ 235.
الوصل
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
(2)
.
رابعاً: عن الحسن قال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها. فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها؟ لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه
(3)
.
وفي رواية عنه: أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل فطلقها، ثم خلى عنها حتى انقضت عدتها ثم خطبها، فحميَ معقل من ذلك أنَفاً
(4)
فقال: خلى عنها وهو يقدر عليها، ثم يخطبها، فحال بينه وبينها، فأنزل الله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}
[البقرة: 232] إلى آخر
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 218.
(2)
سورة البقرة، الآية (232).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1114، كتاب النكاح، باب من قال لا نكاح إلا بولي، ح (5130).
(4)
أنفاً من أنف، يقال: أنف من الشيء يأنف أنفاً إذا كرهه وشُرفت نفسه عنه. والمراد به هنا أنه أخذته الحمية من الغيرة والغضب. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 83.
الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فترك الحمية و استقاد لأمر الله
(1)
.
هذه الآية والحديث تدلان كذلك على اشتراط الولي؛ لأن قوله: (فلا تعضلوهن) و كذلك الحديث الوارد في سبب نزول الآية يدلان على أن حق إنكاحهن إلى الأولياء وإلا لما كان لعضلهم معنى، ولما نهوا عنه، ولا عوتب معقل على الامتناع، ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها
(2)
.
واعترض عليه: بأن الخطاب في الآية يحتمل أن يكون للأولياء، ويحتمل أن يكون للأزواج، ثم النهي عن العضل لا يدل على حق الولي في إنكاحهن، بل يدل على جواز عقدها؛ لأن معقلاً فعل ذلك فنهاه الله عنه، فبطل حقه في العضل
(3)
.
وأجيب عنه: بأن الخطاب في الآية للأولياء، وأن النهي عن العضل ليس المراد به المنع المطلق، بل المقصود به هو منعهم لهن ضرراً وظلماً. وكلا الأمرين يدل عليه سبب نزول الآية؛ لذلك لا اعتبار للدلالات المخالفة له
(4)
.
خامساً: ما سبق ذكره في دليل قولي بالنسخ، من حديث عائشة، وأبي
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1156، كتاب الطلاق، باب {وبعولتهن أحق بردهن} في العدة وكيف يراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو ثنتين، ح (5331).
(2)
انظر: الأم 5/ 14؛ التمهيد 11/ 30؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 69؛ سبل السلام 3/ 233.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 486.
(4)
انظر: الأم 5/ 13؛ سبل السلام 3/ 233.
موسى الأشعري، وأبي هريرة، وابن عباس-رضي الله عنهم الدال على أنه لا نكاح إلا بوليّ، وأن النكاح بغير إذن الولي باطل
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث عائشة-رضي الله عنها-متكلم فيه، وباقي الأحاديث تدل على أنه لا نكاح إلا بوليّ، لكن المراد بذلك النفي نفي الكمال لا نفي الصحة؛ وذلك جمعاً بينها وبين الأحاديث الدالة على صحة النكاح بغير الولي كحديث ابن عباس -رضي الله
عنهما-وغيره
(2)
.
وأجيب عنه: بأن حديث عائشة-رضي الله عنها-صححه جماعة من الأئمة
(3)
، وأن المراد بالنفي في تلك الأحاديث نفي الصحة؛ لما يلي:
أ-لحديث عائشة-رضي الله عنها-السابق: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» فإنه يدل على بطلان النكاح بغير إذن الولي
(4)
.
ب-لحديث عائشة-رضي الله عنها-التالي؛ فإنه يدل على بطلان جميع أنواع الأنكحة سوى النكاح الذي يخطب فيه الرجل إلى الرجل وليته
(1)
انظر: الأم 5/ 14، 21؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 70، 71؛ المغني 9/ 345؛ سبل السلام 3/ 228 - 230، 233.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 487؛ المبسوط 5/ 15؛ بدائع الصنائع 2/ 516؛ فتح القدير 3/ 260.
(3)
وممن صححه أو حسنه: يحيى بن معين، والترمذي، وأبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم. انظر: المستدرك 2/ 182؛ المحلى 9/ 30؛ فتح الباري 9/ 110؛ سبل السلام 3/ 229.
(4)
انظر: الأم 5/ 14؛ تحفة الأحوذي 4/ 235.
فيصدقها ثم ينكحها
(1)
.
سادساً: عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها. ونكاح الآخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها
(2)
: أرسلي إلى فلان فاستبضعي
(3)
منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي استبضعت منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهُنّ البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً لمن أرادهن دخل
(1)
انظر: فتح الباري 9/ 101.
(2)
الطمث الحيض. النهاية في غريب الحديث 2/ 122.
(3)
استبضعي استفعال من البضع، وهو يطلق على النكاح والجماع، وعلى الفرج. والمراد به هنا الجماع. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 139.
عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمعوا لها ودعوا لهم القافة
(1)
، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطته
(2)
به ودُعي ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم)
(3)
.
وهذا الحديث كذلك مما يدل على اشتراط الولي؛ لأنه يدل على بطلان جميع أنواع الأنكحة سوى النكاح الذي يخطب فيه الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها
(4)
.
سابعاً: عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها، أو ذي الرأي من أهلها، أو السلطان)
(5)
.
وعن عكرمة بن خالد
(6)
: (أن الطريق جمعت ركباً، فجعلت امرأة
(1)
القافة جمع قائف، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبَه الرجل بأخيه وأبيه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 500.
(2)
التاطته، هو من لطئ، يقال: لطئ بالأرض ولطأ بها إذا لزق والتصق. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 600.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1114، كتاب النكاح، باب من قال لا نكاح إلا بولي، ح (5127).
(4)
انظر: فتح الباري 9/ 103؛ سبل السلام 3/ 234.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 415، والدارقطني في سننه-واللفظ له- 3/ 229، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 180. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 250:(رجاله ثقات ولكنه منقطع أيضاً بين سعيد وعمر).
(6)
هو: عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام، المخزومي، القرشي، ثقة، روى عن أبي هريرة وابن عباس، و غيرهما، وروى عنه: ابن جريج، وقتادة، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 224؛ التقريب 1/ 685.
ثيب أمرها إلى رجل من القوم غير وليّ، فأنكحها رجلاً، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجلد الناكح والمنكح، ورد نكاحها)
(1)
.
ووجه الاستدلال منهما كالاستدلال من حديث عائشة وأبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهم.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو أن النكاح لا يصح إلا بإذن الولي، لكن إن تزوجت بغير إذن وليها كان نكاحها موقوفاً على إجازة الولي، فإن أجاز نفذ وإلا فلا- بما يلي:
أولاً: الأحاديث التي جاء فيها أنه لا نكاح إلا بولي، ومنها حديث عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» الحديث
(2)
.
ثانياً: عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة -رضي الله
(1)
أخرجه الشافعي في الأم 5/ 14، وعبد الرزاق في المصنف-واللفظ له- 6/ 199، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 179. قال ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 160:(وفيه انقطاع، لأن عكرمة لم يدرك ذلك). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 249: (فالسند صحيح لولا أنه منقطع، قال أحمد بن حنبل: عكرمة بن خالد لم يسمع من عمر، وسمع من ابنه).
(2)
سبق تخريه في دليل القول بالنسخ.
عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجت حفصة بنت عبد الرحمن، المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يصنع هذا به؟ ومثلي يفتات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير، فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت لأرُدّ أمراً قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقاً)
(1)
.
ووجه الاستدلال منها، هو: أن حديث عائشة-رضي الله عنها وغيره من الأحاديث التي جاء فيها أنه لا نكاح إلا بولي تدل على بطلان النكاح بغير إذن الولي. وما روي من فعلها يدل على أن المرأة إذا نكحت بغير إذن وليها، وأجاز الوليّ ذلك النكاح فإنه ينفذ وإلا فلا
(2)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال مما روي عن عائشة رضي الله عنها من فعلها في مناقشة وجه الاستدلال منه في أدلة القول الأول.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو أن البكر لا يزوجها إلا وليها، والثيب لها أن تتزوج بغير إذن وليها- بحديث ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأيِّم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
انظر: بدائع الصنائع 2/ 514، 517.
صُماتها»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للوليّ مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر وصمتها إقرارها»
(2)
.
ووجه الاستدلال منه هو: أن هذا الحديث يدل على الفرق بين الثيب والبكر، وأن الثيب ليس للوليّ معها أمر، فيكون الوليّ شرطاً في نكاح البكر لا نكاح الثيب؛ لأن الثيب أحق بنفسها من وليها
(3)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأن المراد بقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها) هو أنها أحق من وليها بالرضا، أي أنها لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر فإن سكوتها إذنها، وليس المراد بذلك نفي ولاية الولي عليها في النكاح
(4)
.
ب- إن الأحاديث التي تدل على اشتراط الولي عامة كقوله: (لا نكاح إلا بولي) وقوله: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)، فهي تشمل الثيب والبكر
(5)
.
ويدل على أن الثيب في ذلك مثل البكر حديث معقل بن يسار رضي الله عنه؛
(1)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول الأول.
(3)
انظر: المحلى 9/ 35؛ التمهيد 11/ 36؛ بداية المجتهد 3/ 952.
(4)
انظر: سنن الترمذي ص 262؛ المحلى 9/ 36؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 70؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 321؛ فتح الباري 9/ 111، 113؛ تحفة الأحوذي 4/ 254 ..
(5)
انظر: المحلى 9/ 35؛ التمهيد 11/ 36.
فإن أخته كانت ثيباً، ولو لم يكن له ولاية عليها لذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا ولاية لك عليها؛ لأنها ثيب. فكون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بإنكاحها ويعاتبه بما حصل منه من العضل دليل على أن له ولاية عليها فهي في ذلك كالبكر
(1)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن القول بنسخ ما يستدل منه على اشتراط الولاية في النكاح، وكذلك القول المقابل له كلاهما ضعيفان وغير صحيحين، وذلك لما يلي:
أ-إنه لا يوجد ما يدل على أن أدلة أحد القولين متأخرة على أدلة القول المقابل له. والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر ما يقال بأنه الناسخ، على ما يقال بأنه المنسوخ.
ب-إن القول بالنسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأدلة
(2)
، والأدلة الواردة في هذه المسألة يمكن الجمع بينها، كما سيأتي بيانه.
ثانياً: إن الراجح في المسألة هو قول جمهور أهل العلم، وهو أنه لا نكاح إلا بولي، وأنه بغير الولي باطل، وذلك لما يلي:
أ-لأن أدلة هذا القول أكثر وأقوى في الاستدلال، حتى إن منها ما
(1)
انظر: فتح الباري 9/ 105؛ سبل السلام 3/ 233؛ تحفة الأحوذي 4/ 241.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
هو نص صريح في المسألة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلا بولي» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» . بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.
ب-لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة الواردة في المسألة، وذلك على النحو التالي:
1 -
أن تحمل الأدلة التي جاء فيها إضافة النكاح إلى النساء باعتبار أنهن محله، كقوله تعالى:{حَتَّىفَإِن تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وقوله:{أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . لا لأن لها أن تعقد على نفسها بغير إذن الولي
(1)
.
2 -
أن تحمل الأدلة التي تدل بعمومها على جواز فعل المرأة في نفسها من غير شرط الوليّ، على اختيار الأزواج وغيره، دون عقد النكاح، كقوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ وذلك للأحاديث الدالة على أن عقد النكاح من خصوصيات الأولياء
(2)
.
3 -
أن تحمل الأدلة التي تدل على الفرق بين الثيب والبكر وأن الثيب أحق بنفسها من وليها، كقوله صلى الله عليه وسلم:«الأيِّم أحق بنفسها من وليِّها» ونحوه، على أنها أحق من وليها بالرضا، أي أنها لا تزوج حتى تنطق
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 198، 199؛ سبل السلام 3/ 233.
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 212؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 177.
بالإذن بخلاف البكر فإن سكوتها إذنها؛ وذلك للأحاديث الدالة على اشتراط الوليّ كحديث: «لا نكاح إلا بوليّ» وغيره
(1)
.
فإذا حملت هذه الأدلة على هذه المعاني والاحتمالات فلا تعارض بينها وبين ما يدل على اشتراط الولي كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بوليّ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
بخلاف الأقوال الأخرى، فإنه لا يمكن أن يجمع به بين هذه الأدلة كلها. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة وجب القول بموجبه.
ج- إن الصحابة-رضي الله عنهم-وهم الذين شاهدوا التنزيل وعلموا التأويل-روي عن عدد كبير منهم أنهم كانوا يقولون بأنه لا نكاح إلا بوليّ
(2)
، ولم يصح عن أحد منهم إطلاق القول بصحة النكاح من غير وليّ.
وما روي عن بعضهم ما يدل على الجواز، فإن بعضه غير صحيح، وبعضه غير صريح، وبعضه مجمل أو محتمل، لكنه روي عنه كذلك مع هذا ما يعارضه ويقابله؛ لذلك قال ابن المنذر: إنه لا يعلم عن أحد من الصحابة خلاف ما يدل على أنه لا نكاح إلا بوليّ
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: سنن الترمذي ص 262؛ المحلى 9/ 36؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 70؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 321؛ فتح الباري 9/ 111، 113؛ تحفة الأحوذي 4/ 254 ..
(2)
انظر: المستدرك للحاكم 2/ 188؛ نصب الراية 3/ 184؛ سبل السلام 3/ 228.
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 105؛ سبل السلام 3/ 228.
المطلب الثالث: نكاح المتعة
ذهب جمهور أهل العلم- ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة- إلى عدم جواز نكاح المتعة
(1)
، وأن المتعة كانت مباحة في صدر الإسلام وفي بعض الأوقات، ثم نُسخت وحرمت إلى يوم القيامة
(2)
.
وصرح بعض أهل العلم بأن نسخها مجمع عليه
(3)
.
(1)
نكاح المتعة هو: أن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا، مدة كذا، بكذا من المال. التعريفات الفقهية ص 232.
أو هو: تزويج المرأة إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. فتح الباري 9/ 80.
(2)
انظر: "الآثار لمحمد بن الحسن 1/ 447 - 450؛ شرح معاني الآثار 3/ 24 - 27؛ المبسوط 5/ 148"؛ المعونة 2/ 758؛ التمهيد 11/ 105؛ الاستذكار 4/ 154؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 389؛ القوانين الفقهية ص 159"؛ الأم 5/ 88؛ مختصر المزني ص 235؛ العزيز 7/ 509"؛ المغني 10/ 46، 48؛ الشرح الكبير 20/ 414 - 419؛ شرح الزركشي 3/ 245؛ " المحلى 9/ 127؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 125؛ نيل الأوطار 6/ 187 - 194.
(3)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 80: (فالمسلمون اليوم مجمعون على هذا القول: أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم). وقال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 191، بعد ذكر الاختلاف والأدلة والمناقشة ونهي عمر رضي الله عنه عن المتعة وعدم إنكار أحد الصحابة عليه:(وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة، إذ غير جائز حظر ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق النسخ). وقال السرخسي في المبسوط 5/ 148، بعد ذكر رجوع ابن عباس رضي الله عنه عن القول بالمتعة:(فثبت النسخ باتفاق الصحابة رضي الله عنهم).
وممن روي عنه القول بنسخها أو صرح به: علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
(1)
، وابن مسعود رضي الله عنه
(2)
، وسعيد بن المسيب
(3)
، والإمام الشافعي
(4)
، وأبو عبيد
(5)
، والطحاوي
(6)
، وأبو بكر الجصاص
(7)
، وابن شاهين
(8)
، وابن حزم
(9)
، والحازمي
(10)
، وابن العربي
(11)
، وابن قدامة
(12)
، والنووي
(13)
، وأبو حامد الرازي
(14)
، وأبو إسحاق الجعبري
(15)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ له أثر بارز في الاختلاف في المسألة، كما أن
(1)
انظر: صحيح البخاري ص 1111؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 463؛ التمهيد 11/ 103؛ فتح الباري 9/ 87.
(2)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 456؛ التمهيد 11/ 103.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 337.
(4)
انظر: اختلاف الحديث 1/ 216؛ مختصر المزني ص 235؛ فتح الباري 9/ 84.
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد ص 73.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 26.
(7)
انظر: أحكام القرآن 2/ 190.
(8)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 451.
(9)
انظر: المحلى 9/ 127.
(10)
انظر: الاعتبار ص 426، 427.
(11)
انظر: الناسخ والمنسوخ له ص 135.
(12)
انظر: المغني 10/ 48.
(13)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 90.
(14)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 36.
(15)
انظر: رسوخ الأحبار ص 440.
اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع-رضي الله عنهما-قالا: كنا في جيش فأتانا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه قد أُذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا»
(2)
.
وفي رواية عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس
(3)
، في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها»
(4)
.
ثانياً: عن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الأولى. وانظر: فتح الباري 9/ 81 - 88.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1111، كتاب النكاح، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً، ح (5117، 5118)، ومسلم في صحيحه 5/ 303، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ح (1405)(13).
(3)
عام أوطاس هو عام فتح مكة، وغزوة أوطاس هي غزوة حنين، وكانت فتح مكة في رمضان وغزوة حنين وأوطاس في شوال، وأوطاس واد في ديار هوازن، وفيه عسكر هوازن وثقيف لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: معجم البلدان 1/ 224؛ الرحيق المختوم ص 413؛ أطلس الحديث النبوي ص 55.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 304، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ح (1405)(18).
بالثوب إلى أجل. ثم قرأ عبد الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة المائدة: 87])
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتطول عزبتنا
(2)
، فقلنا: ألا نختصي يا رسول الله! فنهانا، ثم رخص لنا أن نتزوج المرأة إلى أجل بالشيء، ثم نهانا عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية)
(3)
.
ثالثاً: عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن عباس-رضي الله عنهما: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر)
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال:(مهلاً يا ابن عباس! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية)
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 957، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} ، ح (4615)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 302، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1404)(11).
(2)
عزبتنا، هو من العزب والعزوبة، وهوالبعيد عن النكاح. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 199.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 506، وأشار إليه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 338. ورجاله رجال الصحيح.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1111، كتاب النكاح، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً، ح (5115)، ومسلم في صحيحه 5/ 308، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1407)(29).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 309، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1407)(31).
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما كلمه في متعة النساء: إنك امرؤ تائه
(1)
، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء في حجة الوداع»
(2)
.
وفي رواية رابعة عنه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن متعة النساء، ويقول:«هي حرام إلى يوم القيامة»
(3)
.
وفي رواية خامسة عنه رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة» ، وقال:(إنما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل الله عز وجل النكاح، والطلاق، والميراث بين الزوج والمرأة، نُسخت)
(4)
.
رابعاً: عن سبرة الجهني رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أيها
(1)
تائه، من تاه يتيه تيهاً: إذا تحير وضل، وإذا تكبر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 201.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 268: (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح).
(3)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 462.
(4)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 463، والدارقطني في سننه 3/ 260، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 338، والحازمي في الاعتبار ص 428. قال الحازمي:(هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد صح الحديث عن عليّ في هذا الباب من غير وجه، وروى عنه الكوفيون من طرق، وهو أشهر من أن ينكر، وأكثر من أن يحصر). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 268: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات).
الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها)
(2)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أنه حدث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع»
(3)
.
خامساً: عن ابن الشهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: (إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 306، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1406)(21).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 306، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1406)(22).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 315، كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة، ح (2072)، وأحمد في المسند 24/ 54، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 332، والحازمي في الاعتبار ص 428. ونقل ابن عبد البر وغيره عن أبي داود أن هذا الحديث أصح ما روي في ذلك. انظر: التمهيد 11/ 96؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 301. وقال البيهقي بعد ذكر رواية سبرة والتي فيها ذكر التحريم عام الفتح: (ورواه إسماعيل بن أمية عن الزهري، فقال: في حجة الوداع-، ثم ذكر هذه الرواية، ثم قال: -كذا قال، ورواية الجماعة عن الزهري أولى). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 313: (شاذ بهذا اللفظ).
أبصارهم، يفتون بالمتعة. يعرِّض برجل،
فناداه فقال: إنك لجلف
(1)
جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين-يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله
(2)
، أنه بينا هو جالس عند رجل
(3)
، جاءه رجل فاستفتاه في المتعة، فأمره بها، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري
(4)
: مهلاً. قال: ما هي؟ والله لقد فُعلت في عهد إمام المتقين. قال ابن أبي عمرة: (إنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها، كالميتة والدم ولحم الخنزير، ثم أحكم الله الدين ونهى عنها)
(5)
.
سادساً: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما وليَ عمر بن الخطاب
(1)
الجلف: الأحمق. وقيل: الجلف هو الجافي، وهو: الغليظ الطبع القليل الفهم والعلم والأدب لبعده عن أهل ذلك. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 280؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 307.
(2)
هو: خالد بن مهاجر بن خالد بن الوليد، المخزومي القرشي، روى عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، وثور بن يزيد وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 109؛ التقريب 1/ 264.
(3)
وهو ابن عباس رضي الله عنه كما جاء ذكره مصرحاً في رواية عبد الرزاق في مصنفه 7/ 502.
(4)
هو: عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري النجاري، وقيل: اسم أبي عمرة: ثعلبة بن عمرو بن محصن، يقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعده البعض في الصحابة، وروى عن أبيه، وعن عثمان، وغيرهما، وروى عنه: خارجة بن زيد، ومجاهد، وغيرهما. انظر: الإصابة 2/ 1179؛ تهذيب التهذيب 6/ 218؛ التقريب 1/ 585.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 307، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح (1406)(27).
-رضي الله عنه خطب الناس، فقال:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً، ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها بعد إذ حرمها)
(1)
.
سابعاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن متعة النساء، وما كنا مسافحين
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 340، كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح المتعة، ح (1963)، وأخرجه نحوه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 458. وصحح إسناد حديث ابن ماجة ابن حجر في التلخيص 3/ 154، والشوكاني في نيل الأوطار 6/ 193. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 340: (حسن). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 378: (وإسناد حديث ابن عمر فيه مقال، أبو بكر بن حفص اسمه إسماعيل الأبلي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كتبت عنه وعن أبيه، وكان أبوه يكذب. قلت: لا بأس به. قال: لا يمكنك أن تقول لا بأس به. وأبان بن أبي حازم وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن نمير، وغيرهم، وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وضعفه العقيلي
والنسائي).
(2)
مسافحين من السفاح، وهو الزنا. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 780.
(3)
هو في مسند أبي حنفية عن نافع عن ابن عمر ص 196، وأخرجه بهذا اللفظ محمد بن الحسن في كتابه الآثار 2/ 448، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 25، وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 189، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 328. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 268:(رواه الطبراني، وفيه منصور بن دينار وهو ضعيف)، وذكره بلفظ:(نهانا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا مسافحين) ثم قال: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح خلا المعافى بن سليمان وهو ثقة). وذكر ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 154، هذا اللفظ ثم قال:(إسناده قوي). ورواية محمد بن الحسن هو عن أبي حنفية عن نافع عن ابن عمر، فرجاله رجال الصحيح خلا أبي حنفية ومحمد، وهما من الأئمة.
ثامناً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنزل ثنية الوداع
(1)
، فرأى مصابيح ونساء يبكين، فقال:«ما هذا؟» فقيل: نساء تمتع بهن أزواجهن وفارقوهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم (أو هدم
(2)
المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث»
(3)
.
(1)
ثنية الوداع، كانت ثنية مشرفة على المدينة المنورة، وكان يطؤها من يريد مكة، وكانت موضع وداع المسافرين، وقيل لها فيما بعد: القرين التحتاني. انظر: معجم البلدان 2/ 16؛ أطلس الحديث النبوي ص 108.
(2)
في شرح معاني الآثار: (هدر) والتصحيح من صحيح ابن حبان وغيره.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 26، وابن حبان في صحيحه ص 1124، والدارقطني في سننه 3/ 259، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 467، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 337. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 267:(رواه أبو يعلى، وفيه مؤمل بن إسماعيل، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 154: (إسناده حسن). وقال في الفتح 9/ 84: (على أن في حديث أبي هريرة مقالاً، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار، وفي كل منهما مقال). وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6/ 194: (ولا يمنع من كونه حسناً كون في إسناده مؤمل بن إسماعيل؛ لأن الاختلاف فيه لا يخرج حديثه عن حد الحسن إذا انضم إليه من الشواهد ما يقويه كما هو شأن الحسن لغيره). وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/ 1177.
تاسعاً: عن جابر رضي الله عنه يقول: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند
العقبة مما يلي الشام، جئن نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يجلنا في رحالنا، أو قال: يطفن في رحالنا، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهن، فقال:«من هؤلاء النسوة؟» فقلنا: يا رسول الله نسوة تمتعنا منهنّ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وتمعر لونه، واشتد غضبه، فقام فينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم نهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء، ولم نعد ولا نعود لها أبداً، فبها سميت يومئذ ثنية الوداع)
(1)
.
عاشراً: عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} . [سورة النساء: 24]. قال: نسختها {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [سورة الطلاق: 1]
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كانت في أول الإسلام متعة النساء، فكان الرجل يقدم بسلعته البلد، ليس له من يحفظ عليه ضيعته، ويضم إليه متاعه،
(1)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 430. قال ابن حجر في الفتح 9/ 84: (لا يصح، فإنه من رواية عباد بن كثير، وهو متروك). وقال في التلخيص الحبير 3/ 155: (وهذا إسناد ضعيف، لكن عند ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة ما يشهد له).
(2)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 83، وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 185، وأبو جعفر النحاس في الناسخ المنسوخ في القرآن الكريم ص 105، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 2/ 363. ورجال رواية أبي عبيد رجال الصحيح، لكنه مرسل؛ لأن عطاء الخراساني وهو الراوي عن ابن عباس رضي الله عنه لم يسمع منه، كما في تهذيب التهذيب 7/ 184.
فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يقضي حاجته، وقد كانت تُقرأ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ -إلى أجل مسمى- فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} . الآية، حتى نزلت:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [سورة النساء: 23 - 24]. فتركت المتعة، وكان الإحصان إذا شاء طلق وإذا شاء أمسك، ويتوارثان، وليس لهما من الأمر شيء)
(1)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة ظاهر؛ حيث إنها تدل بمجموعها على أن المتعة كانت مباحة في صدر الإسلام، وأبيحت في بعض الغزوات، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وحرمها بعد فتح مكة تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة، وأكد على تحريمها عند الخروج لغزوة تبوك، ثم في حجة الوداع. فكان هذا النهي والتحريم ناسخاً للإباحة السابقة؛ لذلك يحرم نكاح المتعة ولا يباح في حال من الأحوال
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 266، كتاب النكاح، باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، ح (1122)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 335، والحازمي في الاعتبار-واللفظ له- ص 429. قال الحازمي:(هذا إسناد صحيح لولا موسى بن عبيدة، وهو الربذي كان يسكن الربذة). قال ابن حجر في الفتح 9/ 86: (إسناده ضعيف، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها). وقال في التلخيص 3/ 158: (وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي
وهو ضعيف).
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 82؛ شرح معاني الآثار 3/ 24 - 27؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 451 - 471؛ الاعتبار ص 426 - 431؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 125 - 128؛ المغني 10/ 46 - 48؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 300 - 302؛ فتح الباري 9/ 82 - 88.
هذا وقد اختلف بعض أهل العلم القائلين بنسخ نكاح المتعة في موضعين منه: الأول: في تاريخ نسخ المتعة، وهل نسخت مرة أم تكرر نسخها. والثاني: هل هي من ناسخ القرآن ومنسوخه أي بأنها كانت مباحة بالقرآن ثم نسخت به، أم هي من ناسخ الحديث ومنسوخه.
أما الأول: وهو تاريخ نسخ المتعة، فقد اختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال، وهي:
القول الأول: إن المتعة نسخت مرتين؛ حيث إنها كانت مباحة قبل خيبر، ثم نسخت و حرمت يوم خيبر، كما يدل عليه بعض الأحاديث منه حديث علي رضي الله عنه. ثم أبيحت عام فتح مكة، وهو عام أوطاس أيضاً، ثم بعد أيام من الإباحة نسخت وحرمت تحريماً مؤبداً، كما يدل عليه بعض الأحاديث منه حديث سلمة بن الأكوع، وسبرة-رضي الله عنهما.
وهذا القول اختاره بعض أهل العلم منهم: الإمام الشافعي، وابن العربي، والنووي
(1)
.
القول الثاني: إن المتعة نسخت مرة واحدة؛ حيث إنها كانت مباحة قبل عام الفتح ثم عام الفتح بعد الإذن بها أياماً نسخت وحرمت إلى يوم
(1)
واختاره كذلك الشيخ الشنقيطي. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 328؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 135؛ المغني 10/ 47؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 301؛ فتح الباري 9/ 84؛ أضواء البيان 1/ 254.
القيامة، كما يدل عليه بعض الأحاديث منه حديث سبرة رضي الله عنه.
قالوا: وحديث عليّ الذي يدل على تحريمها، فإنه روي بألفاظ مختلفة، والصحيح منه هو الرواية الأولى وهي:(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر). فقوله: (نهى عن المتعة) كلام مكتفياً بما فيه، وزمن خيبر يتعلق بلحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه بغيره من الألفاظ؛ لذلك فلا يكون في حديث عليّ رضي الله عنه دلالة على نسخ المتعة يوم خيبر، بل النهي عنها كان عام فتح مكة، فيكون حديث علي رضي الله عنه موافقاً لحديث سبرة رضي الله عنه.
وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، منهم: سفيان بن عيينة، وأبو عبيد، واختاره ابن القيم
(1)
.
ويعكر على هذا القول: بأنه لا يساعده جميع الروايات لحديث علي رضي الله عنه مع أنها كذلك صحيحة، كما أنه جاءت روايات أخرى عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم غير عليّ رضي الله عنه تدل على أن النهي عنها كان يوم خيبر
(2)
.
القول الثالث: إن المتعة كانت مشروعة في صدر الإسلام وفي حالات أسفارهم؛ لذلك نهاهم عنها غير مرة، ثم أباحها لهم في أوقات
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 75؛ التمهيد 11/ 95؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 301؛ زاد المعاد 3/ 459، 460؛ فتح الباري 9/ 82.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 301؛ فتح الباري 9/ 82؛ أضواء البيان 1/ 254.
مختلفة حتى حرمها عليهم في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم وذلك في حجة الوداع، وكان تحريم تأبيد لا تأقيت، فكان ذلك ناسخاً لما سبقه من الإباحة.
وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، منهم الحازمي
(1)
.
وهذا القول له وجه؛ لأن الأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ تدل على ما يلي:
1 -
إن المتعة كانت مباحة، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وهذا يدل عليه حديث علي، وابن مسعود، وابن عمر-رضي الله عنهم. وهي أحاديث صحيحة.
2 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن عام فتح مكة في المتعة، ثم نهي عنها قبل الخروج منها. وهذا يدل عليه حديث سبرة رضي الله عنه، وهو كذلك حديث صحيح.
3 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها بعد ثلاثة أيام. وهذا يدل عليه حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وهو كذلك صحيح.
4 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وحرمها عند الخروج لغزوة تبوك. وهذا يدل عليه حديث أبي هريرة، وجابر-رضي الله عنهما، وليس فيهما ما يدل على الإذن فيها. وفي إسناد الحديثين كلام، لكن يقوي بعضهما البعض.
5 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة في حجة الوداع، وهذا يدل عليه إحدى رواية كل من حديث علي، وحديث سبرة رضي الله عنهما. وهما حديثان صحيحا الإسناد.
(1)
انظر: الحاوي 9/ 330؛ الاعتبار ص 427؛ فتح الباري 9/ 84.
ثم حديث علي رضي الله عنه ليس فيه ما يدل على الإذن بها. أما حديث سبرة رضي الله عنه فجاء في بعض طرقه الإذن بها ثم النهي عنها. وقد تكلم عليه بعض أهل العلم
(1)
.
6 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وقال:(هي حرام إلى يوم القيامة). وهذا يدل عليه إحدى رواية كل من حديث علي، وحديث سبرة رضي الله عنهما.
ثم حديث علي رضي الله عنه ليس فيه ما يدل على تعين تاريخه. أما حديث سبرة رضي الله عنه فجاء في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حجة الوداع
(2)
، وفي
(1)
قال البيهقي في السنن الكبرى 7/ 331 - بعد ذكر هذه الرواية: (وكذلك رواه جماعة من الأكابر كابن جريج، والثوري، وغيرهما عن عبد العزيز بن عمر، وهو وهم منه، فرواية الجمهور عن الربيع بن سبرة أن ذلك كان زمن الفتح). وقال الشيخ الألباني في الإرواء 6/ 314: (والجواب: أن عبد العزيز هذا قد اضطرب عليه فيه، كما يشعر بذلك التأمل فيما سقته من التخريج لحديثه، فبعضهم ذكر فيه المتعتين، وبعضهم لم يذكر فيه إلا متعة الحج، ولا ذكروا أنها كانت في حجة الوداع، فهذا كله يدل على أنه (أعني عبد العزيز) لم يضبط حديثه، وذلك مما لا يستبعد عنه، فإنه متكلم فيه من قبل حفظه، مع كونه من رجال الشيخين).
(2)
قد تتبعت طرق هذا الحديث، فهو من طريق عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه، ليس فيه إشارة إلى أن ذلك كان عام فتح مكة أو كان في حجة الوداع، وهو أخرجه مسلم وغيره. وهو-أي الحديث- من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه، ليس في بعضه ذكر التاريخ، وهو أخرجه مسلم. وجاء في بعضه أن ذلك كان في حجة الوداع، لكن جاء فيه كذلك الإذن بها ثم النهي عنها، وهو قد أخرجه غير واحد، منهم عبد الرزاق في مصنفه، وأحمد في المسند، والدارمي في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى. وهو-أي الحديث- من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه عن جده، جاء فيه أن ذلك كان عام فتح مكة، وهو أخرجه ابن عبد البر في التمهيد.
بعضه أنه صلى الله عليه وسلم قاله عام فتح مكة
(1)
.
فظاهر هذه الأحاديث يدل على أن الإذن بالمتعة ثم النهي عنها ونسخها وقع عدة مرات
(2)
.
لكن قوله صلى الله عليه وسلم «هي حرام إلى يوم القيامة» إن كان قاله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة فلا يصح الإذن بالمتعة بعد ذلك؛ لأنه يدل على تأبيد التحريم إلى يوم القيامة، لذلك فلا يكون بعد ذلك إباحة لها
(3)
.
أما إن كان صلى الله عليه وسلم قاله في حجة الوداع، ولم يقله قبل ذلك فليس ما يمنع من الإذن بها بعد ذلك، ومجرد النهي عنها ليس دليلاً على المنع التأبيدي؛ لأن النهي عنها قد ثبت يوم خيبر ثم ثبت الإذن بها عام فتح مكة، ثم نهى عنها صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
أما الثاني، وهو هل نسخ المتعة من ناسخ القرآن ومنسوخه أم من ناسخ الحديث ومنسوخه، فقد اختلف فيه أهل العلم كذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن المتعة كانت مباحة بالقرآن، وذلك في قوله تعالى: {فَمَا
(1)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 11/ 95، وأشار إليه ابن حجر في الفتح 9/ 83.
(2)
انظر: الاعتبار ص 427؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 126.
(3)
انظر: صحيح ابن حبان ص 1124؛ فتح الباري 9/ 83؛ أضواء البيان 1/ 253، 254.
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}.
(1)
فإن المراد به نكاح المتعة؛ لذلك قرأه أبي بن كعب، وابن عباس-رضي الله عنهم-وسعيد بن جبير:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ -إلى أجل مسمى- فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}
(2)
، ثم نسخت بالقرآن، فروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة» ، وقال:(إنما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل الله عز وجل النكاح، والطلاق، والميراث بين الزوج والمرأة، نُسخت)
(3)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إن الله حرم (أو هدم) المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث»
(4)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (نسخها الطلاق والعدة والميراث)
(5)
.
وقال سعيد بن المسيب: (نسخها الميراث)
(6)
.
وروي كذلك نسخ المتعة بالقرآن عن: عائشة، وابن عباس-رضي الله
(1)
سورة النساء، الآية (24).
(2)
انظر: جامع البيان 4/ 2360، 2361؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 125.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 505؛ وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 79.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 505، والنحاس في ناسخ القرآن ومنسوخه ص 106.
عنهم-والقاسم بن محمد، وسالم، وعروة. ونسبه القرطبي إلى الجمهور
(1)
.
القول الثاني: إن المتعة دل على إباحتها ثم نسخها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي من ناسخ الحديث ومنسوخه، وليست من ناسخ القرآن ومنسوخه.
وقد سبق جملة من الأحاديث الدالة على إباحتها ثم نسخها.
قالوا: وأما قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} .
(2)
فليس المراد به نكاح المتعة، بل المراد به عقدة النكاح، وهو النكاح الشرعي الذي يكون بإذن الولي وشاهدين، والمراد بأجورهن الصدقات والمهور، وسياق الآية الكريمة يدل على هذا المعنى.
روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو قول الحسن، ومجاهد، ونسبه ابن الجوزي إلى الجمهور
(3)
.
قالوا: أما القراءة التي جاء فيها: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ -إلى أجل
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105؛ الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه للقيسي المكي ص 221؛ الناسخ والمنسوخ لابن خزيمة ص 284؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 134؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 125.
(2)
سورة النساء، الآية (24).
(3)
انظر: جامع البيان 4/ 2360؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 186؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 106؛ الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 222؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 135؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 125؛ نواسخ القرآن 2/ 362؛ أضواء البيان 1/ 253.
مسمى- فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}، فهي قراءة شاذة لا اعتبار لها ولا ينبني عليها حكم
(1)
.
القول الثالث: إن المتعة كانت مباحة بالسنة، ثم حرمت ونسخت بالقرآن والسنة.
وقد سبق في دليل القول بالنسخ ما يدل على نسخها بالكتاب والسنة، من حديث علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وسبرة، وغيرهم-رضي الله عنهم.
وإلى هذا ذهب الإمام الشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو جعفر النحاس
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة المتعة.
روي ذلك عن بعض الصحابة وبعض التابعين، ثم رجعوا عن قولهم ذلك إلا من شذ منهم، فكان كالإجماع على تحريمها
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 186؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 135؛ أضواء البيان 1/ 253.
(2)
انظر: مختصر المزني ص 235؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 80؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 106.
(3)
وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على تحريم المتعة. انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 80 - 83؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 185 - 191؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 136؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 300؛ فتح الباري 9/ 87. وقد أخطأ ابن حزم؛ حيث قال في المحلى 9/ 129: (وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف-رضي الله عنهم-منهم من الصحابة-رضي الله عنهم: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد الخدري، وسلمة، ومعبد أبنا أمية بن خلف. ورواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر، وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر). وإنما هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم-بعضهم رووا حديث إباحة المتعة، وليس فيه ما يدل على أنه كان يجيزها بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم لم يبلغه النسخ، فلما نهى عنها عمر رضي الله عنه وبين حرمتها لهم نهوا عن قولهم ذلك و رجعوا عنها إلا ابن عباس رضي الله عنه فإنه اختلف الرواية عنه، فقيل: رجع عن قوله. وقيل: إنما كان رأيه إباحتها للمضطر لا لغيره. وقيل: كان رأيه إباحتها مطلقاً. ونحو هذا قاله وذكره غير واحد من أهل العلم؛ ولذلك رد ابن حجر في فتح الباري 9/ 88، ونبه على خطأ قول ابن حزم هذا. ونبهت أنا كذلك على خطأ قوله حتى لا يغتر به أحد، والله أعلم.
قال أبو عبيد: (فالمسلمون اليوم مجمعون على هذا القول: أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم، ثم نسخها الكتاب والسنة، على ما ذكرناه في هذه الأحاديث، ولا نعلم أحداً من الصحابة كان يترخص فيها، إلا ما كان من ابن عباس فإنه كان ذلك معروفاً من رأيه، ثم بلغنا أنه رجع عنه-إلى أن قال: -وأما قول أهل العلم اليوم جميعاً من أهل العراق، وأهل الحجاز، وأهل الشام، وأصحاب الأثر، وأصحاب الرأي وغيرهم: أنه لا رخصة فيها لمضطر ولا لغيره، وأنها منسوخة حرام على ما ذكرنا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع أنه قد روي عن ابن عباس شيء شبيه بالرجوع عن
قوله الأول)
(1)
.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في ذلك ثلاثة أقوال على النحو التالي:
القول الأول: إن المتعة مباحة مطلقاً.
وهذا قد ثبت عنه وصح، فقد سبق في أدلة القول بالنسخ في رواية الزهري أنه جاءه رجل فاستفتاه في المتعة، فأمره بها، وقال:(والله لقد فُعلت في عهد إمام المتقين)
(2)
.
القول الثاني: إنها تباح عند الضرورة.
وهذا ثابت عنه كذلك
(3)
، فعن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال له مولىً له:(إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم)
(4)
.
القول الثالث: إنها محرمة ولا تجوز مطلقاً.
وقد روي عنه رضي الله عنه ما يدل على هذا، لكنه لم يثبت عنه صراحة
(5)
.
ومما يدل على قوله هذا ما روي عنه أنه قال في قوله تعالى: {فَمَا
(1)
الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 80 - 82.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 502؛ التمهيد 11/ 100، 105؛ فتح الباري 9/ 87؛ إرواء الغليل 6/ 319.
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 85؛ إرواء الغليل 6/ 319.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1111، كتاب النكاح، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً، ح (5116).
(5)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 82، 83؛ التمهيد 11/ 105؛ فتح الباري 9/ 85؛ إرواء الغليل 6/ 319.
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. قال: نسختها {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
(1)
.
الراجح
والراجح بلا شك هو القول بتحريم نكاح المتعة ونسخها؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لأن كل مرة ثبت الإذن بإباحة المتعة فإنه جاء بعده النهي عنها، كما ذكر ذلك في حديث ابن مسعود، وسلمة بن الأكوع، وسبرة-رضي الله عنهم. وهو دليل صريح على نسخها وتحريمها.
ثانياً: إن حديث سبرة، وعلي-رضي الله عنهما-جاء فيهما قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة» ، فهما يدلان على نسخ المتعة وتأبيد تحريمها إلى يوم القيامة
(2)
.
ثالثاً: إن تحريم المتعة وإن كان فيه شيء من الخلاف في الصدر الأول إلا أنه انقرض بعد مدة، وحصل الإجماع على تحريمها، كما صرح به غير واحد من أهل العلم
(3)
.
رابعاً: إن عمر رضي الله عنه لما نهى عن المتعة وبين نسخها وحرمتها، لم ينكر عليه
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/ 126.
(3)
وممن حكى إجماع أهل العلم على تحريمها: أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ص 82، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 27، وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 191، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 105، وابن العربي في الناسخ والمنسوخ ص 136.
أحد حتى ابن عباس رضي الله عنه، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سُئل عن المتعة، فقال: حرام. فقيل له: إن عباس يفتي بها، فقال:(فهلا تزمزم بها في زمن عمر)
(1)
.
وقد نهى عنها عمر على المنبر وبين حرمتها ونسخها، كما سبق ذكره في حديث ابن عمر رضي الله عنه، فلو كان عند أحد دليل على إباحتها بعد النهي الأخير لذكره ولأنكر على عمر رضي الله عنه قوله ذلك.
خامساً: إن كتاب الله تعالى يدل على تحريم المتعة، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}
(2)
.
فإن من ابتغى غير ما زوَّجَه الله أو ملَّكه فقد عدا، ونكاح المتعة ليست واحدة منهما
(3)
.
والله أعلم.
(1)
قال ابن عبد البر في الاستذكار 4/ 513: (ذكره أبو بكر، قال: حدثني عبدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر-فذكره-).
(2)
سورة المؤمنون، الآيات (5 - 7).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 187؛ التمهيد 11/ 1022.
المطلب الرابع: حكم العزل
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز العزل
(1)
، وأن ما يدل على عدم جوازه فإنه منسوخ.
وممن صرح به: الطحاوي
(2)
.
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز العزل، لا عن حرة، ولا عن أمة، وأن ما ورد مما يدل على إباحته فإنه قد نسخ
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة. كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في مفهوم تلك الآثار سبب آخر لاختلافهم فيها
(4)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم جواز العزل بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل)
(5)
.
(1)
العزل هو: أن يجامع فإذا جاء وقت الإنزال نزع فأنزل خارج الفرج. التعريفات الفقهية ص 146. وانظر: المغني 10/ 228.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار-3/ 625؛ فتح الباري 9/ 257؛ عمدة القاري 14/ 182؛ نيل الأوطار 6/ 277. وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 188: (والظاهر أنه منسوخ).
(3)
انظر: المحلى 9/ 223.
(4)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: المعونة 2/ 860؛ المغني 10/ 228 - 230؛ روضة الطالبين ص 1248؛ فتح القدير 3/ 400.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1131، كتاب النكاح، باب العزل، ح (5209)، ومسلم في صحيحه 5/ 360، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1440)(136).
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا)
(1)
.
ثانياً: عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا
(2)
، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال:«اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها» ، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: «قد أخبرتك أنه سيأتيها
ما قدر لها»
(3)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله إنا كنا نعزل، فزعمت اليهود أنها الموءودة
(4)
الصغرى، فقال:«كذبت يهود، إن الله إذا أراد أن يخلقه لم يمنعه»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 360، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1440)(138).
(2)
السانية: الناقة التي يستقى عليها. النهاية في غريب الحديث 1/ 818.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 359، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1439)(134).
(4)
الموءودة من الوأد، يقال: وأد بنته يئدها إذا دفنها حية. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 816؛ القاموس المحيط ص 292.
(5)
أخرجه الترمذي في سننه ص 269، كتاب النكاح، باب ما جاء في العزل، ح (1136)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 140. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 269.
رابعاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبياً فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أو إنكم لتفعلون؟ -قالها ثلاثاً-ما من نسمة
(1)
كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بلمصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا عليكم أن لا تفعلوا. ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون»
(3)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه قال: ذُكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ولم يفعل ذلك أحدكم؟ (ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها»
(4)
.
وفي رواية رابعة عنه رضي الله عنه يقول: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟
(1)
النسمة: النفس والروح. النهاية في غريب الحديث 2/ 737.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1131، كتاب النكاح، باب العزل، ح (5210)، ومسلم في صحيحه 5/ 357، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1438)(137).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 357، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1438)(125).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 359، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1438)(132).
فقال: «ما من كل الماء يكون منه الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء»
(1)
.
خامساً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل
عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موءودة الصغرى، قال:«كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه»
(2)
.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن اليهود كانت تقول: إن العزل هو الموءودة الصغرى، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلق خلقاً لم يمنعه-أحسبه قال-شيء»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 359، كتاب النكاح، باب حكم العزل، ح (1438)(133).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 329، كتاب النكاح، باب ما جاء في العزل، ح (2171)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 140، وأحمد في المسند 17/ 389، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 31، وفي شرح مشكل الآثار 3/ 624. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 300:(رواه البزار، وفيه يوسف بن وردان وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات). وقال ابن القيم بعد ذكر إسناد أبي داود في زاد المعاد 5/ 144: (وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكلهم ثقات حفاظ). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 329.
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 300: (رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا إسماعيل بن مسعود، وهو ثقة).
سابعاً: عن جدامة بنت وهب
(1)
، أخت عكاشة-رضي الله عنها-قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة
(2)
، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً»، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذلك الوأد الخفي»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث غير حديث جدامة-رضي الله عنها-تدل على جواز العزل، وحديثها يدل على كراهته، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحديثها؛ لأن في حديث جابر وأبي سعيد-رضي الله عنهما-أن اليهود كانت تزعم أن العزل هو الوأد الخفي، فكان ذلك من قولهم، فيحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن حكم العزل؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم مأموراً باتباع هداية من قبله من الأنبياء، فذكروا له أنه الوأد الخفي، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من سأله، وقد كان اليهود أخبروه بذلك فكذبوه، ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشريعته، وبين له كذب اليهود، فلما سأله الصحابة بعد ذلك أخبرهم بجواز العزل وأن القول بأنه الوأد الخفي من كذب اليهود، فيكون حديث جدامة-رضي الله عنها قاله صلى الله عليه وسلم على وفق ما كان عليه الأمر أولاً من
(1)
هي: جدامة بنت وهب، وقيل: بنت جندل، الأسدية، أخت عكاشة بن محصن لأمه، أسلمت قديماً بمكة، وهاجرت إلى المدينة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عائشة-رضي الله عنها. انظر: الإصابة 4/ 2452؛ تهذيب التهذيب 12/ 356.
(2)
الغيلة بالكسر: اسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع. النهاية في غريب الحديث 2/ 334.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 362، كتاب النكاح، باب جواز الغيلة، ح (1442)(141).
موافقة أهل الكتاب فيما لم يوح إليه، ثم أعلمه الله بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه، فتكون أحاديث الجواز بعده، وتكون ناسخة لحديث جدامة-رضي الله عنها
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجزم بشيء تبعاً لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه
(2)
.
ب- إنه لا دليل يدل على تأخر أحد الحديثين على الآخر، حتى يكون ناسخاً له، و النسخ لا بد فيه من ذلك
(3)
.
ج- إنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث بوجوه منها: حمل ما يدل على النهي على الكراهة التنزيهية، وحمل ما يدل على خلافه على الجواز. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها
(4)
.
دليل من قال بنسخ ما يدل على جواز العزل
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على جواز العزل، بنفس الأحاديث السابقة في دليل القول السابق.
ويستدل منها على النسخ: بأن تلك الأحاديث غير حديث جدامة
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي-تحفة الأخيار-3/ 617، 625؛ فتح الباري 9/ 250؛ التلخيص الحبير 3/ 188؛ عمدة القاري 14/ 182؛ نيل الوطار 6/ 277؛ تحفة الأحوذي 4/ 319.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 250؛ نيل الأوطار 6/ 278.
(3)
انظر: زاد المعاد 5/ 145؛ فتح الباري 9/ 250؛ نيل الأوطار 6/ 277.
(4)
انظر: الاعتبار ص 495؛ زاد المعاد 5/ 145؛ فتح الباري 9/ 250.
-رضي الله عنها-تدل على جواز العزل، وحديثها يدل على تحريمه، فتكون تلك الأحاديث منسوخة بحديثها؛ لأن تلك الأحاديث توافق أصل الإباحة، وحديث جدامة ناقل عن الأصل فيكون ناسخاً لها
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-الاعتراضين الأخيرين اللذين اعترض بهما على وجه استدلال القول السابق.
ب- إن مجرد نقل حكم الشيء عن الإباحة السابقة لا يسمى نسخاً له، حتى يوجد ما يدل على أن الإباحة التي نقل منها كان حكماً شرعياً، فمثلاً زيارة القبور كان على الإباحة الأصلية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولم يجعل أحد ذلك النهي بنسخ للإباحة السابقة، ثم لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها، صار النهي السابق منسوخاً به.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم العزل على أربعة أقوال: -
القول الأول: يجوز العزل، لكن لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
. وروي الرخصة فيه عن: عليّ،
(1)
انظر: المحلى 9/ 223؛ زاد المعاد 5/ 145.
(2)
انظر: كتاب الآثار لمحمد 2/ 463؛ شرح معاني الآثار 3/ 31، 35؛ مختصر القدوري ص 241؛ فتح القدير 3/ 401؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/ 251.
(3)
انظر: المعونة 2/ 860؛ التمهيد 11/ 335؛ مختصر خليل وشرحه مواهب الجليل 5/ 132، التاج والإكليل 5/ 133.
وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي-رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعطاء، والنخعي
(1)
.
القول الثاني: يكره العزل مطلقاً، ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها.
وهو مذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
وروي كراهته عن: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر-رضي الله عنهم
(4)
.
القول الثالث: يحرم العزل مطلقاً.
وهو قول ابن حزم
(5)
.
القول الرابع: يجوز العزل مطلقاً.
وهو قول بعض أهل العلم
(6)
.
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 144 - 148؛ المحلى 9/ 223؛ التمهيد 11/ 334، 335؛ المغني 10/ 229؛ زاد المعاد 5/ 142.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 372 - 378؛ البيان 9/ 507؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 356؛ روضة الطالبين ص 1248.
(3)
انظر: المغني 10/ 228، 230؛ الشرح الكبير 21/ 391؛ الفروع 8/ 388؛ الإنصاف 21/ 392.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 147؛ المغني 10/ 228.
(5)
انظر: المحلى 9/ 222.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 30.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو جواز العزل لكنه لا يكون عن الحرة إلا بإذنها-بما يلي:
أولاً: الأحاديث التي سبق ذكره في دليل القول بالنسخ غير حديث جدامة-رضي الله عنها.
ثانياً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولداً أو ليخرج منها، وليخلقن الله تبارك وتعالى نفساً هو خالقها»
(1)
.
ثالثاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)
(2)
.
رابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 299: (رواه أحمد والبزار، وإسنادهما حسن). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 248: (وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس-فذكره ثم قال: -وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس، وفي الأوسط له عن ابن مسعود).
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 334، كتاب النكاح، باب العزل، ح (1928)، وأحمد في المسند 1/ 339، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 377. قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 276:(هذا إسناد ضعيف، لضعف عبد الله بن لهيعة).
الأمة)
(1)
.
خامساً: عن عبد الله بن عدي بن الخيار
(2)
، قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر:(قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟)
إذ تناجى رجلان، فقال عمر:(ما هذه المناجاة؟) قال: إن اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى، قال علي:(إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى أخر الآية [سورة المؤمنون: 12].)
(3)
.
وعن رفاعة رضي الله عنه
(4)
، قال: جلس إلى عمر عليّ والزبير، وسعد-رضي الله عنهم-في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى، فقال عليّ رضي الله عنه: (لا تكون
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 143. وذكر ابن حجر في الفتح 9/ 249: أن سنده صحيح.
(2)
هو: عبد الله بن عدي بن الخيار بن عدي، القرشي النوفلي، عده البعض من الصحابة، وخطأه ابن حجر.
انظر: الإصابة 2/ 1210، 1428، 1498.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 32، وذكر ابن عبد البر في التمهيد 11/ 336، عن علي رضي الله عنه قوله أن العزل هو الوأد الخفي، ثم قال:(وقد صح عن علي خلاف هذا-ثم ذكر نحو رواية الطحاوي-).
(4)
هو: رفاعة بن رافع بن مالك بن عجلان، أبو معاذ الأنصاري الخزرجي الزرقي، شهد العقبة وبدراً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: أبناه: عبيد، ومعاذ، وغيرهما، وتوفي في أول خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 592؛ تهذيب التهذيب 3/ 251؛ التقريب 1/ 302.
موءودة حتى تمر عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة
(1)
، ثم تكون مضغة
(2)
، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر)، فقال عمر رضي الله عنه:(صدقت أطال الله بقاءك)
(3)
.
سادساً: عن عطاء أن رجلاً قال لابن عباس: إن ناساً يرون أنها الموءودة الصغرى، يعني العزل، فقال:(سبحان الله، تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، فقال: بيده فجمع أصابعه ثم مدها في السماء، وقال: العزل قبل هذا كله، كيف يكون موءودة؟ ثم ينفخ فيه الروح، فيكون العزل قبل هذا كله)
(4)
.
فهذه الأدلة بعضها يدل على جواز العزل، وبعضها يدل على جوازها لكن بإذن الحرة،
فيثبت من مجموعها جواز العزل، وأن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها
(5)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث تدل على جواز العزل، لكن في بعضها إشارة إلى الكراهة، كما أن هناك من الأدلة ما يدل على كراهته،
(1)
العلقة: قطعة الدم المتعقد. النهاية في غريب الحديث 2/ 247.
(2)
المضغة: القطعة من اللحم قدر ما يمضغ. النهاية في غريب الحديث 2/ 664.
(3)
قال ابن القيم في زاد المعاد 5/ 145: (وقد اتفق عمر وعلي-رضي الله عنهما-على أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده، عن عبيدة بن رفاعة عن أبيه قال-فذكره-). وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 32، نحوه لكن في إسناده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 145. ورجاله ثقات.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 31 - 35؛ التمهيد 11/ 334 - 336؛ زاد المعاد 5/ 140 - 146.
لذلك يكون القول بالجواز مع الكراهة أولى جمعاً بين الأدلة
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو كراهة العزل، وأنه لا يكون عن الحرة إلا بإذنها- بما يلي:
أولاً: الأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول السابق.
ثانياً: حديث جدامة-رضي الله عنها، وقد سبق ذكره في دليل القول بالنسخ.
ثالثاً: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكره عشرة خلال: الصفرة-يعني الخلوق-وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب
(2)
، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم
(3)
، وعزل الماء لغير أو غير محله أو عن محله، وفساد الصبي، غير محرمه)
(4)
.
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 378؛ المغني 10/ 228 - 230؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 356؛ زاد المعاد 5/ 143؛ فتح الباري 9/ 250.
(2)
الكعاب: فصوص النرد، واحدها كعب وكعبة. النهاية في غريب الحديث 2/ 545.
(3)
التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم. النهاية في غريب الحديث 1/ 196.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 628، كتاب الخاتم، باب ما جاء في خاتم الذهب، ح (4222)، وأحمد في المسند 6/ 92، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 378. وفي إسناده عبد الرحمن بن حرملة الراوي عن ابن مسعود، قال البخاري في الضعفاء الصغير ص 73: (عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود، روى عنه القاسم بن محمد بن حسان، لا يصح حديثه). والحديث قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 556: (وهذا منكر). وكذلك قال الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 628: (منكر).
رابعاً: عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال:«لا» ، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال:
«تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم»
(1)
.
خامساً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غشي الرجل أهله فليصدقها، فإن قضى حاجته ولم تقض حاجتها فلا يعجلها»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن الأدلة التي سبقت في دليل القول السابق تدل على جواز العزل، لكن حديث جدامة وابن مسعود-رضي الله عنهما-ظاهران في النهي عنه، فيحملان على الكراهة التنزيهية؛ جمعاً بين الأدلة كلها. وحديث معقل وأنس-رضي الله عنهما-كذلك فيهما إشارة إلى كراهة
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 312، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، ح (2050)، والنسائي في سننه ص 499، كتاب النكاح، باب كراهية تزويج العقيم، ح (3227)، والحاكم في المستدرك 2/ 176، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 131. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال عنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 566: (صحيح).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 194. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 298: (رواه أبو يعلى، وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات). وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 71.
العزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في تزويج الولود لتكثير النسل، والعزل مخالف له، ولا يتحقق كمال قضاء حاجتها مع العزل، وحديث أنس رضي الله عنه يدل على عدم العجلة عن قضاء حاجتها. فيثبت من مجموع هذه الأدلة جواز العزل مع الكراهة
(1)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو تحريم العزل مطلقاً- بما سبق ذكره من حديث جدامة رضي الله عنها-وما في معناه؛ فإن حديث جدامة-رضي الله عنها-فيه اعتبار العزل وأداً خفياً، والوأد حرام، فثبت من ذلك حرمة العزل مطلقاً
(2)
.
واعترض عليه: بأن حديث جدامة-رضي الله عنها-ليس صريحاً في المنع؛ إذ لا يلزم من تسميته وأداً خفياً على طريق التشبيه أن يكون حراماً. ثم يمكن الجمع بين حديثها والأحاديث الدالة على الجواز، وذلك بحمل حديثها على الكراهة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة
فإنه لا يصار معه إلى غيره
(3)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو جواز العزل مطلقاً- بما سبق من الأدلة في
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 378؛ المغني 10/ 228 - 230؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 356؛ زاد المعاد 5/ 143؛ فتح الباري 9/ 250؛ نيل الأوطار 6/ 277.
(2)
انظر: المحلى 9/ 223.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 356؛ فتح الباري 9/ 250.
دليل القول بنسخ ما يدل على عدم جواز العزل
(1)
.
ويعترض عليه بما اعترض به على وجه استدلال القول الأول.
الراجح
بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن قولي النسخ في المسألة غير صحيحين؛ وذلك لعدم وجود ما يدل على تأخر دليل أحد القولين على دليل القول الآخر، وإمكان الجمع بين الأدلة كلها، كما سبق بيانه.
ثانياً: إن الراجح هو القول الثاني، وهو جواز العزل مع الكراهة؛ وذلك لأنه يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار معه إلى غيره
(2)
.
ثالثاً: إنه لا تعارض بين حديث جدامة-رضي الله عنها-الدال على أن العزل هو الوأد الخفي، وبين حديث جابر وأبي سعيد-رضي الله عنهما-الدال على تكذيب قول اليهود بأن العزل هو الموءودة الصغرى؛ وذلك لأن الذي كذبت فيه اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم في ذلك، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأداً حقيقة، وإنما سماه وأداً خفياً في
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 30؛ زاد المعاد 5/ 142.
(2)
انظر: فتح الباري 4/ 397.
حديث جدامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل، فأجري قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفاً، فلذلك وصفه بكونه خفياً
(1)
والله أعلم.
(1)
نقل نحو هذا ابن حجر في الفتح 9/ 250، عن ابن القيم. وانظر: زاد المعاد 5/ 145؛ تهذيب السنن 3/ 85.
المطلب الخامس: ضرب النساء
ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهى عن ضرب النساء، ثم أذن في ضربهن ضرباً غير مبرح
(1)
، فكان في ذلك إباحة ضربهن، ونسخاً للنهي عن ضربهن، إلا أن ضربهن خلاف الأولى.
وممن صرح بنحو هذا: الإمام الشافعي
(2)
، والحازمي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
.
وسائر أهل العلم وإن لم يذهبوا إلى القول بالنسخ، أو لم يصرحوا به إلا أنه لا خلاف بينهم جميعاً في أن للرجل ضرب زوجها للتأديب، وإذا نشزت
(5)
، ولم ترتدع بالوعظ والهجران، لكن ضرباً غير مبرح
(6)
.
(1)
مبرح من التبريح، وهو المشقة والشدة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 119.
(2)
ونحوه قول الماوردي، والعمراني. انظر: الأم 5/ 214، 215؛ الحاوي 9/ 600؛ روضة الطالبين ص 1312؛ التلخيص الحبير 3/ 203؛ المجموع شرح المهذب-تكميل المطيعي- 18/ 97.
(3)
هو لم يصرح بالنسخ، لكنه أشار إليه. انظر: الاعتبار ص 433 - 435.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 447 - 448.
(5)
نشزت من النشز، وهو لغة المكان المرتفع. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 743؛ القاموس المحيط ص 474.
والنشوز اصطلاحاً: هو معصيتها إياه فيما يجب عليها. انظر: الإقناع لطالب الانتفاع 3/ 437؛ منتهى الإيرادات 2/ 128.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الأولى والخامسة، وانظر: جامع البيان 4/ 2431 - 2433؛ شرح مشكل الآثار-تحفة الأخيار-4/ 20 - 23؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 236 - 238؛ التمهيد 11/ 295؛ السنن الكبرى للبيهقي 7/ 496 - 498؛ الحاوي 9/ 598 - 600؛ الإفصاح عن معاني الصحاح 2/ 116؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 420 - 321؛ الجامع لأحكام القرآن 5/ 161 - 166؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 102؛ الشرح الكبير للمقدسي 21/ 470 - 475؛ الممتع 5/ 247، 248؛ مجموع الفتاوى 30/ 25؛ تفسير ابن كثير 1/ 466؛ عمدة القاري 14/ 177؛ الإنصاف 21/ 470 - 473؛ روح المعاني 4/ 37، 38؛ نيل الأوطار 6/ 296 - 297.
ويستدل لما سبق بما يلي:
(1)
.
ثانياً: حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» الحديث
(2)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن زمعة
(3)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجلد أحدكم
(1)
سورة النساء، الآية (34).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 102، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح (1218)(147).
(3)
هو: عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد، القرشي الأسدي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابنه أبو عبيدة، وعروة، وغيرهما، واستشهد يوم الدار مع عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة 2/ 1050؛ تهذيب التهذيب 5/ 195؛ التقريب 1/ 493.
امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم»
(1)
.
رابعاً: عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب
(2)
، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن
(3)
النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1130، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء، ح (5204)، ومسلم في صحيحه 9/ 123، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، ح (2855)(49).
(2)
هو: إياس بن عبد الله بن أبي ذباب الدوسي، من أهل مكة، مختلف في صحبته، وروى عنه عبد الله، وقيل: عبيد الله بن عبد الله بن عمر. انظر: الإصابة 1/ 101؛ تهذيب التهذيب 1/ 354؛ التقريب 1/ 114.
(3)
ذئرن أي نشزن، واجترأن. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 597.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 325، كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، ح (2145)، وابن ماجة في سننه ص 343، كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح (1985)، والدارمي في سننه 2/ 198، وابن حبان في صحيحه ص 1135، والحاكم في المستدرك 2/ 205، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 496، والحازمي في الاعتبار ص 434. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وصححه كذلك ابن حبان كما في فتح الباري 9/ 243، والشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 325.
خامساً: عن معاوية القشري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت»
(1)
.
سادساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُسأل الرجلُ فيما ضرب امرأته»
(2)
.
سابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن رجالاً استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب النساء، فأذن لهم، فسمع صوتاً، فقال:«ما هذا؟» فقالوا: أذنت للرجال في ضرب النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 325، كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها، ح (2142)، وابن ماجة في سننه ص 322، كتاب النكاح، باب حق المرأة على الزوج، ح (1850)، وأحمد في المسند 33/ 213، وابن حبان في صحيحه ص 1129، والحاكم في المستدرك 2/ 205، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 482. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 325: (حسن صحيح).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 325، كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، ح (2146)، وابن ماجة في سننه ص 343، كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح (1986)، وأحمد في المسند 1/ 275، والحاكم في المستدرك 4/ 194، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 497. قال الحاكم:(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 99 - بعد ذكر سنده-: (وهذا سند ضعيف من أجل المسلمي هذا، قال الذهبي: "لا يعرف إلا في هذا الحديث، تفرد عنه داود بن عبد الله الأودي". وقال الحافظ: "مقبول").
خيركم لأهله»
(1)
.
ثامناً: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «وانفق على عيالك من طولك،
ولا ترفع عنهم عصاك أدباً، وأخِفْهم في الله»
(2)
.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة هو: أن الآية الكريمة تدل على جواز ضرب النساء عند نشوزهن.
والأحاديث المذكورة بعدها جاء في بعضها النهي عن ضرب النساء، وأكثرها تدل على جواز ضربهن للتأديب وعند النشوز لكن ضرباً غير مبرح، كما أن بعضها جاء فيه التصريح بأن الرخصة في ضربهن كان بعد النهي عن ضربهن؛ لذلك تكون الأحاديث الدالة على جواز ضربهن ناسخة للنهي عن
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه-مختصراً- ص 342، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، ح (1977)، وأخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح مشكل الآثار 4/ 22، ونحوه ابن حبان في صحيحه ص 1132. وضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 281، فقال: (وإسناد حديث ابن عباس ضعيف، عمارة بن ثوبان ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عبد الحق: ليس بالقوي، فرد ذلك ابن القطان، وقال: إنما هو مجهول الحال). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 342. وذكر ابن حجر في الفتح 9/ 244، أنه شاهد لحديث إياس بن عبد الله، ولم يتكلم عليه بشيء.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 36/ 393. وفي إسناده انقطاع؛ لأن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وهو الراوي عن معاذ رضي الله عنه لم يدركه، لأن معاذ رضي الله عنه توفي سنة سبع عشرة، وعبد الرحمن بن جبير توفي سنة ثمان عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 141؛ التقريب 1/ 564.
ضربهن، وموافقة للآية الكريمة الدالة على جواز ضربهن عند النشوز
(1)
.
هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم القول بالنسخ، ثم جمع بعضهم بين هذه الأدلة بحمل ما يدل على الضرب على الجواز، وما يدل على النهي على الكراهة وعلى خلاف الأولى.
وجمع بعضهم بينها بحمل ما يدل على النهي عن ضربهن على الحال الذي لم يوجد فيه السبب المجوز للضرب، وحمل ما يدل على الضرب عند وجود سببه
(2)
.
الراجح
والذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن ضربهن إن كان المراد بالنهي فيها نهي تنزيه وأنه خلاف الأولى، فالقول بعدم النسخ أولى؛ لأنه أمكن الجمع بين هذه الأدلة كلها، بحمل ما يدل على الضرب على الجواز، وحمل ما يدل على النهي عن خلاف الأولى وعلى الكراهة.
وإن كان المراد بالنهي في هذه الأحاديث نهي تحريم، فيكون هذا النهي
(1)
انظر: الأم 5/ 214، 215؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 236؛ الحاوي 9/ 600؛ البيان 9/ 531؛ الاعتبار ص 433 - 435؛ روضة الطالبين ص 1312؛ رسوخ الأحبار ص 447 - 448؛ فتح الباري 9/ 243 - 244؛ التلخيص الحبير 3/ 203؛ روح المعاني 4/ 37، 38؛ المجموع شرح المذهب 18/ 97.
(2)
انظر: الحاوي 9/ 600؛ روضة الطالبين ص 1312؛ روح المعاني 4/ 37، 38.
منسوخاً بما يدل على جواز ضربهن للتأديب وعند نشوزهن؛ وذلك لما يلي:
أ-لأن الآية الكريمة محكمة وهي تدل على جواز ضربهن عند النشوز.
ب- إن الأحاديث التي تدل على جواز ضربهن متأخرة عن التي تدل على عدم ضربهن؛ بدليل:
1 -
حديث جابر رضي الله عنه فإنه مما يدل على جواز ضربهن، وهو قد قاله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
2 -
إن بعض هذه الأحاديث جاء فيه الرخصة في ضربهن بعد النهي عن ضربهن، فدل ذلك على أن ما يدل على جواز ضربهن متأخر على ما يخالفه.
لكن الذي يقوي احتمال نسخ النهي عن ضربهن ورود لفظ الرخصة والإذن في ضربهن، بعد النهي عن ضربهن. وكف الصحابة-رضي الله عنهم عن ضربهن حين نهوا عنه حتى رُخِّص لهم فيه وأذن.
والله أعلم.
المطلب السادس: مقدار الرضاع المحرم
ذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم يحصل ولو برضعة واحدة، وأن الأحاديث التي جاء فيها عدم التحريم بالرضعتين أو بأقل من خمس رضعات فإنها قد نسخت كما نسخ عدم التحريم بأقل من عشر رضعات.
وقد قال بنحو هذا جماعة من الحنفية، والمالكية، وممن صرح به منهم: الطحاوي
(1)
، وأبو بكر الجصاص الرازي
(2)
، والقاضي عياض
(3)
، والكاساني
(4)
، وابن الهمام
(5)
.
وقال به كذلك طاووس
(6)
. وروى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه
(7)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم يحصل بخمس رضعات، ولا يحصل بأقل منه، وأن ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من عشر رضعات فإنه قد نسخ.
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة الخيار-4/ 114 - 118.
(2)
انظر: أحكام القرآن 2/ 157 - 158.
(3)
انظر: إكمال العلم 4/ 436؛ المفهم للقرطبي 4/ 185؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375.
(4)
انظر: بدائع الصنائع 3/ 406.
(5)
انظر: فتح القدير 3/ 440.
(6)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 467؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 157؛ المحلى 10/ 200.
(7)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 157؛ فتح القدير 3/ 440.
وممن قال بنحو هذا: ابن حزم
(1)
، والنووي
(2)
، وروي ذلك عن عائشة-رضي الله عنها
(3)
.
وذهب أبو إسحاق الجعبري إلى أن ما يدل على التحريم بأقل من خمس رضعات فإنه قد نسخ بالتحريم بخمس رضعات
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن معارضة
عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد، واختلاف ظواهر الأحاديث في ذلك بعضها بعضاً سبب آخر لاختلافهم فيها
(5)
.
ويستدل للقول بحصول التحريم ولو برضعة واحدة، ونسخ ما عدا ذلك بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
(6)
.
ثانياً: عن عقبة بن الحارث
(7)
رضي الله عنه قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة
(1)
انظر: المحلى 10/ 193، 198.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374.
(3)
انظر: صحيح مسلم 5/ 374.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 462.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: بداية المجتهد 3/ 995؛ المغني 11/ 310 - 312.
(6)
سورة النساء، الآية (23).
(7)
هو: عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، القرشي النوفلي، أسلم عام الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن أبي مليكة، وعبيد بن أبي مريم، وغيرهما، وتوفي في خلافة ابن الزبير رضي الله عنه. انظر: الإصابة 2/ 1269؛ تهذيب التهذيب 7/ 206؛ التقريب 1/ 680.
سوداء، فقالت: أرضعتكما. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إني قد أرضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال:«كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ دعها عنك»
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (كان مما نزل من القرآن ثم سقط أن لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات، ثم نزل بعد خمس رضعات)
(2)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»
(3)
.
خامساً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من
الرضاعة. قالت: فقال: «انظرن إخوتكن
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1108، كتاب النكاح، باب شهادة المرضعة، ح (5104).
(2)
أصله في صحيح مسلم، وأخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة- 4/ 107، 114، ونحوه ابن ماجة في سننه ص 336، كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان، ح (1942). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 336.
(3)
سبق تخريجه في ص 1444.
من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة»
(1)
.
سادساً: عن عطاء قال: قال ابن عمر: لما بلغه عن ابن الزبير أنه يأثر عن عائشة في الرضاع أنه قال: لا يحرم منها دون سبع رضعات. قال: (الله خير من عائشة، قال الله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [سورة النساء: 23]، ولم يقل: رضعة ولا رضعتين)
(2)
.
وعن عمرو بن دينار، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه سأله رجل: أتحرِّم رضعة أو رضعتان؟ فقال: (ما نعلم الأخت من الرضاع إلا حراماً)، فقال رجل: إن أمير المؤمنين-يريد ابن الزبير-يزعم أنه لا تحرم رضعة ولا رضعتان، فقال ابن عمر:(قضاء الله خير من قضائك وقضاء أمير المؤمنين)
(3)
.
سابعاً: عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن الرضاع، فقلت: إن الناس يقولون: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان! قال: (قد كان ذاك، فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم)
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1108، كتاب النكاح، باب من قال: لا رضاع بعد حولين، ح (5102)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 5/ 378، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، ح (1455)(32).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 466. وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 468، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 755. وإسناده صحيح.
(4)
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 157: (ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، قال: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس أنه سئل-فذكره).
ثامناً: عن عبد الكريم
(1)
، عن طاوس قال: قلت له: إنهم يزعمون أنه لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات، ثم صار ذلك إلى خمس، فقال طاوس:(قد كان ذلك، فحدث بعد ذلك أمر، جاء التحريم، المرة الواحدة تحرم)
(2)
.
تاسعاً: عن إبراهيم بن عقبة
(3)
، أنه سأل سعيد بن المسيب عن الرضاعة؟ فقال سعيد:(كل ما كان في الحولين، وإن كانت قطرة واحدة، فهو يحرم. وما كان بعد الحولين، فإنما هو طعام يأكله). قال إبراهيم بن عقبة: ثم سألت عروة بن الزبير؟ فقال مثل ما قال سعيد بن المسيب
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الكريمة مطلقة تدل على حصول التحريم بمطلق الرضاع قليله وكثيره، ويدل عليه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه.
(1)
هو: عبد الكريم بن أبي المخارق-قيس- أبو أمية المعلم البصري، ضعيف، روى عن أنس بن مالك، وطاوس، وغيرهما، وروى عنه: ابن جريج، والثوري، ومالك، وغيرهم، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 646؛ تهذيب التهذيب 6/ 330؛ التقريب 1/ 612.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 467. وإسناده صحيح.
(3)
هو: إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش الأسدي المدني، ثقة، روى عن: عروة، وأبي الزناد، وغيرهما، وروى عنه: مالك، والثوري، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 131؛ التقريب 1/ 62.
(4)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 471، ومن طريقه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 4/ 112. وإسناده صحيح.
كما أن حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه، وحديث عائشة في أن الرضاعة يحرم ما يحرم الولادة، وكذلك حديثها في أن الرضاعة من المجاعة، كلها أحاديث مطلقة ليست فيها ما يدل على العدد، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها عدداً مع بيان الحاجة.
فيثبت منه أن الأحاديث التي تدل على عدم حصول التحريم بأقل من ثلاث أو خمس أو عشر، قد كان أولاً ثم نسخ بالآية الكريمة وبهذه الأحاديث. ويدل على تقدم ما يدل على العدد على ما يدل على حصول التحريم بمطلق الرضاع ما يلي:
أ-ما سبق ذكره من حديث عائشة-رضي الله عنها: (كان مما نزل من القرآن ثم سقط أن لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات، ثم نزل بعد خمس رضعات).
وعن سالم قال: زعموا أن عائشة قالت: (لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات، ثم رُدَّ ذلك إلى خمس، ولكن من كتاب الله ما قُبض مع النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فهذا يدل على أن حصول التحريم بخمس سقط ونسخ، كما سقط حصول التحريم بعشر
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 470. وإسناده صحيح.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار 4/ 114 - 116؛ إكمال المعلم للقاضي عياض 4/ 436 - 437؛ المفهم 4/ 185؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 440، 441.
ب-ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وطاوس، من أن ما يدل على حصول التحريم بالمرة الواحدة متأخر على ما يخالفه وناسخ له
(1)
.
ج-أن الراوي لما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من ثلاث رضعات أو خمس رضعات عن عائشة، وعبد الله بن الزبير-رضي الله عنهم هو عروة، وهو لم يقل بمقتضى تلك الروايات، بل الثابت عنه هو القول بأن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم، كما رواه عنه إبراهيم بن عقبة. فيكون عروة مع جلالة قدره وموضعه من العلم لم يدع ما في ذلك عنده عن عائشة أو ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يخالفه، إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده؛ لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لسقط بذلك عدله، وإذا سقط عدله سقطت روايته، فلا يكون أفتى إلا ما هو أولى عنده، وأنه ناسخ
(2)
.
واعترض عليه: بأن الآية الكريمة، وتلك الأحاديث وإن كانت مطلقة، لكن جاءت أحاديث أخرى تبين وتفسر الآية الكريمة وتلك الأحاديث وتقيد مطلقهما. كما أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذكر العدد في بعض الأحاديث يحتمل أنه كان لعلمهم بذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر ووضح بالسنة المقصود للمُطْلقات المذكورة في كتاب الله عز وجل، كبيان وتقيد الرضاعة بسن مخصوص، وبيان مقدار الفدية، ومقادير الصدقات، وبيان مقدار ما يقطع فيه يد السارق. فتقيد
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 157؛ فتح القدير 3/ 440.
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة- 4/ 109 - 114.
مقدار الرضاع المحرم من هذا القبيل
(1)
.
أما الاستدلال على أن الآية الكريمة وتلك الأحاديث متأخرة فتكون ناسخة لما يدل على عدم التحريم بمطلق الرضاع، فيعترض عليه بما يلي:
أولاً: إن الاستدلال من حديث عائشة-رضي الله عنها-على نسخ ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس، غير صحيح؛ لأن المراد من حديثها كما يدل عليه ما جاء صريحاً في روايات أخرى عنها، وما كانت تعمل وتقول به، هو أن عدم حصول التحريم بأقل من عشر رضعات نسخ، بخمس رضعات معلومات، وأن الخمس نسخ لفظه قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن كان مما يقرأ من القرآن؛ لأن بعض الناس لم يبلغهم نسخه. فهو مما نسخ لفظه لا حكمه
(2)
.
ثانياً: إن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وطاوس-لو سلم صحة ذلك عنهما-أنه ليس فيما روي عنهما دليل لا من الكتاب ولا من السنة، يدل على نسخ ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات
(3)
.
على أن ابن عباس رضي الله عنه روي عنه ما يدل على عدم حصول التحريم
(1)
انظر: المحلى 10/ 201؛ المغني 11/ 312؛ مجموع الفتاوى 34/ 43؛ زاد المعاد 5/ 573؛ الشرح الممتع 5/ 196.
(2)
انظر: صحيح مسلم 5/ 374؛ المحلى 10/ 193، 198؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ مجموع الفتاوى 34/ 42؛ الشرح الممتع 5/ 196.
(3)
انظر: المحلى 10/ 200.
برضعة ولا رضعتين. فعن إبراهيم بن عقبة قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرضاع، فقال:(لا أقول كما يقول ابن عباس وابن الزبير، كانا يقولان: (لا تحرم المصة ولا المصتان)
(1)
.
وفي رواية عنه: أنه سأل عروة بن الزبير عن المصة والمصتين، قال:(كانت عائشة-رضي الله عنها لا تحرم المصة ولا المصتين، ولا تحرم إلا عشراً فصاعداً). قال: فأتيت سعيد بن المسيب فسألته عن الرضعة والرضعتين، فقال:(أما إني لا أقول فيها كما قال ابن الزبير وابن عباس-رضي الله عنهم-قال: قلت: كيف كانا يقولان، قال: كانا يقولان: لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا تحرم دون عشر رضعات فصاعداً)
(2)
. فكان قول ابن عباس رضي الله عنه هذا معارضاً لقوله السابق.
ثالثاً: إن الزعم بأن عروة خالف ما رواه، فدل على أنه ترك ذلك لناسخ عنده، فيقال في رده:
(1)
قال ابن حزم في المحلى 10/ 191: (وعن طريق سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن إبراهيم بن عقبة قال-فذكره). وهو سند قوي.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 755، ثم قال:(وكذلك رواه عبد العزيز بن محمد، عن إبراهيم بن عقبة، ورواية الزهري عن عروة أصح في مذهب عائشة-رضي الله عنها، ورواية عروة عن ابن عباس رضي الله عنهما-في مذهبه أصح). وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 468، وفيه:(فأتيت ابن المسيب فسألته، قال: لا أقول قول عائشة، ولا أقول قول ابن عباس، ولكن لو دخلت بطنه قطرة بعد أن يعلم أنها دخلت بطنه حرم). وإسناده صحيح.
أ- إن ما ذكر احتمال والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
ب-إنه يمكن أن يكون لعروة عذراً في مخالفته للحديث، فلا يتعين النسخ، وإذا أمكن أن تكون المخالفة عن رأي واجتهاد، وهو مأجور مغفور، فالعبرة حينئذ لما روى لا لما رأى؛ فإن ما رواه ثابت عن قائل معصوم، وما روي عنه غير ثابت عن قائل معصوم
(2)
.
ج-إن عروة روي عنه أنه قال بالتحريم ولو بقطرة، وروي عنه بأنه أحال السائل على قول عائشة، فعن إبراهيم بن عقبة قال: أتيت عروة بن الزبير فسألته عن صبي شرب قليلاً من لبن امرأة، فقال لي عروة: كانت عائشة تقول: (لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس)، قال: فأتيت ابن المسيب فسألته، قال: لا أقول قول عائشة، ولا أقول قول ابن عباس، ولكن لو دخلت بطنه قطرة بعد أن يعلم أنها دخلت بطنه حرم)
(3)
.
ويستدل للقول بحصول التحريم بخمس رضعات ونسخ ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من عشر رضعات، بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرِّمن) ثم نسخن: (بخمس معلومات). فتوفي
(1)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 365؛ فتح الباري 1/ 745.
(2)
انظر: التنبيه على مشكلات الهداية 1/ 365؛ نيل الأوطار 1/ 34.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 468، وإسناده صحيح. وأخرج ابن حزم في المحلى 10/ 190، عن إبراهيم بن عقبة أنه قال: سألت عروة بن الزبير عن الرضاع فقال: (كانت عائشة لا ترى شيئاً دون عشر رضعات فصاعداً).
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها: (كان مما نزل من القرآن ثم سقط أن لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات، ثم نزل بعد خمس رضعات)
(2)
.
وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها قالت: أنزل في القرآن: {عشر رضعات معلومات} ، فنسخ من ذلك خمس وصار إلى {خمس رضعات معلومات} فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك
(3)
.
وفي رواية أخرى عنها-رضي الله عنها أنها قالت: كان مما أنزل الله في القرآن، ثم سقط:(لا يحرِّم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات)
(4)
.
وعن سالم قال: زعموا أن عائشة قالت: (لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات، ثم رُدَّ ذلك إلى خمس، ولكن من كتاب الله ما قُبض مع النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
وفي رواية أخرى عنها-رضي الله عنها قالت: (لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 374، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، ح (1452)(24).
(2)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في سننه ص 273، كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح (1150). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 273.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة في سننه ص 336، كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان، ح (1942). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 336.
(5)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن
(1)
فأكلها)
(2)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها-أن أبا حذيفة، تبنى سالماً
(3)
- وهو مولى امرأة من الأنصار- كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس ابنه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5]. فردوا إلى آبائهم، ومن لم يعرف له أب فمولًى وأخ في الدين، فجاءت سهلة، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالماً ولداً، يأوي معي ومع أبي حذيفة، ويراني فُضُلاً
(4)
، وقد أنزل الله عز وجل فيه ما قد علمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أرضعيه خمس رضعات» ، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة
(5)
.
(1)
الداجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 554.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 337، كتاب النكاح، باب رضاع الكبير، ح (1944)، وأحمد في المسند 43/ 343. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 337.
(3)
هو: سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة. قيل اسم أبيه: معقل. كان مولى امرأة من الأنصار، قيل اسمها: ليلى، ويقال: ثبيتة بنت يعار، وكانت امرأة أبي حذيفة، وقد أعتقه سائبة فوالى أبا حذيفة. كان سالم أحد السابقين إلى الإسلام، وكان معه لواء المهاجرين يوم اليمامة، واستشهد بها. انظر: الإصابة 1/ 679 - 681.
(4)
فضلاً، أي مبتذلة في ثياب المهنة، يقال: تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها، أو كانت في ثوب واحد. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 379.
(5)
أصله في الصحيحين، وأخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في المصنف 7/ 461، وأحمد في المسند 42/ 435، وأخرج نحوه مالك في الموطأ 2/ 472، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 757، وابن عبد البر في التمهيد-من عدة طرق- 11/ 370 - 372. قال ابن حزم في المحلى- بعد ذكر هذا الحديث والحديث السابق-10/ 198:(وهذان خبران في غاية الصحة، وجلالة الرواة وثقتهم، ولا يسع أحد الخروج عنهما). ورجال إسناد عبد الرزاق رجال الشيخين. وقد تكلم فيه البعض: بأن ذكر العدد في هذا الحديث جاء من طريق ابن جريج، وهو قد رواه عن الزهري، وابن جريج مدلس، ونقل عن ابن معين أنه قال فيه:(ليس بشيئ في الزهري). انظر: تهذيب التهذيب 6/ 354. لكن يقال في دفعه: بأن ابن جريج قال فيه: (أخبرني الزهري)، كما أن ابن جريج لم ينفرد بذكر العدد فيه، بل رواه كذلك مالك عن الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري، ويونس عن الزهري، وكل هؤلاء الأعلام؛ لذلك لا يبقى شك في صحة الحديث بذكر العدد فيه. انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 460؛ السنن الكبرى للبيهقي 7/ 751؛ التمهيد 11/ 370 - 372.
وفي رواية لعروة عنها-رضي الله عنها-قالت: (أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو-وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة-رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالماً مولى أبي حذيفة يدخل علينا وأنا فضل، وإنا كنا نراه ولداً-وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى رسول الله زيداً، فأنزل الله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن ترضع سالماً، فأرضعته خمس رضعات، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة تأمر أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً، خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد، وقلنا لعائشة: والله ما
ندري لعلها كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس)
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالماً خمس رضعات، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة)
(2)
.
وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها أن سهلة بنت سهيل أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن سالماً كان منا حيث علمت، كنا نعده ولداً، وكان يدخل عليّ، فلما أنزل الله عز وجل فيه وفي أشباهه، أنكرت وجه أبي حذيفة إذ رآه يدخل عليّ، قال:«فأرضعيه عشر رضعات، ثم ليدخل عليك كيف شاء، فإنما هو ابنك»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 43/ 351، من طريق ابن أخي الزهري عنه عن عروة، وأخرج نحوه الحاكم في المستدرك 2/ 178، من طريق عبد الرحمن بن خالد، وهو ابن مسافر عن ابن شهاب عن عروة وعن عمرة
كلاهما عن عائشة، ثم قال الحاكم:(صحيح على شرط البخاري). ووافقه الذهبي في التلخيص.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 43/ 255، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 370. قال ابن عبد البر قبل ذكره:(وقد رواه عثمان بن عمر عن مالك، مختصر اللفظ متصل الإسناد) ثم ذكره مسنداً، ثم قال:(وذكر الدارقطني حديث عثمان بن عمر، ثم قال: وقد رواه عبد الرزاق، وعبد الكريم بن روح، وإسحاق بن عيسى، وقيل عن ابن وهب، عن مالك، وذكروا في إسناده عائشة أيضاً). ورجال إسناد أحمد رجال الشيخين.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 43/ 342، وابن حزم في المحلى-واللفظ له- 10/ 193، من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عروة عن عائشة به، ثم قال ابن حزم:(وهذا إسناد صحيح، إلا أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: أن يكون ابن إسحاق وهم فيه، لأنه قد روى هذا الخبر عن الزهري من هو أحفظ من ابن إسحاق-وهو ابن جريج-فقال فيه: أرضعيه خمس رضعات-على ما نورده بعد هذا إن شاء الله عز وجل. أو يكون محفوظاً فتكون رواية ابن إسحاق صحيحة ورواية ابن جريج صحيحة فيكونان خبرين اثنين، فإذا كان ذلك فالعشر الرضعات منسوخات على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى، فسقط هذا الخبر إذ لا يخلو ضرورة من أن يكون وهماً، أو منسوخاً لا بد من أحدهما). وقد أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 11/ 371، من طريق يحيى بن سعيد عن الزهري عن عروة، وابن عبد الله بن ربيعة عن عن عائشة وأم سلمة، وفيه:(أرضعيه عشر رضعات فتحرم بلبنها). ثم ذكر له طرق أخرى ثم قال: (قال محمد بن يحيى: وهذه الوجوه كلها عندنا محفوظة)، ثم قال في 11/ 379:(وقال يحيى بن سعيد فيه عن ابن شهاب بإسناده: عشر رضعات. والصواب فيه ما قاله مالك ويونس بن يزيد: خمس رضعات).
ثالثاً: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة
(1)
، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين. فجاءت سهلة بنت
(1)
هي: هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، تزوجها سالم مولى عمها أبي حذيفة. انظر: الإصابة 4/ 2659.
سهيل بن عمرو القرشي، ثم العامري، وهي أمرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً، فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضلاً، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أرضعيه» . فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيراً، خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس؟!
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث بمجموعها تدل على أن المحرمات كان عشر رضعات معلومات، ثم نسخ ذلك بخمس رضعات معلومات، وبذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل أن ترضعه سالماً فتحرم
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 313، كتاب النكاح، باب فيمن حرم به، ح (2061)، ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد 11/ 371، والحازمي في الاعتبار ص 443. وقال ابن عبد البر في التمهيد 11/ 370، بعد ذكر رواية مالك الذي هو بمعنى هذا الحديث: (وقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن شهاب، عن عروة، وابن عبد الله بن ربيعة، عن عائشة وأم سلمة، بلفظ حديث مالك هذا، ومعناه سواء إلى آخره). وقال الحازمي بعد ذكر الحديث: (هذا حديث ثابت من حديث دار الهجرة، وله عند المدنيين طرق، ويشتمل على أحكام كثيرة). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 313.
به عليه. وقد يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضعه عشر رضعات، وكان ذلك قبل نسخها بخمس رضعات، ثم نسخ ذلك قبل أن ترضعه بخمس رضعات فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ترضعه خمس رضعات. وبقي الأمر على التحريم بخمس رضعات حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم. فالتحريم بخمس رضعات ناسخ للتحريم بعشر رضعات على كل حال، إلا أن التحريم بخمس رضعات بقي حكمه، ونسخ لفظه قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك كان بعض من لم يبلغه نسخه يقرأه من القرآن
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن ما روي عن عائشة-رضي الله عنها: (كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرِّمن) ثم نسخن: (بخمس معلومات). فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن). لا يصح عده من القرآن ولا من السنة؛ أما عدم صحة عده من القرآن فلأنه لم يثبت بالتواتر، ولا هو موجود في القرآن الآن، ولو كان من القرآن لكان موجوداً فيه الآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد حفظه من التغيير والتبديل.
أما عدم صحة عده من السنة؛ فلأن عائشة رضي الله عنها لم تنسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون حديثاً.
وإذا لم يثبت كونه من القرآن ولا من السنة فلا يصح الاستدلال منه
(1)
انظر: صحيح مسلم 5/ 374؛ المحلى 10/ 193، 198؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ مجموع
الفتاوى 34/ 42؛ الشرح الممتع 5/ 196.
على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات
(1)
.
وأجيب عنه بما يلي:
1 -
إن حديث عائشة رضي الله عنها هذا يتضمن شيئين: حكماً، وكونه قرآناً، فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة، وأما ما فيه من كونه قرآناً فهذا لم نثبته ولم نتصور أن ذلك قرآن؛ لأنه مما نسخ رسمه، وبقي حكمه
(2)
.
2 -
إنه من القراءة الشاذة، والقراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام، وقد نقل بعض أهل العلم إجماع العلماء عليه
(3)
.
ب-إن حديث عائشة-رضي الله عنها-في رضاعة سالم، ليس في بعض طرقه ذكر العدد، وإنما فيه قوله صلى الله عليه وسلم:«أرضعيه» ، ثم يحتمل أنه كان في رضاع الكبير؛ لذلك كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة تعتقد خصوصية ذلك بسالم؛ فلذلك لا يصح الاستدلال منه على عدم حصول
التحريم بأقل من
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار-تحفة-4/ 107، 108؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 158؛ التمهيد 11/ 382؛ مجموع الفتاوى 34/ 42؛ زاد المعاد 5/ 573، 574؛ فتح القدير 3/ 440؛ فتح الباري 9/ 56.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 34/ 42؛ زاد المعاد 5/ 573؛ نيل الأوطار 6/ 434؛ المجموع 20/ 66.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 34/ 42، 43؛ زاد المعاد 5/ 573، 574.
خمس رضعات
(1)
.
وأجيب عنه: بأن ذكر العدد فيه جاء من طرق الثقات الأثبات، وليس من أجمل كمن أوضح وفصل
(2)
.
أما دعوى تخصيص ذلك بسالم فغير صحيح؛ لأن الذي كان تعتقده أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث من الخصوصية بسالم، هو حصول الحرمة برضاع الكبير، ولم تكن تعتقد الخصوصية بسالم في عدد الخمس رضعات. ويدل على هذا ما جاء مصرحاً به في حديث عائشة وأم سلمة-رضي الله عنهما
(3)
.
ويستدل للقول بنسخ ما يدل على التحريم بأقل من خمس رضعات بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره من حديث عائشة-رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرِّمن) ثم نسخن: (بخمس معلومات). فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن
(4)
.
وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها قالت: أنزل في القرآن: {عشر رضعات معلومات} ، فنسخ من ذلك خمس وصار إلى {خمس
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 158؛ التمهيد 11/ 379؛ بدائع الصنائع 3/ 406؛ فتح القدير 3/ 440.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 379.
(3)
راجع ما سبق من حديث عائشة وأم سلمة-رضي الله عنهما، وانظر: المحلى 10/ 202؛ التمهيد 11/ 376؛ نيل الأوطار 6/ 436.
(4)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
رضعات معلومات} فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك
(1)
.
ثانياً: حديث عائشة-رضي الله عنها في قصة سالم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة:«أرضعيه خمس رضعات»
(2)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة و
المصتان»
(3)
.
رابعاً: عن أم الفضل
(4)
رضي الله عنها قالت: دخل أعرابيّ على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيتي، فقال: يا نبي الله! إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحَدْثى رضعة أو رضعتين، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم الإملاجة
(5)
والإملاجتان»
(6)
.
(1)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول السابق.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 372، كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان، ح (1450)(17).
(4)
هي: لبابة بنت الحارث بن حزن، الهلالية، أم الفضل وزوج العباس بن عبد المطلب، أسلمت قبل الهجرة، وقيل بعدها، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: ابنها عبد الله، وتمام، وكريب، وغيرهم، وتوفيت في خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: الإصابة 4/ 2627، 2736؛ التقريب 2/ 658.
(5)
الإملاجة، مرة من الملج، وهو المص، ويقال: ملج الصبي أمه يملجها ملجاً إذا رضعها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 674.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 373، كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان، ح (1451)(18).
وفي رواية عنها-رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان»
(1)
.
خامساً: عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحرُمُ من الرضاعة المصة والمصتان»
(2)
.
سادساً: عن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 373، كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان، ح (1451)(20).
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 512، كتاب النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، ح (3309)، والشافعي في الأم 5/ 29، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 469، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 547، وأحمد في المسند-واللفظ له- 26/ 35، والطحاوي في شرح مشكل الآثار-تحفة- 4/ 109، وابن حبان في صحيحه ص 1146، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 749. قال ابن حبان بعد ذكر الحديث، وروايته نحوه من حديث عائشة-رضي الله عنها: (لست أنكر أن يكون ابن الزبير سمع هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمرة أدى ما سمع، وأخرى روى عنها، وهذا شيء مستفيض في الصحابة). وقال ابن حزم في المحلى 10/ 194، بعد ذكر الحديث من طريق عائشة، والزبير، وابنه عبد الله:(ابن الزبير سمع أباه، وخالته أم المؤمنين، فرواه عن كل واحد منهما، وله أيضاً صحبة، وإلا فليخبرنا المقدم على نصر الباطل، ودفع الحق ومؤثر رأيه على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتهم من رواة هذه الأخبار؟). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 512.
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/ 199، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 4/ 112، وابن حبان في صحيحه-واللفظ له- ص 1146. وسبق فيه كلام ابن حزم. وقال الترمذي في سننه ص 273:(وروى محمد بن دينار، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه محمد بن دينار البصري: عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير محفوظ).
سابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحرم من الرضاع المصة والمصتان، ولا يحرم منه إلا ما فتق الأمعاء من اللبن»
(1)
.
ثامناً: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم العيفة» قلنا: يا رسول الله وما العيفة؟ قال: «المرأة تلد فتحصر اللبن في ثديها، فترضع لها جارتها المزة
(2)
والمزتين»
(3)
.
(1)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/ 200، والدارقطني في سننه 4/ 173، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 752؛ والحازمي في الاعتبار ص 446. قال ابن حزم في المحلى 10/ 195:(وقد صح أيضاً من طريق أبي هريرة-ثم ذكره من طريق النسائي-). وقال الحازمي بعد ذكر الحديث: (هذا الحديث يروى عن أبي هريرة من غير وجه). ورواه البعض موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في التمهيد 11/ 381: (رفع هذا الحديث حماد بن سلمة عن هشام، وتوقيفه أصح). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 264: (رواه البزار، وفيه ابن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 5: (ورواه النسائي من حديث أبي هريرة، وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعاً). وصحح الشيخ الألباني في الإرواء 7/ 222، إسناد الموقوف، أما المرفوع فقال:(وأما إسناد المرفوع ففيه عنعنة ابن إسحاق). هذا قول الشيخ، إلا أن النسائي في سننه الكبرى أخرجه من طريقين، وفي إحداهما جاء:(عن ابن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه .. ). فصرح بالتحديث.
(2)
المزة أي المصة، يقال: تمززت الشيء إذا تمصصته. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 654.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 753. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 264: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح). وروى نحوه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 548، موقوفاً عليه.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأحاديث- غير الحديثين الأولين- تدل على حصول التحريم بثلاث رضعات فما فوق. والحديثان الأولان يدلان على أن التحريم لا يكون بأقل من خمس، فتكون تلك الأحاديث منسوخة بهما؛ لأنه جاء في أحد طريق حديث عائشة-رضي الله عنها (وصار إلى {خمس رضعات معلومات} فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك). فإنه يدل على تأخره على جميع ما يخالفه، فيكون ذلك ناسخاً لها
(1)
.
واعترض عليه: بأن الأحاديث التي تنص على عدم التحريم بالمصة والمصتين، أو الرضعة والرضعتين، ليست معارضة للأحاديث التي تدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات؛ لاحتمال كونها مثالاً لما دون الخمس، وكونها جاءت في جواب سؤال، كما يفيده حديث أم الفضل، وليس المقصود بها التحريم بما فوق الرضعتين أو المصتين، وإذا كانت كذلك فلا يصح دعوى نسخها؛ لعدم مخالفتها للأحاديث التي تدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة تعذر إدعاء النسخ
(2)
.
هذه كانت أقوال النسخ في المسألة، وأدلتها.
وقد أختلف أهل العلم في مقدار الرضاع المحرم على أقوال أشهرها
(1)
انظر: رسوخ الأحبار ص 461 - 462.
(2)
انظر: الأم 5/ 30؛ الاستذكار 5/ 259؛ الاعتبار ص 495؛ المغني 11/ 312؛ زاد المعاد 5/ 573؛ فتح الباري 9/ 56.
ثلاثة، وهي:
القول الأول: يثبت التحريم بقليل الرضاع وكثيره.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد
(3)
.
وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وجابر بن عبد الله-رضي الله عنهم، وهو رواية عن ابن مسعود وابن عباس-رضي الله عنهم
(4)
.
وبه قال عطاء، وعروة، وطاوس، والحسن، والزهري، ومكحول، وقتادة، وربيعة، والقاسم، وسالم، والأوزاعي، والليث، والثوري وابن جرير الطبري، وجمهور أهل العلم
(5)
.
القول الثاني: لا يثبت التحريم بأقل من خمس رضعات.
وهو مذهب الشافعية
(6)
، والحنابلة
(7)
. وروي ذلك عن عائشة، وابن
(1)
انظر: الموطأ لمحمد ص 212؛ شرح مشكل الآثار 4/ 120؛ مختصر القدوري ص 152؛ بدائع الصنائع 3/ 405؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 438 - 441.
(2)
انظر: الموطأ لمالك ص 471؛ المعونة 2/ 947؛ التمهيد 11/ 382؛ الاستذكار 5/ 257؛ بداية المجتهد 3/ 995؛ جامع الأمهات ص 329.
(3)
وذكر شيخ الإسلام أنه رواية ضعيفة. انظر: المغني 11/ 310؛ الشرح الكبير 24/ 231؛ مجموع الفتاوى 34/ 43.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 466 - 470؛ مصنف ابن أبي شيبة 3/ 548؛ شرح مشكل الآثار 4/ 118؛ المحلى 10/ 192؛ الاستذكار 5/ 257؛ المغني 11/ 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374.
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 467 - 470؛ المحلى 10/ 192؛ التمهيد 11/ 382؛ الاستذكار 5/ 257؛ المغني 11/ 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374.
(6)
انظر: الأم 5/ 29، 30؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ روضة الطالبين ص 1541؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 5/ 217؛ تكملة المجموع 20/ 61، 66.
(7)
انظر: المغني 11/ 310؛ الشرح الكبير 24/ 231؛ الممتع 5/ 368؛ الإنصاف 24/ 231؛ الإقناع 4/ 31.
الزبير، وهو رواية عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم. وهو قول لعطاء، وطاوس
(1)
.
القول الثالث: لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقول سليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
(4)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه.
ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة-رضي الله عنها-الدال على أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، وحديثها الدال على أن
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 466 - 470؛ السنن الكبرى 7/ 755؛ المحلى 10/ 190؛ المغني 11/ 310؛ زاد المعاد 5/ 571.
(2)
انظر: المغني 11/ 310؛ الشرح الكبير 24/ 231؛ الإنصاف 24/ 233؛
(3)
انظر: المحلى 10/ 191؛ الاستذكار 5/ 258؛ المغني 11/ 310؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ زاد المعاد 5/ 571.
(4)
سورة النساء، الآية (23).
الرضاعة من المجاعة.
ووجه الاستدلال منها: بأن الآية الكريمة مطلقة تدل على حصول التحريم بمطلق الرضاعة قليله وكثيره، كما أن حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه، وحديث عائشة في أن الرضاعة يحرم ما يحرم الولادة، وكذلك حديثها في أن الرضاعة من المجاعة، كلها أحاديث مطلقة ليست فيها ما يدل على العدد، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها عدداً مع بيان الحاجة، فدل ذلك على حصول التحريم بمطلق الرضاعة، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره في التحريم
(1)
.
واعترض عليه: بأن الآية الكريمة، وتلك الأحاديث وإن كانت مطلقة، لكن جاءت أحاديث أخرى فسرت وقيدت إطلاق الآية الكريمة وتلك الأحاديث. كما أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذكر العدد في بعض الأحاديث يحتمل أنه كان لعلمهم بذلك
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن: {عشر
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار 4/ 114 - 116؛ المعونة 2/ 947؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 440، 441؛ زاد المعاد 5/ 571.
(2)
انظر: المحلى 10/ 201؛ المغني 11/ 312؛ مجموع الفتاوى 34/ 43؛ زاد المعاد 5/ 573؛ الشرح الممتع 5/ 196.
رضعات معلومات يحرِّمن} ثم نسخن: {بخمس معلومات} فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن).
وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: أنزل في القرآن: {عشر رضعات معلومات} ، فنسخ من ذلك خمس وصار إلى {خمس رضعات معلومات} فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة-رضي الله عنها-في قصة سالم وقول النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة: «أرضعيه خمس رضعات» .
ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة وأم سلمة-رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة: «أرضعيه» . فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
رابعاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة، وأم الفضل، وعبد الله بن الزبير، والزبير، وأبي هريرة رضي الله عنهم الدال على أنه لا تحرم الرضعة والرضعتان ولا المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان.
ووجه الاستدلال منها: أن بعض هذه الأحاديث يدل على عدم حصول
التحريم بأقل من خمس رضعات، وبعضها يدل على أنه لا يحرم الرضعة والرضعتان والإملاجة والإملاجتان. وهذا النوع من الأحاديث وإن كانت تدل بمفهومها على حصول التحريم بما فوق الرضعتين، إلا أنها جاءت في جواب سؤال سائل كما سبق بيانه؛ لذلك فهي ليست معارضة لما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، وإن قدر على أن المقصود بها حصول التحريم بما فوق الرضعتين، فهذا المقصود يدل عليه مفهوم تلك الأحاديث، والنوع الأول من الأحاديث تنص على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، والنص مقدم على المفهوم، وقد صرح حديث عائشة رضي الله عنها على بقاء هذا الحكم-وهو عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات- إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقد سبق ما يعترض به على الأحاديث التي تدل صراحة على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، كما سبق ما أجيب به عنه.
واعترض على الأحاديث التي تنص على عدم حصول التحريم بالرضعة والرضعتين، و الإملاجة والإملاجتين، بأن هذه الأحاديث فيها اضطراباً؛ لأن ابن الزبير رضي الله عنه مرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يرويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما يضعف الحديث
(2)
.
(1)
انظر: الأم 5/ 30؛ الاستذكار 5/ 259؛ الاعتبار ص 495؛ المغني 11/ 312؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374 - 375؛ زاد المعاد 5/ 573؛ فتح الباري 9/ 56.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 382؛ المحلى 10/ 201؛ الجوهر النقي 7/ 749؛ فتح الباري 9/ 56.
وأجيب عنه بما يلي:
أ-بأن ابن الزبير رضي الله عنه سمع أباه، وخالته أم المؤمنين، فرواه عن كل واحد منهما، وله أيضاً صحبة، فما المانع من أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؟، فرواية الخبر من عدة طرق يعتبر
قوة له لا ضعفاً
(1)
.
ب-إن حديث عائشة-رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، في عدم التحريم بالمصة والمصتين، كما رواه عنها ابن الزبير رضي الله عنه رواه عنها كذلك غيره؛ وهو مما يقوي ويثبت صحته، وبعده عن الاضطراب
(2)
.
ج-إن دعوى الاضطراب لا يصح في حديث أم الفضل-رضي الله عنها؛ لأنه مروي من غير طريق ابن الزبير، وهو حديث لا شك في صحته ورفعه
(3)
.
كما أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم روي من طريق عبد الله بن الزبير، ومن غير طريقه، وهو وإن اختلف في رفعه ووقفه، إلا أن الذي رفعه ثقة
(4)
.
(1)
انظر: صحيح ابن حبان ص 1146؛ المحلى 10/ 194، 201.
(2)
فقد أخرج النسائي في سننه ص 512، من طريق قتادة عن إبراهيم النخعي، عن أبي الشعثاء المحاربي، عن عائشة-رضي الله عنها-أنها حدثته-فذكره نحوه-وصحح إسناده الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 512. وأخرجه الدارمي في سننه 2/ 208، وابن حبان في صحيحه ص 1146، من طريق عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ فتح الباري 9/ 56.
(4)
فإن الذي رفعه حماد بن سلمة، على ما ذكره في التمهيد 11/ 381، وهو ثقة. وكذلك رفعه محمد بن إسحاق، كما هو ظاهر عند ابن حزم في المحلى 10/ 195، من طريق النسائي، وكذلك عند البيهقي في السنن الكبرى 7/ 749، من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي 7/ 752، عن محمد بن إسحاق عن إبراهيم بن عقبة عن عروة عن حجاج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد صححه ابن حزم وغيره مرفوعاً. انظر: المحلى 10/ 196.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن التحريم يحصل بثلاث رضعات فصاعداً- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
(1)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة، وأم الفضل، وعبد الله بن الزبير، والزبير، وأبي هريرة رضي الله عنهم الدال على أنه لا تحرم الرضعة والرضعتان ولا المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان.
ووجه الاستدلال منها: أن تلك الأحاديث تنص على عدم حصول التحريم بالرضعتين والمصتين، والإملاجتين، وتدل بمفهومها على حصول التحريم بالثلاث رضعات فما فوق، ويشمله عموم الآية الكريمة، لذلك يكون الثلاث رضعات فما فوق هي المحرمة
(2)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث وإن كانت تدل بمفهومها على
(1)
سورة النساء، الآية (23).
(2)
انظر: المحلى 10/ 193 - 196؛ التمهيد 11/ 382؛ المغني 11/ 311؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374؛ زاد المعاد 5/ 572.
حصول التحريم بما فوق الرضعتين، إلا أنها جاءت في جواب سؤال سائل كما سبق بيانه؛ لذلك فهي ليست معارضة لما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، وإن قدر على أن المقصود بها حصول التحريم بما فوق الرضعتين، فهذا المقصود يدل عليه مفهوم هذه الأحاديث، وقد جاء من الأحاديث ما تنص على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، والنص مقدم على المفهوم، لذلك يكون الأخذ بها أولى، وخاصة أن عائشة رضي الله عنها-قد صرحت ببقاء هذا الحكم-وهو عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات-إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الراجح
بعد ذكر الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن القول بأن التحريم كان بعشر رضعات معلومات، ثم نسخ ذلك بخمس رضعات معلومات، قول صحيح؛ لأن حديث عائشة-رضي الله عنها-نص صريح فيه، كما سبق بيانه.
ولا يصح قول من قال بنسخ ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من ثلاث رضعات أو بأقل من خمس رضعات؛ لأنه ليس له مستند لا من الكتاب ولا من السنة، كما سبق بيانه.
(1)
انظر: الأم 5/ 30؛ الاستذكار 5/ 259؛ الاعتبار ص 495؛ المغني 11/ 312؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374 - 375؛ زاد المعاد 5/ 573؛ فتح الباري 9/ 56.
كما لا يصح قول من قال بنسخ ما يدل على التحريم بأقل من خمس رضعات بالأحاديث التي تدل على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات؛ لأنه لا تعارض بين تلك الأحاديث كلها، ويمكن الجمع بينها، كما سبق ذكره.
ثانياً: إن الراجح هو قول من قال بعدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات، وذلك لما يلي:
أ-لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة الواردة في المسألة؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات نص صريح في المسالة، والأدلة التي تنص على عدم التحريم بالرضعة والرضعتين، خرجت في جواب سؤال، كما سبق بيانه؛ لذلك فهي ليست معارضة لما تنص على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات، ثم مجموع تلك الأحاديث مقيدة ومفسرة ومبينة للأدلة المطلقة التي ليس فيها ذكر للقدر المحرم من الرضاعة، كالآية الكريمة، وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه ونحوه.
بخلاف القول الأول، والثالث؛ حيث إن الأول يخالف جميع الأحاديث التي تدل على اعتبار عدد الرضاعة في التحريم، والقول الثالث يخالف الأحاديث التي تدل على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات
(1)
.
ب-لأن أدلة هذا القول كثيرة وصحيحة، ثم بعضها نص صريح في المسألة، كما سبق بيانه، بخلاف القول الأول والثالث؛ فإن أدلتهما ليست بهذه
(1)
انظر: الأم 5/ 30؛ الاستذكار 5/ 259؛ الاعتبار ص 495؛ المغني 11/ 312؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 374 - 375؛ زاد المعاد 5/ 573؛ فتح الباري 9/ 56.
المكانة.
ج-إنه روي عن جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم-ما يدل على عدم التحريم بمطلق الرضاع، ومن هذه الآثار:
1 -
عن عمرو بن شعيب
(1)
، أن سفيان بن عبد الله
(2)
، كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله ما يحرم من الرضاع؟ فكتب إليه: (أنه لا يحرم منها الضرار، والعفافة، والملجة. والضرار: أن ترضع
الولدين كي يحرم بينهما. والعفافة: الشيء اليسير الذي يبقى في الثدي
(3)
. والملجة: اختلاس المرأة ولد غيرها فلتقمه ثديها)
(4)
.
قال ابن جريج: وأخبرني محمد بن عجلان
(5)
، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله، القرشي السهمي، صدوق، روى عن أبيه، وزينب بنت أبي سلمة، وغيرهما، وروى عنه: عطاء، وعمرو بن دينار، والزهري، وغيرهم، وتوفي سنة ثماني عشرة ومائة. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 263؛ تهذيب التهذيب 8/ 41؛ التقريب 1/ 737.
(2)
هو: سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث، الثقفي الطائفي، صحابي، وكان عامل عمر رضي الله عنه على الطائف،
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبناؤه: عاصم، وعبد الله، وعلقمة، وغيرهم. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 371؛ التقريب 1/ 104.
(3)
العفافة: قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 2/ 228: (هي بقية اللبن في الضرع بعد أن يحلب أكثر ما فيه).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 471، وذكره ابن حزم في المحلى 10/ 191، من طريقه، ولم يتكلم فيه بشيء.
(5)
هو: محمد بن عجلان المدني، القرشي، مولى فاطمة بنت الوليد، صدوق، روى عن أبيه، وأنس بن مالك، و غيرهما، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 294؛ التقريب 2/ 112؛ شذرات الذهب 1/ 224.
أُتي بغلام وجارية- أرادوا أن يناكحوا بينهما-قد علموا أن امرأة أرضعت إحداهما، فقال لها عمر:(كيف أرضعت الآخر؟) قالت: مرت به وهو يبكي فأرضعته أو قالت: فأمصصته، فقال عمر: (ناكحوا بينهما، فإنما الرضاعة الخصابة
(1)
(2)
.
2 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لا يحرم دون خمس رضعات معلومات)
(3)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: (ليس بالمصة ولا بالمصتين بأس، إنما الرضاع ما فتق الأمعاء)
(4)
.
(1)
الخصابة من الخصب، وهو ضد الجدب. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 494؛ لسان العرب 4/ 106.
(2)
ذكره ابن حزم في المحلى 10/ 192، من طريق عبد الرزاق، وهو في مصنف عبد الرزاق 7/ 471، لكن يظهر مما ساقه ابن حزم أن في ألفاظه شيء من السقط. وفي آخره لفظ:(الحضانة) بدل الخصابة. كما أن في سياقه قول ابن عجلان: (أخبرت أن عمر أتي بغلام .. )، وهو يدل بأنه لم يدرك عمر رضي الله عنه، وهو بين من سنة وفاته، وعدم ذكره اسم من أخبره، فإذاً هو مجهول.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 466، وإسناده على شرط الشيخين.
(4)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/ 199، وذكره ابن حزم في المحلى 10/ 191، من طريق النسائي.
3 -
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث)
(1)
.
4 -
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (لا تحرم الغبقة
(2)
، ولا الغبقتان)
(3)
.
5 -
عن ابن الزبير-رضي الله عنهما-قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان)
(4)
.
فهذه الآثار تدل على أن مطلق الرضاع ليس مما يحرم، وإذاً فلا بد له من ضابط، و الضابط هو الخمس رضعات، كما ينص عليه حديث عائشة-رضي الله عنها.
وتقييد الرضاع المحرم بالخمس ليس بغريب في أصول الشريعة، بل له أصول كثيرة؛ حيث إن الإسلام بني على خمس، والصلوات المفروضات خمس، وليس فيما دون خمس صدقة
(5)
.
ومما يدل على أن هذه الآثار عن الصحابة ليس المراد بها أن الأقل من خمس رضعات يحرم أن عائشة وابن الزبير رضي الله عنهما رويا حديث
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 753، وابن حزم في المحلى-واللفظ له- 10/ 191. وذكر ابن حجر في الفتح 9/ 56، أن إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 548، بدون ذكر لفظ:"الثلاث".
(2)
الغبقة مرة من الغبوق، وهو شرب العشيّ. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 287.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 548.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 468، ونحوه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 548.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى 34/ 44.
عدم التحريم بالرضعة والرضعتين، ثم نقل عنهما القول بعدم التحريم بأقل من خمس رضعات.
والله أعلم.
المطلب السابع: الحرمة برضاع الكبير
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحرمة لا تحصل برضاع الكبير، وأن الأحاديث التي تدل على حصول الحرمة به قد نسخت
(1)
.
وممن صرح بالنسخ: الجصاص الرازي
(2)
، و الحازمي
(3)
، وأبو حامد الرازي
(4)
، وأبو إسحاق الجعبري
(5)
، وابن الهمام
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(7)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها-أن أبا حذيفة تبنى سالماً-وهو مولى
(1)
نسبه الجصاص إلى فقهاء الأمصار، وأنه مذهب الحنفية. وذكر الحازمي أن ذلك أحد الوجهين عند الشافعية. وذكر ابن القيم أنه مسلك كثير ممن قال بالتحريم في الحولين. وإلى القول بالنسخ ميل الشيخ ابن العثمين رحمه الله. انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 158؛ الاعتبار ص 444؛ زاد المعاد 5/ 586؛ نيل الأوطار 6/ 436؛ الشرح الممتع 5/ 203.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 158.
(3)
انظر: الاعتبار ص 445، 446.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 79.
(5)
انظر: رسوخ الأحبار ص 462.
(6)
انظر: فتح القدير 3/ 444.
(7)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: التمهيد 11/ 376 - 378؛ بداية المجتهد 3/ 997؛ المغني 11/ 319 - 321؛ فتح الباري 9/ 57 - 59.
امرأة من الأنصار- كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس ابنه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5]. فردوا إلى آبائهم، ومن لم يعرف له أب فمولًى وأخ في الدين، فجاءت سهلة، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالماً ولداً، يأوي معي ومع أبي حذيفة، ويراني فُضُلاً، وقد أنزل الله عز وجل فيه ما قد علمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه
خمس رضعات»، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة
(1)
.
وفي رواية لعروة عنها-رضي الله عنها-قالت: (أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو-وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة-رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالماً مولى أبي حذيفة يدخل علينا وأنا فضل، وإنا كنا نراه ولداً-وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى رسول الله زيداً، فأنزل الله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن ترضع سالماً، فأرضعته خمس رضعات، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة تأمر أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً، خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد، وقلنا لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس)
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
ثانياً: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين. فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي، ثم العامري، وهي أمرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً، فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضلاً، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أرضعيه» . فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة-رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيراً، خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس؟!
(1)
.
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة. قالت: فقال: «انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة»
(1)
.
رابعاً: عن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام»
(2)
.
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحرم من الرضاع المصة و المصتان، ولا يحرم منه إلا ما فتق الأمعاء من اللبن»
(3)
.
سادساً: عن ابن عباس رضي الله عنهما-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 274، كتاب الرضاع، باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، ح (1152)، والنسائي في السنن الكبرى 5/ 201، وابن حبان في صحيحه ص 1146. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 221: (إسناده صحيح على شرطهما). وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6/ 438: (حديث أم سلمة أخرجه أيضاً الحاكم وصححه، وأعل بالانقطاع؛ لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئاً لصغر سنها إذ ذاك) ثم قال في 6/ 439: (ولا يخفى أن تصحيح الترمذي والحاكم لهذا الحديث يدفع علة الانقطاع، فإنهما لا يصححان ما كان منقطعاً إلا وقد صح لهما اتصاله). وقد رد ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد 5/ 590، تعليل هذا الحديث بالانقطاع، وذكر أنه تعسف بارد.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
رضاع إلا ما كان في الحولين»
(1)
.
سابعاً: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء» ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو
(2)
؟ قال: «الحمو الموت
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 174، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 762، والحازمي في الاعتبار ص 446. قال الدارقطني بعد ذكر الحديث:(لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ). وذكره البيهقي قبل ذكر هذا الحديث من عدة طرق موقوفاً على ابن عباس، ثم قال:(هذا هو الصحيح موقوف)، ثم ذكرن مسنداً ثم قال:(قال أبو أحمد: هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عيينة مسنداً، وغير الهيثم يوقف على ابن عباس-رضي الله عنهما). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 7/ 762: (الهيثم هذا وثقه ابن حنبل وغيره. وقال الدارقطني: حافظ. فعلى هذا الحكم له ما هو الأصح عندهم؛ لأنه ثقة وقد زاد الرفع).
(2)
الحمو، جمعه أحماء، وهم: أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه، وأخيه وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم. والمراد بالحمو هنا: أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 440؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 274.
(3)
الحمو الموت أي أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر، لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 7/ 274.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1135، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ح (5232) ومسلم في صحيحه 7/ 274، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، ح (2172)(20).
ويستدل منها على النسخ بالوجوه التالية:
الوجه الأول: إن حديث عائشة-رضي الله عنها-فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة أن ترضع سالماً، وهو قد كان بلغ مبلغ الرجال، فهو يدل على حصول الحرمة برضاع الكبير، لكن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة؛ لأنها كانت عقيب نزول قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وهذه الآية نزلت في أوائل الهجرة، فيكون حديث عائشة منسوخاً بحديث أبي هريرة وابن عباس-رضي الله عنهم، وما في معناه؛ لأن أبا هريرة وابن عباس-رضي الله عنهم-أسلما بعد نزول هذه الآية وبعد قصة سالم، وقد رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم حصول الحرمة برضاع الكبير، فيكون فيه دلالة على نسخ حديثها
(1)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-بأنه لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدماً، وإن أبا هريرة وابن عباس-رضي الله عنهم-لم يصرحا بسماع حديثهما من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنهما سمعاه عن غيره من الصحابة-رضي الله عنهم، فلا يكون في حديثهما دلالة على تأخر ما روياه على حديث عائشة-رضي الله عنها في قصة سالم
(2)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 158؛ الاعتبار ص 445 - 446؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 79، رسوخ الأحبار ص 459؛ زاد المعاد 5/ 586؛ نيل الأوطار 6/ 436.
(2)
انظر: زاد المعاد 5/ 586؛ فتح الباري 9/ 58؛ نيل الأوطار 6/ 436.
ب- إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم تحتج واحدة منهن، بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بالنسخ، بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم، فلو كان ما رواه أم سلمة رضي الله عنها وغيرها ناسخاً لحديث عائشة-رضي الله عنها-لاحتجت به أحد من الصحابة-رضي الله عنهم-على عائشة-رضي الله عنها، وعدم ذلك دليل على عدم صحة القول بالنسخ
(1)
.
ج- إن عائشة رضي الله عنها روت الحديث في رضاع سالم، وروت حديث:(إنما الرضاعة من المجاعة)، فلو كان حديثها في قصة سالم منسوخاً لكانت قد أخذت وعملت به، وتركت الناسخ، أو خفي عليها تقدمه، مع كونها هي الراوية له، وكلا الأمرين في غاية البعد
(2)
.
الوجه الثاني للنسخ، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سلهة أن ترضع سالماً لأن زوجها تبناه، وكان يدخل عليها، فكان في احتجابها منه مشقة، لذلك أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترضعه مع أنه كبير، وقد نسخ الله التبني بقوله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فيكون رضاع الكبير منسوخاً بنسخ التبني
(3)
.
(1)
انظر: زاد المعاد 5/ 586؛ نيل الأوطار 6/ 436.
(2)
انظر: زاد المعاد 5/ 587.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 212؛ التمهيد 11/ 376، 383؛ المحلى 10/ 211؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 257.
واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة برضاع سالم بعد قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فكان ذلك بعد نسخ التبني، فلا يصح الاستدلال من نسخ التبني على نسخ رضاع الكبير؛ لأنه بعده
(1)
.
وهذا قد يجاب عنه: بأن رضاع سالم وإن كان بعد نزول الآية ونسخ التبني، إلا أنه كان
بسبب التبني، فيكون في نسخ سببه نسخه، وإنما كان رضاع سالم بالسبب المتقدم.
الوجه الثالث للنسخ، هو: أن حديث عائشة رضي الله عنها في قصة سالم يدل على ثبوت الحرمة برضاع الكبير، وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه يدل على النهي عن الخلوة بالمرأة، وفيه أن الحمو الموت، والحمو هو أقارب الزوج يدخل على امرأته، وهذا فيه حاجة عامة للدخول، فيكون حديث سالم منسوخاً بهذا الحكم؛ لأنه لو كانت الحاجة مبيحة لرضاع الكبير لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الحرمة برضاعة الكبير على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا تثبت الحرمة برضاعة الكبير.
(1)
انظر: المحلى 10/ 211.
(2)
انظر: الشرح الممتع 5/ 203.
وإليه ذهب أصحاب المذاهب الأربعة
(1)
. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة-رضي الله عنهم
(2)
.
وبه قال: سعيد بن المسيب، والشعبي، وابن شبرمة، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن جرير الطبري، وجمهور أهل العلم
(3)
.
القول الثاني: يثبت الحرمة برضاع الكبير.
وهو قول عائشة-رضي الله عنها، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن حزم
(4)
.
القول الثالث: إن الرضاع يعتبر في الصغر، إلا فيما دعت إليه
(1)
انظر: "موطأ محمد ص 212؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 158؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 444؛ " الموطأ لمالك 2/ 471؛ المعونة 2/ 949؛ التمهيد 11/ 376؛ بداية المجتهد 3/ 996؛ " الأم 5/ 31؛ المهذب مع شرحه المجموع 20/ 62، 63؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ مغني المحتاج 5/ 217؛ "المغني 11/ 319؛ الشرح الكبير 24/ 227؛ الإنصاف 24/ 227؛ الإقناع 4/ 31.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 376؛ الاستذكار 5/ 256؛ الاعتبار ص 444؛ المغني 11/ 319؛ نيل الأوطار 6/ 436 - 437.
(3)
انظر: التمهيد 11/ 376 - 377؛ الاستذكار 5/ 256؛ الاعتبار ص 444؛ المغني 11/ 319؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ نيل الأوطار 6/ 437.
(4)
انظر: التمهيد 11/ 374؛ المحلى 10/ 202؛ المغني 11/ 319.
الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني
(1)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم ثبوت الحرمة برضاع الكبير- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
(2)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة-رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة» .
ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أم سلمة، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم-الدال على أنه لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء من اللبن، وكان قبل الفطام، وتمام الحولين.
رابعاً: عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء»
(3)
.
(1)
انظر: زاد المعاد 5/ 593؛ الإنصاف 24/ 229؛ نيل الأوطار 6/ 437.
(2)
سورة البقرة، الآية (233).
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 337، كتاب النكاح، باب لا رضاع بعد فصال، ح (1946). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 337، وقال في إرواء الغليل 7/ 222، بعد ذكر سنده:(قلت وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير ابن لهيعة، وهو سيء الحفط إلا في رواية العبادلة عنه، فإنه صحيح الحديث، وهذا منها، فإنه رواية عبد الله بن وهب عنه).
خامساً: عن زينب بنت أبي سلمة أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: (أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهن أحد بتلك الرضاعة. وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا)
(1)
.
سادساً: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع بعد فصال، ولا يُتم بعد احتلام
…
) الحديث
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن الآية الكريمة تدل على أن تمام الرضاعة الحولان، فدل ذلك على أن ما زاد على ذلك لا حكم له، وليس من الرضاعة المعتبرة، فلا يتعلق به التحريم، وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصر الرضاعة المحرمة عليها، فقال:«إنما الرضاعة من المجاعة» ، وهي كذلك مدة الثدي الذي قال فيه:(لا يحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي) أي في زمن الثدي، والمراد به زمن الرضاع قبل الفطام، وحديث ابن عباس رضي الله عنه أصرح شيء فيه؛ حيث قال:(لا رضاع إلا ما كان في الحولين).
فمجموع هذه الأحاديث تفيد أن الرضاع المحرم له ثلاثة أوصاف: أن
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 377، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح (1453)(31).
(2)
سبق تخريجه في ص 997.
يكون من المجاعة، وأن يكون في زمن الثدي قبل الفطام، وأن يفتق به الأمعاء. ورضاع الكبير عار من جميع هذه الأوصاف، فلا يحصل برضاعه حرمة
(1)
.
كما أن أم سلمة رضي الله عنها قد بينت أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سهلة برضاع سالم كان رخصة له خاصة. فإذا كان ذلك لسالم خاصة فالخاص لا يكون إلا مخرجاً من حكم العام، وإذا كان مخرجاً من حكم العام، فالخاص غير العام، ولا يجوز في العام إلا أن يكون رضاع الكبير لا يحرم
(2)
.
واعترض عليه: بأن الآية الكريمة ليس فيها تحريم الرضاعة بعد الحولين، ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين.
أما حديث (إنما الرضاعة من المجاعة) فليس فيه ما ينافي رضاع الكبير؛ لأن للكبير من الرضاعة في طرد المجاعة نحو ما للصغير، فهو عموم لكل رضاع.
أما بقية الأحاديث فمتكلم فيها من حيث الرفع والوقف، والانقطاع، وغيره، فلا تتم بها
الاستدلال على عدم ثبوت الحرمة برضاع الكبير
(3)
.
وأجيب عنه: بأنه سبحانه وتعالى جعل تمام الرضاعة حولان، فهو يدل على أنه لا حكم لها بعدهما، وفسر ذلك وبينه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا رضاع بعد فصال
(4)
.
(1)
انظر: الأم 5/ 30، 31؛ المعونة 2/ 949؛ إكمال المعلم 4/ 640؛ المغني 11/ 320؛ زاد المعاد 5/ 579 - 580.
(2)
انظر: الأم 5/ 31.
(3)
انظر: المحلى 10/ 207 - 211؛ زاد المعاد 5/ 581 - 586.
(4)
انظر: المغني 11/ 320؛ زاد المعاد 5/ 588؛ فتح القدير 3/ 442؛ المجموع 20/ 63.
أما تفسير حديث: (إنما الرضاعة من المجاعة) بأنه يطرد الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوع عن الصغير، فكلام باطل، وتفسير في غاية البعد من اللفظ، ولا تتبادر إليه أفهام المخاطبين، ولا يظهر به الفائدة من الحديث؛ لاستواء الكبير والصغير في الرضاعة. بل معناه-على ما ذكره أهل العلم-: أن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن إنما هو الصبي، فأما الذي شبعه من جوعه الطعام فإن رضاعه ليس برضاع
(1)
.
أما الطعن في حديث أم سلمة، وأبي هريرة، وابن عباس-رضي الله عنهم بالضعف فتعسف بارد، بل هي صحيحة، وصريحة في أنه لا رضاع بعد فصال وبعد الحولين
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو ثبوت الحرمة برضاع الكبير- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
(3)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما-من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة أن ترضع سالماً مع أنه كبير فتحرم عليه بلبنها، ففعلت وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
(1)
انظر: زاد المعاد 5/ 588، 589؛ نيل الأوطار 6/ 440.
(2)
راجع الكلام على تلك الأحاديث في تخريجها، وانظر: زاد المعاد 5/ 590؛ نيل الأوطار 6/ 439، 440.
(3)
سورة النساء، الآية (23).
ثالثاً: عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل عليّ. قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي
حذيفة منه شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه حتى يدخل عليك»
(1)
.
وفي رواية عنها قالت: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول لعائشة: والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة. قالت: ولمَ؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه» فقالت: إنه ذو لحية. فقال: «أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة»
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن الآية الكريمة مطلقة تشمل رضاع الصغير والكبير، و الأحاديث المذكورة صريحة في الحرمة برضاع الكبير، وقد سكتت أم سلمة رضي الله عنها-لما قال لها عائشة-رضي الله عنها: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟، فلو كان عندها دليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصوصية
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 377، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح (1453)(29).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 377، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح (1453)(30).
سالم لذكرها لعائشة-رضي الله عنها. فثبت من كل هذا أن رضاع الكبير كرضاع الصغير في ثبوت الحرمة
(1)
.
واعترض عليه: بأن تلك الآية الكريمة وإن كانت مطلقة إلا أن سنة رسول الله فسرتها وقيدتها برضاع الصغير. كما أن تلك الأحاديث كان فيها ما يدل على أن حديث سهلة على الخصوص، كما يحتمل كونه منسوخاً بها
(2)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو أن الرضاع يعتبر في الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة-بالأحاديث التي سبقت في دليل القول الأول، والتي تدل على أن لا رضاع إلا ما كان في الصغر، وكذلك بحديث عائشة وأم سلمة في رضاع سالم، وقد سبق ذكرهما كذلك.
ووجه الاستدلال منها: أن النوع الأول من الأحاديث والتي تدل على أن لا رضاع إلا ما كان في الصغر، إما مطلقة فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذه الحال
من عمومها. وبذلك يعمل بجميع الأحاديث من الجانبين
(3)
.
(1)
انظر: المحلى 10/ 210 - 212؛ زاد المعاد 5/ 581 - 584؛ نيل الأوطار 6/ 436.
(2)
انظر: الاعتبار ص 445؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ زاد المعاد 5/ 588؛ نيل الأوطار 6/ 436.
(3)
انظر: زاد المعاد 5/ 593؛ نيل الأوطار 6/ 437.
واعترض عليه:: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشد لرضاع الكبير في الحاجات العامة للدخول على المرأة؛ حيث بين أن الحمو الموت، ولو كانت الحاجة مبيحة لرضاع الكبير لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فدل ذلك أن حديث سالم إما منسوخ أو خاص به
(1)
.
الراجح
بعد ذكر الأقوال والأدلة في المسألة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إنه لا يوجد دليل صريح يدل على أن ما يدل على حصول الحرمة برضاع الصغير دون الكبير متأخر على ما يدل على حصول الحرمة برضاع الكبير، إلا أن القول بنسخ ما يدل على حصول الحرمة برضاع الكبير له وجه واحتمال، وذلك لأن ممن روى ما يدل على حصر الحرمة برضاع الصغير، أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، وهما أسلما ولقيا النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة رضاع سالم
(2)
.
ثانياً: إن الراجح هو القول الأول-وهو عدم ثبوت الحرمة برضاع الكبير؛ وذلك لما يلي:
أ- لأن أدلة هذا القول كثيرة، وأكثرها صحيحة وصريحة، بخلاف أدلة
(1)
انظر: الاعتبار ص 444، 445؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ فتح الباري 9/ 58؛ الشرح الممتع 5/ 203.
(2)
انظر: الاعتبار ص 445.
القول المعارض له؛ حيث إنها لا تبلغ هذا المبلغ.
ب- ولأن الحديث في قصة سالم لا يخلو من احتمالين هما: أن يكون خاصاً به، كما صرحت به أم سلمة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة، وتكون الأحاديث المعارضة له دالة على أنه خاص به. أو أن يكون منسوخاً بالأحاديث التي تعارضه
(1)
.
ج-ولأنه روي عن جمع من الصحابة-رضي الله عنهم-بعد النبي صلى الله عليه وسلم آثار تدل على عدم حصول الحرمة برضاع الكبير، ومن تلك الآثار:
1 -
عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني كانت لي وليدة، وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فارضعتها، فدخلت عليها، فقالت: دونك، فقد والله أرضعتها. فقال عمر:(أوجعها، وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغير)
(2)
.
2 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم)
(3)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 444، 445؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 375؛ زاد المعاد 5/ 587 - 588؛ فتح الباري 9/ 58؛ الشرح الممتع 5/ 203.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 473. ورجاله رجال الشيخين.
(3)
روي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً عليه، أخرجه أبو داود في سننه ص 313، كتاب النكاح، باب في رضاعة الكبير، ح (2059)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 548، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 758، 759. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 313.
3 -
عن نافع أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-كان يقول: (لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير)
(1)
.
4 -
عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال: (لا رضاع بعد حولين كاملين)
(2)
.
5 -
عن أم سلمة-رضي الله عنها-أنها سُئلت ما يحرم من الرضاع؟ فقالت: (ما كان في الثدي قبل الفطام)
(3)
.
وهذه الآثار منهم تدل على أنهم إما كانوا يرون الحديث في قصة سالم على أنه كان خاصاً به، أو كانوا يرون نسخه.
والله أعلم.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 470، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 465. وإسناده على شرط الشيخين.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 464، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 7/ 761.
(3)
ذكره ابن القيم في زاد المعاد 5/ 591، فقال:(قال أبو عبيد: حدثنا معاوية، عن هشام بن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة-فذكره-).
المطلب الثامن: حضانة الكافرة للولد المسلم
ذهب بعض أهل العلم، منهم أبو إسحاق الشيرازي
(1)
، إلى أن الحضانة
(2)
لا تثبت للكافرة على الولد المسلم، وأن ما يدل على ثبوت ذلك لها فإنه قد نسخ
(3)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، إلا أن السبب الأصلي لاختلافهم فيها هو اختلافهم في صحة الأثر الوارد فيها، مع معارضته لعموم الكتاب
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن رافع بن سنان
(5)
رضي الله عنه أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت
(1)
هو: إبراهيم بن علي بن يوسف، الشيرازي، الشيخ أبو إسحاق. تفقه على أبي الطيب الطبري، وأبي عبد الله البيضاوي، وغيرهما، وكان ذو الفنون الكثيرة، ومن مؤلفاته (المهذب) وتوفي سنة ست وسبعين وأربعمائة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 172؛ البداية والنهاية 12/ 173؛ طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 238.
(2)
الحضانة من الحضن، وهو: ما دون الإبط إلى الكشح، أو الصدر والعضدان وما بينهما، وجانب الشيء وناحيته. انظر: المصباح المنير ص 123؛ القاموس المحيط ص 1073.
واصطلاحاً: حفظ من لا يستقل، وتربيته. المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 5/ 271.
(3)
وكذلك صرح الشربيني بالنسخ. انظر: المهذب-مع المجموع-20/ 154؛ التلخيص الحبير 4/ 11؛ مغني المحتاج 5/ 275.
(4)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: بدائع الصنائع 3/ 458؛ جامع الأمهات ص 335؛ المغني 11/ 412، 413.
(5)
هو: رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، أبو الحكم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه جعفر. انظر: الإصابة 1/ 566؛ تهذيب التهذيب 3/ 206؛ التقريب 1/ 291.
النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أقعد ناحية» وقال لها: «أقعدي ناحية» وأقعد الصبية بينهما، ثم قال:«أدعواها» فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم اهدها» فمالت إلى أبيها، فأخذها
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(2)
.
ثالثاً: الإجماع؛ فإن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 340، كتاب الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبوين، مع من يكون الولد؟ ح (2244)، والنسائي في سننه ص 543، كتاب الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين، وتخيير الولد، ح (3495)، وابن ماجة في سننه ص 402، كتاب الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه، ح (2352)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 161، والحاكم في المستدرك 2/ 225. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال ابن القيم في زاد المعاد 5/ 470: (فالحديث ضعفه ابن المنذر وغيره، وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبد الحميد بن جعفر، وأيضاً فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن المخير كان بنتاً، وروي أنه كان ابناً). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 11: (وفي سنده اختلاف كثير، وألفاظ مختلفة، ورجح ابن القطان رواية عبد الحميد بن جعفر. وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال). وقال المطيعي في المجموع 20/ 155: (وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. قلت: وقد صححه الحاكم، وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة اسمها عميرة). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 340، وصحيح سنن ابن ماجة ص 402.
(2)
سورة النساء، الآية (141).
إلى الكافر
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث رافع بن سنان رضي الله عنه يدل على جواز حضانة الكافرة للولد المسلم، والآية الكريمة تدل على أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المسلم سبيلاً وولاية، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر، فيكون في الآية الكريمة وإجماع أهل العلم دلالة على نسخ حديث رافع بن سنان رضي الله عنه الدال على جواز حضانة الكافرة للولد المسلم
(2)
.
وقد يعترض عليه: بأن الإجماع غير صحيح؛ للاختلاف في المسألة كما سيأتي، والآية عامة، ولا يوجد ما يدل على تأخر نزولها عن الحديث، والحديث صححه جماعة من أهل العلم.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حضانة الكافرة للولد المسلم على قولين:
القول الأول: أن الكافرة لها حق حضانة ولدها المسلم، ما لم يعقل الأديان، أو يخاف أن يألف الكفر.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمشهور عند المالكية
(4)
، وبه قال بعض
(1)
انظر: المهذب مع شرحه المجموع 20/ 154.
(2)
انظر: المهذب وشرحه المجموع-تكملة المطيعي- 20/ 154 - 157؛ التلخيص الحبير 4/ 11؛ مغني المحتاج 5/ 275.
(3)
انظر: بدائع الصنائع 3/ 458؛ الهداية وشرحه فتح القدير 4/ 372، 373؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5/ 214.
(4)
انظر: جامع الأمهات ص 335؛ القوانين الفقهية ص 168.
الشافعية
(1)
. وأبو ثور
(2)
.
القول الثاني: ليس للكافرة حق حضانة ولدها المسلم.
وهو قول عند المالكية
(3)
، ومذهب الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن الكافرة لها حق حضانة الولد المسلم- بحديث رافع بن سنان رضي الله عنه فإنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الولد بين أبيه المسلم وأمه الكافرة، فلو لم يكن لها الحق في حضانته لما خير الولد، ولقضى به للأب
(6)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو عدم ثبوت الحضانة للكافرة على ولدها المسلم- بما يلي:
أولاً: الآية الكريمة التي سبقت ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل
(1)
انظر: معالم السنن 3/ 159؛ المهذب مع شرحه المجموع 0/ 154؛ روضة الطالبين ص 1578؛ التلخيص الحبير 4/ 11.
(2)
انظر: المغني 11/ 412.
(3)
انظر: جامع الأمهات ص 336؛ القوانين الفقهية ص 168.
(4)
انظر: المهذب وشرحه المجموع-تكملة المطيعي-20/ 154 - 157؛ روضة الطالبين ص 1578؛ التلخيص الحبير 4/ 11؛ مغني المحتاج 5/ 275.
(5)
انظر: المغني 11/ 412؛ الشرح الكبير 24/ 470؛ الممتع 5/ 386؛ زاد المستقنع ص 75.
(6)
انظر: المهذب وشرحه المجموع 20/ 154، 156؛ المغني 11/ 412.
على أن الله تعالى لم يجعل للكافر ولاية على مسلم، والحضانة نوع ولاية
(1)
.
ثانياً: ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر أولى؛ فإن ضرره أكثر، فإنه يفتنه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتزيينه له، وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما
تثبت لحظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه
(2)
.
الراجح
الذي يظهر لي في المسألة- والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن القول بالنسخ في المسألة ضعيف؛ وذلك لأن الآية التي يستدل بها على النسخ عامة، والحديث خاص، ثم لا يوجد ما يدل على تأخرها عليه.
ثانياً: إن الكافرة لها حق في حضانة ولدها المسلم ما لم يعقل الدين أو يخف عليه من تأليف الكفر؛ وذلك لحديث رافع بن سنان رضي الله عنه.
أما إذا عقل الدين أو خيف عليه تأليف الكفر فإنه ينزع منها؛ وذلك لأن الحضانة إنما تثبت لحظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه، كما سبق بيانه.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 11/ 413؛ التلخيص الحبير 4/ 11.
(2)
انظر: المهذب مع شرحه المجموع 20/ 154؛ المغني 11/ 413.
المبحث الثاني الطلاق، والخلع، والظهار، والعدة
.
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: حصر الطلاق بعدد.
المطلب الثاني: جعل الطلقات الثلاث واحدة.
المطلب الثالث: إذا أسلمت المرأة قبل زوجها.
المطلب الرابع: أخذ الفدية في الخلع.
المطلب الخامس: كون الظهار طلاقاً.
المطلب السادس: مدة حداد المرأة على الزوج.
السابع: متاع المتوفى عنها زوجها.
المطلب الثامن: مدة عدة المتوفى عنها زوجها.
المطلب التاسع: أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟.
المطلب الأول: حصر الطلاق بعدد
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطلاق
(1)
في أول الإسلام لم يكن محصوراً بعدد، فكان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، فنسخ الله ذلك بأن من طلق زوجته ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، و إن طلقها واحدة أو اثنتين كانت له الرجعة ما دامت في العدة.
وممن صرح بالنسخ: ابن عباس رضي الله عنه
(2)
، وقتادة
(3)
، وأبو داود
(4)
، والجصاص الرازي
(5)
، والحازمي
(6)
، وأبو حامد الرازي
(7)
، وأبو إسحاق الجعبري
(8)
.
وسائر أهل العلم وإن لم يذهبوا إلى القول بالنسخ أو لم يصرحوا به، إلا أنه لا خلاف بين الجميع في أن الطلاق محصور بعدد، وأنه ليس للزوج
(1)
الطلاق لغة: الحل، والانحلال، والتخلية، والإرسال. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 120؛ المصباح المنير ص 307.
واصطلاحاً: إزالة القيد الثابت بالنكاح. أنيس الفقهاء ص 54.
(2)
انظر: سنن أبي داود ص 333.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 69.
(4)
انظر: سنن أبي داود ص 333.
(5)
انظر: أحكام القرآن 1/ 459.
(6)
انظر: الاعتبار ص 436.
(7)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 77.
(8)
انظر: رسوخ الأحبار ص 449.
مراجعة زوجته بعد الطلقة الثالثة إلا أن تنكح زوجاً غيره
(1)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}، الآية
(2)
، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية، [البقرة: 229]
(3)
.
ثانياً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كان الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة، فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: جامع البيان 2/ 1295 - 1297؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 73؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 120؛ نواسخ القرآن 1/ 285.
(2)
سورة البقرة، الآية (228).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 333، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ح (2195)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 551. وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 333:(حسن صحيح).
حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً، من كان طلق، ومن لم يكن طلق)
(1)
.
ثالثاً: عن عروة قال: (كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها، حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم قال: لا، والله لا آويك إليّ ولا تحلين أبداً. فأنزل الله تبارك وتعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذ، من كان طلق منهم أو لم يطلق)
(2)
.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة رفاعة القرظي
(3)
، جاءت
(1)
أخرجه الترمذي في سننه ص 284، كتاب الطلاق، باب في عدد الطلقات، ح (1192)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 545، ثم ذكره الترمذي من طريق أخرى عن عروة مرسلاً، ثم قال:(وهذا أصح من حديث يعلى بن شبيب). وقال البيهقي بعد ذكر الحديث: (ورواه أيضاً قتيبة بن سعيد، والحميدي عن يعلى بن شبيب. وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه. وروي نزول الآية فيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة-رضي الله عنها). ثم رواه مرسلاً، ثم قال:(هذا مرسل، وهو الصحيح قاله البخاري وغيره). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 283.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 459، وابن جرير في جامع البيان 2/ 1295، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 545، والحازمي في الاعتبار ص 436. قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 162، بعد ما ذكره من طريق ابن
جرير: (وهذا سند صحيح مرسل).
(3)
هو: رفاعة بن سِموال القرظي. أما امرأته فاختلف في اسمها اختلافا كثيراً، فقيل: تميمة بنت وهب. وقيل غيرها. انظر: الإصابة 1/ 593.
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزَبِير القرظي
(1)
، وإنما معه مثل الهدبة
(2)
. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته»
(3)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: إن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنها كانت تحت رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة، وأخذت بهدبة من جلبابها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، فقال:«لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة. لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الأحاديث الثلاثة الأولى تدل على أنه كان في الجاهلية، وكذلك في صدر الإسلام أن الرجل إذا طلق زوجته ثم راجعها قبل انقضاء العدة فإنها لا تبين منه ولو زاد طلاقه على ثلاث، ثم نسخ الله ذلك بقوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وجعل الطلاق التي يصح رجوع الزوج فيها إلى زوجته قبل انقضاء
(1)
هو: عبد الرحمن بن الزَبِير بن باطا، القرظي، من بني قريظة، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ولده الزُبير بن عبد الرحمن. انظر: الإصابة 2/ 1160؛ تهذيب التهذيب 6/ 156.
(2)
الهدبة، طرف الثوب مما يلي طرته. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 896.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1140، كتاب الطلاق، باب من جوز الطلاق الثلاث، ح (5260)، ومسلم في صحيحه 5/ 350، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها، ح (1433)(111).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 351، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها، ح (1433)(112).
العدة طلقتان، وأن الثالث تبينه منه، ويدل على هذا كذلك حديث عائشة-رضي الله عنها في
امرأة رفاعة القرظي
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن الطلاق محصور بعدد، وأنه ليس للزوج مراجعة زوجته بعد الطلقة الثالثة إلا أن تنكح زوجاً غيره.
إلا أن بعضهم لم يذهب في المسألة إلى القول بالنسخ، بل اعتبر عدم حصر الطلاق بعدد من عادة الجاهلية، وأن الإسلام إنما جاء فيه بشرع جديد فأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم حصر الطلاق بعدد، وجعل للزوج حق المراجعة في الطلقتين ما لم تنقض العدة، وأنه ليس له حق المراجعة إذا طلقها آخر ثلاث تطليقات حتى تنكح زوجاً غيره
(2)
.
لكن الذي يظهر هو صحة القول بالنسخ، وذلك لما يلي:
أ- لتصريح ابن عباس-رضي الله عنهما-بالنسخ، كما سبق ذكره.
ب-إن البعض من الروايات السابقة يفهم منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المسلمين ممن عمل نحو هذا العمل، ثم نزلت الآية ونسخ ذلك الحكم، وجاءت السنة مفسرة للكتاب
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: سنن أبي داود ص 333؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 459؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 69؛ الاعتبار ص 436؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 77؛ رسوخ الأحبار ص 449.
(2)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: جامع البيان 2/ 1295 - 1297؛ الاستذكار 5/ 212؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 73؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 120؛ نواسخ القرآن 1/ 285؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 350.
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 1295؛ الاعتبار ص 436؛ رسوخ الأحبار ص 448 - 449.
المطلب الثاني: جعل الطلقات الثلاث واحدة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطلقات الثلاث-وهو أن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثاً- تقع ثلاثة، وأن جعلها واحدة قد نسخ.
وممن قال بنحو هذا: الإمام الشافعي
(1)
، والطحاوي
(2)
، وأبو إسحاق الجعبري
(3)
، وابن حجر
(4)
، وابن الهمام
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، إلا أن السبب الأصلي لاختلافهم فيها، هو اختلاف الآثار الواردة فيها
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو
(1)
يفهم من كلام الإمام الشافعي نحو هذا، وقواه البيهقي. انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 553؛ فتح الباري 9/ 315.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56.
(3)
انظر: رسوخ الأحبار ص 453.
(4)
انظر: فتح الباري 9/ 317.
(5)
انظر: فتح القدير 3/ 470.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة.
أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم)
(1)
.
وعن طاوس، أن أبا الصهباء
(2)
قال لابن عباس: (أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم)
(3)
.
وفي رواية عنه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: (هات من هناتك
(4)
. ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك. فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم)
(5)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: طلق ركانة بن عبد يزيد
(6)
،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 408، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، ح (1472)(15).
(2)
هو: صُهيب، أبو الصهباء البكري البصري، مولى ابن عباس رضي الله عنه، صدوق، روى عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: سعيد بن جبير، وطاوس، وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 403؛ التقريب 1/ 441.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 408، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، ح (1472)(16).
(4)
هناتك أي من كلماتك. النهاية في غريب الحديث 2/ 916.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 409، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، ح (1472)(17).
(6)
هو: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، المطلبي، أسلم في الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه نافع بن عجير، وغيره، وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله عنه، وقيل في خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 186؛ الإصابة 1/ 596؛ التقريب 1/ 303.
أخو بني المطلب، امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلقتها؟» قال: طلقتها ثلاثاً. قال: فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم. قال: «فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت» ، قال: فرجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: طلق عبد يزيد
(2)
-أبو ركانة وإخوته-أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة-لشعرة أخذتها من رأسها-ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حميَّة، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه:«أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ - من عبد يزيد-وفلاناً يشبه منه كذا وكذا» قالوا: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 215، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 555. ثم قال البيهقي:(وهذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما-فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أن طلاق ركانة كان واحدة). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 315: (أخرجه أحمد وأبو يعلى، وصححه من طريق محمد بن إسحاق). وصحح إسناده ابن القيم في زاد المعاد 5/ 263، وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 145 - بعد ذكر إسناد أحمد-:(وهذا الإسناد صححه الإمام أحمد، والحاكم، والذهبي). وهذا الحديث رواه داود بن الحصين، عن عكرمة، وهو ثقة إلا في عكرمة، فقال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر. وقال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 163؛ التقريب 1/ 278.
(2)
هو: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، المطلبي، والد ركانة. انظر: الإصابة 2/ 1201.
لعبد يزيد: «طلقها» ففعل، ثم قال:«راجع امرأتك أم ركانة وإخوته» فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: «قد علمت، راجعها، وتلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
(2)
.
رابعاً: حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة عويمر العجلاني
(3)
، وفيه: قال سهل: (فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا قال
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 333، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ح (2196)، وعبد الرزاق في المصنف 6/ 391، والحاكم في المستدرك 2/ 533، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 555. قال أبو داود بعد ذكر الحديث:(وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده، أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصح؛ لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به، إن ركانة طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال:(محمد بن عبد الله بن أبي رافع واه، والخبر خطأ، عبد يزيد لم يدرك الإسلام). وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 333. وقال في إرواء الغليل 7/ 144: (وهذا الإسناد وإن كان ضعيفاً لجهالة البعض من بني رافع أو ضعفه لكنه قد توبع) ثم ذكر الحديث السابق في متابعته.
(2)
سورة البقرة، الآية (230).
(3)
هو: عويمر بن الحارث بن زيد بن جابر، العجلاني. انظر: الإصابة 2/ 1393.
عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
خامساً: عن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضباناً، ثم قال:«أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟
(2)
.
سادساً: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرئين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق لكل قرء» فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها، وقال:«إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك» فقلت يا رسول الله أرأيت لو كنت طلقتها ثلاثاً أكان لي أن أراجعها؟ قال: «لا، كانت تبين، وتكون معصية»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1140، كتاب الطلاق، باب من جوز الطلاق الثلاث، ح (5259)، ومسلم في صحيحه 5/ 448، كتاب اللعان، ح (1492)(1).
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 526، كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة، وما فيه من التغليظ، ح (3401). قال ابن حجر في الفتح 9/ 314:(أخرجه النسائي، ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن النسائي ص 526.
(3)
أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 1/ 462، وذكره ابن حزم في المحلى 9/ 392، ثم قال في 9/ 394:(وأما خبر ابن عمر ففي غاية السقوط؛ لأنه عن رزيق بن شعيب أو شعيب بن رزيق الشامي، وهو ضعيف). وشعيب بن زريق الشامي، وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يعتبر حديثه غير روايته عن عطاء الخراساني. وقال دحيم: لا بأس به. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 321؛ التقريب 1/ 419.
سابعاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: طلق بعض آبائي امرأته ألفاً فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن أبانا طلق أُمَّنا ألفاً فهل له من مخرج؟ قال: «إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجاً، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه»
(1)
.
ثامناً: عن ركانة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني طلقت امرأتي البتة، فقال:«ما أردت بها؟» قلت: واحدة. قال: «والله؟» قلت: والله. قال: «فهو ما أردت»
(2)
.
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 341: (رواه كله الطبراني، وفيه عبيد الله بن الوليد الوصافي العجلي، وهو ضعيف). وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف 6/ 393، والدارقطني في سننه 4/ 20. قال الدارقطني:(رواته مجهولون، وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي). وضعفه كذلك ابن حزم في المحلى 9/ 393.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 335، كتاب الطلاق، باب في البتة، ح (2206)، والترمذي في سننه -واللفظ له- ص 279، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة، ح (1177)، وابن ماجة في سننه ص 354، كتاب الطلاق، باب في طلاق البتة، ح (2051)، والدارمي في سننه 2/ 217. وابن حبان في صحيحه ص 1160، والحاكم في المستدرك 2/ 218. قال أبو داود بعد ذكر الحديث: (وهذا أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً، لأنهم أهل بيته، وهم أعلم به). وقال الترمذي: (هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب، ويروى عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً). وقال الحاكم-ونحوه قول الذهبي-: (قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين، غير أن لهذا الحديث متابعاً من بنت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح به الحديث). وقال المنذري في مختصره 3/ 134: (وذكر الترمذي أيضاً عن البخاري أنه مضطرب فيه، تارة قيل فيه: ثلاثاً، وتارة قيل فيه: واحدة، وأصحه أنه طلقها البتة، وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى. وقال أبو داود: حديث نافع بن عجير حديث صحيح. وفيما قاله نظر، فقد تقدم عن الإمام أحمد أن طرقه ضعيفة، وضعفه أيضاً البخاري، وقد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه). وصحح النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 409، هذا الحديث، وضعف الرواية التي جاء فيها أنه طلق زوجته ثلاثاً.
تاسعاً: الإجماع، وهو أن عمر رضي الله عنه لما خاطب الناس، وذكر شأن الطلاق الثلاث، و قال لهم: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، ثم أمضاه عليهم، لم ينكر ذلك عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع. فكان ذلك إجماعاً على وقوع الطلاق الثلاث معاً
(1)
.
عاشراً: عن محمد بن إياس
(2)
، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً، فكلهم قال: (لا تحل
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 74؛ فتح الباري 9/ 317؛ فتح القدير 3/ 470.
(2)
هو: محمد بن إياس بن البكير بن عبد ياليل، الليثي المدني، ثقة، روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وغيرهما، وروى عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن، ونافع وغيرهما. انظر: تهذيب التهذيب 9/ 57؛ التقريب 2/ 58.
له حتى تنكح زوجاً غيره)
(1)
.
وعن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [سورة الطلاق: 2]. وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله قال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] في قبل عدتهن
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الحديثين الأولين المروية عن ابن عباس رضي الله عنه يدلان على أن الطلاق الثلاث كانت تحسب واحدة، والأدلة
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 333، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ح (2198)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 333.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 333، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ح (2197). والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 542. قال أبو داود:(روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعاً عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وابن جريج عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء، عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، وابن جريج عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، كلهم قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل، عن أيوب، عن عبد الله بن كثير)،. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 333.
المذكورة بعدهما تدل على وقوع الطلاق الثلاث معاً؛ لأن الآية الكريمة تدل على وقوع الطلاق الثلاث، وليس فيها ما يدل على الفرق بين أن تكون مجموعة أو مفرقة
(1)
.
أما حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة عويمر، وكذلك حديث محمود بن لبيد، فإنهما يدلان كذلك على وقوع الثلاث معاً، أما حديث سهل فإنه يدل على وقوع الثلاث معاً وأنه جائز، وإلا لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقره على ذلك
(2)
.
وأما حديث محمود فإنه يدل على لزوم الثلاث
(3)
.
كما أن حديث ابن عمر، وعبادة، وركانة-رضي الله عنهم-يدل على وقوع الطلاق الثلاث. أما حديث ابن عمر وعبادة فظاهر، وأما حديث ركانة فلأنه صلى الله عليه وسلم أحلفه على أنه أراد بالبتة واحدة، فدل أنه لو أراد بها أكثر من ذلك لوقع ما أراده، وإلا لم يكن لتحليفه معنى
(4)
.
وإجماع الصحابة-رضي الله عنهم، وكذلك الآثار المروية عنهم، يدل كذلك على وقوع الثلاث
(5)
.
فتكون هذه الأدلة ناسخة لحديثي ابن عباس رضي الله عنه، ويدل على ذلك
(1)
انظر: المحلى 9/ 394؛ زاد المعاد 5/ 252.
(2)
انظر: المحلى 9/ 395؛ زاد المعاد 5/ 252.
(3)
انظر: فتح الباري 9/ 314.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 409؛ زاد المعاد 5/ 255.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56، 57؛ المحلى 9/ 399.
ما يلي:
أ-أن ابن عباس رضي الله عنه هو الراوي لحديث جعل الطلقات الثلاثة واحدة، ثم هو يفتى ويقول
بوقوع الطلقات الثلاث مجموعة، فهو يدل على أنه علم شيئاً نسخ ذلك؛ لأنه لا يشبه أن يكون ابن عباس رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف
(1)
.
واعترض عليه: بأن مخالفته لما رواه يحتمل احتمالات عديدة من نسيان أو تأويل، أو اعتقاد معارض راجح في ظنه، أو اعتقاد أنه منسوخ أو مخصوص، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يسوغ ترك روايته مع هذه الاحتمالات؟ وهل هذا إلا ترك معلوم لمظنون أو مجهول؟
(2)
.
ب- إن الصحابة رضي الله عنهم-لما خاطبهم عمر رضي الله عنه وذكر شأن الطلاق الثلاث، و قال لهم: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، ثم أمضاه عليهم، لم ينكر ذلك عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع. فكان ذلك إجماعاً منهم على وقوع الطلاق الثلاث معاً.
والإجماع ليس بناسخ لكنه يدل على وجود ناسخ؛ فيكون في إجماعهم ذلك دليلاً على وجود ناسخ لجعل الطلاق الثلاث واحدة-وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر رضي الله عنه وعلى وقوع الطلقات الثلاث مجموعة
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 57؛ السنن الكبرى للبيهقي 7/ 553؛ فتح الباري 9/ 315.
(2)
انظر: زاد المعاد 5/ 265.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 74؛ رسوخ الأحبار ص 453؛ فتح الباري 9/ 317؛ فتح القدير 3/ 470.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الرجل يطلق امرأته ثلاثاً معاً على قولين:
القول الأول: إنه يقع ثلاثاً.
وهو قول المذاهب الأربعة، وجمهور أهل العلم، بل أجمع عليه الصحابة-رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه؛ حيث لم يحفظ أن أحداً في عهده خالفه فيه
(1)
.
القول الثاني: إن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً، فإنه تقع عليها واحدة.
وهو قول بعض أهل العلم، منهم: طاووس، ومحمد بن إسحاق. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً
(1)
انظر: الأم 5/ 152؛ مصنف عبد الرزاق 6/ 393 - 398؛ مصنف ابن أبي شيبة 4/ 61 - 62؛ شرح معاني الآثار 3/ 56؛ المعونة 2/ 827؛ التمهيد 11/ 70؛ بداية المجتهد 3/ 1048؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/
/ 468 - 471؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 74؛ المغني 10/ 334؛ الشرح الكبير 22/ 187؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 409؛ رسوخ الأحبار ص 453؛ فتح الباري 9/ 317؛ الإنصاف 22/ 185.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 55؛ المحلى 9/ 384؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 409؛ مجموع الفتاوى 33/ 11 - 13؛ فتح الباري 9/ 314؛ الإنصاف 22/ 185.
فإنه يقع ثلاثاً- بالأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ غير حديثي ابن عباس رضي الله عنه. وقد سبق وجه الاستدلال منها كذلك.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً فإنه يقع واحدة- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديثي ابن عباس رضي الله عنه؛ حيث إنهما يدلان على أن الطلقات الثلاث معاً كانت تجعل واحدة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
(1)
.
فإن معناه: مرة بعد مرة، والله سبحانه وتعالى لم يقل: الطلاق طلقتان، بل قال: مرتان، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق اثنتين أو ثلاثاً أو عشراً، لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة، فهو كقول الرجل: سبح ثلاثاً، فلو قال:(سبحان الله ثلاثاً)، فإنه سبح الله مرة، ولم يسبحه ثلاثاً حتى يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فكذلك الطلاق
(2)
.
واعترض عليه: بأنه قد يراد بالمرتين المضاعف معاً
(3)
، ومنه قوله
(1)
سورة البقرة، الآية (229).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 33/ 11، 12.
(3)
انظر: المحلى 9/ 388.
تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا
مَرَّتَيْنِ}
(1)
.
كما أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} . قد يكون فيه تعليم وإرشاد لما دون الثلاث من الطلاق، وبيان كيفية طلاق السنة
(2)
، لكن ذلك لا يمنع من إيقاع طلاق من طلق على خلاف السنة، كما روي ذلك عن عدد من الصحابة-رضي الله عنهم، وقد سبق قول ابن عباس رضي الله عنه في دليل القول بالنسخ، أنه قال لمن طلق زوجته ثلاثاً: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك
(3)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول-وهو وقوع طلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً معاً-، وذلك لما يلي:
أ-لما سبق من حديث سهل بن سعد، وابن عمر، وعبادة، وركانة-رضي الله عنهم-فإنها تدل على وقوع الطلاق الثلاث لمن طلق ثلاثاً مجموعة، وهي وإن كان في بعضها ضعفاً إلا أنها بمجموعها تقوى وتدل على ثبوت وقوع الطلاق الثلاث معاً.
ب-للآثار الكثيرة المروية عن الصحابة-رضي الله عنهم-والتي تدل على
(1)
سورة الأحزاب، الآية (31).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 459؛ المحلى 9/ 389.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56 - 58.
وقوع الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً معاً. ومن تلك الآثار:
1 -
ما سبق في حديث ابن عباس رضي الله عنه من قول عمر رضي الله عنه: (إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم).
وعن زيد بن وهب
(1)
، أن رجلاً بطالاً كان بالمدينة طلق امرأته ألفاً، فرجع إلى عمر فقال:
إنما كنت ألعب، فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما)
(2)
.
وفي رواية أنه قال له: (إنما يكفيك من ذلك ثلاثة)
(3)
.
2 -
عن معاوية بن أبي تحيا
(4)
، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال:(ثلاث تحرمها عليك، وسبعة وتسعون عدوان)
(5)
.
3 -
عن حبيب
(6)
، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي
(1)
هو: زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان الكوفي، ثقة، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وهو في الطريق، وروى عن عمر، وعثمان، وغيرهما، وروى عنه: الأعمش، ومنصور، وغيرهما، وتوفي سنة ست وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب 3/ 371؛ التقريب 1/ 332.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 62، ورجاله ثقات.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 394.
(4)
هو: معاوية بن أبي تحيا، روى عنه جعفر بن برقان. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 7/ 332، (1427).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 62.
(6)
هو: حبيب بن أبي ثابت-قيس- بن دينار، الأسدي مولاهم، ثقة، كثير الإرسال والتدليس، وروى عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهم، وروى عنه: الأعمش، والثوري، وغيرهما. وتوفي سنة تسع عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 164؛ التقريب 1/ 183.
-رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي ألفاً، قال:(الثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرهن بين أهلك)
(1)
.
4 -
عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين، وإني سألت فقيل لي: قد بانت مني، فقال ابن مسعود: لقد أحبوا أن يفرقوا بينك وبينها. قال: فما تقول رحمك الله؟ -فظن أنه سيرخص له- فقال: (ثلاث تبينها منك، وسائرها عدوان)
(2)
.
5 -
7 - عن محمد بن إياس أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً، فكلهم قال:(لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره)
(3)
.
8 -
عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: (من طلق امرأته ثلاثاً طلقت، وعصى ربه)
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 62. وروى البيهقي في السنن الكبرى 7/ 556، عن الأعمش عن شيخ عن علي رضي الله عنه نحوه. وفي السند رجل مجهول.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 395، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 58. ورجاله رجال الصحيح.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 395، ونحوه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 62. ورجاله رجال الصحيح.
9 -
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة، فقال:(ثلاث تحرمنها عليه، وسبعة وتسعون فضل)
(1)
.
10 -
عن أنس رضي الله عنه قال: (لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) قال: وكان عمر بن الخطاب إذا أوتي برجل طلق امرأته ثلاثاً أوجع ظهره
(2)
.
فهذه آثار من هؤلاء الصحابة-رضي الله عنهم، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه أفتى في عهد عمر أن من طلق امرأته ثلاثاً معاً أنه يقع واحدة
(3)
.
ج-ولأن لفظ الطلقات الثلاث معاً يحتمل الثلاث، كما يدل عليه ما سبق من أقوال الصحابة-رضي الله عنهم، وقد أراده من تلفظ به، والنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 62.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 59.
(3)
ولم أجد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم-أنه أفتى أحداً بجعل الطلاق الثلاث معاً أنه واحدة، إلا أنه جاء في رواية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهي واحدة. لكن رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله من قول عكرمة. وقد روى الجم الغفير عن ابن عباس أنه أجاز الطلاق الثلاث معاً. انظر: سنن أبي داود ص 333؛ السنن الكبرى للبيهقي 7/ 555؛ فتح الباري 9/ 317. وقال ابن العربي في الناسخ والمنسوخ ص 75، عما نسب إلى بعض الصحابة مِن جَعْل الثلاث واحدة: (وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب، ولا رواية له عن أحد).
قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
.
ثانياً: إن أدلة القول الثاني من الأحاديث وإن كانت صحيحة، إلا أنها تتطرق إليها احتمالات، كالتالي:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول وهو ما يدل على أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثاً من إمارة عمر. فإنه يتطرق له احتمال:
أ- أنه يراد به الطلاق قبل الدخول
(2)
، فعن طاوس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء، كان
كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر، فلما أن رأى الناس-يعني عمر-قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (1)، ومسلم في صحيحه 6/ 535، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية، ح (1907)(155).
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 554؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 75؛ فتح الباري 9/ 315.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 334، كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ح (2199)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 554. قال ابن التركماني في الجوهر النقي 7/ 554:(ورواية أيوب ضعيفة). وكذلك ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 334.
2 -
أن قوله: (كان الثلاث واحدة) تحتمل أن يريد به: كان حكم الثلاث إذا وقعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجعل واحدة، وتحتمل أن يريد به: إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة، فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثاً. وحاصله أن الطلاق الموقع في عهد عمر رضي الله عنه ثلاثاً كان يوقع قبل ذلك واحدة، لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلاً أو كانوا يستعملونها نادراً، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها، فأمضاه عليهم عمر وأجازه أي صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله
(1)
.
فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة
(2)
.
3 -
يحتمل أن جعل الطلاق الثلاث واحدة كانت في وقت كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، وقد نسخ ذلك
(3)
. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} ، الآية
(4)
، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال:
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}
(1)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 554؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 76؛ فتح الباري 9/ 316.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 316.
(3)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 553؛ فتح الباري 9/ 315.
(4)
سورة البقرة، الآية (228).
الآية، [البقرة: 229]
(1)
.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة بن عبد يزيد:«كيف طلقتها؟» قال: طلقتها ثلاثاً. قال: فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم. قال: «فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت» . فإنه يتطرق له احتمال: أنه طلق امرأته البتة، كما جاء ذلك في رواية أخرى، وأن بعض الرواة حمل البتة على الثلاث، فقال طلقها ثلاثاً
(2)
.
ثالثاً: إن القول بنسخ جعل الثلاث واحدة، له وجه؛ لأن الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه أجمعوا على إجازة الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً معاً، فيدل إجماعهم ذلك على وجود ناسخ، وإن خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر رضي الله عنه
(3)
.
ويؤيد ذلك ترك ابن عباس رضي الله عنه لما رواه، وإفتاؤه لمن طلق ثلاثاً معاً، بأنه عصى الله وبانت منه زوجته، كما سبق بيانه
(4)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 1542.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 314.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 56؛ فتح الباري 9/ 317.
(4)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 553؛ فتح الباري 9/ 316.
المطلب الثالث: إذا أسلمت المرأة قبل زوجها
ذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها فإنها تبين منه، وأن ما يدل على تقرير المسلمة تحت المشرك لانتظار إسلامه، فإنه قد نسخ.
وممن صرح به: الطحاوي
(1)
، وابن عبد البر
(2)
، وابن العربي
(3)
، وروي نحوه عن قتادة
(4)
، والزهري
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب
(7)
، على أبي
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 258، 260؛ فتح الباري 9/ 385.
(2)
انظر: التمهيد 11/ 114، 115.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ ص 304.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 260.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 260.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 256 - 260؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 585 - 588؛ التمهيد 11/ 114 - 116؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 252؛ الشرح الكبير للمقدسي 21/ 25 - 30؛ فتح الباري 9/ 380 - 385.
(7)
هي: زينب بنت محمد-رسول الله-بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشية الهاشمية، ولدت قبل البعثة، وكانت كبرى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وتوفيت سنة ثمان من الهجرة. انظر: الإصابة 4/ 2516.
العاص بن الربيع
(1)
، بعد ست سنين، بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً)
(2)
.
(3)
.
(1)
هو: لقيط بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، العبشمي، أبو العاص، مشهور بكنيته، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم زينب كبرى بناته، قيل: أسلم قبل الحديبية، وقيل: قبل الفتح بيسير، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مصاهرته، وتوفي سنة اثنتي عشرة. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 657، 659؛ الإصابة 3/ 1728، 4/ 2287.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 340، كتاب الطلاق، باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها؟، ح (2240)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 271، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، ح (1143)، وابن ماجة في سننه ص 347، كتاب النكاح، باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، ح (2009)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 168، وأحمد في المسند 3/ 369، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 256، والدارقطني في سننه 3/ 254، والحاكم في المستدرك 2/ 219، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 303. قال الترمذي:(هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن الحصين، من قبل حفظه). وصححه الذهبي في التلخيص 2/ 219. وقال ابن حجر في الفتح 9/ 384: (وصححه الحاكم). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 271. وقال في الإرواء 6/ 340: (ومع ذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه، ومن قبله الإمام أحمد).
(3)
سورة الممتحنة، الآية (10).
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في اليهودية والنصرانية، تكون تحت النصراني أو اليهودي، فتسلم هي، قال: يفرق بينهما، الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الكريمة تدل على عدم بقاء المسلمة تحت الكافر؛ لأنها لا تحل له، وحديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على بقاء المسلمة تحت المشرك لانتظار لإسلامه؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول، وهي قد أسلمت وهاجرت قبل أبي العاص بعدة سنوات. فتكون هذه الآية ناسخة لحديث ابن عباس رضي الله عنه، ويؤيد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنه هو الراوي لحديث رد زينب على أبي العاص، ثم هو كان يقول ويفتي بأن اليهودية أو النصرانية إذا أسلمت تحت النصراني أو اليهودي أنه يفرق بينهما، فهو يدل على أنه
علم ناسخاً للحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رده زينب ابنته على أبي العاص، وإلا لما خالف لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 257. قال ابن حجر في الفتح 9/ 381: (سنده صحيح).
(2)
ذكره البخاري في صحيحه ص 1147، في كتاب النكاح، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي. وهو غير موصول. قال ابن حجر في الفتح 9/ 381:(لم يقع لي موصولاً عن عبد الوارث، لكن أخرج ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن خالد الحذاء نحوه). وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف 7/ 174، بمعناه مسنداً.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 258؛ التمهيد 11/ 114، 115؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 304.
واعترض عليه: بأن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وقبل فتح مكة، ثم في فتح مكة أسلمت زوجة عكرمة وصفوان-رضي الله عنهم، وهما قد تأخر إسلامهما، عن إسلامهما، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا هم جددوا أنكحتهم
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الفرقة بين المرأة وزوجها إذا أسلمت قبله على أقوال من أشهرها ما يلي:
القول الأول: إن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر، فإن كانا في دار الحرب فهي امرأته ما لم تنقض العدة، أو تخرج إلى دار الإسلام، فأي ذلك كانت بانت به من زوجها، وإن كانا في دار الإسلام، عُرض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإلا يفرق بينهما.
وهو مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: إن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، فإن أسلم زوجها قبل انقضاء العدة، فهي امرأته، وإلا وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 338؛ زاد المعاد 5/ 137، 138.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 259؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 585 - 587؛ الهداية وشرحه فتح القدير 3/ 418 - 420؛ العناية على الهداية 3/ 418، 419؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/ 267 - 270.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
. وقول الزهري، والأوزاعي، والحسن بن حي، وإسحاق، والليث بن سعد
(4)
.
القول الثالث: إن المرأة إذا أسلمت ولم يسلم معها زوجها تعجل الفرقة وانفسخ النكاح.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(5)
. وروي ذلك عن عمر، وجابر، وابن عباس-رضي الله عنهم، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وطاوس، وعكرمة، وقتادة، والشعبي. واختاره ابن المنذر، والطحاوي، وابن حزم
(6)
.
القول الرابع: إن المرأة إذا أسلمت قبل الزوج، فالنكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها، فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح.
(1)
انظر: التمهيد 11/ 117؛ المنتقى للباجي 5/ 358؛ بداية المجتهد 3/ 1018؛ جامع الأمهات ص 268.
(2)
انظر: الأم 5/ 49؛ مختصر المزني ص 231؛ العزيز 8/ 86؛ روضة الطالبين ص 1221.
(3)
انظر: المغني 10/ 8؛ الشرح الكبير 21/ 26، 29؛ الممتع 5/ 139، 140؛ الإنصاف 21/ 25.
(4)
انظر: التمهيد 11/ 117؛ المغني 10/ 8.
(5)
انظر: المغني 10/ 8؛ الشرح الكبير 21/ 26؛ الإنصاف 21/ 26.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 260؛ المحلى 5/ 368؛ المغني 10/ 8.
ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وروي نحوه عن عمر، وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهما، وإبراهيم النخعي
(1)
. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول بما يلي:
(3)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد)
(4)
.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة 4/ 106، 107؛ التمهيد 11/ 116؛ المحلى 5/ 370.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 336؛ الاختيارات الفقهية ص 226؛ زاد المعاد 5/ 137؛ الإنصاف 21/ 26.
(3)
سورة الممتحنة، الآية (10).
(4)
أخرجه الترمذي في سننه ص 271، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، ح (1142)، وابن ماجة في سننه ص 347، كتاب النكاح، باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، ح (2010)، وأحمد في المسند 11/ 529، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 256، والدارقطني في سننه 3/ 253، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 304. قال عبد الله بن أحمد بعد ذكر الحديث:(قال أبي في حديث حجاج: "رد زينب ابنته" قال: هذا حديث ضعيف، أوقال: واه، ولم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يساوي حديثه شيئاً، والحديث الصحيح الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول). وقال الترمذي: (هذا حديث في إسناده مقال) وقال الدارقطني: (هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول).
ثالثاً: عن داود بن كردوس
(1)
، قال: كان رجل منا من بني تغلب نصراني، تحته امرأة نصرانية فأسلمت، فرفعت إلى عمر فقال له:(أسلمت وإلا فرقت بينكما)، فقال له:(لم أدع هذا إلا استحياء من العرب أن يقولوا: إنه أسلم على بضع امرأة)، قال: ففرق عمر بينهما
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: بأن الآية الكريمة تدل على أن اختلاف الدارين-وهو أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب، والآخر من أهل دار الإسلام-يوجب الفرقة بين الزوجين؛ حيث جاء فيها:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد
(3)
.
وحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-يدل على أن خروجها
(1)
داود بن كردوس، مجهول، له رواية عن عمر رضي الله عنه. انظر: المحلى 5/ 370؛ ميزان الاعتدال 2/ 19.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 105، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 259. وداود بن كردوس مجهول، لكن روى نحوه ابن أبي شيبة من طريق عباد بن العوام عن الشيباني، عن يزيد بن علقمة.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 585.
من دار الحرب، وكذلك انقضاء العدة، يوجب الفرقة. وما روي عن عمر رضي الله عنه يدل على أن الزوجين إذا كانا في دار الإسلام وأسلمت المرأة قبل زوجها، فإنه يعرض الإسلام على الزوج فإن أسلم وإلا يفرق بينهما
(1)
.
واعترض عليه: بأن الذي يوجب فرقة المسلمة من زوجها هو إسلامها؛ لأن الله قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام. كما أن مراعاة زمن العدة لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة، بل حديث ابن عباس رضي الله عنه في رد النبي صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص على النكاح الأول، يدل على عدم اعتباره
(2)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، فإن أسلم زوجها قبل انقضاء العدة، فهي امرأته، وإلا وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان- بما يلي:
أولاً: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي سبق ذكره في دليل السابق.
ثانياً: عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عكرمة بن أبي جهل
(3)
، أم حكيم بنت الحارث بن هشام
(4)
، بعد
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 256، 259؛ أحكام القرآن للجصاص 3/ 586 - 587؛ فتح القدير 3/ 419.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 18/ 58؛ زاد المعاد 5/ 136.
(3)
هو: عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة، القرشي المخزومي، أسلم عام الفتح، وخرج إلى المدينة ثم إلى قتال أهل الردة، ثم خرج إلى غزو الروم، وقتل بأجنادين، وقيل: قتل يوم اليرموك في خلافة عمر رضي الله عنه. انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 387؛ الإصابة 2/ 1279.
(4)
هي: أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، المخزومية، زوج عكرمة بن أبي جهل، أسلمت في الفتح، واستأمنت لزوجها، فحضر معها وأسلم، ثم خرجت معه إلى غزو الروم، فاستشهد، ثم تزوجها خالد بن سعيد بن العاص. انظر: تجريد أسماء الصحابة 2/ 317؛ الإصابة 4/ 2682.
أشهر، أو قريب من سنة)
(1)
.
ثالثاً: عن ابن شهاب، أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام، حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم، حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً، وما عليه رداء، حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك
(2)
.
رابعاً: عن ابن شهاب أنه قال: (كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر).
قال ابن شهاب: (ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله، وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي
عدتها)
(3)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 256، وهو منقطع لأن أبا بكر بن عبد الرحمن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ولد في خلافة عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 429، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 302.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 429، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 303. قال ابن عبد البر في التمهيد 11/ 112:(هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور، معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير وعالمهم، وكذلك الشعبي، وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده إن شاء الله).
ووجه الاستدلال منها: أن هذه الآثار تدل على أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها قبل انقضاء العدة فهي زوجته، ويدل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه على أنه إذا انقضت العدة فإنها لا ترد إليه إلا بنكاح جديد
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ضعيف لا تقوم به حجة
(2)
، وبقية الآثار تدل على أن المرأة إذا أسلمت ثم أسلم زوجها قبل انقضاء عدتها فإنها زوجها، وليس فيها ما يدل على عدم جواز ردها إليه بعد انقضاء العدة إذا رضيت ولم تنكح زوجاً غيره، والأحاديث الصحيحة تدل على أن ذلك موقوف ما لم تتزوج، فإذا أسلم فهي امرأته
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث-وهو أن المرأة إذا أسلمت ولم يسلم معها زوجها تعجل الفرقة وانفسخ النكاح- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
(1)
انظر: الأم 5/ 49؛ الاستذكار 4/ 525 - 527؛ المغني 10/ 9.
(2)
راجع الكلام عليه عند تخريجه.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 336.
لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في اليهودية والنصرانية، تكون تحت النصراني أو اليهودي، فتسلم هي، قال: يفرق بينهما، الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه)
(3)
.
ووجه الاستدلال منهما: أن الآية الكريمة، تدل على تحريم رجوع المؤمنة إلى الكافر، ويدل عليه كذلك أثر ابن عباس رضي الله عنه، كما يدل على أنه يفرق بينهما على الفور
(4)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأدلة تدل على حصول الحرمة بينهما وعلى أنه يفرق بينهما، لكن لا تدل على أنه لا يجوز لها أن ترجع إليه إذا أسلم ولم تنكح زوجاً غيره. والأحاديث الصحيحة تدل على أن ذلك موقوف ما لم تتزوج، فإذا أسلم فهي امرأته
(5)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع-وهو أنها إذا انتظرت ولم تنكح زوجاً غيره حتى
(1)
سورة الممتحنة، الآية (10).
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 258؛ المحلى 5/ 373.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 336.
أسلم فإنها ترد إليه بالنكاح الأول إذا رضيت- بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب، على أبي العاص بن الربيع، بعد ست سنين، بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً)
(1)
.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجه الآخر، وردها إلى زوجها الأول)
(2)
.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنه: (كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح،
فإن هاجر زوجها قبل أن
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 339، كتاب الطلاق، باب إذا أسلم أحد الزوجين، ح (2239)، وابن ماجة في سننه ص 347، كتاب النكاح، باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، ح (2008)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 169، والحاكم في المستدرك 2/ 219، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 306. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/ 337 - بعد ذكر سنده-: (وهذا إسناد ضعيف مداره على سماك عن عكرمة، وهو سماك بن حرب الذهلي الكوفي. قال الحافظ: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن).
تنكح ردت إليه)
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن يزيد الخطمي
(2)
، قال: أسلمت امرأة من أهل الحيرة، ولم يسلم زوجها، فكتب فيها عمر بن الخطاب:(أن خيروها فإن شاءت فارقته، وإن شاءت قرّت عنده)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث ابن عباس رضي الله عنه الأول والثالث يدلان على أن المرأة إذا أسلمت ولم تنكح حتى أسلم زوجها فإنها ترد إليه
(4)
.
وحديث ابن عباس رضي الله عنه الثاني يدل عليه كذلك؛ لأن زوجها الأول أسلم
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1146، كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن، ح (5286). قال ابن حجر في الفتح 9/ 378:(وفي هذا الحديث بهذا الإسناد علة كالتي تقدمت في تفسير سورة نوح، وقد قدمت الجواب عنها، وحاصلها: أن أبا مسعود الدمشقي ومن تبعه جزموا بأن عطاء المذكور هو الخراساني، وأن ابن جريج لم يسمعه منه التفسير، وإنما أخذه عن أبيه عثمان عنه، وعثمان ضعيف، وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس. وحاصل الجواب: جواز أن يكون الحديث عند ابن جريج بالإسنادين؛ لأن مثل ذلك لا يخفى على البخاري مع تشدده في شرط الاتصال، مع كون الذي نبه على العلة المذكورة هو علي بن المديني شيخ البخاري المشهور به، وعليه يعول غالباً في هذا الفن خصوصاً علل الحديث).
(2)
هو: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصن، الأوسي الأنصاري الخطمي، شهد بيعة الرضوان وهو صغير، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: الشعبي، وابن سيرين، وغيرهما، وتوفي في زمن ابن الزبير رضي الله عنه. انظر: الإصابة 2/ 1141.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 84، وابن أبي شيبة في المصنف 4/ 106 - مختصراً-. وصححه ابن حزم في المحلى 5/ 370.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 337.
قبل أن تنكح زوجه الثاني، وعلمت بإسلامه، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الثاني وردها إلى الأول، ولم يستفصله هل أسلما معاً أو هل أسلمت قبل أن تنقضى العدة؟ وترك السؤال يدل على أن الجواب عام مطلق في كل ما تناوله صور السؤال
(1)
.
وأثر عمر رضي الله عنه يدل على ذلك كذلك؛ حيث إنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم،
فتكون زوجته كما هي، أو تفارقه
(2)
.
الراجح
بعد ذكر الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الرابع، وهو أنها إذا انتظرت ولم تنكح زوجاً غيره حتى أسلم فإنها ترد إليه بالنكاح الأول إذا رضيت، وذلك لما يلي:
أ-لكثرة أدلة هذا القول مع صحتها وصراحتها في الدلالة، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى فإن منها ما هو صحيح غير صريح، ومنها ما هو صريح غير صحيح، ومنها ما هو محتمل لأكثر من احتمال.
ب-ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين ما صح من الأدلة الواردة في المسألة كلها، بخلاف الأقوال الأخرى، وذلك بحمل أدلة القول الرابع على ما إذا انتظرت ولم تنكح زوجاً غيره حتى أسلم، فإنها ترد إليه بالنكاح الأول إذا
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 32/ 338.
(2)
انظر: زاد المعاد 5/ 139.
رضيت. وحمل أدلة الأقوال الأخرى على حصول الحرمة بينهما بمجرد إسلام أحدهما، لكنها لا تمنع من ردها إليه بالنكاح الأول إذا رضيت ولم تنكح زوجاً غيره، سواء انقضت عدتها أم لا.
ثانياً: إنه كان قبل صلح الحديبية جواز بقاء المسلمة في عصمة الكافر، وبعد الصلح أنزل الله تعالى قوله:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
(1)
.
فنسخ به بقاء المسلمة تحت الكافر، وبين أنها لا تحل للكافر، ولا يحل الكافر لها
(2)
؛ لذلك إذا أسلم أحد الزوجين حرم على الآخر ساعة أسلم حتى يسلم الآخر للآية الكريمة.
لكنه ليس فيه نسخ ولا تحريم أن تنتظر المرأة التي أسلمت حتى ترد إلى زوجها إذا أسلم، سواء انقضت عدتها أم لا، يدل على ذلك ما حصل عند فتح مكة؛ حيث أسلم بعض النساء
وتأخر إسلام أزواجهن، ثم ردت إلى أزواجهن بالنكاح الأول
(3)
.
ثانياً: إنه لا يصح قول من قال بنسخ ما يدل على رد المرأة إلى زوجها بالنكاح الأول إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى ولو لم تنكح زوجاً غيره، وذلك لما يلي:
(1)
سورة الممتحنة، الآية (10).
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 304.
(3)
انظر: الأم 5/ 49؛ الاستذكار 4/ 528؛ مجموع الفتاوى 32/ 338.
أ-لأنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى النسخ
(1)
.
ب- إنه قد أسلمت نساء بعد نزول الآية الكريمة وتأخر إسلام أزواجهن، ومع ذلك فإنهن رددن إلى أزواجهن بالنكاح الأول، كما سبق بيانه، فلو كانت الآية الكريمة ناسخة لردهن إلى أزواجهن بالنكاح الأول، لما صح ردهن إليهم.
ج-إنه قد روي ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد زينب-رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بعد تحريم المؤمنة على الكافر، وهو ما رواه عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: صرخت زينب: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فذكر الحديث إلى أن قالت: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: «أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له»
(2)
.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب-رضي الله عنها-على زوجها أبي العاص بعد هذا، فهو مما يدل على بطلان دعوى النسخ، وترجيح القول الرابع.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 301. وهو في سيرة ابن هشام عن طريق ابن إسحاق 1/ 658.
المطلب الرابع: أخذ الفدية في الخلع
ذهب بكر بن عبد الله المزني
(1)
، إلى أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً عن زوجته في الخلع
(2)
، وأن ما يدل على جواز الأخذ فإنه قد نسخ
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
(5)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
(1)
هو: بكر بن عبد الله بن عمرو، المزني، أبو عبد الله البصري. ثقة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، وروى عنه: ثابت البناني، وسليمان التيمي، وغيرهما، وتوفي سنة ست-وقيل: ثمان- ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 1/ 442؛ التقريب 1/ 135.
(2)
الخلع لغة: النزع، والعزل. انظر: مختار الصحاح ص 162؛ المصباح المنير ص 151.
واصطلاحاً: إزالة ملك النكاح بأخذ المال. التعريفات للجرجاني ص 101.
(3)
انظر قوله في: أحكام القرآن للجصاص 1/ 474؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 70؛ بداية المجتهد 3/ 1054.
(4)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 77؛ نواسخ القرآن 1/ 288.
(5)
سورة البقرة، الآية (229).
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
(1)
.
ويستدل منهما على النسخ: بأن الآية الأولى تدل على جواز أخذ الفدية في الخلع، والآية الثانية تدل على تحريمه، فتكون الآية الثانية ناسخة لجواز أخذ الفدية المذكورة في الآية الأولى
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ-إن النسخ إنما يقال عند تعذر الجمع بين الأدلة، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى
حتى يقال فيها بالنسخ؛ وذلك لأن الآية الأولى يدل على جواز أخذ الفدية في الخلع إذا خافا أن لا يقيما حدود الله. والآية الثانية إنما جاء فيها النهي إذا أراد الزوج استبدال زوج مكان زوج
(3)
.
ب-إن النسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ، ولا يوجد ما يثبت أن الآية الثانية متأخرة عن الآية الأولى حتى تكون ناسخة لها
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وذهب بقية أهل العلم-ومنهم أهل المذاهب الأربعة-إلى جواز أخذ الفدية في الخلع، لا خلاف بينهم في ذلك
(5)
، وذلك لما يلي:
(1)
سورة النساء، الآية (20).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 474؛ بداية المجتهد 3/ 1054؛ نواسخ القرآن 2/ 288.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 474؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 70؛ التمهيد 11/ 199؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 133؛ نواسخ القرآن 1/ 288؛ المغني 10/ 268.
(4)
انظر: المغني 10/ 268.
(5)
انظر: الموطأ لمحمد ص 188؛ الأم 5/ 218؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 474؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 70؛ التمهيد 11/ 197؛ بداية المجتهد 3/ 1054؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 133؛ المغني 10/ 268؛ فتح الباري 9/ 353.
أولاً: الآية السابقة في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على جواز أخذ الفدية في الخلع.
ثانياً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قيس
(1)
، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خُلق ولا دِين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة»
(2)
.
ووجه الاستدلال منهما ظاهر؛ حيث إنهما يدلان صراحة على جواز أخذ الفدية في
الخلع
(3)
.
وهذا القول هو الراجح بلا شك، لدلالة الكتاب والسنة عليه، وعدم صحة القول بالنسخ.
والله أعلم.
(1)
هو: ثابت بن قيس بن شماس بن زهير، الأنصاري الخزرجي، خطيب الأنصار، شهد أحداً وما بعدها، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد يوم اليمامة. انظر: الإصابة 1/ 221.
واختلف في اسم امرأته هذه، فقيل: جميلة بنت أبي بن سلول. وقيل: حبيبة بنت سهل. وقيل: مريم المغالية. انظر: فتح الباري 9/ 356.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1144، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، ح (5273).
(3)
انظر: الأم 5/ 218؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 474، 477؛ التمهيد 11/ 197 - 199؛ المغني 10/ 267.
المطلب الخامس: كون الظهار طلاقاً
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الظهار
(1)
كان في الجاهلية وفي أول الإسلام طلاقاً يحصل به الحرمة والفراق، ثم نسخ الله ذلك فجعله تحريماً موقتاً، وموجباً للكفارة.
وممن قال بنحو هذا: أبو بكر الجصاص
(2)
، والمرغناني
(3)
، وابن العربي
(4)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
.
وسائر أهل العلم -وإن لم يصرحوا بالنسخ أو لم يذهبوا إليه-إلا أنه لا خلاف بينهم في أن الظهار في الشريعة غير الطلاق
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
(1)
الظهار من الظهر، وهو لغة: خلاف البطن. واصطلاحاً: قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. انظر: المصباح المنير ص 315؛ أنيس الفقهاء ص 57.
(2)
انظر: أحكام القرآن 3/ 558، 559.
(3)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 4/ 250.
(4)
انظر: أحكام القرآن 4/ 1752.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى 33/ 167.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة، غير الأولى. وانظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 237؛ الجامع لأحكام القرآن 17/ 230، 234؛ المغني 11/ 57؛ الشرح الكبير 23/ 244.
نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
.
ثانياً: عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة
(2)
، قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت
(3)
، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول:«اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} . [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال:«يعتق رقبة» قالت: لا يجد، قال:«فيصوم شهرين متتابعين» قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين
(1)
سورة المجادلة، الآيات (1 - 4).
(2)
هي: خولة بنت مالك بن ثعلبة بن أصرم، الأنصارية الخزرجية، زوج أوس بن الصامت. ويقال لها خويلة بالتصغير. ويقال: خولة بنت حكيم. و: خولة بنت دليج. وخولة بنت خويلد. انظر: الإصابة 4/ 2489، 2492؛ تهذيب التهذيب 12/ 365؛ التقريب 2/ 637.
(3)
هو: أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم، الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والمشاهد. وتوفي سنة أربع وثلاثين. انظر: الإصابة 1/ 96.
مسكيناً» قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأُتي ساعتئذ بعرق من تمر، قلت: يا رسول الله، فإني أعينه بعرق آخر، قال: «قد أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك)
(1)
ثالثاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي، ظاهر منّي، اللهم إني أشكو إليك. فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]
(2)
.
رابعاً: عن أبي العالية الرياحي، قال: كانت خولة بنت دليج، تحت رجل من الأنصار،
وكان سيئ الخلق ضرير البصر فقيراً، وكانت الجاهلية إذا أراد الرجل أن يفارق امرأته قال لها: أنت عليّ كظهر أمي. فنازعته في بعض الشيء، فقال: أنت عليّ كظهر أمي. وكانت له عيل أو عيلان.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 337، كتاب الطلاق، باب في الظهار، ح (2214)، وابن حبان في صحيحه ص 1162، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 643. وحسن ابن حجر في الإصابة 1/ 96، إسناد رواية أبي داود. وذكر له الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 174، شواهد، ثم قال:(وجملة القول أن الحديث بهذه الشواهد صحيح).
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 356، كتاب الطلاق، باب الظهار، ح (2063)، والحاكم في المستدرك 2/ 523، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 628. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 175: (هو كما قالا).
فلما سمعته يقول ما قال، احتملت صبيانها، فانطلقت تسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته عند عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-في بيتها، وإذا عائشة تغسل شق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت عليه، ثم قالت: يا رسول الله إن زوجها فقير ضرير البصر سيئ الخلق، وإني نازعته في شيء، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ولم يرد الطلاق، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال:«ما أعلم إلا قد حرمت عليه» قال: فاستكانت، وقالت: أشتكي إلى الله ما نزل بي وبصبيتي، قال: وتحولت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فتحولت معها، فقالت مثل ذلك، قالت: ولي منه عيل أو عيلان، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إليها، فقال:«ما أعلم إلا قد حرمت عليه» فبكت وقالت: أشتكي إلى الله ما نزل بي وبصبيتي، وتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة-رضي الله عنها: وراءك، فتنحت، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم انقطع الوحي، فقال:«يا عائشة أين المرأة؟» قالت: ها هي هذه، قال:«ادعيها» فدعتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اذهبي فجيئي بزوجك» قال: فانطلقت تسعى فلم تلبث أن جاءت به فأدخلته على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقير سيئ الخلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«استعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}. الآية [المجادلة: 1]. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتجد عتق رقبة؟» قال: لا. قال: «أفتستطيع صوم شهرين متتابعين؟» قال له: والذي بعثك بالحق إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاث يكاد أن يغشو بصري. قال:
«فتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟» قال: لا، إلا أن تعينني فيها، قال: فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفر يمينه
(1)
.
خامساً: عن محمد بن كعب القرظي، قال: كانت خولة ابنة ثعلبة تحت أوس بن
الصامت، وكان رجلاً به لمم
(2)
، فقال في بعض هجراته
(3)
: أنت عليّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت عليّ. قالت: لا تقل ذلك، فوالله ما أحب الله طلاقاً، قالت: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله، فقال: إني أجدني أستحي منه أن أسأله عن هذا، فقالت: فدعني أن أسأله، فقال لها: سليه. فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي، وأحب الناس إليّ، قد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، قال: أنت عليّ كظهر أمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أراك إلا قد حرمت عليه» . قالت: لا تقل ذلك يا نبي الله، والله ما ذكر طلاقاً، فرادت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، ثم قالت: اللهم إني أشكو اليوم شدة حالي ووحدتي، وما يشق عليّ من فراقه، اللهم فأنزل على لسان نبيك. فلم ترِمْ مكانها حتى أنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 633، وقال:(هذا مرسل ولكن له شواهد). وأخرج نحوه ابن جرير في جامع البيان 14/ 8315.
(2)
اللمم طرف من الجنون، يلم بالإنسان، أي يقرب منه ويعتريه. النهاية في غريب الحديث 2/ 616.
(3)
هجراته من الهجر، وهو الفحش، وكذلك إذا أكثر الكلام فيما لا ينبغي. انظر: النهاية في غريب الحديث
2/ 893.
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}. الآية [المجادلة: 1]. إلى أن ذكر الكفارات، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أعتق رقبة» قال: لا أجد، فقال:«صم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، إني لأصوم اليوم الواحد فيشق عليّ، قال:«أطعم ستين مسكيناً» قال: أما هذا فنعم
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة تدل على أنه كان قبل نزول آيات الظهار كان الظهار طلاقاً يحصل به الحرمة والفراق، ثم أنزل الله آيات الظهار، فنسخ به الحكم السابق، وجعله تحريماً موقتاً، وموجباً للكفارة
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن الظهار غير الطلاق، وأنه تحريم موقت يوجب الكفارة بخلاف الطلاق
(3)
.
وذلك للأدلة التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ.
والذي يظهر-والله أعلم بالصواب-صحة قول النسخ؛ وذلك
(1)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 14/ 8318.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 558، 559؛ الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للنحاس ص 237؛ أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1752؛ الجامع لأحكام القرآن 17/ 230؛ مجموع الفتاوى 33/ 167.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة، وانظر: الأم 5/ 307؛ السنن الكبرى 7/ 631؛ بداية المجتهد 3/ 1122؛
1123؛ الهداية وشرحه فتح القدير 4/ 249، 250؛ العناية شرح الهداية 4/ 250؛ المغني 11/ 54 - 57؛ الشرح الكبير 23/ 244.
لأن مجموع الروايات السابقة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر أول الأمر كون الظهار طلاقاً يحصل به الحرمة والفراق؛ حيث جاء فيها لفظ: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)، (ما أعلمه إلا قد حرمت عليه)، فهو يدل على أن الظهار كان طلاقاً يحصل به الحرمة والفرقة، ويؤكد ذلك المجادلة بين رسول الله، وخولة-رضي الله عنها-وقوله لها:(اتقي الله). وقولها: (لم يرد الطلاق). حتى أنزل الله آيات الظهار، فجعله تحريماً موقتاً وموجباً للكفارة، ورافعاً للحكم السابق.
والله أعلم.
المطلب السادس: مدة حداد المرأة على الزوج
ذهب الطحاوي إلى أن مدة حداد
(1)
المتوفى عنها زوجها كانت في بعض العدة، ثم نسخ ذلك وجعل إحدادها كل العدة أربعة أشهر وعشراً
(2)
.
وبقية أهل العلم لم أجد من صرح منهم بالنسخ، إلا أنه لا خلاف بينهم في أن مدة حداد المتوفى عنها زوجها غير الحامل مدة عدتها أربعة أشهر وعشراً
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-قالت: لما أصيب جعفر، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسلبي
(4)
ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت»
(5)
.
(1)
الحداد: حزن المرأة على زوجها، ولبسها ثياب الحزن، وتركها الزينة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 346؛ المصباح المنير ص 11؛ التعريفات الفقهية ص 77.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 75، 78، 79.
(3)
إلا ما روي عن الشعبي أنه كان لا يعرف الإحداد. وعن الحسن أنه كان لا يوجبه. انظر: الأم 5/ 256؛ بداية المجتهد 3/ 1153 - 1154؛ الهداية وشرحه فتح القدير 4/ 336، 337؛ المغني 11/ 284، 287؛ فتح الباري 9/ 458 - 460.
(4)
تسلبي أي البسي ثوب الحداد، وهو السِّلاب، والجمع سلب، وتسلبت المرأة إذا لبسته، وقيل: هو ثوب أسود تغطي به المحدة رأسها. النهاية في غريب الحديث 1/ 793.
وهذا اللفظ: (تسلبي) ورد عند الطحاوي (تسكني) وعند ابن حبان: (تسلمي) وعند البيهقي: (تسلبني)، والتصحيح من فتح الباري 9/ 459، وإتحاف الخيرة المهرة للبوصيري 4/ 167.
(5)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 75، وابن حبان في صحيحه ص 883، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 7/ 720. وأخرجه كذلك أحمد بن منيع كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 167. قال البيهقي:(لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه عن أسماء، فهو مرسل، ومحمد بن طلحة ليس بالقوي). وقال ابن حجر في الفتح 9/ 459: (وقد ورد في حديث قوي الإسناد أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان عن أسماء بنت عميس-فذكر الحديث-). وقال في 9/ 460: (رابعها أن البيهقي أعل الحديث بالانقطاع، فقال: "لم يثبت سماع عبد الله بن شداد من أسماء". وهذا تعليل مدفوع، فقد صححه أحمد، لكنه قال: "إنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد". قلت: وهو مصير منه إلى أنه يعله بالشذوذ). وتعقب ابن التركماني على البيهقي كذلك في الجوهر النقي 7/ 721، وذكر أن الحديث له شواهد، وأن محمد بن طلحة
اتفق الشيخان عليه.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال:«لا تحدي بعد يومك هذا»
(1)
.
ثانياً: عن زينب بنت أبي سلمة قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة-رضي الله عنها-بصفرة في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها وذراعيها، وقالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً»
(2)
.
ثالثاً: قالت زينب: فدخلت على زينب ابنة جحش، حين توفي أخوها،
(1)
أخرجه أحمد في المسند 45/ 20، وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 167.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 251، كتاب الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها، ح (1280)، و مسلم في صحيحه 5/ 440، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، ح (1486)(58).
فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت: أما والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً»
(1)
.
رابعاً: قالت زينب: وسمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا» مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول:«لا» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول»
(2)
.
خامساً: عن أم عطية-رضي الله عنها-قالت: (كنا نُنهى أن نُحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب
عصب
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1157، كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً، ح (5335)، ومسلم في صحيحه 5/ 440، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، ح (1487)(85).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1157، كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً، ح (5336)، ومسلم في صحيحه 5/ 440، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، ح (1488)(85).
(3)
العصب، برود يمنية يُعصب غزلها، أي يجمع ويشد، ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. وقيل: هي برود مخططة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 213.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 67، كتاب الحيض، باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، ح (313)، ومسلم في صحيحه 5/ 445، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، ح (938)(67).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-يدل على أن مدة حداد المرأة على زوجها ثلاثة أيام، والأحاديث المذكورة بعده تدل على أن مدة حدادها على الزوج المتوفى أربعة أشهر وعشراً، فيكون حديثها منسوخاً بهذه الأحاديث؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن مدة حدادها على الزوج إذا توفي ولم تكن حاملاً أربعة أشهر وعشراً، والإجماع يدل على نسخها وعلى وجود ناسخ
(1)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على النسخ، وإنما هو احتمال، والنسخ لا يثب به
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولا خلاف بين أهل العلم ممن قال بإحداد المتوفى عنها زوجها أن مدة حدادها على الزوج إذا توفي ولم تكن حاملاً أربعة أشهر وعشراً
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 75 - 79؛ فتح الباري 9/ 459، 460؛ نيل الأوطار 6/ 410؛ الروضة الندية شرح الدرر البهية لصديق حسن خان 2/ 72.
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 745، 9/ 460؛ نيل الأوطار 6/ 410.
(3)
انظر: الأم 5/ 256؛ شرح معاني الآثار 3/ 75 - 81؛ التمهيد 11/ 342؛ بداية المجتهد 3/ 1153 - 1154؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 172؛ الهداية وشرحه فتح القدير 4/ 336، 337؛ المغني 11/ 284، 287؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 5/ 442؛ فتح الباري 9/ 458 - 460؛ نيل الأوطار 6/ 410؛ الروضة الندية 2/ 72.
وذلك للأحاديث الكثيرة التي تدل على ذلك، منها ما سبق في دليل القول بالنسخ.
هذا والأحاديث الصحيحة تدل على أن مدة حداد المرأة على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشراً، كما سبق ذكره.
أما حديث أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-فبعض أهل العلم ضعفه، وبعضهم صححه
(1)
، وهو على كل حال لا يقاوم الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإذاً فالحكم لتلك الأحاديث لا لحديثها، لكنه على تقدير الصحة محتمل لأمور:
أ-أن يكون منسوخاً بالأحاديث المعارضة له، ويؤيده إجماع أهل العلم على القول بموجبها لا بموجبه.
ب- أن المراد بالإحداد المقيد بالثلاث قدر زائد على الإحداد المعروف، فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بعد الثلاث
(2)
.
ج-أن يكون المراد في حديث أسماء رضي الله عنه بعدم الحداد على زوجها بعد اليوم الثالث البكاء، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال:«لا تبكوا على أخي بعد اليوم»
(3)
.
والله أعلم.
(1)
ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 3/ 172، عن ابن المنذر أنه قال:(وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به، وقاله إسحاق).
(2)
انظر: نيل الأوطار 6/ 410.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 624، كتاب الترجل، باب في حلق الرأس، ح (4192)، والنسائي في سننه ص 789، كتاب الزينة، باب حلق رؤس الصبيان، ح (5227)، وأحمد في المسند 3/ 279. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 624:(صحيح).
المطلب السابع: متاع المتوفى عنها زوجها
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتوفى عنها زوجها كان زوجها يوصي لها متاعاً إلى الحول من ماله، وهو النفقة والسكنى، ثم نسخ ذلك بالميراث فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج.
وممن صرح بنحو هذا: ابن عباس رضي الله عنه
(1)
، وقتادة
(2)
، وأبو داود
(3)
، والجصاص الرازي، ونقل عليه اتفاق أهل العلم
(4)
، وابن عبد البر
(5)
. وذكر ابن الجوزي أنه مجموع قول الجماعة
(6)
.
وذهب ابن جرير إلى أن الله سبحانه وتعالى نسخ النفقة بآية الميراث، ونسخ كون السكنى حولاً بجعله أربعة أشهر وعشراً
(7)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 501؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75؛ نواسخ القرآن 1/ 295.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75؛ نواسخ القرآن 1/ 295.
(3)
انظر: سنن أبي داود ص 350.
(4)
انظر: أحكام القرآن 1/ 501 - 502.
(5)
انظر: الاستذكار 5/ 242.
(6)
انظر: نواسخ القرآن 1/ 294.
(7)
انظر: جامع البيان 2/ 1450.
المسألة، كما أن الاختلاف في مفهوم الأدلة الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول بنسخ الوصية بالمتاع من النفقة والسكنى بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية
(3)
.
ثالثاً: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
(4)
.
رابعاً: عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على راحلته، وإنها لتقصع بجرتها، وإن لعابها ليسيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «إن الله قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث، فلا تجوز
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 216 - 217؛ فتح الباري 9/ 467.
(2)
سورة البقرة، الآية (240).
(3)
سورة النساء، الآية (12).
(4)
سبق تخريجه في ص 70.
لوارث وصية»
(1)
.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال في ميراثه:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ، فكان للمتوفى زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسخها آية الميراث، فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1417.
(2)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 2/ 1448.
(3)
أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 1/ 501، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 1/ 295، من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنه.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الأولى تدل على ثبوت الوصية لزوجة المتوفى متاعاً
إلى الحول بالسكنى والنفقة، وكان هذا قبل نزول المواريث، وقد جعل الله لهن من الميراث الربع عند عدم الولد، والثمن عند وجوده، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا وصية لوارث، فتكون آية المواريث والأحاديث التي تدل على أنه لا وصية لوارث ناسخة للوصية لزوجة المتوفى بالمتاع حولاً وهو النفقة والسكنى، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه
(1)
.
ويستدل لمن قال بنسخ النفقة مطلقاً ونسخ السكنى من حول إلى أربعة أشهر وعشراً بما يلي:
أولاً: ما سبق من الآيات في دليل القول السابق.
ثانياً: عن الفريعة بنت مالك بن سنان
(2)
، أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم
(3)
، لحقهم فقتلوه، فسألت رسول
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 1447 - 1450؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 501 - 502.؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75؛ الاستذكار 5/ 242؛ نواسخ القرآن 1/ 294، 295؛ فتح الباري 9/ 467.
(2)
هي: فريعة بنت مالك بن سنان، الخدرية الأنصارية، أخت أبي سعيد. شهدت بيعة الرضوان، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها زينب بنت كعب بن عجرة. انظر: الإصابة 4/ 2608؛ تهذيب التهذيب 12/ 395.
(3)
القدوم اسم جبل بقرب المدينة على ستة أميال منها. انظر: التمهيد 11/ 321؛ معجم البلدان 4/ 23.
الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة-أوفي المسجد-دعاني، أو أمر بي فدعيت له، فقال:«كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: «أُمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» . قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتَّبعه وقضى به
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 350، كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل، ح (2300)، والترمذي في سننه ص 287، كتاب الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح (1204)، والنسائي في سننه ص 548، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ح (3528)، وابن ماجة في سننه ص 351، كتاب الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح (2031)، ومالك في الموطأ 2/ 462، وابن أبي شيبة في المصنف 4/ 155، وأحمد في المسند 45/ 28، وابن جرير في جامع البيان 2/ 1451، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 77، والحاكم في المستدرك 2/ 227، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 713. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد-ونقل تصحيحه كذلك عن محمد بن يحيى الذهلي-). ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في الاستذكار 5/ 224: (وليس قول من طعن في إسناد الحديث الوارد بها مما يجب الاشتغال به؛ لأن الحديث صحيح، ونقلته معروفون، قضى به الأئمة، وعملوا بموجبه). وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 240: (وأعله عبد الحق تبعاً لابن حزم بجهالة حال زينب، وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتعقبه ابن القطان بأن سعداً وثقه النسائي وابن حبان، وزينب وثقها الترمذي. قلت: وذكرها ابن فتحون وابن الأمين في الصحابة، وقد روى عن زينب غير سعيد، ففي مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب، وكانت تحت أبي سعيد، عن أبي سعيد حديث في فضل علي بن أبي طالب). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 350. وضعفه في إرواء الغليل 7/ 206، وقال بعد تخريجه للحديث: (رجاله ثقات غير زينب هذه فهي مجهولة الحال، لم يرو عنها سوى اثنين، ونقل الذهبي عن ابن حزم أنه قال فيها: "مجهولة" وأقره، ومن قبله الحافظ عبد الحق الأشبيلي).
ويستدل منها على النسخ: بأن الله سبحانه وتعالى جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، كما يدل على هذا الآية الأولى، ثم إن الله سبحانه وتعالى نسخ النفقة بآية الميراث، ونسخ مما كان جعل لهن من سكنى حول بردهن إلى أربعة أشهر وعشراً، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه حديث الفريعة
(1)
.
واعترض عليه: بأن الآية الأولى تدل على وجوب وصية النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها، والوصية للوارث قد نسخت، وهو يشمل النفقة والسكنى، وحديث فريعة رضي الله عنها يدل على وجوب أن تعتد المتوفى عنها زوجها في البيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، ولا يدل على وجوب وصية ذلك على زوجها
(2)
.
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 1450.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 501، 502؛ التمهيد 11/ 323، 324؛ الاستذكار 5/ 242؛ فتح الباري 9/ 467.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وجمهور أهل العلم-ومنهم أهل المذاهب الأربعة-على أن المتوفى عنها زوجها لا يوصي لها زوجها بالمتاع الذي كان يوصى لها من قبل، وأنه ليس لها النفقة من مال زوجها إذا لم تكن حاملاً، وإنما اختلفوا في السكنى هل نسخ جملة أو نسخ من حول إلى أربعة أشهر وعشراً على قولين كما سبق ذكره مع الأدلة
(1)
.
وخالفهم مجاهد فذهب إلى عدم النسخ، وقال: يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً عند أهل زوجها، وأن الله جعل لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت
(2)
.
واستدل بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
(1)
انظر: جامع البيان 2/ 1450؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 501؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75؛ الاستذكار 5/ 242؛ نواسخ القرآن 1/ 295؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 216 - 217؛ فتح الباري 9/ 467.
(2)
صح سند هذا عن مجاهد. وذكر ابن عبد البر في الاستذكار أنه رواية شاذة مهجورة جاءت عن أبي نجيح عن مجاهد، لم يتابع ابن أبي نجيح عليها. ثم قال: وقد روى ابن جريج عن مجاهد في ذلك مثل ما عليه الناس، وانعقد الإجماع وارتفع الخلاف. ثم أسند عنه القول بالنسخ. انظر: صحيح البخاري ص 1158؛ الاستذكار 5/ 242؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 216؛ فتح الباري 9/ 467 عمدة القاري 14/ 357.
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية
(2)
.
ووجه الاستدلال منهما: أن الآية الأولى تدل على أنه يجب على المتوفى عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً عند أهل زوجها. ثم أنزل الله الآية الثانية وجعل لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله {غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم}
(3)
.
واعترض عليه: بأن هذا مبني على أن الآية الثانية نزلت بعد الأولى، وليس الأمر كذلك
بل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، نزل بعد قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ، لذلك فهو ناسخ للوصية المذكورة في هذه الآية
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (234).
(2)
سورة البقرة، الآية (240).
(3)
انظر: صحيح البخاري ص 1158؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 216؛ فتح الباري 9/ 467.
(4)
انظر: فتح الباري 9/ 467؛ عمدة القاري 14/ 356، 357.
الراجح
الذي يظهر لي- والله أعلم بالصواب-هو رجحان قول الجمهور وهو نسخ الوصية من النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن هذه الوصية كانت قبل نزول المواريث، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. فتكون آية المواريث والأحاديث التي تدل على عدم الوصية للوارث ناسخة لهذه الوصية.
ثانياً: إنه لا يلزم من نسخ هذه الوصية أن المتوفى عنها زوجها لا تعتد في البيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، كما سبق ذكره، و كما سيأتي ذلك في المسألة بعد التالية.
والله أعلم.
المطلب الثامن: مدة عدة المتوفى عنها زوجها
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن عدة
(1)
المتوفى عنها زوجها كان حولاً، ثم نسخ ذلك بالعدة أربعة أشهر وعشراً
(2)
.
وممن روي عنه ذلك أو قال به: ابن عباس رضي الله عنه
(3)
، وعكرمة
(4)
، والحسن البصري
(5)
، و قتادة
(6)
، والجصاص الرازي
(7)
، والنحاس
(8)
، وابن عبد البر
(9)
، وابن العربي
(10)
، والقرطبي
(11)
.
(1)
العدة هي: تربص يلزم المرأة عند زوال النكاح المتأكد أو شبهه. التعريفات الفقهية ص 144.
(2)
ذهب أبو عبيد إلى أنه من الناسخ والمنسوخ الذي لم يختلف علماء الأمة فيه. وذكر الجصاص أنه اتفق عليه أهل العلم. وذكر ابن الجوزي أنه مجموع قول الجماعة. ونسبه ابن العربي، والقرطبي إلى أكثر أهل العلم. انظر: جامع البيان 2/ 1447 - 1449؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 502؛ الاستذكار 5/ 242؛ السنن الكبرى للبيهقي 7/ 701؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 165؛ نواسخ القرآن 1/ 294 - 296.
(3)
انظر: السنن الكبرى 7/ 701؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 215.
(4)
انظر: جامع البيان 2/ 1449.
(5)
انظر: جامع البيان 2/ 1449.
(6)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75.
(7)
انظر: أحكام القرآن 1/ 501.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 77.
(9)
انظر: الاستذكار 5/ 242.
(10)
انظر: أحكام القرآن 1/ 207.
(11)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 165.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشراً، وليس حولاً، إلا أن بعضهم لم يسم هذا التغيير من الحول إلى أربعة أشهر وعشراً نسخاً
(1)
.
ويستدل لما سبق بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية
(3)
.
ثالثاً: عن زينب بنت أبي سلمة قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة-رضي الله عنها-بصفرة في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها وذراعيها، وقالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً»
(4)
.
رابعاً: قالت زينب: فدخلت على زينب ابنة جحش، حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت: أما والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الأولى.
(2)
سورة البقرة، الآية (234).
(3)
سورة البقرة، الآية (240).
(4)
سبق تخريجه في ص 1578.
وعشراً»
(1)
.
خامساً: قالت زينب: وسمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا» مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول:«لا» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الثانية تدل على أن المتوفى عنها زوجها كان عليها أن تعتد سنة، والآية الأولى تدل على أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهي متأخرة في النزول على الآية الثانية، فتكون ناسخة لها، ويؤكدها الأحاديث المذكورة، حيث جعل الإحداد لها
على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشراً، مدة عدتها من الوفاة
(3)
.
وهذا هو الراجح بلا شك، ولا معنى لقول من قال: بأن هذا ليس نسخاً وإنما هو نقصان من حول إلى أربعة أشهر وعشراً؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً، فهذا هو النسخ
(4)
.
والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 1578.
(2)
سبق تخريجه في ص 1578.
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 1447 - 1449؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 501، 502؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 75 - 78؛ الاستذكار 5/ 242؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207؛ نواسخ القرآن 1/ 294 - 296؛ فتح الباري 9/ 467.
(4)
انظر: السنن الكبرى 7/ 701؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 77.
المطلب التاسع: أين تعتد المتوفى عنها زوجها
؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن المتوفى عنها زوجها لها أن تخرج من بيتها، وتعتد حيث شاءت، وأن ما يدل على لزومها أن تعتد في بيتها ولا تخرج قد نسخ.
وممن قال به: ابن عباس رضي الله عنه
(1)
، وعطاء
(2)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها ولا تخرج منه ولا تنتقل، وأن ما يدل على جواز انتقالها من بيتها فإنه قد نسخ.
وممن قال بنحو هذا: الحازمي
(3)
، وابن العربي
(4)
، وأبو إسحاق الجعبري
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة
(6)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على عدم خروجها بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية
(7)
.
(1)
انظر: صحيح البخاري ص 1158؛ الاعتبار ص 442؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207.
(2)
انظر: صحيح البخاري ص 1158؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207.
(3)
انظر: الاعتبار ص 442.
(4)
انظر: أحكام القرآن 1/ 207.
(5)
انظر: رسوخ الأحبار ص 456.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة.
(7)
سورة البقرة، الآية (240).
ثانياً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}
(2)
.
رابعاً: الأحاديث التي تدل على النهي عن الوصية للوارث، وقد سبق ذكر بعضها.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال في ميراثه:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة
(3)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
(1)
سورة البقرة، الآية (234).
(2)
سورة النساء، الآية (12).
(3)
سبق تخريجه في ص 1582.
أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، فكان للمتوفى زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسخها آية الميراث، فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الآية الأولى تدل على أن المرأة المتوفى عنها زوجها كان على زوجها أن يوصي لها بالسكنى والنفقة حولاً، ثم نسخ الله ذلك بالآية الثانية فجعل عدتها أربعة أشهر وعشراً، ولم يذكر لها النفقة والسكنى، كما يدل على نسخها الآية الثالثة والأحاديث التي تدل على أنه لا وصية لوارث؛ حيث جعل لها الميراث ونسخ به الوصية من النفقة والسكنى. ويبين ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه
(2)
.
واعترض عليه: بأنه صح أن الوصية لها بالنفقة والسكنى قد نسخ، لكن لا يلزم منه نسخ أن تعتد في البيت الذي توفي زوجها وهي كانت تسكن فيه؛ وذلك لصحة الحديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل جماعة من الصحابة-رضي الله عنهم بموجبه، وهو مما يدل على عدم
نسخه
(3)
.
ويستدل لمن قال بنسخ ما يدل على جواز انتقالها من بيتها بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1582.
(2)
انظر: صحيح البخاري ص 1158؛ الاستذكار 5/ 224؛ الاعتبار ص 442.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 501؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207.
(4)
سورة البقرة، الآية (240).
ثانياً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
(1)
.
ثالثاً: عن الفريعة بنت مالك بن سنان، أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة-أوفي المسجد-دعاني، أو أمر بي فدعيت له، فقال:«كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: «أُمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» . قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتَّبعه وقضى به
(2)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها أن زوجها تكارى علوجاً ليعملوا له، فقتلوه، فذكرتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني لست في مسكن له، ولا يجري عليّ منه رزق، أفأنتقل إلى أهلي ويتاماي، وأقوم عليهم؟، قال:«افعلي» ثم قال: «كيف قلت؟» فأعادت عليه قولها، قال:«اعتدي حيث بلغك الخبر»
(3)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (234).
(2)
سبق تخريجه في ص 1583.
(3)
أخرجه بهذا للفظ النسائي في سننه ص 548، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ح (3529)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 548.
رابعاً: عن زيد بن طلحة
(1)
، قال: (أول امرأة اعتدت من زوجها وحدت عليه جميلة بنت عبد الله بن أبيّ
(2)
، لما قتل زوجها حنظلة بن عامر
(3)
بأحد، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«اعتدي في بيتك أربعة أشهر وعشراً» . وأمرها باجتناب الطيب، وأخذ بذلك النساء اللاتي قتل أزواجهن بأحد، وشكى نساء بني عبد الأشهل الوحشة في دورهن لفقد من قتل من أزواجهن، فأمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن في بيت امرأة حتى يردن النوم فترجع كل امرأة منهن إلى بيتها)
(4)
.
خامساً: عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد فآم نساؤهم، وكن متجاورات في دار، فجئن النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل،
(1)
هو: زيد بن طلحة بن عبيد الله بن أبي مليكة التميمي، تابعي صغير، وليس له ولا لأبيه ولا لجده صحبة. انظر: الإصابة 1/ 673.
(2)
هي: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول، أسلمت وبايعت، وتزوجها حنظلة بن أبي عامر فقتل عنها يوم أحد ثم تزوجها ثابت بن قيس. انظر: الإصابة 4/ 2458.
(3)
هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك، الأنصاري الأوسي، المعروف بغسيل الملائكة، أسلم وحسن إسلامه، واستشهد بأحد. انظر: الإصابة 1/ 409.
(4)
أخرجه الحازمي في الاعتبار ص 439، وقال:(هذا السند فيه مقال من جهة محمد بن عمر الواقدي، وشيخه أبي بكر بن عبد الله وهو السبري، غير أن الحديث محفوظ من غير هذا الوجه).
فنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا تبدرنا إلى بيوتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ بالوجهين التاليين:
أ-أن المتوفى عنها زوجها كانت بالخيار بين أن تخرج من بيتها وبين أن تبقى بآية الإخراج، ثم نسخها الله تعالى بالآية التي فيها التربص {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، ويؤكد ذلك حديث الفريعة وزيد بن طلحة ومجاهد؛ حيث جاء فيها الأمر بالمكث بالبيت. فكان ذلك بياناً للسكنى للمتوفى عنها زوجها
(2)
.
ب-أن حديث الفريعة-رضي الله عنها-جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الانتقال من بيتها،
ثم أمرها بالبقاء فيه حتى يبلغ الكتاب أجله، فيكون فيه دلالة على نسخ جواز الخروج والانتقال من بيتها
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في انتقال المتوفى عنها زوجها عن بيتها الذي توفي زوجها وهي كانت تسكن فيه على قولين:
القول الأول: ليس لها أن تنتقل من بيتها الذي توفي زوجها وهي كانت
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 36، والبيهقي في السنن الكبرى -واللفظ له-7/ 717.
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207.
(3)
انظر: الاعتبار ص 442؛ رسوخ الأحبار ص 456.
تسكن فيه، حتى تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أهل المذاهب الأربعة
(1)
.
وروي ذلك عن عمر، و عثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وأم سلمة، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهم
(2)
.
القول الثاني: لها أن تنتقل من بيتها الذي توفي زوجها وهي كانت تسكن فيه.
وهو قول عطاء، والحسن، وداود الظاهري
(3)
.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وجابر، وعائشة-رضي الله عنهم
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن المتوفى عنها زوجها لا تخرج ولا تنتقل من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله- بما سبق في دليل القول بالنسخ، من
(1)
انظر: الأم 5/ 251؛ شرح معاني الآثار 3/ 79، 81؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 501؛ التمهيد 11/ 323؛ أحكام القرآن لابن العربي 1/ 207؛ الاعتبار ص 441؛ المغني 11/ 290.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 31 - 34؛ مصنف ابن أبي شيبة 4/ 155؛ التمهيد 11/ 323؛ الاعتبار ص 442؛ المغني 11/ 290.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 31؛ الاعتبار ص 442؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 168؛ المغني 11/ 290.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 29 - 31؛ مصنف ابن أبي شيبة 4/ 156؛ الاعتبار ص 442؛ المغني 11/ 290.
حديث فريعة، وزيد بن طلحة، ومجاهد؛ حيث إنها تدل على أنها لا تخرج ولا تنتقل من بيتها حتى انقضاء عدة الوفاة، كما سبق بيانه.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن لها أن تنتقل من بيتها-بما سبق من الأدلة في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على نسخ الوصية للوارث، فإنها تدل كذلك على نسخ النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها، كما سبق بيانه.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال من تلك الأدلة.
الراجح
بعد عرض الأقوال والأدلة في المسألة يظهر لي-والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو أن المتوفى عنها زوجها لا تنتقل من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، وذلك لما يلي:
أ-لأن حديث فريعة-رضي الله عنها-نص صريح في المسألة، ويؤيدها ما روي عن زيد بن طلحة، ومجاهد. بخلاف أدلة القول الثاني؛ فإنها تحتمل أكثر من احتمال.
ب- إنه لا يوجد دليل على أن الآية التي يستدل منها على نسخ أن تعتد المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها متأخر على حديث الفريعة-رضي الله عنها حتى تكون ناسخة للحكم الذي يدل عليه حديث الفريعة-رضي الله عنها.
ثانياً: إن القول بنسخ ما يدل على خروج المتوفى عنها زوجها عن بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله أقوى من القول بنسخ ما يدل على عدم الخروج؛ وذلك لما يلي:
أ-لأن آية التربص هي الناسخة لآية الإخراج، كما سبق ذكره، وحديث الفريعة موافق لتلك الآية، فيكون فيه نوع من الدلالة على نسخ ما يدل على خروجهن قبل أن تنقضي عدتها.
ب-إن أدلة القول الثاني تدل على نسخ الوصية للوارث، وهي تشمل الوصية بالسكنى للمتوفى عنها زوجها، لكن ليس فيها ما يدل على نسخ ما يدل على عدم خروجها وانتقالها من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، فهما مسألتان؛ ولذلك ذهب جمهور أهل العلم إلى نسخ الوصية لها بالنفقة والسكنى، كما سبق بيانه، وإلى عدم انتقالها من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله.
والله أعلم.
الباب الخامس الجنايات، والحدود، والتعزيرات، والقضاء، والشهادات، واللباس، والطب، والآداب والمنثورات
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الجنايات، والحدود، والتعزيرات، والقضاء، والشهادات.
الفصل الثاني: اللباس، والطب، والآداب، والمنثورات.
الفصل الأول اجنايات، والحدود، والتعزيرات، والقضاء، والشهادات
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الجنايات.
المبحث الثاني: الحدود، والتعزيرات.
المبحث الثالث: القضاء، والشهادات.
المبحث الأول: الجنايات
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: قتل المسلم بالذمي.
المطلب الثاني: قتل السيد بعبده.
المطلب الثالث: حكم المثلة.
المطلب الرابع: القتل بمثل ما قتل.
المطلب الخامس: استيفاء القصاص قبل اندمال الجرح.
المطلب الأول: قتل المسلم بالذمي
ذهب بعض أهل العلم إلى أن المسلم لا يقتل بالذمي
(1)
، وأن ما يدل على قتله به فإنه على تقدير ثبوته منسوخ.
وممن قال بنحو هذا: الإمام الشافعي
(2)
، وأبو حامد الرازي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، إلا أن السبب الأصلي للاختلاف فيها هو اختلاف الآثار، والاختلاف في صحة بعضها
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الرحمن بن البيلماني، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل من المسلمين،
(1)
الذمي نسبة إلى الذمة، وهي العهد، والضمان، والأمان، والحرمة والحق. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 611؛ مختار الصحاح ص 196؛ المصباح المنير ص 176.
واصطلاحاً: هو المعاهد من الكفار، لأنه أُومِنَ على ماله ودمه ودينه بالجزية. التعريفات الفقهية ص 100.
(2)
انظر: مختصر المزني ص 312؛ الاعتبار ص 451؛ فتح الباري 12/ 217.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 81.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 470.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 171، 172؛ المبسوط 26/ 135 - 137؛ بداية المجتهد 4/ 1656؛ المغني 11/ 466 - 467؛ العزيز 10/ 160 - 161.
(1)
أخرجه الشافعي في مسنده ص 344، وعبد الرزاق في المصنف 10/ 101، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 195، والدارقطني في سننه 3/ 135، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 56، والحازمي في الاعتبار ص 449. روي هذا الحديث مرفوعاً، وروي منقطعاً ومرسلاً. قال الدارقطني في سننه: (لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث، والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله). وقال البيهقي بعد ذكره الحديث مرفوعاً: (هذا خطأ من وجهين، أحدهما: وصله بذكر ابن عمر فيه، وإنما هو عن ابن البيلماني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
والآخر: روايته عن إبراهيم عن ربيعة، وإنما يرويه إبراهيم عن ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي، فقد كان يقلب الأسانيد ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته وسقط عن حد الاحتجاج به. -ثم ذكره من طريق ابن البيلماني منقطعاً ثم قال: -هذا هو الأصل في هذا الباب، وهو منقطع، وروايه غير ثقة). وقال ابن حجر في الفتح 12/ 217:(وابن البيلمان ضعفه جماعة، ووثق، فلا يحتج بما ينفرد به إذا وصل فكيف إذا أرسل، فكيف إذا خالف. قاله الدارقطني. وقال أبو عبيد بعد أن حدث به عن إبراهيم: بلغني أن إبراهيم قال: أنا حدثت به ربيعة عن ابن المنكدر عن ابن البيلماني، فرجع الحديث على هذا إلى إبراهيم، وإبراهيم ضعيف أيضاً. قال أبو عبيد: وبمثل هذا السند لا تسفك دماء المسلمين. قلت: وتبين أن عمار بن مطر خبط في سنده). وقال في بلوغ المرام-مع شرحه سبل السلام-3/ 458: (أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلاً، ووصله الدارقطني بذكر ابن عمر فيه، وإسناد الموصول واه).
ثانياً: عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: (العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر)
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مكة قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «أيها الناس، إنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام، والمسلمون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وتُرد سراياهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المؤمن، ولا جلب
(2)
، ولا جنب
(3)
، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 29، كتاب العلم، باب كتابة العلم، ح (111).
(2)
جلب، الجلب قد يكون في الزكاة، وذلك بأن يقدم المصدق على أهل الزكاة فينزل موضعاً، ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم. وقد يكون الجلب في السباق، وذلك بأن يتبع الرجل فرسه فيزجره، ويجلب عليه ويصيح حثاً له على الجري. فنهي عن ذلك. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 275.
(3)
جنب، الجنب قد يكون في السباق، وذلك بأن يجنب فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. وقد تكون الجنب في الزكاة، وذلك بأن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تجنب إليه، أي تحضر. فنهوا عن ذلك. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 296.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 679، كتاب الديات، باب أيقاد المسلم بالكافر؟، ح (4531)، وابن ماجة في سننه ص 456، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، ح (2685)، وأحمد في المسند 11/ 288، 416، وابن الجارود في المنتقى-واللفظ له- ص 388، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 54. وحسن سنده ابن حجر في الفتح 12/ 316. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 679:(حسن صحيح).
رابعاً: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قتل رجل رجلاً من خزاعة في الجاهلية، وكان الهذلي متوارياً، فلما كان يوم الفتح ظهر الهذلي، فلقيه رجل من خزاعة فذبحه كما تذبح الشاة، فقال:«أقتلته بعد النداء أو قبل النداء؟» قال: بعد النداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت قاتلاً مؤمناً بكافر لقتلته، فأخرجوا عقله» فأخرجوا عقله وكان أول عقل في الإسلام
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: قتل خراش بن أمية
(2)
، بعد ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتل، فقال:«لو كنت قاتلاً مؤمناً بكافر لقتلت خراشاً بالهذلي»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن البيلماني يدل على أن المسلم
(1)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 295: (رواه البزار، ورجاله وثقهم ابن حبان، ورواه الطبراني باختصار).
(2)
هو: خراش بن أمية بن ربيعة بن الفضل، الخزاعي ثم الكلبي، حليف بني مخزوم، شهد المريسيع والحديبية، وما بعدهما. انظر: الإصابة 1/ 480.
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 137، والحازمي في الاعتبار ص 452. قال الحازمي:(هذا الإسناد وإن كان واهياً فهو أمثل من حديث ابن البيلماني، وهذا الحديث طرف من حديث الفتح، وهو حديث طويل ثابت، ولاشتهاره وطوله وكثرة رواته يوجد فيه تغاير ألفاظ وزيادات معان وأحكام، وذلك لا يوجب وهناً لأن أصل الحديث محفوظ).
يقتل بالذمي، والأحاديث المذكورة بعده تدل على أن المسلم لا يقتل بالكافر لا بالذمي ولا بغيره
(1)
، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحديث ابن البيلماني على تقدير صحته وثبوته؛ لأن حديث (لا يقتل مسلم بكافر) خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وحديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية
(2)
، وهي متقدمة على فتح مكة بزمان
(3)
.
واعترض عليه: بأن حديث ابن البيلماني لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقتل الرجل من خزاعة على قتله رجلاً من هذيل مع كونه معاهداً، وذلك في فتح مكة. كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل عمرو بن أمية رضي الله عنه على قتله رجلين معاهدين قبل ذلك. فيثبت من مجموع
(1)
لأن الرجل الهذلي الذي قتله خزاعة كان له عهد. انظر: فتح الباري 12/ 317.
(2)
ذكر أهل السير أن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه لما قُتل أصحابه في سرية بئر معونة سنة أربع، وتركه عامر بن الطفيل ولم يقتله من أجل أنه من مضر، فلما كان في طريقه إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، ثأراً لأصحابه، ولم يعلم أنه كان معهم من النبي صلى الله عليه وسلم عهد وعقد. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قتلت قتيلين لأدينهما). انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/ 186؛ زاد المعاد 3/ 248؛ الرحيق المختوم ص 294.
(3)
انظر: مختصر المزني ص 312؛ معرفة السنن والآثار 12/ 28؛ الاعتبار ص 451 - 454؛ التحقيق لابن الجوزي
3/ 255؛ رسوخ الأحبار ص 467 - 470؛ فتح الباري 12/ 317؛ سبل السلام 3/ 445؛ تحفة الأحوذي 4/ 768.
ذلك أنه لا يقتل مسلم بكافر، ذمياً كان أم غيره، وأنه لا يصح دعوى النسخ لعدم صحة حديث ابن البيلماني
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قتل المسلم بالذمي على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يقتل المسلم بالذمي.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، وقول إبراهيم النخعي، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز. وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنهم
(3)
.
القول الثاني: لا يقتل المسلم بالذمي إلا إذا قتله غيلة
(4)
.
وهو مذهب المالكية
(5)
، وقول الليث بن سعد
(6)
.
(1)
انظر: مختصر المزني ص 312؛ الاستذكار 7/ 125؛ فتح الباري 12/ 317؛ مغني المحتاج 5/ 313؛ تحفة الأحوذي 4/ 768.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 192 - 196؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 171؛ المبسوط 26/ 135 - 137؛ مختصر القدوري ص 184؛ الاختيار 5/ 27.
(3)
وذكر ابن حزم أن الرواية عن عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنهم مرسلة. انظر: مصنف عبد الرزاق 10/ 100 - 102؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 173؛ المحلى 10/ 221؛ الاعتبار ص 450.
(4)
غيلة، من الاغتيال، وهو: أن يخدع ويُقتل في موضع لا يراه فيه أحد. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 335.
(5)
انظر: المعونة 3/ 1302؛ الكافي ص 587؛ الاستذكار 7/ 125؛ بداية المجتهد 4/ 1655؛ جامع الأمهات ص 491؛ القوانين الفقهية ص 256.
(6)
انظر: الاستذكار 7/ 125؛ بداية المجتهد 4/ 1655.
القول الثالث: لا يقتل المسلم لا بالذمي ولا بغيره من الكفار.
وهو مذهب الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
، وقول جمهور أهل العلم، وممن روي عنه أو قال به: عمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت-رضي الله عنهم، وعطاء، وعكرمة، والحسن البصري، والزهري، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن شبرمة، وإسحاق بن راهوية، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود الظاهري، وابن المنذر، وابن حزم
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن المسلم يقتل بالذمي- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ، من حديث ابن البيلماني، فإنه يدل على أن المسلم يقتل بالذمي
(4)
.
ثانياً: الآيات العامة التي تدل على قتل من قتل نفساً بغير نفس، ومنها:
(1)
انظر: الأم 6/ 41؛ مختصر المزني ص 312؛ روضة الطالبين ص 1599؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 5/ 313.
(2)
انظر: المغني 11/ 466؛ الشرح الكبير 25/ 100؛ الممتع 5/ 419، 422؛ الإنصاف 25/ 100؛ الإقناع 4/ 102، 104.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 10/ 99 - 102؛ المحلى 10/ 220 - 224؛ الاعتبار ص 451؛ المغني 11/ 466؛ فتح الباري 12/ 316.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 172؛ المبسوط 26/ 137.
أ- قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
(1)
.
ب- قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(2)
.
ثالثاً: الأحاديث التي تدل بعمومها على قتل من قتل نفساً بغير نفس، ومنها:
أ-عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة»
(3)
.
ب-عن أبي شريح الكعبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا»
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (178).
(2)
سورة المائدة، الآية (45).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1443، كتاب الديات، باب قول الله {أن النفس بالنفس} ، ح (6878)،
ومسلم في صحيحه 6/ 227، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص، باب ما يباح به دم المسلم، ح (1676)(25).
(4)
أصله في الصحيحين، وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه ص 674، كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية، ح (4504)، ونحوه الترمذي في سننه ص 332، كتاب الديات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، ح (1406)، وابن ماجة في سننه ص 446، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، ح (2623). قال الترمذي:(حديث حسن صحيح). وصححه كذلك الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 674.
رابعاً: الآثار التي رويت عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم-والتي تدل على قتل المسلم بالذمي، ومنها:
أ-عن سعيد بن المسيب، أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق-رضي الله عنهما-قال-حين قتل عمر رضي الله عنه مررت على أبي لؤلؤة
(1)
، ومعه هرمزان
(2)
، فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ممسكه في وسطه، قال: قلت: فانظروا لعله الخنجر الذي قتل به عمر، فنظروا فإذا هو الخنجر الذي وصف عبد الرحمن. فانطلق عبيد الله بن عمر
(3)
، حين سمع ذلك من عبد الرحمن، ومعه السيف حتى دعا الهرمزان، فلما خرج إليه قال: انطلق حتى تنظر إلى فرس لي، ثم تأخر عنه إذا مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد مس السيف قال: لا إله إلا الله. قال عبيد الله: ودعوت جفينة
(4)
،
(1)
أبو لؤلؤة اسمه فيروز، وكان غلاماً لمغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً، وطعن عمر رضي الله عنه بالخنجر، ثم نحر نفسه، ولم يكن مسلماً. انظر: البداية والنهاية 7/ 132؛ فتح الباري 7/ 71، 73؛ عمدة القاري 11/ 436.
(2)
هو الهرمزان صاحب تستر، وملك الأهواز، أسره المسلمون سنة سبع عشرة، وبعثوا به إلى عمر رضي الله عنه بالمدينة، وأسلم، وكان لا يفارق عمر رضي الله عنه حتى قتل عمر فاتهمه بعض الناس بممالأة أبي لؤلؤة، فقتله عبيد الله بن عمر. انظر: البداية والنهاية 7/ 76 - 78.
(3)
هو: عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، قتل الهرمزان وجفينة لما طعن أبو لؤلؤة والده عمر رضي الله عنه. انظر: البداية والنهاية 7/ 124، 132.
(4)
جفينة كان نصرانياً، وقتله عبيد الله بن عمر، لما قيل إنه والهرمزان مالأا أبا لؤلؤة على قتل عمر رضي الله عنه. انظر: البداية والنهاية 7/ 132.
وكان نصرانياً من نصارى الحيرة، فلما خرج إليّ علوته بالسيف فصلب
(1)
بين عينيه. ثم انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة صغيرة تدعى الإسلام. فلما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار، فقال: أشيروا عليّ في قتل هذا الرجل الذي فتق في الدين ما فتق. فاجتمع المهاجرون فيه على كلمة واحدة يأمرونه بالشدة عليه، ويحثون عثمان على قتله، وكان فوج الناس الأعظم مع عبيد الله، يقولون لجفينة والهرمزان أبعدهما الله، فكان في ذلك الاختلاف. ثم قال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر قد أعفاك الله من أن تكون بعد ما قد بويعت، وإنما كان ذلك قبل أن يكون لك على الناس سلطان، فأعرض عن عبيد الله. وتفرق الناس عن خطبة عمرو بن العاص، وودى الرجلين والجارية
(2)
.
ب-عن أبي الجنوب الأسدي
(3)
، قال: أُتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت عنه. قال: (فلعلهم هددوك أو فرقوك أو فزعوك؟) قال: لا، ولكن قتله لا يرد عليّ أخي وعوضوني فرضيت. قال:
(1)
صلب بين عينيه، أي ضربه على عرضه حتى صارت الضربة كالصليب. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 44.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 194.
(3)
هو: عقبة بن علقمة، أبو الجنوب اليشكري، الكوفي، ضعيف، روى عن علي رضي الله عنه، وروى عنه النضر بن منصور، وعبد الله بن عبد الله الرازي. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 87؛ تهذيب التهذيب 7/ 213؛ التقريب 1/ 682.
(أنت أعلم، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا)
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: أن هذه الأدلة من الآيات والأحاديث عامة، فهي تدل بعمومها على أن من قتل نفساً بغير نفس فإنه يقتل به، فهي تشمل المسلم والكافر، كما أن الآثار المذكورة عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم-تدل على قتل المسلم بالذمي؛ فإن ما رواه أبو الجنوب عن علي رضي الله عنه ظاهر فيه، وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر-رضي الله عنهما-يدل عليه كذلك؛ لأن عبيد الله قتل الهرمزان وجفينة، وكان لهما عهد ولم يكونا مسلمين، وقد أشار المهاجرون بما فيهم علي رضي الله عنه على قتله بهما. فلو لم يجز قتل المسلم بالذمي لما رأوا قتله بهما
(2)
.
واعترض عليه: بما يلي:
أ- إن حديث ابن البيلماني لا يصح كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا تقوم به الحجة
(3)
.
ب- إن الأدلة المذكورة من الكتاب والسنة وإن كانت عامة تشمل
(1)
أخرجه الشافعي في المسند ص 344، والدارقطني في سننه-مختصرا- 3/ 148. قال الدارقطني:(أبو الجنوب ضعيف الحديث). وفي سنده كذلك حسين بن ميمون، قال ابن عبد الهادي في التنقيح 3/ 257:(قال علي بن المديني: ليس بمعروف. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وذكره البخاري في الضعفاء، وابن حبان في الثقات، لكنه قال: ربما أخطأ).
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 194؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 171 - 173؛ المبسوط 26/ 137؛ نصب الراية 4/ 337.
(3)
راجع تخريجه. وانظر: المحلى 10/ 233.
المسلم والكافر، إلا أن المراد بها الخصوص، وهو قتل المسلم بالمسلم؛ وذلك لروايات أخرى وقرائن في تلك الأدلة، تدل على أن المراد بها قتل المسلم بالمسلم لا قتله بكل نفس. وكذلك للأدلة التي تدل على عدم قتل المسلم بالكافر، كحديث علي رضي الله عنه (وأن لا يقتل مسلم بكافر)
(1)
.
ج- إن رواية أبي الجنوب عن علي رضي الله عنه ضعيفة
(2)
، أما حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه فإن المطالبة فيه كان بدم الهرمزان، وهو كان مسلماً، وببنت أبي لؤلؤة التي كانت تدعي الإسلام، فكان ذلك من مطالبة قتل المسلم بالمسلم، وهو يجوز
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-و هو عدم قتل المسلم بالذمي إلا إذا قتله غيلة- بما يلي:
أولاً: أما عدم قتل المسلم بالذمي إذا لم يقتل غيلة فللأحاديث التي تدل على عدم قتل المسلم بالكافر، كحديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين-رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على أنه لا يقتل مسلم بكافر،
وهي عامة تشمل قتل المسلم
(1)
انظر: المحلى 10/ 226 - 232؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 242؛ المغني 11/ 467.
(2)
راجع تخريجها.
(3)
انظر: المحلى 10/ 233؛ الاستذكار 7/ 126؛ معرفة السنن والآثار 12/ 23، 24؛ نصب الراية 4/ 338.
بالذمي وغيره من الكفار
(1)
.
ثانياً: أما أنه يقتل بالذمي إذا قتله غيلة، فلأنه يعتبر من المحاربة وقطع السبيل، والمحارب يجوز قتله
(2)
.
واعترض عليه بما يلي:
أ- إن الأحاديث التي تدل على عدم قتل المسلم بالكافر عامة، وليس فيها ما يفرق بين قتل الغيلة وغيره
(3)
.
ب- إن قتل الغيلة إذا كان من الحرابة وقطع السبيل، فقتل المسلم إذا قتل الذمي غيلة إنما يكون بكونه محارباً لا بقتله بالذمي
(4)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أنه لا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان- بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ، من حديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين-رضي الله عنهم؛ فإنها تدل على أنه لا يقتل مسلم بكافر، وليس فيها ما يدل على الفرق بين كافر وكافر.
ثانياً: عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل قتل
(1)
انظر: المعونة 3/ 1302؛ الاستذكار 7/ 127.
(2)
انظر: الاستذكار 7/ 128.
(3)
انظر: الاستذكار 7/ 128.
(4)
انظر: فتح الباري 12/ 316.
مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلماً متعمداً، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله-عز وجل-ورسوله، فيقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض»
(1)
.
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو
عهد في عهده»
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس للقاتل ميراث، وقضى أن لا يقتل مسلم بكافر»
(3)
.
رابعاً: عن عائشة-رضي الله عنها-أنها قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابان، فذكر أحدهما، قال: وفي الآخر: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم،
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 649، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، ح (4353)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 725، كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر، ح (4743)، والحاكم في المستدرك 4/ 393. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 724.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 453، كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر، ح (2660). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 452. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 362 - بعد ذكره مسنداً-:(وهذا إسناد ضعيف، فيه حنش واسمه حسين بن قيس، وقد ضعفوه). وضعفه كذلك ابن حجر في فتح الباري 12/ 316.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 404، عن معمر عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس. وذكر البيهقي في سننه 6/ 361، عن عبد الرزاق أن الرجل الذي روى عنه معمر هو عمرو بن برق.
ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا تسافر المرأة ثلاث ليال إلا مع ذي محرم»
(1)
.
خامساً: حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«والمؤمنون يد على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يجير عليهم أولهم، ويرد عليهم أقصاهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا تسافر ثلاثاً مع غير ذي محرم، ولا تصلوا بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا تصلوا بعد العصر حتى تغرب الشمس»
(2)
.
سادساً: عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو
عهد في عهده، والمسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم»
(3)
.
فهذه الأدلة ظاهرة في أنه لا يقتل مسلم بكافر، وليس فيها ما يدل على
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 131، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له-8/ 55. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 296:(رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير مالك بن أبي الرجال، وقد وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد). والرواية عن طريق البيهقي ضعفه ابن حجر في الفتح 12/ 316.
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه ص 1595.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 55. وضعفه ابن حجر في الفتح 12/ 316.
الفرق بين الذمي وغيره من الكفار
(1)
.
واعترض عليه: بأنه جاء في رواية أخرى لحديث علي رضي الله عنه
(2)
، وكذلك في هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده)، ومعناه: أنه لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي، فكذلك المسلم الذي لا يقتل بالكافر هو الكافر الحربي، تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، فلا تكون في هذه الأحاديث دلالة على قتل المسلم بالذمي، ولو كان المراد به أنه لا يقتل بالذمي لكان لفظ الحديث:(لا يقتل مسلم بكافر ولا ذي عهد في عهده). فلما لم يكن كذلك دل ذلك أن المراد بالكافر في قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» كافر خاص وهو الحربي
(3)
.
وأجيب عنه: بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا ذو عهد في عهده» جملة مستأنفة، تبين حرمة قتل المعاهد بدون حق، ويؤيد ذلك اقتصار حديث علي رضي الله عنه على الجملة الأولى:«ولا يقتل مسلم بكافر» . ولو سلم أنها للعطف فالمراد بها المشاركة في
(1)
انظر: الأم 6/ 41؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 53 - 55؛ الاستذكار 7/ 127؛ المغني 11/ 466.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 679، كتاب الديات، باب أيقاد المسلم بالكافر، ح (4530)، والنسائي في سننه ص 723، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، ح (4734)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 192. وحسنه ابن حجر في الفتح 12/ 316. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 679.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 192 - 193؛ المحلى 10/ 232؛ الاستذكار 7/ 127؛ فتح الباري 12/ 316.
أصل النفي، لا المشاركة من كل وجه؛ لأنه لا يلزم من العطف المشاركة من كل وجه
(1)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي- والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثالث، وهو أنه لا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان، وذلك لما يلي:
أ- لكثرة أدلة هذا القول، وصراحتها في عدم قتل المسلم بالكافر، من دون فرق بين كافر وكافر. بخلاف أدلة القول الأول؛ حيث إن بعضها غير صحيح، وبعضها أدلة عامة، فتكون الأدلة الدالة على عدم قتل المسلم بالكافر مخصصة لعمومها.
ب- إن أدلة القول الأول منها ما هو ضعيف لا تقوم به الحجة، وما صح منها فإنه لا تعارض الأدلة التي تدل على عدم قتل المسلم بالكافر؛ لأنها عامة، وما يدل على عدم قتل المسلم بالكافر أدلة خاصة، فيعمل على عموم الأدلة العامة فيما عدا محل الخصوص.
ثانياً: إن حديث ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به الحجة كما سبق ذكره، لذلك لا يقال بأنه منسوخ بما يدل على عدم قتل المسلم بالكافر، لكنه على تقدير صحته يكون منسوخاً بما يدل على عدم قتل المسلم بالكافر؛ لأن بعض
(1)
انظر: الاستذكار 7/ 127؛ فتح الباري 12/ 316.
الأحاديث التي يدل على عدم قتل المسلم بالكافر قاله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، ويدل حديث عائشة-رضي الله عنها-أن مما كان في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن لا يقتل مسلم بكافر، فهو يدل على بقاء هذا الحكم إلى موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويشعر به كذلك حديث علي رضي الله عنه.
والله أعلم.
المطلب الثاني: قتل السيد بعبده
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السيد لا يقتل بعبده، وأن ما يدل على قتله به فإنه قد نسخ
(1)
.
وممن صرح به: البيهقي
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها، والاختلاف في صحة تلك الآثار سبب آخر لاختلاف أهل العلم فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه»
(4)
.
(1)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 535 - 538؛ نيل الأوطار 7/ 23؛ تحفة الأحوذي 4/ 772.
(2)
نسبه إليه الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 5/ 315.
(3)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 167؛ بداية المجتهد 4/ 1655.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 676، كتاب الديات، باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه؟، ح (4515)، والترمذي في سننه ص 333، كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل عبده، ح (1414)، والنسائي في سننه ص 724، كتاب القسامة، باب القود من السيد للمولى، ح (4736)، وابن ماجة في سننه ص 453، كتاب الديات، باب هل يقتل الحر بالعبد؟، ح (2663)، وأحمد في المسند 33/ 296، والدارمي في سننه 2/ 250، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 535، والحاكم في المستدرك 4/ 408، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 64. جاء في رواية أحمد التصريح بأن الحسن لم يسمع هذا الحديث عن سمرة. وقال الترمذي:(حديث حسن غريب). وقال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري). ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: (وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة). وقال الشوكاني في نيل الأوطار 7/ 21: (وفي إسناد الحديث ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف طويل، فقال يحيى بن معين: إنه لم يسمع منه شيئاً. وقال علي بن المديني: إن سماعه منه صحيح كما حكى ذلك المصنف عنه، وعن بعض أهل العلم أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 676.
ثانياً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما قال: (قتل رجل عبده عمداً متعمداً، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين)
(1)
.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 453، كتاب الديات، باب هل يقتل الحر بالعبد؟، ح (2664)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 138، والدارقطني في سننه 3/ 144، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 66. قال ابن الجوزي في التحقيق 3/ 258 - بعد ذكر الحديث من طريق الدارقطني-:(جويبر وعثمان البرقي، وجابر الجعفي وإسماعيل بن عياش كلهم ضعفاء). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 3/ 258 - بعد ذكر كلام ابن الجوزي-: (وقد رواه الطحاوي من حديث إبراهيم ومحمد بن عبد العزيز الرملي المعروف بابن الواسطي، روى عنه في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، لكن قال أبو حاتم: عنده غرائب، والصحيح أنه من رواية إسماعيل بن عياش وإسحاق بن عبد الله لا يحتج بهما). وقال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني 3/ 144: (الحديث في إسناده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، إلا أن أحمد قال: ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح، وكذلك قول البخاري فيه، كذا في المنتقى. والأوزاعي شامي دمشقي، لكن دون محمد بن عبد العزيز الشامي، قال فيه أبو حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 453: (ضعيف جداً).
ثالثاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي، فقال عمر رضي الله عنه: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: فاعترفت له بشيء؟ قالت: لا. قال عمر رضي الله عنه عليّ به، فلما رأى عمر رضي الله عنه الرجل قال: أتعذب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها، قال: رأيت ذلك عليها؟ قال الرجل: لا. قال: فاعترفت لك بذلك؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده» لأقدتها منك، فبرزه وضربه مائة سوط، ثم قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله
(1)
.
(1)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ص 538، والحاكم في المستدرك-واللفظ له- 4/ 409، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 65. قال الحاكم:(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: (وهذا الحديث لا أعلم رواه عن ابن جريج بهذا الإسناد غير عمرو بن عيسى، وعن عمرو هذا غير الليث، وهو معروف بهذا، سمعت ابن حماد يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 291: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن عيسى القرشي، وقد ذكره الذهبي في الميزان وذكر له هذا الحديث، ولم يذكر فيه جرحاً، وبيض له، وبقية رجاله وثقوا).
رابعاً: عن علي رضي الله عنه قال: «من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر، ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث سمرة رضي الله عنه يدل على قتل السيد بعبده، و الأحاديث المذكورة بعده تدل على عدم قتله به، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لحديثه؛ لأن قضاء عمر رضي الله عنه بموجبها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يقاد مملوك من مالكه) يدل على تأخره على ما يخالفه، ويؤكد ذلك أن الحسن البصري هو الراوي لحديث سمرة رضي الله عنه عن سمرة رضي الله عنه ثم هو قد خالف ذلك فكان يقول بعدم قتل السيد بعبده
(2)
.
واعترض عليه: بأن ما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت به.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قتل السيد بعبده على قولين:
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 134، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 63. قال ابن عبد الهادي في التنقيح 3/ 258:(جابر هو الجعفي، قد تقدم أنه لا يحتج به، والشعبي لم يصرح بالسماع من علي في هذا، فكان منقطعاً، وقال شيخنا: قيل: إنه لم يسمع منه شيئاً). وقال أبو الطيب في التعلق المغني على سنن الدارقطني: (في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 267: (وهذا إسناد ضعيف جداً أفته جابر الجعفي، وقد تفرد به كما قال البيهقي في المعرفة، وهو متروك كما قال الدارقطني).
(2)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 535 - 538؛ مغني المحتاج 5/ 315؛ نيل الأوطار 7/ 23؛ تحفة الأحوذي 4/ 772.
القول الأول: لا يقتل السيد بعبده.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة
(1)
.
القول الثاني: يقتل السيد بعبده.
وإليه ذهب بعض أهل العلم، منهم: إبراهيم النخعي، وداود الظاهري
(2)
.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا يقتل السيد بعبده- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وعلي-رضي الله عنهم.
ثانياً: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}
(4)
.
(1)
انظر: "أحكام القرآن للجصاص 1/ 167؛ المبسوط 26/ 134؛ مختصر القدوري ص 184؛ الاختيار 5/ 27"؛ المعونة 3/ 1302؛ بداية المجتهد 4/ 1654؛ جامع الأمهات ص 491"؛ الأم 6/ 27؛ مختصر المزني ص 312؛ روضة الطالبين ص 1599؛ المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 5/ 315"؛ المغني 11/ 474؛ الشرح الكبير 25/ 103، 105؛ الإنصاف 25/ 103؛ الإقناع 4/ 104.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 167؛ بداية المجتهد 4/ 1654؛ المغني 11/ 474.
(3)
ورجحه الشيخ ابن عثيمين. انظر: الاختيارات الفقهية ص 289، 290؛ الإنصاف 25/ 103؛ الشرح الممتع 6/ 48.
(4)
سورة الإسراء، الآية (33).
ووجه الاستدلال منها: أن تلك الأحاديث تدل على أنه لا يقتل السيد بعبده، وهذه الآية الكريمة تدل على أن حق القصاص للوليّ، وولي العبد هو مولاه، وإذا كان السيد هو الولي لم يثبت له القصاص على نفسه. فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن السيد لا يقتل بعبده
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن السيد يقتل بعبده- بما يلي:
أولاً: حديث سمرة رضي الله عنه الذي سبق في دليل القول بالنسخ، والذي يدل على أن من قتل عبده قتل به.
ثانياً: الآيات العامة التي تدل على قتل من قتل نفساً بغير نفس، ومنها:
أ- قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
(2)
.
ب- قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(3)
.
ثالثاً: الأحاديث التي تدل بعمومها على قتل من قتل نفساً بغير نفس، وعلى تكافئ دماء المسلمين، ومنها:
أ-عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث:
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 167 - 169؛ السنن الكبرى 8/ 65 - 67؛ الجامع لأحكام القرآن 2/ 244؛ المغني 11/ 474.
(2)
سورة البقرة، الآية (178).
(3)
سورة المائدة، الآية (45).
النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة»
(1)
.
ب- عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلماً متعمداً، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله-عز وجل-ورسوله، فيقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض»
(2)
.
ج-حديث عائشة-رضي الله عنها، وفيه:«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» الحديث
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث سمرة رضي الله عنه يدل على قتل السيد بعبده، والآيات والأحاديث المذكورة بعده تدل على قتل النفس المسلمة بالنفس المسلمة، وعلى تكافئ دمائهم، فهي بعمومها تشمل قتل السيد بعبده؛ لذلك يقتل السيد بعبده إذا قتله
(4)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 167؛ المغني 11/ 474؛ نيل الأوطار 7/ 23؛ الشرح الممتع 6/ 47.
الصواب- ما يلي:
أولاً: إن القول بنسخ ما يدل على قتل السيد بعبده ضعيف؛ لما يلي:
أ- لأن الأدلة التي يستدل منها على النسخ كلها متكلم فيها وضعيفة
(1)
.
ب- إنه لا يوجد ما يدل على تأخر تلك الأدلة على الأدلة التي يستدل منها على قتل
السيد بعبده، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ.
ثانياً: إن حديث سمرة رضي الله عنه الدال على قتل السيد بعبده، وكذلك الأحاديث التي يستدل منها على عدم قتل السيد بعبده، كلها متكلم فيها، لكن الأدلة العامة من الكتاب والسنة تدل على تكافئ دماء المسلمين، وعلى قتل المسلم بالمسلم، وهي تشمل قتل السيد بعبده؛ لذلك يكون القول الثاني أرجح من حيث الأدلة على القول الأول
(2)
.
إلا أن قتل السيد بعبده يتطرق له شبهة، وهو شبهة كون العبد مالاً، لما لمالكه من اختيار بيعه وإجاره، والسيد مالكه، والحدود تدفع بالشبهات، فلو دفع عنه الحاكم القتل لهذه الشبهة فهو موضع اجتهاد، وله ذلك.
والله أعلم.
(1)
راجع تخريجها، وانظر: السنن الكبري للبيهقي 8/ 65 - 67؛ الاختيارات الفقهية ص 289.
(2)
انظر: الاختيارات الفقهية ص 290؛ الشرح الممتع 6/ 47، 48.
المطلب الثالث: حكم المثلة
ذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم جواز المثلة
(1)
، وأن ما يدل على جوازها فإنه قد نسخ.
وممن صرح بالنسخ: قتادة
(2)
، وابن سيرين
(3)
، والطحاوي
(4)
، وابن شاهين
(5)
، والجصاص الرازي
(6)
، والحازمي
(7)
، وابن العربي
(8)
، وأبو حامد الرازي
(9)
، وأبو إسحاق الجعبري
(10)
، وقواه ابن حجر
(11)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن
(1)
المثلة اسم من مثل، يقال: مثلت بالحيوان إذا قطعت أطرافه أو شوهت به، ومثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره، أو شيئاً من أطرافه. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 632؛ المصباح المنير ص 460.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 149.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 124؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 149 ..
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 181، 183.
(5)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه ص 533.
(6)
انظر: أحكام القرآن 1/ 198، 2/ 510.
(7)
انظر: الاعتبار ص 462 - 466.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ ص 150.
(9)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 85.
(10)
انظر: رسوخ الأحبار ص 476.
(11)
انظر: فتح الباري 1/ 426، 7/ 559.
الاختلاف في مفهوم ما ورد في المسألة سبب أخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(2)
.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، «فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، (فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وألقوا في الحر يستسقون فلا يسقون)
(3)
.
وفي رواية عن قتادة أن أنساً رضي الله عنه حدثهم: أن ناساً من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود،
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الأولى. وانظر: المحلى 10/ 255 - 265؛ مجموع الفتاوى 28/ 314.
(2)
سورة المائدة، الآية (33).
(3)
سبق تخريجه في ص 510.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة
(1)
.
وفي رواية عن قتادة عن أنس رضي الله عنه فذكر الحديث ثم قال- (فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد ذلك)
(2)
.
وفي رواية أخرى عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رهطاً من عكل وعرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأُتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المائدة: 33]
(3)
.
وفي رواية أخرى عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن ناساً اجتووا في المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعيه، يعني الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 864، كتاب المغازي، باب قصة عكل وعرينة، ح (4192).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 119، ونحوه في معرفة السنن والآثار 13/ 24.
(3)
أخرجه بهذا السياق ابن جرير في جامع البيان 4/ 3017.
براعيه، فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صلحت أبدانهم، فقتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في طلبهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم.
قال قتادة: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود
(1)
.
ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة»
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»
(3)
.
خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما قتل حمزة ومثل به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلاً منهم» فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [سورة
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1223، كتاب الطب، باب الدواء بأبوال الإبل، ح (5686).
(2)
أخرجه النسائي في سننه ص 625، كتاب تحريم الدم، باب النهي عن المثلة، ح (4047). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 625.
(3)
سبق تخريجه في ص 1234.
النحل: 126]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر»
(1)
.
سادساً: عن عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن النُهبى والمثلة»
(2)
.
سابعاً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا
بالصدقة، ونهانا عن المثلة»
(3)
.
ثامناً: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة، ونهانا فيها عن المثلة»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن هذه الأدلة غير حديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين وحديث ابن عباس رضي الله عنه في قتل حمزة رضي الله عنه، تدل على النهي عن المثلة، وحديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مثَّل بالمرتدين عن الإسلام الذين قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل الصدقة، كما يدل
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 183. وفي سنده ابن أبي ليلى وهو متكلم فيه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1193، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، ح (5516).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 404، كتاب الجهاد، باب في النهي عن المثلة، ح (2667)، وأحمد في المسند-واللفظ له-33/ 91، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 182، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 533، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 118. قال ابن حجر في الفتح 7/ 559:(إسناد هذا الحديث قوي). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 404.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 404، كتاب الجهاد، باب في النهي عن المثلة، ح (2667)، وأحمد في المسند 33/ 79، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 182، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 118. قال ابن حجر في الفتح 7/ 559:(إسناد هذا الحديث قوي). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 404.
حديث ابن عباس رضي الله عنه على جواز المثلة، فتكون هذه الأدلة ناسخة لما يدل عليه حديث أنس وابن عباس-رضي الله عنهم؛ لتأخرها على حديثيهما؛ يدل عليه بعض روايات حديث أنس رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة بعد ذلك. كما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن التحريق بالنار؛ وذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر الأمر بالتحريق بالنار، وهو من المثلة، ثم النهي عنه، وقصة العرنيين كان قبل أن يسلم، فهو مما يدل على أن النهي عن المثلة متأخر عما يدل على جوازها. ويدل عليه كذلك ما روي عن ابن سيرين بأن قصة العرنيين كان قبل أن تنزل الحدود
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
ولا خلاف بين أهل العلم في النهي عن المثلة وتحريمها ابتداء، واختلفوا في جوازها قصاصاً أعني قتل القاتل كما قتل قصاصاً، اختلفوا فيها على قولين
(2)
. وتفصيل ذلك موضوع المسألة التالية.
(1)
انظر: جامع البيان 4/ 3020؛ شرح معاني الآثار 3/ 181، 183؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 533؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 198، 2/ 510؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 124؛ معرفة السنن والآثار 13/ 205؛ الاعتبار ص 462 - 466؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 150؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 85؛ رسوخ الأحبار ص 476؛ فتح الباري 1/ 426، 7/ 559.
(2)
انظر: مختصر المزني ص 317؛ شرح معاني الآثار 3/ 180 - 185؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 198؛ التمهيد 10/ 64؛ معرفة السنن والآثار 13/ 209، 210؛ المحلى 10/ 255 - 261؛ بداية المجتهد 4/ 1664، 1665؛ المغني 11/ 508، 509، 13/ 199؛ مجموع الفتاوى 28/ 314؛ الفروع 10/ 265، 266.
المطلب الرابع: القتل بمثل ما قتل
ذهب بعض أهل العلم إلى أن لا قود
(1)
إلا بالسيف، وأن ما يدل على القتل بمثل ما قتل فإنه قد نسخ بنسخ المثلة.
وممن قال بهذا: الطحاوي
(2)
، والجصاص الرازي
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن قتادة أن أنساً رضي الله عنه حدثهم: أن ناساً من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ
(1)
القود بفتح القاف والواو: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 498؛ مختار الصحاح ص 488؛ المصباح المنير ص 423.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 179، 181.
(3)
انظر: أحكام القرآن 1/ 195 - 198.
(4)
راجع المصدرين في الحاشيتين السابقتين. وانظر: المغني 11/ 508 - 509؛ العزيز 10/ 275.
النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة
(1)
.
وفي رواية عن قتادة عن أنس رضي الله عنه فذكر الحديث ثم قال- (فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد ذلك)
(2)
.
وفي رواية أخرى عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن ناساً اجتووا في المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن
يلحقوا براعيه، يعني الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعيه، فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صلحت أبدانهم، فقتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في طلبهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم.
قال قتادة: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود
(3)
.
ثانياً: عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة»
(4)
.
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(4)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
ثالثاً: عن عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن النُهبى والمثلة»
(1)
.
رابعاً: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة»
(2)
.
خامساً: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة، ونهانا فيها عن المثلة»
(3)
.
سادساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: «إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»
(4)
.
سابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحاً
(5)
كانت عليها، ورضخ
(6)
رأسها، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قتلك؟ فلان؟» لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(3)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(4)
سبق تخريجه في ص 1234.
(5)
أوضاح، جمع وضح، وهي نوع من الحليّ يعمل من الفضة، سميت بها لبياضها. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 857.
(6)
رضخ، الرضخ الشدخ، والدق والكسر. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 661.
غير الذي قتلها فأشارت أن لا، فقال:«ففلان؟» لقاتلها فأشارت أن نعم، (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُضخ رأسه بين حجرين)
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قتل جارية من الأنصار على حليّ لها، ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأُخذ فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات
(2)
.
ثامناً: عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته»
(3)
.
تاسعاً: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قود إلا بالسيف»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1149، كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، ح (5295)، ومسلم في صحيحه 6/ 221، كتاب القسامة والمحاربين، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، ح (1672)(15).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 222، كتاب القسامة والمحاربين، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، ح (1672)(16).
(3)
سبق تخريجه في ص 1238.
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 453، كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف، ح (2667)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 184، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 110. وضعفه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 111، وابن حجر في التلخيص 4/ 19، والشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 287.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 454، كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف، ح (2668)، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 110. قال ابن حجر في التلخيص 4/ 19:(رواه ابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبي بكرة، قال البزار: تفرد به الحر بن مالك، والناس يروونه مرسلاً. وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وأفاد ابن القطان أن الوليد بن صالح تابع الحر بن مالك عليه، وهو عند الدارقطني، وأعله البيهقي بمبارك بن فضالة راويه عن الحر عن أبي بكرة، وقال البزار: أحسبه خطأ لأن الناس يروونه عن الحر مرسلاً، انتهى. وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أشعث وغيره عن الحر مرسلاً). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 286: (وقال البزار: "لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإسناد، ولا نعلم أحداً قال: عن أبي بكرة إلا الحر بن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث، لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلاً". قلت: وقد تابعه في وصله الوليد بن صالح الأيلي، عن مبارك بن فضالة، أخرجه ابن عدي في الكامل، والدارقطني، والبيهقي، والضياء المقدسي في المنتقى من مسموعاته بمرو. وأعله ابن عدي بالوليد هذا، وقال: " أحاديثه غير محفوظة". وأعله البيهقي بالمبارك بن فضالة كما سيأتي. وقال ابن أبي حاتم في العلل بعد أن ذكره من هذا الوجه: "قال أبي: هذا حديث منكر". وأورد الوليد في الجرح والتعديل، وقال: "سألت أبي عنه، فقال: مجهول". قلت: وقد رواه موسى بن داود عن مبارك عن الحسن مرسلاً به، أخرجه الدارقطني وعنه البيهقي، من طريق الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، نا موسى بن داود به. وزاد: " قال يونس: قلت للحسن: عمن أخذت هذا؟ قال: سعمت النعمان بن بشير يذكر ذلك". قلت: وموسى بن داود هو الضبي الطرطوسي، ثقة من رجال مسلم، لكن الجرجرائي لم يوثقه أحد غير ابن حبان، وقد روى عنه جماعة من الثقات منهم أصحاب السنن أبو داود والنسائي وابن ماجة. ثم إن الظاهر أن القائل: "قال يونس". إنما هو الضبي، فإذا صح ذلك فيكون المغنى أن يونس وهو ابن عبيد البصري قد تابع المبارك بن فضالة، وهو ثقة من رجال الشيخين، ولكنهم لم يذكروه في شيوخ الضبي. فالله أعلم. وقد صح عن الحسن مرسلاً كما سيأتي). والخلاصة أن هذا الحديث روي عن عدة من الصحابة مرفوعاً لكنه ضعيف، ويصح عن الحسن البصري مرسلاً. انظر: إرواء الغليل 7/ 289. وقال العيني في عمدة القاري 9/ 141، بعد ذكر طرق الحديث: (ولا شك أن بعضها يشهد لبعض، وأقل أحواله أن يكون حسناً).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين يدل على جواز المثلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مثل بالذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي رسول الله، كما يدل على جوازها رواية أنس رضي الله عنه في قتل اليهودي رضخاً بين حجرين لما قتل جارية من الأنصار، لكن هذين الحديثين منسوخان بالأحاديث التي تدل على النهي عن المثلة؛ لأنها بعد حديث العرنيين، يدل عليه ما روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة بعد ذلك. كما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن التحريق بعد الأمر به، كما سبق بيانه في المسألة السابقة، ويؤكد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان القتلة، ونهيه عن القود إلا بالسيف. فتكون المثلة منسوخة مطلقاً سواء كانت ابتداء أم قصاصاً، ولا يقاد من القاتل بمثل ما قتل بل يقاد منه بالسيف
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث: (لا قود إلا بالسيف) ضعيف، لا تقوم به الحجة، وأن
قتل القاتل بمثل ما قتل ليس مخالفاً للإحسان؛ لأن الشرع أجازه، وحديث أنس رضي الله عنه في قصة قتل اليهودي بالجارية يحتمل أن يكون قبل النهي
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 179 - 185؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 195 - 199؛ عمدة القاري 9/ 141.
عن المثلة، ويحتمل أنه كان بعد النهي عنها، وأن القصاص يجوز فيه أن يفعل بالقاتل كما فعل، ويؤيد ذلك وجود أدلة أخرى تدل على جواز أن يفعل بالمتعدي مثل ما فعل، إلا إذا كان المتعدي فعل شيئاً محرماً لذاته، فلا يفعل به مثل ذلك، فيثبت من هذا كله ضعف قول النسخ
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في القتل بمثل ما قتل القاتل على قولين:
القول الأول: لا يقتل القاتل بمثل ما قتل، بل بقتل بالسيف.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد، وهو المذهب
(3)
، وقول عطاء، والنخعي، والحسن البصري، والثوري
(4)
.
القول الثاني: يجوز أن يفعل بالقاتل كما فعل.
(1)
انظر: جامع البيان 4/ 3020؛ المحلى 10/ 256 - 263؛ الجامع لأحكام القرآن 6/ 143؛ المغني 11/ 509؛ الشرح الممتع 6/ 61، 62.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 179، 185؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 195؛ المبسوط 26/ 129؛ مختصر القدوري ص 185؛ الاختيار 5/ 28.
(3)
انظر: المغني 11/ 508؛ التحقيق 3/ 274؛ الشرح الكبير 25/ 178؛ الممتع 5/ 449؛ الإنصاف 25/ 178؛ الشرح الممتع 6/ 62.
(4)
انظر: المحلى 10/ 256؛ المغني 11/ 508؛ الشرح الكبير 25/ 179.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، وراية عن الإمام أحمد
(3)
، وقول عمر بن عبد العزيز، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن حزم
(4)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن لا يقتل القاتل بمثل ما قتل بل يقتل بالسيف- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
(5)
. فإنه يدل على استيفاء المثل من غير زيادة عليه، ويدل على حظر استيفاء زيادة على فعل الجاني، والقاتل إذا قتل بالغرق أو الحرق -مثلاً-ثم فعل بالقاتل ذلك ولم يقتل به فإنه يزاد عليه ذلك أو يقتل بالسيف، وذلك على قول من يقول: يفعل به مثل ما فعل. وهذا زيادة على القصاص. فدل ذلك أن معنى القصاص في الآية هو إتلاف نفس
(1)
انظر: المعونة 3/ 1313؛ بداية المجتهد 4/ 1664؛ جامع الأمهات ص 497؛ التاج والإكليل 4/ 548.
(2)
انظر: الأم 6/ 68؛ مختصر المزني ص 317؛ العزيز 10/ 275؛ روضة الطالبين ص 1632؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 222.
(3)
انظر: المغني 11/ 508؛ التحقيق 3/ 274؛ الشرح الكبير 25/ 178؛ الممتع 5/ 449؛ الإنصاف 25/ 181.
(4)
انظر: المحلى 10/ 254، 255؛ المغني 11/ 508؛ الشرح الكبير 25/ 179.
(5)
سورة البقرة، الآية (178).
بنفس من غير مجاوزة لمقدار الفعل، وهذا يكون بقتله بالسيف
(1)
.
واعترض عليه: بأن معنى القصاص من القاتل هو أن يُفعل به مثل فعله
(2)
، وهو يتضمن وجه التعذيب والقتل، ويدل عليه فعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم باليهودي حين رضخ رأس جارية وقتلها
(3)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من الأحاديث التي تدل على أنه لا قود إلا بالسيف، فإنها تدل على أن القاتل يقتل بالسيف، ولا يفعل به مثل ما فعل
(4)
.
ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من الأحاديث التي تدل على النهي عن المثلة؛ فإنها عامة تشمل النهي عن المثلة ابتداء وقصاصاً
(5)
.
رابعاً: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإحسان القتل، وهو ينفى تعذيب القاتل والمثلة به
(6)
.
ويعترض على وجه الاستدلال من هذه الأدلة، ما اعترض به على وجه الاستدلال منها على النسخ.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 195، 196.
(2)
انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 462.
(3)
انظر: الأم 6/ 68؛ بداية المجتهد 4/ 1665؛ المغني 11/ 509.
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 197؛ المغني 11/ 508.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 181 - 183؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 198.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 185؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 197.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجوز أن يقتل القاتل بمثل ما قتل- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(2)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
(3)
.
رابعاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أنس في رضخ اليهودي رأس جارية من الأنصار، وفيه:(فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُضخ رأسه بين حجرين).
خامساً: عن أنس رضي الله عنه قال: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك، لأنهم سملوا أعين الرعاء)
(4)
.
ووجه الاستدلال منها: أن هذه الآيات تدل على أنه يجازى المعتدي بمثل عمله، ويعاقب بمثل ما عاقب، ويفسرها الحديثان؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رضخ رأس اليهودي لما رضخ رأس الجارية، وسمل أعين العرنيين لما سملوا أعين الرعاة.
(1)
سورة البقرة، الآية (194).
(2)
سورة النحل، الآية (126).
(3)
سورة الشورى، الآية (40).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 220، كتاب القسامة والمحاربين، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح (1671)(14).
فيثبت من مجموع هذه الأدلة أن القاتل يقاتل ويقتص منه بمثل ما قتل
(1)
.
واعترض عليه: بأنه ثبت أن حديث العرنيين كان قبل نسخ المثلة، وحديث رضخ رأس اليهودي يحتمل كذلك أن يكون قبل نسخ المثلة؛ فإن في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وفي معناه حديث سمرة رضي الله عنه قوله:«ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة» ، فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في آخر خطبه نهى عن المثلة، فتكون أحاديث النهي عن المثلة ناسخة لحديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين، وكذلك لحديثه في رضخ رأس اليهودي
(2)
.
أما الآيات فإن آية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(3)
. وكذلك آية: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
(4)
. مكيتان، فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقوله:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]. وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم
(1)
انظر: المحلى 10/ 256 - 258؛ بداية المجتهد 4/ 1665؛ المغني 11/ 509؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 218، 222؛ الشرح الممتع 6/ 61، 62.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 179 - 184؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 198.
(3)
سورة النحل، الآية (126).
(4)
سورة الشورى، الآية (40).
سلطان يقهر المشركين، وكان المشركون يتعاطون بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازوا بمثل الذي أُتي إليه، أو يصبروا ويعفوا فهو أمثل، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]، يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه من ظالمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف، قد عمل بحمية الجاهلية، ولم يرض بحكم الله)
(1)
.
وإذاً فهاتان الآيتان نزلتا قبل النهي عن المثلة؛ لأنها حرمت بعد الهجرة إلى المدينة، وبعد قصة العرنيين، كما سبق ذكره.
أما قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(2)
. فهو على قول ابن عباس رضي الله عنه السابق كذلك مكية، وقيل هي مدنية نزلت بعد عمرة القضية
(3)
.
فهو كذلك مما يتطرق له أن يكون قبل النهي عن المثلة، ويؤيد ذلك حديث عمران بن
حصين رضي الله عنه «ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا
(1)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان 2/ 981، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 8/ 108.
(2)
سورة البقرة، الآية (194).
(3)
انظر: جامع البيان 2/ 981؛ تفسير ابن كثير 1/ 217.
بالصدقة، ونهانا عن المثلة»، فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في آخر خطبه نهى عن المثلة.
ثم هذه الآيات تدل بعمومها على جواز أن يفعل بالقاتل مثل ما فعل، وأحاديث النهي عن المثلة خاصة في المثلة، فتكون النهي عن المثلة مستثنى من عمومها.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو أن القاتل يجوز أن يقتل بمثل ما قتل إلا إذا كان القاتل مثَّل بالمقتول أو قتله بما يحرم لذاته، فلا يمثل به ولا يقتل بما هو محرم لذاته بل يقتل بالسيف، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأحاديث في النهي عن المثلة كثيرة وصحيحة، وهي تدل على النهي عن المثلة مطلقاً، وليس فيها ما يدل على جوازها قصاصاً، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة في غير ما حديث، ولم يأت في أي رواية أنه استثنى من ذلك المثلة قصاصاً، ومن تلك الأحاديث حديث بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرِيَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:«اغزوا باسم الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً» الحديث
(1)
.
ففيه النهي عن المثلة مطلقاً، ولو كانت جائزة قصاصاً لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
سبق تخريجه في ص 1621.
ثانياً: إنه يفهم من مجموع طرق حديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين النهي عن المثلة حتى ولو كانت قصاصاً، وذلك لأنه جاء في رواية عنه-كما سبق- أن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاء، ويعني ذلك أنه سملهم قصاصاً. والرواية الأخرى جاء فيه-كما سبق-أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة بعد ذلك. فثبت من مجموع تلك الروايات في قصة العرنيين أنه لا يجوز المثلة حتى ولو كانت قصاصاً، وأن النهي عن المثلة جاء حتى بعد إباحتها قصاصاً.
ثالثاً: إن القول بنسخ الأدلة التي يستدل منها على جواز المثلة قصاصاً، له وجه؛ وذلك لوجود ما يدل على تأخر النهي عن المثلة عما يدل على جوازها، كحديث أنس رضي الله عنه (ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد ذلك)، وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه «ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة» ، فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في آخر خطبه نهى عن المثلة.
ويؤيد ذلك ما يثبت من مجموع طرق حديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة.
رابعاً: ولأن أدلة القول الثاني من الكتاب، أدلة عامة، تدل على أن يعامل الجاني كما عامل، وأحاديث النهي عن المثلة خاصة في المثلة، فتكون النهي عن المثلة مستثنى من عمومها.
على أن أحاديث النهي عن المثلة متأخرة على نزول تلك الآيات كما سبق ذكره.
خامساً: ولأن من أجاز المثلة قصاصاً استثنوا من ذلك قتله بما هو محرم لذاته كالقتل بالخمر مثلاً، فيقال لهم: المثلة كذلك محرمة فلتكن كذلك مستثناة من قتل القاتل بمثل ما قتل
(1)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 199.
المطلب الخامس: استيفاء القصاص قبل اندمال الجرح
ذهب بعض أهل العلم إلى عدم استيفاء القصاص في الجراحات قبل برئ الجرح واندماله. وأن ما يدل على جوازه قبل الاندمال فإنه قد نسخ.
وممن صرح بالنسخ: الحازمي
(1)
، وابن قدامة
(2)
، وأبو حامد الرازي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن اختلاف الآثار، والاختلاف في مفهومها سبب آخر للاختلاف فيها
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل فاستقاد، قال: فعنتت رجله، وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:«ليس لك شيء، إنك أبيت»
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 457، 458.
(2)
انظر: المغني 11/ 564.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 82.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 478.
(5)
ارجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في المسند-كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 193 - ، ومن طريقه الدارقطني في سننه-واللفظ له-3/ 89، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 116، وابن حزم في المحلى 10/ 266، والحازمي في الاعتبار ص 457. وهذا الحديث سنده صحيح لكن اختلف في رفعه وإرساله، فرواه أبو بكر وعثمان بن أبي شيبة مرفوعاً، ورواه غيرهما مرسلاً. وصحح المرفوع ابن حزم في المحلى 10/ 265. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 8/ 116: (ابنا أبي شيبة إمامان حافظان، وقد زادا الرفع فوجب قبوله على ما عرف). وقال الدارقطني بعد ذكر الحديث: (قال أبو أحمد بن عبدوس: ما جاء بهذا إلا أبو بكر وعثمان. قال الشيخ: أخطأ فيه أبنا شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره، عن ابن عليه عن أيوب عن عمرو مرسلاً، وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار عنه، وهو المحفوظ مرسلاً). وقال الحازمي: (رواه معمر عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن طلحة مثله، ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب عن عمرو بن دينار، وقد اختلف عليه فيه، فرواه عنه أحمد بن حنبل مرسلاً، وخالفه فيه أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، فروياه عن إسماعيل بن علية عن أيوب عن عمرو عن جابر موصولاً، والقول ما قاله أحمد). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 298 - بعد ذكر الحديث من طريق ابن أبي شيبة-: (وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، إلا أنهم أعلوه بالإرسال-ثم ذكر من أخرجه، ثم ذكر كلام الدارقطني، ثم قال: -وله شاهد آخر يرويه أبو الزبير عن جابر نحوه مختصراً، أخرجه ابن أبي عاصم، والدارقطني، والبيهقي. قلت: وهو صحيح لولا عنعنة أبي الزبير، وقد تابعه الشعبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره من طريق الطحاوي، ثم قال: -وهذا إسناد حسن).
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: وجأ رجل فخذ رجل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقدني منه، قال:«حتى تبرأ» ، قال: أقدني، قال:«حتى تبرأ» ، ثم جاء فقال: أقدني يا رسول الله، فأقاده، فجاء بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شلت رجلي، قال:«قد أخذت حقك»
(1)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قضى رسول الله
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 118.
-صلى الله عليه وسلم في رجل طعن رجلاً بقرن في رجله، فقال: يا رسول الله، أقدني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تعجل، حتى يبرأ جرحك» ، قال: فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال: فعرج المستقيد، وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله عرجت وبرأ صاحبي؟!، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألم أمرك أن لا تستقيد حتى يبرأ جرحك؟ فعصيتني! فأبعدك الله، وبطل جرحك» ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجل الذي عرج:«من كان به جرح، أن لا يستقيد حتى تبرأ جراحته، فإذا برئت جراحته استقاد»
(1)
.
وفي رواية -بعد ذكر الحديث-: (ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه)
(2)
.
رابعاً: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 11/ 607، والدارقطني في سننه 3/ 88، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 118، والحازمي في الاعتبار ص 458. قال الحازمي بعد ذكر الحديث:(هذا الحديث يروي عن ابن جريج من غير وجه، فإن صح سماع ابن جريج عن عمرو بن شعيب فهو حديث حسن يقوي الاحتجاج به لمن يرى الحكم الأول منسوخاً). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 299: (رواه أحمد، ورجاله ثقات). وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 298: (رجاله ثقات، غير أن ابن إسحاق وابن جريج مدلسان ولم يصرحا بالتحديث. وقد خالفهما أيوب فقال: عن عمرو بن شعيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ثم قال: -لكن للحديث شواهد يتقوى بها).
(2)
هو لفظ الدارقطني، والبيهقي، والحازمي.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 184. قال ابن حزم في المحلى 10/ 265: (هذا باطل، لأن عنبسة هذا مجهول، وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاصي، لأن ابن المبارك لم يدركه). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح 3/ 271 - بعد ذكره من طريق الطحاوي-: (هذا إسناد صالح، وعنبسة وثقه أحمد وغيره، ومهدي من الزهاد العابدين، لكن تكلم فيه ابن عدي، وقال ابن معين: لا بأس به) ثم ذكر عن أبي زرعة أن هذا الحديث مرسل مقلوب. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 8/ 118: (وأخرج الطحاوي بسند جيد عن الشعبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/ 299: (وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات معروفون، وفي مهدي بن جعفر كلام لا يضر).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث جابر رضي الله عنه الأول، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه يدلان على جواز استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه الأخير، يدلان على أنه لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ، فيكون حديثاهما ناسخين لما يدل عليه حديث جابر رضي الله عنه الأول وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ لتأخرهما عليهما، لأن في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه)، فهو يدل على تأخر النهي عن أن يقتص من الجرح حتى يبرأ صاحبه، فيكون ناسخاً لما يخالفه
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله على قولين:
(1)
انظر: الاعتبار ص 455 - 458؛ المغني 11/ 564؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 82؛ رسوخ الأحبار ص 478.
القول الأول: أنه لا يقتص من الجرح حتى يبرأ.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وقول أكثر أهل العلم، منهم: النخعي، وعطاء، والحسن، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور
(4)
.
القول الثاني: يجوز أن يقتص من الجرح قبل البرء.
وهو مذهب الشافعية
(5)
، وقول ابن حزم
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-بما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث جابر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم؛ حيث إنهما يدلان على أنه لا يقتص من الجرح حتى يبرأ
(7)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أنه يجوز أن يقتص من الجرح قبل البرء- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث جابر، وابن عباس رضي الله عنهم؛
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 184؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 197؛ بدائع الصنائع 6/ 391.
(2)
انظر: المعونة 3/ 1312؛ بداية المجتهد 4/ 1672؛ القوانين الفقهية ص 259.
(3)
انظر: المغني 11/ 563؛ الشرح الكبير 25/ 303؛ الممتع 5/ 489؛ الإنصاف 25/ 303.
(4)
انظر: الاعتبار ص 456؛ المغني 11/ 563.
(5)
انظر: الاعتبار ص 456؛ روضة الطالبين ص 1623؛ رسوخ الأحبار ص 478؛
(6)
انظر: المحلى 10/ 266.
(7)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 184؛ المعونة 1312؛ المغني 11/ 564.
حيث إنهما يدلان على جواز استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله
(1)
.
واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب-أن الراجح هو القول الأول، وهو أنه لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ؛ وذلك لما يلي:
أولاً: لأن القول بنسخ ما يدل على جواز استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله، صحيح؛ وذلك لأن النهي عن استيقاد الجرح قبل برئه جاء بعد ذلك، كما صرح به في رواية لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فيكون ذلك ناسخاً لما يخالفه، كما سبق بيانه.
ثانياً: ولأن ما استُدل به للقول الأول أقوى وأصح بالنسبة لما استُدل به للقول الثاني
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 457؛ رسوخ الأحبار ص 478.
(2)
انظر: المغني 11/ 564.
(3)
راجع تخريج تلك الأحاديث.
المبحث الثاني: الحدود، والتعزيرات
وفيه أربعة عشر مطلباً:
المطلب الأول: حكم المرتد.
المطلب الثاني: حبس الزانيين وإيذاؤهما.
المطلب الثالث: التغريب في حد الزنا.
المطلب الرابع: جلد الزاني المحصن.
المطلب الخامس: إقامة الحد على الأمة التي لم تحصن إذا زنت.
المطلب السادس: إقامة الحد على من زنا بجارية امرأته.
المطلب السابع: إقامة حد الرجم على أهل الذمة.
المطلب الثامن: قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة.
المطلب التاسع: قطع جاحد العارية.
المطلب العاشر: قتل السارق بعد المرة الرابعة.
المطلب الحادي عشر: التعزير بالعقوبات المالية.
المطلب الثاني عشر: المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة.
المطلب الثالث عشر: الغرامة بالمثلين في سرقة الثمر المعلق.
المطلب الرابع عشر: الجلد فوق عشرة أسواط في غير الحدود.
المطلب الأول: حكم المرتد
ذهب ابن حزم إلى أن قتل من ارتد
(1)
عن الإسلام كان حراماً، ثم نسخ ذلك، وجُعل حده
(2)
القتل إذا استتيب ولم يتب
(3)
.
وليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، وإنما السبب في اختلاف من لم يقل بقتل المرتد عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين ولبعض من كان يظهر الإسلام وصدرت عنه كلمات غير إسلامية
(4)
.
ويستدل لمن بقال بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعر وجهه، وقال: «رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر
(1)
المرتد هو: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر. المغني 12/ 264. وانظر: التعريفات الفقهية ص 201.
(2)
الحد لغة: الحاجز بين الشيئين، والمنع، ومنتهى الشيء. انظر: مختار الصحاح ص 111؛ المصباح المنير ص 111.
والحد اصطلاحاً: هو عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى زجراً. التعريفات الفقهية ص 77. وانظر: أنيس الفقهاء ص 61.
(3)
انظر: المحلى 12/ 162، 163.
(4)
قد نقل الإجماع على قتل المرتد إذا لم يتب غير واحد من أهل العلم، منهم الشافعي، وابن المنذر، لكن نسب ابن حزم إلى قوم أنهم قالوا بعدم قتل المرتد. انظر: الأم 6/ 172، 173؛ الإجماع لابن المنذر ص 76؛ المحلى 12/ 127 - 163؛ بدائع الصنائع 6/ 118؛ المغني 12/ 264.
من هذا فصبر»
(1)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد! اعدل. قال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: «معاذ الله! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية»
(2)
.
ثالثاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل
(3)
، والرابع إما علقمة بن علاثة
(4)
، وإما عامر بن الطفيل
(5)
. فقال رجل
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1287، كتاب الأدب، باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه، ح (6059)، ومسلم في صحيحه 4/ 388، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، ح (1062)(140).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 389، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح (1036)(142).
(3)
هو: زيد الخيل بن مهلهل بن زيد بن منهب، الطائي، وفد سنة تسع، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وتوفي عند منصرفه من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: توفي في خلافة عمر رضي الله عنه. انظر: الإصابة 1/ 656.
(4)
هو: علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص، العامري، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر على حوران وتوفي بها. انظر: الإصابة 2/ 1288 - 1290.
(5)
هو: عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، العامري. قال ابن حجر:(ذكره جعفر المستغفري في الصحابة، وهو غلط، وموت عامر المذكور على الكفر أشهر عند أ هل السير أن يتردد فيه). وذكر كذلك أن ذكر عامر في هذا الحديث غلط من عبد الواحد، فإنه ما قبل ذلك. انظر: فتح الباري 7/ 716؛ الإصابة 2/ 976، 1484.
من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟» ، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال:«ويلك! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟» ، قال: ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال:«لا، لعله أن يكون يصلي» ، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» ، قال: ثم نظر إليه وهو مقفّ فقال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . قال: أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود»
(1)
.
رابعاً: عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق قوماً، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» . ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 895، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، ح (4351)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 4/ 392، كتاب الزكاة، باب ذكر
الخوارج وصفاتهم، ح (1064)(144).
(2)
سبق تخريجه في ص 1235.
خامساً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة»
(1)
.
سادساً: عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رجلاً أسلم ثم تهود فأتاه معاذ بن جبل وهو عند أبي موسى، فقال: ما هذا؟ قال: أسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى أقتله (قضاء الله ورسوله)
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن قول الرجل في حديث ابن مسعود: (والله ما أراد محمد بهذا وجه الله) وقوله في حديث جابر: (يا محمد اعدل) وفي حديث أبي سعيد: (يا رسول الله اتق الله) كل ذلك يدل على ارتداد صاحبه، وقد استأذن عمر، وخالد رضي الله عنهما في قتله، فلم يأذن لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وبين أنه سيباح قتله فيما بعد، فثبت من ذلك أن قتل المرتد كان حراماً؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عمر وخالد رضي الله عنهما عن قتله، ثم نسخ هذا الحال بأحاديث ابن عباس، وابن مسعود ومعاذ-رضي الله عنهم والتي تدل على وجوب قتل المرتد
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في المسألة السابقة.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1500، كتاب الأحكام، باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجبت عليه دون الإمام الذي فوقه، ح (7157)، ومسلم في صحيحه 6/ 455، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ح (1733)(15).
(3)
انظر: المحلى 12/ 162 - 163.
واعترض عليه: بما يلي:
أ-بأن العلة في عدم قتل من صدر منه هذه الأقوال لم يكن لأن قتل المرتد كان حراماً بعد، بل في حديث جابر، وأبي سعيد-رضي الله عنهما-إشارة إلى العلة التي لم يأمر صلى الله عليه وسلم من أجلها بقتل ذلك الرجل، وهو أن لا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولكون ذلك الشخص أنه يصلي. ومعنى ذلك أن ذلك الشخص كان يظهر الإسلام، ويعد نفسه من جملة الصحابة وجماعة المسلمين بظاهر إسلامه، فكان يجري عليه أحكام المسلمين، وإن كان ظهر منه ما ظهر، فهو كما ظهر عن غيره من المنافقين الذين آذوا رسول الله، وسمع منهم في غير موطن ما يكرهه، ولكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا
(1)
.
ثم هذا الشخص كان أصل الخوارج ومن جملتهم، والخوارج لا يقاتلون ما لم يسفكوا دماً حراماً، و ما لم ينصبوا حرباً أو يستعدوا لذلك، وهذا الشخص لم يعمل شيئاً من هذا بعد
(2)
.
ب- إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما-إلى اليمن قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم الصحيح أن معاذاً رضي الله عنه لم
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 4/ 388، 8/ 191.
(2)
انظر: فتح الباري 12/ 362.
يرجع من اليمن حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وقد سبق أن معاذاً رضي الله عنه قال في المرتد: لا أجلس حتى أقتله (قضاء الله ورسوله). فهو يدل على أن الأمر بقتل المرتد سابق على حديث بعث علي رضي الله عنه بذهيبة من اليمن وقسم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أربعة نفر، وقول الرجل فيه (اعدل) ومع ذلك لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم بل نهى عن قتله، فبطل بهذا دعوى أن الأمر بقتل المرتد متأخر على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هذا الرجل، وبطل به دعوى النسخ.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حكم المرتد على قولين:
القول الأول: أنه يجب قتل المرتد إن لم يتب.
وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم أهل المذاهب الأربعة
(2)
، بل نقل غير واحد من أهل
العلم الإجماع على ذلك، منهم: الإمام الشافعي
(3)
، وابن المنذر
(4)
، والنووي
(5)
.
(1)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 87 - 95.
(2)
وإن اختلفوا في قتل المرتدة، وكذلك في استتابة المرتد. انظر: الأم 6/ 172، 173؛ الإجماع لابن المنذر ص
76؛ المحلى 12/ 127 - 163؛ المعونة 3/ 1361؛ المبسوط للسرخسي 10/ 95؛ بدائع الصنائع 6/ 118؛ المغني 12/ 264؛ الممتع 5/ 771؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 454؛ روضة الطالبين ص 1730؛ جامع الأمهات ص 513.
(3)
انظر: الأم 6/ 173.
(4)
انظر: الإجماع لابن المنذر ص 76.
(5)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 454.
وذلك لأدلة كثيرة تدل على قتل المرتد إذا لم يتب، ومنها ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث ابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ رضي الله عنهم.
القول الثاني: ذكر ابن حزم أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى عدم قتل المرتد
(1)
.
واستدلوا بما يلي:
أولاً: ما سبق ذكره في دليل القول بالنسخ، من حديث ابن مسعود، وجابر، وأبي سعيد الخدري، فإن هذه الأحاديث جاء فيها من الكلمات-كما سبق- ما يدل على ارتداد صاحبها، وقد استأذن عمر، وخالد رضي الله عنهما في قتله، فلم يأذن لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل نهاهما عن قتله، فدل ذلك على أن المرتد لا يقتل
(2)
.
ثانياً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع
(3)
رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال دعوى الجاهلية،؟» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار،
(1)
انظر: المحلى 12/ 109، 113، 116، 127.
(2)
انظر: المحلى 12/ 153 - 155، 158، 162 - 163.
(3)
كسع، أي ضرب دبره بيده، والكسع ضرب الدبر. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 540.
فقال: «دعوها، فإنها منتنة» فسمعها عبد الله بن أبيّ فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»
(1)
.
ووجه الاستدلال منه كالاستدلال من الأحاديث السابقة.
ويعترض على وجه الاستدلال من هذه الأدلة ما اعترض به على وجه الاستدلال منها على النسخ.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن الراجح بلا شك هو القول الأول، وهو أن المرتد إن لم يتب فإنه يجب قتله، وذلك لما يلي:
أ- للأدلة الكثيرة التي تدل على قتل المرتد ومن بدل دينه، وأنه قضاء الله ورسوله. وقد سبق جملة منها في دليل القول بالنسخ.
ب- ولأن أهل العلم أجمعوا على وجوب قتل المرتد ومن بدل دينه في الجملة، كما سبق ذكره.
كما أن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعوا على قتال المرتدين في عهد
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 723، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، ح (3518)، ومسلم
في صحيحه-واللفظ له-8/ 191، كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، ح (2584)(63).
أبي بكر رضي الله عنه.
ثانياً: إنه لا يصح القول بأن قتل المرتد كان حراماً حتى بعث علي رضي الله عنه بذهيبة من اليمن، وقسم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، ثم نسخ ذلك بعد ذلك ووجب قتله؛ وذلك لما سبق أن عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم لمن صدر منهم تلك الكلمات لم يكن لأن قتل المرتد كان حرماً، بل لئلا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولأنه كان يصلي.
كما سبق أن الأمر بقتل المرتد مقدم على بعث علي رضي الله عنه بذهيبة من اليمن؛ لأن معاذ رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قبل علي رضي الله عنه وهو بين لما التقى مع أبي موسى رضي الله عنه أن قتل المرتد قضاء الله ورسوله، فهو مما يبطل قول النسخ.
والله أعلم.
المطلب الثاني: حبس الزانيين وإيذاؤهما
لا خلاف بين أهل العلم في أن حبس الزانيين وإيذائهما قد نسخا
(1)
، إلا أنهم اختلفوا في كيفية النسخ، وفي الناسخ، ومما قيل فيهما:
أ-كان حد المرأة الزانية الحبس، وحد الرجل الزاني الأذى، ثم نسخا بالجلد للبكر، والرجم للثيب.
وهو قول مجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وصححه أبو جعفر النحاس
(2)
.
ب- كان حدهما الحبس، ثم نسخ بإيذائهما بالسب والتعيير، ثم نسخ الإيذاء بجلد البكر مائة وتغريب عام، وجلد الثيب مائة والرجم.
وهو قول عكرمة، والطحاوي، وروي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
(3)
.
ج- كان حد الزاني والزانية الثيبين الحبس، وحد البكرين الأذى. ثم نسخ ذلك.
وهو قول قتادة
(4)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 134؛ نواسخ القرآن 2/ 354.
(2)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 99؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 121؛ نواسخ القرآن 2/ 355.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 99؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 121.
(4)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 99؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 121.
وكيفما يكون النسخ وبما يكون، إلا أنه لا خلاف بين أهل العلم في نسخ الحبس والأذى عنهما
(1)
.
وذلك لما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
(2)
.
ثانياً: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(3)
.
ثالثاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كان نبي الله إذا أنزل عليه، كرب لذلك، وتربد
(1)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 129؛ شرح معاني الآثار 4/ 143؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 134؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 365؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 99؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 121 - 123؛ نواسخ القرآن 2/ 354. الجامع لأحكام القرآن 5/ 81.
(2)
سورة النساء، الآية (15 - 16).
(3)
سورة النور، الآية (2).
(4)
سبق تخريجه في ص 71.
له وجهه، قال: فأنزل عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلما سُرِّي عنه قال:«خذوا عنّي، فقد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ثم نفي سنة»
(1)
.
رابعاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه قال: (وقد قرأتها: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده)
(3)
.
خامساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} الآية [السناء: 15]. قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وفي قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [السناء: 16] قال: كان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير، وضرب النعال، فأنزل الله عز وجل بعد هذا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 250، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ح (1690)(13).
(2)
سبق تخريجه في ص 66.
(3)
سبق تخريجه في ص 66.
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأنه يثبت من مجموع هذه الأدلة أنه كان في أول الإسلام حد الزانية والزاني الحبس والأذى، ثم نسخ الله ذلك، فجعل حد البكر جلد مائة ونفي سنة، وجعل حد الثيب جلد مائة والرجم. فثبت من ذلك نسخ حد الحبس والأذى عن الزانيين
(2)
.
والله أعلم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان 3/ 2305، وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن 2/ 133، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 8/ 368، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 101، وابن الجوزي في نواسخ القرآن 2/ 355.
(2)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 129؛ شرح معاني الآثار 4/ 143؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 134؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 365؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 99؛ الناسخ والمنسوخ لابن العربي ص 121 - 123؛ نواسخ القرآن 2/ 354. الجامع لأحكام القرآن 5/ 81.
المطلب الثالث: التغريب في حد الزنا
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الزاني البكر يجلد مائة ولا يغرب؛ لأن التغريب
(1)
في حد الزنا قد نسخ.
وممن صرح به: الطحاوي
(2)
، والسرخسي
(3)
، والمرغناني
(4)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، لكن السبب الأصلي للاختلاف فيها هو الاختلاف في مفهوم الأدلة الواردة فيها، وتقدم بعضها على بعض
(5)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
(6)
.
(1)
التغريب: الابتعاد والنفي من البلد. انظر: مختار الصحاح ص 414؛ المصباح المنير ص 361.
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء 3/ 279.
(3)
انظر: المبسوط 9/ 45.
(4)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 242.
(5)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: شرح معاني الآثار 3/ 134 - 138، 139؛ بداية المجتهد 4/ 1721، 1722.
(6)
سبق تخريجه في ص 71.
ثانياً: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(1)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني-رضي الله عنهما-أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل» قال: إن ابني كان عسيفاً
(3)
على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني؛ أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله. الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس
(4)
، إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت
(5)
.
(1)
سورة النور، الآية (2).
(2)
سورة النساء، الآية (25).
(3)
عسيفا، العسيف الأجير. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 206.
(4)
هو: أنيس بن الضحاك الأسلمي، صحابي. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 265؛ الإصابة 1/ 86.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1432، كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا، ح (6827، 6828)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 264، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، ح (1697، 1698)(25).
خامساً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر»
(1)
.
سادساً: عن أبي هريرة وزيد بن خالد-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال:«إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» . قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة
(2)
.
ويستدل منها على النسخ، بالوجهين التاليين.
الوجه الأول: أن حديث عبادة رضي الله عنه والذي جاء فيه في حد الزاني البكر الجلد والتغريب، متقدم على آية سورة النور التي لم يذكر فيها في حد الزاني إلا الجلد، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة رضي الله عنه:«خذوا عني» ولو
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1436، كتاب الحدود، باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى، ح (6839)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 268، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ح (1703)(30).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 424، كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، ح (2153، 2154)، ومسلم في صحيحه 6/ 270، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ح (1704)(33).
كانت آية النور نزلت قبله لقال: (خذوا عن الله)
(1)
. وإذا كانت آية النور نزلت بعد حديث عبادة رضي الله عنه فيكون التغريب المذكور فيه منسوخاً بها؛ لأنه جاء فيها الاقتصار على الجلد
(2)
.
واعترض عليه: بأنه لو سلم أن آية النور نزلت بعد حديث عبادة رضي الله عنه فلا يسلم نسخه بها؛ لأن حديث أبي هريرة وخالد الجهني رضي الله عنهما في قصة الأعرابي جاء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله» . وقد جاء فيه: «وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام» . وهذا الحديث بعد آية النور لقوله صلى الله عليه وسلم: «لأقضين بينكما بكتاب الله» فدل ذلك أن تغريب الزاني ليس منسوخاً بآية النور.
الوجه الثاني للنسخ: أن حديث عبادة رضي الله عنه وأبي هريرة وزيد بن خالد الجهني-رضي الله عنهم-جاء فيها في حد البكر الجلد، ونفي سنة، وهذا النفي كان ثابتاً في النساء الأبكار الحرائر والإماء، لقوله تعالى في حد الإماء إذا أتين بالفاحشة:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . فكان النفي ثابتاً في حقهن كذلك، ثم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في حد الإماء ذكر فيها الجلد ولم يذكر فيها النفي، فدل ذلك أن النفي نسخ من حدهن، وإذا نسخ ذلك من حد الإماء فيكون في ذلك دلالة على نسخه من حد الرجال والنساء عموماً
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 135؛ المبسوط 9/ 45.
(2)
انظر: المبسوط 9/ 45.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 135 - 137؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 278 - 279.
واعترض عليه: بأنه ليس في هذه الأدلة ما يدل على أن الأمة كان حدها جلد خمسين وتغريب نصف سنة ثم نسخ التغريب من حدها، بل ما في هذه الأدلة هو أن الشرع فرق بين حد الأحرار والرقيق، فجعل حد من زنى من الأحرار الأبكار جلد مائة، ونفي سنة، وجعل حد من زنى من الرقيق جلد خمسين
(1)
.
ويؤيد عدم نسخ التغريب عمل الخلفاء به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر-رضي الله
عنهما-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب و غرب)
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في نفي الزاني على أربعة أقوال:
القول الأول: لا نفي على زان سواء كان رجلاً أو امرأة.
وهو مذهب الحنفية
(3)
.
(1)
انظر: التمهيد 14/ 60؛ المغني 12/ 333، 334.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه ص 340، كتاب الحدود، باب ما جاء في النفي، ح (1438)، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 389، وابن عبد البر في التمهيد 14/ 60. قال الترمذي:(حديث غريب، رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس فرفعوه، وروى بعضهم عن عبد الله بن إدريس هذا الحديث عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب). وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/ 11.
(3)
انظر: الموطأ لمحمد ص 242؛ شرح معاني الآثار 3/ 137؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 277؛ المبسوط 9/ 45؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 241.
القول الثاني: ينفى الرجل، ولا تنفى المرأة ولا العبد.
وهو مذهب المالكية
(1)
. ونحوه قول الأوزاعي
(2)
.
القول الثالث: ينفى الزاني سواء كان رجلاً أم امرأة، حراً أم عبداً، وينفى الحر سنة، والعبد نصف سنة.
وهو مذهب الشافعية
(3)
. ونحوه قول الثوري وأبي ثور
(4)
.
القول الرابع: ينفى الزاني سواء كان رجلاً أم امرأة، ولا نفي على الزاني إن كان رقيقاً.
وهو مذهب الحنابلة
(5)
.
وقال به الحسن، وحماد، وإسحاق بن راهوية
(6)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أنه لا نفي على الزاني- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(7)
.
(1)
انظر: المعونة 3/ 1380؛ التمهيد 14/ 59؛ بداية المجتهد 4/ 1721؛ جامع الأمهات ص 516؛.
(2)
انظر: التمهيد 14/ 59؛ بداية المجتهد 4/ 1721.
(3)
انظر: الأم 6/ 147 - 150؛ مختصر المزني ص 343؛ روضة الطالبين ص 1735؛ المنهاج وشرحه مغني المحتاج 5/ 511، 513.
(4)
انظر: المغني 12/ 333.
(5)
انظر: المغني 12/ 322، 333؛ الشرح الكبير 26/ 257، 267؛ الممتع 5/ 657؛ الإنصاف 26/ 254، 264.
(6)
انظر: المغني 12/ 333.
(7)
سورة النور، الآية (2).
ثانياً: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(1)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها» الحديث
(2)
.
رابعاً: عن أبي هريرة وزيد بن خالد-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال:«إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها» الحديث
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: أن آية النور جاء فيها حد الزاني جلد مائة، ولم يذكر فيها النفي، وذلك في الأحرار، وكذلك آية سورة النساء جاء فيها أن حد الإماء على النصف من حد الحرة، وليس فيها كذلك ذكر النفي، كما أن الأحاديث التي جاء في حد الإماء لم يذكر فيها النفي، فدل ذلك أن النفي ليس من حد الزنى مطلقاً
(4)
.
واعترض عليه: بأن نفي الزاني جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، لذلك لا يصح الاستدلال على عدم نفي الزاني بعدم ذكر النفي في بعض الأدلة
(5)
.
(1)
سورة النساء، الآية (25).
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 137؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 279؛ المبسوط 9/ 45.
(5)
انظر: التمهيد 14/ 59، 60؛ المغني 12/ 323.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الزاني البكر ينفى، ولا نفي على المرأة ولا العبيد- بما يلي:
أولاً: أما نفي البكر فلحديث عبادة بن الصامت، وأبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهم، وقد سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ؛ فإنها تدل على نفي الزاني البكر سنة
(1)
.
ثانياً: أما عدم نفي العبيد فلحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني-رضي الله عنهما، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ؛ حيث لم يذكر فيهما في حد الأمة النفي، والعبيد والإماء في الحد سواء
(2)
.
ثالثاً: أما عدم نفي المرأة الحرة، فلأحاديث تدل على تحريم سفر المرأة بدون محرم، منها:
أ- عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم»
(3)
.
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله
(1)
انظر: المعونة 3/ 1380؛ بداية المجتهد 4/ 1721.
(2)
انظر: المعونة 3/ 1382؛ التمهيد 14/ 60.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 215، كتاب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة، ح (1086)، ومسلم في صحيحه 5/ 233، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، ح (1338)(413).
واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة»
(1)
.
ووجه الاستدلال منهما: هو أن الأحاديث الواردة في تغريب الزاني وإن كانت عامة تشمل الرجال والنساء، إلا أن عمومها تكون مخصصاً بهذه الأحاديث، لذلك لا يكون التغريب شاملاً لهن
(2)
.
واعترض عليه: بأنه يمكن العمل بعموم الخبر الوارد في تغريب الزاني، وأحاديث النهي
عن سفر المرأة بدون محرم، وذلك بنفيها مع محرم؛ للعمل بجميع الأدلة
(3)
.
دليل القول الثالث
ويستدل للقول الثالث- وهو أن الزاني ينفى سواء كان رجلاً أم امرأة، حراً أو عبداً- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(4)
.
ثانياً: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: «البكر
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 215، كتاب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة، ح (1088)، ومسلم في صحيحه 5/ 237، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، ح (1339)(419).
(2)
انظر: المعونة 3/ 1381؛ المغني 12/ 322.
(3)
انظر: الأم 6/ 148، 149؛ المغني 12/ 325.
(4)
سورة النساء، الآية (25).
بالبكر جلد مائة ونفي سنة» الحديث
(1)
.
ثالثاً: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله. الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام» الحديث
(2)
.
رابعاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، و أن عمر ضرب وغرب)
(3)
.
ووجه الاستدلال منها: هو أن هذه الأحاديث جاء فيها تغريب الزاني البكر، وهي عامة تشمل الرجال والنساء، والأحرار والعبيد، إلا أن نفي العبيد يكون على النصف من نفي الأحرار لآية سورة النساء
(4)
.
واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث وإن كانت عامة في الأحرار والعبيد، إلا أنه جاء في غير ما حديث ذكر حد الإماء ولم يذكر معه التغريب، فلو كان التغريب من حدهن لذكر مع
الجلد
(5)
.
دليل القول الرابع
ويستدل للقول الرابع- وهو أن الزاني من الأحرار ينفى، ولا نفي على
(1)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(2)
سبق تخريجه في دليل القول بالنسخ.
(3)
سبق تخريجه في ص 1650.
(4)
انظر: الأم 6/ 147 - 149؛ مختصر المزني ص 343؛ المغني 12/ 333؛ مغني المحتاج 5/ 511، 513.
(5)
انظر:: المعونة 3/ 1382؛ التمهيد 14/ 60؛ المغني 12/ 333.
العبيد- بما يلي:
أولاً: أما تغريب البكر من الأحرار سواء كان رجلاً أم امرأة، فلأحاديث كثيرة تدل على نفيهم، منها ما سبق من حديث عبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وابن عمر-رضي الله عنها، فإن كلها تدل على نفي الزاني البكر
(1)
.
ثانياُ: أما عدم نفي الزاني من الرقيق، فلما سبق من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني-رضي الله عنهما؛ حيث لم يذكر فيهما في حد الأمة النفي، والعبيد والإماء في الحد سواء، ولو كان النفي من حدهم لذكر؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(2)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الرابع، وهو نفي الزاني البكر من الأحرار، وعدم نفي الرقيق؛ وذلك لما يلي:
أ- لأحاديث كثيرة وصحيحة، تدل على نفي الزاني البكر، وهي عامة تشمل الرجل والمرأة، وورود أحاديث في حد الأمة من دون ذكر النفي، وهو مما يدل على الفرق بين الأحرار والعبيد.
(1)
انظر: المغني 12/ 323؛ الشرح الكبير 26/ 256.
(2)
انظر: المغني 12/ 333؛ الشرح الكبير 26/ 267.
ب-ولأن جميع الأحاديث التي جاء فيها ذكر حد البكر الزاني، فإنه جاء مع الجلد ذكر التغريب، ولم أجد حديثاً جاء فيه ذكر الجلد للبكر الزاني بدون التغريب، كما أن تلك الأحاديث لم يذكر فيها ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة.
ج-ولأن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بتغريب الزاني، كما ذكر في حديث ابن عمر رضي الله عنه. ولم يوجد لهم في الصحابة مخالفاً فكان إجماعاً
(1)
.
ثانياً: إن القول بأن تغريب الزاني البكر قد نسخ، غير صحيح؛ وذلك لما يلي:
أ- لعدم وجود أي دليل يدل على النسخ، كما سبق ذكره.
ب- ولأن الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم غربوا، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، ولم ينكر عليهم منكر، ولو كان التغريب منسوخاً لما عملوا به.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 12/ 324.
المطلب الرابع: جلد الزاني المحصن
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن حد الزاني المحصن
(1)
الرجم، وليس عليه مع ذلك الجلد؛ لأنه قد نسخ
(2)
.
وممن صرح به: الإمام الشافعي
(3)
، والطحاوي
(4)
، وابن عبد البر
(5)
، والسرخسي
(6)
، والحازمي
(7)
، وابن العربي
(8)
، وأبو حامد الرازي
(9)
، وأبو إسحاق الجعبري
(10)
. وروي عن الإمام أحمد ما يدل عليه
(11)
.
(1)
المحصن اصطلاحاً: الحر المكلف المسلم وطئ بنكاح صحيح. أنيس الفقهاء ص 63؛ التعريفات الفقهية ص 197.
وعرف بأنه: من وطئ امرأته في قبلها، في نكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حران. المقنع مع شرحه الممتع 5/ 655.
(2)
انظر: الاعتبار ص 473، 474؛ الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 101.
(3)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي ص 132.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 139.
(5)
انظر: التمهيد 14/ 55.
(6)
انظر: المبسوط 9/ 46.
(7)
انظر: الاعتبار ص 474.
(8)
انظر: الناسخ والمنسوخ له ص 123.
(9)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 87.
(10)
انظر: رسوخ الأحبار ص 488.
(11)
قال ابن قدامة في المغني 12/ 313: (قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة: إنه أول حد نزل، وإن حديث ماعز بعده، رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده، وعمر رجم ولم يجلد، ونقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا).
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بأدلة منها ما يلي:
أولاً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
(2)
.
ثانياً: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله. الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت
(3)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه. فتنحّى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، حتى ثنى
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة غير الأولى. وانظر: بداية المجتهد 4/ 1719.
(2)
سبق تخريجه في ص 71.
(3)
سبق تخريجه في ص 1648.
ذلك عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أبك جنون؟» قال: لا. قال: «فهل أحصنت؟» قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه»
(1)
.
رابعاً: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه عليّ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال:«أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشُكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلى عليها يا نبي الله! وقد زنت. فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟»
(2)
.
خامساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا
(1)
سبق تخريجه في 99.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 263، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، ح (1696)(24).
أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف)
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه يدل على أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم، لكن جلد الثيب في هذا الحديث منسوخ؛ لأنه كان قبل نزول الحدود حبس الزاني وإيذاؤه، ثم جاء هذا الحديث في بيان نسخ الحبس والإيذاء عن الزاني فكان هذا أول حديث في حد الزنى، ثم بعد ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم الزاني المحصن ولم يأمر يجلده، كما في حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد-رضي الله عنهما، وغيره. كما أنه صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المحصن ولم يجلده، فدل ذلك أن الجلد منسوخ عن الثيب الزاني؛ لأن ما تأخر من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ ما تقدم منه، وأنه إنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويؤيد ذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه:(فكان مما أنزل عليه آية الرجم) ولم يذكر معه الجلد
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في جلد الزاني الثيب على قولين:
القول الأول: يرجم الثيب الزاني، ولا يجلد.
(1)
سبق تخريجه في ص 66.
(2)
انظر: الأم 6/ 148؛ الرسالة للإمام الشافعي ص 132؛ شرح معاني الآثار 3/ 139؛ التمهيد 14/ 55؛ المبسوط 9/ 46؛ الاعتبار ص 474 - 476؛ المغني 12/ 313؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 87؛ رسوخ الأحبار ص 488.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
. وقول جمهور أهل العلم، وممن روي عنه ذلك أو قال به: عمر، وعثمان، وابن مسعود، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، والليث، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، وابن جرير الطبري
(5)
.
القول الثاني: يجلد الثيب الزاني ثم يرجم.
وهو رواية عن الإمام أحمد
(6)
، وقول الحسن البصري، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن المنذر، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأبي بن كعب-رضي الله عنهم
(7)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 140؛ المبسوط 9/ 45؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 240؛ العناية 5/ 240.
(2)
انظر: المعونة 3/ 1375؛ التمهيد 14/ 53؛ بداية المجتهد 4/ 1719؛ جامع الأمهات ص 516.
(3)
انظر: الأم 6/ 148؛ مختصر المزني ص 342؛ روضة الطالبين ص 1735؛ مغني المحتاج 5/ 509.
(4)
انظر: المغني 12/ 313؛ الشرح الكبير 26/ 241؛ الممتع 5/ 654؛ الإنصاف 26/ 238.
(5)
انظر: التمهيد 14/ 53؛ الاعتبار ص 473؛ المغني 12/ 313.
(6)
انظر: المغني 12/ 313؛ الشرح الكبير 26/ 240؛ الممتع 5/ 654؛ الإنصاف 26/ 239.
(7)
انظر: التمهيد 14/ 53؛ الاعتبار ص 473؛ المغني 12/ 313؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 250.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما في قصة الأعرابي، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» الحديث.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي اعترف على نفسه بالزنى، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اذهبوا به فارجموه» .
ثالثاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من عن عمران بن الحصين رضي الله عنه في قصة المرأة التي اعترفت على نفسها بالزنى، وفيه:(فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشُكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها) الحديث.
رابعاً: ما مرّ في دليل القول بالنسخ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه:(إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده) الحديث.
ووجه الاستدلال من هذه الأدلة: هو أن الأحاديث الثلاثة الأولى جاء فيها الأمر برجم الزاني المحصن، بدون الجلد، كما أن حديث عمر رضي الله عنه-
جاء فيه ذكر الرجم بدون الجلد، فدل ذلك أن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد؛ لأن جلده لو كان كذلك من حده لذكره رسول الله ولأمر به كما أمر بالرجم، ثم هذه الأحاديث متأخرة على ما يدل على جلد الزاني المحصن، ثم
رجمه، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
واعترض عليه: بأن الجلد ثابت بكتاب الله، والرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في الأدلة التي يستدل منها على عدم جلد الزاني المحصن، تصريح بسقوط الجلد عنه، وترك ذكره في تلك الأدلة يحتمل أن يكون لوضوحه، وكونه هو الأصل، فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال
(2)
.
وأجيب عنه: بأن هذه الأحاديث جاءت من طرق متنوعة، بأسانيد مختلفة، ولم يذكر في شيء منها أنه جلد، وذكر في غير واحد منها الأمر بالرجم، ولم يذكر الجلد، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم- بما يلي:
(1)
انظر: الأم 6/ 148؛ شرح معاني الآثار 3/ 139؛ التمهيد 14/ 53، 54؛ المغني 12/ 313.
(2)
انظر: المغني 12/ 314؛ فتح الباري 12/ 139.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 139؛ التمهيد 14/ 53، 54؛ فتح الباري 12/ 139.
أولاً: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(1)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
ثالثاً: عن الشعبي قال: أُتي علي رضي الله عنه بزان محصن، فجلده يوم الخميس مائة، ثم رجمه يوم الجمعة، فقيل له: جمعت عليه حدين؟ فقال: (جلدته بكتاب الله، ورجمته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن الآية عامة تشمل الزاني المحصن والبكر، وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله:(جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله)، وحديث عبادة رضي الله عنه صريح في ذلك. فيثبت من مجموعها أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم
(3)
.
واعترض عليه: بأن الآية وإن كانت عامة إلا أن الأدلة التي يستدل منها على عدم الجلد تدل على أن الآية قصد بها من لم يحصن من الزناة، وحديث عبادة رضي الله عنه يدل على جلد الزاني المحصن ثم رجمه، لكن الأحاديث التي يستدل منها على عدم الجلد معها ما يدل على تأخرها
(1)
سورة النور، الآية (2).
(2)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 255، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 140، والدارقطني في سننه 3/ 124، والحاكم في المستدرك 4/ 405. قال الحاكم:(إسناد صحيح). ووافقه الذهبي. وصححه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/ 6.
(3)
انظر: التمهيد 14/ 53؛ الاعتبار ص 473؛ المغني 12/ 314؛ فتح الباري 12/ 139.
عليه، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- أن الراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول جاءت من طرق مختلفة، ولم يذكر في شيء منها الجلد، وذكر في غير واحد منها الأمر بالرجم، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، وعدم وقوعه يدل إما على أنه لم يجب أصلاً، أو على أنه كان ثم ترك
(2)
.
ثانياً: إن حديث عمر رضي الله عنه يدل كذلك على اقتصار الرجم وعدم جلد الزاني المحصن؛ حيث جاء فيه: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده). وإنما رجم عمر رضي الله عنه الزاني المحصن في خلافته، ولم يجلده، فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجلد الزاني المحصن
(3)
.
(1)
انظر: التمهيد 14/ 54، 55؛ الاعتبار ص 474 - 476؛ فتح الباري 12/ 139.
(2)
انظر: الأم 6/ 148؛ شرح معاني الآثار 3/ 139؛ التمهيد 14/ 53، 54؛ فتح الباري 12/ 139.
(3)
انظر: الأم 6/ 148؛ التمهيد 14/ 54.
ثالثاً: إن أدلة هذا القول تدل على رجم الزاني المحصن دون جلده، ثم يوجد معها ما يدل على تأخرها على ما يدل على جلد الزاني المحصن، فتكون ناسخة له، كما سبق ذكره.
والله أعلم.
المطلب الخامس: إقامة الحد على الأمة التي لم تحصن إذا زنت
ذهب ابن شاهين إلى أن الأمة تحد إذا زنت وإن لم تحصن أي تزوجت من قبل. وأن ترك إقامة الحد عليها إذا لم تحصن قد نسخ
(1)
.
والقول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، لكن السبب الرئيسي لاختلافهم فيها هو اختلافهم في المراد بالإحصان في قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(2)
. واختلاف الآثار الواردة فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على الأمة حد حتى تحصن»
(4)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على الأمة حد حتى تحصن،
(1)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 606؛ فتح الباري 12/ 191.
(2)
سورة النساء، الآية (25).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 212؛ التمهيد 14/ 88 - 91؛ بداية المجتهد 4/ 1722؛ فتح الباري 12/ 191 - 193.
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 297، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 605. ثم قال:(وحديث مسعر قد علل، وقيل: إنه روي موقوفاً على ابن عباس، ولم أعلم أحداً أسنده وجوده إلا عبد الله بن عمران العابدي).
فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات»
(1)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن
زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر»
(2)
.
ثالثاً: عن أبي هريرة وزيد بن خالد-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال:«إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير»
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عباس رضي الله عنه يدل على أن الأمة إذا زنت ولم تكن أحصنت بزوج فإنها لا تحد، والأحاديث المذكورة بعده تدل على أنها تحد ولو لم تكن أحصنت بزوج، فتكون هذه الأحاديث ناسخة له
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 297. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 273: (رواه الطبراني بإسنادين، و رجال أحدهما رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران وهو ثقة). وقال ابن حجر في الفتح 12/ 191: (وسنده حسن، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والأرجح وقفه، وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره). ورواه موقوفاً عبد الرزاق في المصنف 7/ 397.
(2)
سبق تخريجه في ص 1648.
(3)
سبق تخريجه في ص 1648.
(4)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 606.
واعترض عليه: بأن النسخ يحتاج إلى تاريخ ليُعلم المتأخر من المتقدم، وهو مما لا يوجد في هذه المسألة
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في حد الأمة إذا زنت ولم تكن أحصنت بزوج على قولين:
القول الأول: تحد الأمة إذا زنت أحصنت بزوج أو لم تحصن.
وهو قول جمهور أهل العلم، منهم أهل المذاهب الأربعة
(2)
، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنهم، والحسن، والنخعي، والأوزاعي
(3)
.
القول الثاني: إذا زنت الأمة ولم تكن أحصنت بزوج فإنها لا تحد.
وهو قول ابن عباس، وعطاء، وطاوس، وأبي عبيد القاسم بن سلام
(4)
.
(1)
انظر: فتح الباري 12/ 191.
(2)
انظر: الموطأ لمحمد ص 246؛ المبسوط 9/ 53؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 233"؛ المعونة 3/ 1382؛ التمهيد 14/ 90؛ بداية المجتهد 4/ 1722؛ جامع الأمهات ص 516"؛ الأم 6/ 150؛ مختصر المزني ص 342؛ روضة الطالبين ص 1735"؛ المغني 12/ 331؛ الشرح الكبير 26/ 264؛ الإنصاف 26/ 264.
(3)
انظر: التمهيد 14/ 90، 91؛ المغني 12/ 331؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270.
(4)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 397؛ المغني 12/ 331؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو أن الأمة الزانية تحد أحصنت بزوج أم لا- بأدلة منها ما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها» الحديث.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال:«إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها» الحديث.
ثالثاً: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أحسنت»
(1)
.
ووجه الاستدلال منها: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في جلد الأمة عام يشمل
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 271، كتاب الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء، ح (1705) (34). قال ابن حجر في الفتح 12/ 191 - بعد ذكر هذا الحديث-:(واختلف أيضاً في رفعه ووقفه، والراجح أنه موقوف، لكن سياقه في مسلم يدل على رفعه).
من أحصن ومن لم يحصن، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد-رضي الله عنهما-صريح في جلد الأمة إذا زنت ولم تحصن، وكذلك حديث علي رضي الله عنه، فيثبت من مجموع هذه الأدلة إقامة الحد على من زنى من الأرقاء، سواء كان محصناً بزوج أم لا
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو أن الأمة لا تحد إذا لم تحصن بزوج- بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ}
(2)
.
ثانياً: ما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على الأمة حد حتى تحصن، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات» .
ووجه الاستدلال منهما: أن الآية الكريمة تدل بمفهومها على أن الأمة إذا زنت قبل أن تتزوج أنه لا حد عليها، والحديث صريح في أنه لا حد على الأمة ما لم تتحصن بزوج
(3)
.
واعترض عليه: بأن الإحصان في الآية الكريمة يحتمل أن يكون المراد به
(1)
انظر: الموطأ لمحمد ص 246؛ بداية المجتهد 4/ 1722؛ المغني 12/ 332؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270؛ فتح الباري 12/ 191.
(2)
سورة النساء، الآية (25).
(3)
انظر: المغني 12/ 331؛ فتح الباري 12/ 191.
التزويج، ويحتمل أن يكون المراد به الإسلام، والحديث مختلف في رفعه ووقفه، ثم هو معارض بأقوى منه. وقد جاءت أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد أن الأمة تحد إذا زنت أحصنت أم لا
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، والأدلة، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو أن الأمة تحد إذا زنت سواء أحصنت بزوج أم لا، وذلك لما يلي:
أ-لأن أدلة هذا القول كثيرة وصحيحة، ثم منها ما هو نص صريح في المسألة، بخلاف أدلة القول الثاني؛ حيث إن بعضه محتمل لأكثر من معنى، وبعضه مختلف في رفعه ووقفه، ومثل هذا لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة
(2)
.
ب- إن أدلة القول الأول تدل على جلد من أحصن ومن لم يحصن من الأرقاء إذا زنى، والآية الكريمة تدل على أن المحصنة تجلد إذا زنت، فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الآمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد، وهو معنى ما خطب به علي رضي الله عنه الناس. وإنما جاء التقييد في الآية بالإحصان لا
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 212؛ التمهيد 14/ 88؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270؛ فتح الباري 12/ 191.
(2)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270؛ فتح الباري 12/ 191.
للاحتراز من أن غير المحصنة لا تحد، بل للتنبيه على أن الأمة وإن كانت مزوجة لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة، لأنه الذي يتنصف. وأما الرجم فلا يتنصف، فكان التقييد في الآية لبيان هذا؛ لئلا يتوهم متوهم أن الأمة المزوجة ترجم
(1)
.
ج- إن حديث ابن عباس رضي الله عنه إن صح مرفوعاً فيحتمل أنه كان أولاً، فيكون منسوخاً بالأحاديث التي تدل على إقامة الحد على من زنى من الرقيق سواء كان محصناً أم لا
(2)
.
ثانياً: إنه لا يصح القول بنسخ ما يدل على أن الأمة غير المحصنة لا تحد، وذلك لعدم معرفة التاريخ، وتردد حديث ابن عباس رضي الله عنه بين الرفع والوقف
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 270.
(2)
انظر: ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 606.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 191.
المطلب السادس: إقامة الحد على من زنا بجارية امرأته
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وقع على جارية امرأته فإنه يرجم، وأن ما يدل على ترك إقامة الحد عليه، فإنه قد نسخ
(1)
.
وممن قال بنحو هذا: الطحاوي
(2)
، والبيهقي
(3)
، وأبو إسحاق الجعبري
(4)
. وروي عن علي رضي الله عنه ما يدل عليه
(5)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن اختلاف الآثار الواردة فيها سبب آخر لاختلافهم فيها
(6)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن سلمة بن المُحَبِّق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته: «إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها»
(7)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 479؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 88.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145، 146؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 294.
(3)
انظر: السنن الكبرى 8/ 418، 419.
(4)
انظر: رسوخ الأحبار ص 491.
(5)
انظر: السنن الكبرى 8/ 418، 419.
(6)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في المسألة. وانظر: بداية المجتهد 4/ 1717.
(7)
أخرجه أبو داود في سننه ص 666، كتاب الحدود، باب في الرجل يزني بجارية امرأته، ح (4460)، والنسائي في سننه ص 520، كتاب النكاح، باب إحلال الفرج، ح (3363)، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 343، وأحمد في المسند 25/ 252، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 144، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 417، والحازمي في الاعتبار ص 477. قال أبو داود:(روى يونس بن عبيد، وعمرو بن دينار، ومنصور بن زاذان، وسلام عن الحسن هذا الحديث بمعناه، لم يذكر يونس ومنصور قبيصة). وقال البيهقي: (كذا رواه جماعة عن الحسن، واختلف فيه على قتادة عن الحسن، فرواه ابن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن عن سلمة، وروي عن شعبة عن قتادة-فذكره عن قتادة عن-الحسن عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق، -ثم قال: - ورواه معمر عن قتادة-فذكره عن قتادة عن الحسن، عن قبيصة بن حريث عن سلمة). وقال الخطابي في معالم السنن 6/ 271: (هذا حديث منكر، وقبيصة بن حريث غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع). وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود ص 271: (وأخرجه النسائي، وقال: "لا تصح هذه الأحاديث". وقال البيهقي: "وقبيصة بن حريث غير معروف". وروينا عن أبي داود أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الذي رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف، لا يحدث عنه غير الحسن، يعني قبيصة بن حريث. وقال البخاري في التاريخ: " قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبق في حديثه نظر). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 666.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه رجل وطئ جارية امرأته فلم يحده)
(1)
.
وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 434، كتاب الحدود، باب من وقع على جارية امرأته، ح (2552)، والدارقطني في سننه 3/ 84. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص 434.
يسافر ويغزو، وإن امرأته بعثت معه جارية لها، فقالت: تغسل رأسك وتخدمك، وتحفظ رحلك، ولم تجعلها له، وأنه طال سفره في وجهه ذلك، فوقع بالجارية، فلما قفل أخبرت الجارية مولاتها بذلك، فغارت غيرة شديدة وغضبت، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنع، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن كان استكرهها فهي عتيقة، وعليه مثلها، وإن كان أتاها عن طيبة نفس منها ورضى، فهي له، وعليه مثل ثمنها لك، ولم يقم فيه حداً»
(1)
.
ثانياً: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن كان استكرهها عتقت، وغرم لها مثلها، وإن كانت طاوعته أمسكها هو، وغرم لها مثلها)
(2)
.
ثالثاً: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع بجارية امرأته: «إن كانت أحلتها له فاجلده مائة، وإن لم تكن أحلتها له، فارجمه»
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 418، وقال:(قال البخاري فيما بلغني عنه لحديث قبيصة: هذا أصح، يعني من رواية من رواه عن الحسن عن سلمة، قال البخاري: ولا يقول بهذا أحد من أصحابنا. وقال البخاري في التاريخ: قبيصة بن حريث الأنصاري سمع سلمة بن المحبق، في حديثه نظر).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 343، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 145.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه ص 666، كتاب الحدود، باب في الرجل يزني بجارية امرأته، ح (4459)، والترمذي في سننه ص 343، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجل يقع على جارية امرأته، ح (1451)، والنسائي في سننه-واللفظ له- ص 520، كتاب النكاح، باب إحلال الفرج، ح (3362)، وابن ماجة في سننه ص 434، كتاب الحدود، باب من وقع على جارية امرأته، ح (2551)، وأحمد في المسند 30/ 346، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 145، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 416. قال الترمذي:(حديث النعمان في إسناده اضطراب، سمعت محمداً يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا أيضاً، إنما رواه عن خالد بن عرفطة،). وقال البيهقي: (قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: "أنا أتقي هذا الحديث، وإنما رواه قتادة عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان. قال: ويروى عن قتادة أنه قال: كتب إلي حبيب بن سالم، قال: ورواه أبو بشر عن خالد بن عرفطة أيضاً عن حبيب بن سالم" قلت: ولم يذكر رواية همام). وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 5/ 270 - بعد ذكر كلام الترمذي-: (وخالد بن عرفطة، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول. -إلى أن قال: -وقال النسائي: أحاديث النعمان هذه مضطربة. وقال الخطابي: هذا الحديث غير متصل). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن النسائي ص 520.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه. فتنحّى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أبك جنون؟» قال: لا. قال: «فهل أحصنت؟» قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه»
(1)
.
خامساً: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه عليّ، فدعا نبي
(1)
سبق تخريجه في ص 99.
الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال:«أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشُكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت) الحديث
(1)
.
سادساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف)
(2)
.
سابعاً: عن ابن سيرين قال: قال علي رضي الله عنه: (لو أُتيت به لرجمته، يعني الذي يقع على جارية امرأته، إن ابن مسعود لا يدري ما حدث بعده)
(3)
.
ويستدل منها على النسخ: بالوجهين التاليين:
أ- إن حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه يدل على أن من زنى بجارية امرأته فإنه لا يحد، ويؤيده ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه يدل على أن من زنى بجارية امرأته فإنه يرجم إذا لم تحلها له، فيكون حديث النعمان رضي الله عنه ناسخاً لحديث سلمة
(1)
سبق تخريجه في ص 1657.
(2)
سبق تخريجه في ص 66.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 344، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 148، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 418. ورجال إسناد عبد الرزاق رجال الشيخين.
بن المحبق؛ لتأخره عليه؛ لأن حديث سلمة فيه عقوبة مالية لمن زنى بجارية امرأته، والعقوبة بالمال كانت في أول الإسلام، ثم نسخت، فلا تجب العقوبات في الأموال بانتهاك الحرمات لم يأخذ فيها مالاً. فثبت نسخ ما يدل عليه حديث سلمة بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
(1)
.
ب- إن حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه يدل على أن من زنى بجارية امرأته فإنه لا يحد، ويؤيده ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، لكن كان هذا قبل نزول الحدود، يدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه، فيكون حديث سلمة منسوخاً بالأحاديث التي تدل على رجم من زنى إذا كان محصناً، منها حديث النعمان بن بشير، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وعمر بن الخطاب-رضي الله عنهم
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد ذهب جمهور أهل العلم-وذكر بعضهم أنه إجماع- إلى أنه يرجم من زنى بجارية امرأته، إلا أن يدعي شبهة؛ وذلك للأحاديث التي تدل على رجم من زنى إذا كان محصناً، وقد سبق ذكر بعضها في دليل القول بالنسخ
(3)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145 - 148.
(2)
انظر: معالم السنن 5/ 271؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 416 - 419؛ الاعتبار ص 479؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث لأبي حامد الرازي ص 88؛ رسوخ الأحبار ص 491.
(3)
انظر: المدونة 4/ 478؛ معالم السنن للخطابي 5/ 271؛ شرح معاني الآثار 3/ 148؛ السنن الكبرى للبيهقي
8/ 419؛ الاعتبار ص 478؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 256؛ المغني 12/ 346؛ الشرح الكبير 26/
451؛ رسوخ الأحبار ص 490 - 491؛ الإنصاف للمرداوي 26/ 451.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا حد عليه
(1)
، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه و الزهري، والحسن
(2)
.
وذلك لحديث سلمة بن المحبق، وما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد سبق ذكرهما في دليل القول بالنسخ.
والراجح هو القول الأول، وذلك لما يلي:
أولاً: لأن أدلة هذا القول كثيرة وصحيحة بلا خلاف، أما حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه فمتكلم فيه، فلا يقوى على معارضة تلك الأحاديث
(3)
.
ثانياً: إن حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه إن صح فإنه يكون منسوخاً بما يعارضه؛ لوجود ما يدل على تأخر تلك الأحاديث عليه، كما سبق ذكره.
والله أعلم.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 144.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 343، 346؛ الاعتبار ص 478؛ الشرح الكبير 26/ 451.
(3)
انظر: معالم السنن 5/ 271؛ مختصر المنذري 5/ 271.
المطلب السابع: إقامة حد الرجم على أهل الذمة
.
ذهب بعض أهل العلم إلى أن أهل الذمة لا يقام عليهم حد الرجم في الزنا؛ لأن الإحصان من شروط الرجم، وغير المسلم لا يكون محصناً، وأن ما يدل على رجم غير المسلمين في حد الزنا فإنه قد نسخ.
وممن قال بنحو هذا: الطحاوي
(1)
، والمرغناني
(2)
.
ونسبه ابن حجر إلى المالكية، ومعظم الحنفية
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة. كما أن الاختلاف في كون الإسلام من شروط الإحصان، سبب آخر للاختلاف فيها
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
(5)
.
ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود. فقال: «ما
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143.
(2)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 238.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 202.
(4)
راجع المصادر في الحواشي السابقة. وانظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 545؛ بدائع الصنائع 5/ 494، 495؛ بداية المجتهد 4/ 1720؛ المغني 12/ 382.
(5)
سورة الأنعام، الآية (90).
تجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا: نسود وجوههما، ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويُطاف بهما. قال:«فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين» فجاؤوا بها فقرؤوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام
(1)
، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مره فليرفع يده. فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما)
(2)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم:«كيف تفعلون بمن زنى منكم؟» قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال:«لا تجدون في التوراة الرجم؟» فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم فقال: ما هذا؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد
(3)
.
(1)
هو: عبد الله بن سلام بن الحارث، أبو يوسف، الإسرائيلي، من بني قينقاع، حليف القوافل من الخزرج، أسلم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو هريرة، وغيره، وتوفي سنة ثلاث وسبعين. انظر: الإصابة 2/ 1062.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 745، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى:{يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ، ح (3635)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 266، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ح (1699)(26).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 941، كتاب التفسير، باب {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} ، ح (4556).
(1)
.
رابعاً: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(2)
.
خامساً: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
(3)
.
سادساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف)
(4)
.
(1)
سورة النساء، الآية (15 - 16).
(2)
سورة النور، الآية (2).
(3)
سبق تخريجه في ص 71.
(4)
سبق تخريجه في ص 66.
سابعاً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} الآية [السناء: 15]. قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وفي قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [السناء: 16] قال: كان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير، وضرب النعال، فأنزل الله عز وجل بعد هذا:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما)
(1)
.
ثامناً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1646.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 147، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 8/ 375. قال الدارقطني:(لم يرفعه غير إسحاق، ويقال إنه رجع عنه، والصواب موقوف). وذكره قبل ذلك من طريق أحمد بن أبي نافع، نا عفيف بن سالم، نا سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، ثم قال:(وهم عفيف في رفعه، والصواب موقوف من قول ابن عمر). وذكره البيهقي من هذين الطريقين كذلك، ونقل كلام الدراقطني على الطريقتين. وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي، فقال:(إسحاق حجة حافظ). وقال عن الطريق الثانية: (عفيف ثقة، قاله ابن معين وأبو حاتم. ذكره ابن القطان. وقال صاحب الميزان: محدث مشهور، صالح الحديث. وقال محمد بن عبد الله بن عمار: كان أحفظ من معافى بن عمران. وفي الخلافيات للبيهقي أن المعافى تابعه-أعني عفيفاً-فرواه عن الثوري كذلك. وإذا رفع الثقة حديثاً لا يضره وقف من وقفه، فظهر أن الصواب في الحديثين الرفع). وقال الزيلعي في نصب الراية 3/ 327: (رواه إسحاق بن راهوية في مسنده: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، ثنا عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم قال: -قال إسحاق: رفعه مرة، فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقفه مرة. انتهى. ومن طريق إسحاق بن راهوية رواه الدارقطني في سننه-فذكر كلامه ثم قال: -وهذا لفظ إسحاق بن راهوية في مسنده، كما تراه، ليس فيه رجوع، وإنما أحال التردد على الراوي في رفعه ووقفه). وقال أبو الطيب محمد أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني: (ويقال إنه رجع عنه أي إسحاق رجع عن الرفع ليس بسديد، قلت: لأن كلام إسحاق ليس نصاً في الرجوع، بل ظاهره التردد والله أعلم. وقال المصنف في كتاب العلل: هذا حديث يرويه موسى بن عقبة، واختلف عنه، فرواه عفيف بن سالم عن الثوري، عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفه أبو أحمد الزبيري فرواه عن الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر موقوفاً، وهو أصح. وروي عن إسحاق بن راهوية عن الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، والصحيح موقوف).
تاسعاً: عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه أراد أن يتزوج يهودية أو نصرانية، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنهاه عنها، وقال:«إنها لا تحصنك»
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 148، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 376. قال الدارقطني:(أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، وعلي بن أبي طلحة لم يدرك كعباً). وذكر البيهقي كلام الدارقطني، ثم قال:(ورواه أيضاً بقية بن الوليد، عن أبي سبأ عتبة بن تميم، عن علي بن أبي طلحة، عن كعب، وهو منقطع). وقال الزيلعي في نصب الراية 3/ 328: (وقال ابن عدي: أبو بكر بن أبي مريم بكير الغساني، الغالب على حديثه الغرائب، قلما يوافقه عليها الثقات، وهو ممن لا يحتج بحديثه، وتكتب أحاديثه فإنها صالحة، انتهى. وأخرجه أبو داود في المراسيل عن بقية بن الوليد، عن عتبة بن تميم عن علي ابن أبي طلحة، عن كعب بن مالك به، فذكره. قال ابن القطان في كتابه: هذا حديث ضعيف ومنقطع، فانقطاعه فيما بين علي بن أبي طلحة، وكعب بن مالك. وضعفه من جهة عتبة بن تميم، فإنه ممن لا يعرف حاله، وقد رواه عنه بقية، وهو ممن عرف ضعفه، ولا يعلم روى عن عتبة بن تميم إلا بقية).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على إقامة حد الرجم على من زنى من أهل الذمة، لكن كان هذا بحكم التوراة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع من قبله من الرسل فيما لم يوح إليه، كما يدل عليه آية سورة الأنعام، فكان حكم النبي صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين على وفق التوراة، وكان ذلك قبل نزول الحدود في الإسلام، ثم نسخ الله تعالى حكم التوراة فأمر بحبس الزانيين وإيذائهما، سواء من أحصن أو لم يحصن، كما يدل عليه آية سورة النساء، ثم نسخ الله ذلك فجعل الحد على من زنى الجلد مائة ونفي سنة، إذا لم يحصن، والرجم على من أحصن. كما يدل عليه آية سورة النور، وحديث عبادة، وعمر، وابن عباس-رضي الله عنهم وجعل من شرط الإحصان الإسلام، كما يدل عليه حديث ابن عمر، وكعب بن مالك-رضي الله عنهم. فثبت من هذا كله أن أهل الذمة لا يقام عليهم حد الرجم؛ لأنهم ليسوا
محصنين، وأن ما يدل على رجمهم في حد الزنى فإنه قد نسخ
(1)
.
واعترض عليه: بما يلي:
أ-أنه يلزم من هذا أن يكون الرجم شُرع في أول الإسلام، ثم نسخ
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 238، 239؛ العناية 5/ 238؛ فتح الباري
12/ 202.
ذلك بالجلد، ثم نسخ الجلد بالرجم، وهذا لم يقل به أحد
(1)
.
ب- أنه جاء في حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنه حضر الواقعة أي رجم اليهوديين؛ حيث قال: (أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية زنيا وقد أحصنا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن الحارث: فكنت أنا فيمن رجمهما)
(2)
.
وعبد الله بن الحارث إنما قدم مع أبيه مسلماً بعد فتح مكة. وهذا ينافي القول بالنسخ، لأن حد الزنا شرع قبل ذلك
(3)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في رجم من زنى من أهل الذمة إذا كان ثيباً، ورفعوا الحكم إلى حاكم مسلم على قولين:
(1)
انظر: فتح الباري 12/ 203.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط 1/ 125، والبيهقي في السنن الكبرى-واللفظ له- 8/ 374. قال الطبراني:(لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن الحارث بن جزء إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة). وقال البيهقي: (وروي هذا اللفظ في حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إسماعيل بن إبراهيم الشيباني، عن ابن عباس، قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية، وقد أحصنا، فسألوه أن يحكم فيما بينهم، فحكم فيهما بالرجم"). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 274: (رواه البزار، والطبراني في الكبير والأوسط، وقال فيه: لا يروى عن عبد الله بن الحارث إلا بهذا الإسناد. وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات). وقال ابن حجر في التلخيص 4/ 54: (إسناده ضعيف).
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 203.
القول الأول: لا يرجم.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، ..........................................................
والمالكية
(2)
، وقول عطاء، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، و الثوري
(3)
.
القول الثاني: أنه يرجم.
وهو قول أبي يوسف من الحنفية
(4)
، ومذهب الشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وقول الزهري
(7)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو أن أهل الذمة لا يرجمون في حد الزنى- بما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث ابن عمر، وكعب بن مالك
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 545؛ المبسوط 9/ 48؛ بدائع الصنائع 5/
494، 495؛ الهداية وشرح فتح القدير 5/ 236 - 238.
(2)
انظر: المدونة 4/ 504؛ المعونة 3/ 1376؛ التمهيد 14/ 12، 57؛ بداية المجتهد 4/ 1720.
(3)
انظر: المغني 12/ 317.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143؛ الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 238.
(5)
انظر: الأم 6/ 172؛ مختصر المزني ص 343؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 266؛ فتح الباري 12/ 202.
(6)
انظر: المغني 12/ 317، 382؛ الشرح الكبير 26/ 248؛ الإنصاف 26/ 248؛ منتهى الإرادات 2/ 286.
(7)
انظر: المغني 12/ 317.
-رضي الله عنهم؛ فإنهما يدلان على أن غير المسلم لا يكون محصناً، والإحصان من شرط الرجم
(1)
.
واعترض عليه: بأن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه غير صحيح فلا تقوم به الحجة
(2)
.
أما حديث ابن عمر رضي الله عنه فاختلف في رفعه ووقفه، ثم يحتمل أن يكون المراد به الإحصان في القذف؛ لذلك فهو لا يقوى على معارضة ما صح وثبت من النبي صلى الله عليه وسلم في رجم اليهوديين الزانيين المحصنين
(3)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو رجم من زنى من أهل الذمة إذا كان محصناً- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث ابن عمر رضي الله عنه والذي فيه رجم النبي صلى الله عليه وسلم
لليهوديين الزانيين.
ثانياً: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محَمّماً مجلوداً، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال:«هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 4/ 143؛ التمهيد 14/ 57؛ المبسوط 9/ 48؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 238، 239.
(2)
راجع الكلام عليه عند تخريجه.
(3)
انظر: المغني 12/ 318؛ التلخيص الحبير 4/ 54.
موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]. يقول: ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. في الكفار كلها
(1)
.
ثالثاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم، ورجلاً من اليهود، وامرأته)
(2)
.
رابعاً: ما سبق ذكره من حديث عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: (أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية زنيا وقد أحصنا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 267، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ح (1700)(28).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 267، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ح (1701)(28).
الله بن الحارث: فكنت أنا فيمن رجمهما).
خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا، وقد أحصنا، فسألوه أن يحكم فيهما، فحكم فيهما بالرجم، فرجمهما في قبل المسجد في بني غنم، فلما وجد مس الحجارة قام إلى صاحبته فحنى عليها ليقيها مس الحجارة، وكان مما صنع الله
لرسوله صلى الله عليه وسلم قيامه إليها ليقيها الحجارة)
(1)
.
فهذه الأدلة تدل على رجم اليهود وأهل الذمة من زنى منهم إذا كان قد أحصن، كما تدل على أن الإسلام ليس من شرط الإحصان، لذلك أطلق على اليهودَين الذَين رُجما أنهما قد أحصنا، كما في حديث عبد الله بن الحارث، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم-مع أنهما لم يكونا مسلمين
(2)
.
واعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما بحكم التوراة، وكان ذلك قبل نزول الحدود، فيكون ذلك مما نسخ
(3)
.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 406، ونحوه الإمام أحمد في المسند 4/ 196. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ولعل متوهماً من غير أهل الصنعة يتوهم أن إسماعيل الشيباني هذا مجهول، وليس كذلك، فقد روى عنه عمرو بن دينار الأثرم). وقال الذهبي في التلخيص (إسماعيل معروف).
(2)
انظر: مختصر المزني ص 343؛ المغني 12/ 318، 383؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 266؛ فتح الباري 12/ 202.
(3)
انظر: الهداية مع شرحه فتح القدير 5/ 238؛ فتح الباري 12/ 202، 203.
وأجيب عنه بما يلي:
أ- ما سبق من الاعتراض على دعوى النسخ.
ب- إن الله سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وإنما جاء القوم سائلين عن الحكم عنده صلى الله عليه وسلم، فأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما كتموه من حكم التوراة، وليس يجوز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفاً لذلك، لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل أنه إنما حكم بالناسخ
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وذلك لما يلي:
أ- لأن أدلة هذا القول أكثرها صحيحة، ثم هي صريحة في رجم الزانيين المحصنين من
اليهود، بخلاف أدلة القول الأول؛ حيث لا يصح منها إلا رواية ابن عمر رضي الله عنه، وهو قد اختلف في رفعه ووقفه، ثم يحتمل أكثر من احتمال، كما سبق ذكره.
ب- إن رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزانيين من اليهود إما أن يكون بحكم التوراة، أو يكون بحكم شريعة الإسلام، فإن كان بحكم التوراة فقد جاء شريعة الإسلام موافقاً له وهو رجم الزاني المحصن، وإن كان الرجم بحكم شريعة الإسلام تحقق المدعى.
(1)
انظر: فتح الباري 12/ 203.
ثانياً: إنه لا يصح دعوى نسخ رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزانيين المحصنين من اليهود، وذلك لما يلي:
أ-لأنه لا يوجد دليل صحيح صريح يدل على ذلك، وكل ما ذكر فهو احتمال، ثم يوجد من الأدلة ما يدل على تأخر رجمهم حتى بعد نزول الحدود
(1)
.
ب- إن رجم اليهوديين الزانيين، جاء فيه روايات كثيرة، ويثبت من مجموعها تعدد واقعة الرجم، وأن بعضها إن كان حصل في أول الهجرة، فإن بعضها الآخر حصل متأخراً حتى بعد فتح مكة، وهو مما يبطل دعوى النسخ
(2)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: فتح الباري 12/ 203.
(2)
انظر: فتح الباري 12/ 199، 203.
المطلب الثامن: قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة
.
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن شارب الخمر يجلد كلما شرب الخمر
(1)
، ولا يقتل، وأن الأحاديث الواردة في قتله إذا شربها المرة الرابعة قد نسخت
(2)
.
وممن صرح بالنسخ: الإمام الشافعي
(3)
، والترمذي
(4)
، والطحاوي
(5)
، والحازمي
(6)
، وأبو حامد الرازي
(7)
، وأبو إسحاق الجعبري
(8)
، وابن حجر
(9)
.
ويتبين منه ومما يأتي من الأدلة: أن سبب اختلاف أهل العلم في المسألة شيئان: القول بالنسخ، واختلاف الآثار الواردة فيها
(10)
.
(1)
الخمر من مادة (خمر) وهو يأتي لغة بمعنى الستر، والتغطية، والمخالطة، والإدراك. انظر: مختار الصحاح ص 166؛ المصباح المنير ص 154؛ القاموس المحيط ص 349.
والخمر اصطلاحاً: كل مسكر. منتهى الإرادات 2/ 294. وانظر: المغني 12/ 495.
وعرفه الحنفية بأنه: النيئ من ماء التمر والزبيب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. التعريفات الفقهية ص 89.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى لشيح الإسلام 21/ 10، 28/ 336.
(3)
انظر: اختلاف الحديث 1/ 215؛ الاعتبار ص 471.
(4)
انظر: سنن الترمذي ص 342.
(5)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 161.
(6)
انظر: الاعتبار ص 470.
(7)
انظر: الناسخ والمنسوخ في الأحاديث ص 86.
(8)
انظر: رسوخ الأخبار ص 483.
(9)
انظر: فتح الباري 12/ 84.
(10)
راجع المصادر في الحواشي السابقة في هذه المسألة، غير الأولى.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه»
(1)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 670، كتاب الحدود،، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح (4482)، والترمذي في سننه ص 342، كتاب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، ح (1444)، وابن ماجة في سننه ص 438، كتاب الحدود، باب من شرب الخمر مراراً، ح (2573)، وأحمد في المسند-واللفظ له- 28/ 61، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 159، وابن حبان في صحيحه ص 1203، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 509، والحاكم في المستدرك 4/ 414، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 544. قال الترمذي:(سمعت محمداً يقول: حديث أبي صالح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أصح، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الذهبي في التلخيص 4/ 413. وقوى ابن حجر إسناده في الفتح 12/ 84. وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 670: (حسن صحيح).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه ص 670، كتاب الحدود،، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح (4484)، والنسائي في سننه ص 849، كتاب الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظة في شرب الخمر، ح (5662)، وابن ماجة في سننه ص 438، كتاب الحدود، باب من شرب الخمر مراراً، ح (2572)، وأحمد في المسند 13/ 290، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 159، وابن حبان في صحيحه ص 1203، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 507، والحاكم في المستدرك 4/ 413، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 544. قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم). ووافقه الذهبي. وقوى إسناده ابن حجر في الفتح 12/ 84، وقال في 12/ 90:(صححه ابن حبان). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 670: (حسن صحيح).
ثالثاً: عن ابن عمر-رضي الله عنهما-ونفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه»
(1)
.
رابعاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر إذا شربوها فاجلدوهم، ثم إذا شربوها فاجلدوهم، ثم إذا شربوها فاجلدوهم، ثم إذا شربوها فاقتلوهم عند الرابعة»
(2)
.
خامساً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه
(1)
أخرجه النسائي في سننه ص 849، كتاب الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظة في شرب الخمر، ح (5661)، والحاكم في المستدرك 4/ 413. قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي. وصححه كذلك الشيخ ا لألباني في صحيح سنن النسائي ص 849.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 11/ 111، 397، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 159، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 507، والحاكم في المستدرك 4/ 414. وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه ضعف، والطريق الثاني عند أحمد رواه الحسن عن عبد الله بن عمرو، لكنه لم يسمع منه. كما في فتح الباري 12/ 92. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 281: (رواه الطبراني من طرق، ورجال هذه الطريق رجال الصحيح).
عبد الله
(1)
، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله»
(2)
.
وعن زيد ين أسلم، قال: أُتي بابن النعيمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، أكثر من أربع، فجلده في كل ذلك، فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم العنه ما أكثر ما يشرب، وما أكثر ما يجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله»
(3)
.
سادساً: عن قبيصة بن ذؤيب
(4)
، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، ثم عاد-في الثالثة أو الرابعة- فاقتلوه» فأُتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم
(1)
هو: عبد الله بن النعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، يلقب بحمار. انظر: الإصابة 2/ 1132، 3/ 2012.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1423، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج عن الملة، ح (6780).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 381. ورجاله رجال الصحيح.
(4)
هو: قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة بن عمرو بن كليب، أبو إسحاق الخزاعي، ولد يوم الفتح، وقيل: يوم حنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وله رؤية، وروى عن: عمر وعثمان، وغيرهما، وروى عنه: الزهري، ومكحول، وغيرهما، وتوفي سنة ست وثمانين، وقيل قبل ذلك. انظر: الإصابة 3/ 1654؛ التقريب 2/ 26.
أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة
(1)
.
سابعاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 671، كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح (4485)، والشافعي في الأم 6/ 199، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 381، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 161، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص 514، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 545، والحازمي في الاعتبار ص 470. قال ابن حجر في الفتح 12/ 92:(وعلقه الترمذي فقال: روى الزهري. وأخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري، وقال فيه: "فأتي برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر، وأن الضرب قد وجب". وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة، وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال: "بلغني عن قبيصة". ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري، أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح، لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعني، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي، فيكون الحديث على شرط الصحيح؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر. وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: حدثت به ابن المنكدر فقال: تُرك ذلك، قد أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثاً، ثم أُتي به الرابعة فجلده ولم يزده، ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر عن جابر: "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله" وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: "فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع"). وقال الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 671: (ضعيف مرسل).
عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه» قال فثبت الجلد ودرئ القتل
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه» قال: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم النعيمان
(2)
، أربع مرات، قال: فرأى المسلمون أن الحد وقع حين ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات)
(3)
.
ثامناً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة»
(4)
.
تاسعاً: عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل قتل مسلم إلا في
إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلماً
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 161، ونحوه ابن حزم في المحلى 12/ 370. وفي إسناده شريك القاضي، وبه ضعف ابن حزم الحديث في المحلى 12/ 372.
(2)
هو: النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث، الأنصاري، شهد بدراً والمشاهد كلها، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: الإصابة 3/ 2012.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 545، ونحوه ابن حزم في المحلى 12/ 370. وفي سنده زياد بن عبد الله البكائي، وبه ضعفه ابن حزم في المحلى 12/ 372. وزياد بن عبد الله قال عنه ابن حجر في التقريب 1/ 321: (زياد بن عبد الله بن طفيل العامري، البكائي، بفتح الموحدة وتشديد الكاف، أبو محمد الكوفي، صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه من غير ابن إسحاق لين، ولم يثبت أن وكيعاً كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة).
(4)
سبق تخريجه في ص 1604.
متعمداً، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله-عز وجل-ورسوله، فيقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الأحاديث الأربعة الأولى تدل على قتل شارب الخمر إذا شربها المرة الرابعة، وحديث عمر، وقبيصة، وجابر-رضي الله عنهم-تدل على أنه إذا شربها المرة الرابعة فإنه يجلد، ولا يقتل، كما أن حديث ابن مسعود وعائشة-رضي الله عنهما-يدلان على أنه لا يجوز قتل المسلم بغير ثلاث خصال، وليس فيها القتل بشرب الخمر بعد المرة الرابعة؛ لذلك تكون الأحاديث الدالة على قتله إذا شربها المرة الرابعة، منسوخة بهذه الأحاديث؛ لأن حديث قبيصة وجابر-رضي الله عنهما-يدلان على أن جلده إذا شربها المرة الرابعة كان بعد الأمر بقتله، ويؤكد ذلك إجماع أهل العلم على أنه يجلد ولا يقتل
(2)
.
هذا وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ولو تكرر منه ذلك أكثر من أربع مرات، ونقل بعض أهل العلم أنه إجماع
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في ص 1608.
(2)
انظر: اختلاف الحديث 1/ 215؛ سنن الترمذي ص 342؛ شرح معاني الآثار 3/ 161؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 513؛ الاعتبار ص 470؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 86؛ رسوخ الأخبار ص 483؛ فتح الباري 12/ 84.
(3)
انظر: اختلاف الحديث 1/ 215؛ سنن الترمذي ص 342؛ شرح معاني الآثار 3/ 161؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين ص 513؛ بداية المجتهد 4/ 1737؛ الاعتبار ص 470؛ المغني 12/ 497، 498؛ الناسخ والمنسوخ في الأحاديث للرازي ص 86؛ رسوخ الأخبار ص 483؛ فتح الباري 12/ 84، 90 - 93؛ الإنصاف للمرداوي 26/ 422؛ نيل الأوطار 7/ 204؛ تحفة الأحوذي 4/ 828.
وذلك للأدلة التي سقت في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على عدم قتله ولو شربها بعد المرة الرابعة
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم، منهم ابن حزم، إلى أن شارب الخمر يقتل بعد المرة الرابعة
(2)
.
وذلك للأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على قتل شارب الخمر
بعد المرة الرابعة
(3)
.
واعترض عليه: بأن تلك الأحاديث تدل على قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة، لكنها نسخت، كما سبق ذكره.
والراجح بلا شك هو قول جمهور أهل العلم، وذلك لما صح وثبت من أن الأدلة التي تدل على قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة قد نسخت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر بعد المرة الرابعة ولم يقتله، كما سبق بيانه.
وقد عمل عمر رضي الله عنه في خلافته بالناسخ؛ حيث إنه روي عنه أنه في خلافته جلد شارب الخمر بعد المرة الرابعة ولم يقتله، فعن قبيصة بن ذؤيب،
(1)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 159؛ المحلى 12/ 367، 370، 372؛ فتح الباري 12/ 92.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب رجلاً في الخمر أربع مرات، وأن عمر ضرب أبا محجن الثقفي
(1)
، في الخمر ثمان مرات)
(2)
.
وهذا كذلك مما يؤكد القول بالنسخ.
والله أعلم.
(1)
هو: عمرو بن حبيب بن عمير بن عوف، أبو محجن الثقفي، وقيل في اسمه غير ذلك. صحابي، وكان شاعراً. انظر: الإصابة 4/ 2350.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 381. قال ابن حجر في الفتح 12/ 93: (وقد عمل بالنسخ بعض الصحابة، فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرارر، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص. وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار، ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذا خلعتني فلا أشربها أبداً).
المطلب التاسع: قطع جاحد العارية
ذهب ابن الهمام إلى أن ما يدل على قطع يد جاحد العارية فإنه قد نسخ؛ لذلك لا يقطع يد من جحد العارية
(1)
.
وليس للقول بالنسخ أي أثر في اختلاف أهل العلم في المسألة، وإنما السبب في اختلافهم فيها هو مخالفة حديث قطع جاحد العارية للأصول، وهل كان قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد جاحد العارية لجحد العارية أم للسرقة؟
(2)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عائشة-رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها. فأتي أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها) الحديث
(3)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها قالت: (استعارت امرأة-تعني حلياً- على ألسنة ناس يعرفون، ولا تعرف هي، فباعته، فأخذت، فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال)
(4)
.
(1)
انظر: فتح القدير 5/ 374.
(2)
انظر: بداية المجتهد 4/ 1741، 1742؛ المغني 12/ 416، 417؛ فتح الباري 12/ 104 - 107؛ المجموع شرح المهذب-تكملة المطيعي- 22/ 154.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 248، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، ح (1688)(10).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه ص 656، كتاب الحدود، باب في القطع في العور إذا جحدت، ح (4396)، والنسائي في سننه ص 746، كتاب قطع السارق، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهري في المخزومية التي سرقت، ح (4898). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 656.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنه (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي بها فقطعت يدها)
(1)
.
ثالثاً: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على خائن
(2)
، ولا منتهب
(3)
، ولا مختلس
(4)
قطع»
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 656، كتاب الحدود، باب في القطع في العور إذا جحدت، ح (4395)، والنسائي في سننه ص 745، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزاً وما لا يكون، ح (4887)، وأحمد في المسند 10/ 446. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 656. وقال في إرواء الغليل 8/ 66:
(صحيح على شرط الشيخين).
(2)
الخائن هو الذي خان ما جعل عليه أميناً. انظر: المصباح المنير ص 156.
(3)
منتهب من النهب، وهو الغارة والسلب. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 808.
(4)
المختلس هو من يأخذ الشيء سلباً ومكابرة، وخلس الشيء خلساً أي اختطفه بسرعة على غفلة. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 517؛ المصباح المنير ص 150.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه ص 655، كتاب الحدود، باب القطع في الخلسة والخيانة، ح (4391)، والترمذي في سننه-واللفظ له- ص 343، كتاب الحدود، باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب، ح (1448)، والنسائي في سننه ص 755، كتاب قطع السارق، باب ما لا قطع فيه، ح (4971 - 4975)، وابن ماجة في سننه ص 441، كتاب الحدود، باب الخائن والمنتهب والمختلس، ح (2591)، وعبد الرزاق في المصنف 10/ 206، وأحمد في المسند 23/ 303، و الدارمي في سننه 2/ 229، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 171، وابن حبان في صحيحه ص 1205، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 485. قال أبو داود:(وهذا الحديثان لم يسمعهما ابن جريج، من أبي الزبير، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: "إنما سمعهما ابن جريج من ياسين الزيات. قال أبو داود: وقد رواهما المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. و قال الترمذي: (حديث حسن صحيح). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي 8/ 485: (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قال لي أبو الزبير، قال جابر الحديث. وهذا صريح في أنه سمعه منه، وكذلك أخرجه النسائي فقال: أنا محمد بن حاتم، أنا سويد هو ابن نصر، أنا عبد الله هو ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، فذكره، وهذا سند صحيح). وقال ابن حجر في الفتح 12/ 106: (هو حديث قوي). وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ص 343. وذكر في إرواء الغليل 8/ 63، أن ابن جريج صرح بالسماع من أبي الزبير في رواية الدارمي، والنسائي.
رابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على منتهب، ولا مختلس، ولا خائن قطع»
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عائشة وابن عمر-رضي الله عنهم-يدلان على قطع يد من جحد العارية، وحديث جابر وأنس- رضي الله عنهما-يدلان على عدم قطع يد الخائن، والمختلس والمنتهب. وجاحد العارية خائن، فلا يقطع يده، فيكون ما يدل على عدم قطع يد الخائن والمختلس ناسخاً لما يدل على قطع يد جاحد العارية
(2)
.
(1)
قال الزيلعي في نصب الراية 3/ 365: (رواه الطبراني في معجمه الأوسط-فذكره بإسناه-). وصحح سنده الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/ 65.
(2)
انظر: فتح القدير لابن الهمام 5/ 374.
واعترض عليه: بأنه لا يوجد ما يدل على تأخر حديث جابر وأنس-رضي الله عنهما على حديث عائشة وابن عمر-رضي الله عنهم-حتى يكون حديثهما ناسخاً لحديثهما، والنسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ.
كما أن ما يدل على قطع يد جاحد العارية خاص، وما يدل على عدم قطع يد الخائن عام، والجمع بين الخاص والعام ممكن بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. والنسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في قطع يد من جحد العارية على قولين:
القول الأول: لا تقطع يد من جحد العارية.
وهو مذهب الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد
(5)
، وقول جمهور أهل العلم
(6)
.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495.
(2)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 171، 172؛ أحكام القرآن للجصاص 2/ 522؛ فتح القدير 5/ 373 - 374.
(3)
انظر: المعونة 3/ 1417؛ الكافي لابن عبد البر ص 578؛ بداية المجتهد 4/ 1741، 1742؛ القوانين الفقهية ص 266.
(4)
انظر: الأم 6/ 167؛ السنن الكبرى 8/ 486؛ روضة الطالبين ص 1755؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 249؛ فتح الباري 12/ 106.
(5)
ورجحه جماعة من الحنابلة منهم ابن قدامة. انظر: المغني 12/ 417؛ الشرح الكبير 26/ 471؛ الممتع 5/ 714؛ الإنصاف 26/ 470.
(6)
انظر: معالم السنن 6/ 227؛ المغني 12/ 417؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 249.
القول الثاني: تقطع يد من جحد العارية.
وهو مذهب الحنابلة
(1)
، وقول إسحاق بن راهوية، واختيار ابن حزم
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو عدم قطع جاحد العارية- بما يلي:
أولاً: ما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث جابر وأنس رضي الله عنهما-فإنهما يدلان على أنه لا قطع على خائن، وجاحد العارية خائن، وليس بسارق
(3)
؛ لأن السرقة هي: أخذ المال على وجه الخفية والاستتار
(4)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(5)
.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب
(1)
انظر: المغني 12/ 416؛ الشرح الكبير 26/ 470؛ الممتع 5/ 714؛ الإنصاف 26/ 470.
(2)
انظر: المحلى 12/ 359، 361، 363؛ المغني 12/ 416؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 249.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 171؛ المغني 12/ 416، 417.
(4)
عرف السرقة ابن قدامة بهذا التعريف، في المغني 12/ 416. وعرفها الحنفية بأنها شرعاً: أخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة محرزة بمكان أو حافظ بلا شبهة. التعريفات للجرجاني ص 118. و انظر: أنيس الفقهاء ص 63.
(5)
سورة المائدة، الآية (38).
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فخطب، فقال:«يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»
(1)
.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أتشفع في حد من حدود الله؟» فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشيّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1425، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ح (6788)، ومسلم في صحيحه 6/ 247، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، ح (1688)(8).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 527، كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني، ح (2648)، ومسلم في صحيحه-واللفظ له- 6/ 248، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، ح (1688)(9).
وفي رواية أخرى عنها-رضي الله عنها قالت: استعارت امرأة على ألسنة أناس يعرفون، وهي لا تعرف، حليّاً فباعته، وأخذت ثمنه، فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسعى أهلها إلى أسامة بن زيد، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه،، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حد من حدود الله؟» فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيتئذ، فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»
(1)
.
رابعاً: عن جابر رضي الله عنه أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأُتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها» فقطعت
(2)
.
ووجه الاستدلال منها: أن الكتاب والسنة، تدلان على قطع يد السارق، وجاحد العارية ليس بسارق، فلا يقطع يده، والأحاديث التي جاء
(1)
أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه ص 746، كتاب قطع السارق، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهري في المخزومية التي سرقت، ح (4898)، وصحح إسناده الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 746.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 6/ 249، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، ح (1689)(11).
فيها قطع يد جاحد العارية فإن القطع فيها كان بالسرقة، وإنما ذكر معها جحود العارية لأن تلك المرأة كانت موصوفة ومشهورة به، لا لكون القطع كان بجحد العارية، ويؤيده الروايات الأخرى، كما يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر السرقة في تلك الأحاديث فقال:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . فدل ذلك أن القطع كان بسبب السرقة لا بجحد العارية
(1)
.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو أن من جحد العارية فإنه تقطع يده- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديثي عائشة وابن عمر-رضي الله عنهما؛ حيث جاء في حديثيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المرأة التي جحدت العارية
(2)
.
واعترض عليه: بأن قطع يدها كان للسرقة كما دل عليه الروايات الأخرى، لا لجحدها العارية، كما سبق ذكره.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الأول، وهو عدم قطع يد من جحد
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 171؛ معالم السنن للخطابي 6/ 227، 228؛ السنن الكبرى 8/ 488؛ بداية المجتهد 4/ 1742؛ المغني 12/ 417؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 248؛ فتح الباري 12/ 105.
(2)
انظر: المحلى 12/ 356 - 357؛ المغني 12/ 416.
العارية، وذلك لأن الأحاديث التي جاء فيها ذكر قطع يد من جحد العارية وإن كانت صريحة في ذلك، إلا أنه يظهر من جمع طرق هذه الأحاديث ما يدل على أن القطع كان بسبب السرقة، وأن تلك المرأة كانت تجحد العارية ومع ذلك قد سرقت، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها بالسرقة، وأن بعض الرواة رووا الحديث مختصراً على ذكر جحد العارية، لذلك أوهم بعض أهل العلم بأن القطع كان بجحد العارية، وأن القطع كان لامرأتين إحداهما بالسرقة، والأخرى بجحد العارية
(1)
.
ثانياً: إن القول بنسخ ما يستدل منه على قطع جاحد العارية غير صحيح؛ لأمرين:
الأول- لما سبق أن القطع كان بسبب السرقة لا بجحد العارية، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك قطع بجحد العارية وبالتالي لا يقال بنسخه.
الثاني: أنه لا يوجد ما يدل على تأخر ما استدل منه على النسخ، على ما استدل منه على قطع اليد بجحد العارية، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ.
والله أعلم.
(1)
انظر: معالم السنن 6/ 228؛ المغني 12/ 417؛ فتح الباري 12/ 107.
المطلب العاشر: قتل السارق بعد المرة الرابعة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من سرق بعد المرة الرابعة فإنه يعزر ولا يقتل. وأن ما يدل على قتله بعد المرة الرابعة فإنه قد نسخ.
وممن صرح بالنسخ: محمد بن المنكدر
(1)
، والإمام الشافعي
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن الاختلاف في صحة ما ورد في ذلك سبب آخر للاختلاف فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقتلوه» ، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق! فقال:«اقطعوه» ، قال: فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال:«اقتلوه» ، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق! فقال:«اقطعوه» ، قال: فقطع. ثم جيء به الثالثة، فقال:«اقتلوه» ، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق! فقال:«اقطعوه» ، ثم أُتي به الرابعة، فقال:«اقتلوه» ، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق! قال:«اقطعوه» ، فأتي به الخامسة، فقال:«اقتلوه» . قال جابر: فانطلقنا به
(1)
انظر: فتح الباري 12/ 115.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 8/ 477؛ فتح الباري 12/ 115. وقال النووي-ونحوه قول بعض الآخرين من الشافعية-عن الحديث الدال على قتله بعد المرة الرابعة: (إنه منسوخ أو مؤول على أنه قتله لاستحلاله). انظر: روضة الطالبين ص 1762؛ مغني المحتاج 5/ 558.
(3)
راجع المصادر في الحاشية السابقة. وانظر: المغني 12/ 446 - 448.
فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة
(1)
.
ثانياً: عن الحارث بن حاطب
(2)
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلص، فقال:«اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق! فقال: «اقتلوه» ، قالوا: يا رسول الله إنما سرق! قال: «اقطعوه» ، قال: ثم سرق فقطعت رجله،، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضاَ الخامسة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: «اقتلوه» ، ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه، منهم عبد الله بن الزبير-وكان يحب الإمارة-فقال: أمروني عليكم، فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه، حتى قتلوه
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 658، كتاب الحدود، باب السارق يسرق مراراً، ح (4410)، والنسائي في سننه ص 755، كتاب قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق، ح (4978)، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 473، وابن عبد البر في الاستذكار 6/ 557. قال النسائي:(وهذا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث). وقال الخطابي في معالم السنن 6/ 236: (في بعض إسناده مقال، وقد عارض الحديث الصحيح). وقال ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 558: (حديث القتل لا أصل له). وقال ابن مفلح في الفروع 10/ 147: (قال أحمد وابن معين: مصعب ضعيف، زاد أحمد: لم أر الناس يحمدون حديثه. وقال أبو حاتم: لا يحتج به). وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 658.
(2)
هو: الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر، القرشي الجمحي، صحابي صغير، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه حسين بن الحارث، وغيره، وتوفي بعد سنة ست وستين. انظر: الإصابة 1/ 315؛ التقريب 1/ 173.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 755، كتاب قطع السارق، باب قطع الرجل من السارق بعد اليد، ح (4977)، والحاكم في المستدرك 4/ 423، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 474. وأخرج نحوه أبو يعلى الموصلي في مسنده-كما في اتحاف الخيرة المهرة للبوصيري 4/ 263 - . قال البيهقي:(تابعه إسحاق الحنظلي عن النضر بن شميل، عن حماد بن سلمة، عن يوسف بن سعد). وقال الحاكم: (صحيح الإسناد). وتعقبه الذهبي فقال: (بل منكر). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 280، بعد ذكر حديث أبي يعلى الموصلي:(رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إلا أني لم أجد ليوسف بن يعقوب سماعاً من أحد من الصحابة). وقال ابن حجر في الفتح 12/ 115، بعد ذكر هذا الحديث:(قال النسائي: لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً. قلت: نقل المنذري تبعاً لغيره فيه الإجماع). وقال الألباني في ضعيف سنن النسائي ص 755: (منكر).
ثالثاً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة»
(1)
.
رابعاً: عن عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلماً متعمداً، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله-عز وجل-ورسوله، فيقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الحديث الأول والثاني، يدلان على قتل السارق إذا سرق بعد المرة الرابعة، وتدل أحاديث كثيرة منها الحديث الثالث
(1)
سبق تخريجه في ص 1604.
(2)
سبق تخريجه في ص 1608.
والرابع، على أنه لا يقتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال، وليست السرقة بعد المرة الرابعة منها، فتكون هذان الحديثان وما في معناهما ناسخة لما يدل عليه الحديث الأول والثاني، ويؤيد ذلك إجماع أهل العلم على عدم قتل السارق بالسرقة ولو تكرر منه ذلك أكثر من أربع مرات
(1)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، دليله.
وقد ذهب جمهور أهل العلم، وذكر بعضهم أنه إجماع، إلى عدم قتل السارق، تكرر منه ذلك أكثر من أربع مرات أم لا
(2)
.
وذلك للأحاديث الدالة على عدم قتل المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال، وليس فيها القتل بالسرقة
(3)
.
ولما روى النعمان بن مرة
(4)
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تقولون في
(1)
انظر: معالم السنن 6/ 236؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 477؛ روضة الطالبين ص 1762؛ فتح الباري 12/ 115؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 395؛ مغني المحتاج 5/ 558.
(2)
انظر: كتاب الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 626؛ الموطأ لمحمد ص 239؛ معالم السنن 6/ 236؛ السنن الكبرى للبيهقي 8/ 477؛ الاستذكار 6/ 558؛ المبسوط 9/ 167؛ بداية المجتهد 4/ 1754؛ المغني 12/ 446؛ روضة الطالبين ص 1762؛ الفروع 10/ 147؛ فتح الباري 12/ 115؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 395، 396؛ مغني المحتاج 5/ 558.
(3)
انظر: معالم السنن 6/ 236؛ الاستذكار 6/ 558.
(4)
هو: النعمان بن مرة الأنصاري الزرقي، المدني، ثقة، روى عن علي رضي الله عنه وغيره، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وغيره. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 407؛ التقريب 2/ 249.
الشارب، والزاني، والسارق؟» وذلك قبل أن تنزل الحدود، فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هن فواحش، وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته»
(1)
.
فهذا كذلك يعارض حديث قتل السارق إذا سرق بعد المرة الرابعة؛ حيث لم يذكر فيه القتل
(2)
.
أما ما ورد من الأحاديث مما يدل على قتله، فإن بعض أهل العلم لم يقل به لعدم صحته،
وبعضهم رأى ذلك منسوخاً، وبعضهم حمل ذلك على التعزير للمفسدين في الأرض إذا رأى الإمام ذلك، لا لأجل السرقة
(3)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى قتل السارق إذا سرق المرة الخامسة
(4)
. وروي ذلك عن عثمان، وعمرو بن العاص-رضي الله عنهما، وعمر بن عبد العزيز
(5)
.
وذلك لما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث جابر، والحارث بن
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 364. وقال: إنه مرسل.
(2)
انظر: الاستذكار 6/ 558؛ بداية المجتهد 4/ 1754.
(3)
انظر: معالم السنن 6/ 237، 238؛ السنن الكبرى 8/ 477؛ الاستذكار 6/ 558؛ المغني 12/ 447؛ فتح الباري 12/ 115؛ فتح القدير 5/ 395.
(4)
انظر: الاستذكار 6/ 558؛ فتح الباري 12/ 115.
(5)
انظر: المغني 12/ 446.
حاطب-رضي الله عنهما
(1)
.
الراجح
بعد ذكر أقوال أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم قتل السارق إذا سرق بعد المرة الرابعة، وذلك لما يلي:
أ- للأحاديث التي تدل على عدم جواز قتل المسلم إلا بإحدى ثلاث، وليس فيها ذكر القتل بالسرقة؛ فإن تلك الأحاديث بعمومها تشمل السارق إذا سرق المرة الخامسة، كما سبق ذكره.
ب- ولقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(2)
. فإنه يدل على أن جزاء السارق القطع لا القتل؛ ولذلك روي عن علي رضي الله عنه أنه أُتي برجل مقطوع اليد والرجل، قد سرق، فقال لأصحابه: (ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلته إذاً، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياماً، ثم أخرجه فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده
(1)
انظر: المغني 12/ 446؛ فتح الباري 12/ 115.
(2)
سورة المائدة، الآية (38).
جلداً شديداً، ثم أرسله)
(1)
.
ج- ولأن ما استدل به على قتل السارق بعد المرة الخامسة، ضعفه غير واحد من أهل العلم
(2)
، وعلى تقدير صحته، فإنه يحتمل احتمالات، منها:
1 -
أن ذلك كان في أشخاص معينين قتلوا لأجل الفساد في الأرض، فقتلهم ليس من أجل السرقة، بل لفسادهم، فقتلوا تعزيراً، ويؤيد ذلك الأمر بقتله لما جيء به أول مرة
(3)
.
2 -
أنه كان أولاً ثم نسخ، كما سبق ذكره.
ومع هذه الاحتمالات يضعف الاستدلال منه على قتل السارق بعد المرة الخامسة.
ثانياً: إنه لا يوجد ما يصرح على نسخ ما استدل منه على قتل السارق بعد المرة الخامسة، لكنه محتمل على تقدير صحة تلك الأحاديث، وعلى تقدير أن المراد بها قتل السارق بعد المرة الخامسة، ويؤيد احتمال النسخ، ما هو شبه الإجماع على أنه لا يقتل السارق بعد المرة الخامسة
(4)
.
والله أعلم.
(1)
قال ابن قدامة في المغني 12/ 447: (ولنا ما روى سعيد، حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل-فذكره-).
(2)
راجع الكلام على الحديثين عند تخريجهما.
(3)
انظر: معالم السنن 6/ 237.
(4)
انظر: معالم السنن 6/ 236؛ السنن الكبرى 8/ 477؛ فتح الباري 12/ 115.
المطلب الحادي عشر: التعزير بالعقوبات المالية
ذهب بعض أهل العلم إلى أن التعزير
(1)
بأخذ المال كان أولاً، ثم نسخ؛ لذلك لا يجوز التعزير بالعقوبات المالية.
وممن نُقل عنه القول بالنسخ، أو قال به: الإمام الشافعي
(2)
، والطحاوي
(3)
، والبيهقي
(4)
، وأبو إسحاق الشيرازي
(5)
. ونقل بعض أهل العلم الإجماع عليه
(6)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب الاختلاف في المسألة، كما أن
(1)
التعزير من عزر، وهو لغة: التوقير، والتعظيم، والتأديب. انظر: مختار الصحاح ص 378؛ المصباح المنير ص 332.
واصطلاحاً: هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها. المغني 12/ 523.
وعرف بأنه: تأديب دون الحد. انظر: التعريفات للجرجاني ص 62؛ التعريفات الفقهية ص 58.
(2)
نسبه إليه ابن القيم في تهذيب السنن 2/ 193، والشوكاني في نيل الأوطار 4/ 175. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 176؛ المجموع 5/ 220.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146؛ حاشية ابن عابدين 6/ 77.
(4)
انظر: السنن الكبرى 4/ 176؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ المجموع 5/ 220.
(5)
انظر: المهذب مع شحه المجموع 5/ 217.
(6)
نقل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار 4/ 175، عن الطحاوي، والغزالي. ونسبه النووي إلى أصحاب الوجوه من الشافعية. ونسبه شيخ الإسلام إلى طائفة من العلماء. انظر: المجموع 5/ 220؛ مجموع الفتاوى 28/ 111، 29/ 363.
الاختلاف في المفهوم من الآثار الواردة فيها سبب آخر للاختلاف فيها
(1)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في كل سائمة إبل، في أربعين بنت لبون، لا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآل محمد منها شيء»
(2)
.
ثانياً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه»
(3)
.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق
(4)
، فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة
(5)
، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين
(6)
، فبلغ ثمن المجن
(7)
، فعليه القطع، ومن سرق
(1)
راجع المصادر في الحواشي السابقة غير الأولى. وانظر: التمهيد 10/ 129، 14/ 103؛ المغني 12/ 526.
(2)
سبق تخريجه في ص 854.
(3)
سبق تخريجه في ص 1276.
(4)
الثمر المعلق: ما كان في رؤوس الأشجار من ضروب الثمار. التمهيد 14/ 103.
(5)
الخبنة: معطف الإزار، وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوب. النهاية في غريب الحديث 1/ 470.
(6)
الجرين هو: موضع تجفيف التمر،، وهو له كالبيدر للحنطة. النهاية في غريب الحديث 1/ 258.
(7)
المجن: الترس. النهاية في غريب الحديث 2/ 637.
دون ذلك فعليه غرامة مثليه، والعقوبة»
(1)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رجلاً من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل
(2)
؟ فقال: «هي، ومثلها، والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح، فبلغ ثمن المجن، ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال» قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: «هو، ومثله معه، والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا فيما آواه الجرين، فما أُخذ من الجرين، فبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 655، كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه، ح (4390)، والترمذي في سننه-مختصراً- ص 306، كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، ح (1289)، والنسائي في سننه ص 753، كتاب قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، ح (4958)، وأحمد في المسند 11/ 273، والدارقطني في سننه 3/ 195، والحاكم في المستدرك 4/ 423، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 258. قال الترمذي:(حديث حسن). وحسنه كذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/ 69.
(2)
حريسة الجبل أي ما يحرس بالجبل، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع. وقيل: الحريسة هي السرقة نفسها، فيكون المعنى: ليس فيما يسرق من الجبل قطع. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 358.
(3)
أخرجه النسائي في سننه ص 753، كتاب قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، ح (4959)، وابن ماجة في سننه ص 441، كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز، ح (2596)، والطحاوي في شرح
معاني الآثار 3/ 146. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي ص 753.
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الإبل المكتومة: «غرامتها ومثلها معها»
(1)
.
خامساً: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(2)
.
سادساً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}
(3)
.
سابعاً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(4)
.
ثامناً: عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
(5)
.
تاسعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله
(1)
أخرجه أبو داود في سننه ص 265، كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة، ح (1718)، والطحاوي في شرح معاني الآثار-واللفظ له- 3/ 146، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 316. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ص 265.
(2)
سورة البقرة، الآية (275).
(3)
سورة آل عمران، الآية (130).
(4)
سبق تخريجه في ص 852.
(5)
سبق تخريجه في ص 853.
إلا بطيب نفسه، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد»
(1)
.
عاشراً: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن الإسلام، وفيه: قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»
(2)
.
حادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك»
(3)
.
ثاني عشر: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شرّه»
(4)
.
ثالث عشر: عن فاطمة بن قيس-رضي الله عنها مرفوعاً: «ليس في المال حق سوى الزكاة»
(5)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن الأحاديث الأربعة الأولى تدل على جواز التعزير بالمال؛ حيث يدل الحديث الأول على أخذ شطر مال مانع الزكاة. والحديث الثاني يدل على حرق متاع الغال. والحديث الثالث
(1)
سبق تخريجه في ص 853.
(2)
سبق تخريجه في ص 420.
(3)
سبق تخريجه في ص 844.
(4)
سبق تخريجه في ص 844.
(5)
سبق تخريجه في ص 845.
يدل على غرامة المثل مضاعفاً على من سرق حريسة الجبل أو ثمراً مما لا يوجب القطع. والحديث الرابع يدل كذلك على مضاعفة الغرامة على من كتم الإبل الضالة، فيثبت من مجموع هذه الأحاديث جواز التعزير والعقوبة بالمال.
وآيات الربا تدل على تحريم الربا وأخذ الزيادة على المثل، كما تدل الأحاديث الثلاثة المذكورة بعدها تدل على عدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، فتكون آيات الربا و هذه الأحاديث ناسخة لما يدل عليه الأحاديث الأربعة الأولى؛ لأن هذه الأحاديث بعدها؛ لأن ما يدل على العقوبة بالمال كان قبل حجة الوداع، وفي حجة الوداع نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، كما يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه، كما أن تحريم الربا جاء متأخراً، فدل ذلك أن تحريم الربا والأحاديث التي تدل على النهي عن أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه متأخرة على الأحاديث التي تدل على جواز العقوبة بالمال، وناسخة لها؛ ولذلك لم يحرق النبي صلى الله عليه وسلم متاع مدعم، وكركرة لما غلاّ، ولم يأخذ الصحابة-رضي الله عنهم-بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم شطر مال من منع الزكاة
(1)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145، 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ السنن الكبرى
للبيهقي 4/ 176؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ التمهيد 10/ 129، 14/ 103؛ المهذب للشيرازي مع شرحه المجموع 5/ 217؛ قواطع الأدلة 1/ 439؛ العزيز 11/ 438؛ نيل الأوطار 4/ 175.
كما تكون ما يدل عليه الأحاديث الأربعة الأولى من جواز العقوبة بالمال منسوخاً، بالأحاديث الأربعة الأخيرة؛ لأنها تدل على أنه ليس في المال حقاً سوى الزكاة، فهي تنافي ما يدل عليه الأحاديث الأربعة الأولى
(1)
.
واعترض عليه: بأن نسخ العقوبة بالمال في بعض الصور لا يلزم منه نسخ العقوبة بالمال مطلقاً؛ لأنه لا يوجد دليل يدل على نسخه مطلقاً، ولذلك عمل الأئمة بالعقوبة بالمال بعد رسو الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن أبا بكر وعمر-رضي الله عنهما حرقا متاع الغال، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه»
(2)
.
وأمر عمر وعلي رضي الله عنهما بتحريق المكان التي يباع فيه الخمر
(3)
.
كما أن التعزير والعقوبة بالمال راجع إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى الإمام المصلحة في التعزير به عزر، وإلا فلا، وترك الأئمة له بعض الأحيان للمصلحة التي يراها، لا يدل على نسخه
(4)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
(1)
انظر: المهذب مع شرحه المجموع 5/ 217.
(2)
سبق تخريجه في ص 1277.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 28/ 110 - 114؛ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص 207 - 209؛ إعلام الموقعين 2/ 75؛ تهذيب السنن لابن القيم 2/ 192، 3/ 391.
(4)
راجع المصادر في الحاشية السابقة.
وقد اختلف أهل العلم في التعزير والعقوبة بالمال على قولين:
القول الأول: لا يجوز التعزير والعقوبة بالمال.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، ..............................................
وقول بعض المالكية
(3)
، وجماعة من الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يجوز التعزير والعقوبة بالمال.
وهو قول أبي يوسف من الحنفية
(5)
، وبعض المالكية
(6)
، وبعض الحنابلة
(7)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145، 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ فتح القدير
5/ 345؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 76، 77.
(2)
انظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 176؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ 3؛ المهذب للشيرازي مع شرحه المجموع
5/ 217؛ العزيز 11/ 438؛ روضة الطالبين ص 1772، 1773؛ المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 6/ 15، 16.
(3)
قال ابن العربي في أحكام القرآن 1/ 302، في تحريق متاع الغال:(ويحتمل أنه كان ثم ترك، ويعضده أنه لا عقوبة في الأموال).
(4)
ويظهر من كلام ابن قدامة والمرداوي أنه المذهب. قال ابن قدامة: (والتعزير يكون بالضرب والحبس، والتوبيخ ولا يجوز قطع شيء منه، ولا جرحه، ولا أخذ ماله). وقال المرداوي: (وقال الأصحاب: ولا يجوز قطع شيء منه، ولا جرحه، ولا أخذ شيء من ماله). انظر: المغني 12/ 526؛ الشرح الكبير 26/ 460؛ الفروع 10/ 112؛ الإنصاف 26/ 464.
(5)
انظر: العناية شرح الهداية للبابرتي 5/ 345؛ فتح القدير لابن الهمام 5/ 345؛ حاشية ابن عابدين 6/ 76، 77.
(6)
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 4/ 253: (لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له، لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال).
(7)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 28/ 110: (والتعزير بالعقوبات المالية مشروع إيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك) وقال في 28/ 111: (ومن قال إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد، فقد غلط على مذهبهما، ومن قاله مطلقاً من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل). وانظر: تهذيب السنن لابن القيم 2/ 194؛ إعلام الموقعين 2/ 75؛ الطرق الحكمية ص 207.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو عدم جواز التعزير والعقوبة بالمال- بما سبق من الآيات والأحاديث في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على تحريم الربا، وعدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، وبالأحاديث التي تدل على أنه لا حق في المال سوى الزكاة.
قالوا: والأحاديث التي تدل على جواز التعزير والعقوبة بالمال فإنها قد نسخ
(1)
.
وقد سبق ما اعترض به على وجه استدلال هذا القول.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو جواز التعزير والعقوبة بالمال- بأدلة منها ما سبق في دليل القول بالنسخ، من أخذ شطر مال مانع الزكاة، وحرق متاع الغال، والغرامة مضاعفة في سرقة حريسة الجبل، والثمر التي لا قطع فيها.
قالوا: ويدل على جواز العمل به وعدم نسخه عمل الخلفاء به بعد
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145، 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 475 - 476؛ السنن الكبرى للبيهقي 4/ 176؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ 14/ 103؛ المهذب للشيرازي مع شرحه المجموع 5/ 217؛
العزيز 11/ 438؛ نيل الأوطار 4/ 175.
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- جواز التعزير والعقوبة بالمال، وعدم نسخه مطلقاً، وذلك لما يلي:
أولاً: لأنه وإن وجد نسخ التعزير والعقوبة بالمال في بعض الصور، فإنه لا يلزم منه نسخ ذلك مطلقاً، ولذلك عمل الخلفاء به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما يبطل دعوى نسخه مطلقاً
(2)
.
ثانياً: ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، وقد عمل الخلفاء وأكابر أصحابه بذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم وهو دليل على جوازه
(3)
.
ثالثاً: ولأن الأدلة التي استدل منها على نسخ التعزير والعقوبة بالمال مطلقاً، أدلة عامة، وما يدل على جواز التعزير والعقوبة بالمال، أدلة خاصة، والجمع بين العام والخاص ممكن، وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى القول بالنسخ
(4)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 28/ 110 - 114؛ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص 207 - 209؛ إعلام الموقعين 2/ 75؛ تهذيب السنن لابن القيم 2/ 192، 3/ 391.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 111؛ الطرق الحكمية ص 208.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 111؛ الطرق الحكمية ص 208.
(4)
انظر: الاعتبار ص 397.
المطلب الثاني عشر: المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من كتم ضالة الإبل فإنه يجب عليه غرامته فيرده إن كان موجوداً، وإلا فيرد مثله. وليس عليه مع الغرامة مثلها؛ لأن ذلك كان أولاً ثم نسخ.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(1)
، والبيهقي
(2)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ في المسألة أحد أسباب اختلاف أهل العلم فيها
(3)
.
ويستدل للنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الإبل المكتومة: «غرامتها ومثلها معها»
(4)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(5)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}
(6)
.
(1)
ونقل كلامه ابن عبد البر وأقره عليه. انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 10/ 129.
(2)
انظر: معرفة السنن والآثار 6/ 58.
(3)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين. وانظر: المغني 8/ 345، 12/ 439.
(4)
سبق تخريجه في ص 1701.
(5)
سورة البقرة، الآية (275).
(6)
سورة آل عمران، الآية (130).
رابعاً: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(1)
.
خامساً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(2)
.
سادساً: عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ
مسلم إلا بطيب نفس منه»
(3)
.
سابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد»
(4)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن من كتم ضالة الإبل، فإنه يلزمه غرامتها ومثلها معها، والآيات الثلاثة تدل على وجوب أخذ المثل وعدم جواز الزيادة والربا، والأحاديث الثلاثة بعدها تدل على عدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، فتكون هذه الآيات والأحاديث ناسخة لوجوب المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة، والذي
(1)
سورة البقرة، الآية (194).
(2)
سبق تخريجه في ص 852.
(3)
سبق تخريجه في ص 853.
(4)
سبق تخريجه في ص 853.
يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه كان في وقت كان التعزير والعقوبة بالمال. وقد جاء تحريم الربا بعد ذلك، فردت الأشياء إلى أخذ المثل إذا كان مثلياً، وإلى أخذ القيمة إذا لم يوجد له المثل. كما أن حديث ابن عباس رضي الله عنه الدال على تحريم أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه قاله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو كذلك متأخر. فتكون آيات تحريم الربا، وكذلك الأحاديث الدالة على تحريم أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، ناسخة لأخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة والمذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لتأخرها عليه
(1)
.
واعترض عليه: بأن الأدلة التي يستدل منها على نسخ أخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة أدلة عامة، وما يستدل منه على أخذ الغرامة مع المثل دليل خاص، والجمع بين الخاص والعام ممكن، كما سبق ذكره غير مرة.
ثم إن عمر رضي الله عنه قد عمل على وفق الدليل الخاص، فهو مما يدل على أنه غير منسوخ، وأن
الإمام إذا رأى المصلحة في مضاعفة الغرامة تعزيراً فله أن يعمل به
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الغرامة مع المثل في ضالة الإبل المكتومة
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 10/ 129؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ السنن الكبرى 4/ 176.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 110 - 117؛ الطرق الحكمية ص 207 - 208.
على قولين:
القول الأول: إنه يجب عليه الغرامة، وليس عليه مع ذلك مثل الغرامة.
وهو قول جمهور أهل العلم، منهم أصحاب المذاهب الأربعة
(1)
.
القول الثاني: يجب على من كتم ضالة الإبل غرامتها ومثلها معها.
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار بعض الحنابلة
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو وجوب الغرامة فقط في ضالة الإبل المكتومة-بالآيات والأحاديث التي سبق ذكرها في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على وجوب أخذ المثل، وعدم جواز أخذ الزيادة والربا، وعدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه
(3)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال من هذه الأدلة.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 10/ 129، 14/ 103؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ السنن الكبرى 4/ 176؛ المهذب مع شرحه المجموع 5/ 217؛ المغني 12/ 439؛ الشرح الكبير 26/ 535؛ الإنصاف 26/ 533.
(2)
انظر: المغني 12/ 439؛ الشرح الكبير 26/ 535؛ الطرق الحكمية ص 207؛ الفروع 10/ 153؛ الإنصاف 26/ 533.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 10/ 129، 14/ 103؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ المهذب مع شرحه المجموع 5/ 217.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو وجوب الغرامة ومثلها معها في ضالة الإبل المكتومة- بما يلي:
أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبق في دليل القول بالنسخ، فإنه يدل على وجوب الغرامة ومعها مثلها.
ثانياً: عن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب
(1)
، أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب
(2)
، سرقوا بعيراً فانتحروه، فوجد عندهم جلده ورأسه، فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب، فأمر بقطعهم، فمكثوا ساعة، وما نرى إلا أن قد فرغ من قطعهم، ثم قال عمر: عليّ بهم، ثم قال لعبد الرحمن: والله إني لأراك تستعملهم ثم تجيعهم وتسيء إليهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله عليهم لحل لهم، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تُعطى لبعيرك؟ قال: أربع مائة درهم، قال لعبد الرحمن: قم فاغرم لهم ثمان مائة درهم)
(3)
.
(1)
هو: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، اللخمي، ثقة، روى عن أبيه، وأسامة بن زيد، غيرهما، وروى عنه: عروة وهشام بن عروة، وغيرهما، وتوفي سنة أربع ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 217؛ التقريب 2/ 308.
(2)
هو: عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو، اللخمي، أبو يحيى، يقال: له رؤية، وروى عن أبيه وعمر بن الخطاب، وغيرهما، وروى عنه: ابنه يحيى، وعروة، وتوفي سنة ثمان وستين. انظر: تهذيب التهذيب 6/ 145؛ التقريب 1/ 565.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10/ 239، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 483. ورجال عبد الرزاق ثقات، وقد صرح يحيى بن عبد الرحمن في إحدى روايتي عبد الرزاق بالرواية عن أبيه.
فهذا عمر رضي الله عنه قد غرم في سرقة الإبل مثلي قيمته
(1)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة يظهر لي-والله أعلم بالصواب-ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وذلك لأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، وأدلة القول المعارض له أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. ويؤيد ذلك عمل عمر رضي الله عنه به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيانه.
ثانياً: إنه لا يصح القول بنسخ ما يدل على أخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة؛ وذلك لما يلي:
أ-لأن الجمع بين الأدلة التي يستدل منها على النسخ، وبين ما يعارضها ممكن، كما سبق
ذكره. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ
(2)
.
ب- إن عمر رضي الله عنه قد عمل على وفق ما يدل على أخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة، وهو مما يبطل القول بنسخه
(3)
.
والله أعلم.
(1)
انظر: المغني 12/ 439.
(2)
انظر: الاعتبار ص 495.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 28/ 110 - 117؛ الطرق الحكمية ص 207 - 208.
المطلب الثالث عشر: الغرامة بالمثلين في سرقة الثمر المعلق
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من سرق من الثمر المعلق، فإنه يجب عليه الغرامة بالمثل، و ليس عليه غرامة مثليه؛ لأن ذلك كان أولاً ثم نسخ.
وممن صرح بالنسخ: الطحاوي
(1)
، وابن عبد البر
(2)
، والبيهقي
(3)
.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة
(4)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال:«من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه، والعقوبة»
(5)
.
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن رجلاً من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: «هي، ومثلها، والنكال، وليس في
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476.
(2)
ونسبه ابن قدامة إلى بعض أصحاب الإمام الشافعي. انظر: التمهيد 14/ 103؛ المغني 12/ 438.
(3)
انظر: معرفة السنن والآثار 6/ 58.
(4)
راجع المصادر في الحواشي السابقة.
(5)
سبق تخريجه في ص 1700.
شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح، فبلغ ثمن المجن، ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال» قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: «هو، ومثله معه، والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا فيما آواه الجرين، فما أُخذ من الجرين، فبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال»
(1)
.
ثانياً: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(2)
.
ثالثاً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}
(3)
.
رابعاً: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(4)
.
خامساً: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله عز وجل مال المسلم على المسلم»
(5)
.
سادساً: عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
سبق تخريجه في ص 1700.
(2)
سورة البقرة، الآية (275).
(3)
سورة آل عمران، الآية (130).
(4)
سورة البقرة، الآية (194).
(5)
سبق تخريجه في ص 852.
«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
(1)
.
سابعاً: عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم، لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد»
(2)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما يدل على أن من سرق من الثمر المعلق، فإن عليه غرامة مثليه. والآيات الثلاثة تدل على وجوب أخذ المثل وعدم جواز الزيادة والربا. والأحاديث الثلاثة بعدها تدل على عدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، فتكون هذه الآيات والأحاديث ناسخة لوجوب أخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق، والذي يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه؛ لأن حديثه كان في وقت كان التعزير والعقوبة بالمال. وقد جاء تحريم الربا بعد ذلك، فردت الأشياء إلى أخذ المثل إذا كان مثلياً، وإلى أخذ القيمة إذا لم يوجد له المثل. كما أن حديث ابن عباس رضي الله عنه الدال على تحريم أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه قاله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو كذلك متأخر. فتكون آيات تحريم الربا، وكذلك الأحاديث الدالة على تحريم أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه، ناسخة لأخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق، والمذكور في حديث
(1)
سبق تخريجه في ص 853.
(2)
سبق تخريجه في ص 853.
عبد الله بن عمرو رضي الله عنه؛
لتأخرها عليه
(1)
.
واعترض عليه: بأن ما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت به
(2)
، على أن الأدلة التي يستدل منها على نسخ أخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق أدلة عامة، وما يستدل منه على أخذ المثلين، دليل خاص، والجمع بين الخاص والعام ممكن، كما سبق ذكره غير مرة.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في أخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق، على قولين:
القول الأول: إن من سرق من الثمر المعلق فإن عليه الغرامة بالمثل، وليس عليه الغرامة بالمثلين.
وهو قول جمهور أهل العلم، منهم الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 14/ 103؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ السنن الكبرى 4/ 176.
(2)
انظر: المغني 12/ 439.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ فتح القدير 5/ 367.
(4)
انظر: التمهيد 14/ 103؛ المنتقى للباجي 10/ 110، 111؛ جامع الأمهات ص 522؛ القوانين الفقهية ص 266.
(5)
انظر: الأم 6/ 167؛ مختصر المزني ص 346؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ السنن الكبرى 4/ 176؛ روضة الطالبين ص 1762.
القول الثاني: إن من سرق من الثمر المعلق فإن عليه الغرامة بالمثلين.
وهو مذهب الحنابلة
(1)
.، وقول إسحاق بن راهوية
(2)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول-وهو وجوب المثل لا المثلين في سرقة الثمر المعلق-بالآيات والأحاديث التي سبقت في دليل القول بالنسخ، والتي تدل على وجوب أخذ المثل، وعدم
جواز أخذ الزيادة والربا، وعدم حل أخذ مال المسلم بغير طيبة نفس منه
(3)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال من هذه الأدلة.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني-وهو وجوب الغرامة بالمثلين في سرقة الثمر المعلق- بما سبق في دليل القول بالنسخ من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فإنه يدل على وجوب الغرامة بالمثلين في سرقة الثمر المعلق
(4)
.
الراجح
بعد عرض قولي أهل العلم في المسألة يظهر لي-والله أعلم
(1)
انظر: المغني 12/ 438، 429؛ الشرح الكبير 26/ 534؛ الطرق الحكمية ص 207؛ الفروع 10/ 153؛ الإنصاف 26/ 532.
(2)
انظر: المغني 12/ 438.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 146، 4/ 196؛ مختصر اختلاف العلماء 3/ 476؛ التمهيد 14/ 103؛ معرفة السنن والآثار 6/ 58؛ المهذب مع شرحه المجموع 5/ 217.
(4)
انظر: المغني 12/ 438، 429؛ الشرح الكبير 26/ 534؛ الطرق الحكمية ص 207.
بالصواب-ما يلي:
أولاً: أن الراجح هو القول الثاني، وذلك لما يلي:
أ- لأن دليله نص صريح في المسألة، بخلاف أدلة القول المعارض له، فإنها أدلة عامة، وليست نصاً صريحاً فيها.
ب-ولأن دليل هذا القول دليل خاص، وأدلة القول المعارض له، أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن بحمل العام على ما عدا محل الخصوص.
ثانياً: إنه لا يصح القول بنسخ ما يدل على أخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق، وذلك لما يلي:
أ- لأن الجمع بين الأدلة التي يستدل منها على النسخ، وبين ما يعارضها ممكن، كما سبق ذكره. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ
(1)
.
ب- أنه لا يوجد ما يدل على النسخ، وما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت به، كما سبق ذكره.
والله أعلم.
(1)
انظر: الاعتبار ص 495.
المطلب الرابع عشر: الجلد فوق عشرة أسواط في غير الحدود
ذهب بعض الحنفية
(1)
، وبعض الشافعية
(2)
، إلى جواز الجلد في التعزير بأكثر من عشرة جلدات وأسواط، وأن الحديث الذي يدل على عدم جواز ذلك فإنه قد نسخ.
وتبين منه أن القول بالنسخ أحد أسباب اختلاف أهل العلم في المسألة، كما أن اختلاف ما ورد فيها من الأحاديث والآثار سبب آخر للاختلاف فيها
(3)
.
ويستدل للقول بالنسخ بما يلي:
أولاً: عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله»
(4)
.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعزروا فوق عشرة أسواط»
(5)
.
(1)
انظر: فتح القدير 5/ 349.
(2)
انظر: العزيز 11/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 278؛ فتح الباري 12/ 213؛ مغني المحتاج 6/ 17.
(3)
راجع المصادر في الحاشيتين السابقتين. وانظر: المغني 12/ 524 - 526.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 1438، كتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب، ح (6850)، ومسلم في صحيحه 6/ 277، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير، ح (1708)(40).
(5)
أخرجه ابن ماجة في سننه ص 442، كتاب الحدود، باب التعزير، ح (2602). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة ص 351:(وإسناد حديث أبي هريرة ضعيف، فيه عباد بن كثير الثقفي، قال أحمد بن حنبل: روى أحاديث كذب لم يسمعها. وقال البخاري: تركوه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وفي حديثه عن الثقات إنكار. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال العجلي: ضعيف، متروك الحديث). وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ص 442: (حسن بما قبله-يعني حديث أبي بردة-).
ثالثاً: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع بجارية امرأته: «إن كانت أحلتها له فاجلده مائة، وإن لم تكن أحلتها له، فارجمه»
(1)
.
رابعاً: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضرب حداً في غير حد فهو من المعتدين»
(2)
.
خامساً: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: (قتل رجل عبده عمداً متعمداً، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين)
(3)
.
سادساً: عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي، فقال عمر رضي الله عنه: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: فاعترفت له
(1)
سبق تخريجه في ص 1668.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 567، ثم قال:(والمحفوظ هذا الحديث مرسل) ثم ذكره مرسلاً. وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 284: (رواه الطبراني، وفيه محمد بن الحسين الفضفاض، والوليد بن عثمان، خال مسعر، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات).
(3)
سبق تخريجه في ص 1613.
بشيء؟ قالت: لا. قال عمر رضي الله عنه عليّ به، فلما رأى عمر رضي الله عنه الرجل قال: أتعذب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها، قال: رأيت ذلك عليها؟ قال الرجل: لا. قال: فاعترفت لك بذلك؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده» لأقدتها منك، فبرزه وضربه مائة سوط، ثم قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله
(1)
.
سابعاً: عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطاً)
(2)
.
ثامناً: عن علي رضي الله عنه: (أنه كان إذا وجد الرجل والمرأة في ثوب واحد، جلدهما مائة، كل إنسان منهما)
(3)
.
تاسعاً: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي برجل وجد مع امرأة في لحاف، فضرب كل واحد منهما أربعين سوطاً، وأقامهما للناس، فذهب أهل المرأة وأهل الرجل، فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لابن مسعود: ما يقول هؤلاء؟ قال: قد فعلت ذلك. قال: أو رأيت ذلك؟ قال: نعم. قال:
(1)
سبق تخريجه في ص 1613.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 413. وفي سنده حميد الأعرج، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 401. وهو منقطع لأنه رواه محمد بن علي بن الحسين بن علي، عن علي رضي الله عنه وهو لم يدركه.
(نعمّا ما رأيت) فقالوا: أتيناه نستأديه، فإذا هو يسأله
(1)
.
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث أبي بردة رضي الله عنه يدل على أنه لا يجوز أن يضرب أحد فوق عشرة أسواط في غير الحدود، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثاني ظاهر في جواز الضرب أكثر من عشرة أسواط، في غير الحدود، ويدل عليه حديثه الأول كذلك؛ لأن جلد مائة لمن وطئ جارية امرأته بإذنها كان تعزيراً، وإلا لكان حقه الرجم لأنه محصن، فدل ذلك على جواز الضرب فوق عشرة أسواط في غير الحدود. كما يدل حديث عبد الله بن عمرو، وابن عباس رضي الله عنهم-على جواز الضرب أكثر من عشرة أسواط في غير الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضرب من قتل عبده مائة تعزيراً، لا أنه كان حده، كما أن عمر رضي الله عنه ضرب من عذب جاريته بالنار، مائة تعزيراً، فيكون حديث النعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم ناسخاً لحديث أبي بردة رضي الله عنه، ويؤيد ذلك إجماع الصحابة-رضي الله عنهم وعملهم على خلاف حديث أبي بردة رضي الله عنه من غير نكير؛ حيث إنهم جلدوا فوق عشرة أسواط في غير الحدود، كما دل عليه ما روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود-رضي الله عنهم، ولم ينكر ذلك عليهم أحد. فيكون ذلك
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 402. وهو من رواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، ولعله عبد الرحمن
بن مسعود، قال عنه ابن حجر في التقريب 1/ 578:(عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، الهذلي، الكوفي ثقة، من صغار الثانية، مات سنة تسع وسبعين، وقد سمع من أبيه لكن شيئاً يسيراً).
دليلاً على جواز الضرب أكثر من عشرة أسواط في غير الحدود، وعلى نسخ ما يدل على عدم جواز أن يضرب أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى
(1)
.
واعترض عليه: بأنه لا إجماع في المسألة، وآثار الصحابة-رضي الله عنهم-في مقدار جلدات التعزير مختلفة، وحديث أبي بردة رضي الله عنه أقوى مما يعارضه، لذلك يكون القول بنسخه غير صحيح
(2)
.
هذا كان قول من قال بالنسخ، ودليله.
وقد اختلف أهل العلم في الضرب أكثر من عشرة أسواط في غير الحدود على قولين:
القول الأول: يجوز الزيادة على أكثر من عشرة أسواط في التعزير.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، ورواية عن الإمام
(1)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 138، 145؛ العزيز 11/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 278؛ فتح الباري 12/ 213؛ فتح القدير 5/ 349؛ مغني المحتاج 6/ 17.
(2)
انظر: السنن الكبرى 8/ 568؛ فتح الباري 12/ 213؛ التلخيص الحبير 4/ 79.
(3)
ثم اختلفوا فيما بينهم، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا يتجاوز به تسعة وثلاثين سوطاً، فلا يبلغ إلى أربعين وهو أدنى الحد. وقال أبو يوسف: لا يتجازو به خمسة وسبعين سوطاً. وفي رواية عنه: لا يتجاوز به تسعة وسبعين سوطاً. انظر: الآثار لمحمد بن الحسن 2/ 603، 604؛ شرح مشكل الآثار 5117؛ الهداية وشرحه فتح القدير 5/ 348، 349؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 77.
(4)
وليس عندهم في ذلك حد بل هو موكول إلى رأي الإمام، فله أن يضرب مائة وغيرها. انظر: المعونة 3/ 1406، 1407؛ جامع الأمهات ص 525.
(5)
والمذهب عندهم أنه لا يتجاوز به تسعة وثلاثين في تعزير الحر، وتسعة عشر في تعزير العبد. انظر: مختصر المزني ص 349؛ العزيز 11/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 278؛ روضة الطالبين ص 1772؛ مغني المحتاج 6/ 17.
أحمد
(1)
، وقول جمهور أهل العلم
(2)
.
القول الثاني: لا يجوز الزيادة على عشرة أسواط في غير الحدود.
وهو قول بعض الشافعية
(3)
، ومذهب الحنابلة
(4)
، وقول الليث، وإسحاق بن راهوية
(5)
.
الأدلة
ويستدل للقول الأول- وهو جواز الزيادة على عشرة أسواط في غير الحدود-بما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث النعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم، وبالآثار المروية عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم-والتي تدل على جواز الضرب أكثر من عشرة أسواط في غير الحد
(6)
.
وقد سبق ما يعترض به على وجه الاستدلال من هذه الأدلة.
(1)
انظر: المغني 12/ 524؛ الشرح الكبير 26/ 455؛ الفروع 10/ 109.
(2)
انظر: المغني 12/ 524؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 277.
(3)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 277؛ فتح الباري 12/ 212؛ مغني المحتاج 6/ 17.
(4)
انظر: المغني 12/ 524؛ الشرح الكبير 26/ 454؛ الفروع 10/ 109؛ الإنصاف 26/ 454.
(5)
انظر: المغني 12/ 524؛ فتح الباري 12/ 212.
(6)
انظر: شرح معاني الآثار 3/ 145؛ المعونة 3/ 1406، 1407؛ المغني 12/ 524، 525؛ العزيز 11/ 290؛ المنهاج شرح صحيح مسلم 6/ 278؛ فتح القدير 5/ 349.
دليل القول الثاني
ويستدل للقول الثاني- وهو عدم جواز الضرب بأكثر من عشرة أسواط في غير الحدود-بما سبق في دليل القول بالنسخ، من حديث أبي بردة، وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ حيث إنهما يدلان على عدم جواز الضرب أكثر من عشرة أسواط في غير الحدود
(1)
.
الراجح
بعد ذكر قولي أهل العلم في المسألة، وما استدلوا به، يظهر لي- والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: إن الراجح هو القول الثاني، وذلك لأن أدلة القول الأول وإن كانت أكثر إلا أن كلها متكلم فيها، وحديث أبي بردة رضي الله عنه أصح ما في المسألة، لذلك فهي لا تقاوم حديثه
(2)
.
ثانياً: إنه لا يصح القول بنسخ ما يدل على عدم جواز الضرب فوق عشرة أسواط في غير الحدود، وذلك لما يلي:
أ- لأنه لا يوجد إجماع في المسألة حتى يستدل منه على النسخ، كما سبق ذكره، وما ذكر احتمال والنسخ لا يثبت به.
(1)
انظر: السنن الكبرى 8/ 568؛ المغني 12/ 524؛ نيل الأوطار 7/ 208؛ تحفة الأحوذي 4/ 859.
(2)
راجع تخريج تلك الأدلة.
ب- إن الأحاديث التي يستدل منها على النسخ كلها متكلم فيها، فهي لا تقوى على معارضة حديث أبي بردة رضي الله عنه ولا على نسخه.
والله أعلم.