المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(تعليق الشاملة): الخاتمة السابقة هي المثبتة في الكتاب المطبوع (وهي - الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء - ملخص

[محمد إبراهيم بن سركند]

فهرس الكتاب

(تعليق الشاملة): الخاتمة السابقة هي المثبتة في الكتاب المطبوع (وهي مقتصرة على النتائج العامة). لكن في أصل الرسالة الجامعية أورد الباحث بالخاتمة‌

‌ ملخصا لمسائل

ومطالب البحث كلها، فأوردنا هنا‌

‌نص خاتمة الرسالة الجامعية

للفائدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا إلى الهداية، وجنبنا عن الغواية والضلالة، ووفقني لإتمام هذا البحث، فله الحمد والمنة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

وبعد:

فمع الرحلة الممتعة الطويلة مع البحث في موضوع النسخ ومسائله عرضاً واستطراداً، وشرحاً وتفصيلاً، ونقداً وترجيحاً، أذكر ملخصاً للرسالة مشتملا على خلاصة ما توصلت إليه من القول في المسائل و المطالب في الموضوع، وكذلك بعض النتائج العامة، فأقول وبالله التوفيق وله المنة والفضل:

1 -

يدل على أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، وعلى فضيلة علمه: أن أهل العلم لم يجوزوا لمن لم يعرف الناسخ والمنسوخ أن يفتي. كما أنهم جعلوا معرفته من شروط الاجتهاد، وأن معرفته من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً.

كما أن الاختلاف في اعتبار مسألة منسوخة أو عدم ذلك أحد أهم أسباب الاختلاف في المسائل الفقهية.

2 -

إن النسخ في اللغة يأتي بمعنى الانعدام، والمحو، والإبطال، والنقل والتحويل، والتبديل.

أما النسخ شرعاً فقد اختلف فيه الاصطلاحات والإطلاقات عند المتقدمين والمتأخرين. ولقد بدا لي أن أعرفه بأن النسخ: رفع حكم دليل أحد الوحيين، أو لفظ دليل الوحي المتلو، أو لفظه وحكمه معاً، بدليل من الوحيين، مع تراخيه عنه.

3 -

يفرق بين النسخ والتخصيص بفروق منها: أن النسخ لا بد فيه أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ، ومتأخراً عنه، بخلاف التخصيص.

ومنها: أن النسخ لا يدخل الأخبار ولا يقع فيها، ولا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، بخلاف التخصيص.

ومنها: أن النسخ يرفع حكم العام والخاص، أما التخصيص فلا يدخل في غير العام.

4 -

البداء يطلق في اللغة على الظهور بعد الخفاء، ويطلق على نشأة رأي جديد، لم يكن موجوداً من قبل. وكلا المعنيين يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال على الله سبحانه وتعالى.

ويفرق بين البداء والنسخ: بأن في البداء يأمر الآمر، وهو لا يدري ما يؤول إليه الحال، بخلاف النسخ.

كما أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول.

كما يفرق بينهما بأن النسخ يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن له ملك السماوات والأرض، فله أن يأمر بما يشاء، ويقرر ما يشاء، ويمحو ما يشاء؛ لأنه المالك والمليك.

أما البداء فإن صاحبه إنما يأمر بخلاف أمره الأول لمصلحة أخطأه وجهله في الأمر الأول.

5 -

قد دل على مشروعية النسخ أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كما دل عليه أدلة من العقل.

ولا خلاف في مشروعيته وجوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، إلا ما روي عن بعض اليهود إنكارهم للنسخ؛ حيث زعم بعضهم عدم جوازه لا عقلاً ولا شرعاً، وزعم بعضهم جوازه عقلاً لا شرعاً، وزعم بعضهم عكس ذلك.

ويرد على مزاعمهم: بان النسخ وجد في شريعة موسى عليه السلام؛ حيث إن الشحوم كانت مباحة لهم، وكذلك الاصطياد يوم السبت، ثم حرم ذلك عليهم.

وروي كذلك عن شرذمة من المسلمين إنكارهم للنسخ، لكنهم لم ينكروا نسخ الشرائع السابقة بشريعة الإسلام، بل أنكروا وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية.

ويرد عليهم: بأن قولهم مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، كما أنه مخالف للواقع.

6 -

وقوع النسخ في الشريعة له حِكَم كثيرة، منها: الحفاظ على مصالح العباد، والتدرج في تشريع الأحكام، والرحمة بالعباد والتخفيف عنهم، وبيان كمال الشريعة الإسلامية وأنها تفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وأنها تصلح للأفراد والمجتمعات بجميع أشكالها وألوانها، وتصلح لكل زمان ومكان.

7 -

من شروط النسخ: أن يكون بدليل شرعي، وأن يكون المنسوخ حكماً شرعياً، وأن

لا يكون الحكم السابق مقيداً بوقت، وأن يكون الحكم في الناسخ متناقضاً لحكم المنسوخ بحيث لا يمكن العمل بهما جميعاً، وأن يكون الحكم المنسوخ متقدماً قبل ثبوت الحكم الناسخ، وأن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ ومتراخياً عنه.

8 -

النسخ الواقع في القرآن على ثلاثة أنواع: ما نُسخ تلاوته وحكمه معاً، وما نُسخ حكمه دون تلاوته، وما نُسخ تلاوته دون حكمه.

9 -

نسخ القرآن بالقرآن لا خلاف في جوازه ووقوعه بين من قال بجواز النسخ.

أما نسخ القرآن بالسنة ففيه قولان لأهل العلم: الجواز وعدمه. لكن الأظهر أنه لا مانع من نسخ القرآن بالسنة، وإن كان في وقوعه خلاف قوي.

10 -

لا خلاف في جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة، والآحادية بالمتواترة، والآحادية بالآحادية.

أما نسخ السنة المتواترة بالآحادية، فذهب الجمهور إلى عدم جوازه. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك ووقوعه، ويظهر رجحان هذا القول لقوة دليله.

11 -

يجوز نسخ السنة بالقرآن عند أكثر أهل العلم، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جوازه، وقول الجمهور أقوى وأرجح؛ لوقوع نسخ السنة بالقرآن في غير ما مسألة، وعدم وجود دليل واضح يمنع من ذلك.

12 -

الأحكام الشرعية التكليفية يقع نسخها على أوجه مختلفة، فالفرض والواجب قد ينسخ من الوجوب إلى المنع، وقد ينسخ إلى الاستحباب، وقد ينسخ إلى الإباحة.

والمندوب والمستحب قد ينسخ من الاستحباب إلى الوجوب، وقد ينسخ إلى التحريم، وقد ينسخ إلى الإباحة.

والمباح قد ينسخ من الإباحة إلى التحريم، وقد ينسخ إلى الكراهة، وقد ينسخ إلى الوجوب.

والحرام قد ينسخ من التحريم إلى الاستحباب والندب، وقد ينسخ إلى الإباحة.

13 -

النسخ قد يكون إلى بدل من حكم شرعي، وقد يكون إلى غير بدل، ثم النسخ إلى بدل قد يكون إلى مثله في التخفيف والتغليظ، وقد يكون إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق، وقد يكون إلى أغلظ وأثقل من الحكم السابق.

14 -

لا يكون النسخ إلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، وهو قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الإجماع فليس بناسخ؛ لأنه لا يصح إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الإجماع قد يكون دليلاً على النسخ.

ثم النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون بعد العلم والعمل بالمنسوخ، وهو يجوز بلا خلاف، وقد يكون بعد العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه، وقبل العمل به، أو قبل التمكن من العمل به، وهو يجوز عند جمهور أهل العلم، وهو الصحيح والأقوى لوجود ما يدل على وقوعه.

أما النسخ قبل العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه فلا يجوز بلا خلاف.

15 -

يدخل النسخ ويقع في الأمر والنهي- ولو بلفظ الخبر- الدالان على الأحكام الشرعية العملية من العبادات والمعاملات.

ولا يقع النسخ في أصول الاعتقاد، وأصول العبادات والمعاملات، وأمهات الأخلاق، ومدلولات الأخبار المحضة.

16 -

لمعرفة النسخ طرق، منها: أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما، سواء كان في اللفظ ما يصرح بذلك، أو يكون لفظ النص متضمناً التنبيه على النسخ.

ومنها: إجماع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر.

ومنها: أن يرد عن طريق صحيح عن أحد من الصحابة ما يصرح بتقدم أحد النصين على الآخر.

ومنها: أن ينقل ويثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم شيء، ثم يثبت عنه من فعله حكماً يخالف الحكم السابق.

ومنها: أن يعلم بالتاريخ تقدم أحد الدليلين على الآخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم.

أما قول أحد الصحابة: هذا ناسخ وهذا منسوخ، فهو أحد طرق معرفة النسخ عند بعض أهل العلم، وليس هو من طرق معرفة النسخ عند الجمهور.

وليس من طرق معرفة النسخ أن يكون الراوي لأحد النصين أسلم بعد موت الراوي

للنص المعارض له، كما ليس من طرقه كون أحد الراويين أسلم قبل الآخر، أو أن يكون من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر، أو أن يكون أحد النصين قبل الآخر في المصحف.

كما ليس من طرق معرفته عند الجمهور كون أحد النصين موافقاً للبراءة الأصلية دون الآخر، وهو الأقوى والأرجح.

أما إذا روى الصحابي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمل أو أفتى على خلافه، فهو أحد طرق معرفة النسخ عند بعض أهل العلم، وليس هو من طرقه عند الجمهور، وهو الأقوى والأرجح لأن عمله على خلاف ما رواه محتمل عدة احتمالات، فلا يتعين النسخ.

كما أن عمل أهل المدينة على خلاف حكم شرعي لا يدل على نسخه عند الجمهور،

خلافاً للبعض؛ وذلك لأن عملهم على خلاف حكم ليس بإجماع حتى يكون دليلاً على النسخ، كما أنه ليس دليلاً آخر مما ينسخ به.

17 -

لأهمية موضوع النسخ بدء فيه التأليف منذ زمن مبكر؛ ثم بعض أهل العلم ألف في ناسخ القرآن ومنسوخه، وبعضهم ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، وبعضهم ألف في كلتيهما.

وأول من ألف في ناسخ القرآن ومنسوخه قتادة بن دعامة السدوسي، ثم استمر فيه التأليف إلى العصر الحاضر.

أما أول من ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، فقيل إنه الزهري؛ حيث روي عنه أنه قال:(لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني). ثم ألف فيه كثير من أهل العلم، واستمر ذلك إلى العصر الحاضر.

ص: 1

18 -

يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، ويستحب غسله ثمانياً؛ وذلك: أما وجوب السبع فلصحة الروايات في ذلك بالاتفاق.

أما استحباب الغسل ثمانياً إحداهن بالتراب؛ فلظاهر حديث عبد الله بن المغفل: (وثامنهن بالتراب). ولولا الاحتمال الذي ذكر في الجمع بين هذه الرواية وروايات السبع لكان القول بوجوب الغسل ثمانيا أرجح.

أما ادعاء نسخ ما يدل على غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً بالغسل ثلاثاً فقول ضعيف بل مردود؛ وذلك لأن وجه الاستدلال مما استدلوا به على النسخ غير ظاهر، وغير صحيح، لأن غاية ذلك أمران: الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بالثلاث، وهو راوي السبع، وهو لا يخالف إلا إلى ما علم نسخه.

ويرد على هذا: بأنه احتمال، والنسخ لا يثبت به، ثم إن أبا هريرة رضي الله عنه كما روي عنه أنه أفتى بالغسل ثلاثا فكذلك قد صح عنه أنه قال بالغسل سبعًا، وهذا أصح سندًا، وكذلك نظرًا؛ لموافقة فتياه لما رواه مرفوعًا.

كما أن مخالفته لروايته يطرق له عدة احتمالات، فلا يتعين النسخ.

الأمر الثاني مما بنوا عليه النسخ: أن التشديد كان في أمر الكلاب في أول الأمر؛ حيث أمر

بقتلها فكان ذلك يناسب التشديد في سؤرها فكان الغسل من ولوغها سبعًا، فلما نسخ الأمر بقتلها خفف في سؤرها فجعل الغسل منه ثلاثا، ونسخ الغسل سبعاً.

ويرد على هذا: بأن أبا هريرة وابن المغفل ممن روى السبع وهما أسلما سنة سبع من الهجرة، والأمر بقتل الكلاب كان في أوائل الهجرة، على أن في حديث ابن المغفل ما يدل على أن الأمر بالغسل سبعًا بعد نسخ الأمر بقتل الكلاب، وعلى هذا فلا يصح الاستدلال مما قالوه على النسخ.

19 -

يجوز الانتباذ والشرب من الدباء والحنتم والنقير والمزفت، وغيرها من الأوعية التي جاء النهي عن الانتباذ فيها، وأن النهي الوارد في ذلك قد نسخ بالرخصة التي وردت بعد ذلك، وأن الأحاديث الواردة في الرخصة فيها أحاديث ثابتة صحيحة، تصرح وتنص على النسخ.

20 -

يجوز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ وأنها تطهر بذلك. والآثار الواردة في ذلك ثابتة صحيحة في الجملة محكمة غير منسوخة، وأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وحديث عبد الله بن عكيم الدال على عدم الانتفاع من جلود الميتات: إما بأن الإهاب هو الجلد قبل الدباغ فيحمل النهي على ذلك، ويحمل الأحاديث التي تدل على جواز الانتفاع به على ما بعد الدباغ، فيستعمل الإهاب بعد الدباغ ويحظر قبل ذلك.

وإما بأن حديث عبد الله بن عكيم عام في النهي، والأحاديث الدالة على التطهير بالدباغ مخصصة للنهي بما قبل الدباغ، مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ، والخاص يقدم على العام، فيبني العام على الخاص.

وإما بأنه كان يباح أول الأمر الانتفاع بأهب الميتة دبغت أم لا، ثم جاء النهي عن الانتفاع بها قبل الدباغ، وبقي الأمر في المدبوغ على الرخصة السابقة، فالمنسوخ هو الانتفاع بالإهاب قبل الدباغ، أما بعد الدباغ فلا يشمله النهي، ولم يحرم ذلك قط، فلا يكون منسوخاً.

وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى النسخ.

21 -

سؤر الهر طاهر؛ وذلك لكثرة ما يدل عليه، وقوته، وصراحته، وصحته بالنسبة إلى أدلة الأقوال المعارضة له.

أما ادعاء نسخ ما ورد في نجاسة الهر وسؤره، فغير صحيح لوجهين: الأول: أن الروايات في ذلك مختلف في صحتها وضعفها، ورفعها ووقفها على أبي هريرة رضي الله عنه، والنسخ إنما يكون لحكم شرعي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه على تقدير صحة ورفع ما ورد في نجاسة الهر وسؤره، فليس هناك دليل يدل على أن ما ورد في طهارته متأخرة عن ذلك، كما أنه لا دليل على عكس ذلك، حتى يكون أحد الدليلين ناسخا للآخر، لذلك لا يصح القول في المسألة بالنسخ.

22 -

إن البول قائماً مكروه كراهة تنزيه، وأنه خلاف الأولى؛ وذلك لأن من عادته صلى الله عليه وسلم الغالبة وأكثر أحواله البول عن قعود، ويدل على ذلك حديث عائشة وعبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنهما.

وخلاصة الأحاديث الواردة في البول هو أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من فعله أنه بال قائماً، وثبت عنه من فعله أنه كان يبول قاعداً، وكان ذلك عادته الغالبة، وروي عنه من قوله ما يدل على النهي عن البول قائماً، ثم ما روي عنه من البول قائماً من فعله يحتمل أن يكون لعذر، ويحتمل أن يكون لغير عذر بل للتشريع وبيان الجواز، وإذا احتمل بوله صلى الله عليه وسلم قائماً بين كونه عن عذر، وبين كونه عن غير عذر، دل ذلك على أنه خلاف الأولى، فكان تركه أولى.

أما ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على جواز البول قائماً، فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد دليل يدل على تأخر أحاديث المنع من ذلك على أحاديث الإباحة، حتى تكون ناسخة لها، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ، على ما يخالفه.

ولأنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث، وذلك بحمل ما ورد في النهي على الكراهة وخلاف الأولى، وحمل ما يعارضه على الجواز، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً فإنه لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها.

23 -

يستحب للشخص أن يجتنب استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط مطلقاً؛ وذلك عملاً بإطلاق الأحاديث الدالة على النهي مطلقاً، وخروجاً من خلاف العلماء.

ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء، ويباح في البناء؛ وذلك لأن على هذا يجمع بين جميع الأحاديث الواردة في المسألة، ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنه:(إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس).

وكان هذا القول راجحاً؛ لأنه إذا أمكن العمل بجميع الأدلة فهو أولى من إلغاء بعضها، كما أنه لا يصار إلى النسخ ما لم يتعذر الجمع، وهاهنا حصل الجمع فكان القول به أولى من القول بالنسخ.

24 -

يجوز الوضوء بفضل طهور المرأة مطلقاً أي سواء خلت به أم لا؛ وذلك لصحة الأحاديث الواردة في ذلك وكثرتها.

أما الأحاديث التي تدل على المنع من تطهر الرجل بفضل طهور المرأة، فيمكن أن يكون المراد بها الكراهية التنزيهة وخلاف الأولى، وبذلك يجمع بين هذه الأحاديث وأحاديث الجواز المطلق.

أما ادعاء نسخ ما يدل على النهي، فقول محتمل، لكن لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة، وهنا حصل الجمع بينها.

لكن إذا أريد بأحاديث النهي عن تطهر الرجل بفضل طهور المرأة التحريم فيكون القول بالنسخ راجحاً؛ وذلك لأن ميمونة رضي الله عنها-روت النهي عن التطهر بفضل طهور المرأة، وروي عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ أو اغتسل بفضل غسلها من الجنابة، وكان في روايتها هذا، ورواية ابن عباس رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(إني كنت جنباً) فدل هذا وروايتها في النهي، على أن النهي متقدم، ثم اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الماء دليل على نسخ النهي المتقدم.

ص: 2

25 -

إن من لم يجد الماء ووجد النبيذ، فإنه يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ؛ وذلك لأن ظاهر الكتاب والسنة يدلان على أن الوضوء لا يجزئ إلا بالماء، ومن لم يجده تيمم بالصعيد الطيب.

ولأن ما ورد في الوضوء بالنبيذ كل طرقها فيها كلام، إما لضعف راو فيها، أو لجهالته، ولذلك جزم غير واحد من أهل العلم من المحدثين والفقهاء بضعف كل ما ورد فيه.

ولأنه إن صح خبر الوضوء بالنبيذ فيكون منسوخاً بآية التيمم؛ لأن ذلك كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة بلا خلاف، فتكون ناسخة له.

26 -

يجوز أن تصلى صلوات عديدة بوضوء واحد، ولا يجب الوضوء إلا من الحدث؛ وذلك لأن الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، تحتمل الوجوب، وتحتمل الندب والاستحباب، وحملها على الاستحباب أولى؛ بدلالة الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلوات عديدة بوضوء واحد، وبذلك يُجمع بين هذه الأحاديث كلها، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها.

أما إن حملت الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة على الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلوات بوضوء واحد، كحديث سويد بن النعمان، وحديث بريدة، وعبد الله بن حنظلة-رضي الله عنهم؛ حيث إنها متأخرة، ثم حديث عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه صريح في ذلك؛ حيث ذكر فيه وضع الوضوء بعد الأمر به إلا من حدث.

27 -

يجوز ذكر الله تعالى بغير وضوء، وذلك: لورود أحاديث كثيرة صحيحة، تدل على جواز ذكر الله تعالى بغير وضوء، وقد نقل النووي إجماع الأمة على ذلك.

أما ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على كراهة ذكر الله بغير وضوء، بالأحاديث الدالة على الجواز، فإن له وجه؛ لأن حديث علقمة بن الفغواء يدل على ذلك، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن حديث ابن عباس يؤيده، وهما بمجموعهما يدلان على أن الوضوء إنما يلزم للصلاة خاصة

لا للذكر والطعام وما شابههما.

28 -

يستحب الوضوء للجنب إذا أراد النوم؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك.

أما ادعاء نسخ ما يدل على استحباب الوضوء إذا أراد النوم فغير صحيح؛ لأن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخ لبعضها، ثم الأحاديث الدالة على الوضوء للجنب إذا أراد النوم أقوى وأصح مما يخالفها؛ لخلوها عن أي كلام فيها، بخلاف ما يخالفها، فكيف يقال بنسخها بما لا يقاومها؟.

ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

29 -

يستحب الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود للجماع، ولا بأس بتركه، وذلك لصحة الأحاديث في ذلك، وإمكان الجمع بين جميع الأحاديث الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

كما أن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخة لبعضها.

30 -

يستحب الوضوء مما مست النار ولا يجب إلا من لحم الجزور؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك، وعدم معارضتها لأحاديث ترك الوضوء مما مست النار، وذلك بحملها على الخصوص.

لكن الأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، إن كان المراد بها الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي تدل على ترك الوضوء منه؛ لتأخرها عليها، إلا لحم الإبل فإنه يجب الوضوء منه، وليس ذلك من المنسوخ؛ لأن الأمر بالوضوء منه جاء مع ترك الوضوء من لحم الغنم، وهو مما مست النار، فدل ذلك على تخصيص لحم الإبل من عموم ترك الوضوء مما مست النار.

31 -

بعد عرض الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر، وفي الترك منه، يظهر لي والله أعلم بالصواب-أن حديث بسرة، وطلق-رضي الله عنهما-صحيحان، وأن الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر أقوى وأصح وأكثر من الأحاديث الواردة في ترك الوضوء منه.

لكن القول بنسخ حديث طلق رضي الله عنه بحديث بسرة وأبي هريرة رضي الله عنهما احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بتوقيف أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويُعلم مع ذلك المتأخر، والجمع هنا ممكن؛ وذلك بحمل حديث طلق رضي الله عنه على عدم وجوب الوضوء منه، وحمل حديث بسرة رضي الله عنه وما في معناه على استحباب الوضوء منه.

لكن العمل بحديث بسرة-رضي الله عنها أولى؛ خروجاً من خلاف العلماء، وعملاً بالأحوط من أمر الدين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .

32 -

إن مس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أم لغير شهوة؛ وذلك لإن قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}

يحتمل الجماع وما دونه، إلا أن الأحاديث التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مس بعض أزواجه وقبلها ولم يتوضأ، تصلح أن تكون بياناً لمراد الآية، وأن لمس النساء ليس بناقض.

أما إن ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على عدم نقض الوضوء بمس النساء بالآية الكريمة فغير صحيح، إذ ليس عليه أي دليل.

33 -

إن فرض الرجلين الغسل إذا لم يكن عليهما خف؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} سواء كانت الأرجل مخفوضة أو منصوبة، فإن المأمور به في الآية هو الغسل، ويؤكده تقييد الرجلين بالكعبين.

ولكثرة ما استُدل به لهذا القول مع صحتها وصراحة دلالتها على الغسل؛ حيث بلغت حد التواتر قولاً وفعلاً، وهي محكمة لا يتطرق إليها أي احتمال.

أما الأحاديث الواردة في المسح على القدمين، أو المسح على القدمين والنعلين، فإنها وردت بطرق وألفاظ مختلفة، وهي تفسر بعضها البعض، ويتبين من مجموعها أنه أطلق فيها على المسح على الخفين: المسح على القدمين، والمسح على الرجلين.

ثم على تقدير أن المراد بالمسح في هذه الأحاديث مسح الرجلين والقدمين المخلاتين عن الخفين، فتكون منسوخة؛ وذلك لتأخر آية المائدة، والأمر بإسباغ الوضوء بعد المسح على الرجلين، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ويؤيد ذلك قول هشيم أن المسح على القدمين كان في أول الإسلام.

34 -

يجوز المسح على الخفين؛ للأحاديث المروية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وقد بلغت حد التواتر بلا خلاف، مع صحتها وصراحتها في الدلالة على المطلوب.

ولعدم وجود أي دليل يدل على عدم جواز المسح على الخفين. أما آية الوضوء وأحاديث غسل القدمين فهي في حالة عدم لبس الخفين، ولا تباين بين الدليلين لتباين الحالتين.

أما الزعم بأن آية الوضوء متأخر وناسخ للمسح فمجرد شبهة ووهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين قبل نزول المائدة وبعدها، كما دل عليه حديث جرير رضي الله عنه وغيره.

35 -

إن المسح على الخفين موقت للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة؛ وذلك لأن الأحاديث الدالة على التوقيت مع صحتها، وصراحتها، كثيرة حتى بلغت حد التواتر.

أما الأحاديث الدالة على عدم التوقيت-على تقدير ثبوتها وصحتها- فمحتملة لأن تكون منسوخة بالأحاديث الدالة على التوقيت، كما قاله ابن قدامة؛ لوجود ما يدل على تأخرها وهو حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه؛ حيث دل أن الأمر بالمسح والتوقيت فيه كان في غزوة تبوك، وليس بين غزوة تبوك ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مدة يسيرة.

ص: 3

36 -

إن مسح اليدين في التيمم إلى المناكب إن كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو منسوخ كما ذكره الإمام الشافعي-رحمه الله وغيره؛ لأن ذلك كان عند نزول آية التيمم، والأحاديث الدالة على مسح اليدين إلى الكفين أو إلى المرفقين متأخرة عنه، يدل على ذلك حديث عمار رضي الله عنه في مسح اليدين إلى المناكب، وحديثه في مسح اليدين إلى الكفين.

أما تحديد ما يمسح من اليدين في التيمم فإن حديث عمار رضي الله عنه ورد بذكر الكفين، وهو أصح حديث ورد في صفة التيمم. وورد بذكر المرفقين، لكن فيه مقال.

والأحاديث الواردة في مسح اليدين إلى المرفقين كثيرة، لكن بعضها ضعيف، وبعضها صحيح لكنه اختلف في رفعه ووقفه، وأكثر الحفاظ على عدم رفعه. إلا أن بعض أهل العلم قد صحح بعض تلك الأحاديث مرفوعاً.

ومع هذا فالذي يظهر راجحاً هو أنه يجوز الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم؛ لقوة حديث

عمار رضي الله عنه وصحته، وكون عمار يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

إلا أن الأولى مسح اليدين إلى المرفقين؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في ذلك وإن كان فيها ضعفاً إلا أنها بمجموعها تفيد أن لها أصلاً، ويقويها ما صح عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما حيث أنهما مسحا أيديهما في التيمم إلى المرفقين، وذكرا أن التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.

37 -

يجب الغسل من الجماع وإن لم ينزل، وأن ترك الغسل منه إذا لم ينزل قد نسخ؛ وذلك لأنه قد ورد أحاديث صحيحة في ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل، وورد كذلك أحاديث صحيحة في وجوب الغسل منه وإن لم ينزل، إلا أنه جاء أحاديث أخر تدل على أن ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل كان في أول الإسلام، وأن وجوب الغسل منه متأخر، فدل ذلك على نسخ الأمر الأول.

ولأن بعض الصحابة رووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على جواز ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل، وقال بها، ثم قد رجع عن قوله ذلك، فدل ذلك على نسخ الأحاديث الدالة على ترك الغسل من الجماع إذا لم ينزل؛ إذ لو لم يكن منسوخة عنده لما رجع عنه.

38 -

إن القول بنسخ وجوب غسل الجمعة له وجه واحتمال، إلا أن في الأحاديث الدالة على ذلك ضعفاً.

وإن الأحاديث الواردة في الأمر بالغسل للجمعة أقوى وأصح وأصرح في الدلالة، بالنسبة إلى الأحاديث الدالة على جواز ترك الغسل، إلا أن فيها أحاديث صحيحة؛ لذلك يكون القول بالجمع بين هذه الأحاديث أولى، وذلك بحمل الأحاديث الآمرة على الاستحباب والسنية، وحمل ما يدل على الترك على الجواز، ولا تنافي بين ذلك، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

لكن يتأكد غسل الجمعة في حق من يكون عامل نفسه، يعمل بيديه ويتعرق، فيلزمه الاغتسال لئلا يتأذى الناس؛ كما يدل عليه حديث عائشة وابن عباس-رضي الله عنهما.

39 -

يستحب الغسل من غسل الميت ولا يجب؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل). وبه يجمع بين جميع الأحاديث.

أما ادعاء نسخ ما يدل على الغسل من غسل الميت فضعيف وغير صحيح؛ لأن الأحاديث الواردة فيها، ليس فيها ما يدل على النسخ، إلا حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً:«نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل» وهو صريح في الدلالة على النسخ إلا أنه ضعيف لا يقوي على النسخ.

أما بقية الأحاديث فالاستدلال منها على أنها المتأخرة والناسخة لأحاديث الغسل من غسل الميت، فاحتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، بل بصريح ويكون متأخراً، وهو ما لا يوجد هنا.

40 -

إن ادعاء نسخ غسل المستحاضة لكل صلاة أو غسلها لتجمع به بين الصلاتين، بالوضوء لكل صلاة محتمل، إلا أن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة أولى من القول بالنسخ، وذلك بحمل الأمر الوارد فيها بالوضوء على الوجوب، وحمل الأمر الوارد فيها بالغسل لكل صلاة، أو بالغسل لتجمع به بين الصلاتين على الاستحباب.

ثم إن الواجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، لكن الأفضل لها والأولى الغسل لكل صلاة، ثم الغسل لتجمع به بين الصلاتين، وبهذا يجمع بين هذه الأحاديث كلها.

41 -

الصلوات المكتوبة هي خمسة فقط، وحديث أنس رضي الله عنه يدل على أن الله سبحانه وتعالى فرض ليلة المعراج خمسين صلاة، ثم نسخ ما زاد على الخمسة.

42 -

إن ضرب الصبي على الصلاة إذا بلغ عشراً ليس بمنسوخ، وأنه يضرب عليها للتدريب والتمرين لا لوجوبها عليه-وذلك لأن القول بنسخه احتمال ضعيف؛ لأنه ليس هناك أي دليل على تأخر الأحاديث الدالة على عدم تكليفه على الأحاديث الدالة على ضربه على الصلاة إذا بلغ عشراً، أما رفع القلم عنه فالمراد به عدم تكليفه، ولا منافاة بين عدم تكليفه وضربه على الصلاة للتدريب والتمرين. وبذلك يجمع بين هذه الأدلة كلها.

43 -

يجوز التغليس والإسفار بصلاة الصبح؛ لأن الكل وقت للفجر.

والأحاديث الدالة على التغليس وأن ذلك كان غالب أحواله صلى الله عليه وسلم، أكثر، وأقوى وأصح، لكن الإسفار بصلاة الصبح فيه كذلك أحاديث صحيحة.

والقول بأن التغليس بصلاة الصبح منسوخ، مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة

على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بغلس. ولا يوجد دليل يدل على أن الأمر بالإسفار كان بعد ما كان يغلس بها، وأنه لم يغلس بها بعد ذلك.

أما القول بأن الإسفار بها منسوخ بالتغليس بها، فله وجه واحتمال، لكنه ضعيف؛ وذلك لأن الحديث الدال على ذلك هو حديث أبي مسعود رضي الله عنه وفي الاستدلال منه على النسخ يلزم القول بنسخ التغليس أولاً؛ لأن الإسفار جاء بعده، ثم نسخ الإسفار بالتغليس ثانياً، ولا قائل بذلك.

كما أن الزيادة المذكورة فيها والتي يستدل منها على النسخ، زيادة من أحد الرواة قد تكلم فيه، ثم هي مخالفة للأحاديث الدالة على الإسفار.

44 -

يستحب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر؛ وذلك لأن الأحاديث الدالة على التعجيل بها في شدة الحر منسوخة؛ لأن مع الأحاديث الدالة على الإبراد بها في شدة الحر ما يدل على تأخرها، وأن الأمر بالإبراد كان بعد ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجل بها ويصليها بالهاجرة؛ حيث جاء في رواية:(وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد). وهذا ظاهر في تأخر الأمر بالإبراد بها، ونسخ التعجيل بها.

45 -

إن لصلاة المغرب وقتان؛ وذلك لأن الأحاديث الدالة على ذلك صريحة الدلالة، وهي أصح وأقوى وأكثر، بخلاف ما يخالفها، فإنها ليست في درجتها.

ولأن حديث جبريل عليه السلام والذي يُستدل منه على أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقتاً واحداً، لا يخلو من أمرين:

أ - إما أن يكون المراد منه بيان وقت الاختيار والاستحباب، وعليه فلا تعارض بينه وبين الأحاديث الدالة على أن آخر وقت المغرب غروب الشفق.

ب - وإما أن يكون المراد منه بيان وقت الجواز، وعليه فيكون منسوخاً؛ لأنه كان بمكة عند أول فرض الصلاة، والأحاديث الدالة على أن آخر وقت المغرب غروب الشفق متأخرة؛ حيث جاءت في المدينة بعد الهجرة، فوجب تقديمها في العمل.

46 -

إن آخر وقت العشاء الآخرة يمتد إلى طلوع الفجر؛ وذلك لحديث أبي قتادة رضي الله عنه فإنه عام يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى وقت الأخرى، إلا أن الفجر مخصوص من ذلك بالإجماع.

أما القول بأن حديث أبي قتادة رضي الله عنه ناسخ للأحاديث الدالة على أن وقتها ثلث الليل أو نصف الليل، فليس هناك دليل يدل على أن حديث أبي قتادة رضي الله عنه بعد تلك الأحاديث، ثم يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وحديث أبي قتادة رضي الله عنه، وذلك بحمل هذه الأحاديث على بيان وقت الأفضل والاختيار، وحمل حديث أبي قتادة رضي الله عنه على بيان آخر الوقت، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة، ولذلك لا يبقى أي احتمال للقول بالنسخ.

ص: 4

47 -

ثبت النهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين، سواء قيل بأنه كان مشروعاً ثم نسخ أم لا، إلا أنه إن ثبت أنه كان يُصلى ذلك في أول الإسلام، فالنهي بعد ذلك عنه ناسخ له، وإلا فالقول بالنسخ مجرد احتمال، مع صحة النهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين.

48 -

إن المصلي إذا أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة، وكذلك إذا أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة؛ وذلك لصحة الأحاديث الدالة على ذلك وصراحتها.

ولضعف قول من قال بنسخ تلك الأحاديث وعدم صحته، إذ لا دليل عليه، كما أنه يمكن الجمع بين تلك الأحاديث، وعند إمكان الجمع بين الأدلة لا يقال بالنسخ.

49 -

إن القول بنسخ النهي عن الصلاة وسط النهار قول ضعيف ومردود؛ إذ ليس عليه أي دليل.

ولا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة عند وسط النهار وغيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

لكنه يستثنى من هذا النهي الصلاة التي لها سبب، وفي غيرها يبقى على العموم، وبذلك يمكن الجمع بين الأحاديث كلها الواردة في المسألة، والجمع بين الأحاديث أولى من ترك بعضها.

50 -

إن القول بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس قول ضعيف

ومردود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى ركعتين بعد العصر، ولم يصل عند غروب الشمس، والنهي عن الصلاة عند الغروب أشد منه عن الصلاة بعد العصر، فلا يصح الاستدلال من الصلاة بعد العصر على نسخ النهي عن الصلاة عند غروب الشمس. ثم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كان من خصائصه، كما دل عليه بعض الأحاديث.

كما أن القول بنسخ الصلاة بعد العصر ضعيف؛ لأن عائشة-رضي الله عنها حكت أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الركعتين بعد العصر حتى لقي الله تعالى، فكيف يقال بنسخ ذلك ولا يعلم تاريخ النهي، أما فعله صلى الله عليه وسلم الركعتين فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم داوم عليها حتى الموت.

ولا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وكذلك في غيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

لكن يجوز أن يصلى بعد العصر قبل اصفرار الشمس ما يوجد له سبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته الركعتان بعد الظهر صلاهما بعد العصر.

51 -

يستحب أن يقيم من أذن؛ وذلك جمعاً بين الأدلة.

أما دعوى نسخ ما يدل على جواز أن يؤذن أحد ويقيم غيره، فغير صحيح؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأدلة، وفي هذه المسألة أمكن الجمع بينها.

52 -

يجوز الإقامة بصفتيه الشفع والإيتار؛ وذلك لأن بلالاً رضي الله عنه كان مؤذناً في المدينة، وأبو محذورة رضي الله عنه كان مؤذناً في مكة، وقد روي عن كل منهما تثنية الإقامة وإفرادها، وهو دليل للتخيير وإباحة كلا الصفتين، ورد لقولي النسخ المتضادين.

ولكن الأولى إيتار الإقامة؛ لكون الحديث الدال عليه أصح وأثبت من أحاديث تثنيتها.

53 -

إن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة؛ وذلك قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فإنه ظاهر في الثياب الملبوسة، وأن معناه طهرها من النجاسة. كما يدل عليه غير ما حديث.

ولأن الأدلة التي استدل بها من قال بعدم اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة يتطرق إليها احتمالات، وبعضها كان بمكة فيتطرق إليها كذلك احتمال النسخ، لأن الأحاديث الدالة على إزالة النجاسة متأخرة؛ لأنها مدنية، بخلاف أدلة من قال باشتراط اجتناب النجاسة

لصحة الصلاة، فإن فيها ما لا يتطرق إليها احتمالات، لذلك كان القول بها متعيناً.

54 -

إن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بالماء، وكذلك بالجفاف إذا ذهب أثرها، وبهذا يجمع بين الأحاديث المختلفة، وذلك بحمل حديث صب الماء على البول بما إذا كان أثر النجاسة موجوداً وأريد تعجيل التطهير، فإن تطهيرها يكون بالماء، وحمل حديث ابن عمر في عدم رش الماء على بول الكلاب بما إذا جفت الأرض وذهب أثر النجاسة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

55 -

بول ما يؤكل لحمه طاهر؛ وذلك لأدلة كثيرة مع صحتها وصراحتها، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنها ليست نصاً في المسألة، وتحتمل أكثر من احتمال.

أما دعوى نسخ ما يدل على طهارة بول ما يؤكل لحمه فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد دليل على أن حديث: (استنزهوا من البول) كان بعد حديث العرنيين، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ، ولا يثبت ذلك بالاحتمال.

ولأنه لا يصار إلى النسخ إلا عند عدم التوفيق بين النصين، وهنا يمكن التوفيق بينهما، وذلك بحمل حديث (استنزهوا من البول) على بول الإنسان، أما حديث العرنيين فهو في بول الإبل، ولا منافاة بينهما.

ومع هذا ينبغي أن يصلي الشخص نظيف الثوب والبدن والمكان، وأن يتوقى جميع أنواع الأبوال؛ خروجاً من خلاف العلماء، وأداءً للفريضة على يقين.

56 -

لا يجوز الصلاة في الأماكن التي ثبت وصح النهي عن الصلاة فيها، وإن الأحاديث الدالة على ذلك محكمة غير منسوخة؛ وذلك لأن الأحاديث التي تدل على المنع من الصلاة في تلك الأماكن صريحة في النهي، وهي تدل على التحريم وعدم الجواز، وحملها على الكراهة غير صحيح؛ لأن الأصل في النهي التحريم وعدم الجواز.

ولأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر، واتخاذها مساجد، وحمل هذه الأحاديث على الكراهة دون التحريم بعيد؛ لأنه جاء فيها أن من يتخذ القبور مساجد فهم شرار الخلق عند الله تعالى، كما جاء فيها اللعن على يتخذ القبور مساجد.

ولأن الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة في بعض الأماكن لا تعارض بينها وبين

حديث: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ؛ لأنها مخصصة من عمومه.

ولأنه لا يصح القول بتأخر حديث: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) عن الأحاديث الدالة على النهي حتى يكون ناسخاً لها؛ لأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد، وهي متأخرة جداً؛ لأنه جاء في حديث عبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم عند الموت لعن على من فعل ذلك، فثبت من ذلك ضعف قول من قال بالنسخ، كما تبين أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث كلها، وأن الأرض كلها مسجد إلا ما ثبت النهي عن الصلاة فيه.

57 -

إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما هاجر إلى المدينة صلى قبل بيت المقدس سنة وبضعة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى بيت الله الحرام، ونسخ كون بيت المقدس قبلة، وصارت قبلة المسلمين الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام.

58 -

إن الراجح هو أن يرفع المصلي يديه عند الركوع وعند الرفع منه وإذا قام من الركعتين، وأن ذلك سنة من سنن الصلاة؛ وذلك لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك؛ حيث بلغت حد التواتر، مع صحتها، واستقامة أسانيدها، بخلاف أدلة القول المعارض له.

أما الادعاء بأن رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح منسوخ أو غير مشروع فقول ضعيف، ومردود؛ وذلك لأن ما استدلوا به على النسخ أمران:

أحدهما: ما روي عن ابن عباس وابن الزبير-رضي الله عنهما-مرفوعاً، وهما صريحان في النسخ، إلا أنهما ليس لهما أصلاً، ولم يذكرا في أي كتاب من كتب الحديث؛ فالاستدلال بهما في غاية السقوط؛ لأنهما لا أصل لهما، والأحاديث الدالة على الرفع متواترة، مع صحة أسانيد كثير منها واستقامتها، فكيف ينسخ ما لا أصل له ما هو ثابت عن رسول الله في أحاديث كثيرة مع صحة أسانيدها.

الأمر الثاني الذي استدلوا به على النسخ: هو أثر علي، وابن عمر رضي الله عنهما وهو أنهما رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على الرفع، ثم هما لم يرفعا، فدل ذلك على نسخ ما رويا.

وهذا كذلك غير صحيح؛ لأن عدم رفعهما محتمل عدة احتمالات، ثم إنهما روي عنهما

الرفع وعدم ذلك، فالاستدلال من تركهما الرفع على النسخ على احتمال أنهما رويا الرفع وعملا به، ثم تبين لهما النسخ فتركا العمل بالرفع، لا دليل عليه؛ لأنه ليس فيما روي عنهما أن تركهما الرفع كان بعد ما كانا يرفعان، ولذلك للمعارض أن يعكس فيقول: ترك الرفع منسوخ بالرفع؛ لأن علي وابن عمر-رضي الله عنهما كانا لا يرفعان قبل أن تقوم الحجة عندهما بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عندهما ذلك رفعا أيديهما. وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر؛ لعدم ما يدل عليه.

ولأن للمعارض أن يقول: إن ترك رفع اليدين في غير الافتتاح المروي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وغيره، وكذلك ما روي من فعل علي وابن عمر، وغيرهما رضي الله عنهم من ترك الرفع منسوخ بأحاديث الرفع؛ لأن عدم الرفع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه كان في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين؛ حيث ذكر معه التطبيق، وكان ذلك في ابتداء الإسلام، ثم صار التطبيق منسوخاً، وسُنّ رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه.

ص: 5

59 -

إن الراجح هو عدم سنية الجهر بالتسمية في الصلاة؛ وذلك لأن الأحاديث الدالة على عدم الجهر بها أقوي في الجملة وأصح، أما ما يُستدل منه على الجهر بها فإما ليس بصحيح أو ليس بصريح في الجهر بها.

ولأن الأحاديث التي يُستدل منها على الجهر بالبسملة تحتمل أن الجهر بها كان للتعليم أو كما يتفق، كما حصل في غير البسملة.

أما دعوي نسخ الجهر بالتسمية في الصلاة فاحتمال لكنه ضعيف؛ حيث إن الرواية الدالة على ذلك متكلم فيها، كما أن الأحاديث التي يُستدل منها على الجهر بها لا تخلوا من ضعف في نفسه أو في الاستدلال به.

60 -

إن السنة هو الأخذ بالركب في الركوع؛ وذلك لكثرة الأحاديث الدالة على ذلك مع صحتها.

أما التطبيق فهو وإن ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حديث سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما صريحان في نسخ ذلك، وأن ذلك كان أولاً، ثم جاء الأمر بعد ذلك بوضع اليدين على الركب في الركوع، فلذلك لا يبقى له حكم، ولا يصح الاحتجاج به

بعد ذلك.

61 -

إن القنوت مشروع في المكتوبات عند النوازل، وليس من السنن الراتبة في الفجر، وبهذا القول يمكن أن يجمع بين الأحاديث المختلفة في المسألة.

أما القول بنسخ القنوت في المكتوبات فضعيف، ويكفي لرده قنوت الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعد ما يقول:(سمع الله لمن حمده) فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار.

وترك النبي صلى الله عليه وسلم القنوت بعد مدة لم يكن لعدم بقاء مشروعيته، بل لزوال سببه؛ لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ.

كما أن القول بأن القنوت في الفجر من السنن الراتبة وأنه الناسخ لغيره ضعيف كذلك؛ وذلك لأن الأحاديث المستدل منها على ذلك إما غير صريحة في ذلك، أو لا تخلو من كلام فيها، ولو داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا فيه بدعاء لنقله الصحابة ولما أهملوا قنوته الراتب، وإذا انعدم ذلك، دل على عدم ذلك، ومن تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة.

62 -

يجوز القنوت في الصلوات عند النوزال، ويجوز فيه اللعن على الكفار ولو بذكر أسمائهم أو قبائلهم، ولم ينسخ ذلك، والمراد بترك القنوت المذكور في بعض الأحاديث هو تركه لزوال السبب، وليس المراد به الترك الكلي، بل قد قنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عند ما وجد السبب، كما دل عليه غير ما حديث؛ لذلك يجوز القنوت ولعن الكفار في النوازل.

63 -

يجوز القنوت قبل الركوع وبعده، لما روى أنس رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت بعد الركعة وأبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه حتى كان عثمان رضي الله عنه قنت قبل الركعة ليدرك الناس» .

لكن الراجح في النوازل هو القنوت بعد الركوع؛ وذلك لأن أكثر من نقل ذلك عن الصحابة ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بعد الركوع.

أما القنوت في الوتر فالراجح أن محله قبل الركوع؛ لأن الأدلة الدالة عليه بعضها صريح في ذلك، وهي بمجموعها تصلح للاحتجاج بها، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنها ليست في مرتبتها.

أما ادعاء نسخ القنوت بعد الركوع فضعيف بل لا يصح، وكأن القول به مبني على القول بنسخ القنوت في المكتوبات، وهو غير صحيح كما سبق ذكره.

64 -

إن الأحاديث الدالة على تقديم الركبتين على اليدين عند الهوي إلى السجود لم يسلم أي واحد منها عن الكلام فيه، إلا أنها بمجموعها يدل على أن لها أصلاً، وقد صحح بعضها بعض أهل العلم، ويقويها عمل بعض الصحابة رضي الله عنهم على وفقها.

ثم تلك الأحاديث صريحة في الدلالة على تقديم الركبتين على اليدين عند السجود، وأن ذلك من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحتمل غير ذلك.

أما الأحاديث التي يُستدل منها على تقديم اليدين على الركبتين عند الهوي إلى السجود فأصح، وأقوى إسناداً من الأحاديث التي يستدل منها على تقديم الركبتين على اليدين، لكن بعضها تحتمل أكثر من احتمال، وبعضها مختلف في رفعها ووقفها.

أما ادعاء نسخ ما يدل على تقديم اليدين على الركبتين عند السجود فضعيف؛ لأن الحديث الدال على ذلك- مع أنه صريح في الدلالة على النسخ- ضعيف لذلك فهو لا يقوى على معارضة ما يخالفه.

كما أن القول بنسخ ما يدل على وضع الركبتين قبل اليدين ليس عليه أي دليل، وهو أضعف من قول من قال بعكسه.

65 -

إن الإقعاء بين السجدتين سنة كالافتراش، وهو أن ينصب القدمين ويجلس على العقبين مع كون الركبتين على الأرض؛ وذلك لأن النهي جاء عن إقعاء كإقعاء الكلب، وإقعاء الكلب هو أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض. فهذا هو المنهي عنه، وهو غير النوع الذي قيل بسنيته، لذلك لا يكون هذا النهي مشتملاً للنوع الذي قيل بسنيته.

أما ادعاء نسخ الإقعاء فغير صحيح؛ لأن الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء وفي سنيته لا يعلم المتأخر منه عن المتقدم، ثم الجمع بينهما ممكن، لذلك يكون القول بالنسخ مرجوحاً وغير صحيح.

66 -

عمد الكلام في الصلاة مبطل للصلاة بلا خلاف إذا لم يكن لإصلاح الصلاة، وأن جواز الكلام في الصلاة قد نسخ.

وأن الكلام في الصلاة نسخ بالمدينة وبعد الهجرة؛ لأن الآية التي هي الأصل في نسخ الكلام في الصلاة، وهي قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . نزلت بالمدنية وبعد الهجرة بالاتفاق.

وإن الأدلة التي استدل بها من قال بنسخ الكلام في الصلاة مطلقاً مطلقة وعامة تشمل جميع أنواع الكلام؛ حيث إنها ليس فيها ما يدل على الفرق بين العمد والسهو والنسيان.

وإن حديث ذي اليدين يحتمل أن يكون قبل نسخ الكلام في الصلاة، فيكون منسوخاً بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة.

ويحتمل أن يكون بعده، فيكون مخصصاً لعموم أحاديث النهي عن الكلام في الصلاة؛ لذلك لو نسي شخص وسلم قبل تمام صلاته، ثم تذكره من قريب، أو كان إماماً فأخبره أحد المأمومين بذلك فله أن يبني على صلاته، ويسجد للسهو؛ وذلك لظاهر حديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم، وعدم وجود ما يصرح على أن النهي عن الكلام في الصلاة كان بعد تلك الأحاديث.

ص: 6

67 -

يجوز سجود السهو قبل السلام وبعده. وإن ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على السجود بعد السلام ضعيف؛ لأن ذلك مبني على أن سجود السهو بعد السلام مذكور في حديث ذي اليدين وهو قتل ببدر، و مذكور في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو متقدم الإسلام، وأن السجود قبل السلام من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو من أحداث الأنصار و أصاغرهم، ومن رواية معاوية رضي الله عنه وهو إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكل هذا ضعيف؛ لأن الأصح أن ذا اليدين لم يقتل ببدر، وإنما روى قصته أبو هريرة رضي الله عنه وهو أسلم عام خيبر، سنة سبع، كما أن السجود في حديث معاوية رضي الله عنه في غير الصورة المذكورة في حديث ذي اليدين وابن مسعود-رضي الله عنهما-فلا منافاة بينهما، ولا يصح أن يكون السجود في صورة قبل السلام نسخاً للسجود بعده في صورة أخرى، كما أن النسخ إنما يكون بما يناقض المنسوخ، والنبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام، ولم ينقل عنه أحد أنه نهى عن ذلك، فكل هذا مما يضعف القول بالنسخ ويدل على عدم صحته.

لكن الأولى أن يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سجد هو، وفي غيرها إن كان لزيادة فبعد السلام، وإن كان لنقص فقبل السلام، وهذا فيه نوع جمع بين الأدلة.

68 -

إن القول بنسخ السجود في المفصل غير صحيح؛ لأن مبناه على أن السجود في المفصل كان بمكة، وأنه ترك ذلك بعد الهجرة، لكن هذا الأصل ضعيف وغير صحيح؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيها بعد الهجرة، كما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، فثبت بذلك أن القول بالنسخ غير صحيح؛ لذلك يسجد في المفصل؛ لصحة الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، والانشقاق، والعلق.

69 -

إن الراجح هو نسخ وجوب قيام الليل مطلقاً؛ وذلك لأن حديث عائشة-رضي الله عنها صريح في ذلك حيث قالت: (، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة). ولم تفرق بين قيام وقيام، كما يوجد أحاديث كثيرة صحيحة وصريحة، تدل على عدم وجوب صلاة غير الصلوات الخمس. والقول بوجوب قيام شيء من الليل قول شاذ، وقد انعقد الإجماع على خلافه وعلى نسخ قيام الليل مطلقاً، كما صرح به بعض أهل العلم.

70 -

يجوز الوتر على الراحلة في السفر، وذلك لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما ادعاء نسخ الوتر على الراحلة فضعيف وغير صحيح؛ لأنه ليس عليه أي دليل، ويؤكد عدم النسخ عمل بعض الصحابة على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهم يوتران على الراحلة في السفر، فلو كان ذلك منسوخاً لما عملا به.

71 -

إن القول بنسخ ما يدل على النفخ في الصلاة ضعيف وغير صحيح؛ لأن مستنده هو نسخ الكلام في الصلاة، ونسخ الكلام في الصلاة قبله، ولا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم.

ثم النفخ في الصلاة مكروه، لكن لا يفسد الصلاة ما لم يتفاحش، ولم يقصد به صاحبه اللعب والعبث، وذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفخ في صلاته، وقال:«وعرضت عليّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها» .

إلا أن النفخ في الصلاة إذا كثر، ولم يكن لحاجة فإنه يكون حكمه حكم الكلام في الصلاة، وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أنه بمنزلة الكلام.

72 -

يكره الالتفات في الصلاة، ولا يبطل به الصلاة إذا لم يبلغ حد استدبار القبلة. وبهذا

القول يجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة.

والقول بنسخ الالتفات في الصلاة، له وجه؛ حيث إن الأدلة التي استُدل بها على النسخ تحتمل ذلك، إلا أنه ليس مخالفاً لقول جمهور أهل العلم؛ حيث اتفق الجميع على كراهة الالتفات لغير حاجة.

73 -

يجوز حمل الصبي في الصلاة؛ لصحة الحديث فيه وثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أن ذلك كان للضرورة، وقد جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في صلاة الجماعة.

أما القول بنسخ هذا الحديث لأنه عمل كثير، بحديث ابن مسعود رضي الله عنه (إن في الصلاة شغلاً). فهو غير صحيح؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. ثم إن حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي يُستدل منه على النسخ قد قيل: إنه كان قبل هذا الحديث، لذلك لا يصح الاستدلال منه على النسخ؛ حيث لا يصح نسخ المتأخر بالمتقدم.

74 -

إن الأحاديث الواردة في قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب بين يدي المصلي صحيحة وصريحة، لذلك لو أعاد أحد الصلاة من مرور شيء ممن ذكر فيها بين يديه فيكون قد أحسن؛ عملاً بظاهر تلك الأحاديث، وخروجاً من خلاف أهل العلم.

إلا أن صلاته صحيحة ولا يبطلها مرور شيء بين يديه، وذلك لأن القول بأن الأحاديث الدالة على قطع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار منسوخة، له وجه؛ لأن تلك الأحاديث ذكر فيها قطع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار، ثم حديث ابن عباس رضي الله عنه في مرور الحمار بين يدي بعض الصف أو أمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولم يقطع صلاتهم، وقول ابن عباس رضي الله عنه أنه لم ينكر ذلك عليه أحد، يدل أن القطع والإنكار كان أولاً، وأن عدم الإنكار وعدم قطع الصلاة بذلك متأخر عن ذلك، فهذا ما يفهم من كلام ابن عباس رضي الله عنه واستدلاله بعدم الإنكار عليه.

كما أن قول عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه المذكور في حديث أنس رضي الله عنه: (إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«لا يقطع الصلاة شيء» يدل أن عدم قطع الصلاة بشيء كان بعد قطع الصلاة ببعض الأشياء، فيكون عدم القطع ناسخاً ومتأخراً عن القطع على مقتضى هذا الحديث.

أما ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على عدم قطع الصلاة بشيء، فلا وجه له، ولا يوجد ما يدل على تأخرها على ما يخالفها.

75 -

للمصلي مقاتلة من يصر على المرور بينه وبين السترة؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أبي سعيد، وابن عمر-رضي الله عنهما.

ولا يصح ادعاء نسخه بحديث (إن في الصلاة شغلاً)؛ لأنه لا يوجد ما يدل على أن هذا الحديث متأخر عن حديثهما، ثم لو كان ما روياه منسوخاً لما عملا به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والحال أنهما كانا يعملان به بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

76 -

لا يجوز الصلاة إلى ما فيه صورة؛ يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها-الذي فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتأخير الصورة عن الجهة التي كان يصلي إليها صلى الله عليه وسلم.

أما ادعاء نسخ الصلاة إلى ما فيه صورة، فيصح لو كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه صورة عن قصد وإباحة، وإلا فيصح الاستدلال من حديث عائشة-رضي الله عنها-على النهي عن الصلاة إلى ما فيه صورة، ولا يصح الاستدلال منه على الإباحة ثم نسخ ذلك.

77 -

إن القول بنسخ وجوب صلاة الجماعة، قول له وجه؛ لأن حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه يظهر منه أنه بعد حديث الأعمى الذي لم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجماعة، ويؤكد ذلك الإجماع على عدم وجوب صلاة الجماعة على أصحاب الأعذار. كما أن حديث أبي هريرة في التخلف عن صلاة الجماعة فيه تهديد بتحريق المتخلفين عنها، والتعذيب بالنار قد نسخ، فيكون ذلك قبل نسخ التعذيب بالنار.

لكن هذا القول ضعيف؛ لأن ما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. كما أنه مبني على أن الأحاديث الدالة عل الوجوب معارضة بأحاديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وليس الأمر كذلك؛ حيث إنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون صلاة الجماعة واجبة لأدلة الوجوب، ولكن لا تكون شرطاً لصحة الصلاة، لأحاديث التفضيل ونحوها. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى القول بالنسخ.

ولذلك يكون الراجح القول بأن صلاة الجماعة واجبة وليست شرطاً لصحة الصلاة؛ لصراحة الأدلة الدالة عليه، وظهورها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

78 -

الصحيح هو أن مقام المأمومين إذا كانوا اثنين خلف الإمام، إذا كانوا يصلون جماعة؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع صحتها وصراحتها.

ولأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي يدل على وقوف الاثنين إلى جانبي الإمام، رُوي مرفوعاً، ورُوي موقوفاً، ثم يحتمل أموراً، منها: أنه صلى كذلك لضيق المكان.

كما أن القول بنسخ حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قيام الاثنين إلى جانبي الإمام إذا كانوا يصلون جماعة، له وجه؛ حيث إنه ذُكر معه التطبيق، وهو كان في أول الإسلام. أما حديث أنس وجابر-رضي الله عنهما-الدالان على خلافه فبعد الهجرة بلا شك.

ص: 7

79 -

كان في أول الإسلام إذ جاء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة قضى ما سُبق به ثم يدخل مع الإمام، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من جاء وقد سُبق بشيء من الصلاة أن يصلي مع الإمام ويصنع كما يصنع الإمام، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به. فثبت منه نسخ أن يصلي المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام.

80 -

إن القول بنسخ الصلاة قعوداً إذا كان الإمام يصلي جالساً له وجه؛ لأن الصحابة-رضي الله عنهم قد صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً في مرض موته صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان ذلك بعد ما بدأ أبو بكر رضي الله عنه بالصلاة قياماً واقتدى من خلفه به، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم تلك الصلاة وهو جالس، وهم خلفه قيام. وقد كان ذلك بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً). فيدل ذلك على نسخه؛ لأن صلاتهم خلفه صلى الله عليه وسلم قياماً وهو قاعد كان بعد الأمر الأول.

إلا أن صلاتهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً في مرض موته صلى الله عليه وسلم يتطرق إليه احتمال أن يكون ذلك ناسخاً للأمر الأول. ويتطرق إليه احتمال أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقعود لأنهم ابتدءوا الصلاة قياماً.

وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.

كما أنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث كلها، وذلك إذا حملت الأحاديث الدالة على الأمر بالجلوس- إذا كان الإمام يصلي جالساً- على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة جلوساً، والأحاديث التي فيها صلاة الصحابة رضي الله عنهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم قياماً وهو قاعد في مرض موته، على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة قياماً ثم حصل له عذر فجلس، فإن من خلفه يتمونها قياماً، وعليه فلا تعارض إذَنْ بين النوعين من هذه الأحاديث، حيث حملت على حالتين، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.

81 -

يقرأ المأموم الفاتحة خلف الإمام، سواء كانت الصلاة سريّة أم جهريّة؛ وذلك لأن الأحاديث التي استُدل بها لهذا القول أكثرها نصوص صريحة في أن المأموم عليه أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهي لا تحتمل غير ذلك، لذلك يكون القول بمقتضاها متعيناً.

كما أنه ليس هناك حديث صحيح ينص على النهي عن قراءة الفاتحة خصوصاً، و الأحاديث التي فيها الزجر عن القراءة مع الإمام، أو التي فيها الأمر بالإنصات للقراءة عمومات، ثم قد وجد ما يخص الفاتحة من ذلك العموم، وهو الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام، فتكون هذه الأحاديث مخصصة لعموم تلك الأحاديث، ومستثناة من عمومها.

ثم هذا القول يمكن أن يُجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة كلها، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.

ولذلك يكون أقوال النسخ الثلاثة، أعني القول بنسخ قراءة الفاتحة خلف الإمام، والقول بنسخ القراءة خلف الإمام في الجهرية فقط، والقول بنسخ ما يستدل منه على النهي عن قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، أقوالاً كلها ضعيفة، إذ ليس على أي واحد منه دليل يثبت به ذلك.

كما أن القول بالنسخ خلاف الأولى؛ لأن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة ممكن، كما سبق ذكره، وهو كذلك مما يضعف القول بالنسخ.

82 -

يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل؛ لأن الأدلة الدالة على ذلك ظاهرة وصريحة، وصحيحة، وأدلة القول المخالف له غير صريحة في النهي عن ذلك.

أما ادعاء نسخ حديث معاذ رضي الله عنه الذي يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل فغير صحيح؛ لأنه دعوى لا أصل لها، إذ لم يأت قائله بحجة صحيحة يثبت ذلك، ثم يرده قول أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، مما يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وأبو بكرة رضي الله عنه أسلم بعد فتح مكة، فكيف يقال: إن صلاة المفترض خلف المتنفل كان في أول الإسلام؛ حين كان يجوز أن يصلى صلاة واحدة في يوم مرتين، ثم نسخ ذلك.

83 -

يجوز للشخص أن يعيد جميع الصلوات من غير أن يشفع المغرب برابعة؛ وذلك لإطلاق الأحاديث الواردة في الإعادة مع الجماعة، إلا أن الأولى هو أن يشفعها برابعة، وذلك لما روي عن بعض الصحابة- رضي الله عنهم أنهم قالوا بشفعها برابعة.

أما ادعاء نسخ إعادة صلاة الفجر والعصر والمغرب مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في بيته، فضعيف بل مردود وغير صحيح؛ لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، بل الأحاديث التي تدل على الإعادة معها ما يدل على تأخرها عن أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وهو مما يرد ادعاء النسخ، لأن النسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ.

84 -

خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، لعمل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهو مما لا خلاف فيه بين أهل العلم. وورد ما يدل على أنها كانت بعد الصلاة، ثم نسخ ذلك وجعلت قبل الصلاة، إلا أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف.

85 -

إن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يستمع للخطبة؛ لأن الأحاديث الدالة على ذلك نصوص صريحة صحية لا يتطرق إليها التأويل، بخلاف ما يعارضون به تلك الأحاديث.

أما ادعاء نسخ صلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب يوم الجمعة فضعيف؛ لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما أنه يرده عمل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه أحد من روى حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الداخل بالركعتين، ثم كان يعمل بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان ذلك منسوخاً لما صلى ركعتين، ولأُنكر عليه لو كان عند أحد غيره علم بالنسخ، عندما رآه يفعل ذلك.

86 -

يستحب خروج النساء للعيدين؛ لصحة الأحاديث في ذلك وصراحتها، ولعمل الصحابة بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، ولعدم وجود ما يخالفها أو يعارضها من النبي صلى الله عليه وسلم.

إما ادعاء نسخ خروج النساء في العيدين، فغير صحيح؛ لأنه لا دليل عليه، كما أن المقصود من خروجهن ليس الصلاة فقط، بل ليشهدن دعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم

وطهرته، كما دل عليه حديث أم عطية-رضي الله عنها.

87 -

إن من فاتته الصلاة فإنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك-؛ وذلك لكثرة الأحاديث الدالة على ذلك، مع صحتها في الجملة، وليس فيها تعرض للقضاء مرة ثانية.

أما الأحاديث التي تدل على أنه يقضيها، ومن الغد يقضي معها مثلها، فإنه يتطرق إليها احتمالات، منها أن تكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك؛ لأن معها ما يدل على تأخرها؛ لما جاء في بعض الروايات أن ذلك كان في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غراها النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك لو ثبت قضاؤها مرة ثانية، فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء فقط، وأن ذلك هي كفارتها.

88 -

لا يؤخر الصلاة في الخوف حتى في حال القتال؛ وذلك لصحة الأدلة الدالة عليه، وعدم تطرق الاحتمال إليها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

ولكن مع هذا إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ولم يقدر الشخص أن يصلي على أي حال فله أن يؤخر الصلاة؛ وذلك؛ لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . ولعمل بعض الصحابة على نحو ذلك، كما رواه أنس رضي الله عنه.

أما ادعاء نسخ صلاة الخوف فغير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعد غزوة الخندق، وعمل به أصحابه-رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال بنسخ المتأخر بالمتقدم؟.

أما القول بنسخ تأخير الصلاة في الخوف بصلاة الخوف فقول يدل عليه بعض الآثار، منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ويؤكده أن أبا موسى الأشعري، وأبا هريرة رضي الله عنهما-صليا صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهما قد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق.

ص: 8

89 -

يجوزأن يصلي الإمام في الخوف بكل طائفة كامل الصلاة، وذلك؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع صحة دليله، وكونه ظاهراً.

أما ادعاء نسخ أن يصلى الإمام بكل طائفة كامل الصلاة فقول ضعيف وغير صحيح؛ إذ ليس عليه دليل يثبت ذلك، فهو مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به.

90 -

لا يستحب القيام للجنازة؛ لأن القيام للجنازة لها قد نسخ. والأدلة الدالة على القيام

لها وإن كانت أكثر، إلا أن الأدلة الدالة على عدم القيام لها، وأن القيام لها قد نسخ، معها ما يدل على أنها متأخرة عن الأدلة الدالة على القيام لها، وهي بمجموع رواياتها وطرقها صالحة للاحتجاج بها، وتفيد نسخ القيام للجنازة.

91 -

إن من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع كونها صحيحة، وصريحة.

أما الأدلة التي يستدل منها على الجلوس قبل وضعها فبعضها ضعيف، وبعضها روي بطرق مختلفة بين صريح ومحتمل، مع أن القصة واحدة، وهو مما يضعف وجه الاستدلال منه على الجلوس.

ولأن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة-رضي الله عنهما-قد رويا: أنهما لم يريا النبي صلى الله عليه وسلم شهد جنازة فجلس قبل وضعها.

ثم إن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لما رأى أبا هريرة ومروان جلسا قبل وضع الجنازة، أمر مروان بالقيام، وبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وصدّقه أبو هريرة رضي الله عنه. وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، وكان كذلك بمشهد من حضر الجنازة، ولم يقل أحد لأبي سعيد أن ذلك قد نسخ. فدل ذلك على أنه محكم ولم ينسخ.

92 -

يجوز الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها-في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء في المسجد. ولعمل الصحابة-رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ حيث صلوا على أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما في المسجد، فلو لم يكن ذلك جائزاً لما عملوا به.

إلا أن الأفضل والأولى الصلاة على الجنازة في المصلى وخارج المسجد؛ وذلك لأنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الجنازة في المسجد، وإنما كان يصلي عليها خارج المسجد، ولذلك خرج بالناس إلى المصلى حين صلى على النجاشي.

أما ادعاء نسخ صلاة الجنازة في المسجد فغير صحيح؛ وذلك لأن الذين أنكروا على عائشة-رضي الله عنها صلاة الجنازة في المسجد، سكتوا حين روت فيه الخبر، فلو كان ذلك منسوخاً لبينوه ولما سكتوا.

كما أن الصحابة-رضي الله عنهم المهاجرون والأنصار، صلوا على أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما-في المسجد، ولم ينكر ذلك أحد-ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه، ولا بين أحد أن ذلك منسوخ. فلو كان ذلك منسوخاً، وكان عندهم علم بذلك لبينوه.

93 -

يكبر على الجنازة أربعاً، وذلك؛ لأن التكبير أربعاً هو أشهر وأكثر عمل النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الأحاديث التي فيها التكبير على الجنازة أكثر من أربع، فيتطرق إليها احتمال النسخ؛

حيث جاءت روايات كثيرة تدل على أن التكبير أربعاً على الجنازة آخر الأمور. وهي بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، وهو وإن كان احتمالاً إلا أنه احتمال قوي، يؤكده اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم على ذلك.

94 -

الأدلة الواردة في الصلاة على من مات وعليه دين، تدل بمجموعها على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من مات وعليه دين ولم يترك وفاءً، إلا أن يتحمله أحد فيصلي عليه، ثم لما فتح الله عليه الفتوح، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات وعليه دين، بل صلى عليه، وأدّى ما عليه من الدين مما فتح الله عليه. فثبت من ذلك نسخ تركه الصلاة على من مات وعليه دين.

95 -

إن للإمام أن يترك الصلاة على من قتل نفسه، إذا كان في ذلك زجراً للناس عن ارتكاب مثل فعله، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه. ويصلى عليه سائر الناس؛ لكونه مسلماً، وعدم وجود ما يدل على حرمة الصلاة عليه.

أما ادعاء نسخ ترك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه فغير صحيح، إذ ليس عليه أي دليل.

96 -

قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على أبيّ ابن سلول، وكان رأس المنافقين، ثم نهي الله تعالى عن الصلاة على المنافقين، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم، فنُسخت بذلك الصلاة عليهم، فلم يجز لأحد بعد ذلك أن يصلي على منافق أو كافر.

97 -

إن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين استغفروا لبعض أقاربهم وهم مشركون، فنهاهم الله تعالى عن الاستغفار لهم، فنُسخ به عملهم ذلك، وحرم الاستغفار للمشركين.

98 -

يحرم النياحة على الميت، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، وورد ما يدل على

إباحتها، لكن كان ذلك بعد غزوة أحد، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النياحة، فنسخ به الإباحة السابقة.

99 -

يستحب زيارة القبور للرجال؛ للأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في ذلك، من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وأن النهي عن زيارة القبور قد نسخ بذلك.

ويدل على عدم تحريم زيارة النساء للقبور عموم الأدلة التي تدل على مشروعية زيارة القبور؛ حيث إنها تشمل الرجال والنساء. فيحتمل أن يكون نهيهنّ عن زيارة القبور منسوخاً، ويقوي هذا الاحتمال عمل عائشة-رضي الله عنها، وروايتها الدال على مشروعية الزيارة بعد النهي عنه، وقد قالت ذلك بعد زيارتها لقبر أخيها. كما يؤيد ذلك عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة قعودها عند القبر.

لكن الأولى والأظهر القول بمنع زيارة النساء للقبور؛ وذلك لأن حديث بريدة رضي الله عنه، وما في معناه، أدلة عامة، تدل بعمومها على جواز زيارة القبور للنساء، والأدلة التي تدل على نهي النساء عن زيارة القبور، أدلة خاصة، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة.

100 -

لا خلاف بين أهل العلم في أنه إن نزلت بالمسلمين حاجة، أو وُجد لشخص ذوو أرحام محتاجين وعاجزين عن التكسُّب، أو وُجد جائع مضطر إلى طعام، أنه يجب الإنفاق عليهم، ولو كان ذلك بعد أداء الزكاة، كما أن النفقات الواجبة على الشخص من نفقة الزوجة والأولاد، ومن يعوله، يجب على الشخص في ماله غير الزكاة. وأنه ليس شيء من هذا منسوخاً.

أما الحقوق المالية فإنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على أن من أدى زكاة ماله فليس عليه فيه غيرها إلا أن يتطوع. وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث التي تدل على أن في المال حقاً سوى الزكاة، وبين التي تدل على أن من أدى زكاة ماله فلا يجب عليه فيه غيرها، بأن يحمل النوع الأول من الأدلة على الاستحباب والندب، ويحمل ما يخالفها على عدم الوجوب.

أما الادعاء بأن الزكاة نسخت غيرها من الحقوق والصدقات، فله وجه واحتمال، -والمراد به نسخ وجوبها-؛ وذلك لما روى عن علي وابن عباس-رضي الله عنهما من أن

الزكاة نسخت غيرها من الحقوق والصدقات في الأموال.

101 -

لا يؤخذ ممن منع زكاة ماله إلا الزكاة؛ وذلك لاحتمال أن يكون حديث أخذ شطر مال مانع الزكاة منسوخاً، كما قاله جماعة من أهل العلم؛ ولعدول الصحابة رضي الله عنهم عن العمل به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

102 -

إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، فإنه يكون في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، ولا يستأنف الفريضة؛ وذلك لقوة الأدلة الدالة عليه وصحتها.

أما ادعاء نسخ ما يدل على استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة-على تقدير ثبوته وصحته-فله وجه؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل على عدم استئناف الفريضة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، معها ما يدل على أنها آخر شيء في فريضة الإبل؛ لأن حديث أنس وابن عمر-رضي الله عنهما-والذين جاء فيهما ذكر فريضة الإبل يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك ولم يخرجه إلى عُمّاله حتى قبض، فأخرجه أبو بكر رضي الله عنه إلى عماله، فعملوا به، ثم عمر رضي الله عنه، فيدل ذلك على أن ذلك كان قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك يكون حديث أنس رضي الله عنه وما في معناه ناسخاً لما يخالفه.

ص: 9

103 -

إن البقر لاشيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، وهذا ما يدل عليه أصح ما يوجد من الأحاديث في هذه المسألة، وقد عمل به جماعة الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الأدلة التي تدل على أن في كل خمس من البقر شاة، إلى خمس وعشرين كالإبل، فهي إن صحت تحتمل أن تكون منسوخة بما يخالفها؛ وذلك لأنه ورد في كتاب الصدقات لأبي بكر، وعمر، وعلي-رضي الله عنهم، وكذلك في حديث معاذ رضي الله عنه، أن البقر لا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فيكون فيها تبيع أو تبيعة. وكتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقات آخر شيء في الصدقات؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه وتوفي قبل أن يخرجه لعماله، فأخرجه أبو بكر رضي الله عنه وعمل به. كما أن حديث معاذ رضي الله عنه متأخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يرجع معاذ من اليمن.

أما ادعاء أن الأدلة التي تدل على إخراج زكاة البقر بالغنم هي الناسخة لما يخالفها، فغير صحيح؛ لأن تلك الأدلة ضعيفة لا تقاوم الأدلة التي تخالفها فضلاً عن أن تكون ناسخة لها.

كما أنه لا يوجد ما يدل على أن تلك الأدلة متأخرة على ما يخالفها.

104 -

إن خرص الثمار للصدقات سنة؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل عليه، وهي وإن كان في بعضها كلاماً، إلا أنها صحيحة في الجملة.

أما ادعاء نسخ خرص الثمار للصدقات فضعيف وغير صحيح؛ لأن أقوى ما يستدل به

على النسخ هو أن يكون الخرص منسوخاً بالمزابنة، لكنه شذوذ كما قاله ابن عبد البر، ويرده عمل الخلفاء والصحابة على الخرص بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف فيه، فلو كان الخرص منسوخاً بالمزابنة لما عملوا به.

105 -

إن سهم المؤلفة قلوبهم باق، وإنهم يُعطون من الصدقات عند الحاجة إليه، ولا يُعطون عند عدم الحاجة؛ وذلك لقوله تعالى:{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} . ولأحاديث كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأنه أعطاهم حتى بعد فتح مكة. فهي تدل على أن سهمهم باق، وأنهم يعطون من الصدقات، وكذلك من مال الفيء.

إما ادعاء نسخ الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم فضعيف؛ لأنه ليس عليه حجة صريحة، لا من الكتاب ولا من السنة.

وعدم إعطاء الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم يحتمل النسخ وعدم الحاجة إليهم والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

106 -

إن صدقة الفطر واجبة مفروضة؛ وذلك لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه وغيره.

وللأحاديث الكثيرة في زكاة الفطر؛ حيث إن بعضها فيه التصريح بأنها فريضة، وفي بعضها التصريح بأنها واجبة، وفي بعضها الأمر بأدائها. فيثبت من مجموعها أن صدقة الفطر واجبة مفروضة.

أما ادعاء نسخ صدقة الفطر، فهو غير صحيح؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة الفطر، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على النهي عنها أو على تركها حتى يكون ناسخاً لها. كما أن نزول الزكاة ووجوبها ليس منافياً ولا معارضاً لصدقة الفطر؛ لذلك لا يصح أن يقال بأنها نسخت بوجوب الزكاة.

107 -

إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإنه يكمل عدد شعبان ثلاثين يوماً، ولا يصام ذلك اليوم؛ وذلك لقوة الأدلة الدالة عليه، وكثرتها، وصراحتها؛ حيث لا تحتمل غير الدلالة على تكميل الشهر ثلاثين يوماً إذا غم الهلال، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

أما ادعاء النسخ في المسألة فضعيف وغير صحيح؛ لإمكان الجمع بين الأدلة. وعدم وجود

ما يدل على أن قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له) متقدم على الأحاديث التي فيها الأمر بإكمال العدد إذا غم الهلال، حتى تكون هي ناسخة له.

108 -

إن الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من الليل، أما صوم التطوع فيجوز بنية من النهار؛ وبذلك يجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة.

ولذلك لا حاجة للقول بالنسخ في المسألة؛ لأن النية من النهار في صوم عاشوراء حصل لا لكونه أنه واجب معين أو أنه تطوع، بل لأنهم أمروا به من النهار، والرجوع إلى الليل غير مقدور.

109 -

كان الأكل والشرب والجماع محرماً في ليالي الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء، ثم نسخ ذلك، وأبيح كل ذلك إلى طلوع الفجر.

110 -

لا يجوز السحور بعد طلوع الفجر الصادق؛ وذلك لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» .

ولكثرة الأحاديث الدالة على أن آخر وقت السحور هو طلوع الفجر الصادق حتى بلغت التواتر، مع صحتها وصراحتها في الدلالة.

ولأن القول بأن حديث حذيفة رضي الله عنه الدال على جواز السحور بعد الفجر الصادق وما في معناه منسوخ بالأدلة الدالة على تحريم السحور بعد طلوع الفجر الثاني، له وجه؛ حيث يظهر من حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم-رضي الله عنهما: أن بعض الصحابة كانوا يتسحرون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود-والمراد به الخيط من شعر ونحوه- ثم نزل قوله تعالى: {مِنْ الْفَجْرِ} ، وبين المراد بالخيط، وحرم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير، ويدل على هذا التحريم كذلك حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم، وسمرة بن جندب-رضي الله عنهم، فتكون الأدلة الدالة على تحريم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير، هي المتأخرة، والناسخة للأدلة التي تفيد جواز الأكل والشرب إلى الإسفار، وقبل طلوع الشمس

111 -

يصح صوم من أصبح وهو جنب؛ وذلك لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، ويؤكد ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وتقريره، فيما رواه عنه عائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهما، ويدل عليه كذلك أدلة كثيرة وصحيحة.

كما أن القول بنسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على عدم صحة صوم من أصبح وهو جنب، له وجه؛ حيث يوجد في الأدلة المخالفة له ما يدل على تأخرها عليه.

112 -

تدل أدلة كثيرة على أن الإفطار ممن يطيق الصيام والافتداء عنه بطعام، كان رخصة في أول فرض الصيام، ثم نسخ ذلك وصار الصيام على من يطيقه حتماً واجباً، إذا لم يكن له عذر.

113 -

إن الحجامة لا تفطر الصائم، لا الحاجم ولا المحجوم، ولكنها تكره من أجل الضعف؛ وذلك لما صح وثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم؛ ولحديث أبي سعيد الخدري، وأنس-رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم؛ ولحديث أنس رضي الله عنه وغيره، من أن الصحابة-رضي الله عنهم-لم يكونوا يكرهون الحجامة للصائم إلا من أجل الضعف.

ولأن القول بأن الفطر بالحجامة، قد نسخ، صحيح وراجح؛ وذلك لأن حديث ابن عباس رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم

احتجم وهو صائم، وإن لم يوجد فيه ما يصرح بأنه كان عام حجة الوداع، إلا أنه يدل على تأخره وأنه ناسخ لغيره ما جاء في حديث أبي سعيد، وأنس-رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم، والرخصة في الغالب يكون بعد النهي. كما جاء من التصريح في حديث أنس رضي الله عنه من أن الرخصة في الحجامة للصائم كانت بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم للحاجم والمحجوم:«أفطر هذان» .

أما ادعاء أن الفطر بالحجامة هو الناسخ لما يخالفه، فقول ضعيف ومرجوح؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في الفطر بالحجامة مع كثرتها ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عن الأحاديث التي تفيد عدم الفطر بالحجامة، وكون أحاديث الفطر بالحجامة زمن الفتح لا يدل على تأخرها؛ لاحتمال أن يكون ما يدل على عدم الفطر بعد ذلك، ويؤكد ذلك ما جاء فيها من لفظ الرخصة، وأنها كان بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر هذان).

ولأن الأحاديث التي جاء فيها الفطر بالحجامة يوجد بينها تعارض هل كان ذلك بمكة أو بالمدينة، وهو مما يضعف الاستدلال منها على النسخ.

ص: 10

114 -

إن المسافر مخير بين الصوم والفطر، إلا أن الصوم أفضل من الفطر، إذا لم يجهده ولم يتضرر به-؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رخص في كتابه للمسافر أن يفطر في السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر، وقال لمن سأله عن الصوم في السفر-كما في حديث عائشة-رضي الله عنها:(إن شئت فصم وإن شئت فأفطر).

كما روي عنه أنه زجر عن الصوم أحياناً عند وجود المشقة والجهد، كما نسب بعضهم إلى العصيان لما أمرهم بالفطر فلم يفطروا.

لكن عند جمع هذه الأحاديث والنظر فيها وفي سبب ورودها، فإنه يظهر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، وقد صام في السفر قبل فتح مكة وبعده، فعلى هذا يكون الصوم في السفر أفضل من الفطر لمن لم يجهده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، وأنه لم يفطر إلا عند حصول جهد له أو لغيره من الصائمين أو لوجود سبب آخر يدعو للفطر، فافطر حتى يفطروا.

وبه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة؛ وذلك بحمل صوم النبي صلى الله عليه وسلم في السفر على الأفضل، وبحمل ما يدل على الفطر على وجود سبب، أو لمشقة وجهد.

أما ادعاء نسخ الصوم في السفر فغير صحيح؛ لأنه لا يوجد دليل يدل على تأخر ما يدل على عدم الصوم في السفر على ما يدل على جواز الصوم في السفر. وفطر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في غزوة الفتح ليس آخر الأمرين على الإطلاق، بل صام ثم أفطر، فهو متأخر عن هذا الصوم، لكنه قد صام هو والصحابة في السفر بعد ذلك كما يدل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

كما أنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة المختلفة فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.

115 -

يدل أحاديث كثيرة على سنية واستحباب الفطر والأكل يوم عيد الفطر قبل

الخروج إلى الصلاة، ولم أجد دليلاً يدل على أن الفطر وأكل شيء قبل صلاة عيد الفطر كان حراماً في أول الإسلام ثم نسخ، بل الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الفطر وأكل شيء قبل الخروج إلى الصلاة، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله ما يدل على خلاف ذلك.

116 -

يجوز صيام الولي عمن مات وعليه صيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره، كما يجوز أن يطعم عنه؛ أما الإطعام فلما روي عن ابن عمر، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم-رضي الله عنهم؛ حيث إنها تدل على جواز الإطعام ممن مات وعليه الصيام. وهو مما لا خلاف فيه بين أصحاب المذاهب الأربعة.

أما جواز أن يصوم الولي عمن مات وعليه الصيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره؛ فلعموم حديث عائشة-رضي الله عنها، وعدم تقييد حديث بريدة رضي الله عنه بصوم معين، وتعدد روايات حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ حيث بعضها يفيد جواز صوم النذر عن الميت، و بعضها يفيد جواز مطلق الصيام عنه. فيكون مجموع هذه الأحاديث دالة على أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، سواء كان صوم رمضان أو غيره.

أما ادعاء نسخ قضاء الصوم عن الميت فضعيف وغير صحيح، وذلك؛ لأنه لا بد في النسخ من تأخر الناسخ، والأحاديث الدالة على قضاء الصوم عن الميت صحيحة وصريحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يعارض ذلك فضلاً عن كونه متأخراً، فبأي شيء تكون منسوخة؟!.

أما عمل الراوي أو فتواه على خلاف مَرْوِيِّهِ فله عدة احتمالات، منها: أن يكون ما رواه منسوخاً عنده، وهذا أحد الاحتمالات، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

117 -

تدل أحاديث كثيرة على أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، وتأكد ذلك بالنداء العام، وبأمر من أكل بالإمساك بقية اليوم، كما تأكد ذلك بقول عائشة وابن عمر-رضي الله عنهم:(لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء)؛ لأن استحبابه باق لم يترك، فدل على أن المتروك هو وجوبه.

ثم تلك الأحاديث تدل كذلك على نسخ ذلك الوجوب؛ حيث دلت على أن وجوب

صوم عاشوراء كان قبل فرض رمضان، وأنه لما فُرض رمضانُ تُرك عاشوراء، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:«من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه» . فثبت بذلك نسخ وجوب صيامه.

لكن بقي استحباب صيامه؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صامه بعد نسخ وجوبه، وبعد فرض رمضان.

118 -

ورد أحاديث كثيرة تدل على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وعلى عدم وجوبه، وورد ما يدل على أن صوم ثلاثة أيام كان واجباً، ثم نسخ وجوبه، لكن في إسناد تلك الأحاديث ضعف، لكن لا خلاف بين أهل العلم في استحباب صيامه وعدم الوجوب.

119 -

يكره تنزيهاً إفراد يوم السبت بالصوم إلا أن يوافق عادة، ولا يكره إذا انضم معه غيره، وأن النهي عن صوم يوم السبت غير منسوخ؛ وذلك لأن الحديث الذي يدل على النهي عن صوم يوم السبت قد صححه جمع من أهل العلم، ويمكن جمعه مع الأحاديث التي يُستدل منها على جواز صومه. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فالقول به متعين، ولا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها.

ولأنه لا يوجد ما يصرح بالنسخ، وأن ما يدل على الجواز متأخر عن ما يدل على النهي، وما ذكر في وجه الاستدلال على النسخ مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به.

120 -

إن الأعراب الذين حجوا بعد فتح مكة ثم هاجروا فإنهم يجزون ذلك عنهم عن حجة الإسلام، وليس عليهم إعادة الحج بعد الهجرة؛ وذلك للأدلة التي تدل على فرضية الحج على المسلمين ممن استطاع إليه سبيلاً، والأعرابي المسلم من جملتهم، مع ما في هذه الأدلة من أن الحج إنما يجب مرة واحدة في العمر.

وقد اختلف أهل العلم في المراد بالأعرابي والهجرة في حديث ابن عباس رضي الله عنه وما في معناه؛ حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأعرابي الكافر، والمراد بالهجرة الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام باسم الهجرة. وإنما سموا مهاجرين؛ لأنهما هجروا الكفار.

وإذا كان المراد به أن الكافر إذا حج قبل الإسلام ثم أسلم فإن عليه حجة أخرى فهذا مما

لا خلاف فيه؛ لأن عند الجميع يشترط الإسلام لصحة الحج.

على أنه يظهر لي-والله أعلم بالصواب- من مجموع طرق حديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم أن المراد بالأعراب الذين عليهم حجة أخرى بعد الهجرة: هم الذين حجوا ثم هاجروا قبل فتح مكة خاصة، وليس المراد الأعراب الذين حجوا بعد فتح مكة.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع وأذن في الناس بذلك، قدم المدينة بشر كثير، كما في حديث جابر رضي الله عنه، وهؤلاء القادمون إلى المدينة من البشر يشمل الأعراب وغيرهم، ثم لم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الأعراب بالهجرة، أو أن عليهم الحج بعد هجرتهم، وبعد حجتهم تلك.

فهذا، وكذلك ما استُدل به على النسخ، يقوي احتمال أن يكون ما يدل على إعادة حج من حج من الأعراب قبل الهجرة منسوخاً إن أريد به عموم الأعراب أي سواء من حج منهم قبل فتح مكة أو بعده ثم هاجر.

ص: 11

121 -

إن العبد إذا حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى إذا استطاع إليه سبيلاً؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل عليه أدلة خاصة، بخلاف أدلة القول المخالف له، والخاص يقدم على العام ويقضى به عليه.

أما ادعاء نسخ حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي يدل على وجوب إعادة الحج على العبد إذا أعتق فغير صحيح؛ لأن حديثه موافق للآية الكريمة وكذلك الأحاديث الدالة على فرض الحج؛ لأن هذه الآية لم توجب حج البيت إلا على من استطاع إليه سبيلاً، والأحاديث المطلقة مقيدة كذلك بهذا القيد، والعبد غير مستطيع.

كما أن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة ممكن، وذلك بحمل الأدلة العامة على ما عدا محل الخصوص، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى نسخ بعضها، على أن الخاص لا ينسخ بالعام.

ولأن هذا الحكم لو كان منسوخاً لما خفي ذلك على سلف هذه الأمة وأئمتها، ولما اتفقوا على القول بموافقته، وإذ ليس الأمر كذلك دل ذلك على بطلان القول بنسخه.

122 -

جاء في غير ما حديث أن ميقات أهل المشرق هو ذات عرق، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه ما يدل على أن ميقاتهم هو العقيق، لكنه ضعيف، وعلى تقدير ثبوته يكون منسوخاً؛ لأن الناس أجمعوا على صحة إحرام من أهل من ذات عرق، ولو كان العقيق ميقاتاً لأهل المشرق لما صح إحرامهم من ذات عرق. والإجماع لا ينسخ لكنه يدل على النسخ وعلى تأخر ما يوافقه.

123 -

يستحب الطيب عند الإحرام، ولا بأس ببقاء أثره بعد الإحرام؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب في حجة الوداع قبل الإحرام، وبقي عليه أثره بعد الإحرام، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم ينه من فعل ذلك، بل قررهم عليه.

أما الأمر بغسل الطيب وأثره في حديث يعلى رضي الله عنه فيحتمل أنه أريد به نوع خاص من الطيب وهو الخلوق، وهو قد جاء النهي عنه في غير الإحرام كذلك، فيكون الأمر بالغسل مختصاً بهذا النوع من الطيب وأثره، ولا يكون شاملاً لمطلق أنواع الطيب.

كما يحتمل أن يكون المراد به مطلق الطيب، وعليه فيكون ذلك منسوخاً؛ لأن ذلك كان سنة ثمان، وقد تطيب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو كان سنة عشر، والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم.

124 -

يجوز الاشتراط في الحج والعمرة، لمن خاف الحبس عن أداء النسك، وإنه لم ينسخ؛ وذلك لصحة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم صحة ما ينافيه.

أما ادعاء نسخ الاشتراط في النسك فضعيف وغير صحيح يدل على ذلك أن ما ستُدل به على النسخ ضعيف السند؛ لذلك لا يصح الاستدلال منه على نسخ ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.

ولأن ما يُستدل به على النسخ روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد روي عنه القول بمقتضى حديث ضباعة-رضي الله عنها، وهو مما يضعف الرواية عنه بالنسخ.

125 -

ليس من البر للمحرم إتيان البيوت من ظهورها. وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على قطبة بن عامر خروجه من الباب يدل على أنه كان مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ الله ذلك وأمر بإتيان البيوت من الأبواب؛ لذلك لا يحرم إتيانها من الأبواب في حال من الأحوال.

126 -

يستحب الإحرام لمن يدخل مكة ولا يريد النسك، ولا يجب عليه؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع قوتها وظهورها، بخلاف بما يخالفه.

أما ادعاء نسخ دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام، فغير صحيح؛ لعدم صحة الاستدلال على نسخ ذلك من الأحاديث التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها حرمة مكة وأن حرمتها عادت بعد ما أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة؛ لأن الظاهر من تلك الأحاديث بيان حرمة الاقتتال في مكة وسفك الدماء بها لا الدخول إليها بغير إحرام.

127 -

إن الأولى قطع الخفين أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين، وأحرم بالحج أو العمرة؛ وذلك عملاً بحديث ابن عمر رضي الله عنه، واحتمال حمل إطلاق حديث ابن عباس رضي الله عنه على المقيد من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وخروجاً من الخلاف، وأخذاً بالاحتياط.

لكنه لا يجب عليه قطعهما، وذلك لحديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهما مع قوة احتمال أن يكون الأمر بالقطع في حديث ابن عمر رضي الله عنه منسوخاً بهما؛ لأنه صح أن حديث ابن عباس رضي الله عنه بعد حديث ابن عمر رضي الله عنه.

أما ادعاء نسخ حديثي ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم-والذين يدلان على جواز لبس الخفين بدون القطع عند عدم وجود النعلين-، بحديث ابن عمر رضي الله عنه فغير صحيح؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنه متأخر عنه، ولا يجوز نسخ المتأخر بالمتقدم.

128 -

إن التمتع الذي هو أن يحرم بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة، ثم ينشئ الحج بعدها، فيصير متمتعاً يسمى بفسخ الحج إلى العمرة. وقد صحت الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمر أصحابه الذين لم يهدوا أن يفسخوا حجهم إلى العمرة، ولا خلاف في صحة هذه الأخبار، وأنها تبلغ حد التواتر.

لكن اختلف أهل العلم بعد-اتفاقهم على صحة هذه الأخبار-هل كان هذا الفسخ خاصاً بالصحابة، أم هو لهم ولمن بعدهم، اختلفوا فيه على أربعة أقوال: قول بأنه منسوخ. وقول باختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم وعدم جوازه لمن بعدهم. وقول بالجواز مطلقاً أي للصحابة ولمن بعدهم. وقول بالوجوب مطلقاً.

والأدلة التي تدل على عدم جواز الفسخ، أو اختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم منها ما هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصريح في الدلالة، لكنه متكلم فيه. ومنها ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم، لكنه ليس بصريح فيه، ويحتمل الرفع والوقف. ومنها ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم، وهو صحيح لكنه موقوف.

ثم هذه الأدلة بمجموعها تصلح للاحتجاج بها.

ولا يوجد دليل يصح الاستدلال منه على نسخ فسخ الحج إلى العمرة.

كما أن القول بالنسخ يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله سراقة بن مالك رضي الله عنه عن ذلك و قال: يا رسول الله، هي لنا أو للأبد؟ فقال:«لا، بل للأبد» . فإن الظاهر منه أن السؤال وقع عن الفسخ، وقد أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك للأبد، وهو إخبار باستمراره، وهو مما يستحيل ورود النسخ عليه.

وإن القول باختصاص فسخ الحج بالصحابة-رضي الله عنهم-وإن كان يوجد ما يدل عليه، إلا أن الراجح هو القول بجواز واستحباب فسخ الحج إلى العمرة؛ وذلك لأن الأدلة التي يستدل منها على تخصيص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-يمكن أن يكون المراد به وجوب فسخ الحج، فإنه كان واجباً على الصحابة الذين لم يهدوا، ويكون جوازه باقياً لمن بعدهم. وبه يجمع بين هذه الأدلة جميعاً، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار إلى القول بالنسخ.

129 -

يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت؛ وذلك لما جاء في بعض الروايات ما يدل على الرفع. أما ما جاء مما يدل على عدم الرفع، فيحمل ذلك على نفي الوجوب، وبه يجمع بين هذه الأحاديث، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها.

ولا يصح الاستدلال من حديث جابر رضي الله عنه على نسخ رفع اليدين عند رؤية البيت؛ وذلك لإمكان الجمع بين الحديثين، وعدم وجود ما يدل على أن حديث ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما-كان قبل حجة الوداع، حتى يكون حديث جابر رضي الله عنه متأخراً عنه، وناسخاً له.

130 -

المشروع في الرمل، هو الرمل من الحجر إلى الحجر؛ وذلك لأن ما يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه من عدم الرمل بين الركنين، كان ذلك سنة سبع في عمرة القضاء. وما يدل عليه حديث ابن عمر، وجابر-رضي الله عنهما من الرمل من الحجر إلى الحجر، كان ذلك سنة عشر في حجة الوداع، فهو متأخر، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول

الله صلى الله عليه وسلم. فيكون ترك الرمل بين الركنين منسوخاً بحديثهما.

ص: 12

131 -

إن من رمى جمرة العقبة ولم يطف بالبيت حتى أمسى فإنه لا يعود محرماً؛ وذلك للأحاديث الكثيرة التي جاء فيها ذكر التحلل الأول، وليس فيها ما يدل على عود من حصل له ذلك محرماً إذا لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر. كما أن الآثار المروية عن الصحابة-رضي الله عنهم ليس فيها أي ذكر لذلك، مع عموم البلوى به.

أما ادعاء نسخ الحديث الذي يدل على عوده محرماً إذا لم يطف حتى أمسى فضعيف إلا أنه محتمل؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال به، كما لم يقل به عامة أهل العلم فهو كشبه الإجماع على ترك العمل به. والإجماع ليس مما ينسخ به، لكنه يدل على ناسخ.

132 -

ليس على الحائض طواف الوداع؛ لدلالة أحاديث كثيرة عليه، وهي أكثر، وأصح من أدلة القول المخالف له.

وإن التعبير بلفظ: (رخص) تدل على أنهن مستثنى عن الحكم العام، كما يدل على أن هذه الرخصة متأخرة على الحكم المخالف لها. كما أن رجوع عدد من الصحابة-رضي الله عنهم-إلى القول بالرخصة لهن يدل على صحة هذا القول وأولويته، وأن هذه الرخصة متأخرة، لذلك رجعوا إليها، وبذلك تكون أدلة الرخصة ناسخة لما يخالفها.

133 -

ورد أحاديث صحيحة صريحة تدل على جواز قتل الغراب في الحرام وغيره، وجاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه ما يدل على عدم قتله، لكن حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا لا يقاوم تلك الأحاديث، وعلى تقدير صحته فإنه يكون منسوخاً بتلك الأحاديث؛ لأنها تدل على الرخصة في قتله، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه يدل على النهي عن قتله، والرخصة يكون بعد النهي، وإلا فليزم التغيير مرتين.

134 -

لا يجوز استحلال الحرم بقتال من يباح قتاله إلا إذا قاتل، وذلك لأدلة كثيرة وصحيحة تدل عليه.

أما استحلال حرم مكة بالقتال عند فتحها، فإنه كان رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ثم عاد حرمتها بعد ذلك إلى يوم القيامة. وقد عبر عنه بعض أهل العلم بالنسخ،

والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة وصريحة.

أما ادعاء نسخ النهي عن القتال عند المسجد الحرام، فغير صحيح؛ وذلك لأن أدلة النهي عن القتال عند المسجد الحرام أدلة خاصة، والأدلة التي تدل على قتال المشركين كافة أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص.

ولأن الأدلة التي تدل على عدم جواز القتال عند المسجد الحرام صريحة في تأبيد هذا الحكم إلى يوم القيامة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه:(فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة). وما كان هكذا فلا يمكن نسخه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن حرمته مؤبد إلى يوم القيامة، وأخباره صلى الله عليه وسلم صادقة لا خلف لها؛ لذلك يكون القول بالنسخ غير صحيح.

135 -

يجوز أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها؛ وذلك لصحة الحديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بعض الصحابة-رضي الله عنهم-على وفقه، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم وجود ما يدفعه أو يعارضه.

أما ادعاء نسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها فغير صحيح؛ لأن سعد رضي الله عنه راوي الحديث عمل به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه أحد، فلو كان ما رواه منسوخاً لما عمل به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأُنكر عليه لو كان عند أحد من الصحابة علم بنسخه.

136 -

يحرم صيد المدينة والقطع من شجرها؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع صحتها وقوتها، بخلاف أدلة القول المخالف له.

كما أنه يمكن الجمع بين الأدلة في المسألة، وذلك بحمل هذه الأحاديث على تحريم الصيد داخل حرم المدينة، وقطع شجرها. وحمل أدلة القول المخالف له على ما إذا صاد خارج الحرم ثم أدخله إلى الحرم، فيكون الأول محرماً دون الثاني، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة كان القول به متعيناً، ويتعذر معه ادعاء النسخ.

أما ادعاء نسخ أحاديث تحريم الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها، فغير صحيح؛ لأن القول بنسخ تحريم صيد المدينة وقطع شجرها بناها قائلوها على نسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، وقد مرّ بطلان هذا الزعم، فيكون ما بُني عليه باطلاً كذلك.

ولأن الصحابة-رضي الله عنهم-عملوا على وفق هذه الأحاديث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فكانوا يرون تحريم صيد المدينة وقطع شجرها، وقد سلب بعضهم من وجده يصيد فيها أو يقطع من شجرها. ولم يوجد في عصرهم من أنكر عليهم شيء من ذلك، فلو كان هناك نسخ لكان أول من علمه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولما علموا به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

137 -

يجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، وإن النهي عنه قد نسخ؛ لأن الأدلة الدالة على هذا فيها تصريح بأن الإذن في ادخارها فوق ثلاث ليال كان بعد النهي عنه، وهو صريح في جواز ادخارها، ونسخ النهي السابق.

138 -

لا يجوز الحلف بغير الله تعالى مطلقاً؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع أنها صريحة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى.

ولأن الأحاديث التي ورد فيها النهي عن الحلف بغير الله تعالى معها ما يدل على تأخرها عن الأحاديث التي ورد فيها ذكر الحلف بغير الله تعالى، فتكون منسوخة بها، ومن ذلك حديث يزيد بن سنان رضي الله عنه، وهو ظاهر في أن النهي عن الحلف بغير الله متأخر عما يدل على جواز الحلف بغير الله تعالى؛ حيث جاء فيه:(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف زمناً فيقول: لا وأبيك، حتى نهي عن ذلك).

وكذلك حديث قتيلة-رضي الله عنها-يدل على أن النهي عن الحلف بغير الله تعالى جاء بعد ما كان بعض المسلمين يحلفون بغير الله تعالى.

139 -

إن العقيقة سنة ومستحبة، وليست بواجبة؛ وذلك لكثرة الأدلة التي تدل على ذلك، مع صحتها وثبوتها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.

أما الإدعاء بأن العقيقة نسخت فصارت مباحة، فغير صحيح؛ لعدم ثبوت ما يدل ذلك، مع وجود ما يدل على مشروعيتها بعد مشروعية الأضحية، بل ووجود ما يدل على مشروعيتها واستحبابها في حجة الوداع.

وأما القول بأن العقيقة كانت واجبة، ثم نسخت فصارت سنة ومستحبة، فقول له وجه واحتمال، إلا الأولى من ذلك الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، والجمع بينها ممكن.

140 -

لا يجوز تخضيب رأس الصبي بدم عقيقته؛ وذلك لكثرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على النهي عن مس رأس الصبي بالدم، مع صحتها وصراحتها.

ولأن الأدلة التي تدل على التخضيب على تقدير صحتها تكون منسوخة بالنهي عن مس رأس الصبي بدم؛ حيث إن حديث بريدة وعائشة رضي الله عنهما يدلان على أن ذلك العمل كان قبل، وأنه ترك في الإسلام وجعل بدل الدم الخلوق والزعفران.

141 -

إن الفرع الذي كان عليه أهل الجاهلية، من ذبح أول النتاج لطواغيتهم، كما هو مذكور في رواية أبي هريرة رضي الله عنه فهو حرام ولا يجوز؛ لأنه من الشرك الأكبر، وهو حرام بلا خلاف.

كما أن عتيرة الجاهلية التي هي كما في رواية ابن عباس-رضي الله عنهما-أنهم كانوا يذبحون، ثم يعمدون إلى دماء ذبائحهم فيمسحون بها رؤوس نصبهم- حرام لا تجوز؛ لما في ذلك من اعتقاد البركة من النصب، ومن الاحترام لها وللأصنام، وهو مخالف لعقيدة التوحيد والإسلام.

أما الفرع بمعنى ذبح أول النتاج من أجل شكر الله على هذا النتاج الذي هذا أوله، فلا بأس به، لكن الأفضل والأولى أن يتركه حتى يكون ابن لبون أو ابن مخاض فيحمل عليه في سبيل الله أو يعطيه أرملة، كما يدل عليه حديث نبيشة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم-وغيرهما.

كما أن العتيرة التي هي بمعنى أن يذبح لله تعالى في رجب ويتصدق لا بأس بها، لكن الأولى والأفضل هو عدم تخصيص رجب بها؛ لحديث نبشية رضي الله عنه:«اذبحوا لله عز وجل في أي شهر كان، وبروا لله، وأطعموا» .

قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفرع والعتيرة، وأنهما حق، فإن أريد بها الوجوب فهو منسوخ؛ لأن حديث الحارث بن عمرو، وابن عباس-رضي الله عنهم-يدلان على أن الفرع والعتيرة إلى الإختيار والمشيئة، وهو ينفي الوجوب إن لم ينف الاستحباب، ثم حديث الحارث بن عمرو رضي الله عنه صريح في أنه سمع ذلك من رسول الله في حجة الوداع. فمعه ما يدل على تأخره على ما يخالفه.

كما يدل على نسخ ذلك حديث أبي هريرة وابن عمر-رضي الله عنهم: «لا فرع ولا عتيرة» ؛ فإن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل.

وإن لم يكن الأمر بالفرع والعتيرة للوجوب بل للاستحباب فإنه محتمل كذلك للنسخ؛ لأن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ويؤيد ذلك كونهما يفعلان في الجاهلية، وحديث الحارث بن عمرو رضي الله عنه يدل على إباحتهما لا على استحبابهما، وهو كان في حجة الوداع.

ص: 13

142 -

يحل أكل لحوم الخيل بلا كراهة؛ لأن الأدلة الدالة عليه مع صحتها صريحة في جواز أكل لحوم الخيل.

ولأنه لم يرو عن أحد من أصحاب رسول الله أنه كان يكره لحوم الخيل إلا ابن عباس رضي الله عنه والرواية عنه فيه ضعف، وقد روى مرفوعاً ما هو صريح في حل لحومها.

ولأن حديث خالد بن الوليد، وجابر-رضي الله عنهما الذين يدلان على تحريم لحوم الخيل، قد ضعفهما غير واحد من أهل العلم، وعلى تقدير صحتهما وثبوتهما فإنهما يحتملان أن يكونا منسوخين بحديث جابر رضي الله عنه؛ حيث جاء فيه لفظ الإذن والرخصة، وهما مما يدل على تأخر الإباحة على الحظر والمنع.

143 -

لحوم الحمر الأهلية حرام، لا يحل أكلها؛ لأن الأدلة الدالة عليه مع كثرتها-حيث تبلغ مبلغ التواتر- صحيحة وصريحة غير محتملة لأكثر من احتمال واحد، بخلاف الأدلة المعارضة لها.

ولأن حديث غالب ابن أبجر وأم نصر المحاربية-رضي الله عنهما-ضعيفان لا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وعلى تقدير صحتهما فيحتملان أن جواز الأكل من لحوم الحمر الأهلية المستفاد منهما كان لأجل الحاجة و الاضطرار.

ولأنه إذا صح حديث غالب ابن أبجر، وأم نصر المحاربية، وأريد بالآية الكريمة وهي قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} . حصر المحرمات من المطعومات فيما ذكر فيها، يظهر صحة القول بنسخ ما يدل على جواز أكل لحوم الحمر الأهلية، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بأكله بعد النهي، فدل أن النهي آخر الأمرين.

144 -

روي ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بكسر القدور التي طبخوا فيها لحوم الحمر الإنسية، فلما التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما فيها ويغسلوها، أمرهم بذلك، فنسخ به الأمر بكسرها؛ لأن الأمر بالغسل جاء بعد ذلك؛ لذلك لا تكسر الأواني التي ألقي فيها شيء من النجس والمحرم، بل يلقى المحرم والنجس، ويغسل الإناء إذا كان ينتفع به و يطهره الغسل.

145 -

ليس المحرَّمات من المطعومات محصورة في الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والمذكورة في الآية الكريمة؛ وذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة تدل على وجود محرمات في الشريعة غير ما ذكر في الآية.

ولأن هذه الآية الكريمة اختلف أهل العلم في تأويلها، لكن إن أريد بها حصر المحرمات في الأربعة المذكورة، ونفي التحريم عمّا عداها في الشريعة مطلقاً، فإن الأظهر القول بنسخ هذا الحصر بالأحاديث التي جاء فيها ذكر محرمات كثيرة؛ لأن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة نزلت الشريعة بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها، منها لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.

146 -

إن الأمر بقتل الكلاب قد نسخ إلا الأسود البهيم، فإن الأمر بقتله لم ينسخ؛ لذلك لا تقتل الكلاب التي لا ضرر فيها إلا الأسود البهيم، فإنه يقتل؛ لأنه جاء أحاديث تدل على أن النهي عن قتل الكلاب جاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بقتلها؛ لذلك يكون هذا النهي ناسخاً لذلك الأمر.

وإن الكلب الأسود كان يشمله الأمر بقتل الكلاب، فلما جاء النهي عن قتلها لم يشمله هذا النهي، بل جاء معه الأمر بقتله، فهو مستثنى من هذا النهي، كما يدل عليه حديث جابر، وعبد الله بن مغفل-رضي الله عنهما. ولم يوجد بعد هذا الأمر ما يدل على النهي عن قتله.

147 -

كانت الهجرة واجبة إلى المدينة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، لمن قدر عليها، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة؛ حيث تدل أحاديث كثيرة على قطع الهجرة من مكة بعد فتحها. فثبت بذلك نسخ الهجرة وقطعها من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المدينة، بعد فتح مكة.

148 -

إن حديث بريدة رضي الله عنه يدل على أن من أسلم من المشركين فإنه يدعى إلى أن يتحول من داره إلى دار المسلمين، لكن هذا الحكم كان قبل فتح مكة، فلما فتح الله مكة على المسلمين، بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا هجرة بعد فتحها، فيكون حديث عائشة وابن عباس، ومجاشع-رضي الله عنهم-ناسخاً للتحول المذكور في حديث بريدة رضي الله عنه؛ لأنها بعده، وقد بين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاع الهجرة بعد فتح مكة.

149 -

إن الهجرة لم تنقطع، ولم تنسخ، وإنها تجب على المسلم الذي يقيم في دار الحرب إذا استطاع الهجرة، ولم يتمكن من إظهار دينه، وذلك لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث كلها، وذلك بحمل ما يدل على انقطاع الهجرة، على انقطاعها من مكة، ومن كل بلد أسلم أهلها. وحمل ما يدل على عدم انقطاع الهجرة، على عدم انقطاعها من دار الكفر. وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.

ولأن حديث جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه يدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهادُ» قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله: «لا هجرة بعد الفتح» لذلك لما اختلف في ذلك بعض الصحابة، وفهموا منه انقطاع الهجرة مطلقاً، سأل أميةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تنقطع ما كان الجهاد، ويقاتل العدو.

وبهذا يبطل قول من قال بنسخ الهجرة مطلقاً؛ لأن حديث أمية رضي الله عنه هذا يدل تأخره على ما يخالفه.

150 -

تدل آيات وأحاديث كثيرة على أن قتال الكفار لم يكن مشروعاً قبل الهجرة، بل كان الأمر بالكف، والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين. ثم أذن الله بقتالهم من دون إيجاب، ثم أمر بقتالهم جميعاً وأوجب ذلك. فثبت منها نسخ الكف عن قتالهم، وكذلك الإذن غير الموجب لقتالهم، ووجب قتالهم جميعاً.

ولكن آية الكف عن القتال وكذلك الآيات التي فيها الأمر بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين ليس نسخها نسخاً مطلقاً بمعنى رفع الحكم جملة وبالكلية، وعدم جواز العمل بها في أي وقت، بل إن حصل للمسلمين حالة ضعف في وقت أو في بلدة، بأن يكون حالهم كحال المسلمين في مكة، فلهم أن يعملوا بموجب تلك الآيات.

151 -

يجوز بدء قتال المشركين في الشهر الحرام؛ لأن الأدلة الدالة عليه بمجموعها تصلح للاحتجاج بها على نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام.

ولأن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، وهو وإن كان محل نظر؛ لما في المسألة من الاختلاف إلا أنه يؤيد القول بالنسخ؛ لأنه كالممتنع أن يذهب أهل العلم كافة- إلا واحد أو اثنان- إلى القول بالنسخ، ولا يكون لقولهم مستند يدل عليه.

152 -

إن من لم تبلغهم الدعوة فإنه يجب دعوتهم قبل القتال، ومن بلغتهم الدعوة فيباح قتالهم بلا تكرار الدعوة، لكن تستحب دعوتهم قبل بدء القتال؛ وبهذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث المختلفة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فهو متعين.

لكن الأحاديث التي جاء فيها الأمر بالدعوة قبل القتال إن حملت على العموم- أي سواء من بلغته الدعوة ومن لم تبلغه-، وأريد بالأمر الوارد فيها الوجوب، فتكون ذلك منسوخاً؛ لتأخر الأحاديث التي تدل على جواز قتال المشركين الذين بلغتهم الدعوة قبل القتال.

ص: 14

153 -

لا يجوز قتل أولاد المشركين ونسائهم إن لم يقاتلوا، لكن إن أصيبوا من غير قصد إلى قتلهم في البيات أو في اختلاطهم مع من يجوز قتلهم فلا حرج في ذلك؛ وبهذا القول يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى ترك بعضها، ولا يصح فيها ادعاء النسخ.

كما أنه لم يوجد رخصة في قتل نساء المشركين وأولادهم، حتى تكون أحاديث النهي ناسخة لها، أو تكون هي منسوخة بها. وحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه لا يدل على إباحة قتلهم، بل على أنهم إن قتلوا من غير تعمد وقصد فلا جناح في ذلك.

154 -

كان يجب على المسلمين أن يقاوم الواحد منهم العشرة من المشركين، ويحرم عليه الفرار منهم، ثم نسخ الله ذلك فأوجب على الواحد من المسلمين مقاومة الاثنين من الكافرين، وحرم عليه الفرار منهما، وأباح له الفرار من أكثر من اثنين، كما يفسره ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه.

فالمرفوع هو وجوب مقاومة الواحد من المسلمين للعشرة من الكافرين؛ حيث صار

الواجب مقاومة الواحد منهم للاثنين من الكافرين، وهذا هو النسخ، كما صرح به حبر الأمة ابن عباس-رضي الله عنهما-وجماعة من أهل العلم.

155 -

لا يجوز تحريق العدو بالنار إذا أسر وظفر به، وذلك لأن الأدلة الدالة عليه مع صحتها صريحة في النهي عن التحريق بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.

ولأن قول من قال بنسخ ما يدل على جواز التحريق والتعذيب بالنار، قول صحيح، وله وجه؛ لأن الأحاديث الدالة على تحريم التحريق بالنار معها ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز التحريق بالنار؛ لذلك تكون أحاديث النهي ناسخة لما يدل على الجواز.

156 -

لا يجوز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين عند عدم الحاجة والضرورة، ويجوز عند الضرورة والحاجة إذا أمن المسلمون خيانتهم؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل على النهي عن الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين صريحة وظاهرة في ذلك، بخلاف أدلة القول المعارض له. كما أن الاستعانة بهم يلزم منه مفاسد، أو يفضي إليها.

أما الاستدلال على نسخ ما يدل على عدم الاستعانة بالمشركين بخروج صفوان بن أمية رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان ذلك في غزوة حنين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن خرج معه ولم يسلم:«فارجع، فلن أستعين بمشرك» . كان في غزوة بدر وغزوة أحد، وغزوة حنين بعد بدر وأحد، ففي الاستدلال منه على النسخ نظر؛ لأن خروج صفوان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم محتمل لأمور، وليس متعيناً أن ذلك كان للاستعانة به، بل لم يكن شهوده الغزو بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

157 -

لا يعطى السلب للقاتل إلا ببينة؛ لأن دليل هذا القول صريح في أن القاتل لا يُعطى السلب إلا ببينة، بخلاف دليل القول المعارض له؛ حيث إنه يحتمل أكثر من احتمال.

ولأن دليل القول المعارض له على تقدير صحة الاستدلال منه يحتمل أن يكون منسوخاً؛ لأن حديث أبي قتادة رضي الله عنه الدال على عدم إعطاء السلب بغير بينة متأخر عنه.

158 -

يجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، فما كان قبل إحراز الغنيمة فإنه يخرج من الغنيمة بعد الخمس، وما كان بعد إحراز الغنيمة فإنه يكون من الخمس، وهذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصح القول بالنسخ.

أما ادعاء أن إعطاء النفل من الغنيمة قد نسخ بالإعطاء من خمس الخمس، فهو وإن كان

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي استدل منه على النسخ يدل على ذلك، لكنه قول ضعيف؛ وذلك لأن ذلك الحديث مختلف في رفعه وانقطاعه، أما الأحاديث المخالفة له فهي أقوى منه وأصح بلا خلاف؛ لذلك فهو لا يقوى على معارضتها.

ثم إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي استدل منه على النسخ، جاء فيه أن النفل جُعل من خمس الخمس بعد نزول قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . وهذه الآية نزلت بعد غزوة بدر، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك النفل من غير خمس الخمس كما يدل عليه بعض الأحاديث، وهو مما يضعف الاستدلال من ذلك الحديث على النسخ.

159 -

يجوز للإمام إذا رأى المصلحة أن يمن على أسرى الكفار، فيطلقهم بدون أي عوض، أو أن يطلق سراحهم مقابل عوض مالي، أو مقابل أسارى مسلمين؛ وذلك؛ لأن الأدلة الدالة على هذا مع كثرتها وصحتها، صريحة في الدلالة على المراد بها، ويمكن أن يجمع به بين الأدلة كلها.

أما ادعاء نسخ ما يدل على المن على أسرى الكفار أو فدائهم بالمال فضعيف؛ لأنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة يتعذر إدعاء النسخ.

بل قد كان من سيرته صلى الله عليه وسلم منذ أن أذن الله له بحرب الكفار إلى أن قبضه الله، قتل بعض أسرى الكفار، والمنّ على بعضهم، وأخذ الفداء من بعضهم. وليس في أدلتها ما يدل على نسخ بعضها بالبعض الآخر.

160 -

إن مبايعة النساء يكون بالكلام لا باليد؛ لحديث عائشة، وأميمة-رضي الله عنهما-وغيره، وبعض أهل العلم لم يصحح ما روي في بيعة النساء باليد، لكن مجموع ما روي في المسألة يقوي بعضه البعض، وبالتالي يتقوى احتمال أن بيعة النساء كان باليد، ثم نسخ بالبيعة بالكلام.

161 -

إن تحريق متاع الغال من باب التعزير، فإن رأى الإمام المصلحة في التحريق حرق وإلا فلا؛ وذلك لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث المختلفة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث تعين المصير إليه، ويتعذر معه ادعاء النسخ.

ولأن القول بنسخ ما يدل على حرق متاع الغال بأحاديث النهي عن التعرض لمال المسلم

أو بغيرها احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

كما أن القول بنسخ تحريق متاع الغال، أساسه القول بنسخ العقوبات المالية، لكن يقال: إن القول بنسخ العقوبات المالية ليس متفقاً عليه، ولا مجمعاً عليه، لذلك يكون في الاستلال منه على نسخ تحريق متاع الغال نظراً.

162 -

إن جواز اشتراط رد النساء إلى الكفار قد نسخ، ولم ينسخ اشتراط رد من جاء من الرجال إلى الكفار في الصلح؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط مع المشركين رد من جاء منهم مسلماً إليهم، ثم جاء النهي بعد ذلك عن رد النساء، فنسخ به ردهن، ولم يأت ما يصرح على النهي من رد الرجال إذا اشترط ذلك في الصلح.

163 -

إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بعض اليهود والنصاري في الحجاز وجزيرة العرب، ثم أخرج يهود المدينة منها، وأراد أن يخرج جميع المشركين من الحجاز وجزيرة العرب، لكنه صلى الله عليه وسلم توفي قبل إخراجهم منها، فأوصى بإخراجهم، وأن لا يبقى في جزيرة العرب غير المسلم، فدل ذلك على نسخ سكنى الكفار بالحجاز، وأنهم لا يقرون بها للسكنى، بل يخرجون منها.

164 -

إن كل واحد من المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، وليس ذلك بمنسوخ؛ وذلك لأن الأدلة الدالة على هذا القول مع صحتها نصوص صريحة تدل على أن كل واحد من المتبايعين بالخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ فإنها أدلة عامة، وليست نصاً في نفي خيار المتبايعين، كما أنه لا يوجد ما يصرح على نسخ ما يدل على ثبوت خيار المتبايعين.

ولأنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة كلها، وإذا أمكن الجميع بين الأدلة لا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها.

165 -

إن من اشترى مصراة فحلبها ولم يرضها فإنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، وليس ذلك بمنسوخ؛ لأن الأدلة الدالة عليه مع صحتها نصوص صريحة على أن من اشترى مصراة فحلبها فلم يرضها أنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، بخلاف أدلة القول المخالف له؛ حيث إنها أدلة عامة، والنص الصحيح الصريح مقدم عليها.

أما ادعاء نسخ حديث المصراة فغير صحيح، وذلك لأنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معها إلى النسخ، والجمع بين الأدلة هنا ممكن.

ولأنه لا يوجد دليل يدل على أن ما استُدل به على النسخ متأخر على حديث المصراة، وما ذكر من وجوه النسخ تشغيب ومجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به.

ص: 15

166 -

لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؛ لأن الأدلة الدالة عليه بمجموعها أقوى وأصح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي يدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.

ولأن الأحاديث الدالة على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة صريحة في ذلك ولا تحتمل أكثر من احتمال، بخلاف ما يدل على جوازه حيث يحتمل أن يكون ذلك قبل النهي عنه فيكون قد نسخ به.

167 -

لا بأس باستقراض الحيوان؛ وذلك لحديث أبي هريرة، وأبي رافع-رضي الله عنهما، وعدم وجود ما يعارض ذلك صريحاً.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز استقراض الحيوان، فغير صحيح؛ وذلك لأنه ليس عليه دليل، وإنما هو احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

ولأنه لا تعارض بين ما يدل على جواز استقراض الحيوان، وبين ما يدل على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة حتى يكون ذلك النهي ناسخاً للجواز؛ لأن الاستقراض غير البيع، و على تقدير أن استقراض الحيوان يشمله النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فإنه يكون ما يدل على استقراضه مخصصاً لعموم النهي، ومستثنى منه.

168 -

يحرم ربا الفضل كما يحرم ربا النسيئة، وليس الربا منحصراً في النسيئة؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليه مع صحتها، وكثرتها حتى بلغت التواتر، نصوص صريحة تدل على حرمة ربا الفضل، ولا تحتمل غير ذلك. بخلاف أدلة من يقول بحصر الربا في النسيئة، فإن تلك الأدلة وردت بألفاظ مختلفة، وتحتمل غير ما احتمال.

ولأن ما يُستدل منه على حصر الربا في النسيئة ونفيه عن الفضل قد ورد بألفاظ مختلفة، لكن إن كان المقصود به حصر الربا في النسيئة، ونفيه عن الفضل فإنه يكون منسوخاً بالأحاديث الدالة على حرمة الربا في الفضل؛ لتأخرها عليه؛ لأن إحدى طرق حديث البراء رضي الله عنه جاء فيه ما يدل على أن ذلك-أي عدم الربا في الفضل-كان في أوائل الهجرة حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد جاء في حديث فضالة بن عبيد، وعبادة بن الصامت-رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربا الفضل بعد فتح خيبر. والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم.

169 -

يجوز بيع العرايا؛ لأن الأدلة الدالة عليه ظاهرة وصريحة في الدلالة على جواز بيع العرايا، وأنه مستثنى من النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر.

ولأنه لا تعارض بين الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا وبين أحاديث النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر؛ لأن مع الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا ما يدل على أنه مستثنى ومخصوص من المزابنة، وأن بيع العرايا رخصة رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن المزابنة أو بعد النهي عن المزابنة، كما يدل عليه بعض الأحاديث.

أما الادعاء بأن الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا منسوخة بالنهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر فغير صحيح؛ لأن مع الأحاديث الدالة على جواز بيع العرايا ما يدل على أن ذلك كان بعد النهي عن المزابنة وبيع الثمر بالتمر، ولا يصح كون المتقدم ناسخاً للمتأخر بلا خلاف.

170 -

إن العارية مستحبة ومندوب إليها، وليست واجبة على الأصل؛ وذلك للأدلة التي تدل على أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة، ويحتمل أن يراد بأدلة القول المعارض له وجوب العارية عند الضرورة، وهو لا ينافي استحبابها؛ لأن الأصل فيها هو الاستحباب، وقد تجب عند الضرورة لأجل الضرورة.

ولاحتمال أن يكون ما يستدل منها على وجوبها منسوخاً بما يستدل منها على عدم وجوبها، كما قرره بعض أهل العلم.

171 -

للمرتهن أن ينفق على الرهن، ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك؛ وذلك لأن الدليل الدال عليه مع صحته صريح في الدلالة عليه، وهو دليل خاص، فيكون مخصصاً لعموم ما يخالفه.

أما ادعاء نسخ ما يدل على أن للمرتهن أن ينفق على الرهن، ويركب ويحلب بقدر نفقته، فغير صحيح؛ لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم العلم بأن ما يدل على عدم جواز انتفاع المرتهن من الرهن بالحلب والركوب مقابل النفقة متأخر عما يدل على جوازه.

172 -

إن كسب الحجام وأجره مباح وحلال مع أن التنزه عنه أولى؛ وذلك لأن أدلة هذا القول تدل على حل كسب الحجام وأجره، وهي صحيحة وغير محتملة إلا هذا المعنى. بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنها تحتمل أن يكون المراد بها التحريم، وتحتمل أن يكون المراد بها التنزيه، وحمله على هذا الاحتمال أولى جمعاً بين الأدلة كلها.

ولأن أدلة القول المعارض له إن كان المراد بها التحريم فإنها تكون منسوخة بما يدل على إباحة كسب الحجام وأجره. ويدل على تأخر ما يدل على الجواز حديث محيصة رضي الله عنه؛ حيث إن الأمر فيه بإطعامه الرقيق كان بعد النهي عن أجره.

173 -

لا يجوز بيع الحر في الدين، وإن الأحاديث التي رويت في بيع الحر في الدين وإن صحح بعضها بعض أهل العلم، إلا أن جميعها متكلم فيها، فإن صح منها شيء فتكون منسوخة بالأدلة التي تدل على أن المفلس والمديون الذي لا يجد من المال ما يوفى منه ديونه لا يباع في الدين، بل إن الغرماء يأخذون ما يجدون، وينتظرون ميسرته فيما لا يجدون، وأنه ليس لهم إلا ذلك.

174 -

لا يجوز أن يبيع حاضر لباد؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليه نصوص صريحة تدل على عدم جواز أن يبيع حاضر لباد، بخلاف أدلة القول المخالف له.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة الواردة في المسألة كلها، وذلك لأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، وأدلة القول المخالف له أدلة عامة، فيعمل على العام فيما عدا محل الخصوص.

أما ادعاء نسخ ما يدل على نهي أن يبيع حاضر لباد، فغير صحيح؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم وجود ما يدل على أن أحاديث (الدين النصيحة) متأخرة على أحاديث النهي عن بيع الحاضر للباد، ودعوى النسخ إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ.

175 -

لا يجوز بيع الكلب، ولا يحل ثمنه؛ وذلك للأحاديث الدالة على عدم حل ثمن الكلب، وعلى النهي عنه مطلقاً، مع صحة تلك الأحاديث وصراحتها، وكثرتها حتى بلغت التواتر.

أما ادعاء نسخ النهي عن ثمن الكلب فغير صحيح؛ لأن الاستدلال على نسخ النهي عن ثمن الكلب بنسخ الأمر بقتله احتمال، ولا يوجد ما يصرح به، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

كما أن الأحاديث المعارضة لما يستدل منه على النسخ أقوى وأصرح؛ لذلك فما يستدل منه على النسخ لا يقوى على نسخها.

176 -

إن الأولى والأفضل لمن معه فضول أراضين أن يمنحها أخاه ولا يأخذ عليها خراجاً وأجرة معلومة؛ ثم الأفضل من اكترائها ببعض ما يخرج منها اكترائها بالثمن والنقود؛ وذلك لدلالة حديث ابن عباس ورافع بن خديج-رضي الله عنهم على ذلك.

لكن يجوز المزارعة واكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها إذا كان ذلك مشاعاً، ولم يكن بجزء معين من الأرض كالماذيانات والسواقي؛ وذلك جمعاً بين ما يدل على النهي عن المزارعة واكتراء الأرض وبين ما يدل على جوازها.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرجها فغير صحيح، وذلك لإمكان الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، ومع إمكان الجمع يتعذر ادعاء النسخ.

كما أن من شرط الناسخ تأخره على ما يخالفه، وهذا مما لا يصح ادعاؤه في هذه المسألة؛ لإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر ليهود خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وعمل بذلك حتى الموت، والنسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته.

أما ادعاء نسخ ما يدل على النهي عن المزارعة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها فغير صحيح كذلك؛ لأن الجمع بين ما ورد في النهي عن المزارعة واكتراء الأرض وبين ما ورد في جوازها ممكن كما سبق بيانه. ومع إمكان الجمع بين الأدلة لا يصح ادعاء النسخ.

ص: 16

177 -

يجوز المساقاة بجزء من الثمر إذا كان مشاعاً، وأن القول بنسخه غير صحيح؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليه تدل على جواز المساقاة صراحة وهي غير محتملة لغير ذلك، بخلاف أدلة القول المخالف له؛ حيث إنها اختلف فيما يراد بها.

ولأن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد موته، والمساقاة عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر حتى الموت، ثم عمل بها أبو بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر رضي الله عنه حتى أجلا اليهود من خيبر. وهذا مما يبطل قول من قال بأن ما يدل على جواز المساقاة قد نسخ.

178 -

يجوز تلقيح النخل بلا خلاف، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ظنّ ظناً بأن ترك التلقيح قد يكون أنفع وأصلح، ولم يكن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة كونه حكماً شرعياً، والمنسوخ لا بد أن يكون حكماً شرعياً، ولم يرد في هذه الأحاديث لفظ النهي، وما ورد فيه لفظ النهي ففيه ضعف؛ لذلك يكون القول بالنسخ فيها ضعيفاً.

179 -

إن العمرى لمن وهبت له وإنها لا ترجع للمعطي؛ وذلك لأحاديث كثيرة و صحيحة تدل على أن العمرى لمن وهبت له مطلقاً، وأنها لا ترجع للمعطي، وأن اشتراط رجوعها للمعطي بعد موت الموهوب له شرط أبطله الشارع.

أما ادعاء نسخ الأحاديث التي تدل على عدم عودة العمرى للمعطي، فضعيف وغير صحيح؛ لأنه ليس عليه دليل، وليس مما ترك الناس العمل عليه، بل عمل الجمهور به.

180 -

يجوز قبول الهدية من الكافرين والمشركين إذا لم يكن يترتب على ذلك أي ضرر أو مفسدة للإسلام أو المسلمين؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية من الكافرين، وأنه صلى الله عليه وسلم أذن في قبولها منهم.

كما أن من تلك الأحاديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية منهم في غزوة تبوك وبعدها. ويوجد مع بعض ما يدل على عدم قبول هداياهم أن ذلك كان قبل فتح مكة؛ لذلك فاحتمال أن تكون أحاديث المنع منسوخة بأحاديث الجواز احتمال راجح وقوي.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز قبول هديا المشركين فضعيف وغير صحيح؛ وذلك لأن ما يدل على جواز قبول هداياهم أكثر وأصح مما يدل على المنع والنهي، ثم لا يوجد ما يدل على أن ما يدل على النهي متأخر على ما يدل على الجواز، حتى يكون ناسخاً له، بل القول بعكسه أولى وأقوى.

181 -

إن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين قد نسخ فلا وصية لهم؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على أنه لا وصية لوارث، ويستفاد من بعضها أنه كان في وقت ما مشروعية الوصية لهم، ثم جاء النهي عن ذلك؛ لأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. وإذا كان ذلك كذلك فإن تلك الوصية المشروعة في وقت ما تكون منسوخة بالنهي اللاحق.

ولأن الظاهر من آية الوصية وجوب الوصية للوالدين والأقربين، وقد أجمع أهل العلم على أن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ، وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون المراد بالوالدين والأقربين في الآية الوالدان والأقربين الذين يرثون؛ لأنه لا يوجد ما يدل على وجوب الوصية لهم غير هذه الآية. وإذا كان المراد بها الوالدان والأقربين الوارثين فإن الوصية المذكورة فيها تكون منسوخة بآيات المواريث والأحاديث التي جاء فيها النهي عن الوصية للوارث، وبالإجماع الذي نقله غير واحد من أهل العلم.

182 -

يجوز التوارث بالحلف والمعاقدة عند عدم وجود الأقارب وذوي الأرحام؛ لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة جميعاً؛ وذلك بحمل ما يدل على نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة على ما إذا كان يوجد أحد من الأقارب وذوي الأرحام، وحمل ما يدل على التوارث به على ما إذا لم يوجد أحد منهم. والجمع بين الأدلة أولى من إلغاء بعضها. كما أن النسخ لا يصار إليه عند إمكان الجمع بين الأدلة.

ولأن التوارث به جاء فيه بعض الآثار، وعضد ذلك قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مما يدل على أن التوارث بالحلف والمعاقدة لم ينسخ مطلقاً، بل يُتوارث به عند فقد الأقارب وذوي الأرحام، وإلا لما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

كما أنه يظهر من جمع الروايات أن حديث (لا حلف في الإسلام) متقدم على حديث تميم الداري الذي يدل على التوارث بالحلف عند عدم وجود الورثة، وهو مما يبطل عموم ادعاء النسخ.

183 -

يدل غير ما حديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتق من أسلم من عبيد الكفار ولحق بالمسلمين قبل أن يسلم موالاه، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لما يدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه؛ حيث أسلم هو ولم يعتق حتى كاتب مولاه؛ لتأخرها عليه؛ لأن ما يدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه كان قبل غزوة الخندق، وحديث ابن عباس رضي الله عنه والشعبي جاء فيه ذكر الطائف، وهو كان بعد فتح مكة. فثبت منه نسخ ما يدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه، وأن العبد إذا أسلم قبل مولاه ولحق بالمسلمين أنه يصير حراً.

184 -

لا يجوز بيع أمهات الأولاد؛ لأن الأدلة التي يُستدل بها لهذا القول من الأخبار المرفوعة وإن كان كل منها لا تخلو من مقال، إلا أنها بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، ويقويها أثر عمر رضي الله عنه، وكذلك اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم على وفقها في زمنه.

ولأن القول بنسخ ما يدل على جواز بيعهن، له وجه، واحتمال قوي؛ لأن مع الأدلة التي تدل على عدم جواز بيعهن ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز بيعهن، فتكون ناسخة له، وهو ما جاء في إحدى طرق حديث جابر رضي الله عنه (ثم ذُكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك)، ويقوي هذا اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم-على عدم جواز البيع في عهد عمر رضي الله عنه؛ والإجماع لا ينسخ به، لكنه يدل على وجود ناسخ.

185 -

يحرم نكاح من ذكر تحريمهن في الآيات القرآنية وما ثبت في الأحاديث النبوية الصحيحة؛ وذلك لأدلة كثيرة، تدل على ذلك، وأن تخصيص عموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . بغيرها من الأدلة أولى من القول بالنسخ؛ لأنه لا تعارض بين العام و الخاص، فيعمل بالعام إلا فيما خص منه، وبذلك يجمع بين تلك الأدلة كلها، وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ.

186 -

إنه لا نكاح إلا بولي، وأنه بغير الولي باطل؛ لأن الأدلة الدالة على هذا القول أكثر وأقوى في الاستدلال، حتى إن منها ما هو نص صريح في المسألة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلا بولي» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» . بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة الواردة في المسألة، وذلك بأن تحمل الأدلة التي جاء فيها إضافة النكاح إلى النساء باعتبار أنهن محله، لا لأن لها أن تعقد على نفسها بغير إذن الولي، وأن تحمل الأدلة التي تدل بعمومها على جواز فعل المرأة في نفسها من غير شرط الوليّ، على اختيار الأزواج وغيره، دون عقد النكاح، وذلك للأحاديث الدالة على أن عقد النكاح من خصوصيات الأولياء.

وأن تحمل الأدلة التي تدل على الفرق بين الثيب والبكر وأن الثيب أحق بنفسها من وليها، على أنها أحق من وليها بالرضا، أي أنها لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر فإن سكوتها إذنها؛ وذلك للأحاديث الدالة على اشتراط الوليّ.

فإذا حملت هذه الأدلة على هذه المعاني والاحتمالات فلا تعارض بينها وبين ما يدل على اشتراط الولي.

أما ادعاء نسخ ما يستدل منه على اشتراط الولاية في النكاح، وكذلك القول المقابل له فكلاهما ضعيفان وغير صحيحين؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم وجود ما يدل على أن أدلة أحد القولين متأخرة على أدلة القول المقابل له. والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر ما يقال بأنه الناسخ، على ما يقال بأنه المنسوخ.

187 -

إن نكاح المتعة كان مباحاً ثم نسخ، فهو حرام إلى يوم القيامة؛ وذلك لأن كل مرة ثبت الإذن بإباحة المتعة فإنه جاء بعده النهي عنها، كما ذكر ذلك في حديث ابن مسعود، وسلمة بن الأكوع، وسبرة-رضي الله عنهم. وهو دليل صريح على نسخها وتحريمها.

ولأن حديث سبرة، وعلي-رضي الله عنهما-جاء فيهما قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة» ، فهما يدلان على نسخ المتعة وتأبيد تحريمها إلى يوم القيامة.

ص: 17

188 -

يجوز العزل لكنه مكروه، وبهذا يجمع به بين جميع الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار معه إلى غيره.

أما ادعاء النسخ في المسألة فغير صحيح؛ وذلك لعدم وجود ما يدل على تأخر دليل أحد القولين على دليل القول الآخر، وإمكان الجمع بين الأدلة كلها.

189 -

إن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن ضرب النساء إن كان المراد بالنهي فيها نهي تنزيه وأنه خلاف الأولى، فالقول بعدم النسخ أولى؛ لأنه أمكن الجمع بين هذه الأدلة كلها، بحمل ما يدل على الضرب على الجواز، وحمل ما يدل على النهي عن خلاف الأولى وعلى الكراهة.

وإن كان المراد بالنهي في هذه الأحاديث نهي تحريم، فيكون هذا النهي منسوخاً بما يدل على جواز ضربهن للتأديب وعند نشوزهن؛ وذلك لأن الآية الكريمة محكمة وهي تدل على جواز ضربهن عند النشوز.

والذي يقوى احتمال نسخ النهي عن ضربهن ورود لفظ الرخصة والإذن في ضربهن، بعد النهي عن ضربهن. وكف الصحابة-رضي الله عنهم عن ضربهن حين نهوا عنه حتى رُخِّص لهم فيه وأذن.

190 -

لا يحصل التحريم بأقل من خمس رضعات؛ وذلك لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة الواردة في المسألة؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل على عدم حصول التحريم بأقل من خمس رضعات نص صريح في المسألة، والأدلة التي تنص على عدم التحريم بالرضعة و الرضعتين، خرجت في جواب سؤال؛ لذلك فهي ليست معارضة لما تنص على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات، ثم مجموع تلك الأحاديث مقيدة ومفسرة ومبينة للأدلة المطلقة التي ليس فيها ذكر للقدر المحرم من الرضاعة، كالآية الكريمة، وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه ونحوه.

ثم إن القول بأن التحريم كان بعشر رضعات معلومات، ثم نسخ ذلك بخمس رضعات معلومات فصحيح؛ لأن حديث عائشة-رضي الله عنها-نص صريح فيه.

ولا يصح قول من قال بنسخ ما يدل على عدم حصول التحريم بأقل من ثلاث رضعات أو بأقل من خمس رضعات؛ لأنه ليس له مستند لا من الكتاب ولا من السنة.

كما لا يصح قول من قال بنسخ ما يدل على التحريم بأقل من خمس رضعات بالأحاديث التي تدل على عدم التحريم بأقل من خمس رضعات؛ لأنه لا تعارض بين تلك الأحاديث كلها؛ حيث أمكن الجمع بينها.

191 -

لا يثبت الحرمة برضاع الكبير؛ وذلك لأن أدلة هذا القول كثيرة، وأكثرها صحيحة وصريحة، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنها لا تبلغ هذا المبلغ.

ولأن الحديث في قصة سالم لا يخلو من أحد احتمالين هما: أن يكون خاصاً به، كما صرحت به أم سلمة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة، وتكون الأحاديث المعارضة له دالة على أنه خاص به. أو أن يكون منسوخاً بالأحاديث التي تعارضه.

ولا يوجد دليل صريح يدل على أن ما يدل على حصول الحرمة برضاع الصغير دون الكبير متأخر على ما يدل على حصول الحرمة برضاع الكبير، إلا أن القول بنسخ ما يدل على حصول الحرمة برضاع الكبير، له وجه واحتمال، وذلك لأن ممن روى ما يدل على حصر الحرمة برضاع الصغير، أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، وهما أسلما ولقيا النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة رضاع سالم.

192 -

إن الكافرة لها حق في حضانة ولدها المسلم ما لم يعقل الدين أو يخف عليه من تأليف الكفر؛ وذلك لحديث رافع بن سنان رضي الله عنه.

أما ادعاء نسخ حديث سنان رضي الله عنه فضعيف؛ وذلك لأن الآية التي يستدل بها على النسخ عامة، والحديث خاص، ثم لا يوجد ما يدل على تأخرها عليه.

193 -

لا خلاف بين أهل العلم في أن الطلاق محصور بعدد، وأنه ليس للزوج مراجعة زوجته بعد الطلقة الثالثة إلا أن تنكح زوجاً غيره.

وكان في الجاهلية عدم حصر الطلاق بعدد، وقد عمل به بعض المسلمين في أول الأمر، ثم جاء الشرع بخلافه، فنسخ به الحكم السابق، كما صرح به ابن عباس رضي الله عنه.

ولأن البعض من الروايات المذكورة يفهم منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المسلمين ممن عمل نحو هذا العمل، ثم نزلت الآية ونسخ ذلك الحكم، وجاءت السنة مفسرة للكتاب.

194 -

يقع طلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً معاً؛ لحديث سهل بن سعد، وابن عمر، وعبادة، وركانة-رضي الله عنهم-فإنها تدل على وقوع الطلاق الثلاث لمن طلق ثلاثاً مجموعة، وهي وإن كان في بعضها ضعفاً إلا أنها بمجموعها تقوى وتدل على ثبوت وقوع الطلاق الثلاث معاً.

ولأن لفظ الطلقات الثلاث معاً يحتمل الثلاث، كما يدل عليه أقوال الصحابة-رضي الله عنهم، وقد أراده من تلفظ به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .

ولأن أدلة القول القائل بوقوع واحدة لمن طلق ثلاثاً معاً، من الأحاديث وإن كانت صحيحة، إلا أنها تتطرق إليها احتمالات عدة مما يضعف وجه الاستدلال بها.

ولأن القول بنسخ جعل الثلاث واحدة، له وجه؛ لأن الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه أجمعوا على إجازة الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً معاً، فيدل إجماعهم ذلك على وجود ناسخ، وإن خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر رضي الله عنه.

ويؤيد ذلك ترك ابن عباس رضي الله عنه لما رواه، وإفتاؤه لمن طلق ثلاثاً معاً، بأنه عصى الله وبانت منه زوجته.

195 -

إن المرأة إذا أسلمت ثم انتظرت ولم تنكح زوجاً غيره حتى أسلم زوجها، فإنها ترد إليه بالنكاح الأول إذا رضيت؛ وذلك لكثرة أدلة هذا القول مع صحتها وصراحتها في الدلالة، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى فإن منها ما هو صحيح غير صريح، ومنها ما هو صريح غير صحيح، ومنها ما هو محتمل لأكثر من احتمال.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين ما صح من الأدلة الواردة في المسألة كلها، بخلاف الأقوال الأخرى، وذلك بحمل أدلة هذا القول على ما إذا انتظرت ولم تنكح زوجاً غيره حتى أسلم زوجها، فإنها ترد إليه بالنكاح الأول إذا رضيت. وحمل أدلة الأقوال الأخرى على حصول الحرمة بينهما بمجرد إسلام أحدهما، لكنها لا تمنع من ردها إليه بالنكاح الأول إذا رضيت ولم تنكح زوجاً غيره، سواء انقضت عدتها أم لا.

أما ادعاء نسخ ما يدل على رد المرأة إلى زوجها بالنكاح الأول إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى ولو لم تنكح زوجاً غيره، فغير صحيح؛ وذلك لأنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، كما سبق بيانه، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى النسخ.

ولأنه قد أسلمت نساء بعد نزول الآية الكريمة وتأخر إسلام أزواجهن، ومع ذلك فإنهن رددن إلى أزواجهن بالنكاح الأول، فلو كانت الآية الكريمة ناسخة لردهن إلى أزواجهن بالنكاح الأول، لما صح ردهن إليهم.

196 -

يجوز أخذ الفدية في الخلع؛ ويدل على ذلك الكتاب والسنة، ولا يصح القول بنسخ أخذ الفدية في الخلع لأنه لا دليل عليه.

197 -

لا خلاف بين أهل العلم في أن الظهار غير الطلاق، وأنه تحريم موقت يوجب الكفارة بخلاف الطلاق؛ وذلك لغير ما دليل يدل عليه.

ويظهر-والله أعلم بالصواب-من مجموع الروايات الواردة في المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر كون الظهار طلاقاً يحصل به الحرمة والفراق، حتى أنزل الله آيات الظهار، فجعله تحريماً موقتاً وموجباً للكفارة، ورافعاً للحكم السابق، فنسخ به كون الظهار طلاقاً.

198 -

إن مدة حداد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، إذا توفي زوجها ولم تكن حاملاً؛ وذلك للأحاديث الكثيرة التي تدل على ذلك.

أما حديث أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-الذي يدل على مدة حدادها على الزوج ثلاثة أيام، فبعض أهل العلم ضعفه، وبعضهم صححه، وهو على كل حال لا يقاوم الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإذاً فالحكم لتلك الأحاديث لا لحديثها، لكنه على تقدير الصحة محتمل لأن يكون منسوخاً بالأحاديث المعارضة له، ويؤيده إجماع أهل العلم على القول بموجبها لا بموجبه.

ص: 17

199 -

إن الوصية من النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها، قد نسخ؛ وذلك لأن هذه الوصية كانت قبل نزول المواريث، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. فتكون آية المواريث والأحاديث التي تدل على عدم الوصية للوارث ناسخة لهذه الوصية.

لكن لا يلزم من نسخ هذه الوصية أن المتوفى عنها زوجها لا تعتد في البيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه.

200 -

تدل إحدى الآيتين على أن المتوفى عنها زوجها كان عليها أن تعتد سنة، والآية الآخر تدل على أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهي متأخرة في النزول، فتكون ناسخة للآية الأولى ويؤكدها غير ما حديث؛ حيث جعل الإحداد لها على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشراً، مدة عدتها من الوفاة.

201 -

إن المتوفى عنها زوجها لا تنتقل من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله؛ وذلك لأن حديث فريعة-رضي الله عنها-نص صريح في المسألة، ويؤيدها ما روي عن زيد بن طلحة، ومجاهد. بخلاف أدلة القول المعارض له؛ فإنها تحتمل أكثر من احتمال.

ولأنه لا يوجد دليل على أن الآية التي يستدل منها على نسخ أن تعتد المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها متأخر على حديث الفريعة-رضي الله عنها حتى تكون ناسخة للحكم الذي يدل عليه حديث الفريعة-رضي الله عنها.

ولأن القول بنسخ ما يدل على خروج المتوفى عنها زوجها عن بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله أقوى من القول بنسخ ما يدل على عدم الخروج؛ وذلك لأن آية التربص هي الناسخة لآية الإخراج، وحديث الفريعة موافق لتلك الآية، فيكون فيه نوع من الدلالة على نسخ ما يدل على خروجهن قبل أن تنقضي عدتها.

202 -

لا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، وصراحتها في عدم قتل المسلم بالكافر، من دون فرق بين كافر وكافر. بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إن بعضها غير صحيح، وبعضها أدلة عامة، فتكون الأدلة الدالة على عدم قتل المسلم بالكافر مخصصة لعمومها.

ثم على تقدير صحة ما يدل على قتل المسلم بالكافر فإنه يكون منسوخاً بما يدل على عدم قتل المسلم بالكافر؛ لتأخره عليه.

203 -

إن حديث سمرة رضي الله عنه الدال على قتل السيد بعبده، وكذلك الأحاديث التي يستدل منها على عدم قتل السيد بعبده، كلها متكلم فيها، لكن الأدلة العامة من الكتاب والسنة تدل على تكافئ دماء المسلمين، وعلى قتل المسلم بالمسلم، وهي تشمل قتل السيد بعبده؛ لذلك يكون القول بقتل السيد بعبده أرجح من حيث الأدلة على القول المعارض له.

أما ادعاء نسخ ما يدل على قتل السيد بعبده فضعيف؛ لأن الأدلة التي يستدل منها على النسخ كلها ضعيفة ومتكلم فيها.

كما أنه لا يوجد ما يدل على تأخر تلك الأدلة على الأدلة التي يستدل منها على قتل السيد بعبده، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ.

204 -

لا خلاف بين أهل العلم في النهي عن المثلة وتحريمها ابتداء، واختلفوا في جوازها قصاصاً أعني قتل القاتل كما قتل قصاصاً، اختلفوا فيها على قولين. لكن الذي يظهر -والله أعلم بالصواب-عدم جواز المثلة ابتداء ولا قصاصاً، وأن ما يدل على جوازها فإن ما يدل على النهي عنها متأخر عنها.

205 -

يجوز أن يقتل بمثل ما قتل إلا إذا كان القاتل مثَّل بالمقتول أو قتله بما يحرم لذاته، فلا يمثل به ولا يقتل بما هو محرم لذاته بل يقتل بالسيف؛ لأن الأحاديث في النهي عن المثلة كثيرة وصحيحة، وهي تدل على النهي عن المثلة مطلقاً، وليس فيها ما يدل على جوازها قصاصاً، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة في غير ما حديث، ولم يأت في أي رواية أنه استثنى من ذلك المثلة قصاصاً.

ولأنه يفهم من مجموع طرق حديث أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين النهي عن المثلة حتى ولو كانت قصاصاً؛ لذلك كان القول بنسخ المثلة ولو قصاصاً أقوى وأرجح، ويؤيد ذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة).

206 -

لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ؛ وذلك لأن القول بنسخ ما يدل على جواز استيفاء القصاص من الجرح قبل اندماله، صحيح؛ وذلك لأن النهي عن استيقاد الجرح قبل برئه جاء بعد ذلك، كما صرح به في رواية لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فيكون ذلك ناسخاً لما يخالفه.

207 -

إن المرتد إن لم يتب فإنه يجب قتله؛ وذلك للأدلة الكثيرة التي تدل على قتل المرتد ومن بدل دينه، وأنه قضاء الله ورسوله.

أما القول بأن قتل المرتد كان حراماً حتى بعث علي رضي الله عنه بذهيبة من اليمن، وقسم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، ثم نسخ ذلك بعد ذلك ووجب قتله، فغير صحيح؛ وذلك لأن عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم لمن صدر منهم بعض الكلمات التي تبيح قتله لم يكن لأن قتل المرتد كان حراماً، بل لئلا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولأنه كان يصلي.

كما أن الأمر بقتل المرتد مقدم على بعث علي رضي الله عنه بذهيبة من اليمن؛ لأن معاذ رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قبل علي رضي الله عنه وهو بين لما التقى مع أبي موسى رضي الله عنه أن قتل المرتد قضاء الله ورسوله، فهو مما يبطل قول النسخ.

208 -

إنه يثبت من مجموع الأدلة أنه كان في أول الإسلام حد الزانية والزاني الحبس والأذى، ثم نسخ الله ذلك، فجعل حد البكر جلد مائة ونفي سنة، وجعل حد الثيب جلد مائة والرجم. فثبت من ذلك نسخ حد الحبس والأذى عن الزانيين.

209 -

ينفى الزاني البكر من الأحرار، ولا ينفى الرقيق؛ وذلك لأحاديث كثيرة و صحيحة، تدل على نفي الزاني البكر، وهي عامة تشمل الرجل والمرأة، وورود أحاديث في حد الأمة من دون ذكر النفي، وهو مما يدل على الفرق بين الأحرار والعبيد.

أما الادعاء بأن تغريب الزاني البكر قد نسخ، فغير صحيح؛ وذلك لعدم وجود أي دليل يدل على النسخ.

ولأن الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم غربوا، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، ولم ينكر عليهم منكر، ولو كان التغريب منسوخاً لما عملوا به.

210 -

يرجم الثيب الزاني، ولا يجلد؛ وذلك لأن أدلة هذا القول جاءت من طرق مختلفة، ولم يذكر في شيء منها الجلد، وذكر في غير واحد منها الأمر بالرجم، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، وعدم وقوعه يدل إما على أنه لم يجب أصلاً، أو على أنه كان ثم ترك.

ولأن أدلة هذا القول تدل على رجم الزاني المحصن دون جلده، ثم يوجد معها ما يدل على تأخرها على ما يدل على جلد الزاني المحصن، فتكون ناسخة له.

211 -

إن الأمة تحد إذا زنت سواء أحصنت بزوج أم لا؛ وذلك لأن أدلة هذا القول كثيرة وصحيحة، ثم منها ما هو نص صريح في المسألة، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إن بعضه محتمل لأكثر من معنى، وبعضه مختلف في رفعه ووقفه، ومثل هذا لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة.

ولأن حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي يدل على عدم حد الأمة إذا زنت ولم تكن محصنة بزوج، إن صح مرفوعاً فيحتمل أنه كان أولاً، فيكون منسوخاً بالأحاديث التي تدل على إقامة الحد على من زنى من الرقيق سواء كان محصناً أم لا.

212 -

يرجم من زنى بجارية امرأته إلا أن يدعي شبهة؛ وذلك لأن أدلة هذا القول كثيرة وصحيحة بلا خلاف، أما حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه الذي يدل على عدم إقامة الحد عليه، فمتكلم فيه، فلا يقوى على معارضة تلك الأحاديث، وإن صح فإنه يكون منسوخاً بما يعارضه؛ لوجود ما يدل على تأخر تلك الأحاديث عليه.

213 -

يرجم من زنى من أهل الذمة إذا كان ثيباً، ورفعوا الحكم إلى حاكم مسلم؛ وذلك لأن أدلة هذا القول أكثرها صحيحة، ثم هي صريحة في رجم الزانيين المحصنين من اليهود، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث لا يصح منها إلا رواية ابن عمر رضي الله عنه، وهو قد اختلف في رفعه ووقفه، ثم يحتمل أكثر من احتمال.

أما ادعاء نسخ رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزانيين المحصنين من اليهود، فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد دليل صحيح صريح يدل على ذلك، وكل ما ذكر فهو احتمال، ثم يوجد من الأدلة ما يدل على تأخر رجمهم حتى بعد نزول الحدود.

ولأن رجم اليهوديين الزانيين، جاء فيه روايات كثيرة، ويثبت من مجموعها تعدد واقعة الرجم، وأن بعضها إن كان حصل في أول الهجرة، فإن بعضها الآخر حصل متأخراً حتى بعد فتح مكة، وهو مما يبطل دعوى النسخ.

ص: 19

214 -

يحد شارب الخمر ولو شرب مراراً ولا يقتل؛ وذلك لما صح وثبت من أن الأدلة التي تدل على قتل شارب الخمر بعد المرة الرابعة قد نسخت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر بعد المرة الرابعة ولم يقتله.

215 -

لا يقطع يد من جحد العارية؛ وذلك لأن الأحاديث التي جاء فيها ذكر قطع يد من جحد العارية وإن كانت صريحة في ذلك، إلا أنه يظهر من جمع طرق هذه الأحاديث ما يدل على أن القطع كان بسبب السرقة، وأن تلك المرأة كانت تجحد العارية ومع ذلك قد سرقت، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها بالسرقة، وأن بعض الرواة رووا الحديث مختصراً على ذكر جحد العارية، لذلك أوهم بعض أهل العلم بأن القطع كان بجحد العارية، وأن القطع كان لامرأتين إحداهما بالسرقة، والأخرى بجحد العارية.

أما ادعاء نسخ ما يستدل منه على قطع جاحد العارية، فغير صحيح؛ وذلك لأن القطع كان بسبب السرقة لا بجحد العارية حتى يقال بنسخه.

كما أنه لا يوجد ما يدل على تأخر ما استدل منه على النسخ، على ما استدل منه على قطع اليد بجحد العارية، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ.

216 -

لا يقتل السارق إذا سرق بعد المرة الرابعة؛ وذلك للأحاديث التي تدل على عدم جواز قتل المسلم إلا بإحدى ثلاث، وليس فيها ذكر القتل بالسرقة؛ فإن تلك الأحاديث بعمومها تشمل السارق إذا سرق المرة الخامسة.

ثم إنه لا يوجد ما يصرح على نسخ ما استدل منه على قتل السارق بعد المرة الخامسة، لكنه محتمل على تقدير صحة تلك الأحاديث، وعلى تقدير أن المراد بها قتل السارق بعد المرة الخامسة، ويؤيد احتمال النسخ، ما هو شبه الإجماع على أنه لا يقتل السارق بعد المرة الخامسة.

217 -

يجوز التعزير والعقوبة بالمال، وإنه لم ينسخ مطلقاً؛ وذلك لأنه وإن وجد نسخ التعزير والعقوبة بالمال في بعض الصور، فإنه لا يلزم منه نسخ ذلك مطلقاً، ولذلك عمل الخلفاء به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما يبطل دعوى نسخه مطلقاً.

ولأن الأدلة التي استُدل منها على نسخ التعزير والعقوبة بالمال مطلقاً، أدلة عامة، وما يدل على جواز التعزير والعقوبة بالمال، أدلة خاصة، والجمع بين العام والخاص ممكن، وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص. وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار إلى القول بالنسخ.

218 -

يجب على من كتم ضالة الإبل غرامتها ومثلها معها؛ وذلك لأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، وأدلة القول المعارض له أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن بحمل العام على ما عدا محل الخصوص، ويؤيد ذلك عمل عمر رضي الله عنه به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يصح القول بنسخ ما يدل على أخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ.

ولأن عمر رضي الله عنه قد عمل على وفق ما يدل على أخذ المثل مع الغرامة في ضالة الإبل المكتومة، وهو مما يبطل القول بنسخه.

219 -

إن من سرق من الثمر المعلق فإن عليه الغرامة بالمثلين؛ وذلك لأن دليله نص صريح في المسألة، بخلاف أدلة القول المعارض له، فإنها أدلة عامة، وليست نصاً صريحاً فيها، ثم يمكن الجمع بينهما بحمل العام على ما عدا محل الخصوص؛ ولذلك يكون القول بنسخ ما يدل على أخذ المثلين في سرقة الثمر المعلق غير صحيح؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند تذر الجمع بين الأدلة.

ولأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، وما ذكر احتمال، والنسخ لا يثبت به.

220 -

لا يجوز الزيادة على عشرة أسواط في غير الحدود؛ وذلك لأن أدلة القول المعارض له و إن كانت أكثر إلا أن كلها متكلم فيها، وحديث أبي بردة رضي الله عنه الدال على عدم الزيادة على عشرة أسواط في غير الحدود، أصح ما في المسألة، لذلك فهي لا تقاوم حديثه.

أما ادعاء نسخ ما يدل على عدم جواز الضرب فوق عشرة أسواط في غير الحدود، فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد إجماع في المسألة حتى يستدل منه على النسخ، وما ذكر احتمال والنسخ لا يثبت به.

ولأن الأحاديث التي يستدل منها على النسخ كلها متكلم فيها، فهي لا تقوى على معارضة حديث أبي بردة رضي الله عنه ولا على نسخه.

221 -

يجوز استعمال القرعة في الحكم؛ وذلك لكثرة الأدلة التي تدل عليه من الكتاب والسنة، مع صحتها وصراحتها، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ فإن منها ما هو غير صحيح، ومنها ما هو غير صريح في المسألة.

أما ادعاء نسخ ما يدل على استعمال القرعة في الحكم، فغير صحيح؛ وذلك لأن الأدلة التي استُدل منها على النسخ، بعضها غير صحيح، وبعضها مع أنها غير صريحة في المسألة متقدمة على ما يدل على استعمال القرعة في الحكم، والنسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ.

222 -

يجوز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت وصية، ولم يوجد أحد من المسلمين؛ وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليه، وكذلك قضاء بعض الصحابة-رضي الله عنهم على وفقه، ولم ينقل عن بقية الصحابة-رضي الله عنهم-إنكاره، فكان كالإجماع عليه.

ولأن أدلة هذا القول أدلة خاصة، وأدلة القول المعارض له أدلته أدلة عامة، ولا تعارض بينهما، فيعمل على العموم فيما عدا محل الخصوص.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت وصية، ولم يوجد أحد من المسلمين، فغير صحيح؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم وجود دليل يدل على تأخر ما يستدل منه على النسخ على ما يخالفه، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ.

223 -

يحرم لبس الحرير والديباج للرجال، وأن ما يدل على جوازه فإنه قد نسخ؛ وذلك للأحاديث الكثيرة الصحيحة التي تدل على النهي عن لبس الحرير، وأن لبس النبي صلى الله عليه وسلم له كان قبل النهي عنه.

224 -

يجوز تحلي النساء بالذهب؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على جواز تحليهن به.

ثم الأحاديث التي تدل على إباحة تحلي النساء بالذهب وإن لم يوجد فيها ما يدل على تأخرها على الأحاديث التي تدل على تحريم تحليهن به، إلا أن إجماع أهل العلم على جواز تحليهن به، يدل على تأخر ما يدل على الإباحة؛ لأن إجماع أهل العلم على حكم مسألة يدل على نسخ ما يخالفه.

225 -

لا يجوز لبس خاتم الذهب للرجال؛ وذلك للأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على النهي عن لبس خاتم الذهب للرجال.

ولأن النهى عن لبس خاتم الذهب متأخر عما يدل على جواز لبسه، فيكون النهي ناسخاً لما يخالفه.

226 -

يجوز التختم في اليمين وفي اليسار؛ وذلك لصحة الحديث فيهما، وإن كان الأحاديث الواردة في اللبس في اليمين أكثر.

أما ادعاء نسخ ما يدل على لبس الخاتم في اليمين، فضعيف لضعف الحديث الذي يستدل منه على ذلك، ويؤكد ضعفه أن غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم-بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم في اليمين، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين.

227 -

يجوز الرقية من غير كراهة إذا لم يكن فيها شرك؛ وذلك لأحاديث كثيرة صحيحة وصريحة، قولية وفعلية، تدل على جواز الرقية.

والقول بنسخ ما يدل على النهي عن الرقية قوي؛ لأن الأمر بالرقية متأخر عن النهي عنها ويدل على صحة قول النسخ بأن الصحابة-رضي الله عنهم-فهموا من النهي في تلك الأحاديث، النهي عن الرقية مطلقاً، ولو كان النهي خاصاً بالرقية الشركية لما انتهوا عنها مطلقاً، ولبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا له:(إنك نهيت عن الرقى) بأنه إنما نهى عما فيها الشرك.

ص: 20

228 -

إن حديث الشريد، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-الدالان على اجتناب المجذوم والفرار منه أقوى من حديث جابر، وأبي ذر، وابن عباس رضي الله عنهم-والتي يستدل منها على عدم الفرار والاجتناب عن المجذوم، إلا أن هذه الأحاديث تتقوى بحديث نفي العدوى؛ لأنه عام، فيشمل بعمومه نفى العدوى من الجذام، وإذا كان كذلك فإنه يدل كذلك على عدم الاجتناب من المجذوم. والأحاديث في نفي العدوى صحيحة وكثيرة.

أما ادعاء نسخ ما يستدل منه على الاجتناب والفرار من المجذوم، بالأحاديث التي يستدل منها على عدم الاجتناب والفرار منه، فاحتمال، والأولى منه هو القول بالجمع بين تلك الأحاديث كلها؛ لأنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ادعاء النسخ.

ثم إن لأهل العلم لهم مسالك في الجمع بين تلك الأحاديث، إلا أن الأولى منها هو المسلك القائل بحمل ما يدل على نفي العدوى، على نفيها أصلاً ورأساً، وحمل ما يدل على المجانبة عن المجذوم على حسم المادة، وسد الذريعة؛ وذلك لأن فيه مع الجمع بين تلك الأحاديث، بقاء لعموم النفي الذي يدل عليه إطلاق أحاديث نفي العدوى.

229 -

يجوز الكيّ عند الحاجة إليه، مع كونه خلاف الأولى؛ وذلك لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة لا يصار معه لا إلى الترجيح ولا إلى القول بالنسخ.

أما ادعاء نسخ ما يدل على النهي عن الكيّ فهو وإن كان محتملاً، إلا أن الصحيح عدم النسخ؛ وذلك لأنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، ومع إمكان الجمع بين الأدلة لا يصار إلى النسخ.

230 -

لا يجوز القران بين التمرتين عند الأكل، إذا كان التمر مشتركاً إلا بإذن بقية الأصحاب ورضاهم، سواء كان الإذن صريحاً أو تلميحاً، من قرينة حال أو إدلال؛ وذلك لضعف حديث بريدة رضي الله عنه الدال على جواز الإقران، وصحة حديث النهي عن القران بين التمرتين إلا بإذن بقية الأصحاب، وظاهر النهي أنه للتحريم، ويؤيد ذلك أن ابن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن القران بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو مذكور في حديثه.

أما ادعاء نسخ النهي عن القران بين التمرتين عند الأكل، فغير صحيح؛ وذلك لضعف الحديث الذي يستدل منه على النسخ، وصحة ما يخالفه، والضعيف لا يقوى على إزالة القوي.

231 -

يجوز الشرب قائماً، لكنه مكروه، وخلاف الأولى؛ وبذلك يجمع بين الأحاديث الناهية عن الشرب قائماً، وبين الأحاديث الدالة على جوازه، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار معه إلى الترجيح ولا إلى غيره.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز الشرب قائماً، فغير صحيح؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم وجود ما يدل على تأخر ما يدل على النهي على ما يدل على الجواز.

أما القول بنسخ ما يدل على النهي عن الشرب قائماً، وإن كان له وجه واحتمال؛ لشرب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قائماً، وهو متأخر، ولشرب جمع من الصحابة، ومنهم الخلفاء الراشدون-رضي الله عنهم-بعد النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، إلا أن الأولى عدم القول به؛ وذلك لأنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأدلة، وقد سبق ما يجمع به بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة. ثم هو احتمال، والنسخ لا يثبت به.

232 -

يستحب تفريق الشعر، ويكره سدله؛ لأنه يثبت من مجموع الروايتين للحديث أن سدل الشعر كان أولاً، ثم نسخ بالفرق، فالفرق هو آخر الأمرين، فيكون هو السنة.

233 -

يجوز دخول الحمام للرجال، إذا كان قد اتزر، وكان يسلم من النظر إلى عورات

الناس؛ وذلك لغير ما حديث يدل على جواز دخول الحمام للرجل إذا كان متزراً، ثم حديث عائشة-رضي الله عنها-صريح في نسخ النهي عن دخول الحمام للرجال، كما قال الحازمي، إلا أنه حديث ضعيف.

234 -

إن الأولى كراهة التكني بأبي القاسم؛ وذلك لأن أكثر الأحاديث الناهية عن التكني به مطلقة، ثم هي أصح وأكثر مما يعارضها.

أما ادعاء نسخ ما يدل على النهي عن التكني بأبي القاسم، فهو وإن كان محتملاً، لكن الصحيح عدم النسخ، وذلك؛ لأن الأدلة التي يستدل منها على النسخ، منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو يدل على الخصوص،، فالأول لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عن التكني بأبي القاسم فضلاً من أن يكون ناسخاً لها، والثاني غير معارض لها، فلا يكون ناسخاً لها.

235 -

لا يجوز أي نوع من السجود في هذه الملة لأي أحد غير الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأدلة كثيرة تدل على تحريم السجود لغير الله سبحانه وتعالى.

وإن سجدة التحية والإكرام وإن كانت جائزة في بعض الملل السابقة إلا أنها نسخت؛

لذلك لا يجوز في ملتنا أي نوع من السجود لغير الله سبحانه وتعالى.

236 -

لا يجوز ابتداء أهل الكفر بالسلام؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليه صريحة في النهي عن السلام على أهل الكفر، بخلاف أدلة القول المعارض له، فإن أدلته تحتمل أكثر من معنى واحتمال.

ثم إن حديث أسامة رضي الله عنه إن كان فيه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين وكذلك على الكفار، وكذلك أريد بآية سورة مريم، وآية سورة زخرف، سلام التحية، فإن ذلك يكون منسوخاً بالأمر بقتالهم، وبالنهي عن السلام عليهم.

وإن الأدلة التي يستدل منها على جواز ابتداء أهل الكفر بالسلام، تحتمل أكثر من معنى واحتمال، لذلك لا يتعين فيها القول بالنسخ، لكن إن كان المراد بها سلام التحية على الكفار، فإنها تكون منسوخة بالأدلة التي تدل على قتال الكفار، وبالنهي عن ابتداء السلام عليهم؛ لتأخر ما يدل على النهي عن ابتداء السلام عليهم على ما يخالفه.

237 -

الضيافة واجبة؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليها مع كثرتها وصحتها صريحة في وجوب الضيافة وأنها حق للضيف، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنه ليس فيها ما يصرح على نفي وجوب الضيافة، وإنما هي احتمالات وتأويلات ليس عليها أي دليل.

أما ادعاء نسخ ما يدل على وجوب الضيافة، فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد دليل يدل على أن ما يستدل منه على النسخ متأخر على ما يستدل منه على وجوب الضيافة، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الدليل الناسخ على ما يعارضه.

238 -

يجوز اللعب بالحراب في المسجد إذا كان للتدريب على مواقع الحروب، والاستعداد للحروب؛ وذلك لصحة الحديث فيه، وضعف حديث واثلة رضي الله عنه الذي يدل على مخالفة ذلك، وعدم التصريح فيه وفي الآية الكريمة بالنسخ.

كما أنه لا يوجد ما يدل على تأخر ما يستدل منه على النسخ على ما يعارضه، وهو شرط لصحة النسخ.

239 -

إن الأولى هو عدم جواز اتخاذ اللعب للبنات؛ وذلك للأحاديث الكثيرة الصحيحة والصريحة في تحريم اتخاذ الصور، والأمر في بعضها بطمس الصور والتماثيل ومحوها، وهي أحاديث عامة تشمل اللعب للبنات إذا كانت صورة وتمثالاً، ولم يرد في واحد من تلك الأحاديث استثناء اللعب والبنات للبنات، فهو مما يدل على تعميم النهي والتحريم.

ولأن الأحاديث في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة تحتمل كونها قبل الأمر بمحو الصور وطمسها، فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها، كما ذهب إليه غير واحد من أهل العلم.

240 -

يجوز وضع إحدى الرجلين على الأخرى عند الاستلقاء إذا أمن كشف العورة؛ وذلك لحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، ولما روى عن جمع من الصحابة-رضي الله عنهم منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان-رضي الله عنهم أنهم كانوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، ولا يرون به بأساً، مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بهديه وسنته.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين جميع الأدلة، وذلك بحمل ما يدل على النهي على ما إذا كان فيه كشف العورة، وحمل ما يدل على الجواز إذا عدم ذلك.

أما ادعاء نسخ ما يدل على النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى عند الاستلقاء فقول له احتمال، لكن الأولى عدم القول به؛ وذلك لأنه احتمال، والنسخ لا يثبت به.

كما أنه يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى النسخ.

ص: 21

241 -

يُقتل من الحيات ذو الطفيتين والأبتر أينما وجدت، ويقتل غيرها في الصحاري، ولا تقتل ذوات البيوت حتى يحرج عليها ثلاثة أيام؛ وذلك لأن على هذا القول يجمع بين جميع الأحاديث الواردة في قتل الحيات، وحديث أبي لبابة مفسر لذلك ومبين له.

ولأنه وإن جاءت أحاديث مطلقة وعامة في قتل الحيات، إلا أنه جاء بعد ذلك استثناء حيات البيوت، فيكون ذلك مخصصاً أو ناسخاً لعمومها.

والقول بنسخ عموم الأمر بقتل الحيات بالنهي عن حيات البيوت قول صحيح ومعتبر؛ لأن بعض الأحاديث ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه يدل على أن الأمر بقتل الحيات كان عاماً، وشاملاً لجميع الحيات، ثم أخرج من هذا العموم حيات البيوت بالنهي عن قتلها، فيكون ذلك ناسخاً لقتل حيات البيوت، كما ذهب إليه غير واحد من أهل العلم.

242 -

لا يجوز أن يقال: (ما شاء الله وشئت، أو شاء فلان) بل يقول: (ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله ثم شئت، أو شاء فلان)؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على النهي عن ذلك.

ويظهر-والله أعلم بالصواب- صحة قول من قال بأن ذلك كان مباحاً، ثم نسخ؛ وذلك لأن بعض تلك الأحاديث يدل على سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عمن قال تلك المقالة، وهو دليل الإباحة، ثم نهى عنها بعد ذلك، فنُسخ به الإباحة السابقة.

243 -

كتابة الأحاديث وإن كان فيه خلاف بين السلف عملاً وتركاً، إلا أن الأمر استقر بعدهم، وانعقد الإجماع على جواز كتابة الأحاديث بل على استحبابه؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على جوازه.

والذي يظهر هو صحة قول من قال بنسخ النهي عن كتابة الأحاديث، وذلك لتأخر ما يدل على جواز الكتابة.

ص: 22

244 -

المسائل الفقهية التي قمت بجمعها ودراستها ثلاثة أنواع، نوع يصح فيها القول بالنسخ، ويدل عليه دليل من الكتاب أو السنة، أو الإجماع.

ونوع القول بالنسخ فيها محتمل، ثم قد يكون الاحتمال قوياً، وقد يكون ضعيفاً.

ونوع القول فيها بالنسخ مجرد ادعاء، ليس عليه أي دليل.

245 -

يوجد بعض المسائل يكون الادعاء بالنسخ فيها ناتجاً عن نزعة أو تعصب مذهبي؛ وذلك أن بعض من تعصب للمذهب عندما وجد حديثاً صحيحاً ثابتاً، وكان مذهبه على خلافه، ادعى نسخ الحديث والدليل الذي يكون مذهبه مخالفاً له.

246 -

عند بعض الحنفية يعتبر قول الراوي وفتياه على خلاف روايته دليلاً على نسخه؛ لذلك ادعوا النسخ في كثير من المسائل التي يكون فيها قول الراوي وفتياه بخلاف روايته؛ وذلك إذا كان القول بالنسخ يوافق المذهب.

والصحيح عدم اعتبار مخالفة الراوي لما رواه دليلاً على النسخ؛ لأن مخالفته لما رواه يتطرق له عدة احتمالات، على أنه ليس لأحد قول أو فعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

247 -

عند بعض المالكية يعتبر عمل أهل المدينة على خلاف دليل دليلاً على نسخه؛

لذلك ادعوا النسخ في بعض المسائل لما رأوا عمل أهل المدينة على خلافه.

والصحيح عدم اعتبار ذلك دليلاً على النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون بدليل من الكتاب أو السنة، وأن يكون مع الناسخ ما يدل على تأخره، وليس عمل أهل المدينة من ذلك في شيء.

248 -

الأصل عند ابن حزم أنه إذا وجد دليلان متعارضان، وأحدهما يوافق البراءة الأصلية والآخر يخالفها، فإن ما يكون مخالفاً للبراءة الأصلية يكون ناسخاً لما يوافقها. وأكثر المسائل التي ادعى فيها النسخ من هذا القبيل.

والصحيح عدم اعتبار ذلك ناسخاً؛ لأنه قد يكون الناسخ ما يوافق البراءة الأصلية.

249 -

يمكن الجمع بين الأدلة العامة والخاصة، وذلك بحمل العامة على ما عدا محل الخصوص، ولا يقال بنسخ أحدهما بالآخر؛ لإمكان الجمع، لكن إذا كان كل ما يحتمله العموم داخلاً في الأمر أو النهي عن الشيء ومراداً به، فإن إخراج بعضه يكون نسخاً له.

250 -

قد تكون بعض الأدلة تدل على وجوب حكم، ثم تأتي أدلة تدل على عدم الوجوب، فبعض أهل العلم لا يعد ذلك نسخاً؛ لإمكان الجمع بين الدليلين؛ وذلك بحمل ما يدل على الوجوب على الاستحباب للأدلة التي تدل على عدم الوجوب، فيعتبر ما يدل على عدم الوجوب صارفاً لما يدل على الوجوب عن الوجوب إلى الندب والاستحباب.

وبعض أهل العلم يعد ذلك نسخاً؛ لأن نقل مسألة من الوجوب إلى الندب أو الإباحة نسخ لحكم الوجوب، وهذا يعتبر راجحاً؛ لأن أكثر مسائل النسخ من هذا القبيل، وهو نقل مسألة من حكم إلى حكم آخر.

251 -

إن القول بالنسخ أحد أهم أسباب اختلاف أهل العلم في كثير من المسائل الفقهية؛ وذلك لأن بعض أهل العلم عندما يجد تعارضاً بين الأدلة في مسألة، ثم يظهر له تقدم أحد الدليلين، فإنه يعتبر ذلك منسوخاً وبالتالي لا يقول بموجبه؛ لأنه اعتبره منسوخاً.

وبعض أهل العلم لم يتبين له وجه النسخ في المسألة؛ لذلك لم يذهب إلى القول بالنسخ فيها؛ لذلك كان لاعتبار مسألة منسوخة أو عدم ذلك، أثراً ظاهراً في اختلاف أهل العلم فيها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن سار عن نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

ص: 23