الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دروس فقهية
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فهذه دروس فقهية مرتبة على كتب الفقه، جمعتها ورتبتها مع ذكر أدلتها
لعلها أن تكون عوناً - بعد الله - على تعلم الفقه وفهمه
واخترت المتن من كتب المتون العلمية في مذهب الحنابلة
(زاد المستقنع - عمدة الفقه - عمدة الطالب - دليل الطالب - أخصر المختصرات).
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً.
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
كتاب الطهارة
يبدأ العلماء مؤلفاتهم الفقهية بكتاب الطهارة:
أولاً: لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
…
).
ثانياً: أن الطهارة تخلية وتنظيف والتخلية قبل التحلية.
ثالثاً: لأجل أن يتذكر المتعلم بتطهير بدنه تطهير نيته وقلبه لله عز وجل.
•
تعريف الطهارة:
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية.
فالأقذار الحسية: كالبول ونحوه، والمعنوية: كالشرك والحسد والبغض وأمراض القلوب وكل خلق ذميم.
واصطلاحاً: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث.
الحدث: هو الوصف القائم بالبدن من المانع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل.
وما في معناه: أي وارتفاع ما في معنى ارتفاع الحدث، كتجديد الوضوء، فهو طهارة، وكذا الأغسال المسنونة.
وزوال الخبث: أي النجاسة، فإذا وقعت على ثوبه نجاسة فطهرها، هذه تسمى طهارة.
فالطهارة: ارتفاع الحدث، وزوال الخبث.
فائدة: الحدث أمر معنوي؛ لذا يعبَّر معه بالرفع، أما الخبث فأمر حسي؛ لذا يعبر معه بالإزالة.
باب المياه
يبدأ الفقهاء بأحكام بالمياه، لأن الماء هو الأصل في التطهير.
(خُلقَ الماءُ طَهوراً).
أي: أنه طاهر في نفسه، مطهر لغيره، فالأصل في الماء الطهارة.
فإذا وجد عندنا ماء ولا نعلم هل هو طاهر أو نجس، فالأصل الطهارة.
قال تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً).
وقال تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ).
وقال صلى الله عليه وسلم في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أبو داود.
• تعريف الماء الطهور: هو الماء الطهور هو الماء الذي لم يتغير بنجاسة أو بطاهر ينقله عن اسم الماء المطلق.
(يطهرُ من الأحداثِ والنجاسَاتِ).
لأنه كما تقدم أن الطهارة قسمان: طهارة من حَدَث، وطهارة من خبث.
الأحداث: جمع حدث: وهو الوصف القائم بالبدن من المانع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل، وهو ينقسم إلى حدث أكبر، وإلى حدث أصغر.
الحدث الأكبر: هو ما يوجب الغسل، كالحيض، والجنابة، والنفاس.
الحدث الأصغر: هو ما يوجب الوضوء، كالبول، والغائط، وسائر نواقض الوضوء.
والنجاسات: جمع نجاسة، وهي كل عين مستقذرة شرعاً، فإذا وقعت على ثوب إنسان نجاسة فطهرها، هذه تسمى طهارة.
فالماء يطهر من الحدث، ويطهر من النجاسات.
•
الفرق بين طهارة الحدث وإزالة النجاسة:
أولاً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح بخلاف إزالة النجاسة. (رجل جاء على ثوبه بول، ثم جاءت الأمطار ونظفته، وهو لم ينوي فانه يطهر).
ثانياً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان، لأنه من باب الأوامر، بخلاف طهارة الخبث لأنه من باب التروك.
فلو أن رجلاً أكل لحم جزور - وهو لا يعلم - ثم صلى، وبعد الصلاة علم، فإنه يجب أن يعيد الصلاة.
ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية غير معقولة المعنى، بخلاف طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية.
رابعاً: طهارة الحدث لابد من الماء بخلاف طهارة الخبث على القول الراجح كما سيأتي إن شاء الله.
• فتجوز طهارة الحدث والنجس بالماء المطلق على أيّ صفة كان من أصل الخلقة.
قال ابن قدامة: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَحْرِ: التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْهُ.
هُوَ نَارٌ.
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى:
أ-لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وَمَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ.
ب- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ج-وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ).
د-وَلِأَنَّهُ مَاءٌ بَاقٍ عَلَى أَصِلْ خِلْقَتِهِ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ.
وَقَوْلُهُمْ (هُوَ نَارٌ) إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَاءً.
…
(المغني).
قال النووي: وأما ماء البحر فجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم على أنه لا يكره كمذهبنا: وحكى الترمذي في جامعه وابن المنذر في الإشراف وغيرهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنهما كرها الوضوء به، وحكاه أصحابنا أيضاً عن سعيد بن المسيب.
واحتج لهم بحديث روى عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم (تحت البحر نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة وسبعة). رواه أبو داود في سننه
واحتج أصحابنا بحديث (هو الطهور ماؤه) وبحديث (الماء طهور).
ولأنه لم يتغير عن أصل خلقته فأشبه غيره.
وأما حديث (تحت البحر نار) فضعيف باتفاق المحدثين، وممن بين ضعفه أبو عمر بن عبد البر، ولو ثبت لم يكن فيه دليل ولا معارضة بينه وبين حديث هو الطهور ماؤه. (المجموع).
• قوله (والنجاسات) المراد بالنجاسة هنا الطارئة، لأن النجاسة تنقسم إلى قسمين:
أ- نجاسة عينية: وهي التي تكون عين الشيء وذاته نجسة، مثل: العذرة، مثل البول، العذرة ذاتها نجسة، عينها نجسة، البول: ذاته نجس، روث الحمار ذاته نجسة، الكلب: عينه نجس، ذاته نجسة.
ب- نجاسة طارئة: هي التي وردت على محل طارئ، مثلاً: عندك ثوب طاهر ثم وقعت عليه نجاسة، فهذه النجاسة تسمى الطارئة، ويسميها العلماء أيضاً حكمية.
فالماء لا يرفع إلا النجاسة الطارئة، أما النجاسة العينية: هذه ما يطهرها الماء، ولو جئت بالكلب وغسلته بماء البحر ما طهر، لكن
النجاسة العينية تطهر في الاستحالة: إذا انقلبت من عين إلى عين أخرى طهرت.
(فَلَا تحصُلُ الطهَارَةُ بمائعٍ غيْرِهِ).
أي: فلا تحصل الطهارة من الأحداث والنجاسات إلا بالماء.
أما الحدث (سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر) لا يرتفع إلا بالماء، وهذا قول جماهير العلماء.
أ- لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ).
قال ابن قدامة: وهذا نص في الانتقال إلى التراب عند عدم الماء.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين).
وأما النجاسة: فقد
اختلف العلماء، هل يشترط الماء لإزالة النجاسة أم لا
على قولين (كأن يصيب ثوبه بول أو دم مسفوح هل يشترط الماء أم لا)؟
القول الأول: أنه لابد من الماء.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، والحنابلة، واختاره ابن المنذر.
أ- لقوله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ).
وجه الدلالة: ذكره سبحانه امتناناً، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان.
ب-لحديث أنس. قال (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد التطهير من بول الأعرابي أمر بالماء، وهذا دال على الوجوب وعلى اختصاص الماء بالتطهير.
ج- ولحديث أَسْمَاء قَالَتْ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّى فِيهِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض بالماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء في إزالة نجاسة الثوب من دم الحيض لكونه هو المنصوص عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه.
د- قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء.
القول الثاني: أنه لا يشترط الماء.
وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.
قال ابن تيمية رحمه الله:. . . فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين: أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة .. وهو الصحيح في الدليل.
أ-لحديث ابن عمر (أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) رواه البخاري دون ذكر (البول).
ب- ولحديث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِي، قَالَ (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى -وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء.
ب- وقالوا: إن النجاسة عين خبيثة، فإذا زالت زال حكمها.
وهذا القول هو الراجح.
•
وأما الجواب عن أدلة الجمهور:
أما الآية (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) فالجواب أن يقال: إن امتنان الله سبحانه وتعالى بطهورية الماء، وكونه مطهراً للأشياء، لا يعني قصر هذا الحكم عليه. (أحكام النجاسات).
وأما الجواب عن الحديثين:
فيقال: إن المقصود بذلك تعجيل تطهير المسجد، إذ لو تركه حتى تطهره الشمس لتأخر تطهيره، فليس في الحديث حصر التطهير بالماء. [ابن تيمية].
وأيضاً يقال: إن هذا فيه دلالة أن الماء يزيل النجاسة فهذا لا إشكال فيه لكن لا يدل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء.
• وقد سئل الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله: هل تطهر النجاسة بغير الماء؟ وهل البخار الذي تغسل به الأكوات مطهر لها؟
فأجاب: إزالة النجاسة ليست مما يتعبد به قصداً، أي أنها ليست عبادة مقصودة، وإنما إزالة النجاسة هو التَّخلي من عين خبيثة نجسة، فبأي شيء أزال النجاسة، وزالت وزال أثرها، فإنه يكون ذلك الشيء مطهراً لها، سواء كان بالماء أو بالبنزين، أو أي مزيل يكون، فمتى زالت عين النجاسة بأي شيء يكون، فإنه يعتبر ذلك مطهراً لها، حتى إنه على القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، لو زالت بالشمس والريح فإنه يطهر المحل، لأنها كما قلت: هي عين نجسة خبيثة، متى وجدت صار المحل متنجساً بها، ومتى زالت عاد المكان إلى أصله، أي إلى طهارته، فكل ما تزول به عين النجاسة وأثرها - إلا أنه يعفى عن اللون المعجوز عنه - فإنه يكون مطهراً لها. ("مجموع فتاوى ابن عثيمين).
(وهو ثلاثة أنواع).
أي: أن الماء ثلاثة أنواع: طهور، وطاهر، ونجس.
وهذا هو المذهب، وهو قول مالك، والشافعي.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلْبَحْرِ: (هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ، اَلْحِلُّ مَيْتَتُهُ) رواه أبو داود.
وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الصَّحابة يعلمونَ أنَّ ماءَ البَحرِ طاهِرٌ وليس نَجِسًا- بلا شكٍّ- فسؤالُهم إنَّما كان عن تطهيرِ ماءِ البَحرِ لا عن طهارَتِه، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك ماءً طاهرًا ليس بطَهور.
ب- وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي اَلْمَاءِ اَلدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلم.
ج- وَعَنْه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا اِسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي اَلْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وجهُ الدَّلالة: أنَّه قد ورد النَّهيُ عن الاغتسالِ في هذه المياهِ، مع عدم نجاسَتِها، فدلَّ ذلك على وجودِ نَوعٍ مِنَ الماءِ ليس بنَجِسٍ، ولا يمكِنُ التطهُّرُ به، وهو الطَّاهِرُ.
د- وقالوا: إن هذا التقسيم معروف بالاستقراء، فإنه لا يخلو الماء: إما أن يجوز الوضوء به أو لا؟ فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلو إما أن يجوز شربه أو لا؟ فإن جاز فهو الطاهر وإلا فهو النجس.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور، ونجس.
وهذا قول أبي حنيفة، واختار هذا القول ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والسعدي، وابن عثيمين.
أ-لقولُه تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)، ولقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).
وجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيتينِ: أنَّ اسمَ الماءِ مُطلقٌ في الكتابِ والسُّنةِ، ولم يرِدْ فيهما تقسيمُه إلى: طَهورٍ وطاهرٍ، فهذا التَّقسيمُ مخالفٌ للكتابِ والسُّنةِ، ولا أصلَ له في الشَّريعةِ؛ إذ لو كان القِسمُ الطَّاهِرُ ثابتًا بالشَّرع، لكان أمرًا معلومًا مفهومًا، تأتي به الأحاديثُ البيِّنةُ الواضِحةُ؛ لأنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيانِه، وليس بالأمرِ الهيِّنِ؛ إذ يترتَّبُ عليه: إمَّا أن يتطهَّرَ بماءٍ أو يتيمَّم
ب- ولحديث أبي سعيد. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَلْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) رواه أبو داود.
فهذا الحديث يحكم للماء بالطهورية، وأن الماء طهور، وهذا العموم خص منه بالإجماع: إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو ريحه فإنه نجس بالإجماع.
أو بمعنى آخر: أن هذا الحديث أثبت قسماً من الماء وهو الماء الطهور، وثبت الماء النجس بالإجماع، فهذان قسمان من الماء، أحدهما ثبت بحديث أبي سعيد، والآخر ثبت بالإجماع، وبقي الماء الطاهر لا دليل على ثبوته، فيكون الماء قسمين: طهوراً ونجساً ولا ثالث لهما.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت النجاسة الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً أنه نجس ما دام كذلك.
وهذا القول هو الراجح.
(طهور: وهو الباقي على خلقتهِ).
هذا النوع الأول: الطهور: وهو الباقي على خلقته حقيقة أو حكماً.
حقيقة: بحيث لم يتغيَّر شيء من أوصافه، كماء البحار، والماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخناً لم يتغيَّر.
والماء النَّازل من السَّماء.
أو حُكْماً: كالماء المتغيِّر بغير ممازج، أو المتغيِّر بما يشقُّ صون الماء عنه، فهذا طَهور لكنه لم يبقَ على خلقته حقيقة، وكذلك الماء المسخَّن فإِنه ليس على حقيقته؛ لأنَّه سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنَّه باقٍ على خلقته حكماً. (الشرح الممتع).
• وهذا الماء الطهور (لا يرفعُ الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيرهُ) وقد تقدم شرح ذلك قبل قليل.
(فَإِنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور، أو دُهْنٍ، أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُرهَ).
هذه أنواع يكون فيه الماء طهوراً لكن يكره استعماله:
الأول: إِنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور:
أي: إن تغير الماء بشيء لا يمازجه كقطع الكافور، فإنه يكون طهور مكروه.
يكون طهوراً: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة، ولكن عن مجاورة، فالماء هنا لم يتغير، لأن هذه القطع مازجته، ولكن لأنها جاورته.
ويكون مكروهاً: خروجاً من الخلاف، لأن بعض العلماء يقول: إنه طاهر غير مطهر.
والصواب أنه طهور بلا كراهة، لعدم الدليل على الكراهة.
الثاني: أو دُهْنٍ: هذا يكره، لو أتيت بدهن وصبيت في الماء فالدهن لا يمازج الماء بل يطفو على الماء.
والصحيح أنه لا يكره.
الثالث: أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُرهَ:
أي: ومن الماء الطهور الذي يصح استعماله مع الكراهة: الماء الذي يُسخّن بنجاسة كروث حمار.
لأنه لا يسلم غالباً من صعود أجزاء لطيفة إليه.
وفي الحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
وذهب بعض العلماء: إلى عدم الكراهة.
وهو قول الجمهور.
لأنه غير متردد في نجاسته.
وهذا الصحيح.
قال النووي: وعن أحمد كراهة المسخن بنجاسة، وليس لهم دليل فيه روح، ودليلنا النصوص المطلقة ولم يثبت نهي.
فائدة: محل الخلاف في المسخّن بالنجاسة إذا لم يُحتج إليه، فإن احتيج إليه زالت الكراهة.
(وإنْ استُعمِلَ في طهارةٍ مستحبة كتجديد وضوءٍ، وغُسل جمعةٍ كرِه).
(وإن استعمل) أي: الماء الطهور.
والمراد بالاستعمال: أن يمر الماء على العضو ويتساقط منه، وليس المراد أن يغترف منه.
أي: وإن استعمل الماء الطهور في طهارة مستحبة فإنه يكره.
مثال: تجديد الوُضُوء سُنَّة، فلو صَلَّى إنسان بوُضُوئه الأول ثم دخل وقت الصَّلاة الأُخرى، فإنه يُسنُّ أن يجدِّدَ الوُضُوء ـ وإِن كان على طهارة ـ فهذا الماء المستعمل في هذه الطَّهارة طَهُور لكنه يُكره.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكره.
لعدم الدليل على الكراهة.
وهذا القول هو الراجح.
(وإِنْ تَغَيَّر بمكثِهِ، أو بما يَشقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ، أو بمُجَاوَرَةِ مَيْتةٍ، أو سُخِّنَ بالشَّمس، أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه).
هذه مسائل: يكون الماء فيها طهوراً بلا كراهة.
الأولى: (وإِنْ تَغَيَّر بمكثِهِ) وهو الآجن لم يكره.
فالماء الذي بقي في بمكانه مدة طويلة ولم يحصل فيه نوع من التغيير فهو باقٍ على طهوريته، لأن تغيره من غير مخالطة النجاسة.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن الوضوء بالماء الآجن جائز، سوى ابن سيرين.
وقال ابن تيمية: أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته باتفاق العلماء.
وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن.
فلعل المقصود أن نفسه تكرهه، لأنه منتن الرائحة، لا أنها كراهة شرعية. (موسوعة الطهارة).
الخلاصة: أن المتغير بمكثه طهور:
أ- للإجماع.
ب- لأن تغيره جاء من غير مخالطة، فلم يخالطه شيء لا طاهر ولا نجس، والماء طهور في نفسه حتى تخالطه الأخباث العارضة.
الثانية (أو بما يَشقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ) لم يكره.
مثال: ماء نابت بجواره أشجار كثيرة، فإذا حركت الرياح الأشجار تساقطت الأوراق، فتقع تلك الأوراق في الماء فيتغير بها.
أو نبت في الماء طحلب فتغير بسببه، فهذا طهور من غير كراهة.
وهذا قول جماهير العلماء.
لأن التحرز منه يشق، فعفي عنه، وقد قال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
قال ابن قدامة: الثاني: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما، إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء فهذا كله يعفى عنه؛ لأنه يشق التحرز منه. (المغني)
الثالثة: (أو بمُجَاوَرَةِ مَيْتةٍ) لم يكره.
فإذا تغيرت رائحته بسبب مجاورته لميتة فإنها لا تنجسه لأن الميتة غير ممازجة للماء.
قال في الشرح: لا نعلم في ذلك خلافاً.
وقال النووي: لو تغير الماء بجيفة بقربه، يعني: جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه، ففي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعاً، بل الماء طهور بلا خلاف.
ولأن هذا التغير حصل بالمجاورة، ولم يحصل عن ممازجة.
الرابعة: (أو سُخِّنَ بالشَّمس) لم يكره.
لأن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي، أو نظر صحيح، ولا يوجد شيء من ذلك في هذه المسألة.
وذهب بعض العلماء - وهو مذهب الشافعي - إلى كراهته.
وقد جاء في ذلك أحاديث، لكن لا يصح منها شيء.
أ-كحديث عائشة رضي الله عنها قالت (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص) رواه الدارقطني. (ضعيف جداً).
قال النووي: هذا الحديث المذكور ضعيف باتفاق المحدثين، وقد رواه البيهقي من طرق، وبين ضعفها كلها ومنهم من يجعله موضوعاً.
ب- عن جابر. (أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: إنه يورث البرص) ضعيف جداً.
قال النووي: وهذا ضعيف أيضاً باتفاق المحدثين.
وقال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند. (نصب الراية)
وذكر الشوكاني أحاديث الماء المشمس في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة.
فائدة: قال ابن قدامة: ولا يكره الوضوء بالماء المسخن بطاهرٍ، إلا أن يكون حاراً يمنع إسباغ الوضوء لحرارته.
(أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه) كخشب، أو غاز، فإنه لا يكره.
(وإن تغير لونُه أو ريحه أو طعمه بطبخٍ أو ساقط فيه، أو رفع بقليله حدث، أو غُمس فيه يد قائم من نوم ليل فطاهر).
هذا هو القسم الثاني من أقسام المياه على المذهب: وهو الطاهر، وهو الطاهر في نفسه غير مطهر لغيره.
(وإن تغيّر) الضمير يعود إلى الماء الطهور.
(بطبخ) كأن توضع فيه ورق شاي أو حب قهوة أو نحو ذلك.
(أو ساقط فيه) كأن تسقط فيه ثمرة أو يسقط فيه ورق أو نحو ذلك أو يسقط فيه زعفران وغيره مما قد يسقط في الماء.
فهو إذن ماء طهور في الأصل لكنه قد تغير وتكدر بشيء ليس بنجس بل هو طاهر سقط فيه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه، فما حكمه؟
(فطاهر) أي: طاهر غير مطهر، فهو طاهر في نفسه ليس بنجس لكنه ليس بمطهر.
وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وأن الماء إذا وقع فيه شيء من الطاهرات فغيّر رائحته أو طعمه أو لونه فإن الماء طاهر وليس بطهور، فهو طاهر في نفسه وليس بمطهر لغيره، فعلى ذلك: لا يزيل النجس ولا يرفع الحدث.
قالوا: لأن الماء ليس بماء مطلق بل هو ماء أضيف إليه شيء فهو ليس ماء مطلقاً بل ماء مضاف إليه مادة أخرى.
وذهب بعض العلماء: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عن الإمام أحمد أنه طهور.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من المحققين.
قالوا: الماء طهور، فكما أنه طاهر في نفسه فهو مطهر لغيره ما دام باقياً على مسماه.
ويتضح قولنا: (ما دام باقياً على مسماه) بضرب مثالين:
المثال الأول: وهو ما كان فيه الماء باقياً على مسماه، كأن يوضع في إناء شيء من أوراق الشاي أو شيء من الطعام فيتغير لونه فيأخذ من لون هذا الشيء الواقع فيه.
المثال الثاني: وهو ما تغير فيه مسمى الماء، كأن يوضع في إناء أوراق شاي ثم يطبخ على النار، فإنه يسمى شاياً فهو لم يبق على مسماه بل تغيّر.
أما هذه الحال الثانية: فالراجح أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به، ومثله لا ينبغي الخلاف فيه لأنه ليس بماء، والشارع إنما
خصص الماء بالطهارة عند وجوده، فإذا ثبت ذلك وهو أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به.
أما الحال الأولى: فهو المختلف فيها وهي ما إذا كان الماء قد تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يتغير مسماه بل بقي ماءً على مسماه.
فحينئذ ذهب من تقدم إلى أنه طهور، وهذا هو الراجح، والأدلة على ذلك ما يلي:
أ- قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءاً فَتَيَمَّمُوا).
ولفظه (ماء) نكره في سياق النفي، والقاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فهذا يعم كل ماء.
فكل ماء يتطهر به قبل اللجوء إلى التراب (أي إلى التيمم) فإذا وقع فيه شيء من الورق أو شيء من الثمر أو غير ذلك فتغيرت رائحته أو طعمه أو لونه مع بقائه على مسماه فهو ماء فيدخل في عموم الآية (فلم تجدوا ماء).
ب- ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء المغسلات لابنته (إغسليها بماء وسدر)، وقال صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته راحلته فمات (اغسلوه بماء وسدر).
ومعلوم أن السدر يؤثر في الماء ويغير منه، ومع ذلك فإنه يتطهر به هنا.
فالشريعة قد دلت على التطهر به كما في هذا الحديث.
ج- ما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح أن أم هانئ، قالت:(اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين).
والشاهد قوله (في قصعة فيها أثر عجين) ومعلوم أن العجين يغيِّر الماء ويؤثر فيه، ومع ذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم به وميمونة.
(أو رفع بقليله حدث).
(أو رفع بقليله حدث) القليل تقدم أنه ما دون القلتين.
أي: استعمل في رفع حدث أكبر أو أصغر فتساقط الماء من أعضائه فاجتمع في إناء، فهذا هو الماء المستعمل في رفع حدث سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فهذا الماء طاهر غير مطهر.
قال الشيخ الطيار: الماء المستعمل، المراد به المتساقط حال الوضوء أو الغسل، وليس المراد به الماء الذي يغترف منه.
فالماء المستعمل في طهارة واجبة طاهر غير مطهر.
وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أنه دليل على أن الماء المستعمل لرفع الحدث غير مطهر، إذ لو كان الغسل فيه يجزئ، ولا يغيّر الماء لم ينْه عنه، فالمراد بنهيه لئلا يكون مستعملاً فيسلبه الطهورية.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه طهور تصح الطهارة به.
واختاره ابن المنذر، ورجحه ابن حزم، واختاره ابن تيمية.
أ- لأن الأصل بقاء الطهورية للأدلة الدالة على أن الماء طهور، فلا يُعدل عن ذلك إلا بدليل شرعي.
قال صلى الله عليه وسلم (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) فهذا دليل على طهارة الماء المستعمل، لأنه لم يتغير بعد استعماله، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل.
ب-أن الله سبحانه إنما أوجب التيمم على من لم يجد الماء، قال تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فكيف يقال بالتيمم مع وجود ماء باق على صفته التي خلقه الله عليها.
ج- وكان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. رواه البخاري.
والجواب عن دليل القول الأول (لا يغتسل أحدكم
…
) أن علة النهي عن التطهر فيه ليست كون ذلك الماء مستعملاً، وإنما نهيَ عنه لئلا يقذره، وقد يؤدي تكرار ذلك إلى تغيّره.
(أو غُمس فيه يد قائم من نوم ليل فطاهر).
أي: ومن الماء الطاهر غير المطهر، إذا غمس فيه - أي في هذا الماء القليل - يد قائم من نوم الليل.
مثاله: رجل قام من النوم في الليل، وعنده قِدْرٌ فيه ماء قليل، فغمس يده فيه، فهذا الماء يكون طاهراً غير مطهر.
وهذا مذهب الحنابلة، وهو من المفردات.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثاً فَإِنَّهُ لَا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) متفق عليه.
قالوا: إن الحديث نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، ولولا أن غمسها يؤثر في الماء لم ينه عنه، فإذا نهى عنه دل ذلك على تحول الماء إلى طاهر غير مطهر، وإنما قلنا: طاهر، لأن اليد ليست نجسة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه طهور.
وهذا مذهب جماهير العلماء، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والسعدي.
قال ابن تيمية: وهو قول أكثر الفقهاء.
وهذا القول هو الصحيح.
القول الثالث: أنه نجس.
وبه قال الحسن البصري، وداود.
وهذا القول ضعيف جداً.
قال النووي: وهو ضعيف جداً.
وقال ابن القيم: القول بنجاسته من أشذ الشاذ.
• فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له: والحكمة في غسل اليد، فيها ثلاثة أقوال:
الأول: خوف النجاسة، مثل أن تمرَّ يده على موضع الاستجمار، لاسيما مع العرق ونحو ذلك.
الثاني: أنه من باب التعبد؛ فنسلم به، ولو لم نعقل معناه.
الثالث: أن ذلك لشيء معنوي، وهو أن الشيطان يبيت على يد النائم ويلامسها، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه) فعلم أن ذلك الغسل ليس مسبَّباً عن النجاسة، بل هو مُعَلَّلٌ بمبيت الشيطان على خيشومه. فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار.
(فإذا بلغ الماءُ قُلتَيْنِ لم ينَجِّسْهُ شيءٌ إلا ما غيَّرَ لونُهُ، أو طعْمُهُ، أو ريحُهُ)
هذا القسم الثالث: وهو الماء النجس، الذي لا يجوز استعماله إلا لضرورة.
وهو ما تغير أحد أوصافه الثلاثة - لونه أو ريحه أو طعمه - بنجاسة.
فإذا بلغ الماء قلتين - وهو الكثير - فإنه لا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه بنجاسة تحدث فيه.
وهذا بالإجماع.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس.
(وما سوَى ذلك ينجُسُ بمُخالطَةِ النجاسة).
أي: متى كان الماء أقل من قلتين، فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير.
وهذا المذهب.
إذاً ضابط الماء النجس على المذهب يشمل أمرين:
الأول: أن يكون كثيراً فلا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه. (وهذا بالإجماع كما تقدم).
الثاني: أن تقع فيه نجاسة وهو قليل - دون القلتين - فيتنجس ولو لم يتغير.
هذا المذهب: أن القليل ينجس بمجرد النجاسة ولو لم يتغير.
وهو مروي عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي عبيد، وأبي ثور.
وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي.
أ-لحديث ابْن عُمَر. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَ اَلْمَاءَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ اَلْخَبَثَ) وَفِي لَفْظٍ: (لَمْ يَنْجُسْ) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ. وَابْنُ حِبَّان. (ضعفه بعضهم والأكثر على تصحيحه).
وجه الدلالة:
أولاً: أن مفهوم الحديث أنه إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث.
قال ابن قدامة: وَتَحْدِيدُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إذْ لَوْ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ التَّحْدِيدُ مُفِيدًا.
ثانياً: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة، لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس ولو كان مائة قلة.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات) وفي رواية (فليرقه).
قال ابن قدامة: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَإِرَاقَةِ سُؤْرِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا تَغَيَّرَ وَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ.
قال النووي: فالأمر بالإراقة والغسل دليل النجاسة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينجس إلا إذا تغير بنجاسة.
وهو مذهب مالك، وهو مذهب الأوزاعي، والثوري، وداود.
واختار هذا القول ابن المنذر، والغزالي من الشافعية، وهو اختيار ابن تيمية.
لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَلْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينجسه شيء) دليل على أن الأصل في الماء الطهارة، وأنه لا يتأثر بالنجاسة، وخص من ذلك المتغير بالنجاسة بالإجماع.
قال ابن القيم: فهذا نص صحيح صريح على أن الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة مع كونه واقفاً، فإن بئر بضاعة كانت واقفة ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جار أصلاً. (تهذيب السنن).
وأجاب هؤلاء عن حديث القلتين:
أولاً: أن هناك من العلماء من ضعفه.
فممن ضعفه عبد الله بن المبارك كما في الاوسط لابن المنذر 1/ 271 وابن عبد البر كما في التمهيد 1/ 335 وابن القيم في تهذيب السنن 1/ 62
وصحح الحديث النووي كما في المجموع 1/ 162 وابن حزم في المحلى 1/ 151 وابن تيمية في مجموع ابن قاسم 21/ 41 وابن منده وابن حجر كما في الفتح 1/ 408 والشوكاني، وأحمد شاكر.
ثانياً: أن المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس، وإنما القليل قد يحمل الخبث لمظنة القلة، ثم إن هذا المفهوم يعارض منطوق حديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) والمنطوق مقدم على المفهوم.
•
…
(إذا بلغ الماء قلتين
…
) بضم القلة، تثنية قلة، وهي الجرة الكبيرة من الفخار، سميت بذلك لأنها تُقَل، أي: تحمل، وهي قلال هجر، معروفة عند الصحابة، مقدار القلتين 500 رطل بالبغدادي، وهي خمس قرب، قال الشافعي:"الاحتياط أن تكون القلتان قربتين ونصفاً" وتقدران بحوالي (307) لترات، أو (102) كيلو.
قدرها بعض المعاصرين (270) لتراً.
(وَلَا تَجُوزُ طَهارةُ رَجُلٍ بفضْلِ طَهُورِ امْرأةٍ قليلٍ خَلَتْ بهِ).
(طَهارةُ رَجُلٍ) هذا قيد، (امْرأةٍ) قيد آخر، (قليلٍ) وهذا قيد آخر، (خَلَتْ بهِ) وهذا قيد.
فإذا تمت هذه القيود ثبت الحكم، فإذا تطهر به الرجل عن حدثٍ لم يرتفع حدثه.
مثاله: امرأة عندها قِدْرٌ من الماء يسع قُلَّةً ونصفاً، وهو يسير في الاصطلاح؛ خَلَت به في الحمَّام، فتوضَّأت منه وُضُوءاً كاملاً، ثم خرجت فجاء الرَّجُلُ بعدها ليتوضَّأَ به، نقول له: لا يرفعُ حَدَثَك. (الشرح الممتع).
ودليل ذلك:
أ- عَنْ رَجُلٍ صَحِبَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنْ تَغْتَسِلَ اَلْمَرْأَةُ بِفَضْلِ اَلرَّجُلِ، أَوْ اَلرَّجُلُ بِفَضْلِ اَلْمَرْأَةِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالنَّسَائِيُّ،
قال النووي: رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وقال ابن حجر: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
ب-ولحديث الحكم عن عمرو الغفاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) رواه أبو داود.
وهذا الحديث ضعفه الإمام البخاري، وابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 209) فقال: مضطرب لا تقوم به حجة. وقال النووي في "الخلاصة"(1/ 200): ضعيف. وقال ابن القيم في "تهذيب السنن"(1/ 149): ليس بصحيح.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك، وأنه يرفع حدث الرجل.
وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية.
قال النووي: وَأَمَّا تَطْهِير الرَّجُل لِفَضْلِهَا فَهُوَ جَائِز عِنْدنَا وَعِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، سَوَاء خَلَتْ بِهِ أَوْ لَمْ تَخْلُ. قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: وَلَا كَرَاهَة فِي ذَلِكَ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْوَارِدَة بِهِ.
قال ابن قدامة: اختارها ابن عقيل، وهو قول أكثر أهل العلم.
أ- لحديث ابن عباس (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أنه صريح في جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة.
ب-ولحديث ابن عباس - الآخر - قال (اِغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ جُنُباً، فَقَالَ: إِنَّ اَلْمَاءَ لَا يُجْنِب) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن ظاهره يدل على أنها خلت به لطهارة كاملة عن حدث، وأجابها النبي صلى الله عليه وسلم جواباً عاماً، بأن الماء لا يصير بهذا الفعل إلى حالة يجتنب فيها فلا يستعمل.
ج- أنه ماء طهور جاز للمرأة الوضوء به، فجاز للرجل من فضل المرأة.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما الجواب عن أحاديث النهي، فمن وجهين:
الأول: أن أحاديث النهي محمولة على الكراهة جمعاً بين الأدلة، ورجحه الحافظ ابن حجر، والشوكاني.
الثاني: تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملاً، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي.
قال الحافظ: وهو ممكن [الجمع بين الأحاديث] بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء والجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه جمعاً بين الأدلة.
وقال النووي عن أحاديث المنع: وأما حديث الحكم بن عمرو: فأجاب أصحابنا عنه بأجوبة:
أحدها: جواب البيهقي وغيره أنه ضعيف، قال البيهقي، قال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس هو بصحيح، قال البخاري: وحديث ابن سرجس الصحيح أنه موقوف عليه ومن رفعه فقد أخطأ، وكذا قال الدارقطني: وقفه أولى بالصواب من رفعه، وروي حديث الحكم أيضاً موقوفاً عليه، قال البيهقي في كتاب المعرفة: الأحاديث السابقة في الرخصة أصح فالمصير إليها أولى.
الجواب الثاني: جواب الخطابي وأصحابنا: أن النهي عن فضل أعضائها، وهو ما سال عنها، ويؤيد هذا أن رواية داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة) يُحمَل على أن المراد ما سقط من أعضائها، ويؤيده أنا لا نعلم أحداً من العلماء منعها فضل الرجل، فينبغي تأويله على ما ذكرته
…
يحملنا على ذلك أن الحديث لم يقل أحد بظاهره، ومحال أن يصح وتعمل الأمة كلها بخلاف المراد منه.
الجواب الثالث: ذكره الخطابي وأصحابنا: أن النهي للتنزيه جمعاً بين الأحاديث. (المجموع).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والصحيح أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، بل على سبيل الأولوية وكراهة التنزيه
…
، فالصواب: أن الرجل لو تطهر بما خلت به المرأة، فإن طهارته صحيحة ويرتفع حدثه، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
…
(الشرح الممتع).
(وإذا شكَّ في نجاسة الماءِ أو غيرِهِ أو طهارته، بَنَى عَلَى اليَقِينِ).
(وإذا شكَّ في نجاسة الماءِ أو غيرِهِ أو طهارته
…
) أي: في نجاسته إِذا كان أصله طاهراً، وفي طهارته إِذا كان أصله نجساً.
مثال الشَكِّ في النَّجاسة: لو كان عندك ماء طاهر لا تعلم أنَّه تنجَّس؛ ثم وجدت فيه روثة لا تدري أروثة بعير، أم روثة حمار، والماء متغيِّر من هذه الرَّوثة؛ فحصل شكٌّ هل هو نجس أم طاهر؟
فيُقال: ابْنِ على اليقين، واليقين أنه طَهُور، فتطهَّر به ولا حرج.
ومثال الشكِّ في الطَّهارة: لو كان عنده ماء نجس يعلم نجاسته؛ فلما عاد إليه شكَّ هل زال تغيُّره أم لا؟ فيُقال: الأصل بقاء النَّجاسة، فلا يستعمله.
(بَنَى عَلَى اليَقِينِ) اليقين: هو أصله الذي كان عليه قبل الشك.
لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ما لم يتيقن ضد ذلك. (اليقين لا يزول بالشك).
ويدل لذلك: حديث عبد الله بن زيد قال: (شكيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). متفق عليه
قال النووي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى تتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن شك في صلاته: (فليطرح الشك وليبن على اليقين).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الاحتياط بمجرد الشك في أمور المياه ليس مستحباً ولا مشروعاً، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك، بل إن المشروع أن يبقى الأمر على الاستصحاب، فإن قام دليل على النجاسة نجّسناه، وإلا فلا يستحب أن يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة.
• مسألة: إذا تَيَقَّنَ اَلطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي اَلْحَدَثِ: فَهُوَ طَاهِرٌ للحديث السابق (لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا).
مثال: فلو أن إنسان توضأ لصلاة العصر، ثم شك هل انتقض وضوءه أم لا، فإنه يعتبر نفسه متوضئاً ويبني على ذلك، لأنه الأصل المتيقن.
وكذلك من شك في طلاق امرأته، فإنه يبني على الأصل المتيقن وهو بقاء الزوجة.
وكذلك من شك في حصول الرضاع بينه وبين امرأة أجنبية، فيبني على الأصل المتيقن وهو كونها أجنبية عنه.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
• قال النووي: ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة.
• وإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. [قاله النووي]
مثال: إنسان أكل لحم إبل، فلما أذن العصر شك هل توضأ أم لا، فالأصل أنه على غير وضوء وأنه يلزمه الوضوء لأنه الأصل.
(وإِنِ اشْتَبَه ماءٌ طاهرٌ بنجسٍ، ولم يجدْ غيرَهما تَيمَّمَ وتَرَكَهُما)
أي: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس، كما لو كان هناك أوانٍ فيها ماء طهور، وأوانٍ فيها ماء نجس، واشتبها عليه فإنه يتيمم ويسقط استعمال الماء.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على أقوال:
القول الأول: أنه يتيمم، ويسقط استعمال المال.
وبهذا قال الحنفية، والحنابلة، واختاره المزني.
قالوا: إذا اجتمع مبيح وحاظر، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وجب اجتنابهما جميعًا؛ لأن اجتناب النجس واجب، ولا يمكن اجتنابه إلا بتركهما جميعًا.
ويشهد لهذا حديث عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وقد قتل، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله
…
) متفق عليه.
القول الثاني: القول بالتحري، وهو أنه لا تجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر.
وهذا قول الشافعي.
أ-لحديث عبدالله. قال: قال صلى الله عليه وسلم (وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين) متفق عليه.
وجه الدلالة: إذا كان المسلم يتحرى في الصلاة إذا شك فيها، مع أنها المقصود الأعظم من الطهارة، فكونه يتحرى في شرطها من باب أولى.
ب- القياس على مشروعية التحري في إصابة القبلة، فكما أنه يجوز التحري إجماعًا إذا اشتبهت القبلة، فكذلك هنا.
ج-ولأنه تعذر اليقين هنا، وكلما تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن.
وهذا الراجح.
(وإِن اشْتَبَهَتْ ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس وزَاد صلاةً).
لأنه يكون قد صلى فرضه بيقين.
مثال: فإذا كان عنده خمسة أثواب نجسة وثوب طاهر، واشتبهت، صلى في ستة أثواب ست صلوات، في كل ثوب يصلي صلاة، ليصلي في ثوب طاهر يقيناً.
وهذا المذهب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يتحرى.
وهذا مذهب الشافعي.
واختاره ابن تيمية، وابن القيم.
قال ابن القيم: والقول بالتحري هو الراجح الظاهر، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل وهو اختيار شيخنا.
قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور، فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه كما لو استعار ثوباً أو اشتراه ولا يعلم حاله.
وقول أبي ثور في غاية الفساد فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرا وأحب إلى الله من صلاته متجردا بادى السوءة للناظرين.
(إغاثة اللهفان).
وقال ابن القيم أيضاً في بدائع الفوائد: ولو اشتبه ثوب طاهر بنجس انتقل إلى غيرهما، فإن لم يجد:
فقيل: يصلي في كل ثوب صلاة ليؤدي الفرض في ثوب متيقن.
وقيل: بل يجتهد في أحد الثوبين ويصلي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قال: لأن اجتناب النجاسة من باب الترك ولهذا لا تشترط له النية. (بدائع الفوائد).
مسألة: حكم الوضوء بالماء المغصوب:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا تصح الطهارة به.
وهذا مذهب الحنابلة.
قال في الإنصاف: وأما الوضوء بالماء المغصوب، فالصحيح من المذهب أن الطهارة لا تصح به.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: تصح الطهارة مع الإثم.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
وهو الصحيح.
(ويلزمُ من علِمَ بنجاسةِ شيءٍ إعلام من أراد أن يستعمله).
لأن ذلك من النصيحة في الدين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة) رواه مسلم.
• مسألة: الطهارة بماء زمزم.
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: كراهة الوضوء والغسل منه.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لقول العباس بن عبد المطلب - وهو قائم عند زمزم وهو يرفع ثوبه - (اللهم إني لا أحلّها لمغتسل، ولكن هي لشارب حِل وبِل) أخرجه عبد الرزاق وضعفه النووي.
ب- ولحديث جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماء زمزم لما شرب منه) رواه ابن ماجه.
وجه الدلالة: أن ماء زمزم يشرب للشبع والري، فلو قلنا: يغتسل منها ربما اتسع الناس في ذلك فزال المقصود.
ج- أن ترك الوضوء به والغسل إنما هو لكرامته وشرفه، وكونه ماء مباركاً ومن منبع شريف.
القول الثاني: كراهة الغسل به دون الوضوء.
وهذا اختيار ابن تيمية.
القول الثالث: جواز الوضوء والغسل به بلا كراهة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لقول علي (ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بَسَجْل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ). رواه عبد الله بن الإمام أحمد بإسناد صحيح
ب- القياس على سائر المياه، فماء زمزم ماء طهور أشبه سائر المياه.
وهذا القول هو الراجح.
قال النووي: وأما زمزم فمذهب الجمهور كمذهبنا أنه لا يكره الوضوء والغسل به، وعن أحمد رواية بكراهته؛ لأنه جاء عن العباس رضي الله عنه أنه قال وهو عند زمزم: لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل وبل؛ ودليلنا النصوص الصحيحة الصريحة المطلقة في المياه بلا فرق ولم يزل المسلمون على الوضوء منه بلا إنكار ولم يصح ما ذكروه عن العباس بل حكي عن أبيه عبد المطلب، ولو ثبت عن العباس لم يجز ترك النصوص به: وأجاب أصحابنا بأنه محمول على أنه قاله في وقت ضيق الماء لكثرة الشاربين. (المجموع).
وقال النووي أيضاً: لا تكره الطهارة بماء زمزم عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا أحمد في رواية. دليلنا (دليل ذلك) أنه لم يثبت فيه نهي، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الماء طهور لا ينجسه شيء)، وأما ما يقال عن العباس من النهي عن الاغتسال بماء زمزم فليس بصحيح عنه. (من كتاب فتاوى الإمام النووي).
وقال ابن قدامة: ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم؛ لأنه ماء طهور، فأشبه سائر المياه.
وعنه: يكره لقول العباس لا أحلها لمغتسل، لكن لمحرم حل وبل؛ ولأنه يزيل به مانعاً من الصلاة، أشبه إزالة النجاسة به.
والأول أولى، وقول العباس لا يؤخذ بصريحه في التحريم، ففي غيره أولى، وشرفه لا يوجب الكراهة لاستعماله، كالماء الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كفه، أو اغتسل منه. (المغني).
باب الآنية
• الآنية جمع إناء، والمراد بها هنا الأواني التي يكون فيها ماء الوضوء، وما هو أعم من ذلك من الطعام والشراب.
• والأصل في الأواني الحل.
كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
كما قال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).
• مناسبة ذكره هنا: أنه لما كان الماء جوهراً سيالاً لا بد له من وعاء، ناسب ذكرها بعد أحكام المياه، ليعلم المسلم حكم آنيته التي يستعملها. (منحة العلام).
• وباب الآنية له مناسبة أخرى وهي: كتاب الأطعمة، لأن الطعام يؤكل بالآنية، لكن جرت العادة أن الشيء إذا كان له مناسبتان يذكر في الأولى منهما ثم يحال عليه في المناسبة التالية وذلك لأمور:
أولاً: أن هذا من باب المبادرة والمسابقة بالخيرات.
ثانياً: أن المؤلف إذا لم يذكره في المناسبة الأولى فقد يَعْرضه نسيان.
ثالثاً: أنه قد يكون مستحضراً للمسألة، فلو تركها لربما ينسى بعض الوجوه. (شرح البلوغ للصقير).
(يباح اتخاذ كل إناء طاهر واستعماله).
فالأصل في الأواني الإباحة.
أي جميع الأواني من خشب، أو جلود، أو صُفر، أو حديد، أو خزف، يباح اتخاذها واستعمالها.
• الاتخاذ: أن يقتنيه فقط، إما للزينة أو لاستعماله في حالة الضرورة، أو للبيع فيه والشراء.
• الاستعمال: فهو التلبس بالانتفاع فيه، فيستعمله فيما يناسبه.
والدليل على أن جميع الأواني مباحة دليل عام ودليل خاص.
أما الدليل العام فسبق أن الأصل في الأشياء الإباحة.
وأما الدليل الخاص:
فقد ثبت عن النبي (أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من جفنة). والجفنة: كالقصعة.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه توضأ من توْر من صفر). رواه البخاري. التوْر: إناء يشرب فيه.
(وتوضأ من قربة). رواه البخاري ومسلم.
(وتوضأ من إداوة). متفق عليه.
والإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
(ولو ثميناً).
أي: ولو كان الإناء غالياً، كالجواهر، والزمرد، والماس، وما شابه ذلك.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
أ-لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وقد قال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).
ب-وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة بالمنع يقتضي إباحة ما عداهما.
ج-ولأن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس.
وذهب بعض العلماء إلى التحريم وبعضهم إلى الكراهة، والراجح الأول.
(إلا آنيةُ الذهب والفضة والمموه بهما).
أي: إلا آنية الذهب والفضة فيحرم الأكل والشرب فيهما، لورود النص في ذلك.
أ- لحديث حُذَيْفَة بْنِ الْيَمَان قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ب- ولحديث أُم سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم (الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) مُتَّفَقٌ عليه.
(صِحَافِهَا) جمع صحفة، وهي إناء من آنية الطعام يقول أهل اللغة: إنها تشبع الخمسة من الرجال.
(إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ) الجرجرة صب الماء في الحلق والمعنى كأنها تجرع نار جهنم.
• اختلف العلماء: هل حكم الاتخاذ والاستعمال لآنية الذهب والفضة حكم الأكل والشرب أم لا على قولين؟ (كأن يجعل عنده آنية ذهب أو فضة للزينة، مثل الإبريق أو غيرها).
القول الأول: أنه حرام.
وهذا قول جمهور العلماء.
أ-أن النهي عن الأكل والشرب خرج مخرج الغالب، أو أنه تنبيه بالأعلى على الأدنى؛ فالأكل والشرب يحتاج إليهما أكثر من غيرهما، ومع ذلك حرمهما فيها، فكان غيرهما محرماً من باب أولى، ونظير ذلك قوله تعالى (لا تأكلوا الربا) فلا يجوز الانتفاع به في غير الأكل.
ب-أن العلة من تحريم الأكل والشرب فيهما، موجودة في الاستعمال أيضاً.
ج-آخر الحديث (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) مُشعِرٌ بالمنع منها مطلقاً.
القول الثاني: أنه جائز.
واختار هذا القول الشوكاني والصنعاني.
أ- قالوا: التحريم خاص بالأكل والشرب فقط، والأصل الحل، والأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال، فتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز.
قال الشوكاني: والحاصل أن الأصل الحل، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلّمه الخصم، ولا دليل في المقام بهذه الصفة.
ب- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ (أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ: وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ، أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ فَاطَّلَعْتُ فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن أم سلمة وهي راوية حديث النهي عن الشرب بالفضة، كان عندها جلجل من فضة، فيه شعر النبي صلى الله عليه وسلم، يستشفى به الناس، وهذا استعمال في غير الأكل والشرب.
• اختلف العلماء في العلة من تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة على أقوال:
قيل: الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء.
قال الشوكاني: ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ.
لكن قال ابن قدامة: فإن قيل: إن كانت علة التحريم كسر قلوب الفقراء، لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان.
الجواب:
قلنا تلك لا يعرفها الفقراء، فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الأغنياء لها، لعدم معرفتهم بها.
وقيل: التشبه بأهل الجنة.
حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وصحاف من ذهب، وذاك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب، فقال (مالي أرى عليك حلية أهل الجنة) أخرجه الثلاثة من حديث بريدة. [قاله الشوكاني].
وقيل: التشبه بالمشركين.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
وقيل: أن هذا ينافي العبودية.
قال ابن القيم: فَالصّوَابُ أَنّ الْعِلّةَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مَا يُكْسِبُ اسْتِعْمَالُهَا الْقَلْبَ مِنْ الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيّةِ مُنَافَاةً ظَاهِرَةً وَلِهَذَا عَلّلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأَنّهَا لِلْكُفّارِ فِي الدّنْيَا إذْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعُبُودِيّةِ الّتِي يَنَالُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ نَعِيمَهَا فَلَا يَصْلُحُ اسْتِعْمَالُهَا لِعَبِيدِ اللّهِ فِي الدّنْيَا وَإِنّمَا يَسْتَعْمِلُهَا مَنْ خَرَجَ عَنْ عُبُودِيّتِهِ وَرَضِيَ بِالدّنْيَا وَعَاجِلِهَا مِنْ الْآخِرَة. (زاد المعاد).
(إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة).
أي: فيباح إناء ضبب بضبة يسيرة من فضة لحاجة.
وهذا مستثنى من الاتخاذ والاستعمال لآنية الذهب والفضة.
والدليل على الإباحة:
حديث أَنَس بْن مَالِك رضي الله عنه (أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اِنْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ.) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي.
(قَدَحَ) إناء يشرب به الماء، وجمعه أقداح. (اِنْكَسَرَ) وفي رواية للبخاري (فانصدع) أي: انشق. (فَاتَّخَذَ) اختلف من الذي اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، فقيل: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، للرواية التي بين أيدينا، فإنها تدل أن المتخذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أنس. لرواية عند البخاري عن عاصم الأحول: (رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان انصدع فتسلسله بفضة)، قال الحافظ: وفيه نظر، لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم قال: قال ابن سيرين إنه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغير شيئاً صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أنه لم يغير شيئاً. (مَكَانَ الشَّعْبِ) الشعب بفتح الشين وسكون العين أي: الصدع والشق. (سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ) السلسلة بفتح السين، والمراد بها إيصال الشيء بالشيء، أي: سلكاً من فضة.
فالحديث دليل على جواز إصلاح الإناء المنكسر بسلسلة من فضة.
لكن لابد من شروط:
أولاً: أن يكون ذلك من فضة.
لورود النص فيه.
وأما الذهب فلا يجوز، لأنه أغلى ثمناً وأشد تحريماً، ولأنه لو كان جائزاً لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في الإناء، لأنه أبعد عن الصدأ بخلاف الفضة.
ثانياً: أن يكون لحاجة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذها إلا عند الحاجة، وهو الكسر. (الحاجة هنا ليس معناها أنه لا يجد غيرها من الحديد والنحاس والصفر أو نحوها
، وإنما معناها أن يتعلق بإصلاحه غرض من غير أغراض الزينة وتجميل الإناء).
ثالثاً: أن يكون يسيراً.
لأن هذا هو الغالب في القدح، يعني كونه صغيراً، والغالب أنه إذا انكسر فإنه لا يحتاج إلى شيء كثير، والأصل التحريم، فنقتصر على ما هو الغالب. [الشرح الممتع].
• ذهب بعض العلماء: إلى أنه يكره مباشرة الفضة التي ربط بها الإناء عند الشرب.
فلو أن إنساناً عنده إناء به ضبة وأراد أن يشرب من هذا الإناء، فإنه لا يباشر من هذه الضبة حال شربه بشفتيه.
وقيل: لا يكره.
ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
أ- لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل على كراهة مباشرة الضبة حال الاستعمال مادمنا قد قلنا بإباحتها.
ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حال استعماله لقدحه المضبب بالفضة لم يثبت عنه أنه كان يتوقى هذه الجهة المضببة. [شرح العمدة للطيار].
ج- أن الشيء إذا أُذِنَ فيه كان مباحاً، فما دام الشرع قد أذن به فإنه يكون مباحاً. [شرح البلوغ لابن عثيمين].
(وتصح الطهارة منها).
أي: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة.
فلو جعل الإنسان لوضوئه آنية من ذهب، فالطهارة صحيحة، والاستعمال محرم.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لأن حقيقة الوضوء: هو جريان الماء على الأعضاء، وليس في ذلك معصية؛ وإنما المعصية في استعمال الإناء.
قال ابن تيمية: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها، أثَّر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها، لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها؛ فلهذا لم يؤثر فيها، والله أعلم.
ب- قالوا: إنه لو أكل أو شرب في إناء الذهب والفضة، لم يكن المأكول والمشروب حرامًا، فكذلك الطهارة؛ لأن المنع إنما هو لأجل الظرف، دون ما فيه.
(وتباح آنية الكفار وثيابهم).
وهذا قول أكثر العلماء.
أ-لحديث حديث عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضأوا من مزادة امرأة مشركة) متفق عليه.
ب-ولحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر) متفق عليه.
ج-ولحديث أنس (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه) رواه أحمد.
(الإهالة) الودك. (السنخة) المتغيرة.
د-وأيضاً: أن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب، ومن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحياناً مطبوخاً بأوانيهم.
هـ-وأيضاً: أن الله أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن.
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الْلَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ: "لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إِلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
الجواب: أن هذا الحديث محمول على قوم عرفوا بمباشرتهم النجاسات كأكل الخنزير ونحوه ويدل لهذا رواية أبي داود وأحمد (إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم ليأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟).
(أن المقصود من الحديث الأواني التي يستعملونها لا التي يصنعونها لنا).
(ولا يَطهرُ جلد ميتةٍ بدباغ).
الدبغ: إزالة النتن والرطوبة من الجلد بمواد خاصة.
من المعلوم أن جلد الميتة نجس إذا كانت الميتة نجسة، لقوله تعالى (
…
إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس) أي: نجس، فهو داخل في عموم الميتة.
لكن هل إذا دبغ يطهر أم لا؟
فقيل: لا يطهر.
قال ابن قدامة: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم.
قال النووي: وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة، وهو أشهر الروايتين عن أحمد.
أ- لقوله تعالى (حرمت عليكم الميتة).
وجه الدلالة: أن الله عز وجل حرم الميتة في كتابه تحريماً عاماً، ويقع التحريم على اللحم والجلد، لأنه لم يخص منها شيئاً دون شيء، وهذا عام قبل الدباغ وبعده، والجلد جزء من الميتة فيكون محرماً.
ب- لحديث عبد الله بن عُكَيم قال: (كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) رواه الترمذي وأحمد.
وجه الدلالة: أنه نص في تحريم الميتة، وأنه لا ينتفع بإهابها مطلقاً، دبغ أو لم يدبغ، وهو آخر الأمرين، لأنه قبل وفاته (بشهر) فيكون ناسخاً لأحاديث طهارة جلد الميتة بالدباغ إن صحت.
ج- القياس على اللحم بجامع أن الجلد جزء من الميتة فلم يطهر بالدبغ كاللحم.
وقيل: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره.
قال النووي: وهو مذهب الأوزاعي، وابن المبارك، وأبي ثور، وإسحاق بن راهوية.
هذا اختيار ابن تيمية حيث قال رحمه الله: وأرجح القولين أن الدباغ كالذكاة فيطهر ما طهر بالذكاة، وهو مأكول اللحم فقط دون غيره.
أ- لحديث عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: هَلاَّ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف هذه الشاة بأنها ميتة، وبيّن أنه حُرّم بموتها أمر واحد وهو أكلها، فتبين بهذا أن ما لا يؤكل أصلاً له حكم آخر، فلحمه حرام أصلاً سواء مات أو ذكي، فبناء على ذلك يقولون إن الحكم خاص بالميتة التي حرم أكلها لعارض وهو كونها ميتة ولو ذكيت لما حرم أكلها.
ب- لحديث سلمة بن المحبق. قال: قال صلى الله عليه وسلم (دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهاَ).
وجه الدلالة: حيث شبّه الدبغ بالذكاة، والذكاة لا تطهر إلا ما يؤكل لحمه، فكذا الدبغ.
ج- وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة (دباغها ذكاتها) وفي لفظ (ذكاتها دباغها) رواه النسائي.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الدباغ لجلد الميتة مقام الذكاة، والذكاة تفيد في مأكول اللحم، ولا تفيد فيما لا يؤكل لحمه.
د- ما رواه أبو المليح عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع أن تفترش) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع - وهي مما لا يؤكل لحمه - ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم دباغ ولا غيره، فدل على أنه حتى لو دبغت فلا تطهر، لأنها ليست مما يؤكل لحمها، فدل على أن الدباغ مطهر لجلد ما مات مما يؤكل لحمه فقط.
وهذا القول هو الصحيح والله أعلم.
وقيل: يطهر بالدباغ جلد كل ميتة مطلقاً حتى الكلب والخنزير.
وهذا قول داود الظاهري، وهو اختيار ابن عبد البر، ورجحه الشوكاني.
لعموم الأدلة، فالأحاديث الواردة لم يُفرّق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما.
أ-كحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَ الْأَرْبَعَةِ: (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ) فهو نص صريح في طهارة جلد الميتة بالدباغ.
فقوله (إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ
…
) وإهاب هذه نكرة في سياق الشرط فتعم كل إهاب.
ب- وكحديث سَلَمَة بْن الْمُحَبِّقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم (دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهاَ) صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(وكل ميتة نجسة).
الميتة: هي كل ما لم يذكى ذكاة شرعية.
فالميتة نجسة.
قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).
وقال تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ
…
).
وقال تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ
…
).
وقد أجمع العلماء على تحريم الميتة في حال الاختيار.
(وكل أجزائها نجسة).
كاليد، والرجِل، والرأس ونحوها.
لعموم الآيات السابقة.
(إلا الآدمي).
أي: إلا ميتة الآدمي فإنها طاهرة.
لقوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم .. ) ومن جملة تكريمه جعله طاهراً حياً وميتاً.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن لا ينجس) متفق عليه.
وقال بعض العلماء: إن الكافر ينجس بالموت دون المسلم.
للحديث السابق (إن المؤمن لا ينجس) فمفهومه أن غير المسلم ينجس.
ولقوله تعالى (إنما المشركون نجس).
والصحيح أنه سواء كان مؤمناً أو كافراً لا ينجس بالموت.
وأما الآية فالمراد بالنجاسة فيها النجاسة المعنوية.
(وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه).
أي: طاهر.
فجميع ميتات البحر التي لا تعيش إلا فيه حلال.
أ- لقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ).
قال ابن عباس (صيده: ما صيد فيه، وطعامه: ما قذف) أخرجه ابن جرير.
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلْبَحْرِ: (هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ، اَلْحِلُّ مَيْتَتُهُ) رواه أبو داود.
ج- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ) رواه ابن ماجه.
د- وعن جَابِر قال (غَزَوْنَا جَيْشَ الخَبَطِ، وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى البَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ، يُقَالُ لَهُ العَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (كُلُوا، رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ) فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَهُ) متفق عليه.
(قال في "لسان العرب" (2/ 26): الحُوتُ السمك، وقيل هو ما عظُمَ منه).
فميتة البحر حلال سواء ماتت في البحر ثم طفت فيه، أو ماتت بمفارقة البحر.
(وما لا نفسَ له سائلة).
هذا مما يستثنى، أي: لا دم له يسيل منه إذا خرج منه بجرح أو قتل.
لحديث أَبِي هُرَيْرة. قال: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا وَقَعَ اَلذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي اَلْآخَرِ شِفَاءً) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ (وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ اَلَّذِي فِيهِ اَلدَّاءُ).
فهذا الحديث دليل على أن الماء إذا وقع فيه الذباب فإنه لا ينجس.
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه ولم يأمر بإراقة ما وقع فيه.
قال ابن القيم: هو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًا على أنَّ الذُّباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السَّلَف مخالفٌ في ذلك.
ووَجهُ الاستدلال به: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بمَقْلِهِ، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان الطعامُ حاراً، فلو كان يُنجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت، وأشباهِ ذلك، إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفي لانتفاء سببه. [زاد المعاد].
• وقاس العلماء على الذباب كل مالا نفس له سائلة من الحشرات فحكموا لطهارتها وأنها لا تنجس ما سقطت: كالنملة، والبعوضة، والعنكبوت، والخنفساء، والنحل، والبق ونحو ذلك، فإذا وقع في طعام أو شراب لم يُحرِّمْه ولم ينجسه، لهذا الحديث.
لأن الحكم يعم بعموم علته وينتفي لانتفاء سببه، ولما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
فلو وقع الجعل في الماء ومات فالماء طاهر.
وكذا لو وقعت العقرب في ماء فهو طاهر، لأنها لا تنجس بالموت.
(وما أُبِينَ من حيٍّ فهو ميتتهِ).
(أبين) أي فُصل من حيوان حيٍّ.
(كميتته) يعني: طهارة، ونجاسة، حِلًّا، وحُرمة.
فما أُبينَ من الآدمي فهو طاهر، حرام لحرمته لا لنجاسته.
وما أُبين من السَّمك فهو طاهر حلال.
وما أبين من البقر فهو نجس حرام، لأنَّ ميتتها نجسة حرام.
لحديث أَبِي وَاقِدٍ اَللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَا قُطِعَ مِنْ اَلْبَهِيمَةِ -وَهِيَ حَيَّةٌ- فَهُوَ مَيِّتٌ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
فهذا الحديث يدل على: أن ما أبين وقطع من بهيمة في حال حياتها فهو كميتتها طهارة أو نجاسة، حلاً أو حرمة.
مثال: ما قطع من الشاة - وهي حية - فهو نجس وحرام، لأنه بمنزلة ميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة.
مثال: ما قطع من سمكة - وهي حية - فهو طاهر وحلال، لأن ميتة السمكة طاهرة وحلال.
قال ابن تيمية: هذا متفق عليه بين العلماء.
ولذلك أخذ العلماء من ذلك قاعدة وهي: ما أبِينَ من حي فهو كميتته.
قال في عون المعبود: قَالَ اِبْن الْمَلَك: أَيْ كُلّ عُضْو قُطِعَ فَذَلِكَ الْعُضْو حَرَام، لِأَنَّهُ مَيِّت بِزَوَالِ الْحَيَاة عَنْهُ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي حَال الْحَيَاة فَنُهُوا عَنْه.
قال النووي: وَأَمَّا هَذَا السَّنَام الْمَقْطُوع فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ نَحْرهمَا فَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ مَا أُبِينَ (أي: قُطع) مِنْ حَيّ فَهُوَ مَيِّت.
وجاء في "الموسوعة الفقهية"(28/ 130): إِذَا رَمَى صَيْدًا فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، وَبَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً يَحْرُمُ الْعُضْوُ الْمُبَانُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: لا يجوز أكل ما قطع من الحيوان المأكول، وهي حية كالخصى والإلية ونحوهما؛ لأن ذلك في حكم الميتة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(ما قطع من البهيمة، وهي حية فهو ميتة).
بَابُ اَلِاسْتِنْجَاءِ وَآدَابِ قَضَاءِ اَلْحَاجَةِ
الاستنجاء إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر أو نحوه، ويسمى الثاني استجماراً من الجمار وهي الحجارة الصغيرة.
ويُذكر في هذا الباب آداب التخلي، أي ما ينبغي فعله حال الدخول والخروج وقضاء الحاجة وما يتعلق بذلك.
• والشريعة الإسلامية شريعة كاملة جاءت بالتعاليم العظيمة في جميع شؤون الحياة ومنها آداب قضاء الحاجة.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان قال (قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل؛ إنه نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين
…
).
(يُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَلَ اَلْخَلَاءَ: أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى دخولاً واليمنى خروجاً).
أي: يسن لمن دخل الخلاء أن يقدم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً.
وقد ذكر النووي وغيره قاعدة: وهي أن اليمين تقدم في كل ما هو من باب التكريم، واليسار ضد ذلك.
فقال رحمه الله: هَذِهِ قَاعِدَة مُسْتَمِرَّة فِي الشَّرْع، وَهِيَ إِنَّ مَا كَانَ مِنْ بَاب التَّكْرِيم وَالتَّشْرِيف كَلُبْسِ الثَّوْب وَالسَّرَاوِيل وَالْخُفّ وَدُخُول الْمَسْجِد وَالسِّوَاك وَالِاكْتِحَال، وَتَقْلِيم الْأَظْفَار، وَقَصّ الشَّارِب، وَتَرْجِيل الشَّعْر وَهُوَ مَشْطُهُ، وَنَتْف الْإِبِط، وَحَلْق الرَّأْس، وَالسَّلَام مِنْ الصَّلَاة، وَغَسْل أَعْضَاء الطَّهَارَة، وَالْخُرُوج مِنْ الْخَلَاء، وَالْأَكْل وَالشُّرْب، وَالْمُصَافَحَة، وَاسْتِلَام الْحَجَر الْأَسْوَد، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ يُسْتَحَبّ التَّيَامُن فِيهِ. وَأَمَّا مَا كَانَ بِضِدِّهِ كَدُخُولِ الْخَلَاء وَالْخُرُوج مِنْ الْمَسْجِد وَالِامْتِخَاط وَالِاسْتِنْجَاء وَخَلْعِ الثَّوْب وَالسَّرَاوِيل وَالْخُفّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبّ التَّيَاسُر فِيهِ، وَذَلِكَ كُلّه بِكَرَامَةِ الْيَمِين وَشَرَفهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
أدلة هذه القاعدة:
أ- عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ اَلتَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب- وحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤوا بميامنكم) رواه أبوداود.
ج- وعن حَفْصَة. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ) رواه أبو داود.
د-وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى) رواه أبو داود.
(ويقول: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْخُبْثِ وَالْخَبَائِث).
أي: ويسن أن يقول عند الدخول هذا الدعاء: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْخُبْثِ وَالْخَبَائِث.
لحديث أنس. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ اَلْخَلَاءَ قَالَ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْخُبُثِ وَالْخَبَائِث) متفق عليه.
الخبُث بضم الباء جمع خبيث، وهم ذكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة، وهن إناث الشياطين، فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.
وقيل: الخبْث: بإسكان الباء، الشر، والخبائث: الذوات الشريرة، فكأنه استعاذ من الشر وأهله.
قال الخطابي: الخبُث بضم الباء، وعامة المحدثين يقولون: الخبْث بإسكان الباء، وهو غلط والصواب الضم.
قال النووي: وهذا الذي غلّطهم فيه ليس بغلط، وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، منهم أبو عبيْد إمام هذا الفن، والعمدة فيه.
• (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ اَلْخَلَاءَ) أي: عند إرادة الدخول لا بعده، وقد صرح بهذا البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل
…
). (الفتح).
• وهذا القول مستحب.
قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه، ويستوي فيه الصحراء والبنيان.
• يقال هذا الدعاء عند إرادة الدخول في الأماكن المعدة لذلك.
وأما في الأماكن غير المعدة لذلك كالصحراء، فإنه يقوله في أول الشروع عند تشمير الثياب، وهذا مذهب الجمهور. (قاله في الفتح)
لقوله (كان إذا دخل الخلاء
…
) والخلاء هو الموضع الذي يخلو الإنسان بنفسه لقضاء الحاجة، ولا يشترط أن يكون معداً لقضاء الحاجة.
• الحكمة من الاستعاذة من الشياطين قبل دخول الخلاء: أن هذه الأماكن تحضرها الشياطين.
كما في حديث زيد بن أرقم. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن هذه الحشوش محتضَرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث) رواه أبو داود.
الحشوش: أماكن قضاء الحاجة. محتضرة: تحضرها الشياطين.
جاء في الموسوعة الفقهية (4/ 10): قال الحطّاب: وخصّ هذا الموضع بالاستعاذة لوجهين:
الأوّل: بأنّه خلاءٌ، وللشّياطين بقدرة اللّه تعالى تسلّطٌ بالخلاء ما ليس لهم في الملأ.
الثّاني: أنّ موضع الخلاء قذرٌ ينزّه ذكر اللّه تعالى فيه عن جريانه على اللّسان، فيغتنم الشّيطان عدم ذكره، لأنّ ذكر اللّه تعالى يطرده، فأمر بالاستعاذة قبل ذلك ليعقدها عصمةً بينه وبين الشّيطان حتّى يخرج.
• إذا نسي أن يقول هذا الذكر، قيل: يرجع ويقوله، وقيل: إنه سنة فات محلها، وهذا أرجح.
• لابد من هذا الذكر النطق باللسان، فلا يكفي إمراره بنفسه.
• وردت أدعية أخرى تقال قبل دخول الخلاء لكن لا يصح منها شيء.
أ-وردت التسمية (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث
…
) وهي شاذة لا تصح، فقد روى الحديث جماعة عن عبد العزيز بن صهيب دون ذكر التسمية، منهم شعبة، وحماد بن زيد، وهشيْم بن بَشير، وإسماعيل بن عُبيّة، وحماد بن سلمة، وعبد الوارث، وحماد بن واقد.
ب-ووردت في حديث علي. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله). رواه الترمذي، وهو ضعيف.
ج-ما جاء عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعجز أحكم إذا دخل مرفقَه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم). لكنه حديث ضعيف.
(وَإِذَا خَرَجَ قَدَّمَ اليُمْنَى).
لأنه سبق قاعدة أن ما كان من باب التكريم؛ فإنه يقدم فيه اليمنى، وما كان من باب الإهانة؛ فإنه يقدم فيه اليسار.
فعند الخروج من الخلاء يقدم الرجل اليمنى، لأن الخروج أكمل وأفضل.
(وَقَالَ: غُفْرَانَكَ).
أي: ويسن أن يقول بعد خروجه من الخلاء غفرانك.
لحديث عائشة. قالت (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ اَلْغَائِطِ قَالَ: غُفْرَانَكَ) رواه أبو داود.
الغائط: المكان الذي يتغوط فيه، وإن كان في البر فعند مفارقته مكان جلوسه.
قال النووي: الغائط: قال أهل اللغة أصل الغائط المكان المطمئن كانوا يأتونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لاسمه، ومن عادة
العرب التعفف في ألفاظها، واستعمال الكنايات في كلامها، وصون الألسن مما تصان الأبصار والأسماع عنه. (المجموع)
• اختلف العلماء في مناسبة قوله (غفرانك) بعد الخروج من الخلاء؟
فقيل: يستغفر الله لأنه ترك ذكر الله في تلك الحالة.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه إلا في حال قضاء الحاجة، فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيراً وذنباً يستغفر منه، (وهذا فيه نظر).
وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج.
قال الشوكاني: وفي حمده إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنّة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها، وحقٌ على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة فسدّ به جوعته، وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى منه وطره، ولم يبق فيه نفع، واستمال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك أن يستكثر من محامد الله جل جلاله.
وقيل: إنه لما تخفف من أذية الجسم دعا الله أن يخفف عنه أذية الإثم.
قال ابن القيم: إن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخفة البدن وراحته، وسأل الله أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه، ويخففه.
والصحيح ما قاله الشوكاني.
• وردت أدعية تقال بعد الخروج من الخلاء غير هذا الدعاء لكنها لا تصح.
حديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) رواه ابن ماجه، وفيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف جداً.
وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. وإذا خرج قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عنّي أذاه) رواه ابن السني وهو ضعيف.
(ويستحب أنَ يَعْتَمِدُ فِي جُلُوسِهِ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ اَلْيُمْنَى).
أي: ويستحب أن يعتمد عند قضاء الحاجة على رجله اليسرى.
أ-لحديث سراقة بن مالك قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى). رواه البيهقي وهو حديث ضعيف
ب- وقالوا: إن ذلك يسهل خروج الخارج، وفيه أيضاً إكراماً لليمين.
لكن الحديث ضعيف، والحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية.
فإن ثبت من الناحية الطبية أن هذه الجلسة مفيدة صارت مطلوبة لا من جهة أنها من السنة، ولكن من جهة أنها من المصلحة، لأن كل ما فيه مصلحة فإنه مأمور به.
(وَيَسْتَتِر بِحَائِطٍ وَنَحْوِه).
أي: ويسن أن يستتر ويختفي عن الناظرين بجدار أو جبل أو شجر أو نحو ذلك.
لحديث عبد الله بن جعفر قال: (كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ) رواه مسلم.
والمراد استتار بدنه كلِّه، فهذا أفضل.
وأما استتاره بالنسبة للعورة فهذا واجب.
هدفٌ: ما ارتفع من الأرض.
…
حائش نخل: حائط نخل.
(وَيُبْعِدُ إِنْ كَانَ فِي الفَضَاء).
أي ويسن أن يبتعد عن العيون - حتى لا يرى جسمه - إذا كان في فضاء كصحراء ليس فيها جبال أو أشجار ساترة.
أ-لحديث المغيرة بن شعبة قال: (فانطلق - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عنّي فقضى حاجته) متفق عليه.
ب-ولحديث المغيرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى الغائط أبعد) رواه أبو داود وصححه النووي.
ج-ولحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) رواه أبو داود.
• هذا إن كان في الصحراء، فإن كان في البنيان حصل المقصود بالبناء المعد لقضاء الحاجة.
قال ابن القيم: وكان إذا ذهب في سفره للحاجة انطلق حتى يتوارى عن أصحابه، وكان يبعد نحو الميلين.
•
الحكمة من الابتعاد:
أ- لئلا ترى عورته.
ب- أو يُسمع صوته.
ج-أو تشم رائحته.
قال الشوكاني: الظاهر أن العلة إخفاء المستهجن من الخارج.
(وأن يرتاد موضِعاً رَخْواً).
الارتياد: الطلب.
أي: ويسن أن يطلب لبوله موضعاً ليناً رخواً، وهو المكان اللين الذي لا يخشى منه رشاش البول.
قال ابن القيم: وكان يرتاد لبوله الموضع الدمث، وهو اللين من الأرض.
ويدل على استحباب ذلك:
أ-حديث أبي موسى. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعاً) رواه أبو داود، وهو ضعيف.
قال النووي (فليرتد) أي: يطلب موضعاً ليناً.
ب-حتى يسلم من الرشاش.
ج-لأن عدم التنزه من البول من الكبائر، ومن أسباب عذاب القبر، كما في حديث ابن عباس قال (مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول
…
) متفق عليه.
• فإن لم يجد إلا أرضاً صلبة دقها بحجر أو عودٍ لتصير دَمِثَة سهلة.
(ويكره استقبال الشمس والقمر).
أي: ويكره لقاضي الحاجة أن يستقبل الشمس أو القمر حال قضاء حاجته.
أ-لما فيها من نور الله.
ب-ولحديث ورد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل وفرجه بادٍ إلى الشمس أو القمر).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكره.
أ-لأن التعليل الذي ذكروه منقوض بسائر الكواكب.
ب-وأما الحديث فباطل.
قال ابن حجر: هذا حديث باطل لا أصل له.
وقال النووي: هذا حديث باطل.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما استدلاله بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما، واحتج بالحديث، فهذا من أبطل الباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل، وليس لهذه
المسألة أصل في الشرع.
وقال السعدي: والصحيح أنه لا يكره استقبال النيرين وقت قضاء الحاجة، والتعليل الذي ذكروه، وهو لما فيهما من نور الله
تعالى، منقوض بسائر الكواكب، وعلة غير معتبرة.
وقال الشيخ ابن عثيمين:
…
ثم إِن هذا التَّعليلَ منقوضٌ بقوله صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القِبلةَ ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا، أو غرِّبُوا).
ومعلوم أن من شرَّق أو غرَّب، والشَّمس طالعة فإنه يستقبلها، وكذا لو غرَّب والشمسُ عند الغروب، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا أن تكون الشمس أو القمر بين أيديكم، فلا تفعلوا.
(وبوله في شَق).
الشَق: بفتح الشين واحد الشقوق.
أي: ويكره لقاضي الحاجة أن يبول في شَق.
قال ابن قدامة: فيُكْرَهُ أَنْ يَبُولَ فِي شَقٍّ أَوْ ثَقْب. (المغني).
وقال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه.
وقال النووي: متفق عليه. (المجموع).
لحديث عبد الله بن سرجس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر). رواه أبو داود.
وهذا الحديث صححه ابن خزيمة، وابن السكن، والنووي في " الخلاصة "(1/ 156)، وابن كثير في " إرشاد الفقيه "(1/ 56)، وابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 321 (وضعفه بعضهم.
• الحكمة من النهي: في سبب هذا النهي علتان:
أولاً: أَنَّهُ مَأْوَى الْهَوَامّ الْمُؤْذِيَة، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبهُ مَضَرَّة مِنْهَا. (عون المعبود).
قال الشيخ ابن عثيمين: فيُخشَى أن يكونَ في هذا الجُحر شيء ساكن فتُفْسِد عليه مسكنه، أو يخرج وأنت على بولك فيؤذيك، وربما تقوم بسرعة فلا تسلم من رَشاش البول.
…
(الشرح الممتع).
وربما رأى حيةً أو ثعباناً ففزع، فكان سبباً في حصول الضرر في بوله وجسده.
ثانياً: أنها مساكن الجن.
وقد جاء في رواية أبي داود (29): قَالُوا لِقَتَادَةَ: مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: "إِنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ "
قال الحاكم: ولست أبتُّ القول إنها مسكن الجن؛ لأن هذا من قول قتادة.
وقد ذكر كثير من المؤرخين أنَّ سيِّدَ الخزرج سعدَ بنَ عبادة رضي الله عنه سافر من المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "حوران"، وأقام بها، فجلس يوماً يبول في ثقب في الأرض، فما إن فرغ من بوله حتى استلقى ميِّتاً.
ولم يعلم أهل المدينة بموته حتى سمعوا قائلاً من الجن في بئر يقول:
نحنُ قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْ
…
رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادهْ.
وَرَمَيْنَاهُ بسَهْمَيْـ
…
ـنِ فلم نُخْطِئ فُؤادَهْ.
فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه.
وهذه القصة - وإن كان في سندها كلام عند المحدثين -، إلا أنها مشهورة عند المؤرخين، حتى قال ابن عبد البر:" ولم يختلفوا أنه وجد ميتاً في مغتسله، وقد اخضرَّ جسده " انتهى من (الاستيعاب في معرفة الأصحاب).
• وكراهة البول في الجُحر متفق عليها بين الفقهاء، كما ذكر الإمام النووي في (المجموع).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) يُكْرَهُ التَّبَوُّل فِي ثَقْبٍ أَوْ سَرَبٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأْرْبَعَةِ
…
وَلأِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُحْرِ مَا
يَلْسَعُهُ، أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَوْل، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَظْهَرُ تَحْرِيمُهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بِهِ حَيَوَانًا مُحْتَرَمًا يَتَأَذَّى أَوْ يَهْلِكُ بِهِ" انتهى.
(وفي مهب الريح).
أي: ويكره لقاضي الحاجة أن يبول في مهب الريح.
لئلا تردّ عليه بوله فيتنجس.
قال النووي: قال أصحابنا يكره استقبال الريح بالبول، لئلا يرده عليه فيتنجس بل يستدبرها هذا هو المعتمد في كراهته.
وأما الحديث المروى عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره البول في الهواء) فضعيف، بل قال الحافظ أبو أحمد بن عدي: إنه موضوع.
…
(المجموع).
وقال ابن قدامة: وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرِّيحَ؛ لِئَلَّا تَرُدَّ عَلَيْهِ رَشَاشَ الْبَوْلِ، فَيُنَجِّسَهُ.
…
(المغني).
(وكلام).
أي: ويكره لقاضي الحاجة أن يتكلم أثناء قضاء الحاجة.
قال النووي: كراهة الكلام على قضاء الحاجة متفق عليه، ويستوي في الكراهة جميع أنواع الكلام ويستثنى مواضع الضرورة.
وقال في شرح مسلم:
…
وَكَذَلِكَ يُكْرَه الْكَلَام عَلَى قَضَاء الْحَاجَة بِأَيِّ نَوْع كَانَ مِنْ أَنْوَاع الْكَلَام، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا كُلّه مَوْضِع الضَّرُورَة، كَمَا إِذَا رَأَى ضَرِيرًا يَكَاد أَنْ يَقَع فِي بِئْر، أَوْ رَأَى حَيَّة أَوْ عَقْرَبًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ يَقْصِد إِنْسَانًا أَوْ نَحْو ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَام فِي هَذِهِ الْمَوَاضِع لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ وَاجِب، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْكَرَاهَة فِي حَال الِاخْتِيَار هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَعَطَاء، وَسَعِيد الْجُهَنِيّ، وَعِكْرِمَة رضي الله عنهم، وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ وَابْن سِيرِينَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْس بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
لحديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا تَغَوَّطَ اَلرَّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يَتَحَدَّثَا. فَإِنَّ اَللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ) رَوَاهُ. وَصَحَّحَهُ اِبْنُ اَلسَّكَنِ، وَابْنُ اَلْقَطَّانِ، وَهُوَ مَعْلُول.
قال الشوكاني: الحديث يدل على وجوب ستر العورة، وترك الكلام، فإن التعليل يمقت الله تعالى يدل على حرمة الفعل المعلل ووجوب اجتنابه، لأن المقت هو البغض.
والحديث لو صح لكان دالاً على التحريم وليس على الكراهة، لكن قالوا: إن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف الحديث، رجلان يمشيان إلى الغائط كاشفين عن عورتيهما، يتكلمان.
القول الثاني: لا يكره.
لعدم الدليل الذي يدل على الكراهة.
والأولى عدم الكلام إلا لحاجة.
• سئل الشيخ السعدي: هل يكره الكلام وقت الاستنجاء، فأجاب: لا يكره ذلك، وإنما يكره وقت قضاء الحاجة، والأولى للإنسان ترك الكلام الذي لا يحتاج إليه وقت انكشاف عورته في كل موضع. (الفتاوى السعدية).
(ودخوله بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجة).
أي: ويكره لقاضي الحاجة أن يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله.
وهذا مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة.
أ- لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ اَلْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَهُوَ مَعْلُول.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزعه لأجل نقشه (محمد رسول الله) مما يدل على أن الخاتم لا يُدخل به الخلاء إذا كان عليه ذكر منعاً
لامتهانه.
وقد تقدم أن الحديث ضعيف.
ب- عن عكرمة مولى ابن عباس قال (كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه) رواه ابن أبي شيبة، وسنده ضعيف.
وذهب بعض العلماء: إلى عدم الكراهة.
وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب الحنفية.
أ- لأنه لم يرد دليل صحيح يدل على الكراهة.
ب- أن في نزع الخاتم عند دخول الخلاء من المفاسد ما لا يخفى.
وذهب بعضهم: أن إزالة ذلك أفضل.
قال به بعض الحنابلة.
وهذا هو الصحيح.
• يجوز دخول الحمام بأوراق فيها اسم الله ما دامت في الجيب ليست ظاهرة، بل هي مخفية ومستورة. (الشيخ ابن عثيمين).
• لو خاف على ما معه أن يسرق أو يضيع؟ في هذه الحالة يجوز أن يدخل به الخلاء (هذا على القول بالكراهة).
• وأما الدخول بالمصحف للخلاء:
فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنابلة.
وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية.
والصحيح الأول.
قال الشيخ ابن عثيمين: الدخول بالمصحف إلى المرحاض والأماكن القذرة صرح العلماء بأنه حرام، لأن ذلك ينافي احترام كلام الله سبحانه وتعالى، إلا إذا خاف أن يسرق لو وضعه خارج المرحاض، أو خاف أن ينساه فلا حرج أن يدخل به لضرورة حفظه.
أما الأشرطة فليست كالمصاحف، لأن الأشرطة ليس فيها كتابة، غاية ما هنالك أن ذبذبات معينة موجودة في الشريط إذا مرت بالجهاز المعين ظهر الصوت، فلذلك يدخل بها ولا إشكال في ذلك. (لقاءات الباب المفتوح).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: أما دخول الحمام بالمصحف فلا يجوز إلا عند الضرورة، إذا كنت تخشى عليه أن يسرق فلا بأس.
…
(مجموع فتاوى ابن باز).
(وذكر الله).
أي: ويكره ذكر الله بلسانه حال قضاء الحاجة، تعظيماً لله تعالى.
لحديث عبد الله بن عمر قال (مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه) رواه مسلم.
جاء في الشرح الكبير: ولا يذكر الله تعالى على حاجته بلسانه.
روي كراهة ذلك عن ابن عباس وعطاء.
وقال ابن سيرين والنخعي لا بأس به.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام الذي يجب رده، فذكر الله أولى.
فان عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم، وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى أن يحمد الله بلسانه والاول أولى لما ذكرناه. (الشرح الكبير)
قال ابن المنذر في الأوسط: وقال عكرمة لا يذكر الله وهو على الخلاء بلسانه ولكن بقلبه.
قال النووي في الأذكار: يكره الذكر والكلام حال قضاء الحاجة، سواء كان في الصحراء أو في البنيان، وسواء في ذلك جميع الأذكار والكلام إلا كلام الضرورة.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: الذِّكر بالقلب مشروع في كل زمان ومكان، في الحمَّام وغيره، وإنما المكروه في الحمَّام ونحوه: ذكر الله
باللسان تعظيماً لله سبحانه إلا التسمية عند الوضوء فإنه يأتي بها إذا لم يتيسر الوضوء خارج الحمَّام؛ لأنها واجبة عند بعض أهل العلم، وسنة مؤكدة عند الجمهور.
•
حكم التسمية داخل الحمام لمن نسي أن يسمي قبل الدخول:
قيل: يسمي بقلبه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (1/ 130): إذا كان في الحمام، فقد قال الإمام أحمد: إذا عطس الرجل حمد الله بقلبه، فيُخَرَّج من هذه الرواية أنه يسمي بقلبه. أ. هـ
وقيل: يسمي بلسانه ولا كراهة حينئذ.
قال الشيخ ابن باز: لا بأس أن يتوضأ داخل الحمام إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويسمي عند أول الوضوء، يقول:(بسم الله) لأن التسمية واجبة عند بعض أهل العلم، ومتأكدة عند الأكثر، فيأتي بها وتزول الكراهة لأن الكراهة تزول عند الحاجة إلى التسمية، والإنسان مأمور بالتسمية عند أول الوضوء، فيسمي ويكمل وضوؤه. (مجموع فتاوى الشيخ ابن باز).
(ومس فرجه بيمينه).
أي: يكره لقاضي الحاجة مس فرجه بيمينه.
لحديث أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ اَلْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي اَلْإِنَاءِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وهذا قول جمهور العلماء.
قالوا: لأنه من باب الآداب والتوجيه والإرشاد.
ولأنه من باب تنزيه اليمين، وذلك لا يصل النهي فيه إلى التحريم.
فائدة: ومحل النهي إذا لم تكن ضرورة، فإن كان ثَمّ ضرورة جاز من غير كراهة.
• وظاهر الحديث: أنه يكره مس الذكر باليمين حال البول فقط.
أ- للحديث السابق (لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ يَبُولُ) أي: حال كونه يبول، فلا يتعدى النهي إلى غيرها.
ب- ولأنه ربما تتلوث يده اليمنى إذا مس ذكره بها، فإن كان لا يبول جاز لحديث (هل هو إلا بضعة منك).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يكره مطلقاً حال البول وغيره.
قالوا: إذا نهي عن مس الذكر حال البول مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، فيكون النهي في غيرها مع الحاجة من باب أولى.
والراجح القول الأول، وأن النهي حال البول فقط.
(واستنجاؤه واستجماره بها).
أي: ويكره أن يستنجي أو أن يستجمر بيمينه. (الاستنجاء بالماء، والاستجمار بالحجر).
للحديث السابق (وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ اَلْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ).
(وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ اَلْخَلَاءِ) لا يستنجِ بحجر ولا ماء.
وهذا قول جماهير العلماء.
أ-لحديث الباب (وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ اَلْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ).
ب-ولحديث سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: (لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ
…
). رواه مسلم
ج- ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم،
…
ولا يستنجي بيمينه). رواه أبو داود
قال النووي: وقد أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين.
وقال: الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه نهي تحريم.
لحديث الباب، ولحديث سلمان، والنهي يقتضي التحريم.
(ولا يكره البول قائماً).
أي: أن البول قائماً جائز من غير كراهة.
أ- لحديث حُذَيْفَة قَالَ (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً
…
) متفق عليه.
ب- ثبت عن كثير من الصحابة أنهم بالوا قياماً.
قال ابن حجر: وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء (الفتح).
ج- ولم يثبت نهي عن ذلك.
قال النووي: وقد روى في النهى عن البول قائماً أحاديث لا تثبت.
• لكن هذا الجواز مقيد بشرطين:
الأول: أن يأمن الرشاش [لأن التنزه من البول واجب].
الثاني: أن يأمن الناظر.
وذهب بعض العلماء: إلى كراهة البول قائماً.
أ- لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
ب- وعن بريدة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده) رواه البراز.
والصحيح الجواز من غير كراهة.
وأما الجواب عن حديث عائشة: فيقال أن هذا مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة.
وأما حديث بريدة فضعيف.
قال الترمذي: حديث بريدة في هذا غير محفوط، وتابعه المباركفوري.
• أن الأكثر والأغلب من فعل الرسول هو البول قاعداً لحديث عائشة السابق (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً).
• اختلف في سبب بول النبي صلى الله عليه وسلم قائماً:
فقيل: لأنه لم يجد مكاناً للقعود.
وقيل: ما روي في رواية ضعيفة أنه بال قائماً لعلّة بمأبضه - والمَأبَض هو باطن الركبة -.
وقيل: لأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك.
وقيل: لأنها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب بخلاف حالة القعود.
وقيل: فعل ذلك لبيان الجواز، وهذا القول هو الصحيح، وكانت عادته المستمرة البول قاعداً، لحديث عائشة السابق (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً
…
) (شرح نووي).
قال ابن حجر: والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز. (الفتح).
• إن قيل كيف بال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه السباطة القريبة من الدور مع أن المعروف من عادته التباعد عند قضاء الحاجة؟
الجواب:
قال النووي: وَأَمَّا بَوْله صلى الله عليه وسلم فِي السُّبَاطَة الَّتِي بِقُرْبِ الدُّور مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوف مِنْ عَادَته صلى الله عليه وسلم التَّبَاعُد فِي الْمَذْهَب، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رضي الله عنه أَنَّ سَبَبه: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ الشُّغْل بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّظَر فِي مَصَالِحهمْ بِالْمَحَلِّ الْمَعْرُوف، فَلَعَلَّهُ طَالَ عَلَيْهِ مَجْلِس حَتَّى حَفَزَهُ الْبَوْل فَلَمْ يُمْكِنهُ التَّبَاعُد، وَلَوْ أَبْعَد لَتَضَرَّرَ، وَارْتَادَ السُّبَاطَة لِدَمَثِهَا، وَأَقَامَ حُذَيْفَة بِقُرْبِهِ لِيَسْتُرهُ عَنْ النَّاس. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي حَسَن ظَاهِر. (شرح مسلم).
• إن قيل: كيف بال النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم من غير إذنهم؟
قال النووي: وَأَمَّا بَوْله صلى الله عليه وسلم فِي سُبَاطَة قَوْم فَيَحْتَمِل أَوْجُهًا:
أَظْهَرهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَهُونَهُ بَلْ يَفْرَحُونَ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَاله جَازَ الْبَوْل فِي أَرْضه، وَالْأَكْل مِنْ طَعَامه، وَنَظَائِر هَذَا فِي السُّنَّة أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَى.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّة بِهِمْ بَلْ كَانَتْ بِفِنَاءِ دُورهمْ لِلنَّاسِ كُلّهمْ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لَقُرْبهَا مِنْهُمْ.
وَالثَّالِث: أَنْ يَكُونُوا أَدْنَوْا لِمَنْ أَرَادَ قَضَاء الْحَاجَة إِمَّا بِصَرِيحِ الْإِذْن وَإِمَّا بِمَا فِي مَعْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان).
أي: يحرم على قضاء الحاجة أن يستقبل القبلة أو أن يستدبرها حال قضاء الحاجة في الفضاء دون البنيان.
وهذا قول جماهير العلماء: أنه يحرم في الفضاء ويجوز في البنيان.
قال ابن حجر: وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقاً قال الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق، وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة.
قال النووي: وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب وعن عبد الله بن عمر والشعبي وإسحاق.
لحديث أبي أَبِي أَيُّوب. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا تَسْتَقْبِلُوا اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) متفق عليه.
وهذا نهي عام.
لكن جاء ما يدل على الجواز في البنيان.
وهو حديث ابن عمر قال (ارتقيت على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة). متفق عليه
وعند أبي داود عن مروان الأصفر قال (رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى، إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس). رواه أبو داود
وجه الدلالة: أنه تفسير من الصحابي (ابن عمر) لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام، وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يحرم مطلقاً في الفضاء والبنيان، الاستقبال والاستدبار.
وهذا قول أبي أيوب الأنصاري، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وابن حزم ورجحه ابن تيمية وابن القيم والشوكاني.
أ-لحديث أبي أيوب السابق (لَا تَسْتَقْبِلُوا اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا).
ب-ولحديث سلمان السابق (لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ) رواه مسلم.
ج- ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) رواه أبو داود.
فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، والأصل في النهي التحريم، وهو عام في الفضاء والبنيان.
• وأجاب هؤلاء عن حديث ابن عمر (ارتقيت يوماً بيت حفصة
…
) بعدة أجوبة:
أ-أنه فعل، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم قول، والقول أقوى من الفعل.
ب-أن الفعل يحتمل الخصوصية أو غيرها.
ج-أن هذا الفعل لو كان شرعاً لما تستر به.
فائدة: ذهب بعض العلماء إلى الجواز مطلقاً.
قال النووي: وهذا مذهب عروة بن الزبير، وربيعة شيخ مالك، وداود الظاهري. واستدلوا:
أ- بحديث ابن عمر السابق قال (ارتقيت على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة).
ب- وبحديث جابر. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) رواه الترمذي.
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما ناسخان لأحاديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
• قوله (لَا تَسْتَقْبِلُوا اَلْقِبْلَةَ) أي: الكعبة.
• قوله (وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) قال النووي: قال العلماء: هذا خطاب لأهل المدينة ومن في معناهم، بحيث إذا شرق أو غرب لا يستقبل الكعبة ولا يستدبرها.
وقال البغوي: هذا خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال.
• قال ابن حجر: هناك مذاهب أخرى:
منها: جواز الاستدبار في البنيان فقط تمسكاً بظاهر حديث ابن عمر وهو قول أبي يوسف.
قلت [سليمان] ورجح هذا القول الشيخ محمد بن عثيمين كما في الممتع.
ومنها: التحريم مطلقاً حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس.
وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملاً بحديث معقل الأسدي (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط) رواه أبو داود وهو حديث ضعيف.
2 -
فإن قيل: كيف نظر ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة، ولا يجوز له ذلك؟
قال ابن حجر: لم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الآتية (فحانت منه التفاتة) كما في رواية للبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر، نعم لما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي، وقد دل ذلك على شدة حرص الصحابيّ على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعها، وكذلك كان رضي الله عنه.
وقال في العمدة: وقعت منه تلك الرؤية اتفاقاً من غير قصد لذلك، فنقَلَ ما رآه.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون ابن عمر قَصدَ ذلك، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله، فنقل ما شاهد.
(وبوله في طريقٍ، وظلٍ نافع).
أي: ويحرم على قاضي الحاجة أن يقضي حاجته في طريق أو في ظل نافع.
أ-لحديث أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ، قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الَّذِى يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِم) رواه مسلم.
قال النووي: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ (اِتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ) وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللَّاعِنَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْجَالِبَيْنِ لِلَّعْنِ الْحَامِلَيْنِ النَّاس عَلَيْهِ وَالدَّاعِيَيْنِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا شُتِمَ وَلُعِنَ، يَعْنِي عَادَة النَّاس لَعْنه، فَلَمَّا صَارَا سَبَبًا لِذَلِكَ أُضِيف اللَّعْن إِلَيْهِمَا. قَالَ: وَقَدْ يَكُون اللَّاعِن بِمَعْنَى الْمَلْعُون، وَالْمَلَاعِن مَوَاضِع اللَّعْن، قُلْت: فَعَلَى هَذَا يَكُون التَّقْدِير: اِتَّقُوا الْأَمْرَيْنِ الْمَلْعُون فَاعِلهمَا، وَهَذَا عَلَى رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ. وَأَمَّا رِوَايَة مُسْلِم فَمَعْنَاهَا - وَاَللَّه أَعْلَم - اِتَّقُوا فِعْل اللَّعَّانَيْنِ أَيْ: صَاحِبَيْ اللَّعْن،
وَهُمَا اللَّذَانِ يَلْعَنهُمَا النَّاس فِي الْعَادَة. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
ب-ولما في ذلك من إيذاء المسلمين، وإيذاء المسلمين حرام، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
• قوله (ظل نافع) فيه أن المراد بالظل الذي لا يجوز التخلي فيه هو الظل النافع.
فالمحرم هو التبول أو التغوط تحت الظل النافع الذي يستظل به الناس، لقوله (أو ظلهم).
وإضافة الظل في الحديث إليهم دليل على إرادة الظل المنتفع به، الذي هو محل جلوسهم، فلو بال أو تغوط في ظل لا يُجلس فيه فلا يقال بالتحريم.
وقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم عند حائش نخل وله ظل بلا شك، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ (كان أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ) رواه مسلم.
قال النووي (أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ) يعني حائط نخل أما الهدف فبفتح الهاء والدال وهو ما ارتفع من الأرض.
• قال النووي: قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِالظِّلِّ هُنَا مُسْتَظَلّ النَّاس الَّذِي اِتَّخَذُوهُ مَقِيلًا وَمُنَاخًا يَنْزِلُونَهُ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ كُلّ ظِلّ يَحْرُم الْقُعُود تَحْته، فَقَدْ قَعَدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَحْت حَايِش النَّخْل لِحَاجَتِهِ وَلَهُ ظِلّ بِلَا شَكّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
• قال العلماء: يدخل في ذلك كل ما يحتاج إليه الناس من الأفنية والحدائق والميادين العامة، وأماكن الاستراحة التي قد توجد على بعض الطريق.
لأن في ذلك إيذاء للمسلمين، وإيذاء المسلمين حرام.
•
بعض الأماكن الأخرى التي يحرم قضاء الحاجة فيها:
أ-المساجد.
لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ.) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب-الجُحر.
لحديث عبد الله بن سرجس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر). رواه أبو داود
ج-على جواد الطريق.
قال ابن حجر: وفي ابن ماجه عن جابر بإسناد حسن مرفوعاً (إياكم والتعريس على جواد الطريق فإنها منازل الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن).
والقاعدة: كل مجتمعات الناس لأمر ديني أو دنيوي لا يجوز للإنسان أن يتبول فيها أو يتغوط.
(ويستجمرُ ثمَّ يستنجي، ويجزئ أحدُهما).
الاستجمار: يكون بحجر وما ينوب منابه، والاستنجاء يكون بالماء.
أي: أنه إذا انتهى من قضاء حاجته، فإنه يستحب له أن يستجمر بالحجارة أولاً ثم يستنجي بالماء، (فالسنة أن يجمع بين الاستجمار والاستنجاء) وذلك لأنه أكمل في التطهر، فالأحجار تزيل عين النجاسة، والماء يزيل ما بقي من النجاسة.
والإنسان إذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يقتصر على الماء.
وهذا جائز.
أ-لحديث أنس قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ اَلْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْه
ب-ولحديث عائشة أنها قالت لنسوة (مرن أزواجكنّ أن يستنجوا بالماء فإني أستحييهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) رواه أبو داود
• قول أنس (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ اَلْخَلَاءَ) المراد بالخلاء هنا الفضاء، ويدل لذلك:
أ-قوله في الرواية الأخرى (كان إذا خرج لحاجته).
ب-وقرينة حمل العنزة مع الماء.
ج-وأيضاً في الأخلية في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله.
الثانية: أن يقتصر على الحجارة فقط.
وهذا جائز.
وقد نقل ابن القيم رحمه الله: إجماع المسلمين على جواز الاستجمار بالأحجار في زمن الشتاء والصيف.
ومن أدلة الجواز:
أ-حديث سلمان (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) رواه مسلم.
ب-وحديث ابن مسعود قال (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ) رواه البخاري.
ج- وحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم،
…
وكان يأمر بثلاثة أحجار). رواه أحمد.
قال ابن قدامة رحمه الله: وإن أراد الاقتصار على أحدهما، فالماء أفضل; لما روينا من الحديث; ولأنه يطهر المحل، ويزيل العين والأثر، وهو أبلغ في التنظيف، وإن اقتصر على الحجر أجزأه، بغير خلاف بين أهل العلم; لما ذكرنا من الأخبار; ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم. (المغني).
الثالثة: أن يجمع بين الحجارة والماء.
وهذا أفضل عند أكثر العلماء.
قال النووي: اَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِير مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف وَأَجْمَع عَلَيْهِ أَهْل الْفَتْوَى مِنْ أَئِمَّة الْأَمْصَار: أَنَّ الْأَفْضَل أَنْ يَجْمَع بَيْن الْمَاء وَالْحَجَر فَيَسْتَعْمِل الْحَجَر أَوَّلًا لِتَخِفّ النَّجَاسَة وَتَقِلّ مُبَاشَرَتهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ يَسْتَعْمِل الْمَاء.
وقال العيني: مذهب جمهور السلف والخلف الذي أجمع عليه أهل الفتوى من أهل الأمصار، أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيقدِّم الحجر أولاً ثم يستعمل الماء، فتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في النظافة.
والخلاصة: أن الجمع بين الحجر ثم الماء أفضل:
أولاً: لأنه أبلغ في النظافة.
ثانياً: ولأنه إذا استعمل الحجر أولاً خفف النجاسة وقلَّت مباشرتها باليد.
• وقد ورد في ذلك حديث لكنه لا يصح.
•
اختلف العلماء: أيهما أفضل الاستنجاء بالماء أم الاستجمار بالأحجار على قولين:
القول الأول: الاستنجاء بالماء أفضل.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
قال ابن قدامة: وإن أراد الاقتصار على أحدهما، فالماء أفضل; لما روينا من الحديث; ولأنه يطهر المحل، ويزيل العين والأثر، وهو أبلغ في التنظيف، وإن اقتصر على الحجر أجزأه، بغير خلاف بين أهل العلم; لما ذكرنا من الأخبار; ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم. (المغني).
وقال النووي: فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَى أَحَدهمَا جَازَ الِاقْتِصَار عَلَى أَيّهمَا شَاءَ سَوَاء وَجَدَ الْآخَر أَوْ لَمْ يَجِدْهُ، فَيَجُوز الِاقْتِصَار عَلَى الْحَجَر مَعَ وُجُود الْمَاء، وَيَجُوز عَكْسه، فَإِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى أَحَدهمَا فَالْمَاء أَفْضَل مِنْ الْحَجَر لِأَنَّ الْمَاء يُطَهِّر الْمَحَلّ طَهَارَة حَقِيقَة.
أ- قالوا: إن الماء قالع للنجاسة، والحجر مخفف لها، وما كان قالعاً للنجاسة فهو أفضل.
ب- ولحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (نزلت هذه الآية في أهل قباء (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية).
القول الثاني: الاستجمار بالحجر أفضل.
وهو قول بعض السلف.
قال في المغني: وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء.
أ-قالوا: إن الماء مطعوم فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له.
ب-أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء.
ج-أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء.
والراجح القول الأول.
فائدة:
قال النووي: قال أصحابنا يستحب أن يهيئ أحجار الاستنجاء قبل جلوسه لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار) حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدار قطني وغيرهم قال الدارقطني إسناده حسن صحيح فهذا هو المعتمد، وأما ما احتج به جماعة من أصحابنا من حديث (اتقوا الملاعن وأعدوا النبل) فليس بثابت فلا يحتج به والنبل بضم النون وفتح الباء الموحدة الأحجار الصغار. (المجموع).
(وإنما يجزئ الاستجمار إذا لم تتعد النجاسة موضع الحاجة).
أي: أنه لا يجزئ الاستجمار إذا تجاوز الخارج من السبيلين موضع الحاجة، فلابد حينئذ من الاستنجاء بالماء.
وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، واختاره ابن المنذر.
أ- لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله لتكرر النجاسة فيه، فما لا تتكرر النجاسة فيه لا يُجزئ فيه إلا الغسل كساقه وفخذه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجزئ الاستجمار ولو تعدى الخارج موضع العادة.
وبهذا قال الشافعية - على تفصيل عندهم - واختاره ابن تيمية.
لحديث عائشة قالت. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أنه نص في إجزاء الاستجمار بالحجارة ولم يقيّد ذلك بشيء، فلم يقل إلا إذا تعدى الخارج موضع العادة، ولو كان ذلك واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
والأول أرجح.
(ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوها).
أي: أن الاستجمار بالأحجار يشترط له شروطاً.
وقوله (ونحوها) كالتراب، والخرق، والورق.
فيقوم غير الحجر مقامه.
أ- ففي حديث سلمان - وقد تقدم - وفيه (لَقَدْ نَهَانَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْم) رواه مسلم.
وجه الدلالة: تخصيص هذين النوعين بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها.
قال النووي: ويدل على عدم تعيين الحجر: نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظم والبعر والرجيع، ولو كان متعيناً لنهى عما سواه مطلقاً.
ب-ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى، والمعنى هاهنا إزالة عين النجاسة، وهذا يحصل بغير
الأحجار كحصوله بها.
(أن يكونَ طاهراً).
أي: يشترط في الحجر أن يكون طاهراً لا نجساً ولا متنجساً.
أ-لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (أَتَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اَلْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالِثًا. فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ. فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى اَلرَّوْثَةَ، وَقَالَ: "هَذَا رِكْسٌ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
والركس: النجس.
ب-ولأن النجاسة لا تزال بمثلها.
ج-ولأن النجس خبيث، فكيف يكون مطهراً.
(منقياً).
أي: يحصل به الإنقاء، فإن كان غير منق لم يجزئ.
لأن هذا هو المقصود من الاستجمار، فإن كانت غير منقية لم يجزئ، كالحجر الأملس، أو الرطب ونحو ذلك.
أ-لأنه لا يحصل فيه المقصود.
ب-عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قدم وفد الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد: إنْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه أبو داود.
قال البغوي: قيل: المراد بالحممة: الفحم الرخو الذي يتناثر إذا غمز فلا يقلع النجاسة.
(غيرَ عظمٍ وروث).
أي: يشترط في الاستجمار بالأحجار أن لا يكون عظماً ولا روثاً، فلا يجوز الاستجمار بعظم أو روث.
أ-لحديث سلمان - وقد تقدم - (لَقَدْ نَهَانَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْم) رواه مسلم.
الرجيع: الروث والعذرة.
ب- وعن جَابِر. قال (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعْر) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، أَوْ نَحْوَهُ، وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ، وَلَا رَوْث) رواه البخاري.
د-وعن رويفع بن ثابت قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي،
…
فأخبر الناس أن من استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء). رواه أبو داود
•
الحكمة من النهي عنها؟
أما العظم فإنه طعام الجن.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإنها طعام إخوانكم من الجن).
وأما الروث:
فإن كانت روث غير مأكول اللحم فلنجاسته.
ففي حديث ابن مسعود السابق: (
…
فألقى الروثة وقال: إنها ركس). ركس: أي نجس.
وإن كانت روث مأكول اللحم فلأنه طعام دواب الجن.
ففي صحيح مسلم لما ذكر مجيء الجن له، وأنهم سألوه الزاد، فقال لهم (لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعَرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُم).
(وطعام).
أي: فلا يجوز الاستجمار بطعام بني آدم.
أ-لأنه كفر بالنعمة.
ب- وإذا كان طعام الجن محترم فطعام بني آدم أولى.
(ومحترم).
ككتب فيها ذكر الله، وكتب حديث وفقه ونحوها، لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها.
(ويشترط أن يكون بثلاثة أحجار).
أي: يشترط للاستجمار أن يكون بثلاثة أحجار، فلا يجوز أن يكون بأقل من ذلك، فلو مسح مرة أو مرتين فزالت عين النجاسة، وجب مسحة ثالثة.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
أ-لحديث سلمان - وقد تقدم - وفيه قال (لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) رواه مسلم.
وجه الدلالة: قوله (نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) والأصل في النهي التحريم ولا صارف له.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: (وكان يأمر بثلاثة أحجار) والأصل في الأمر الوجوب، ولا صارف له عنه.
ب-ولحديث ابن مسعود قال (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ) رواه البخاري.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الواجب الإنقاء، فإن أنقى بحجر أجزأ.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
واستدلوا بحديث ابن مسعود السابق وفيه (فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً فأتيته بروثة، فأخذهما وألقى الروثة
…
).
قال الطحاوي: هو دليل على أن عدد الأحجار ليس شرط، لقوله (ناولني) فلما ألقى الروثة دلّ على أن الاستنجاء بالحجرين يجزئ، إذ لو لم يكن ذلك لقال: أبغي ثالثاً.
والراجح القول الأول، وأنه لا بد من ثلاثة أحجار.
وأما الرد على دليل القول الثاني:
أنه جاء في رواية عند الإمام أحمد (ائتني بغيرها).
• اختلف العلماء: هل يجزئ حجر واحد له ثلاث شعب أم لا على قولين:
القول الأول: أنه لا يجزئ، وأنه لا بد من ثلاثة أحجار.
لظاهر النص.
القول الثاني: أنه يجزئ حجر له شعب ثلاث.
قالوا: لأنه يحصل بالشعب الثلاث ما يحصل بالأحجار الثلاثة من كل وجه فلا فرق.
ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقال: وهذا هو الراجح في ذلك، لأن العلة معلومة، فإذا كان الحجر ذا شعب، واستجمر بكل جهة منه صح.
• قال بعض العلماء: يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار إذا أراد أن يتبعه بالماء.
قالوا: لأن الماء وحده كافٍ كما سبق في حديث أنس.
لكن الصحيح أنه لا يجوز، والأخذ بظاهر الحديث أقوى؛ وهو أنه لا ينقص عن ثلاثة أحجار حتى لو أراد أن يتبع ذلك بالماء.
(ويسن قطعهُ على وترٍ).
أي: ويسن قطع الاستجمار على وتر، فإذا أنقى بأربع زاد خامسة، وإذا أنقى بستٍ زاد سابعة وهكذا.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (َمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ) متفق عليه.
قوله (وَمَنِ اسْتَجْمَرَ) أي: استعمل الجمار، وهي الحجارة الصغيرة في الاستنجاء.
وقوله (فَلْيُوتِرْ) أي: فليجعل الحجارة التي يستنجي بها وتراً ثلاثاً لا أقل، لما ورد من النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاث كما تقدم.
فالحديث دليل على استحباب الوتر في الاستجمار.
وهذا فيما فوق الثلاث، وأما دون الثلاث فيجب الإيتار جمعاً بين الأدلة.
وقد تقدمت الأحاديث التي تدل على وجوب الثلاث، وتحريم أقل من الثلاث.
باب السواك
السواك: اسم للعود الذي يتسوك فيه.
وفي الاصطلاح: استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه.
ويطلق السواك على الفعل وهو الاستياك.
(وهو مسنون كل وقت).
أي: أن السواك سنة في كل وقت من ليل ونهار.
للأحاديث الكثيرة الواردة في الحث عليه وفضله.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) متفق عليه.
ب- وعنه رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ) أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وأَحْمَدُ.
قال الخطابي: فيه من الفقه أن السواك غير واجب، وذلك أن (لولا) كلمة تمنع الشيء لوقوع غيره، فصار الوجوب بها ممنوعاً.
وقال النووي: إنَّ السِّوَاك سُنَّة، لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي غَيْرهَا بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ فِي الْإِجْمَاع.
وقال: قوله (لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَوْ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ
…
) فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ السِّوَاك لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ أَوَ لَمْ يَشُق. (شرح مسلم).
(لغير صائم بعد الزوال).
أي: فلا يسن للصائم بعد زوال الشمس أن يتسوك، وهذا يعم صيام الفرض والنفل.
فيكره للصائم أن يتسوك بعد الزوال.
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في المشهور، وإسحاق.
أ-لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). متفق عليه
وجه الدلالة: أن السواك يزيل هذه الرائحة التي نشأت عن عبادة الله، والخلوف لا يكون إلا بعد الزوال غالباً.
ب-ولحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي). رواه البيهقي والدارقطني، وضعفه الدارقطني والبيهقي، وقال الحافظ: إسناده ضعيف.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكره، وأنه مسنون في كل وقت.
وبه قال أبو حنيفة، ومالك، واختار هذا القول ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (مع كل وضوء) وأيضاً في حديث (مع كل صلاة) فهذه الأحاديث لم تقيّد ذلك بوقت معين لا للصائم ولا لغيره.
ب-ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه أحمد.
قال الشوكاني: وقد أطلق السواك ولم يخصه بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فأشعر بمطلق شرعيته.
ج-وعن ربيعة بن عامر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا أحصي يتسوك وهو صائم) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا القول هو الراجح وقد رجحه من الشافعية ابن عبد السلام، والنووي، والمزني.
وأما الجواب عن أدلة القول الأول (أنه مكروه):
أما حديث (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة) فحديث ضعيف.
وأما حديث (لخلوف فم الصائم
…
) فلا يسلم الاستدلال به:
أولاً: لأن خلوف فم الصائم ليس سببه الأسنان بل خلو المعدة من الطعام.
ثانياً: أننا لسنا بمتعبدين بهذه الرائحة، فلا يترك السواك لأجل إبقاء رائحة الفم.
(ويتأكد عند صلاة).
أي: أن السواك يتأكد أكثر عند الصلاة.
لحديث أبي هريرة السابق (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أمتي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ).
• وهذا يشمل صلاة الفرض والنفل.
• قوله صلى الله عليه وسلم (عند كُلِّ صلاة) أي قُربها، وكُلَّما قَرُبَ منها فهو أفضل، وأما قول بعضهم (عند الصَّلاة) إِن المراد به الوُضُوء، فغير صحيح؛ لأن الوُضُوء قد يتقدَّمُ على الصَّلاة كثيراً، ثم إِنَّ للوُضُوء استياكاً خاصًّا، وليس من شروط التَّسوُّك عند الصَّلاة أن يكون الفمُ وسخاً. (الشرح الممتع).
(ووضوء).
أي: ومن المواضع التي يتأكد فيها السواك أيضاً عند الوضوء.
لحديث أبي هريرة السابق (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ) رواه أحمد.
• واختلف العلماء في تحديد مكان السواك عند الوضوء:
القول الأول: قبل الوضوء، فيستاك ثم يتوضأ.
لرواية (عند كل وضوء).
القول الثاني: في أثناء الوضوء، وذلك عند المضمضة.
لرواية (مع كل وضوء)، فإن (مع) تفيد المصاحبة.
والراجح الأول لأمرين:
أولاً: لأنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تسوك أثناء الوضوء.
ثانياً: جاء في حديث ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة ووصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل وفيه (فاستيقظ وتسوك وتوضأ
…
). (منحة العلام).
(ودخول منزل).
أي: ويتأكد السواك أيضاً عند دخول المنزل.
لحديث عائشة. قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك) رواه مسلم.
(في تسوكه صلى الله عليه وسلم عند دخول المنزل أدب يتمثل في حسن معاشرته الأهل فيبدأ بالسواك أول ما يدخل بيته).
(وعند انتباه من نوم).
أي: ويتأكد السواك أيضاً عند الانتباه من النوم.
لحديث حُذَيْفَة بْن الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ) متفق عليه.
• قوله (إذا قام من الليل) يعني لصلاة التهجد، وتدل عليه رواية لمسلم (إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك). (يَشُوصُ) أي: يدلك ورجحه النووي.
• الحديث دليل على مشروعية السواك عند القيام من الليل.
قال ابن دقيق العيد: وعلته، أن النوم مقتض لتغير الفم، والسواك هو آلة التنظيف للفم، فيسن عند مقتضي التغير.
• ظاهر قوله (من الليل) عام في كل حاله، ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة، لرواية (إذا قام للتهجد)، وحديث ابن عباس يشهد له.
(وتغيُّر فم).
أي: ويتأكد أيضاً عند تغير رائحة الفم.
لحديث أبي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) رواه أحمد.
• وتغير الفم يكون بأشياء منها: ترك الأكل والشرب، ومنها: أكل ماله رائحة كريهة، ومنها: طول السكوت، ومنها: كثرة الكلام.
(لا بإصبع أو خرقة).
أي: لا يشرع التسوك بإصبع أو خرقة.
أ- لأن الشرع لم يرد به، ولا يحصل به الإنقاء كالعود.
ب- أن الأصبع لا تسمى سواكاً، ولا هي في معناه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصيب السنة.
وقد جاء حديث (يجزئ من السواك الأصبع) وهو حديث ضعيف.
وذهب بعضهم: إلى أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، واختاره ابن قدامة.
قال ابن قدامة: يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها. [قاله في المغني].
وهذا القول هو الراجح.
•
هل يستاك باليد اليسرى أم باليد اليمنى؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: باليمنى.
واختيار ابن قدامة وغيره من الحنابلة، وبعض الشافعية كابن الملقن.
لأنَّه سنَّة، والسَّنَّة طاعة لله عز وجل فلا تكون باليسرى.
ففي حديث عائشة (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كلِّه) متفق عليه.
وزاد أبو داود (وسواكه).
القول الثاني: أنه يستاك باليسرى.
وهذا مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وقال به شيخ الإسلام والعلامة ابن باز، لكن يرون أن يبدأ بالجهة اليمنى من الفم.
لأنه من باب إزالة الأذى.
وقد سُئِلَ شيخ الاسلام رحمه الله عن السواك: هل هو باليد اليسرى أولي من اليد اليمني أو بالعكس؟ وهل يسوغ الإنكار على من يستاك باليسرى؟ وأيهما أفضل؟
الحمد لله رب العالمين، الأفضل أن يستاك باليسرى، نص عليه الإمام أحمد في رواية ابن منصور الكَوْسَج، ذكره عنه في مسائله وما علمنا
أحدًا من الأئمة خالف في ذلك؛ وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط؛ ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى.
القول الثالث: إن تسوك لتطهير الفم فيكون باليسار، وإن تسوك لتحصيل السنة تسوك باليمنى.
وهذا قول بعض المالكية. والله أعلم.
سنن الفطرة
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ) متفق عليه.
وعنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ». قَالَ زَكَرِيَّا قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. زَادَ قُتَيْبَةُ قَالَ وَكِيعٌ انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِى الاِسْتِنْجَاء) رواه مسلم.
•
تعريف الْفِطْرَةُ:
قيل المراد بها: السنة، ونسبه الخطابي للجمهور. وقيل: هي الدين.
قال النووي: تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب، ففي حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من السنة: قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر).
•
سميت هذه فطرة.
قال القرطبي: وهذه الخصال مجتمعة في أنها محافظة على حُسن الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخِلقة التي خُلقَ الإنسان عليها، وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها يشوه الإنسان ويقبحه، بحيث يُستقذر ويُجتنب، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى.
(يسن تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة).
أي: من سنن الفطرة هذه الأشياء:
أولاً: تقليم الأظافر.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ) متفق عليه.
وتقليم الأظفار: أي تقطيع ما طال منها.
•
وحكمه سنة.
قال النووي: مجمع على أنه سنة، وسواء في الرجل والمرأة واليدان والرجلان.
قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَتَفَاحَشُ إذَا تَرَكَهَا، وَرُبَّمَا حَكَّ بِهِ الْوَسَخَ، فَيَجْتَمِعُ تَحْتَهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُنْتِنَةِ، فَتَصِيرُ رَائِحَةُ ذَلِكَ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ، وَرُبَّمَا مَنَعَ وُصُولَ الطَّهَارَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ. (المغني).
قال ابن حجر: لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث.
وقال رحمه الله أيضاً: لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث لكن جزم النووي في شرح مسلم بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإبهام، وفي اليسرى البداءة بخنصرها إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مُستَنَداً
• الحكمة في ذلك: النظافة لما يكون تحتها من الأوساخ، والترفع عن التشبه بمن يفعل ذلك من الكفار، وعن التشبه بذوات المخالب والأظفار من الحيوانات.
• قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم أن دفن الشعر والأظافر أحسن وأولى، وقد أُثِرَ ذلك عن بعض
الصحابة كابن عمر، وأما كون بقائه في العراء أو إلقائه في مكان ما يوجب إثماً فلا.
- اختار ابن قدامة أنه يعفى عن الوسخ تحت الظفر الذي يمنع وصول الماء، وأنه لا تجب إزالته.
فقال: لِأَنَّ هَذَا يَسْتُرُ عَادَةً، فَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ
ثانياً: نتف الإبط.
حكم نتفه: سنة.
قال النووي: سنة بالاتفاق.
• الأفضل فيه النتف لمن قوي عليه، ويحصل أيضاً بالحلق.
قال ابن قدامة: وَنَتْفُ الْإِبْطِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ، وَإِنْ أَزَالَ الشَّعْرَ بِالْحَلْقِ أَوْ النُّورَةِ جَازَ، وَنَتْفُهُ أَفْضَلُ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَر.
• قال الحافظ العراقي: الحكمة في اختصاص الإبط بالنتف والعانة بالحلق على وجه الأفضلية، أن الإبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر، فتخف الرائحة الكريهة، والحلق يكثف الشعر فتكثر فيه الرائحة الكريهة.
• قال الحافظ ابن حجر: يفترق الحكم في نتف الإبط، وحلق العانة، بأن نتف الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر، كالزوج والزوجة.
• قال الشوكاني: يستحب الابتداء بالإبط الأيمن لحديث (كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره) وكذلك يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالجانب الأيمن لهذا الحديث.
ثالثاً: الاستحداد.
• تعريفه: هو حلق العانة [الشعر الذي حول ذكر الرجل وفرج المرأة]، سمي استحداداً لاستعمال الحديدة.
قال النووي: سُمِّيَ اِسْتِحْدَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدَة وَهِيَ الْمُوسَى، وَهُوَ سُنَّة، وَالْمُرَاد بِهِ نَظَافَة ذَلِكَ الْمَوْضِع، وَالْأَفْضَل فِيهِ الْحَلْق، وَيَجُوز بِالْقَصِّ وَالنَّتْف وَالنُّورَة، وَالْمُرَاد (بِالْعَانَةِ) الشَّعْر الَّذِي فَوْق ذَكَرِ الرَّجُل وَحَوَالَيْهِ، وَكَذَاك الشَّعْر الَّذِي حَوَالَيْ فَرْج الْمَرْأَة.
• حكمه: يسن حلقه.
قال ابن قدامة: وَالِاسْتِحْدَادُ: حَلْقُ الْعَانَةِ.
وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَيَفْحُشُ بِتَرْكِهِ، فَاسْتُحِبَّتْ إزَالَتُهُ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ صَاحِبُهُ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَتُهُ.
• نقل النووي في وجوب الاستحداد على المرأة إذا طلب منها زوجها الاستحداد قولين في المذهب وقال: أصحهما الوجوب، وهذا إذا لم يفحش بحيث ينفر التواق، فإن فحش بحيث نفره وجب قطعاً.
رابعاً: قص الشارب.
• السنة هو القص، كما في حديث الباب، وفي حديث: (جزوا الشوارب
…
).
• أن حلقه ليس من السنة، وكان الإمام مالك يرى تأديب من حلقه.
وجاء التحذير من عدم الأخذ منه: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منّا). رواه الترمذي.
• قال ابن دقيق: والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان:
أحدهما: مخالفة زي الأعاجم وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح حيث قال (خالفوا المجوس).
والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام.
فوائد:
o حدد النبي صلى الله عليه وسلم أقصى مدة لهذه الأشياء، هي [40] يوماً.
عن أَنَس قال (وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ وَنَتْفِ الإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَة). رواه مسلم
قال النووي: وَأَمَّا وَقْت حَلْقِهِ فَالْمُخْتَارِ أَنَّهُ يُضْبَط بِالْحَاجَةِ وَطُوله، فَإِذَا طَالَ حُلِقَ، وَكَذَلِكَ الضَّبْط فِي قَصّ الشَّارِب وَنَتْف الْإِبْط وَتَقْلِيم الْأَظْفَار. وَأَمَّا حَدِيث أَنَس (وَقَّتَ لَنَا فِي قَصَّ الشَّارِب وَتَقْلِيم الْأَظْفَار وَنَتْف الْإِبْط وَحَلْق الْعَانَة لَا يُتْرَك أَكْثَر مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَة) فَمَعْنَاهُ لَا يُتْرَك تَرْكًا يَتَجَاوَز بِهِ أَرْبَعِينَ لَا أَنَّهُمْ وَقَّتَ لَهُمْ التَّرْك أَرْبَعِينَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
o هذه هي أقصى المدة وغايتها، لكن لو طالت الأظافر أو كثر الشعر في الإبط والشارب قبل الأربعين فإنه يقص.
o قال الحافظ ابن حجر: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة فإن المبالغة في التنظيف فيه مشروع.
o قوله (خمس من الفطرة) ليس المراد الحصر، فقد ثبت بأحاديث أخرى زيادة على ذلك كما في حديث (عشر من الفطرة. . .) وغيرها، فدل على أن الحصر غير مراد.
(ويجب الختان على الرجال).
أي: أن الختان واجب على الرجال دون النساء.
وهذا اختيار ابن قدامة، وجماعة من العلماء، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
ويدل لوجوبه على الرجال:
أ-قوله تعالى (أن اتبع ملة إبراهيم) وإبراهيم اختتن وهو ابن ثمانين سنة.
ب-وقال صلى الله عليه وسلم لرجل أسلم: (ألقِ عنك شعر الكفر واختتن). رواه أبو داود
ج-حديث أبي هريرة السابق (خمس من الفطرة
…
وذكر منها: الختان).
د-أن ستر العورة واجب، فلولا أن الختان واجب لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته من أجله.
هـ- ولأنه شعار المسلمين، فكان واجباً كسائر شعارهم.
وهذا القول هو الراجح.
قال السعدي: لا يجب على الأنثى لعدم الأمر به في حقها، ولعدم المعنى الموجود في ختان الذكر، لأنه يتوصل إلى الطهارة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه سنة في حق الرجال والنساء.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الختان سنة للرجال والنساء.
وهو قول الحنفية والمالكية.
قال ابن حجر: وهو قول أكثر أهل العلم.
وذهب بعضهم: إلى وجوبه على الرجال والنساء.
•
تعريف الختان:
بالنسبة للذكر قطع الجلدة التي فوق الحشفة، وللأنثى قطع لحمة زائدة فوق محل الإيلاج. قال الفقهاء أنها تشبه عرف الديك.
•
أول من اختتن إبراهيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول من اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم). متفق عليه
(القدوم: بالتشديد هو اسم مكان بالشام، وبالتخفيف آلة النجار).
قال ابن حجر: وَالرَّاجِح أَنَّ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث الآلَة، فَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن رَبَاح قَالَ: "أُمِرَ إِبْرَاهِيم بِالْخِتَانِ، فَاخْتَتَنَ بِقَدُّوم فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ أَنْ عَجِلْت قَبْل أَنْ نَأْمُرك بِآلَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَبّ كَرِهْت أَنْ أُؤَخِّر أَمْرك.
• الختان زمن الصغر أفضل إلى التمييز، لأنه أسرع برءاً لينشأ على أكمل الأحوال.
•
يجب الختان عند البلوغ.
فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يختتن أحد بعد الموت.
• قال ابن القيم: والختان كان من الخصال التي ابتلى الله سبحانه بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن فجعله إماماً للناس، وقد روي أنه أول من اختتن كما تقدم، والذي في الصحيح اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة، واستمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح فإنه اختتن والنصارى تقر بذلك ولا تجحده كما تقر بأنه حرَّم لحم الخنزير.
•
الحكمة من مشروعية الختان
أما للرجل فلأنه لا يتمكن من الطهارة من البول إلا بالختان، لأن قطرات من البول تتجمع تحت الجلدة فلا يُؤمن أن تسيل فتنجس ثيابه وبدنه. ولذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يشدد في شأن الختان. قال الإمام أحمد: وكان ابن عباس يشدد في أمره، ورُوي عنه أنه لا حج له ولا صلاة. يعني: إذا لم يختتن. (المغني).
وأما حكمة الختان بالنسبة للمرأة فتعديل شهوتها حتى تكون وسطاً.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المرأة: هل تختتن أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، نعم، تختتن، وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك، قال رسول الله للخافضة وهي الخاتنة:(أشمي ولا تنهكي، فإنه أبهى للوجه، وأحظى لها عند الزوج) يعني: لا تبالغي في القطع، وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القُلْفَة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها فإنها إذا كانت قلفاء [يعني: غير مختتنة] كانت مغتلمة شديدة الشهوة. ولهذا يقال في المشاتمة: يا بن القلفاء فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر. ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين. وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال. (مجموع الفتاوى).
• ويجوز دفع المال للختَّان.
قال ابن قدامة: ويجوز الاستئجار على الختان، والمداواة، لا نعلم فيه خلافا؛ ولأنه فعل يحتاج إليه، مأذون فيه شرعا، فجاز الاستئجار عليه، كسائر الأفعال المباحة.
(ويكره القزع).
القزع: حلق بعض الرأس وترك بعضه.
والدليل على كراهته.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ الْقَزَعِ) قيل لنافع: ما القزع؟: قال: (أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه) متفق عليه.
وعنه. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ شَعَرِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: احْلِقُوا كُلَّهُ أَوْ اتْرُكُوا كُلَّه) رواه أحمد.
والنهي في هذه الأحاديث الواردة عن القزع، محمول على الكراهة لا التحريم.
قال النووي رحمه الله: " وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْقَزَع إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة، إِلَّا أَنْ يَكُون لِمُدَاوَاةٍ وَنَحْوهَا، وَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه. (شرح مسلم).
وقال في المجموع: يُكْرَهُ الْقَزَعُ، وَهُوَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ:(نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْقَزَعِ).
…
(المجموع).
• قال ابن القيم رحمه الله: وأما كحلق بعضه وترك بعضه فهو مراتب:
أشدها: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعل شمامسة النصارى.
ويليه: أن يحلق جوانبه ويدع وسطه كما يفعل كثير من السفلة وأسقاط الناس.
ويليه: أن يحلق مقدم رأسه ويترك مؤخره.
وهذه الصور الثلاث داخلة في القزع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها أقبح من بعض. (أحكام أهل الذمة).
• وقال رحمه الله: والقزع أَن يحلق بعض رَأس الصَّبِي ويدع بعضه. قَالَ شَيخنَا-يعني ابن تيمية-: وَهَذَا من كَمَال محبَّة الله وَرَسُوله للعدل، فَإِنَّهُ أَمر بِهِ، حَتَّى فِي شَأْن الانسان مَعَ نَفسه، فَنَهَاهُ أَن يحلق بعض رَأسه وَيتْرك بعضه، لِأَنَّهُ ظلم للرأس حَيْثُ ترك بعضه كاسيا، وَبَعضه عَارِيا، وَنَظِير هَذَا أَنه نهى عَن الْجُلُوس بَين الشَّمْس والظل، فَإِنَّهُ ظلم لبَعض بدنه، وَنَظِيره نهى أَن يمشي الرجل فِي نعل وَاحِدَة، بل إِمَّا أَن ينعلهما أَو يحفيهما.
والقزع أَرْبَعَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: أَن يحلق من رَأسه مَوَاضِع من هَا هُنَا وَهَا هُنَا، مَأْخُوذ من تقزع السَّحَاب، وَهُوَ تقطعه.
الثَّانِي: أَن يحلق وَسطه وَيتْرك جوانبه، كَمَا يَفْعَله شمامسة النَّصَارَى.
الثَّالِث: أَن يحلق جوانبه وَيتْرك وَسطه، كَمَا يَفْعَله كثير من الأوباش والسفل.
الرَّابِع: أَن يحلق مقدمه وَيتْرك مؤخره، وَهَذَا كُله من القزع.
…
(تحفة المودود).
(ويحرم حلق اللحية).
وقد جاءت الأدلة بتحريم ذلك:
أ- عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ، أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَه) رواه البخاري.
ب- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوس) رواه مسلم.
ج- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى) رواه مسلم.
وفي لفظ (أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى) رواه مسلم.
د- وعن أبي أمامة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (قصوا سِبالَكم، ووفروا عثانينَكم، وخالفوا أهل الكتاب) رواه أحمد.
(عثانينكم) جمع عثنون وهي اللحية، (سبالكم) جمع سبلة - بالتحريك - الشارب.
(وفروا) هو بتشديد الفاء من التوفير، وهو الإبقاء، أي: اتركوها وافرة.
(أوفوا) أي: اتركوها وافية كاملة لا تقصوها.
(أرخوا) أي: اتركوها ولا تتعرضوا لها بتغيير من قولك: أرخيت الشيء إذا أرسلته.
قال ابن حزم: اتفقوا على أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز
قال النووي: وَجَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ (وَفِّرُوا اللِّحَى) فَحَصَلَ خَمْس رِوَايَات: أَعْفُوا، وَأَوْفُوا، وَأَرْخُوا، وَأَرْجُوا، وَوَفِّرُوا، وَمَعْنَاهَا كُلّهَا: تَرْكُهَا عَلَى حَالهَا، هَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث الَّذِي تَقْتَضِيه أَلْفَاظه، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهذه الأحاديث تدل على وجوب ترك اللحية على ما هي عليه وافية موفرة عافية مستوفية، وأن في ذلك فائدتين عظيمتين.:
إحداهما: مخالفة المشركين حيث كانوا يقصونها أو يحلقونها، ومخالفة المشركين فيما هو من خصائصهم أمر واجب، ليظهر التباين بين المؤمنين والكافرين في الظاهر كما هو حاصل في الباطن.
الفائدة الثانية: أن في إعفاء اللحية موافقة للفطرة التي فطر الله الخلق على حسنها وقبح مخالفتها، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. وبهذا علم أنه ليست العلة من إعفاء اللحية مخالفة المشركين فقط بل هناك علة أخرى وهي موافقة الفطرة.
فائدة:
وأما حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته عرضها وطولها) رواه الترمذي، فهو حديث لا يصح.
• ذهب بعض العلماء: إلى الأخذ من اللحية ما زاد على القبضة.
لفعل ابن عمر:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ، أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَه) رواه البخاري.
وقيل: لا يجوز.
لعموم الأحاديث المانعة.
وأما فعل ابن عمر: فروي عنه النهي عن التقصير، وإذا تعارض رأي الصحابي وروايته، فروايته مقدمة على رأيه.
قال الشيخ ابن باز: من احتج بفعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ من لحيته في الحج ما زاد على القبضة. فهذا لا حجة فيه، لأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والحجة في روايته لا في اجتهاده. وقد صرح العلماء رحمهم الله: أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحجة، وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في رسالته (تحريم حلق اللحى) ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر، وأكثر العلماء يكرهه، وهذا أظهر لما تقدم، وقال النووي: والمختار تركها على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً
…
وقال في الدر المختار: وأما الأخذ منها وهي دون القبضة فلم يبحه أحد.
(ويسن النظر في المرآة وقول الدعاء الوارد).
لورود حديث في ذلك (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَظَرَ وَجْهَهُ فِي الْمِرْآةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقي) وهذا الحديث له طرق كلها ضعيفة لا تصح.
ولكن، صح هذا الدعاء عنه صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون تقييد بالنظر في المرآة:
فروى أحمد، وأبو يعلى عَنِ عائشة قالت (كَانَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَأَحْسِنْ خُلُقِي).
سنن الوضوء
السنة لغة: الطريقة.
واصطلاحاً: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام.
وحكمه: يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
الوضوء: بالضم الفعل، وبفتحها الماء المتوضأ به، وإن أريد الفعل ضم الحرف الأول.
والوضوء لغة: النظافة والإنارة.
سمي بذلك: لأنه ينظف المتوضئ ويحسنه.
ففي الدنيا بإزالة الأوساخ والأقذار.
وفي الآخرة بالنور الذي يحصل منه، كما قال صلى الله عليه وسلم:(تدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).
واصطلاحاً: التعبد لله تعالى بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
(والوضوء فضله عظيم).
أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ اَلْوُضُوءِ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
أي: أنهم يدعون يوم القيامة من بين الأمم، ووجوههم وأيديهم تتلألأ نوراً وبياضاً من آثار الوضوء.
ب-وعن أبي مالك الأشعري. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان) رواه مسلم.
ج-وعن عثمان. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ) رواه مسلم.
د-وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ
الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ) رواه مسلم.
هـ- وعن عُثْمَان بْن عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِه) رواه مسلم.
و- وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاط) رواه مسلم.
ز- وعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ (أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلة) رواه مسلم.
• قوله (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ) دليل على فضل إسباغ الوضوء على المكاره وأن ذلك يمحو الخطايا ويرفع الدرجات.
وقد جاء في حديث اختصام الملأ الأعلى (
…
الكفارات: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكريهات) رواه أحمد.
• قال ابن رجب: المراد أن يكون على حالة تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسّر بحال نزول المصائب، فإن النفس حينئذ تطلب الجزع، فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إلى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان.
وفسّرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ (
…
إسباغ الوضوء على السبرات) والسبرة شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في البرد يشق على النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض وغيره كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك، ويجب الصبر على الألم بذلك، فإن حصل به الرضى فذلك مقام خواص العارفين المحبين، وينشأ الرضا بذلك عن ملاحظة أمور:
أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطه للخطايا، ورفعه للدرجات، وحصول الغرة والتحجيل به.
قال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقُلت عليه في جميع الأحوال.
الثاني: تذكر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه من العذاب بالبرد والزمهرير، فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم، فملاحظة هذا الألم الموعود يهون الإحساس بألم برد الماء.
الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة، فذلك يهوّن كل ألم ينال العبد في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بألمه بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت على العاملين العبادة.
الرابع: استحضار اطلاع الله عز وجل على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقن أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا).
الخامس: الاستغراق في محبة من أمر بهذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال تعالى (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فمن امتلأ قلبه من محبة الله أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوّن الأثقال.
فإسباغ الوضوء على المكاره من علامات المحبين. (ابن رجب شرح حديث اختصام الملأ).
وقد روى ابن سعد في (الطبقات الكبرى) بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه وصى ابنه عند موته فقال له: " أي بني! عليك بخصال الإيمان ". قال: وما هي؟ قال: " الصوم في شدة الحر أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال "، قال: وما ردغة الخبال؟ قال: " شرب الخمر.
• الوضوء كان مشروعاً في الأمم السابقة:
لقصة سارة مع الملك، أن سارة لما هم الملك بالدنو منها، قامت تتوضأ وتصلي.
ولقصة جُرَيْج الراهب أيضاً، قام فتوضأ وصلى، ثم كلم الغلام.
ولحديث: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي). رواه ابن ماجه. قال ابن حجر: حديث ضعيف.
والذي اختصت به هذه الأمة هي الغرة والتحجيل.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ اَلْوُضُوءِ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ورجح هذا ابن حجر، فقال: واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر، لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي.
وفي قصة جريج الراهب أيضا أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام.
فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضا مرفوعا قال (سيما ليست لأحد غيركم) وله من حديث حذيفة نحوه و (سِيما) أي: علامة. (الفتح).
(من سنن الوضوء:
السواك).
وتقدمت مباحثه.
(والتسمية).
أي: ومن سنن الوضوء التسمية.
وهذا قول جماهير العلماء.
ورجحه ابن قدامة، وابن المنذر، وابن حزم، وابن كثير، واختاره ابن باز.
قال ابن حزم: وتستحب تسمية الله على الوضوء، وإن لم يفعل فوضوؤه تام.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
…
) حيث أن الله لم يأمر بالتسمية.
ب- ولحديث عبد الله بن عمرو (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً .... ) رواه أبو داود، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء ولم يذكر التسمية.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي (
…
توضأ كما أمرك الله
…
) الحديث، وليس فيه التسمية، فدل على عدم وجوبها، ولو كانت واجبة لعلمها هذا الأعرابي إذْ هو جاهل.
د- أن الصحابة الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً كاملاً، لم يذكر أحد منهم أنه سمى في أول وضوئه، ولو كانت التسمية واجبة لم يتركها صلى الله عليه وسلم.
هـ- حديث عثمان في قوله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّر فَيُتِمّ الطَّهُور الَّذِي كَتَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَات الْخَمْس إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا بَيْنهنَّ) رواه مسلم.
قال النووي: هَذِهِ الرِّوَايَة فِيهَا فَائِدَة نَفِيسَة وَهِيَ قَوْله صلى الله عليه وسلم (الطُّهُور الَّذِي كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ اِقْتَصَرَ فِي وُضُوئِهِ عَلَى طَهَارَة الْأَعْضَاء الْوَاجِبَة وَتَرَكَ السُّنَن وَالْمُسْتَحَبَّات كَانَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَة حَاصِلَة لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَتَى بِالسُّنَنِ أَكْمَلَ وَأَشَدّ تَكْفِيرًا. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
قالوا ويكون حديث (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) أي: لا وضوء كامل لمن لم يذكر اسم الله عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها واجبة.
وهذا قول الظاهرية، ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه، ورجحه الألباني.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلِلترْمِذِيِّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
قالوا: والمراد بالنفي نفي الصحة، أي: لا وضوء صحيح لمن لم يذكر اسم الله عليه.
• رجح الشيخ دبيان الدبيان [في أحكام الطهارة] أنها غير مشروعة.
لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل صحيح على المشروعية، ولم يثبت في الباب حديث صحيح.
ولم يرد ذكر التسمية في الأحاديث الصحيحة التي سيقت في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
كحديث عثمان، وعبد الله بن زيد، وعلي، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم. والله أعلم.
فائدة:
حديث (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهِ) اختلف العلماء في هذا الحديث هل هو صحيح أم ضعيف؟
والحديث قد ورد من عدة طرق:
فقد جاء من حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وفي إسناده ضعف لجهالة يعقوب بن سلمة ولجهالة والده.
وجاء من حديث أبي سعيد عند أحمد في مسنده وفي سنده مقال.
وجاء من حديث سعيد بن زيد عند أحمد والترمذي وفي سنده اضطراب وجهالة.
وجاء من حديث سهل بن سعد عند ابن ماجه وسنده ضعيف جداً.
فذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يصح شيء منها، منهم: الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والعقيلي، والبزار، وابن المنذر.
وذهب جماعة إلى تحسينها بمجموع طرقها، منهم: ابن سيد الناس، وابن حجر، والسيوطي، وابن القيم، والشوكاني، والألباني.
والراجح أنه لا يصح منها شيء.
لأنها مخالفة لما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة الوضوء، فلم ينقل واحد من الذين وصفوا الوضوء بأنه كان يسمي.
فائدة:
عقد البخاري في صحيحه باباً قال: باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع، ثم ذكر حديث ابن عباس.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ).
قال العيني: قوله (على كل حال) لما كان حال الوقاع أبعد حال من ذكر الله تعالى ومع ذلك تسن التسمية فيه ففي سائر الأحوال بالطريق الأولى فلذلك أورده البخاري في هذا الباب للتنبيه على مشروعية التسمية عند الوضوء.
فإن قلت كان المناسب أن يذكر حديث (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)؟
قلت: هذا الحديث ليس على شرطه وإن كثرت طرقه، وقد طعن فيه الحفاظ واستدركوا على الحاكم تصحيحه بأنه انقلب عليه إسناده واشتبه وقال الإمام أحمد لا أعلم في التسمية حديثا ثابتاً. (عمدة القارئ).
(وغسل الكفين ثلاثاً).
أي: يسن للمتوضئ في بداية وضوئه غسل كفيه ثلاثاً.
أ-لحديث حُمْرَان (أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
…
، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) مُتَّفَقٌ عليه.
ب- ولحديث علي - في صفة الوضوء - (
…
فغسل كفيه حتى أنقاهما
…
) رواه أبو داود.
ج- وجاء في الصحيحين: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا
…
) متفق عليه.
قال النووي: قَوْله (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاث مَرَّات) هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ غَسْلهمَا فِي أَوَّل الْوُضُوء سُنَّة، وَهُوَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء
وقال ابن قدامة: وليس ذلك - يعني غسل الكفين في الوضوء - بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه.
وقال ابن المنذر: فأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة يستحب استعمالها.
وقال: لِأَنَّهَا الَّتِي تَغْمِسُ فِي الْإِنَاءِ وَتَنْقُلُ الْوُضُوءَ إلَى الْأَعْضَاءِ، فَفِي غَسْلِهِمَا إحْرَازٌ لِجَمِيعِ الْوُضُوء.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لأنها آلة الماء.
(ويجبُ من نوم ليلٍ).
أي: ويجب غسل الكفين ثلاثاً إذا قام من نوم ليل، وأراد أن يغمسهما في الإناء.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا اِسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي اَلْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِم.
وهذا مذهب أحمد وداود.
لأن الحديث فيه أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الأمر للاستحباب.
وهذا مذهب الجمهور.
…
[الفتح].
أ-واستدلوا بعدم الوجوب، بالتعليل المذكور بالحديث (فإن أحدكم لا يدري
…
) لأن التعليل بأمر يقتضي الشك، فهذه قرينة صارفة عن الوجوب إلى الندب.
ب-وبقوله (فليغسلها ثلاثاً
…
) قالوا النجاسة المقيد إزالتها لا يجب العد في غسلها، فذكر العدد في الحديث يدل على أن الأمر للاستحباب.
ج-ولحديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من الشن المعلق بعد قيامه من النوم، ولم يرو أنه غسل يده في حديث ابن عباس. [نيل الأوطار].
والراجح الأول، لظاهر الأمر.
•
اختلف العلماء في المراد بالنوم في قوله (إِذَا اِسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ) على أقوال:
القول الأول: المراد كل نوم، فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار، ورجحه الشيخ ابن باز.
أ- لقوله: (من نومه).
قال ابن حجر: أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم.
ب- وللتعليل (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فإن ذلك يقتضي بإلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة.
القول الثاني: المراد نوم الليل خاصة.
وهذا مذهب أحمد وداود.
أ- لما جاء في رواية أبي داود (إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل
…
).
ب- ولقوله (أين باتت يده
…
) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل.
وهذا القول هو الراجح.
• الحكمة من غسل اليدين ثلاثاً بعد الاستيقاظ من النوم قبل إدخالها في الإناء:
قيل: أن الحكمة معقولة ومدركة وليست معنوية.
وهي جولان اليد في بدن النائم بدون إحساس، فقد تلامس أمكنة من بدنه لم يتم تطهيرها بالماء، فتعلق بها النجاسة.
وقيل: أن هذا تعبد لا يعقل معناه.
واستدلوا على ذلك بأن الأحكام لا تبنى على الشك، وذلك أن اليقين في اليد أنها طاهرة، ونجاستها أثناء النوم مشكوك فيها، فلا يؤمر بغسلها لنجاستها، لأن اليقين لا يُزال بالشك، فيكون الأمر في ذلك تعبدياً. [فالشارع لا يأمر بالتطهر من تنجس مشكوك].
وقيل: - وهو اختيار ابن تيمية - أن ما ورد في هذا الحديث يشبه - ما تقدم - من تعليل الاستنثار بأن الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، فيمكن أن المراد بهذا الحديث ما خشي من عبث الشيطان بيد الإنسان وملامستها، مما قد يؤثر على الإنسان، وقد تكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار.
• ما حكم الماء إذا غمس يده في الإناء قبل غسلها؟
لا ينجس، وهو باق على طهوريته، وهذا قول جمهور العلماء.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن غمس اليد، ولم يتعرض للماء.
وحكي عن الحسن البصري أنه ينجس إن قام من نوم الليل، وحكي أيضاً عن إسحاق بن راهوية ومحمد بن جرير الطبري.
قال النووي: وهو ضعيف جداً، فإن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك وقواعد الشريعة متظافرة على ذلك.
(والبداءةْ بمضمضةٍ ثم استنشاق).
أي: ومن سنن الوضوء البداءة بمضمضة واستنشاق - بعد غسل اليدين - قبل غسل الوجه.
عن حُمْرَان مَوْلَى عُثْمَانَ (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.
• المضمضة: قال ابن قدامة: وَالْمَضْمَضَةُ: إدَارَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ.
• وَالِاسْتِنْشَاقُ: اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى بَاطِنِ الْأَنْفِ.
• وَالِاسْتِنْثَارُ: إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ أَنْفِه، وَلَكِنْ يُعَبَّرُ بِالِاسْتِنْثَارِ عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ.
وَلَا يَجِبُ إدَارَةُ الْمَاءِ فِي جَمِيعِ الْفَمِ، وَلَا إيصَالَ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ بَاطِنِ الْأَنْفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الصَّائِم. (المغني).
وقال ابن حجر: وأكمله أن يضع الماء في الفم، ثم يديره، ثم يمجه.
وقال النووي: أمَّا حَقِيقَة الْمَضْمَضَة؛ فَقَالَ أَصْحَابنَا: كَمَالهَا أَنْ يَجْعَل الْمَاء فِي فَمه ثُمَّ يُدِيرهُ فِيهِ ثُمَّ يَمُجّهُ، وَأَمَّا أَقَلّهَا فَأَنْ يَجْعَل الْمَاء فِي فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَط إِدَارَته عَلَى الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور.
وقال ابن عثيمين: ويكفي في الواجب أن يديرَ الماء في فمه أدنى إدارة. (الشرح الممتع).
(والمبالغة فيهما لغير صائم).
أي: ومن سنن الوضوء المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير صائم.
قال النووي: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف.
لحديث لَقِيطِ بْن صَبْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَسْبِغْ اَلْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ اَلْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي اَلِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِماً) رواه أبو داود.
• معنى المبالغة في المضمضة: أن يصل الماء أقصى الحلق، والمبالغة في الاستنشاق: جذب الماء إلى أقصى الأنف.
• المبالغة فيهما للصائم مكروهة، وهذا قول جمهور العلماء.
(والتيامن)
أي: ومن سنن الوضوء التيامن، فيسن أن يبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى ورجله اليمنى قبل اليسرى. (وهو خاص بالأعضاء الأربعة فقط وهما: اليدان والرِّجلان).
أ- لحديث عائشة قالت: (كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) متفق عليه
ب - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم) رواه أبو داود.
ج- ولحديث عثمان في صفة الوضوء (
…
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا
…
) متفق عليه.
قال النووي: أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة، من خالفها فإنه فاته الفضل وتم وضوءه.
وقال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في استحباب البداءة باليمين وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه.
• قال الشيخ ابن عثيمين: أما الوجه فالنصوص تدل على أنه لا تيامن فيه
…
والأذنان يمسحان مرة واحدة، لأنهما عضوان من عضو واحد.
(وتخليل اللحية الكثيفة).
أي: ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة.
اللحية إن كانت خفيفة: فإنه يجب غسلها وما تحتها من البشرة.
لأنها في حكم الظاهر فيدخل في قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والوجه ما تحصل به المواجهة، وما تحت اللحية إذا كان بادياً تحصل به المواجهة، فيدخل في حكم الوجه.
قال الشيخ ابن عثيمين: اللحية لخفيفة هي التي لا تستر البشرة، وهذه يجب غسلها وما تحتها؛ لأن ما تحتها لما كان بادياً كان داخلاً في الوجه الذي تكون به المواجهة.
وإن كانت كثيفة: فإنه يستحب تخليلها.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لحديث عُثْمَانَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي اَلْوُضُوءِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِي.
والحديث وإن كان ضعيفاً، فقد قواه بعض العلماء لشواهده.
ب- ومما يرجح الاستحباب ورود ذلك عن ابن عمر، فعن نافع عن ابن عمر (أنه كان يخلل لحيته).
ج- ومن أدلة الجمهور على أن تخليل اللحية الكثيفة غير واجب، وأن باطن اللحية الكثيفة لا يجب غسله: ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ
…
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كث اللحية، فغرفة واحدة لا تكفي لغسل الوجه، وغسل ما تحت اللحية، فعلم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بغسل ظاهرها فقط.
قال ابن قدامة: وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجِبُ التَّخْلِيلُ؛ وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي تَرْكِ التَّخْلِيلِ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّخْلِيلَ.
وَأَكْثَرُ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكِهِ.
وَلَوْ وَاجِبًا لَمَا أَخَلَّ بِهِ فِي وُضُوءٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ فِي كُلِّ وُضُوءٍ لَنَقَلَهُ كُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ فَلَا يَبْلُغُ الْمَاءُ مَا تَحْتَ شَعْرِهَا بِدُونِ التَّخْلِيلِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَفِعْلُهُ لِلتَّخْلِيلِ فِي بَعْضِ أَحْيَانِهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (المغني).
وقال النووي رحمه الله: اللحية الكثيفة يجب غسل ظاهرها بلا خلاف، ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة تحته، هذا هو المذهب الصحيح المشهور، الذي نص عليه الشافعي رحمه الله، وقطع به جمهور الأصحاب، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وجماهير
العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم، وحكى الرافعي قولاً ووجهاً أنه يجب غسل البشرة وهو مذهب المزني وأبي ثور. (المجموع).
•
اختلف العلماء في ضابط اللحية الكثيفة واللحية الخفيفة:
فقيل: المرجع في ذلك العرف، فما عده الناس كثيفاً فهو كثيف، وما عدوه خفيفاً فهو خفيف.
وقيل: ما وصل الماء إلى تحته بمشقة فهو كثيف، وما كان وصول الماء إلى تحته بغير مشقة فهو خفيف.
وقيل: ما ستر البشرة عن الناظر فهو كثيف، وما لا فهو خفيف، وهذا أحسنها. [النووي].
•
كيفية تخليل اللحية:
قال الشيخ ابن عثيمين: والتخليل له صفتان:
الأولى: أن يأخذ كفاً من ماء ويجعله تحتها، ويعركها حتى تتخلل به.
الثانية: أن يأخذ كفاً من ماء، ويخللها بأصابعه كالمشط. [الشرح الممتع].
وقد وردت أحاديث في كيفية تخليل اللحية لكن لا يصح منها شيء:
منها: حديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته). رواه أبو داود
ومنها: حديث ابن عمر (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك بعض العراك، ثم شبك بأصابعه من تحتها) رواه الدارقطني.
•
اختلف العلماء في حكم غسل المسترسل من اللحية على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
واختار هذا الشيخ ابن عثيمين. لأن ما استرسل من اللحية تحصل به المواجهة.
القول الثاني: لا يجب.
أ-قالوا: لأن الله أمر بغسل الوجه، فمحل الفرض الوجه وما في حدوده.
ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من ماء وغسل وجهه، وهذا القدر لا يكفي لغسل ما استرسل من اللحية.
وهذا القول هو الصحيح.
(والأصابع).
أي: ومن سنن الوضوء تخليل أصابع اليدين والرجلين.
قال ابن قدامة: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ، وَهُوَ فِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهو في الرِّجلين آكد لوجهين:
الأول: أنَّ أصابعهما متلاصقة.
والثَّاني: أنهما تباشران الأذى فكانتا آكد من اليدين.
لحديث لَقِيط بْن صَبْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَسْبِغْ اَلْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ اَلْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي اَلِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا) رواه أبوداود.
• ذهب بعض العلماء إلى أن تخليل الأصابع واجب.
واختاره الصنعاني والشوكاني.
لقوله صلى الله عليه وسلم (وخلل بين الأصابع) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وذهب جمهور العلماء: إلى أنه مستحب إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع.
أ- لقوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم)، قالوا: فأمر الله بالغَسل وهو يصدق على مجرد وصول الماء إلى البشرة بدون تخليل، والتخليل أمر زائد، فهو داخل في الكمال.
ب- ولأن جميع الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التخليل، فالجمع بين حديث لقيط وهذه الأحاديث هو حمله على الاستحباب.
وهذا هو الراجح.
• المراد بالأصابع أصابع اليدين والرجلين.
فقد جاء في حديث ابن عباس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك) رواه الترمذي.
وقد ورد في تفسير التخليل في حديث المستورد بن شداد. قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره) رواه أبو داود والترمذي.
o والظاهر أن المراد خنصر اليد اليسرى، لأن التخليل تطهير وإزالة قذر، فيشرع باليسرى.
o وخص الخنصر لأنه أقدر على إيصال الماء.
وأما أصابع اليدين: فالأكمل في تخليلها أن يضع بطن الكف اليمنى على اليسرى، ويدخل الأصابع بعضها في بعض.
(وأخْذ ماء جديد للأذنين).
أي: ومن سنن الوضوء أخذ ماء جديد للأذنين، فيسن إذا مسح رأسه أن يأخذ ماء جديداً لأذنيه.
أ-لحديث عبد الله بن زيد - عند البيهقي - (أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً خِلَافَ اَلْمَاءِ اَلَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ).
ب-ولما رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر (أنه كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه) وصححه البيهقي.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع، وإنما يمسحان بالبلل المتبقي بعد مسح رأسه.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ونسب إلى جمهور العلماء واختاره ابن المنذر، وابن تيمية، والشيخ ابن باز.
أ- أنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ماء جديداً لأذنيه.
ب- والذين نقلوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كلهم لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماء جديداً.
قال ابن القيم: ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديداً، وإنما صح ذلك عن ابن عمر.
ج- قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الأذنان من الرأس) رواه أبو داود، وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً لكنه ثابت عن ابن عمر موقوفاً.
د- حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه أبو داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه) ولم يذكر أنه أخذ ماءً جديداً لأذنيه.
وهذا القول هو الصحيح، وأما الرد على أصحاب القول الأول:
• أما رواية البيهقي فالجواب عنها من وجهين:
أولاً: أنها شاذة، وأن المحفوظ رواية مسلم (وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرَ فَضْلِ يَدَيْهِ) يعني بعد ما غسل يده اليمنى ثم اليسرى أخذ ماءً جديداً لرأسه وليس للأذنين.
ثانياً: وعلى فرض صحته فهو محمول على أنه لم يبق في يديه بلل من رأسه.
قال ابن المنذر: وغير موجود في الأخبار الثابتة التي فيها صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أخذه لأذنيه ماء جديداً.
(والغسلة الثانية والثالثة).
أي: ومن سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة، والأولى واجبة.
قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وعلى أن الثلاث سنة.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - على أن من توضأ مرة مرة، فأسبغ الوضوء أن ذلك يجزئه.
وقال ابن قدامة: والوضوء مرة مرة يجزئ والثلاث أفضل، هذا قول أكثر أهل العلم.
أ-عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة) رواه البخاري.
ب- وعنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين) رواه البخاري.
فالسنة في عدد غسل أعضاء الوضوء ثلاث مرات ما عدا الرأس، فيستحب التثليث في غسل الوجه واليدين والرجلين.
لحديث عثمان - في صفة الوضوء - (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
…
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اَلْيُمْنَى إِلَى اَلْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
• ويجوز أن يغسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً.
ففي حديث عبد الله بن زيد - في صفة الوضوء - (
…
ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى
المرفقين
…
) رواه البخاري.
قال النووي: فيه دلالة على جواز مخالفة الأعضاء، وغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة.
قال الشيخ ابن عثيمين: وقد كرِه بعض العلماء أن يخالف بين الأعضاء في العدد، فإذا غسلت الوجه مرة، فلا تغسل اليدين مرتين وهكذا، والصواب أنه لا يكره، فإنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف فغسل الوجه ثلاثاً، واليدين مرتين، والأفضل أن يأتي بهذا مرة، وبهذا مرة.
•
تكره الزيادة على الثلاث كراهة شديدة.
أ-لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم كله لم يزد على ثلاث.
ب-عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ - أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ).
…
[الحديث إسناده حسن لكن لفظ (أو نقص) شاذة لا تصح].
قال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى.
وقال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم.
قال النووي: أجمع الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِلْعُضْوِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَسْتَوْعِبِ الْعُضْوَ إِلَّا بِغَرْفَتَيْنِ، فَهِيَ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ. (شرح مسلم).
وقال الشوكاني: لا خلاف فِي كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا آمَنُ إذَا زَادَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَأْثَمَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى. (نيل الأوطار).
• هذه الزيادة وإن كانت ممنوعة بالاتفاق؛ إلا أنها لا تَبْطُل بها الطهارة، لأن الوضوء وقع صحيحاً تاماً بالثلاث، والزيادة وقعت مردودة، لا تبطله.
قال النووي: إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ وَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُهُ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ كَمَا لَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِر. (المجموع).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله" الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيه.
وَحَكَى الدَّارِمِيُّ مِنْهُمْ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُبْطِلُ الْوُضُوءَ، كَالزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِد. (الفتح).
وقال الشيخ ابن قاسم رحمه الله: وقال غير واحد، إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه، ولا يبطل وضوؤه إجماعاً.
(وإطالة الغرة والتحجيل).
أي: ومن سنن الوضوء إطالة الغرة والتحجيل.
وهذا مذهب الشافعي والحنفية والرواية المشهورة عن أحمد.
قال النووي: أمَّا تَطْوِيل الْغُرَّة فَقَالَ أَصْحَابنَا: هُوَ غَسْلُ شَيْء مِنْ مُقَدَّم الرَّأْس وَمَا يُجَاوِز الْوَجْه زَائِد عَلَى الْجُزْء الَّذِي غَسَلَهُ لِاسْتِيقَانِ كَمَالِ الْوَجْه، وَأَمَّا تَطْوِيل التَّحْجِيل فَهُوَ غَسْلُ مَا فَوْق الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْن.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ اَلْوُضُوءِ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(غُرًّا) جمع أغر، أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة.
(مُحَجَّلِينَ) من التحجيل، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، والمراد هنا: النور.
(مِنْ أَثَرِ اَلْوُضُوءِ)(من) للتعليل، وأثر الشيء: ما يعقبه ناشئاً عنه.
ب- ولفعل أبي هريرة كما ثبت عنه ذلك.
ج - ولفعل ابن عمر فقد كان يغسل العضدين والساقين. رواه أبو عبيد بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر.
وذهب بعض العلماء: إلى أن ذلك لا يشرع.
وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والسعدي. واستدلوا:
أ-أن مجاوزة محل الفرض بدعوى أنها عبادة دعوى تحتاج إلى دليل، وحديث الباب لا يدل عليها، وإنما يدل على نور أعضاء الوضوء يوم القيامة.
ب-أن كل الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنه يغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، وما كان ليترك الفاضل في كل مرّة من وضوئه.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: الصحيح أنه لا يستحب مجاوزة محل الفرض في طهارة الماء، لأن الله تعالى ذكر حدّ الوضوء إلى المرفقين والكعبين، وكل الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أحد منهم أنه فعل ذلك ولا رغب فيه.
ج-أن الزيادة تؤدي إلى كون غير المأمور به مأموراً به، كالعضد فإنه ليس من أعضاء الوضوء.
د- أن الغرة لا يمكن إطالتها، فإنها مختصة بالوجه، فإذا دخلت في الرأس لا تسمى غرة.
وهذا القول هو الراجح.
أما الجواب عن أدلة من قال بمشروعية ذلك؟
أما قوله (فمن استطاع
…
) فهي مدرجة من كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما رجح ذلك ابن حجر وابن القيم.
وأما فعل أبي هريرة، فقد قال ابن القيم: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكن أبا هريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة.
وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة.
(وقول الدعاء الوارد بعد الوضوء).
أي: ومن سنن الوضوء قول الدعاء الوارد بعده.
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ اَلْجَنَّةِ") أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وجاء في دعاء آخر، عن أبي سعيد مرفوعاً:(من توضأ ففرغ من وضوئه، فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، طبع عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش، فلم تكسر إلى يوم القيامة) رواه الحاكم.
واختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير وقفه؛ فهذا مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع.
• جاء عند الترمذي: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) لكنها لا تثبت.
وجاء عند أبي داود: (
…
فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء) لكنها ضعيفة.
• جميع الأدعية أثناء الوضوء لا يصح منها شيء.
قال النووي: وأما الدعاء على أعضاء الوضوء فلم يجيء منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن القيم: وأحاديث الذكر على أعضاء الوضوء كلها باطلة، ليس منها شيء يصح.
وقال في زاد المعاد: كل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه ولا علمه لأمته.
فروض الوضوء وصفته
الفرض لغة: معناه القطع والحز.
واصطلاحاً: هو بمعنى الواجب عند الأكثر، وهو ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً.
والمراد بفروض الوضوء أركانه التي لا يتم إلا بها.
(فروضه ستة).
عرفت بالتتبع والاستقراء.
(غسلُ الوجهِ والفَمُ والأَنْفُ منه).
هذا هو الفرض الأول.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ).
• وقوله (والفم والأنف منه) أي: من الوجه، لوجودهما فيه، فيدخلان في حَدِّه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوضوء.
وهذا مذهب الحنابلة.
قال النووي: وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق.
أ- لحديث لقيط بن صبرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أَسْبِغْ اَلْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ اَلْأَصَابِعِ
…
وإِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ) رواه أبو داود.
فقوله (وإذا توضأت فمضمض) هذا أمر بالمضمضة فدل على وجوبها.
ب-ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ
…
) متفق عليه.
فقوله (فليجعل
…
) هذا أمر، والأمر للوجوب.
ج- مداومة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، فكل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه فعلهما ولم يتركهما.
قال ابن القيم: ولم يتوضأ إلا تمضمض واستنشق، ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة.
د- أن الفم والأنف من الوجه، بدليل دخولهما في حده.
وذهب بعض العلماء: إلى أن المضمضة والاستنشاق سنتان من سنن الوضوء.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختار هذا القول ابن المنذر.
أ- لقوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
وجه الدلالة: أن الله عدّ فروض الوضوء التي يجب فعلها، ولم يذكر منها المضمضة ولا الاستنشاق، فدل على عدم فرضيتهما، وإنما على سنيتهما لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما في وضوئه.
ب-أن الله أمر بغسل الوجه في الوضوء، وهو ما تحصل به المواجهة دون باطن الفم والأنف، فلا تحصل بهما المواجهة، وهذا يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين، إذ أنهما غير داخلين في مسمى الوجه.
ب- ولحديث عائشة قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر من الفطرة:
…
وذكر منها المضمضة والاستنشاق) رواه مسلم.
قالوا: والفطرة هي السنة، ويؤيد ذلك أنه جاء في رواية (عشر من السنة).
ج- ما ورد عن ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (المضمضة والاستنشاق سنة) رواه الدارقطني وهو ضعيف.
وذهب بعضهم: إلى أنه يجب الاستنشاق وحده في الوضوء دون المضمضة.
وهذا قول جماعة من أهل الظاهر، منهم ابن حزم، وهو قول أبي ثور.
قال ابن المنذر: وبه أقول.
واستدلوا: أن الاستنشاق نُقِل من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله.
كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر) وهذا أمر، والأمر للوجوب.
ومن فعله كما في الأحاديث الكثيرة التي نقلت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما المضمضة فقد نقلتْ من فعله فقط، ولم تنقل من أمره [لعلهم يضعفون رواية: وإذا توضأت فمضمض].
ورجح هذا ابن حزم وقال: وهو الحق، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في المضمضة أمر، وإنما هي فعل فعله، وأفعاله ليست فرضاً.
والراجح هو القول الأول وهو وجوب المضمضة والاستنشاق.
(وغَسْلُ اليَدَيْن إلى المرفقين).
هذا الفرض الثاني، للآية السابقة (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ).
قال النووي: فغسل اليدين فرض بالكتاب والسنة والإجماع.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إدْخَالُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. (المغني).
أ-لقوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) أي مع المرافق.
ب- وعن نُعَيْم المجمر قال (رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه،
…
ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ) رواه مسلم.
ج-جاءت عدة أحاديث تدل على دخول المرفق مع اليد وإن كان في إسنادها ضعف.
جاء عند الدار قطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء (فغسل كفيه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين).
وكما في حديث جابر (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقه) لكن في إسناده ضعف.
وجاء عند البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء (وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق).
وجاء عند الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً (ثم غسل يديه حتى يسيل الماء على مرفقيه).
فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً [قاله الحافظ].
• المرفق: هو العظم الناتئ في آخر الذراع، سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.
• ينبغي أن يبدأ في غَسل يديه من أطراف أصابعه إلى مرفقه، وأما ما يفعله البعض عند غسل يديه حيث يبدأ من الرسغ - وهو ملتقى الكتف بالساعد - ولا يغسل الكفين، مكتفياً بغسلهما في بداية الوضوء، غير صحيح، لأن الله أمر بغسل اليدين، واليد مبدؤها من أطراف الأصابع.
(ومَسْحُ الرَّأْس مرة واحدة).
هذا الفرض الثالث: للآية السابقة (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ).
• قوله (مرة واحدة) أي: أن الرأس يمسح مرة واحدة.
وهذا قول جماهير العلماء.
أ- لحديث عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفَةِ وُضُوءِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
ب-ولحديث عبد الله بن زيد وفيه (
…
ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة).
ج-وكذلك حديث عثمان السابق وغيره من الأحاديث الصحيحة، فإنه لم يُذكر بها التثليث في مسح الرأس كما ذكر في غيره من الأعضاء.
د- وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ
أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ - أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ) رواه أبو داود.
وقد جاء عند سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة.
فالرسول توضأ أمام الأعرابي بهذه الكيفية، فدل أن الرأس خارج عن بقية الأعضاء بالعدد.
هـ- ولأن الرأس مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ.
قال الشوكاني: الإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها، لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد، وغيرهما هو المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة.
قال الحافظ ابن حجر: ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا إنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعاً بين الأدلة.
وهذا القول هو الصحيح.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يستحب التثليث.
وهذا مذهب الشافعي.
أ - لحديث عثمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً) رواه مسلم.
ب - ولحديث عثمان عند أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ثلاثاً).
والراجح قول الجمهور.
• وأما الجواب عن أدلة القول الثاني (يمسح ثلاثاً).
أما رواية مسلم فهي مجملة، والروايات الأخرى بينت أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب، أو أن التثليث يختص بالمغسول.
وأما حديث أبي داود عن عثمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ثلاثاً) فهو ضعيف.
قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أنه مسح الرأس مرة.
قال ابن القيم: الصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس، ولم يصح عنه خلافه البتة.
(وغَسلُ الرجلين إلى الكعبيْن).
هذا الفرض الرابع، للآية السابقة (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ).
وقد جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ) متفق عليه.
فهذا الحديث دليل على وجوب غسل الرجلين إذا لم يكن عليها خف.
نأخذ ذلك من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة مسحهم أرجلهم مسحاً سريعاً من غير غسل وإجراء للماء عليها.
وهذا الحكم متفق عليه بين مذاهب المسلمين الأربعة.
ولذلك بوب عليه الإمام البخاري بقوله (باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين).
وقال الإمام الترمذي رحمه الله: وفقه هذا الحديث أنه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليهما خفان أو جوربان.
وبوب عليه النسائي بقوله (باب إيجاب غسل الرجلين).
كما بوب عليه البيهقي رحمه الله بقوله (باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل وأن مسحهما لا يجزئ).
وبوب عليه الإمام ابن خزيمة بقوله (باب التغليظ في ترك غسل العقبين في الوضوء، والدليل على أن الفرض غسل القدمين لا مسحهما إذا كانتا غير مغطيتين بالخف أو ما يقوم مقام الخف، لا على ما زعمت الروافض أن الفرض مسح القدمين لا غسلهما، إذ لو كان الماسح على القدمين مؤديا للفرض لما جاز أن يقال لتاركٍ فضيلةً: ويل له).
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى (أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين) رواه سعيد بن منصور.
(والترتيب).
هذا الفرض الخامس.
والترتيب معناه: أن يأتي بفروض الوضوء مرتبة: يبدأ بالوجه، ثم غسل اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين.
قال ابن قدامة: التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَحْمَدَ لَمْ أَرَ عَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْد. (المغني).
والدليل على وجوبه:
أ- قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وجه الدلالة منها:
أولاً: أن الله رتبها، فيجب أن ترتب كما في الآية.
ثانياً: في الآية قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب، فإنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير من نظيره إلا لفائدة، والفائدة ها هنا الترتيب. [قاله ابن قدامة].
فإن قيل: فائدته استحباب الترتيب، قلنا: الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب، ولهذا لم يذكر فيها شيء من السنن، ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأموراً به، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن كل من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه مرتباً، وهو مفسر لما في كتاب الله.
ب- فعله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يواظب على الترتيب في الوضوء، ولم ينقل عنه نقلاً صحيحاً في صفة وضوئه أنه توضأ غير مرتب مع كثرة من رووا صفة وضوئه.
ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ في وضوئه بما بدأ الله به، فغسل وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه، فكان هذا بياناً للوضوء المأمور به في القرآن، كما قال في حجته (نبدأ بما بدأ الله به).
وعلى هذا القول فلو قدم عضواً على آخر لم يصح وضوءه.
وهذا قول الشافعي وأحمد كما تقدم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الترتيب غير واجب.
وهذا مذهب مالك وأصحاب الرأي.
أ-قالوا: لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء، وعطف بعضها على بعض بواو الجمع، وهي لا تقتضي الترتيب، فكيف ما غسل كان ممتثلاً.
ب-ولحديث الرُّبَيِّع بنت مُعوذ قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا، فحدثتنا أنه قال: اسكبي لي وضوءاً، فذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: فغسل كفيه ثلاثاً، ووضأ وجهه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه
…
).
والصحيح الأول.
وأما الجواب عن أدلة القول الثاني (الترتيب غير واجب).
أ-قولهم: إن الله أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بالواو فهذا صحيح، لكن بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أن الواو في الآية للترتيب، لا لمطلق الجمع.
ب- وأما حديث الربيع، فحديث معلول، وعلى فرض صحته فتقديم المضمضة والاستنشاق تقديم مسنون على واجب، والجمهور على جوازه.
(والمُوالاة).
هذا الفرض السادس.
والموالاة يعني التتابع، والمراد: متابعة غسل الأعضاء بعضها إثر بعض بحيث يُغسل العضو قبل أن يجف الذي قبله في زمن معتدل.
والدليل على وجوبها:
أ- حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (رَأَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، وَفِي قَدَمِهِ مِثْلُ اَلظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ اَلْمَاءُ. فَقَالَ: اِرْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِي.
• قوله صلى الله عليه وسلم (اِرْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَك)؟
يحتمل: أي ائت به على أتم الوجوه وأكملها، فيكون أمرَه بغسل ما ترك.
ويحتمل أن معناه: استأنف وضوءك من أولهِ، قال الخطابي: إن هذا هو ظاهر معناه.
ويؤيده حديث خالد بن معدان الآتي.
ب-ولحديث عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً توضأ وعلى ظهر قدمه مثل الظفر لم يصبها الماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع فتوضأ ثم صلى) رواه مسلم.
قال القاضي عياض: في هذا الحديث دليل على وجوب الموالاة في الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم[أحسن وضوءك] ولم يقل: اغسل ذلك الموضع الذي تركته.
ج-وعن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء) رواه أبو داود وهو حديث مختلف في صحته.
وجه الدلالة ظاهر، إذ لو لم تكن الموالاة واجبة لأمره بغسل اللمعة فقط دون إعادة الوضوء.
د- فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتباً متوالياً.
هـ- ولأن الوضوء عبادة واحدة، فلا يُبنى بعضها على بعض مع تفرق أجزائها، بل يجب أن يكون بعضها متصلاً ببعض.
وهذا مذهب الحنابلة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها سنة غير واجبة.
وهذا مذهب الحنفية والشافعية.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
) فالله أمر بتطهير هذه الأعضاء من غير اشتراط الموالاة في الغَسْل بينها، فكيفما حصل الغسل أجزأ.
وذهب بعضهم: إلى أنها واجبة وتسقط مع العذر.
وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 135):
قلت: هذا القول الثالث هو الأظهر والأشبه بأصول الشريعة، وذلك أن أدلة الوجوب لا تتناول إلا المفرط، لا تتناول العاجز عن الموالاة، والحديث الذي هو عمدة المسألة الذي رواه أبو داود وغيره المأمور بالإعادة مفرط، لأنه كان قادراً على غسل تلك اللمعة، كما هو قادر على غسل غيرها.
وهذا القول الثالث هو القول الصحيح.
(وصفةُ الوضوء:
أن ينويَ رفع الحدث).
فلا بد من النية، فالنية شرط لصحة الطهارة، فلا تصح الطهارة بدونها.
فلو توضأ بنية التبرد فإنه لا يجزئه، ويعتبر وضوءه باطلاً لفقده شرطاً وهو النية.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ بِلا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَدَاوُد.
أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
ففي هذه الآية معنى النية، لقوله (إذا قمتم) أي: أردتم القيام للصلاة، ففيه استحضار لمعنى القيام لأجل الصلاة، وهذا هو معنى النية.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) فهذا الحديث نص في وجوب النية في العبادات، فقد أثبت أن العمل لا يكون شرعياً يتعلق به ثواب أو عقاب إلا بالنية.
ج-أن الطهارة بالماء عن الحدث عبادة من العبادات الفعلية، فقد اشتُرط فيها من التحديد في الغسلات والمغسولات والماء ما يثبت كونها عبادة.
د- ولأن الوضوء عبادة مستقلة، بدليل أن الله تعالى رتب عليه الفضل والثواب والأجر، ومثل هذا يكون عبادة مستقلة.
قال ابن رجب: ويدلُّ على صحَّةِ ذلك - أي اشتراط النية في الوضوء - تكاثرُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: بأنَّ الوُضوءَ يكفِّر الذُّنوبَ والخطايا، وأنَّ مَنْ توضَّأ كما أُمِرَ، كان كفَّارةً لذُنوبه، وهذا يدلُّ على أنَّ الوُضوءَ المأمورَ به في القرآنِ عبادةٌ مستقلَّةٌ بنفسها، حيث رتَّب عليه تكفيرَ الذنوبِ، والوضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكفِّرُ شيئاً من الذُّنوبِ
بالاتِّفاقِ، فلا يكونُ مأموراً به، ولا تصحُّ به الصَّلاةُ. (جامع العلوم).
•
وقت النية:
الأكمل أن ينوي مع بداية الوضوء أو قبله بزمن يسير، حتى تكون النية شاملة لجميع أجزاء الوضوء، أما الواجب من ذلك فهو أن ينوي مع أول الواجبات.
قال ابن قدامة: وَيَجِبُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ كُلِّهَا; لأَنَّهَا شَرْطٌ لَهَا، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا فِي جَمِيعِهَا، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ كَفَّيْهِ، لِتَشْمَلَ النِّيَّةُ مَسْنُونَ الطَّهَارَةِ وَمَفْرُوضَهَا. فَإِنْ غَسَلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ النِّيَّةِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا. وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ
…
وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِك. (المغني).
وقال الشيخ ابن عثيمين: والنية لها محلان:
الأول: تكون فيه سنة، وهو قبل مسنون الطهارة إن وجد قبل واجب.
الثاني: تكون فيه واجبة عند أول الواجبات.
…
(الشرح الممتع).
• والنية قصد الشيء المأمور به تقرباً إلى الله مقترناً بفعله. (الإعلام لابن الملقن).
• والنية محلها القلب.
قال ابن تيمية: والنية محلها القلب باتفاق العلماء، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم.
وقال رحمه الله: وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ.
فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ كَوْنُهُ أَوْكَدَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا.
لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مَشْرُوعًا لَمْ يُهْمِلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُبْتَلَاةٌ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
بَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا فَيَقُولُ: نَوَيْت بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ لُقْمَةً فَأَضَعُهَا فِي فَمِي فَأَمْضُغُهَا ثُمَّ أَبْلَعُهَا لِأَشْبَعَ. مِثْلَ الْقَائِلِ الَّذِي يَقُولُ: نَوَيْت
أُصَلِّي فَرِيضَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيَّ حَاضِرَ الْوَقْتِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي جَمَاعَةٍ أَدَاءً لِلَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا كُلُّهُ حُمْقٌ وَجَهْلٌ وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ بَلَاغُ الْعِلْمِ فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُهُ كَانَ قَدْ نَوَاهُ ضَرُورَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنْ يَفْعَلَ بِلَا نِيَّةٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوع. (مجموع الفتاوى).
فائدة:
اشتراط النية إنما هو في طهارة الأحداث، إما إزالة النجاسة أو طهارة الأنجاس فلا يشترط لها نية.
قال النووي: إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية، فهو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، ونقل صاحب الحاوي والبغوي في شرح السنة إجماع المسلمين عليه. (المجموع).
وقال ابن عثيمين: فلو عَلَّق إِنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته، وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر.
• اختلف أهل العلم فيمن توضأ ينوي تجديد الطهارة ناسياً حدثه، ثم تذكر أنه كان محدثاً: هل تصح طهارته؟ على قولين:
قيل: تصح.
وقيل: لا تصح.
لأنه لم ينوِ رفع الحدث.
قال ابن قدامة رحمه الله: وَإِنْ نَوَى تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا، فَهَلْ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا نَوَاهُ، وَلِلْخَبَرِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ، وَالثَّانِيَةُ لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَا مَا تَضَمَّنَهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى التَّبَرُّدَ.
وقال النووي رحمه الله: لَوْ تَوَضَّأَ احْتِيَاطًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا: فَهَلْ يُجْزِيهِ ذَلِكَ الْوُضُوءُ؟
فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: أَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِيهِ، لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ مُتَرَدِّدًا فِي النِّيَّةِ، إذ ليس هو جازما بِالْحَدَثِ، وَالتَّرَدُّدُ فِي النِّيَّةِ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِيهِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، صَادَفَتْ الْحَدَثَ فَرَفَعَتْهُ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّل. (المجموع).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم نقضه بعد الصَّلاة، ثم جدَّد الوُضُوء للعصر ناسياً أنه أحدث؛ فهذا يرتفع حدثُه؛ لأنه نوى تجديداً مسنوناً، ناسياً حدثَه، فإِذا كان ذاكراً لحدثه، فلا يرتفع؛ لأنَّه حينئذٍ يكون متلاعباً، فكيف ينوي التجديدَ وهو ليس على وُضُوء؛ لأن التَّجديد لا يكون إلا والإِنسان على طهارة.
…
(الشرح الممتع).
وقال الشيخ خالد المشيقح: إذا صلى بالوضوء الأول صلاة ثم بعد ذلك أحدث، ثم جاءت الصلاة الثانية، فقال: أجدد الوضوء، فتوضأ مجدداً للوضوء، ثم بعد ذلك تذكر أنه محدث، نقول: ارتفع حدثك الآن، لأن هذا التجديد مشروع.
• والنية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة.
قال ابن القيم: النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلاً، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالنية بحال، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك.
• قوله (رفع الحدث) خرج به طهارة الأنجاس، فلا يشترط لها النية، فلو علق إنسان ثوبه في السطح رجاء المطر حتى يغسله وزالت النجاسة طهُر، مع أنه ليس بفعله ولا نيته، وكذلك الأرض تصيبها النجاسة فينزل عليها ماء المطر فتطهر.
(ثُمَّ يَقُولَ: بِسْمِ اَللَّهِ).
أي يسن أن يقول بسم الله قبل الوضوء، وهذا مذهب الجمهور.
وقد تقدم أنها من سنن الوضوء.
(وَيَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا).
أي ويسن أن يغسل كفيه ثلاثاً قبل بداية الوضوء.
لحديث عثمان رضي الله عنه: (أنه دعا بوضوء، فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض
…
) متفق عليه
وقد تقدم أن غسل الكفين في بداية الوضوء من سنن الوضوء.
(ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا، بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ).
أي: فبعد غسل الكفين يبدأ بالمضمضة والاستنشاق.
لحديث عثمان رضي الله عنه وفيه (
…
فغسل كفيه ثلاثاً، ثم مضمض واستنثر
…
).
المضمضة: هي إدارة الماء في الفم، والاستنشاق: هو جذب الماء بالنفس من الأنف.
• أن المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، وهذا سنة، فلو خالف وغسل وجهه ثم تمضمض واستنشق؛ فلا بأس.
• السنة أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً.
لحديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (
…
ثم أدخل يده في التوْر، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً). متفق عليه
• السنة أن يكون بثلاث غرفات من كف واحدة.
قال النووي موضحاً هذه الصفة: أن يأخذ غرفة ويتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك.
قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه.
أ- لحديث عبد الله بن زيد في صفة الوضوء (ثُمَّ أَدْخَلَ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا).
ب- وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء (ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، يمضمض وينتثر من الكف الذي يأخذ منه الماء). رواه أبو داود
وهذه الصفة هي أصح الصفات للأحاديث السابقة.
قال النووي: في الحديث دلالة واضحة على المذهب الصحيح المختار أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها.
وقال الحافظ ابن حجر: استدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
• ولم يجيء حديث صحيح في الفصل بين المضمضة والاستنشاق.
وأما حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق). رواه أبو داود فهو حديث ضعيف.
• لا يجب أن يزيل ما في فمه من بقايا الطعام.
• لا يجب عليه أن يزيل الأسنان المركبة.
(ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا).
أي: ثم بعد المضمضة والاستنشاق يغسل وجهه ثلاثاً.
• الوجه هو ما تحصل به المواجهة، وحده من منابت الشعر المعتاد على ما نزل من اللحية والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً.
• هل يغسل ما استرسل من اللحية، تقدم الخلاف في ذلك.
(ثم يغسل يَدَيْهِ إِلَى اَلْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا).
أي: ثم بعد غسل الوجه يغسل اليدين إلى المرفقين.
لقوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ).
المرفق: بكسر الميم، هو العظم الناتئ في آخر الذراع، وسمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه. [قاله الحافظ]
• والسنة أن يكون الغسل ثلاث مرات.
لحديث عثمان في صفة الوضوء: (
…
ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً).
• قوله (إلى المرفقين) دليل على أن المرفق يجب غسله مع اليد، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وقد تقدم ذلك.
• يجب أن يغسل الكفين مع اليدين، فيجب أن يغسل يديه من أطراف الأصابع إلى المرفقين.
• يغسل الأقطع بقية المفروض.
مثال: لو قدر أنه قطع من نصف الذراع، فإنه يغسل بقية المفروض لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
قال النووي: إذا بقي من محل الفرض شيء فإنه يجب غسله بلا خلاف.
• تحريك الخاتم عند الوضوء:
إذا كان الخاتم واسعاً بحيث يدخل الماء إلى ما تحته فلا يجب تحريكه، وإذا كان ضيقاً بحيث لا يدخل الماء إلى ما تحته إلا بتحريكه وجب تحريكه، وذلك في الوضوء والاغتسال.
جاء في (الموسوعة الفقهية): ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد، إن كان ضيقاً ولا يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته، فإن كان الخاتم واسعاً، أو كان ضيقاً وعلم وصول الماء إلى ما تحته فإن تحريكه لا يجب، بل يكون مستحباً .. " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجب تحريك الخاتم والساعة أثناء الوضوء؟
فأجاب: "الفقهاء قالوا: يسن تحريكه، ولكن إذا كان ضيقاً فلابد من تحريكه؛ لأنه إذا لم يحركه لم يصل الماء إلى ما تحته، والله عز وجل يقول (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) فلابد من غسل اليد كلها من أطراف الأصابع إلى المرفق.
(ثمَ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ إِلَى قَفَاهُ بِيَدَيْهِ. ثُمَّ يُعِيدَهُمَا إِلَى اَلْمَحَلِّ اَلَّذِي بَدَأَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً).
أي: ثم بعد غسل اليدين يمسح رأسه، وهو من فروض الوضوء.
لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ).
• قوله (مرة واحدة) فيه أن الرأس يمسح مرة واحدة، وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ- لحديث علي في صفة الوضوء: (ومسح برأسه واحدة) رواه أبو داود.
ب- وحديث عثمان في الصحيحين في صفة الوضوء، وكذلك عبد الله بن زيد في الصحيحين لم يذكر أنه مسح رأسه ثلاثاً بخلاف بقية الأعضاء.
ج-لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة أنه مسح رأسه ثلاث مرات.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يشرع التثليث في مسح الرأس.
وهذا مذهب الشافعي.
لحديث عثمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً). رواه مسلم
والراجح الأول.
لأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل.
قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أنه مسح رأسه مرة.
• قوله (ويمسح رأسه) أن الرأس يمسح ولا يغسل، فلو غسله بدلاً من المسح لكان مكروهاً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجزئه، لأنه خلاف أمر الله ورسوله.
• قوله (ويمسح رأسه) أي أنه يجب أن يستوعب جميع الرأس ولا يجزئ أن يمسح بعضه.
وهذا هو المذهب وهو الصحيح.
أ-لأن هذا هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على بعض الرأس.
ب- ولأن الله تعالى ذكر مسح الرأس، ومسمى الرأس حقيقة هو جميع الرأس، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس.
قال ابن القيم: لم يصح عنه حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض الرأس البتة.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجزئ مسح بعض الرأس.
واستدلوا بقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) قالوا: الباء للتبعيض.
والراجح الأول.
وأما الباء فليست للتبعيض وإنما هي للملاصقة.
• قوله (ويمسح رأسه ثم يعيدهما إلى المحل
…
) هذه صفة مسح الرأس.
أن يبدأ المتوضئ عند مسح الرأس بمسح مقدم رأسه الذي يلي الوجه، فيذهب إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
وقد ذكر النووي رحمه الله في (شرح مسلم) اتفاق العلماء على استحباب هذه الكيفية.
ويدل لهذه الصفات:
أ- حديث عبد الله بن زيد - في صفة الوضوء - (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ).
ب- وعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه (أنه تَوَضَّأَ لِلنَّاسِ كَمَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ، فَلَمَّا بَلَغَ رَأْسَهُ غَرَفَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَلَقَّاهَا بِشِمَالِهِ حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ أَوْ كَادَ يَقْطُرُ، ثُمَّ مَسَحَ مِنْ مُقَدَّمِهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ، وَمِنْ مُؤَخَّرِهِ إِلَى مُقَدَّمِه). رواه أبو داود
ج- عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) رواه أبو داود.
•
هذه الكيفية ليست واجبة:
قال ابن قدامة: كيفية الغسل أو المسح في الوضوء ليست واجبة، فالواجب هو حصول الغسل بالنسبة للأعضاء المغسولة، وحصول المسح للأعضاء الممسوحة، بأي كيفية كانت، لكن لا شك أن اتباع الصفة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل.
• فإن قيل: ما الجواب عن رواية (وَمَسَحَ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ) فإن ظاهر هذه الرواية أنه بدأ بمؤخر رأسه؟
الجواب عن هذه الرواية من وجوه:
أولاً: أن (الواو) لا تقتضي الترتيب، ويكون التقدير (أدبر وأقبل).
ويؤيد ذلك ما ورد عند البخاري من طريق سليمان بن بلال بلفظ (فمسح رأسه، فأدبر به وأقبل).
ثانياً: يحمل قوله (أقبل) على البداءة بالفعل، وقوله (أدبر) البداءة بالدبر، فيكون من تسميته الفعل بابتدائه. [نيل الأوطار]
ثالثاً: أو يحمل على بيان الجواز.
• والحكمة من مسح الرأس على هذه الصفة استيعاب جهتي الرأس بالمسح، لأن الشعر من جهة الوجه متجه إلى الوجه، ومن جهة المؤخر متجه إلى القفاء.
• وهذه الصفة يستوي فيها الرجل والمرأة، لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل يخصص.
• لو مسح رأسه بغير يده، كأن يمسحه بخرقة ونحوها جاز لحصول المسح بذلك.
• يستحب أن يأخذ ماء جديداً - غير ما فضل عن ذراعيه - فيمسح به رأسه.
وهذا قول أكثر العلماء.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديداً.
وقال ابن رشد: أكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس، قياساً على سائر الأعضاء.
لحديث عبد الله بن زيد - في صفة الوضوء - (
…
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَالأُخْرَى ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا) رواه مسلم.
قال النووي: معناه أنه مسح الرأس بماء جديد، لا ببقية يديه.
(ثُمَّ يَدْخُلَ سَبَّاحَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا).
أي: ثم بعد مسح الرأس يمسح أذنيه.
وصفة مسحهما: أن يدخل سباحتيه [أصبعيه السباحتين] في صماختي أذنيه لمسح باطنهما، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما.
ولو مسحهما بغير الإبهام لجاز، لأن المقصود استيعاب المحل بالمسح، لكن العمل بالسنة أفضل، ليجعل له أجر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على هذه الصفة:
أ- حديث: عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ - أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ -) رواه أبو داود. [الحديث إسناده حسن لكن لفظ (أو نقص) شاذة لا تصح].
ب- وفي حديث الْمِقْدَام بْنَ مَعْدِي الْكِنْدِيَّ، قَالَ (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا) رواه أبو داود.
ج- وفي حديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْتِينَا فَحَدَّثَتْنَا أَنَّهُ قَالَ: اسْكُبِي لِي وَضُوءًا، فَذَكَرَتْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ فِيهِ: فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، وَوَضَّأَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا
…
وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا، وَوَضَّأَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا). رواه أبو داود
قال النووي رحمه الله: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، فَظَاهِرُهُمَا مَا يَلِي الرَّأْسَ وَبَاطِنُهُمَا مَا يَلِي الْوَجْهَ. كَذَا قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ وَآخَرُونَ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَاتٌ: يُدْخِلُ مُسَبِّحَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ وَيُدِيرُهُمَا عَلَى الْمَعَاطِفِ وَيُمِرُّ الْإِبْهَامَيْنِ عَلَى ظُهُورِ الْأُذُنَيْن. (المجموع).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) وَالْمَسْنُونُ فِي مَسْحِهِمَا أَنْ يُدْخِل سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِمَا، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا
…
وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنَ الأْذُنَيْنِ بِالْغَضَارِيفِ؛ لأِنَّ الرَّأْسَ الَّذِي هُوَ الأْصْل لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنْهُ بِالشَّعْرِ، فَالأْذُنُ أَوْلَى.
قال ابن القيم: وكان يمسح أذنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: مسح الأذنين: كيفيته: أن يدخل الإنسان سبابتيه يعني إصبعيه ما بين الوسطى والإبهام في صماخ الأذنين، دون أن يرصها حتى تتألم، يدخلها في الصماخ، والإبهام يمسح به ظاهر الأذنين، وهو الصفحة التي تلي الرأس.
فائدة: أن الأذنين تمسحان جميعاً، ولا يقدم اليمنى على اليسرى.
• السباحتين: تثنية سباحة، وهي الإصبع التي بين الإبهام والوسطى، سميت بذلك لأنه يسبح بها، أو لأنه يشار بها عند السب.
إبهاميه: تثنية الإبهام، وهي الإصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد.
• ومسح الأذنين مع الرأس واجب، وهذا مذهب الحنابلة.
أ-لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) وقد جاء في الحديث: (الأذنان من الرأس) وهذا روي مرفوعاً لكن لا يصح، لكنه صح من قول ابن عمر رواه عبد الرزاق بسند صحيح، وإذا كانت الأذنان من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما.
ب- ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد فمضمض خرجت خطاياه من فيه،
…
فإذا مسح برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من أذنيه) رواه مالك.
فقوله: (حتى تخرج من أذنيه) دليل على أن الأذنين من الرأس، فتكون حكم مسحهما حكم مسح الرأس.
وذهب بعض العلماء إلى أن مسحهما سنة ليس بواجب.
لحديث عثمان في صفة الوضوء؛ حيث لم يذكر المسح على الأذنين.
وكذلك في حديث عبد الله بن زيد، لم يذكر المسح على الأذنين.
والراجح الأول.
• ويمسح أذنيه بفضل ماء رأسه، وليس في السنة ما يدل على أنه يأخذ ماءً جديداً، وقد تقدم ذلك.
(ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ مَعَ اَلْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا).
ثم بعد مسح الرأس يغسل رجليه.
لقوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
والكعبان: هما العظمان الناتئان اللذان بأسفل الساق من جانبي القدم.
• والسنة أن يغسلهما ثلاثاً.
لحديث عثمان في صفة الوضوء: (ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً
…
).
• جاء التحذير الشديد من التهاون في شيء من الرجِل، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(ويل للأعقاب من النار).
وفي هذا الحديث دليل على وجوب غسل الرجلين، وأن فرض الرجل هو الغسل ولا يجوز المسح إلا لمن لبس الخفين.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (ويل للأعقاب
…
) وفعله صلى الله عليه وسلم كله يدل على أن الواجب في الرجِل الغسل لا المسح.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسه الذي رواه بن خزيمة وغيره مطولاً في فضل الوضوء (ثم يغسل قدميه كما أمره الله).
ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين رواه سعيد بن منصور.
وقال ابن خزيمة: ولو كان الماسح مؤدياً للفرض لما تُوعد بالنار.
وقال ابن عبد البر: ولو لم يكن الغسل واجباً ما خوف من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه بالنار، لأن المسح ليس من شأنه الاستيعاب ولا يبلغ به العراقيب ولا الأعقاب.
وقال ابن دقيق العيد: قوله (ثم غسل كلتا رجليه) صريح في الرد على الروافض في أن واجب الرجلين: المسح، وقد تبين هذا من حديث عثمان وجماعة وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحسن ما جاء في: حديث عمرو بن عَبَسة - بفتح العين والباء - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما منكم من أحد يقرب وضوءه) إلى أن قال (ثم يغسل رجليه كما أمره الله عز وجل فمن هذا الحديث: انضم القول إلى الفعل وتبين أن المأمور به: الغسل في الرجلين.
وقد ادعى الطحاوي النسخ، فقال: إنهم كانوا يمسحون عليها مثل مسح الرأس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم عن ذلك وأمرهم بالغسل، فهذا يدل على انتساخ ما كانوا يفعلونه من المسح.
قال العيني: وفيه نظر لأن قوله (نمسح على أرجلنا) يحتمل أن يكون معناه نغسل غسلاً خفيفاً مبقعاً حتى يرى كأنه مسح والدليل عليه ما في الرواية الأخرى (رأى قوماً توضؤا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئاً) فهذا يدل على أنهم كانوا يغسلون ولكن غسلاً قريباً من المسح، فلذلك قال لهم أسبغوا الوضوء، وأيضاً إنما يكون الوعيد على ترك الفرض، ولو لم يكن الغسل في الأول فرضاً عندهم لما توجه الوعيد، لأن المسح لو كان هو المشمول فيما بينهم كان يأمرهم بتركه وانتقالهم إلى الغسل بدون الوعيد، ولأجل ذلك قال القاضي عياض معناه: نغسل كما ذكرناه آنفاً، والصواب أن يقال إن أمر رسول الله بإسباغ الوضوء ووعيده وإنكاره عليهم في ذلك الغسل يدل على أن وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي لا الغسل المشابه بالمسح كغسل هؤلاء.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والرَّافضة يخالفون الحقَّ فيما يتعلَّق بطهارة الرِّجل من وجوه ثلاثة:
الأول: أنهم لا يغسلون الرِّجل، بل يمسحونها مسحاً.
الثاني: أنهم ينتهون بالتطهير عند العظم الناتئ في ظهر القدم فقط.
الثالث: أنهم لا يمسحون على الخُفين، ويرون أنه محرَّم، مع العلم أنَّ ممن روى المسحَ على الخُفين عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو عندهم إمام.
• وفي هذا الحديث وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالتطهير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد من لم يستوعب.
قال البغوي معناه: ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها، وقيل: أراد أن الأعقاب تختص بالعذاب إذا قصر في غسلها.
قال الحافظ: وإنما خصت بالذكر لصورة السبب، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها.
وفيه أن من ترك جزءاً يسيراً مما يجب تطهيره لا تصح طهارته.
قال النووي: وهذا متفق عليه.
عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى). رواه مسلم
فيجب تعميم أعضاء الوضوء بالغسل، وذلك بإيصال الماء إلى جميع أجزاء أعضاء الوضوء وعدم ترك أي محل منها.
نجد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (ويل للأعقاب من النار) فتخصيصه ذكر الأعقاب لأنها في مؤخرة القدم، فهي مظنة لعدم وصول الماء إليها لمن لم يتعاهدها بذلك، فدل على ضرورة العناية بإسباغ الوضوء في محل الفرض.
وفيه أن الكثير من الناس يتساهلون في غسل مؤخرة الأعضاء وهذا خطأ يجب التنبيه عليه.
(وإِنْ نَوَى غُسلَا مسنوناً أجزأ عن واجب).
كمن عليه غسل جمعة - وهو سنة على قول الجمهور - وجنابة، فنوى غسل الجمعة فقط، فإنه يجزئه.
مثال: رجل أصبح يوم الجمعة وعليه جنابة فاغتسل ناوياً غسل الجمعة، فهل يجزئ عن غسل الجنابة؟ الجواب نعم.
قالوا: لأنها طهارة شرعية.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجزئ ذلك.
لحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا قد تطهر طهارة لا ترفع بمثلها الأحداث، وإنما تطهر طهارة مستحبه لا تطرأ على الأحداث فترفعها فهي طهارة مسنونة.
وبعض العلماء قيّد ذلك بما إذا كان ناسياً حدثه، فإنه يجزئه.
قال البهوتي: وإن نوى غسلاً مسنوناً كغسل الجمعة والعيد أجزأ عن الغسل الواجب لجنابة أو غيرها، إن كان ناسياً للحدث الذي أوجبه. (كشاف القناع).
قال الشيخ ابن عثيمين: وقيده بعض الأصحاب بما إذا كان ناسياً حدثه، أي: ناسياً الجنابة، فإن لم يكن ناسياً فإنه لا يرتفع؛ لأن الغسل المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا الرجل لم ينو إلا الغسل المسنون، وهو يعلم أن عليه جنابة، ويذكر ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟ وهذا القول ـ وهو تقييده بأن يكون ناسياً ـ له وجهة من النظر. (الشرح الممتع).
وهذه المسألة لها ثلاثة أحوال:
أولاً: أن ينوي بغسله عن الجمعة والجنابة، فهذا يجزئ.
قال النووي: ولو نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعاً هذا هو الصحيح. (المجموع).
وقال ابن قدامة: إن اغتسل للجمعة والجنابة غسلاً واحداً ونواهما، أجزأه، ولا نعلم فيه خلافاً. (المغني).
ثانياً: أن ينوي الجنابة، فهذا يجزئ.
ثالثاً: أن ينوي فقط غسل الجمعة، فهذا فيه الخلاف السابق.
(وكذا عكسهُ).
أي: إذا نوى غُسلاً واجباً أجزأ عن المسنون.
قال ابن قدامة:. . . لِأَنَّهُ مُغْتَسِلٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَذَا الْغُسْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَة).
(وإنْ اجتمعتْ أحداثٌ توجب وضوءاً أو غُسلاً فنوى بطهارته أحدها ارتفع سائرها).
أي: بأن فعل من نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، كما لو بَالَ، وتغوَّط، ونامَ، وأكل لحم إِبل، ونوى الطَّهارة عن البول، فإنه يجزئ عن الجميع.
لأن الحدث وصف واحد وإن تعددت أسبابه.
(وتباح معاونة المتوضئ).
أي: أن معاونة المتوضئ جائزة من غير كراهة.
أ-لحديث المغيرة بن شعبة. قال (كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإدَاوة فأخذتها، فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته، ثم جاء. . . فصببتُ عليه فتوضأ) متفق عليه.
ب-وعن أسامة بن زيد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته، قال أسامة: فجعلت أصب عليه ويتوضأ) متفق عليه.
قال النووي عن حديث المغيرة: في هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوُضُوء. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد رضي الله عنه أَنَّهُ صَبَّ عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي وُضُوئِهِ حِين اِنْصَرَفَ مِنْ عَرَفَة
ج- قال الحافظ في الفتح: روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيّع بنت مُعوّذ أنها قالت (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فقال: اسكبي، فسكبت عليه).
قال الحافظ: وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب
وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة الاستعانة بأحد، لكنه قول ضعيف.
• وقد وردت أحاديث تنهى عن الاستعانة لا يثبت منها شيء.
قال النووي: وَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيث لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ النَّهْي عَنْ الِاسْتِعَانَة. (شرح مسلم).
منها: حديث ابن عباس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكل طهوره إلى أحد) رواه ابن ماجه وهو ضعيف.
ومنها: حديث العباس بن عبد الرحمن المدني قال (خصلتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلهما إلى أحد من أهله، كان يناول المسكين بيده، ويضع الطهور من الليل ويخمره) رواه ابن أبي شيبة وهو حديث ضعيف.
• فإن قال قائل: لماذا لا يكون هذا مشروعاً، لأنه من باب التعاون على البر والتقوى؟
الجواب: لأن هذه عبادة ينبغي للإنسان أن يباشرها بنفسه، ولم يردْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلما أراد أن يتوضأ طلب من يُعينه.
[الشرح الممتع]
• إذا لم يمكنه التطهر إلا بالاستعانة فهنا تجب الاستعانة.
قال النووي: إذا لم يقدر على الوضوء لزمه تحصيل من يوضئه إما متبرعاً وإما بأجرة المثل إذا وجدها، وهذا لا خلاف فيه.
• قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: الِاسْتِعَانَة فِيهِ ثَلَاثَة أَقْسَام:
أَحَدهَا: أَنْ يَسْتَعِين فِي إِحْضَار الْمَاء مِنْ الْبِئْر وَالْبَيْت وَنَحْوهمَا، وَتَقْدِيمه إِلَيْهِ.
وَهَذَا جَائِز، وَلَا يُقَال إِنَّهُ خِلَاف الْأَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَعِين بِمَنْ يَغْسِل الْأَعْضَاء، فَهَذَا مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه، إِلَّا أَنْ يَكُون مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْره.
وَالثَّالِث: أَنْ يَسْتَعِين بِمَنْ يَصُبّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا بَأْس، وَإِلَّا فَهُوَ خِلَاف الْأَوْلَى، وَهَلْ يُسَمَّى مَكْرُوهًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا: لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت فِيهِ نَهْي، وَأَمَّا اِسْتِعَانَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأُسَامَة وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة فِي غَزْوَة تَبُوك وَبِالرُّبَيِّعِ بِنْت مُعَوِّذ فَلِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيَكُون أَفْضَل فِي حَقّه حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْبَيَانِ. (شرح مسلم).
(وتنشيف أعضائه).
أي: ويباح التنظف بعد الوضوء بمنديل أو خرقة، ورجح ذلك ابن المنذر.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه مكروه.
لحديث مَيْمُونَة قَالَتْ (أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ أَفْرَغَ بِهِ عَلَى فَرْجِهِ وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الأَرْضَ فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِلْءَ كَفِّهِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ) رواه مسلم.
وفي رواية (
…
ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ - فَرَدَّهُ، وَفِيهِ: - وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ).
وفي رواية (
…
قالت: فأتيتُهُ بِخرْقَةٍ فلم يُرِدْها، فجعل ينقض الماء بيده) رواه البخاري.
وذهب بعضهم: إلى أنه مستحب.
أ-لحديث عائشة قالت (كان لرسول صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء) رواه الترمذي وهو ضعيف.
ب- ولحديث سلمان (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه) رواه ابن ماجه، وهو ضعيف.
ج- ولحديث أبي بكر الصديق (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خرقة ينشف بها بعد الوضوء) رواه البيهقي.
وكل هذه الأحاديث لا يثبت منها شيء، وقد قال الترمذي: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.
والراجح أنه جائز (يعني مباح).
وقد صح عن أنس (أنه كان يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء) رواه ابن المنذر.
قال ابن قدامة: لَا بَأْسَ بِتَنْشِيفِ أَعْضَائِهِ بِالْمِنْدِيلِ مِنْ بَلَلِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ؛ وهو المنقول عن الإمام أحمد، وقد رُوِيَ أَخْذُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ عن عُثْمَان وَالْحَسَن بْن عَلِيٍّ وَأَنَس، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وهو الأصح، لأن الأصل الإباحة.
• وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم تنشيف أعضاء الوضوء.
فأجاب: تنشيف الأعضاء لا بأس به؛ لأن الأصل عدم المنع، والأصل فيما عدا العبادات من العقود والأفعال والأعيان الحل والإباحة حتى يقود دليل على المنع.
فإن قال قائل: كيف تجيب عن حديث ميمونة رضي الله عنها، حينما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل، قالت: فأتيته بالمنديل فرده وجعل ينفض الماء بيده؟
فالجواب: أن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم قضية عَيْن تحتمل عدة أمور: إما لأنه لسبب في المنديل، أو لعدم نظافته، أو يخشى أن يبله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، فهناك احتمالات ولكن إتيانها بالمنديل قد يكون دليلاً على أن من عادته أن ينشف أعضاءه، وإلا لما أتت به.
…
(مجموع فتاوى ابن عثيمين).
• قوله (وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ).
نستفيد جواز نفض اليدين من ماء الغسل.
وأما حديث (لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان) فحديث ضعيف.
قال ابن دقيق العيد في شرح (عمدة الأحكام) وهذا الحديث دليل على جواز نفض الماء عن الأعضاء في الغسل، والوضوء مثله، وما
استدل به على كراهة النفض - وهو ما ورد (لا تنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان) حديث ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح. (إحكام الأحكام).
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان) فهو حديث ضعيف، ومن أهل العلم من صرح بوضعه، وفي إسناده البختري بن عبيد وهو متهم بوضع الحديث، وقد حكم جماعة من أهل العلم بنكارة هذا الحديث، منهم: أبو حاتم الرازي، وابن عدي، والذهبي.
لذا قال الحافظ بن حجر في (فتح الباري) ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح -يعني حديث ميمونة- لم يكن صالحاً لأن يحتج به.
(ويسن تجديد الوضوء).
أ- لحديث أَنَس قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ
…
) رواه البخاري.
ب-ولحديث بُرَيْدَة (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئاً لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ. قَالَ: عَمْداً صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ) رواه مسلم.
ج-وجاء في حديث ضعيف (من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات) رواه أبو داود.
•
لكن ما معنى تجديد الوضوء:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: تجديد الوضوء سنة فلو صلى إنسان بوضوئه الأول ثم دخل وقت الصلاة الأخرى فإنه يسن أن يجدد الوضوء وإن كان على طهارة
وقال أيضاً رحمه الله: وتجديد الوضوء يكون مسنوناً إذا صلى بالوضوء الذي قبله، فإذا صلى بالوضوء الذي قبله فإنه يستحب أن يتوضأ للصلاة الجديدة.
مثاله: توضأ لصلاة الظهر وصلى الظهر ثم حضر وقت العصر وهو على طهارته فحينئذ يسن له أن يتوضأ تجديداً للوضوء، لأنه صلى بالوضوء السابق، فكان تجديد الوضوء للعصر مشروعاً، فإن لم يصل به بأن توضأ للعصر قبل دخول وقتها ولم يصل بهذا الوضوء ثم لما أذن العصر جدد هذا الوضوء فهذا ليس بمشروع لأنه لم يصل بالوضوء الأول.
فائدة:
قوله (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ
…
).
دليل على جواز الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يحدث.
قال النووي: وهذا جائز بإجماع من يعتد به.
أ- لحديث عمر (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ
…
).
ب- ولحديث أَنَس قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قَالَ يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ) رواه البخاري.
ج-وحديث سويد بن النعمان (أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِىَ أَدْنَى خَيْبَرَ - فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمْ دَعَا بِالأَزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّىَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ
…
).
د-وفي معناه أحاديث كثيرة: كحديث الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة وسائر الأسفار، والجمع بين الصلوات الفائتات يوم الخندق وغير ذلك.
باب المسح على الخفين
تعريف الخف:
الخف لغة: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق، جمعه خفاف.
وشرعاً: هو الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه.
والمقصود بالجوارب: ما يلبس على الرجل من قطن ونحوه، وهو ما يعرف بالشراب. (الشيخ ابن عثيمين)
(وهو جائز).
قال ابن قدامة: المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم.
ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره، إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته.
وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على خفيه.
والأدلة على جوازه كثيرة منها:
أ- عَنْ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ عَلَيْهِما) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب-وروى همام بن الحارث قال (رأيت جرير بن عبد الله بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا) قال إبراهيم النخعي: فكان يعجبهم هذا، لأن جريراً كان من آخر من أسلم). متفق عليه
قال النووي: معناه أن الله تعالى قال في سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فلو كان إسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخاً بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخراً علمنا أن حديثه يعمل به وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية.
ج-وعن حذيفة. قال (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه) متفق عليه.
والأحاديث التي ستأتي إن شاء الله في الشرح.
(في الحضر والسفر).
اتفق الفقهاء على أن المسح على الخفين في السفر جائز.
واختلفوا في المسح في الحضر على قولين، والصحيح أنه يجوز المسح على الخفين في الحضر كما يجوز في السفر.
وبهذا قال جماهير العلماء.
وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهي الرواية الراجحة عند مالك، وهو اختيار ابن عبد البر.
أ- لحديث حذيفة. قال (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه) متفق عليه.
فقد جاء في رواية (في المدينة) عند البيهقي، والحديث أخرجه مسلم بدون هذه الزيادة.
ب-ولحديث أُسَامَةَ بْن زَيْد قَالَ (دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِلَالٌ الأَسْوَاقَ فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ؛ قَالَ أُسَامَةُ: فَسَأَلْتُ بِلَالاً مَا صَنَعَ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ صَلَّى) رواه النسائي والحاكم.
وهذا الحديث يدل صراحة على أنه صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه في الحضر، إذ أن (الأسواق) مكان بالمدينة والمسح إنما كان فيه.
•
اختلف العلماء: أيهما أفضل المسح أو الغَسل على قولين:
القول الأول. أن الغَسل أفضل
وهذا مذهب الشافعي، وذهب إليه جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري. [ذكر ذلك النووي].
أ-لأنه المفروض في كتاب الله.
ب-ولأنه الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
…
[ذكر ذلك ابن قدامة].
القول الثاني: أن المسح أفضل.
وهذا مذهب أحمد.
قال النووي: وذهب إليه الحكم وحماد.
واختاره ابن المنذر، وقال: والذي أختاره أن المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، قال: وإحياء ما طعن به المخالفون من السنن أفضل من تركه.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه) رواه أحمد.
ب- أن في المسح على الخفين مخالفة لأهل البدع الذين ينكرونه، كالخوارج والروافض.
ج- أنه أيسر، لحديث (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ). متفق عليه.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن الأفضل في حق كل واحد ما كان موافقاً للحال التي عليها قدمه، فإن كان لابساً للخف فالأفضل المسح، وإن كانت قدماه مكشوفتين فالأفضل الغسل، ولا يلبس الخف من أجل أن يمسح عليه.
ويدل لهذا حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم ليغسل قدميه في الوضوء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) فهذا يدل على أن المسح أفضل في حق من كان يلبس الخفين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفصل الخطاب: أن الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه. فالأفضل لمن قدماه مكشوفتان: غسلهما ولا يتحرى لبس الخف ليمسح عليه، كما كان عليه أفضل الصلاة والسلام يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح قدميه إذا كان لابسا للخف. (الإنصاف).
واختاره ابن القيم في زاد المعاد، وقال: ولم يكن يتكلف ضدّ حاله التي عليها قدماه، بل إن كانت في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانت مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل.
• خلع الجوربين عند كل وضوء احتياطاً للطهارة، هذا خلاف السنة وفيه تشبه بالروافض الذين لا يجيزون المسح على الخفين، والنبي صلى الله عليه وسلم، قال للمغيرة حينما أراد نزع خفيه قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين. ومسح عليهما. (ابن عثيمين).
(في الطهارة الصغرى دون الكبرى).
هذا الشرط الأول من شروط المسح على الخفين: أن يكون المسح في الطهارة الصغرى دون الكبرى.
قال ابن قدامة: ولا يجزئ المسح في جنابة ولا غسل واجب ولا مستحب لا نعلم في هذا خلافاً.
وقال الحافظ ابن حجر: المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع.
لحديث صَفْوَان بْن عَسَّال رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْم) رواه الترمذي.
(إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ) أي: فننزعها ولو قبل مرور ثلاثة أيام، والجنابة: إنزال المني. (وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْم) أي: ولكن لا ننزعها من غائط وبول ونوم إلا إذا مرت المدة المقررة.
(للمقيم يوماً وليلة ولمسافر ثلاثةً بلياليها).
هذا الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين:
وهي: أن تكون في المدة المحددة شرعاً: وهي ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم.
أ-لحديث عَلِي بْن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَال (جَعَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ. يَعْنِي: فِي اَلْمَسْحِ عَلَى اَلْخُفَّيْن). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
ب- ولحديث صَفْوَان بْن عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْم). أَخْرَجَهُ النَّسَائِي.
والقول بأن المسح على الخفين مؤقت للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن؛ هو مذهب الجمهور.
فهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء.
…
[قاله النووي].
وممن قال به من الصحابة: علي، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة.
وممن قال به من التابعين: شريح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.
قال ابن عبد البر: وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك، وهو الأحوط عندي.
قال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء. [قاله النووي].
(من حدثٍ بعد لُبسٍ).
أي: أن المدة تبتدئ من أول حدث بعد اللبس. وهذا مذهب الجمهور.
…
[ذكر ذلك الشنقيطي].
أ-واستدل هؤلاء بزيادة في حديث صفوان (من الحدث إلى الحدث)، قال النووي: وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.
ب- وقالوا: إن الحدث سبب للمسح على الخفين، فعلق الحكم به.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه من أول مسح بعد الحدث.
وممن قال بهذا الأوزاعي، وأبي ثور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وداود، ورجح هذا القول النووي، واختاره ابن المنذر.
واحتج هؤلاء بأحاديث التوقيت في المسح، ووجه احتجاجهم بها:
أن قوله صلى الله عليه وسلم (يمسح المسافر ثلاثة أيام) صريح في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح، وهذا القول هو الراجح.
مثال يوضح ذلك:
رجل توضأ لصلاة الفجر، ولبس الخفين، وبقي على طهارته إلى الساعة (9) ضحىً، ثم أحدث ولم يتوضأ، وتوضأ في الساعة (12).
المذهب تبتدئ المدة من الساعة (9)، وعلى القول الراجح تبتدئ من الساعة (12). [الشرح الممتع]
• على القول الراجح كما سبق، إذا مسح بدأت المدة، لكن اختلف العلماء لو كان مسحه لتجديد الوضوء، هل تبدأ به المدة أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
فقيل: تبتدئ به المدة من المسح ولو لتجديد وضوء.
وقيل: لا بد أن يكون المسح لوضوء واجب. والله أعلم.
(بشرط أن يلبسهما على طهارة).
هذا هو الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين: وهو أن يلبسهما على طهارة.
وهذا شرط متفق عليه.
قال في المغني: لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح على الخفين.
وقال الشنقيطي: أجمع العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف.
لحديث المُغِيرَة بْن شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ عَلَيْهِما) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(دَعْهُمَا) أي: اتركهما، والضمير يعود على الخفين. (أدخلتهما) أي: القدمين، بدليل رواية أبي داود (دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان).
• واختلف العلماء: هل يشترط كمال الطهارة؟ كمن غسل رجله اليمنى فأدخلها في الخف قبل أن يغسل رجله اليسرى، ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها أيضاً في الخف، على قولين:
القول الأول: لا يجزئ، بل لا بد من لبس الخفين على كمال الطهارة.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في رواية. [كما ذكر ذلك النووي وابن قدامة].
ورجحه النووي وابن حجر والشيخ ابن باز.
أ-لحديث المغيرة (أدخلتهما طاهرتين) وفي رواية أبي داود (دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان).
قال ابن قدامة: فجعل العلة وجود الطهارة فيهما جميعاً وقت إدخالهما.
ب-ولحديث أنس عند الدار قطني: (إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصلّ فيهما إن شاء ولا يخلعهما إلا من جنابة).
…
فقوله (إذا توضأ أحدكم) يشعر بشرطية الوضوء.
فالجمهور حملوا الطهارة في قوله (أدخلتهما طاهرتين) على كمالها، لأنه إذا غسل رجله اليمنى ثم ألبسها الخف، فقد لبس الخف وهو محدث.
القول الثاني: لا يشترط كمال الطهارة.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والمزني، وسفيان الثوري، وابن المنذر. [ذكر ذلك النووي].
قالوا: لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف.
والقول الأول أصح وأحوط.
• إذا تيمم لفقد الماء، ثم لبس الخف، فهل إذا وجد الماء يمسح على الخف؟
الصحيح أنه لا يمسح عليه إذا وجد الماء.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير) رواه عبد الرزاق.
فقوله (فليمسه بشرته) هذا أمر بوجوب مس الماء للبشرة، وكلمة (بشرته) مفرد مضاف يعم جميع البشرة إن كان غسلاً عن جنابة، ويعم جميع الأعضاء الأربعة إن كانت الطهارة طهارة صغرى.
ب-وأيضاً بوجود الماء رجع المتيمم حدثه السابق، بما ذلك القدمان، وتكون تلك الطهارة بطلت من أصلها، فكأنه لبس الخفين على غير طهارة. (أحكام المسح على الحائل للدبيان).
ج- لأن الأحاديث قيدت ذلك بطهارة الماء.
فقوله صلى الله عليه وسلم (أدخلتهما طاهرتين) المراد خصوص طهارة الماء ولا يدخل في ذلك طهارة التيمم، فلا يجوز أن يمسح على الجوربين إذا لبسهما على طهارة تيمم.
مثال: إنسان في البر ولم يكن عنده ماء وتيمم، ولبس الخف، ثم وجد الماء بعد ذلك، - طبعا لابد أن يستعمل الماء - فالراجح أنه لا يجوز أن يمسح على الخف اذا لبسه على طهارة تيمم.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا تطهَّر الإنسان بالتيمم ولبس الخفين، فهل يجوز له أن يمسح عليهما إذا وجد الماء؟
فأجاب: لا يجوز له أن يمسح على الخفين إذا كانت الطهارة طهارة تيمم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني أدخلتهما طاهرتين". وطهارة التيمم لا تتعلق بالرِّجل، إنما هي في الوجه والكفين فقط، وعلى هذا أيضاً لو أن إنساناً ليس عنده ماء، أو كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء في الوضوء، فإنه يلبس الخفين، ولو كان على غير طهارة، وتبقيان عليه بلا مدة محدودة حتى يجد الماء إن كان عادِماً له، أو يشفى من مرضه إن كان مريضاً، لأن الرِّجل لا علاقة لها بطهارة التيمم.
(ساتر للمفروض).
أي: يشترط للمسح على الخفين أن يكون ساتراً للمفروض، فلا يجوز المسح على مخرق أو شفاف.
أ- قالوا: لأنه غير ساتر للقدم.
ب- ولأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل، والمستور حكمه المسح، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز المسح على جميع الخفاف وإن تخرقت مادام يمكن متابعة المشي فيها.
نقله ابن المنذر: عن سفيان الثوري وإسحاق وأبي ثور.
قال سفيان الثوري: (امسح عليهما ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة) رواه عبد الرزاق، واستدلوا:
أ- أن نصوص المسح على الخفين مطلقة غير مقيدة بمثل هذه القيود، وما أطلقه الله ورسوله فليس لأحد تقييده.
ب- أن الحكمة من مشروعية المسح التيسير على الناس ورفع الحرج، وذكر مثل هذه الشروط قد يضيق عليهم، ولا سيما المسافر إذا انخرق خفه، ولا يمكنه إصلاحه في السفر، فلو لم يجز المسح عليه لم يحصل مقصود الرخصة.
ج- أن أكثر الصحابة فقراء، وغالب الفقراء لا تخلوا خفافهم من شق وفتق، ولا سيما في الأسفار، فإذا كان هذا غالباً في الصحابة ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم دل على أنه ليس بشرط.
وهذا القول اختيار ابن تيمية.
وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن تيمية عن قول من قال: إنه لا يجتمع مسح وغسل في عضو واحد، قال: هذا منتقض بالجبيرة إذا كانت في نصف الذراع، فإنك تغسل الذراع، وتمسح الموضع الذي فيه الجبيرة، فاجتمع مسح وغسل في عضو واحد.
(يثبت بنفسه).
أي: يشترط للمسح على الخفين أن يثبت بنفسه، فإن كان لا يثبت إلا بشده فلا يجوز المسح عليه.
فلو لبس شراباً واسعاً، واحتاج إلى شده على الرِّجل وإلا سقط مع المشي لم يمسح عليه.
لكن الصواب أنه يمسح عليه، لأن اشتراط ثبوته بنفسه لا دليل عليه، فالنصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة، فإذا كان ينتفع به ويمشي؛ فلماذا لا يمسح عليه؟
•
اختلف العلماء: في حكم المسح على اللفافة. (وهي التي يلفها الإنسان على قدمه) على قولين:
القول الأول: لا يجوز مطلقاً.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- وذلك لأن اللفائف لا تثبت بنفسها. (قاله ابن قدامة).
ب-أن المسح إنما ورد على الخف، وما هو في معناه، وأما اللفائف والخِرَق التي تلف على الأرجل فلا تسمى خفاً، ولا هي في معناه، فلا يمسح عليها إلا بدليل.
قال النووي: لو لفّ على رجلهِ قطعة من أَدَم واستوثق شده بالرباط
…
لم يجز المسح عليه، لأنه لا يسمى خفاً، ولا هو في معناه.
ج- حكي الإجماع على عدم الجواز.
القول الثاني: يجوز المسح عليها.
واختار هذا القول ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
أ- لحديث ثَوْبَان رضي الله عنه قَال (بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى اَلْعَصَائِبِ - يَعْنِي: اَلْعَمَائِمَ -وَالتَّسَاخِينِ- يَعْنِي: اَلْخِفَاف) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
(اَلْعَصَائِبِ) جمع عصابة، وهي العمامة، سميت بذلك لأن الرأس يعصب بها. (وَالتَّسَاخِينِ) هي الخفاف.
حيث أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على التساخين، وهي كل ما يلف على القَدَم، ويشد عليها خفاً كان أو غيره.
ب-ولأن الغرض الموجود في المسح على الخفاف موجود في لبس اللفافة.
ج- أن اللفائف أولى بالجواز من الخفاف والجوارب، لأن نزعها أشق.
وهذا القول هو الصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب أنه يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر، إما إصابة البرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى.
(وَصِفَةُ مَسَحِ اَلْخُف أن يمسح أعلاه).
أي: أن المشروع في كيفية المسح على الخف، هو مسح أعلاه.
لحديث عَلِي رضي الله عنه قَالَ (لَوْ كَانَ اَلدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ اَلْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْه) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَن.
• وأما مسح أسفل الخف فلا يشرع.
وأما حديث المغيرة قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) فهو حديث ضعيف رواه أبو داود وغيره.
قال ابن القيم: لم يصح عنه أنه مسح أسفلهما.
• لم يرد حديث في كيفية المسح على الخف، فلذلك يكفي المسلم والمسلمة إمرار اليد على القدم اليمين واليسرى بحيث يصدق عليه أنه مسح.
وصفة المسح: أن يُمِرّ اليد اليمنى مبلولة بالماء مفرجة الأصابع على الرجِل اليمنى، واليسرى كذلك، ويكون المسح مرة واحدة، ولا يشرع تكراره.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وكثير من الناس يمسح بكلا يديه على اليمين، وكلا يديه على اليسرى، وهذا لا أصل له فيما أعلم.
•
اختلف العلماء في مسح الخفين هل يمسحان كالأذنين جميعاً، أم تقدم اليمين على قولين:
القول الأول: تقدم اليمين.
لأن المسح بدل من الغسل، والبدل له حكم المبدل، فكما أنه يشرع تقديم غسل اليمنى في الرجلين واليدين، فكذلك يشرع تقديم مسح اليمنى على اليسرى.
القول الثاني: يمسحان جميعاً.
اليد اليمنى تمسح الرجل اليمنى، واليد اليسرى تمسح الرجل اليسرى في نفس اللحظة.
أ-لأن في حديث المغيرة قال: (فمسح عليهما) ولم يقل: بدأ باليمين، ولو كان مشروعاً لنقلت هذه الصفة وحفظت، لأنه من شرع الله سبحانه وتعالى.
ب- القياس على الأذنين، فطهارة المسح لا تيمن فيها، فكما أن الأذنين عضوان مستقلان، ومع ذلك لم يشرع التيمن فيهما، فكذلك الرجلان في حالة المسح.
وهذا أرجح والله أعلم.
(ومن مسح مسافراً ثم أقام، أو مقيماً ثم سافر أتمَّ مسحَ مقيم).
أي: من مسح وهو مسافر ثم أقام، فإنه يمسح مسح مقيم.
لأن رخص السفر قد انتهت بالوصول إلى بلده.
وهذا قول جمهور العلماء.
فلو مسح المسافر يوماً وليلة فما فوق ثم قدم بلده الذي يسكن فيه، فلا يجوز له في هذه الحالة المسح على الخفين بل ينزعهما.
قال الإمام النووي: مذهب الشافعي الذي لا خلاف فيه بين أصحابه أنه إذا مسح في السفر ثم أقام أتم مسح مقيم، فإن كان قد مضى بعد الحدث دون يوم وليلة تممها، وإن كان مضى يوم وليلة وأكثر في السفر انقضت المدة بمجرد قدومه. (المجموع).
• قوله (أو مقيماً ثم سافر أتمَّ مسحَ مقيم).
وهذا المذهب.
أ- قالوا: لأنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر.
ب- قياساً على الصلاة، فلو أنه أحرم بالصلاة في سفينة في البلد، فسارت وفارقت البلد وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يتم مسح مسافر.
وهذا قول الحنفية.
فلو مسح يوماً ثم سافر، فإنه يمسح يومين زيادة على اليوم، فيكون قد مسح ثلاثة أيام.
لأن رخص السفر قد حلت له.
والأول أصح.
(ومتى مسحَ ثم انقضت المدة، أو خلع قبلها بطلت طهارته).
أي: من مبطلات الطهارة انتهاء مدة المسح، وخلع الخف.
قوله (ومتى مسحَ ثم انقضت المدة
…
).
أي: إذا تمت المدة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إذا أراد أن يصلي أن يستأنف الطهارة.
وهذا مذهب الحنابلة.
قالوا: لأن المسح أقيم مقام الغَسل في المدة، فإذا انقضت المدة بطلت الطهارة في الممسوح، وإذا بطلت الطهارة في الممسوح، بطلت في سائر الأعضاء، لأن الحدث لا يتبعض.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تبطل طهارته.
وهو اختيار ابن حزم ورجحه ابن تيمية.
أ-قالوا: إن أحاديث التوقيت للمقيم والمسافر تضمنت ابتداء وانتهاء مدة المسح لا الطهارة، فهي تنهى أن يمسح أحدنا أكثر من يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام للمسافر.
ب- أن هذا الرجل قد تطهر بمقتضى الكتاب والسنة، فلا تنتقض طهارته إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ولا دليل هنا.
والله أعلم.
• قوله (أو خلع قبلها بطلت طهارته).
أي: أنه إذا خلع خفه بطلت طهارته، وعليه أن يستأنف الطهارة.
وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق، ورجحه الشيخ ابن باز.
لأن القدم حكمه في الأصل الغَسل، وإنما انتقل إلى المسح بدلاً من الغسل لتغطية القدم، فإذا خلع الخف فقد عاد حكمه إلى وجوب الغسل.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينقض الوضوء.
وهو قول قتادة، والحسن، وابن أبي ليلى وجماعة، ونصره ابن حزم في (المحلى) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن المنذر، وقال النووي
في (المجموع): وهو المختار الأقوى.
أ-ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي ظبيان قال (رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن فخلعهما) زاد البيهقي: (ثم تقدم فأم الناس).
وهذا الفعل من خليفة رائد، وهو ممن أمرنا باتباع سنته.
ب- أن الطهارة لا تبطل إلا من حدث، وخلع الخف ليس بحدث.
ب-لعدم الدليل على النقض.
ج-قاس بعضهم بمن حلق رأسه بعد مسحه، فإنه لا يجب عليه إعادة مسح الرأس. (وهذا القياس كما قال الحافظ ابن حجر فيه نظر)
والراجح القول الأول.
(ويجوز المسح على العمامة).
وهذا مذهب الحنابلة، أنه يجوز الاقتصار على مسح العمامة.
قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وأنس.
أ- لحديث اَلْمُغِيرَة بْن شُعْبَة رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى اَلْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
ب- ولحديث عَمْرِو بْنِ أُمَيَّة الضَّمْرِيِّ قَالَ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ) رواه البخاري.
ج- وعنْ بِلَالٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ) رواه مسلم.
د- ولحديث ثوبان قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين) رواه أبو داود. (العصائب: العمائم، والتساخين: الخفاف).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز الاقتصار على مسح العمامة.
وهذا مذهب الجمهور، فهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية.
قال ابن رشد: اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل. . .، ومنع من ذلك جماعة منهم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة. (بداية المجتهد).
وقال النووي: وأما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح شيئاً من رأسه، فلا يجزيه بلا خلاف عندنا، وهو مذهب أكثر العلماء. (المجموع).
أ-لقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) قالوا: إن الله فرض المسح على الرأس، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس.
ب-ولحديث أنس قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عِمامةٌ قِطْرِية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة) رواه أبو داود.
والراجح القول الأول.
قال ابن القيم: ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمّل على العمامة
…
وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه.
وقال أيضاً: كان يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة.
قال الشوكاني: الحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح، فقصر الأجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين.
وأما الجواب عن أدلة القول الثاني (لا يجوز المسح على العمامة):
أما الآية، فإن النص ورد في المسح على الرأس، وهذا لا ينافي إثبات المسح على العمامة بدليل آخر.
وأما حديث أنس (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عِمامةٌ قِطْرِية):
أولاً: الحديث ضعيف.
ثانياً: وعلى فرض صحته، فقد قال ابن القيم: ومقصود أنس به: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينفِ التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه.
• اختلف العلماء: هل يشترط لبس العمامة أن يكون على طهارة على قولين:
فقال بعضهم: يشترط أن يلبسها على طهارة.
وهذا مذهب الحنابلة.
قالوا: قياساً على الخف، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الخفين (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).
وقال بعضهم: لا يشترط لبسها على طهارة.
وهذا مذهب الشافعي واختاره ابن تيمية.
لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في المسح على العمامة شيء من ذلك، وهو موضع حاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
قال الشوكاني: قال ابن حزم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة والخمار، ولم يوقت ذلك بوقت.
• واختلفوا أيضاً: هل يشترط للعمامة توقيت كالخف أم لا على قولين:
فقال بعضهم: أنه يشترط لها ذلك.
قياساً على الخف.
وقال بعضهم: لا يشترط ذلك.
وهذا قول ابن حزم، ورجحه الشوكاني، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
• الصحيح أنه لا يجب مسح مقدم الرأس وجوانبه، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.
•
مقدار ما يمسح من العمامة:
يمسح أكثر العمامة، فلو مسح جزءاً منها لم يصح، ويستحب إذا كانت الناصية بادية أن يمسحها مع العمامة.
(ويجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتعدّ بشدِّها موضع الحاجة إلى أن يحلها).
الجبيرة: هي ما يجبر به العظم المكسور من أعواد تشد عليه أو خرقة تلف عليه، ويدخل في ذلك الوسائل الطبية كالجبس على الكسور واللزقات على أجزاء من اليد أو على الجروح ونحو ذلك.
وقد ورد عدة أحاديث في المسح على الجبيرة لكنها فيها ضعف.
عن علي قال: (انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر). رواه ابن ماجه وهو لا يصح. الزند: طرف الذراع في الكف.
حديث جابر في الرجل الذي شُجَّ فاغتسل فمات: (إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خِرقةً ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). رواه أبو داود وفيه ضعف
فذهب بعض العلماء: أنه لا يمسح على الجبيرة.
وهذا اختيار ابن حزم، ورجحه الشيخ الألباني.
لأنه لم يثبت حديث تقوم به حجة.
قال البيهقي: لا يثبت في هذا الباب شيء.
وذهب بعضهم: إلى أنه يمسح على الجبائر.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-للأحاديث السابقة. (علي، جابر).
قالوا: إن الأحاديث وإن كان فيها ضعف لكن يقوي بعضها بعض، وهذا ما ذهب إليه الصنعاني والشوكاني.
ج-أنه ثبت عن ابن عمر أنه كان يمسح على الجبائر.
فقد روى البيهقي من طريق نافع عن ابن عمر (أنه توضأ وكفه معصوبة فمسح على العصائب وغسل سوى ذلك). قال البيهقي: هو عن ابن عمر صحيح.
د- وأيضاً: فإن العضو إذا عجز عن تطهيره طهّره ببدله، وأقرب البدل هو المسح، قياساً على مسح الخفين، فإن هذا عضو وجب غسله، وستر بما يسوغ ستره شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين.
•
بعض الفروق بين المسح على الخف والمسح على الجبيرة:
أولاً: لا يشترط أن توضع على كمال طهارة بخلاف الخف.
ثانياً: يمسح عليها في الطهارة الصغرى والكبرى، لأن في نزعها ضرر، بخلاف المسح على الخف فلا يمسح عليه في الطهارة الكبرى.
ثالثاً: المسح يكون عليها كلها وليس على بعضها، لأن الأصل أن البدل له حكم المبدل ما لم ترد السنة بخلافه، وهذا المسح بدل عن الغسل، فكما أن الغسل يجب أن يعم العضو كله، فكذلك المسح يجب أن يعم جميع الجبيرة.
رابعاً: المسح عليها غير مؤقت، بل يمسح عليها حتى يحصل البرء، لأن مسحها للضرورة فيتقدر بقدرها، بخلاف الخفين فيمسح عليها للمقيم يوماً وليلة.
خامساً: لا يجوز المسح عليها إلا عند الحاجة، بخلاف المسح على الخفين، فيجوز من غير حاجة.
• وقوله (إذا لم يتعدّ بشدِّها موضع الحاجة إلى أن يحلها) وذلك لأن الجبيرة جاءت لحاجة، فتقدر بقدرها، والحاجة هي الكسر، وكل ما قرب منه مما يحتاج إليه في شدها، فإن كان هناك زائد فيها ولا حاجة له وجب نزعه لكي يتمكن من غسل ما تحته.
•
اختلف العلماء: هل يشترط وضع الجبيرة على طهارة؟
فقيل: يشترط أن توضع على طهارة.
وبه قال الإمام الشافعي، وأحمد.
قياساً على الخفين، فكما يشترط لبس الخفين على طهارة لجواز المسح عليها، فكذلك يشترط تقدم الطهارة قبل شد الجبيرة، لأنه مسح حائل أشبه الخف.
وقيل: لا يشترط.
وبه قال أبو حنيفة، ومالك.
واختار هذا ابن قدامة، ورجحه ابن تيمية.
وقياسها على الخفين في هذه المسألة قياس فاسد، فإن الجرح يقع فجأة، أي في وقت لا يعلم الماسح وقوعه فيه، فلو اشترطت الطهارة والحالة هذه لأفضى إلى الحرج والمشقة، وهما منتفيان شرعاً.
ولأنها تأتي فجأة.
قال ابن تيمية: ومن قال: لا يمسح عليها إلا إذا لبسها على طهارة ليس معه إلا قياسها على الخفين، وهو قياس فاسد.
•
الحكم إذا كان على العضو جرح لكنه مكشوف:
يتيمم عنه.
فإذا كان على العضو جبيرة فإنه يمسح عليها عند الوضوء ولا يحتاج إلى التيمم، وإنما يحتاج إلى التيمم إذا كان العضو مكشوفاً، لا جبيرة عليه، ولم يستطع غسله ولا مسحه بالماء، فإنه يتيمم عنه.
• فإذا كان هناك جرح في أحد أعضاء الوضوء، فهذا الجرح إما أن يكون مكشوفاً وإما أن يكون عليه لصوق أو رباط.
فإن كان عليه لصوق أو رباط فإنه يغسل الجزء الصحيح ثم يبل يده بالماء ويمسح على اللصوق، ولا يحتاج مع هذا المسح إلى التيمم.
أما إن كان الجرح مكشوفاً فالواجب غسله بالماء إن أمكن، فإن كان الغسل يضره، وأمكن مسحه، فالواجب مسحه، فإن تعذر، فإنه يُبقي هذا الجرح بلا غسل ولا مسح، ثم إذا انتهى من الوضوء تيمم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع"(1/ 169): قال العلماء رحمهم الله تعالى: إن الجرح ونحوه إما أن يكون مكشوفاً أو مستوراً.
فإن كان مكشوفاً فالواجب غسله بالماء، فإن تعذر غسله بالماء فالمسح للجرح، فإن تعذر المسح فالتيمم، وهذا على الترتيب.
وإن كان مستوراً بما يسوغ ستره به، فليس فيه إلا المسح فقط، فإن ضره المسح مع كونه مستوراً فيعدل إلى التيمم، كما لو كان مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله " انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: إن كان عليه جبيرة مسح عليها، وإن كان مكشوفاً تيمم عنه.
باب نواقض الوضوء
أي مبطلات الوضوء.
ونواقض الوضوء تنقسم إلى قسمين:
1 -
قسم متفق عليه.
2 -
قسم مختلف فيه.
(ينقض ما خرج من سبيل).
السبيل: الطريق، والمراد مخرج البول والغائط [القبل والدبر].
والخارج من السبيلين: كالبول، والغائط، والمني، والمذي، والريح.
البول والغائط:
قال تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ).
وعنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم (. . . ولكن من بول وغائط ونوم).
خروج الريح:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحاً) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن زيد. قال (شُكِىَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) متفق عليه.
(فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ اَلْمَسْجِدِ) أي: لأجل أن يتوضأ. (حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا) قال النووي: معناه وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. و (أو) للتنويع.
والمذي:
لحديث علي بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ اَلْمِقْدَادَ بْنَ اَلْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ? فَقَالَ: "فِيهِ اَلْوُضُوءُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيّ، وفي رواية أخرى (اغسل ذكرك وتوضأ).
قال ابن حجر: وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، وقد لا يحس بخروجه.
وقد نقل ابن قدامة رحمه الله في " المغني " إجماع العلماء على أن خروج المذي ناقض للوضوء.
قال ابن رجب: وأما إذا خرج على الوجه المعتاد فإنه يوجب الوضوء باتفاقهم.
• الحديث يدل على أن المذي نجس وهو إجماع.
قال النووي رحمه الله: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي. (المجموع).
الودي:
قال ابن قدامة: ليس فيه وفي بقية الخوارج إلا الوضوء.
وعرفه ابن قدامة بقوله: هو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول كدِراً.
فائدة:
قال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعاً.
وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي.
• يستثنى من الخارج من السبيلين ممن حدثه دائم فلا يبطل وضوءه بالحدث الدائم للحرج والمشقة.
• الخارج النادر كالدم والدود والحصى، فهذا ينقض، لأنه خارج من مخرج الحدث، ولأنه لا يخلو من بّلةٍ تتعلق به.
(والدم الكثير عرفاً).
أي: ومن نواقض الوضوء خروج الدم، لكن بشرط أن يكون كثيراً.
وهذا هو المذهب.
وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعلقمة.
أ-لحديث أبي الدرداء قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ) رواه الترمذي.
ب-حديث عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلَسٌ، أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأ) رواه ابن ماجه وهو ضعيف.
ج-قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة (إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ).
قالوا: فَعَلَّلَ وجوبَ الوضوءِ بأنه دم عرق، وكلُّ الدماء كذلك.
واختلف العلماء في قدر الكثير:
قيل: قدر الكف. وقيل: قدر الدرهم. وقيل: يرجع إلى العرف. وقيل: المعتبر أوساط الناس قلة وكثرة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء قليلاً كان أو كثيراً.
وهذا مذهب الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ-لما جاء في صحيح البخاري تعليقاً عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع، فرمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته) رواه أحمد وأبو داود.
ب- (وصلى عمر وجرحه يثعب دماً) رواه مالك.
ج-وقال الحسن (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم).
د-لعدم الدليل.
ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ السعدي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس مع الموجبين دليل صحيح، بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب، لكن الاستحباب متوجه ظاهر.
وقال الشيخ السعدي: الصحيح أن الدم والقيء ونحوهما لا ينقض الوضوء قليلها وكثيرها لأنه لم يرد دليل على نقض الوضوء بها والأصل
بقاء الطهارة.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الدم الكثير الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، سواء خرج من الأنف أو من جرح أو من الرأس، أو من أي مكان من البدن، إلا ما خرج من السبيلين، وذلك لأنه لا دليل على أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء.
(وزوال العقل إلا النوم اليسير جالساً أو قائماً).
أي: ومن نواقض الوضوء زوال العقل، وزوال العقل ينقسم إلى قسمين:
أولاً: زواله بالكلية، وهذا بالجنون.
ثانياً: زواله بمعنى تغطيته لوجود عارض لمدة معينة، كنوم أو إغماء، أو سكر ونحو ذلك.
• فأما زواله بالجنون، أو الإغماء أو السكر، فهو ناقض للوضوء قليله وكثيره.
وهذا بالإجماع، لأن هذا فقد للعقل، ولأنه لو نُبِّه لم ينتبه.
قال ابن قدامة:
…
فَأَمَّا غَيْرُ النَّوْمِ، وَهُوَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاء وَالسُّكْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ إجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ حِسُّهُمْ أَبْعَدُ مِنْ حِسِّ النَّائِمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَبِهُونَ بِالِانْتِبَاهِ، فَفِي إيجَابِ الْوُضُوءِ عَلَى النَّائِمِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ. (المغني)
وقال النووي: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء، وقد نقل الإجماع فيه ابن المنذر وآخرون. (المجموع).
وسُئل الشيخ ابن عثيمين: هل ينتقض الوضوء بالإغماء؟
فأجاب: نعم، ينتقض الوضوء بالإغماء، لأن الإغماء أشدُّ من النوم، والنوم يَنقض الوضوء إذا كان مستغرقاً، بحيث لا يدري النائم لو خرج منه شيء، أمّا النوم اليسير الذي لو أحدث النائم لأحسُّ بنفسه، فإن هذا النوم لا ينقض الوضوء، سواء من مُضطجع أو قاعد متكئ أو قاعد غير متكئ، أو أي حال من الأحوال، ما دام لو أحدث أحسَّ بنفسه، فإنه نومه لا ينقض الوضوء، فالإغماء أشد من النوم فإذا أُغمي على الإنسان، فإنه يجب عليه الوضوء.
• وأما النوم فقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
فذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينقض الوضوء بأي حال.
ونسبه النووي لأبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وشعبة.
أ- لحديث عن أنس -عند مسلم- قال (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون).
ولفظ أبي داود (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَهْدِهِ- يَنْتَظِرُونَ اَلْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ).
وهذا اللفظ عند أبي داود أوضح من لفظ مسلم، فإن فيه (حتى تخفقَ) وهذا يبين نوع النوم الذي ورد في لفظ مسلم وهو أنه نعاس وخفْقٌ، وليس نوماً مستغرقاً ثقيلاً يزول معه الشعور بما قد يخرُج.
وفي رواية للبيهقي (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون).
ب- عن أنس. قال (أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ: وقع عند إسحاق بن راهوية في مسنده، عن ابن علية عن عبد العزيز في هذا الحديث (حتى نعس بعض القوم) وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر عن أنس، وهو يدل على أن النوم لم يكن مستغرقاً.
ج-عن عائشة قالت (أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم
…
) متفق عليه.
القول الثاني: أنه ناقض مطلقاً.
ونسبه النووي للحسن البصري، والمزني، وأبي عبيد والقاسم بن سلام، وإسحاق بن راهوية.
قال ابن المنذر: وبه أقول.
لحديث صفوان بن عسال قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا
…
ولكن من بول وغائط وريح) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: قرن النوم بالبول والغائط في إيجاب الوضوء منه.
القول الثالث: أنه إذا نام ممكناً مقعدته على الأرض لم ينقض، سواءً قل أو كثر.
قال النووي: وهذا مذهب الشافعي.
قال الشوكاني: وهذا أقرب المذاهب عندي، وبه يجمع بين الأدلة.
القول الرابع: أن كثير النوم ينقض الوضوء، وقليله لا ينقض بحال.
ونسبه النووي للزهري، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وهذا القول هو الراجح جمعاً بين الأدلة.
فحديث صفوان يدل على أن النوم ناقض مطلقاً.
وحديث أنس (نوم الصحابة) يحمل على أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء.
ويؤيد هذا الجمع: أن النوم ليس حدثاً في نفسه وإنما هو دليل على خروج الريح، ولذلك إذا نام طويل ربما يخرج منه ريح، ويؤيد هذا حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) رواه أحمد.
السه: اسم لحلقة الدبر. وكاء: الوكاء الخيط الذي يربط به، والمعنى: اليقظة وكاء الدبر، أي حافظة ما فيه من الخروج، لأنه ما دام مستيقظاً أحس بما يخرج منه.
(ولمس الذكَرِ بيدهِ).
أي: ومن نواقض الوضوء مس الذكر بيده.
وإلى هذا ذهب عمر، وابنه عبد الله، وابن عباس، وعائشة، وسعيد، وعطاء، والشافعي، وأحمد وداود وابن حزم.
لحديث بُسْرَة بِنْت صَفْوَانَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ) أَخْرَجَهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان.
وَقَالَ اَلْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا اَلْبَابِ.
• يشترط أن يكون المس من غير حائل.
أ-لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا أفضى أحدكم إلى فرجه ليس دونها حجاب ولا ستر فقد وجب عليه الوضوء) رواه ابن حبان وصححه الحاكم وابن عبد البر.
ب-ولأن مع الحائل لا يسمى مساً. (قاله ابن عثيمين).
وقد اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن مس الذكر من وراء حائل لا ينقض الوضوء.
قال ابن حزم: والماس على الثوب ليس ماساً.
• وذهب بعض العلماء: أنه لا ينقض الوضوء.
وهو قول الحنفية واختاره ابن المنذر.
لحديث طلق بن علي وفيه (قَالَ اَلرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي اَلصَّلَاةِ، أَعَلَيْهِ وُضُوءٍ? فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ) رواه أبوداود
والراجح القول الأول.
• وأجاب أصحاب القول الأول عن حديث طلق الذي يفيد أنه لا ينقض الوضوء بأجوبة:
أولاً: أنه ضعيف.
فقد ضعفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدار قطني، والبيهقي، وابن الجوزي، وادعى النووي أن الحفاظ اتفقوا على تضعيفه، وردّه ابن عبد الهادي فقال: أخطأ من حكى الاتفاق على ضعفه.
ثانياً: من العلماء من قال إنه منسوخ بحديث بسرة.
وممن قال بالنسخ: ابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي، والبيهقي، وابن حزم.
لأن حديث طلق متقدم، وحديث بسرة متأخر، ودليل تقدمه أنه قدم المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبنون المسجد في أول الهجرة.
ثالثاً: أن حديث بسرة أكثر رواة وأصح إسناداً وأقرب إلى الاحتياط، فإن له شواهد كثيرة، وقد ذكر هذه الشواهد الزيلعي في (نصب الراية) وابن حجر في (تلخيص الحبير).
قال ابن حجر: وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وزيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وأم حبيبة وعائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وعلي بن طلق والنعمان بن بشير وأنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة وأروى بنت أنيس.
وقال النووي: صححه الجماهير من الأئمة الحفاظ، واحتج به الأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهم أعلام أهل الحديث والفقه، ولو كان باطلاً لم يحتجوا به. (المجموع).
رابعاً: أن حديث النقض بالمس ناقل عن الأصل، وحديث عدم النقض مبق على الأصل، والناقل عن الأصل أولى بالترجيح، فإن معه زيادة علم.
• هذا الحكم عام للرجال والنساء.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ-لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) رواه أحمد والبيهقي، وقد نقل الترمذي في (العلل الكبير) عن الإمام البخاري تصحيحه.
ب- لعموم (من مس فرجه فليتوضأ) قال الشوكاني: ولفظ (من) يشمل الذكر والأنثى، ولفظ الفرج يشمل القبُل والدبر، من الرجل والمرأة، وبه يرد مذهب من خصص ذلك بالرجال وهو مالك.
ج- ما جاء عن عائشة قالت (إذا مست المرأة فرجها توضأت) رواه البيهقي وسنده صحيح.
• اختلف العلماء: هل المس يكون بباطن الكف فقط، أم بباطنه وظاهره على قولين:
القول الأول: أنه لا فرق بين باطن الكف وظهره.
وبه قال عطاء، والأوزاعي، وأحمد.
قال ابن قدامة: واحتج أحمد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه -ليس بينهما- سترة فليتوضأ) وفي لفظ (إذا أفضى أحدكم إلى ذَكره، فقد وجب عليه الوضوء) رواه الشافعي في مسنده، وظاهر كفه من يده.
القول الثاني: لا ينقض مسه إلا بباطن كفه.
وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق.
قالوا: لأن ظاهر الكف ليس بآلة اللمس، فأشبه ما لو مسه بفخذه.
وقالوا - كما قال الشافعي - إن الإفضاء المذكور في الحديث: إنما هو ببطنها كما يقال: أفضى بيده مبايعاً، وأفضى بيده إلى الأرض ساجداً، وإلى ركبتيه راكعاً.
والراجح الأول.
قال الصنعاني: وزعمت الشافعية أن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف، وأنه لا نقض إذا مس الذكر بظاهر كفه، ورد عليهم المحققون
بأن الإفضاء لغة: الوصول، أعم من أن يكون بباطن الكف أو ظهرها.
•
اختلف العلماء: هل ينقض إذا مسه بذراعه على قولين:
قيل: لا ينقض.
وقيل: أنه ينقض.
وهو قول عطاء والأوزاعي، لأنه من يده.
والراجح الأول.
قال ابن قدامة: والصحيح الأول، لأن الحكم المعلّق على مطلق اليد في الشرع لا يتجاوز الكوع، بدليل قطع السارق، وغسل اليد من نوم الليل، والمسح في التيمم.
• هل ينقض الوضوء إذا مس ذَكَرَ غيره؟
قيل: لا ينقض.
وهو قول أبي حنيفة وداود.
لأنه لا نص فيه، والأخبار إنما وردت في ذكر نفسه فيقتصر عليه.
وقيل: ينقض.
وهو قول الشافعية والحنابلة.
قال المرداوي: شمل قوله (مس الذكر) ذَكَر نفسه وذَكَر غيره، وهو الصحيح.
وقال ابن قدامة: ولنا أن مس ذكَر غيره معصية وأدعى إلى الشهوة وخروج الخارج، وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه، فإذا انتقض بمس ذكر نفسه فبمس ذكر غيره أولى، وهذا تنبيه يقدم على الدليل، وفي بعض ألفاظ خبر بسرة (من مس الذكر فليتوضأ).
وحديث بسرة بهذا اللفظ جاء عند النسائي وأحمد (يُتوضأ من مس الذكر) وسنده صحيح.
•
اختلف العلماء: هل هناك فرق بين مس ذَكَر الصغير والكبير؟
الصحيح أنه لا فرق.
قال ابن قدامة: وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور.
وقال النووي: فإذا مس الرجل أو المرأة قُبُل نفسه أو غيره من صغير وكبير حي أو ميت، ذكر أو أنثى، انتقض وضوء الماس
وذهب الأوزاعي والزهري: إلى أنه لا وضوء على من مس ذكر الصغير.
لأنه يجوز مسه والنظر إليه.
واستدل البعض بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه قبّل زبيبة الحسن ولم يتوضأ).
والراجح الأول وأنه ينقض.
قال ابن قدامة: ولنا: عموم قوله (من مس الذكر فليتوضأ)، ولأنه ذكر آدمي متصل به أشبه الكبير، والخبر ليس بثابت.
•
اختلف العلماء: هل ينقض الوضوء بمس حلْقة الدبر على قولين:
القول الأول: أنه ينقض الوضوء.
وإليه ذهب عطاء، والزهري، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد.
لعموم قوله (من مس فرجه فليتوضأ).
ولأنه أحد الفرجين أشبه الذكر. (قاله في المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين: والدبر فرج، لأنه منفرج عن الجوف، ويخرج منه ما يخرج، وعلى هذا فإنه ينتقض الوضوء بمس حلقة الدبر.
القول الثاني: لا ينقض الوضوء.
وهو مذهب مالك.
لأن في الحديث (من مس ذكره .. ) وهو المبيّن لرواية (من مس فرجه .. )
• مس الأليتين لا ينقض الوضوء، والخلاف إنما هو في مس حلقة الدبر، لأنه قد ورد حديث بسرة بنت صفوان بلفظ (من مس فرجه فليتوضأ) رواه النسائي.
فالخلاف في مس حلقة الدبر كالخلاف في مس الذكر.
وأما ما جاور ذلك فمسه لا ينقض الوضوء، كمس الخصيتين والصفحتين.
قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: والمراد بالدبر ملتقى المنفذ، أما ما وراء ذلك من باطن الأليين فلا ينقض بلا خلاف.
وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا ينتقض الوضوء بمس ما عدا الفرجين من سائر البدن، كالرُّفغ والأنثيين والإبط، في قول عامة أهل العلم; لأنه لا نص في هذا ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا يثبت الحكم فيه.
والرُّفْغ: ما حول الفرج، أو أصول الفخذين من باطن. "مختار الصحاح".
(ومس امرأة بشهوة).
أي: ومن نواقض الوضوء مس المرأة بشهوة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً.
وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وابن عمر والزهري.
وهو مذهب الشافعي.
أ-لقوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ).
قالوا: الآية صرحت بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء وهو حقيقة في لمس اليد، ويؤيد بقاؤه على معناه الحقيقي قراءة (أو لمستم) فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع.
والأصل في معنى اللمس أنه اللمس باليد، وقد جاء في الأحاديث استعمال اللمس بمعنى لمس اليد، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه:(لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ) رواه أحمد.
وقوله صلى الله عليه وسلم (وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ) رواه أحمد.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا ينقض مطلقاً.
وإليه ذهب علي وابن عباس وعطاء وطاووس.
وهو مذهب أبي حنيفة.
أ-لحديث عَائِشَة رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى اَلصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ اَلْبُخَارِي
ب-ولحديث عائشة قالت (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجْلايَ في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت وصلى
…
). متفق عليه
وعند النسائي عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر مسها برجله). متفق عليه
ج-وعنها أيضاً قالت (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فخرجت تلتمسه وكانت شديدة الحب له
…
فذهبت تلتمسه فوجدته في المسجد يصلي وهو ساجد، وقدماه منصوبتان، قالت: فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك
…
). رواه مسلم.
وفي رواية للبيهقي بإسناد صحيح (فَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ .. ) وهي عند النسائي أيضاً.
وجه الدلالة: لمس عائشة لقدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ولو كان المس ينقض الوضوء، لخرج النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته لانتقاض وضوئه بمجرد مس عائشة لقدميه، فاستمراره صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بعد مس عائشة له دليل على عدم نقض الوضوء بمجرد مس المرأة.
والراجح أنه لا ينقض مطلقاً.
• والجواب عن الآية (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ):
فالمراد بها الجماع، فقد ذهب إلى ذلك كثير من السلف.
فقد صح عن ابن عباس أنه فسرها بالجماع.
قال ابن كثير: وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك.
وذهب إليه أيضاً علي بن أبي طالب كما رواه عبد الرزاق في المصنف وابن جرير في التفسير.
وقد رجح ذلك أيضاً ابن جرير فقال في تفسيره: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) الجماع دون غيره.
وقال ابن تيمية: قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) المراد به الجماع كما قاله ابن عباس وغيره من العرب، وهو يروى عن علي وغيره وهو الصحيح في معنى الآية، وليس في نقض الوضوء من مس النساء، لا كتاب ولا سنة.
• قول بعض العلماء في قول عائشة (
…
فإذا سجد غمزني) يحتمل أنه بحائل أو خاص به صلى الله عليه وسلم، غير صحيح وحمْل متكلف.
قال الزيلعي: والخصوم يحملون هذا الحديث على أن المس وقع بحائل، وهذا التأويل مع شدة بُعْده يدفعه بعض ألفاظه،
…
ثم ساق بعضاً من ألفاظ الحديث.
وقال الشوكاني: والاعتذار عن حديث عائشة في لمسها لقدمه صلى الله عليه وسلم بما ذكره ابن حجر في (الفتح) من أن اللمس يحتمل أنه كان بحائل أو على أن ذلك خاص به تكلف، ومخالفة للظاهر.
قال ابن تيمية: وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلمين أن يتوضئوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئاً وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجباً لكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك مرة ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد.
(وينقض غَسل ميتٍ).
أي: ومن نواقض الوضوء تغسيل الميت. واستدلوا:
أ- بما ورد عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء.
ب- وقالوا: ولأن العادة أن الغاسل لا تسلم يدُه أن تقع على فرج الميت، كما لا يسلم النائم المضطجع من خروج الحدث، وأوجبنا الوضوء من النوم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا ينقض الوضوء.
وهو قول جمهور العلماء.
قال ابن قدامة: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ.
وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ. (المغني).
وقال الشيخ ابن عثيمين: فالراجح أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء، وهو اختيار الموفق، وشيخ الإسلام، وجماعة من أهل العلم.
وأمّا ما ورد عن هؤلاء الصحابة فإنه يحمل على الاستحباب.
(وأكل لحم الجزور).
أي: ومن نواقض الوضوء أكل لحم الجزور.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة، واختاره البيهقي وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقاً.
قال الخطابي: ذهب إلى هذا عامة أهل الحديث.
أ- لحديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ اَلْغَنَمِ? قَالَ: إِنْ شِئْتَ قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ اَلْإِبِلِ? قَالَ: نَعَمْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
ب-ولحديث البراء قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: توضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين) رواه أبو داود.
قال النووي في المجموع: قال إمام الأئمة ابن خزيمة: لم نر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح، وانتصر البيهقي لهذا المذهب.
وقال في شرحه على مسلم: قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان، حديث جابر وحديث البراء، وهذا المذهب أقوى دليلاً، وإن كان الجمهور على خلافه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينقض الوضوء.
قال النووي: وهو قول جمهور العلماء.
فهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي.
أ-لحديث جابر قال (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) رواه أبو داود.
قالوا: هذا الحديث نسخ أحاديث الأمر بالوضوء من لحم الإبل.
ب-وبما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الوضوء مما يخرج لا مما يدخل) رواه الدار قطني والبيهقي.
والراجح القول الأول.
• وأما ما الجواب عن أدلة القول الثاني؟
أما حديث جابر (كان آخر الأمرين
…
).
قال النووي: هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام.
وقال ابن قدامة: أن خبرهم عام، وخبرنا خاص، والعام لا يُنسخ به الخاص، لأن من شرط النسخ تعذر الجمع، والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص.
وأما حديث ابن عباس (الوضوء مما يخرج
…
) فضعيف لا يصح.
رواه البيهقي (1/ 116) وضعفه، والدار قطني (ص 55)، وهو حديث ضعيف فيه ثلاث علل، انظر تحقيقها في " السلسلة الضعيفة "(959).
وإن صح - تنزلاً - فهو عام، وحديث إيجاب الوضوء خاص.
• قول من قال إن المراد من قوله (توضئوا منها .. ) غسل اليدين والفم بعيد، لأن الظاهر منه هو الوضوء الشرعي لا اللغوي، وحمل الألفاظ الشرعية على معانيها الشرعية واجب.
•
اختلف العلماء: هل نقض الوضوء خاص باللحم،
أو شامل لجميع أجزاء الإبل كالكرش والكبد وغيرها على قولين:
القول الأول: عدم النقض.
وهذا مذهب أحمد، وجمهور العلماء، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم.
أ-قالوا: لأن النص لم يتناوله.
ب-ولأن العلة تعبدية فلا يقاس عليها.
القول الثاني: أنه ينقض.
وهذا اختيار الشيخ السعدي والشيخ بن عثيمين.
أ-أن اللحم في اللغة يشمل جميع الأجزاء، بدليل قوله تعالى:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فلحم الخنزير يشمل كل ما في جلده.
ب-أن في الإبل أجزاء كثيرة قد تقارب الهبر، ولو كانت غير داخلة؛ لبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لِعِلمهِ أن الناس يأكلون الهبر وغيره.
ج-أنه ليس في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حيوان تتبعض أجزاؤه حلاً وحرمة، وطهارة ونجاسة، وسلباً وإيجاباً، وإذا كان كذلك فلتكن أجزاء الإبل كلها واحدة. (الشرح الممتع).
قال السعدي مرجحاً هذا القول: والصحيح أن جميع أجزاء الإبل كالكرش والقلب والمصران ونحوها ناقض، لأنه داخل في حكمها ولفظها ومعناها، والتفريق بين أجزائها ليس له دليل ولا تعليل.
• لبن الإبل لا ينقض الوضوء، وهذا مذهب أكثر العلماء.
أ-لأن الحديث إنما ورد في اللحم.
ب-ولأن الأصل عدم النقض حتى يثبت أنه ناقض.
وأما حديث (توضئوا من ألبان الإبل) فهو حديث ضعيف رواه ابن ماجه وغيره.
•
الحكمة من الوضوء من لحوم الإبل:
قيل: الحكمة تعبدية.
قال المرداوي رحمه الله: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ تَعَبُّدِيٌّ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَاب
…
وَقِيلَ: هُوَ مُعَلَّل.
وقيل: معلل، وهو ما جاء في حديث البراء وقد سبق (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين
…
).
وفي لفظ ابن ماجه (فإنها خلقت من الشياطين).
وقد جاء في حديث: (على ذروة سنام كل بعير شيطان). رواه ابن خزيمة وأحمد.
قال ابن تيمية: أشار صلى الله عليه وسلم في الإبل إلى أنها من الشياطين، يريد والله أعلم أنها من جنس الشياطين ونوعهم، فإنَّ كلَّ عاتٍ متمرِّدٍ شيطانٌ من أي الدواب كان، كالكلب الأسود شيطان، والإبل شياطين الأنعام، كما للإنس شياطين
…
فلعلَّ الإنسان إذا أكل لحم الإبل أورثته نفاراً وشماساً وحالاً شبيها بحال الشيطان، والشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفئ النَّارُ بالماء، فأُمر بالوضوء من لحومها كسراً لتلك السَّورة، وقمعاً لتلك الحال، وهذا لأنَّ قلبَ الإنسان وخُلقه يتغير بالمطاعم التي يطعمها. (شرح عمدة الفقه: 1/ 185).
وقال أيضاً: "فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة، بخلاف من لم يتوضأ منها، فإن الفساد حاصل معه، ولهذا يقال: إن الأعراب بأكلهم لحوم الإبل مع عدم الوضوء منها صار فيهم من الحقد ما صار". (مجموع الفتاوى: 20/ 523).
• القصة المشهورة في سبب نقض الوضوء بلحم الإبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم، فخرج من أحدهم ريح، فاستحيا أن يقوم بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستراً عليه!: من أكل لحم جزور فليتوضأ! فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه فتوضأوا؟ هذه قصة لا تصح.
قال الشيخ الألباني رحمه الله: لا أصل لها في شيء من كتب السنة ولا في غيرها من كتب الفقه والتفسير فيما علمت. " السلسة الضعيفة "(3/ 268).
•
هل يجب الوضوء فيما عدا لحم الإبل؟
ذهب بعض العلماء إلى وجوب الوضوء بأكل ما مسته النار.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (توضؤوا مما مست النار) متفق عليه.
وذهب جماهير العلماء إلى أن الوضوء لا ينتقض بأكل ما مسته النار.
وهذا قول أكثر العلماء، روي عن الخلفاء الراشدين، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وعامة الفقهاء.
قال الموفق: ولا نعلم اليوم فيه خلافاً.
أ-لحديث البراء قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الغنم؟ فقال: لا تتوضئوا منها).
ب-ولحديث جابر قال (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار).
ج-ولحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) متفق عليه.
د-ولحديث عمرو بن أمية قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ) رواه البخاري ومسلم.
هـ- ولحديث ميمونة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفاً ثم صلى ولم يتوضأ) رواه مسلم.
•
ماذا أجاب جمهور العلماء عن حديث (توضئوا مما مست النار)؟
قال النووي: وأجابوا عن حديث الوضوء مما مست النار بجوابين:
أحدهما: أنه منسوخ.
الجواب الثاني: أن المراد بالوضوء: غسل الفم والكفين. ا 0 هـ كلام النووي.
وقد أنكر ابن عبد البر والشوكاني الجواب الثاني.
جواب ثالث لابن تيمية: أجاب ابن تيمية بأن الأمر محمول على الاستحباب فقال: ولهذا أمر بالوضوء مما مست النار، وهو حديث صحيح، وقد ثبت في أحاديث صحيحة أنه أكل مما مست النار ولم يتوضأ، فقيل: إن الأول منسوخ، وقيل: بل الأمر بالتوضؤ مما مست النار استحباب كالأمر بالتوضؤ من الغضب، وهذا أظهر القولين.
(ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو بالعكس بنى على اليقين).
أي: إذا تيقن أنه طاهر، وشك في الحدث، فإنه يبني على اليقين، وهو أنه على طهارة.
مثال: لو أن إنسان توضأ لصلاة العصر، ثم شك هل انتقض وضوءه أم لا، فإنه يعتبر نفسه متوضئاً ويبني على ذلك، لأنه الأصل المتيقن.
وكذلك بالعكس: لو تيقن الحدث، وشك في الطهارة، فالأصل الحدث.
والدليل على ذلك:
أ-حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحاً) رواه مسلم.
ب-وحديث عبد الله بن زيد. قال (شُكِىَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) متفق عليه. والمراد حتى يتيقن.
قال النووي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى تتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها.
ج- وقال صلى الله عليه وسلم لمن شك في صلاته: (فليطرح الشك وليبن على اليقين).
د- وللقاعدة: [اليقين لا يزول بالشك]. الأصل بقاء ما كان على ما كان ما لم يتيقن ضد ذلك.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال النووي: ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة.
• إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. [قاله النووي]
مثال: إنسان أكل لحم إبل، فلما أذن العصر شك هل توضأ أم لا، فالأصل أنه على غير وضوء وأنه يلزمه الوضوء لأنه الأصل.
(ويحرم على المحدث مس المصحف).
أي: يحرم على المحدث - حدثاً أصغر أو أكبر - أن يمس المصحف.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
أ-لقوله تعالى (لا يمسه إلا المطهرون).
ب- ولحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رحمه الله (أَنَّ فِي اَلْكِتَابِ اَلَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لَا يَمَسَّ اَلْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ) رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلاً، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
وقد تلقى العلماء لهذا الحديث بالقبول.
قال الشافعي: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد بن حنبل: كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح.
وصححه إسحاق بن راهوية كما نقله عنه ابن المنذر.
وقال العقيْلي: هذا حديث ثابت محفوظ، إلا أنا نرى أنه كتاب غير مسموع ممن فوق الزهري.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل.
وقال في الاستذكار: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه بالتواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة.
وقال ابن تيمية في شرح العمدة: وهذا الكتاب ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم.
وقال الشنقيطي: والتحقيق صحة الاحتجاج به، لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبه ليبين به أحكام الديات والزكوات وغيرها، ونسخته معروفة في كتب الفقه والحديث.
قالوا: والطاهر في الحديث هو المتطهر من الحدث الأصغر أو الغسل، لأن المؤمن طهارته معنوية، ولا يمس القرآن غالباً إلا المؤمنون، ولا يعرف بالشرع تسمية المؤمن بالطاهر، وإنما ورد وصفه بذلك، وفرق بين الوصف والتسمية.
فالأظهر أن قوله (إلا طاهر) أي: إلا متوضئ لما يلي:
أولاً: لأنه كثر في لسان الشرع إطلاق هذا اللفظ على المتوضئ.
ثانياً: ولأن الصحابة فهموا ذلك وأفتوا بأنه لا يمس القرآن إلا على طهارة.
ثالثاً: ولأنه لم يعهد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر.
رابعاً: أنه ورد في بعض الروايات (لا يمس القرآن إلا على طهر) وفي حديث حكيم بن حزام (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) وفي إسناده ضعف، لكن يفيد ترجيح المعنى المذكور. (منحة العلام).
ج- أنه ثابت عن الصحابة.
عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال (كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت، فقال: لعلك مسست ذكرك، قال، فقلت: نعم، فقال: قم فتوضأ) رواه مالك والبيهقي.
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال (كنا مع سلمان فخرج فقضى حاجته، ثم جاء، فقلت: يا أبا عبد الله، لو توضأت لعلنا أن نسألك عن آيات، قال: إني لست أمسه، إنما لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا). رواه الدار قطني والبيهقي وابن أبي شيبة
وروى نافع (أن ابن عمر كان لا يمس المصحف إلا وهو طاهر) رواه ابن أبي شيبة.
قال النووي: وهو قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف.
وقال ابن رجب: وهذا قول جماهير العلماء، وروي ذلك عن علي وسعد وابن عمر وسلمان، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز للمحدث مسّ المصحف.
وبهذا قال ابن حزم.
أ-لما جاء في حديث هرقل الطويل (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث هذا الكتاب إلى النصارى وفيه آية من القرآن، وقد أيقن أنهم سيمسونه مع أنهم على غير طهارة، فهذا يدل على جواز مس المحدث للقرآن.
ب- أنه يجوز للصبيان حمل الألواح التي كُتبَ عليها القرآن بلا إنكار، فكذلك يجوز لغيرهم ذلك.
• وأجاب هؤلاء عن أدلة الجمهور:
أما الآية: بأن الضمير في قوله (يمسه) يعود إلى اللوح المحفوظ، والمراد بـ (المطهرون) الملائكة، فلا يكون في الآية دليل على منع المحدث من قراءة القرآن.
وقد رجح ابن القيم أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وذلك من عشرة أوجه:
منها: أن الله قال (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ولم يقل: إلا المتطهرون، ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال: إلا المتطهرون كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، ثم ذكر بقية الأوجه.
وأما الحديث: فقالوا ضعيف.
والراجح القول الأول للحديث وعمل الصحابة.
• الجواب عن قصة هرقل التي احتج بها من قال بالجواز:
قال النووي: والجواب عن قصة هرقل: أن ذلك الكتاب كان فيه آية، ولم يمس مصحفاً.
وقال ابن قدامة: فأما الآية التي كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما قصد بها المراسلة، والآية في الرسالة أو كتاب فقه أو نحوه لا تمنع مسه، ولا يصير الكتاب بها مصحفاً، ولا تثبت له حرمته.
•
اختلف العلماء: هل يجوز للصغير مس المصحف من غير وضوء أم لا على قولين:
القول الأول: أنه يجوز.
وبهذا قال الحنفية والمالكية.
قالوا: إذا لم نقل بجواز مس الصبيان للمصحف واللوح ونحوهما، فإما أن يمنعوا من مسه وفي هذا تضييع لحفظ كتاب الله، وإما أن يكلف الصبيان بالتطهر لمسه، وفي هذا حرج ومشقة عليهم، فيرخص لهم في هذه الحالة مسه على غير طهارة دفعاً للضرر عنهم.
القول الثاني: أنه لا يجوز.
وهو مذهب الحنابلة.
لعموم الأدلة الدالة على عدم جواز مس المحدث للمصحف.
والراجح الأول.
•
مس كتب التفسير:
يجوز مسها لأنها تعتبر تفسيراً، والآيات التي بها أقل من التفسير الذي فيها، ويستدل بهذا بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم الكتب للكفار، وفيها آيات من القرآن، فدل هذا على أن الحكم للأغلب والأكثر.
وأما إذا تساوى التفسير والقرآن، فإنه إذا اجتمع مبيح وحاظر ولم يتميز أحدهما برجحان، فإنه يغلّب جانب الحظر فيُعطَى الحكم للقرآن. (الشرح الممتع).
• جماهير العلماء على أن مس المصحف بالحايل المتصل حرام.
فغلاف المصحف المتصل به [أي: المثبت في المصحف بمادة لاصقة أو بالخياطة
…
أو غير ذلك] يأخذ حكم المصحف فلا يجوز مسه بغير وضوء، وكذا أطراف الأوراق.
جاء في (الموسوعة الفقهية): ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يمتنع على غير المتطهر مس جلد المصحف المتصل، والحواشي التي لا كتابة فيها من أوراق المصحف، والبياض بين السطور، وكذا ما فيه من صحائف خالية من الكتابة بالكلية، وذلك لأنها تابعة للمكتوب وحريم له، وحريم الشيء تبع له ويأخذ حكمه.
وذهب بعض الحنفية والشافعية إلى جواز ذلك.
واختلفوا في الحايل المنفصل، والأرجح الجواز، كأن يمسه بخرقة.
فالغلاف المنفصل عن المصحف، الذي هو عبارة عن كيس يدخل فيه المصحف ويخرج منه، لا حرج في لمسه بدون طهارة، ولو كان المصحف بداخله، فيجوز مس المصحف بحائل منفصل عنه، كالكيس الذي يوضع فيه، والقفاز ونحو ذلك.
قال في "كشاف القناع"(1/ 135): "وللمحدث حمل المصحف بعلاقته وفي غلافه أي: كيسه من غير مس له; لأن النهي ورد عن المس والحمل ليس بمس وله تصفحه بكمه أو بعود ونحوه كخرقة وخشبة; لأنه غير ماس له. وله مسه أي: المصحف من وراء حائل لما تقدم.
(والصلاة)
أي: ويحرم على المحدث - حدثاً أصغر أو أكبر - أن يصلي حتى يتوضأ.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ
…
).
ب- وعن أَبي هُرَيْرَة. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري (لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فُسَاءٌ، أَوْ ضُرَاطٌ.
ج- وعن ابْنَ عُمَر. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) رواه مسلم.
د- وعَنْ عَلِىٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) رواه الترمذي.
قال النووي: الْحَدِيث نَصّ فِي وُجُوب الطَّهَارَة لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الطَّهَارَة شَرْط فِي صِحَّة الصَّلَاة.
وقال رحمه الله: أجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة.
وكذلك تجب الطهارة لصلاة الجنازة، قال النووي: إلا ما حكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري من قولهما تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة، وهذا مذهب باطل وأجمع العلماء على خلافه.
• الصَّلاة هي التي بَيَّنَهَا الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم تحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، سواء كانت ذاتَ رُكوع وسُجود أم لا.
فالفرائض الخَمسُ صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مُفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتَّسليم، فينطبق عليها التَّعريف الشَّرعي، فتكون داخلة في مُسَمَّى الصَّلاة.
وقال بعض العلماء: إِنَّ الصَّلاةَ هي التي فيها رُكُوع وسجود.
وقال آخرون: إِن الصَّلاة هي التي تكون رَكْعَتَيْن فأكثر، إِلا الوِتْر فهو صلاة، ولو رَكْعَة.
والأوَّل هو الأصحُّ. (الشرح الممتع).
• الصلاة تبطل بالحدث سواء كان خروجه اختيارياً أم اضطرارياً.
• من أحدث أثناء الصلاة يجب أن يخرج ويتوضأ ويعيدها.
وهذا قول جماهير العلماء.
أ-لحديث عَلِي بْن طَلْق رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي اَلصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ اَلصَّلَاةَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
ب-وقد يستدل بحديث أبي هريرة (لا يقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فإنه يفيد أن صلاة المحدث لا تقبل، وهذا يعم ما قبل الصلاة من الحدث اختياراً وما حصل في أثنائها اضطراراً، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين حدث وحدث.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الإنسان إذا أحدث في صلاته فإنه ينصرف ويتوضأ ويبني على ما مضى.
وهذا مذهب الحنفية.
لحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصابه قيء أو قلس أو رعاف أو مذي فلينصرف وليتوضأ وليبني على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم)، لكن هذا الحديث ضعيف.
• من صلى وهو محدث متعمداً بلا عذر فهو آثم، ولكن هل يكفر؟
قيل: لا يكفر.
ونسبه النووي للجمهور.
يقول النووي رحمه الله: إن كان عالماً بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصيةً عظيمةً، ولا يكفر عندنا بذلك، إلا أن يستحله، وقال أبو حنيفة: يكفر لاستهزائه.
دليلنا: أنه معصية فأشبهت الزنا وأشباهه. انتهى.
وقيل: يكفر ونسبه النووي لأبي حنيفة، لتلاعبه.
4 -
في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أحدث حتى. . .) دليل على أن الإنسان إذا توضأ لصلاة، ثم دخل وقت الصلاة الأخرى وهو على طهارته، فإنه لا يجب عليه أن يعيد الوضوء.
لقوله (. . . إذا احدث. . .).
فيجوز أن يصلي الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يحدث.
قال النووي: وهذا جائز بإجماع من يعتد به.
(والطواف).
أي: ويحرم على المحدث أن يطوف بالبيت حتى يتوضأ.
وهذا قول جماهير العلماء.
فمن طاف محدثاً، لم يصح طوافه، ولا يعتد به.
وإلى هذا القول ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وجمهور العلماء.
أ- لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم).
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أولاً: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف بيان لمجمل القرآن، لأن الله عز وجل أمر بالطواف في كتابه العزيز ولم يبين كيفيته، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ توضأ قبل طوافه، والفعل إن جاء بياناً لأمر واجب دل على وجوبه، فدل ذلك على وجوب الطهارة من الحدث قبل الطواف.
ثانياً: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم بأخذ مناسكه، والاقتداء به في ذلك دليل على وجوب جميع ما صدر منه في بيان أفعال المناسك-
إلا ما دل الدليل على استثنائه- ومن ذلك الطهارة من الحدث قبل الطواف.
ب-حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه المنطق فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير). (الصحيح أنه موقوف على ابن عباس).
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة وليس المراد التشبيه في الأفعال والهيئة لتباينهما، وإنما المراد التشبيه بها في الحكم، فدل ذلك على أن للطواف جميع الأحكام المتعلقة بالصلاة- إلا ما استثناه الدليل- ومن ذلك اشتراط الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور).
ثانياً: من قوله (إلا أن الله أباح فيه المنطق) فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم إباحة المنطق في الطواف، دليل على اشتراط ما عداه كما يشترط في الصلاة، ومن ذلك اشتراط الطهارة من الحدث.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي محرمة (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه. وفي رواية لمسلم (حتى تغتسلي).
وجه الاستدلال منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعائشة أن تفعل وهي حائض جميع ما يفعله الحاج، ولم يمنعها إلا من الطواف، وجعل ذلك مقيداً باغتسالها وتطهرها، فدل ذلك على ترتب منع الطواف على انتفاء الطهارة، وعلى أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وعلى عدم صحته بدونها، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد.
د-قوله صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن صفية حاضت (أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذاً) متفق عليه.
وجه الاستدلال: إخباره صلى الله عليه وسلم بانحباسه- وانحباس من كان معه لانحباسه- لحيض صفية، لو لم تكن قد أفاضت، مع ما في ذلك من المشقة العامة، دليل ظاهر- إن لم يكن نصاً صريحاً- على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الطهارة من الحدث سنة.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر عام تسع لما أمره على الحج ينادي (ألا يطوف بالبيت عريان).
وجه الاستدلال منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طواف العراة بالبيت، ولم يثبت أنه أمر بالطهارة للطواف، فدل ذلك على أن الطهارة ليست واجبة إذ لو كانت واجبة لأمر بها.
ب-وقالوا: إن الأصل براءة الذمة، وعدم وجوب الطهارة إلا بدليل ولا دليل صريح صحيح على وجوبها.
ج- ولحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت) وهذا فعل والفعل يدل على الاستحباب. (بحث في مجلة البحوث الإسلامية 56).
وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة من قال باشتراط الطهارة للطواف:
أما حديث (الطواف بالبيت صلاة) فقالوا: لا يصح من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول ابن عباس رضي الله عنهما.
قال النووي في المجموع: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ أ. هـ.
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه طاف متطهراً فقالوا: هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب فقط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يَرِد أنه أمر أصحابه بذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة (افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) فإنما منعها النبي صلى الله عليه وسلم من الطواف لأنها حائض، والحائض ممنوعة من دخول المسجد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً؛ فإنه لم يَنقل أحدٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمَراً متعددة والناس يعتمرون معه، فلو
كان الوضوء فرضاً للطواف لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عامّاً، ولو بيَّنه لنَقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة، وقد قال: إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهر. (مجموع الفتاوى 21). والله أعلم.
•
هل يجوز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟
نعم يجوز، فالسعي لا يشترط فيه الوضوء وهو مذهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، بل يجوز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض إلا من الطواف فقال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت - (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت). (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين: فلو سعى محدثاً، أو سعى وهو جنب، أو سعت المرأة وهي حائض: فإن ذلك مجزئ، لكن الأفضل أن يسعى على طهارة.
•
فائدة: هل القهقهة تبطل الوضوء؟
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الضحك خارج الصلاة - ولو في حال الاستعداد لها - لا ينقض الوضوء.
قال بن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الضحك في غير الصلاة لا ينقض طهارة، ولا يوجب وضوءاً.
وقال النووي: " وأجمعوا على أن القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء.
ثانياً: اتفق العلماء على أن الضحك في الصلاة يبطلها.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الضحك في الصلاة ينقض الصلاة.
ومراده بالضحك الذي يكون قهقهة.
قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه مخالفاً.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّ الْقَهْقَهَةَ فِيهَا أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ تُنَافِي حَالَ الصَّلَاةِ، وَتُنَافِي الْخُشُوعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ
…
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّلَاعُبِ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَهَا فَأَبْطَلَتْ لِذَلِك.
ثالثاً: بما سبق يظهر أن المختلَف فيه بين العلماء هو الضحك قهقهة في الصلاة، هل يبطل الوضوء أم لا؟.
والقول الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنه لا ينقض الوضوء، لعدم وجود دليل يدل على نقضه للوضوء.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: (إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ). رواه البخاري معلقاً، والدارقطني (51) موصولاً.
وقال ابن حجر: وهو صحيح من قول جابر.
وقال شيخ الإسلام: " ولم يثبت عن صحابي خلافه؛ ولأنه لا ينقض خارج الصلاة، فكذلك في الصلاة.
وقال النووي: " مذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنه لا ينقض
…
وهو قول جمهور التابعين فمن بعدهم.
وروى البيهقي عن أبي الزِّناد قال: أدركتُ من فقهائنا الذين يُنتَهى إلى قولهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عقبة، وسليمان بن يسار، ومشيخة جِلَّة سواهم، يقولون: الضحك في الصلاة ينقضها، ولا ينقض الوضوء ".
وقال: " ولم يثبت في النقض بالضحك شيء أصلاً. (المجموع).
والأحاديث التي رويت في نقض الضحك للوضوء ضعيفة لا يصح منها شيء.
قال النووي: " كلها ضعيفةٌ واهيةٌ باتفاق أهل الحديث.
(ويستحب الوضوء عند النوم).
لحديث الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ
الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ: لَاَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْت) متفق عليه.
فهذا الحديث فيه دليل على استحباب الوضوء لمن أراد النوم.
وقد جاء في ذلك أحاديث:
منها حديث معاذ رفعه (ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أخرجه أبو داود والنسائي.
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رفعه (من بات طاهراً بات في شعاره ملك، فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان) وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس نحوه بسند جيد.
قال ابن حجر: وله فوائد:
منها: أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت فيكون على هيئة كاملة.
ومنها: أن يكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به.
• قوله (فتوضأ) ظاهره استحباب الوضوء لكل من أراد النوم ولو كان على طهارة، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن كان محدثاً، وهذا أصح.
قال النووي: فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا كَفَاهُ ذَلِكَ الْوُضُوء؛ لِأَنَّ الْمَقْصُود النَّوْم عَلَى طَهَارَة؛ مَخَافَة أَنْ يَمُوت فِي لَيْلَته، وَلِيَكُونَ أَصْدَق لِرُؤْيَاهُ، وَأَبْعَد مِنْ تَلَعُّب الشَّيْطَان بِهِ فِي مَنَامه، وَتَرْوِيعه إِيَّاهُ.
• فائدة: قال النووي: في الحديث ثلاث سنن إحداها: الوضوء عند النوم، وإن كان متوضئاً كفاه، ثانيها: النوم على اليمين، ثالثها: الختم بذكر الله.
(وعند ذكر الله).
أي: ويستحب الوضوء عند ذكر الله.
لحديث الْمُهَاجِر بْن قُنْفُذٍ (أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عز وجل إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَة) رواه أبو داود.
فذكر الله لا يشترط له الوضوء.
ففي حديث ابن عباس - في قصة نومه عند خالتي ميمونة - قال (
…
ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران
…
).
قال ابن عبد البر: وفيه قراءة القرآن على غير وضوء، لأنه ينام النوم الكثير الذي لا يختلف في مثله.
وقد بوّب الإمام البخاري على الحديث: باب: قراءة القرآن بعد الحدث وغيره.
قال ابن حجر: أي الأصغر.
وقال النووي: وفيه جواز القراءة للمحدث، وهذا إجماع المسلمين، وإنما تحرم القراءة على الجنب والحائض.
ب-ولحديث عائشة (كَان رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذْكُرُ اَللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ) رواه مسلم.
قال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض.
وقال الصنعاني: والحديث مقرر للأصل، وهو ذكر الله على كل حال من الأحوال، وهو ظاهر في عموم الذكر، فتدخل تلاوة القرآن - ولو كان جنباً - إلا قد خصصه أنه حديث علي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) وأحاديث أُخر في معناه، وكذلك هو مخصص بحالة الغائط والبول والجماع
قال النووي: أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث - يعني حدثاً أصغر - والأفضل أن يتطهر لها.
(وللجنب إذا أراد أن ينام).
لحديث عَائِشَةَ، قَالَت (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهْوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاة) متفق عليه.
وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة قريباً إن شاء الله.
(وإذا أراد أن يأكل أو يعاود الجماع).
أي: ويسن الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل أو يعاود الجماع.
لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاة) رواه مسلم.
ومعاودة الجماع.
لحديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ) رواه مسلم.
وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة قريباً إن شاء الله.
(وقبل الغسل).
أي: ويسن الوضوء قبل الغسل سواء كان واجباً أو مستحباً.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) متفق عليه.
(ومن أكل ما مسته النار).
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (توضؤوا مما مست النار) متفق عليه.
وقد تقدم أن هذا الأمر محمول على الاستحباب.
(وتجديد الوضوء لكل صلاة).
أي: ويسن تجديد الوضوء لكل صلاة.
وقد تقدم حديث أنس. قالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ .... ) رواه البخاري.
وقد تقدم معنى تجديد الوضوء.
باب الغسل
الغسل: بضم العين، هو تعميم البدن بالماء.
(ومُوجبُهُ خروج المني دفقاً بلذةٍ).
أي: ومما يوجب الغسل خروج المني.
والمني: هو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بشهوة ويعقبه فتور وارتخاء.
قال النووي: خواصه التي عليها الاعتماد في معرفته، وهي ثلاث:
إحداها: الخروج بشهوة مع الفتور عقيبه.
والثانية: الرائحة التي تشبه الطلع أو العجين.
والثالثة: الخروج بتزريق ودفع في دفعات.
فكل واحدة من هذه الثلاثة كافية في كونه منياً، ولا يشترط اجتماعها، فإن لم يوجد منها شيء، لم يحكم بكونها منياً. [المجموع]
والأدلة على أن خروج المني موجب للغسل:
أ- قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).
والجنب: هو الذي خرج منه المني دفقاً بلذة.
ب-وعن أم سلمة (أن أم سُليم قالت: يا رسول الله؛ إن الله لا يستحي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إن هي احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء). متفق عليه.
احتلمت: الاحتلام اسم لما يراه النائم من الجماع، فيحدث معه إنزال المني غالباً.
ج- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنما اَلْمَاءُ مِنْ اَلْمَاءِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(إنما الماء) أي ماء الغسل. (من الماء) أي من المني.
قال النووي: وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني.
• قوله (دفقاً بلذة) مفهومه أنه لو خرج بلا لذة ولا تدفق؛ فلا غسل عليه، وهذا في اليقظان واضح، وهو الراجح.
وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة.
فلو خرج منه لغير ذلك كبرد أو مرض ونحوهما فلا غسل عليه، بل يكون نجساً يغسل كغيره وليس منياً.
• وأما النائم فعليه الغسل مطلقاً، لأنه قد لا يحس به، وهذا يقع بكثرة، فإذا استيقظ الإنسان فوجد الأثر ولم يشعر باحتلام؛ فعليه الغسل، بدليل حديث أم سلمة حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ قال:(نعم، إذا هي رأت الماء).
فأوجب الغسل برؤية الماء ولم يشترط أكثر من ذلك، فدل على وجوب الغسل إذا استيقظ ووجد الماء.
• وقوله (خروج المني) أي: لا بد من خروجه، فلو أحس بانتقاله لكنه لم يخرج؛ فليس عليه غسل.
وقد
اختلف العلماء إذا تحرك المني ولم يخرج هل يجب الغسل أم لا على قولين:
القول الأول: يجب الغسل بانتقاله ولو لم يخرج.
وهذا المذهب.
أ-لأن الجنابة تُباعِد الماء عن محله، وقد وجِد.
ب-ولأن الغسل تراعى فيه الشهوة، وقد حصلت بانتقاله، فأشبه ما لو ظهر. (المغني).
القول الثاني: أنه لا غسل عليه.
وهو قول أكثر الفقهاء واختاره ابن قدامة وابن تيمية.
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على الرؤية بقوله (إذا رأت الماء) فلا يثبت الحكم بدونه.
ب- ولو وجب الغسل بالانتقال لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة إلى بيانه.
وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن قدامة: إن أحس بانتقال المني عند الشهوة فأمسك ذكره، فلم يخرج فلا غسل عليه .. (وهذا) قول أكثر الفقهاء.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على الرؤية وفضخ الماء، بقوله:(إذا رأت الماء) و (إذا فضخت الماء فاغتسل) فلا يثبت الحكم بدونه. (المغني).
وقال النووي: لو قبل امرأة فأحس بانتقال المني ونزوله فأمسك ذكره فلم يخرج منه في الحال شيء، ولا علم خروجه بعد ذلك، فلا غسل عليه عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا أحمد، فإنه قال - في أشهر الروايتين عنه - يجب الغسل، قال: ولا يتصور رجوع المني. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء) ولأن العلماء مجمعون على أن من أحس بالحدث كالقرقرة والريح، ولم يخرج منه شيء لا وضوء عليه، فكذا هنا. (المجموع).
(وإلتقاءُ الختانين).
هذا الموجب الثاني من موجبات الغسل وهو: الإيلاج في الفرج وإن لم ينزل.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) متفق عليه.
وَلمسلم (وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ).
(بَيْنَ شُعَبِهَا اَلْأَرْبَعِ) أي: شعب المرأة الأربع، والمراد هنا: يداها ورجلاها، وهو كناية عن مكان الرجل من المرأة حال الجماع. (ثُمَّ جَهَدَهَا) أي: بلغ المشقة، والمعنى: بلغ جهده فيها، وذلك بإيلاج ذكره في فرجها. (فَقَدْ وَجَبَ اَلْغُسْلُ) أي: عليهما جميعاً.
فهذا الحديث دليل على أن الإيلاج (الجماع) يوجب الغسل وإن لم ينزل.
وهذا الحكم ذهب إليه الجمهور، بل حكاه بعضهم إجماعاً للصحابة، حكى ذلك النووي وابن العربي: أن الصحابة أجمعوا على وجوب الغسل من الإيلاج ولو لم ينزل لهذا الحديث الصحيح الصريح.
وقد كان فيه خلافاً لبعض الصحابة كأبي سعيد وزيد بن خالد ورافع بن خديج وداود الظاهري؛ أنه لا يجب الغسل إلا بالإنزال.
قال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ إِيجَاب الْغُسْل لا يَتَوَقَّف عَلَى نُزُول الْمَنِيّ، بَلْ مَتَى غَابَتْ الْحَشَفَة فِي الْفَرْج وَجَبَ الْغُسْل عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَة، وَهَذَا لا خِلاف فِيهِ الْيَوْم، وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَاف لِبَعْضِ الصَّحَابَة وَمَنْ بَعْدهمْ، ثُمَّ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا صريح في وجوب الغسل، وإن لم ينزل وهذا يخفى على كثير من الناس، فتجد الزوجين يحصل منهما هذا الشيء، ولا يغتسلان، لا سيما إذا كانا صغيرين ولم يتعلما، وهذا بناء عندهم على عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال، وهذا خطأ.
…
(الشرح الممتع).
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث (إنما الماء من الماء) فالجواب:
أ- إما أن يكون منسوخ.
وهذا المشهور عند أكثر العلماء، وناسخه حديث (إذا جلس بين شعبها الأربع
…
).
ب-وإما أن يحمل على حالة الاحتلام.
وهو قول ابن عباس.
وقد بوّب على ذلك النسائي، ومال إليه الحافظ ابن حجر، ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله.
•
اختلف العلماء إذا جامع من وراء حايل؛ على قولين:
القول الأول: يجب الغسل.
لعموم الحديث.
القول الثاني: لا يجب الغسل.
لحديث (إذا التقى الختانان .. ) وفي لفظ (إذا مس الختان الختان .. ) ومع الحايل لا يحصل مس.
والأول أرجح.
(وإسلامُ كافر).
أي: ومن موجبات الغسل أن يسلم الكافر، فإذا أسلم كافر وجب عليه الاغتسال.
وسواء كان الكافر أصلياً أو مرتداً.
الأصلي: من أصله كافر لم يدخل في الإسلام.
والمرتد: من ارتد وترك الإسلام ثم رجع إليه.
وهذا المذهب، وهو مذهب مالك، وأبي ثور، وابن المنذر، ورجحه الشوكاني.
أ- لحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، عِنْدَمَا أَسْلَم وَأَمَرَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ) رَوَاهُ عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ.
وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب-ولحديث قيس بن عاصم: (أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر) رواه أبو داود وحسنه النووي.
قال الشوكاني: والظاهر الوجوب، لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكاً لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك، وهو ليس علماً بالعدم.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ إسلام الكافر موجب للغسل، فإذا أسلم الكافر وجب عليه أن يغتسل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أنّ ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل) وعن (قيس بن عاصم أنّه أسلم: فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر) ولأنّه لا يسلم غالباً من جنابة، فأقيمت المظنّة مقام الحقيقة كالنّوم والتقاء الختانين.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب الغسل عليه.
وهذا مذهب الشافعي.
قال الخطابي: وبهذا قال أبو حنيفة وأكثر العلماء.
أ- لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا، فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل نقلاً متواتراً أو ظاهراً، ولو كان واجباً لما خص بالأمر بعضاً دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب.
ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يدعوهم إلى (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم
أطاعوا
…
) ولو كان الغسل واجباً لأمرهم به، لأنه أول واجبات الإسلام.
ج-أن أمره صلى الله عليه وسلم لمن أسلم أن يغتسل بماء وسدر، وهذا دليل على عدم الوجوب لأنه بالاتفاق أن السدر غير واجب.
وهذا القول هو الراجح.
(وموت).
أي: ومن موجبات الغسل الموت، فإذا مات المسلم وجب على المسلمين غسله.
والمراد وجوب ذلك على الأحياء، إذ لا وجوب بعد الموت.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم للذي وقصته ناقته بعرفة (اغسلوه بماء وسدر). متفق عليه
ب- وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ
…
) متفق عليه.
فقوله صلى الله عليه وسلم (اغسلنها) فهذا أمر، والأمر للوجوب.
• لا فرق بين الصغير والكبير، أما السِّقط فإن نفخ فيه الروح غسِّل وصلي عليه، وهو ما تم له أربعة أشهر، وإلا فلا يغسل ولا يصلى عليه.
• يستثنى الشهيد، [شهيد المعركة]، فلا يغسل.
لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادفنوهم في دمائهم - يعني يوم أحد- ولم يغسلهم). رواه البخاري
قال الشيخ ابن عثيمين: لأن التغسيل واجب ولا يترك إلا لمحرم.
والمراد شهيد المعركة، وأما سائر ما يطلق عليهم اسم الشهيد كالمطعون والمبطون وغيرهم، فيغسلون إجماعاً
(وَخُرُجُ دَمِ الحَيضِ وَالنِّفَاس).
أي: ومن موجبات الغسل الحيض والنفاس، فإذا حاضت المرأة وانقطع حيضها، وجب عليها الغسل، وهذا بالإجماع.
أ- لقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبيش: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) متفق عليه.
وأجمع المسلمون على وجوب الغسل، وممن نقل الإجماع: النووي عن ابن المنذر، وابن حجر.
(ومن لَزِمَه الغسل حَرُمَ عليه قراءة القرآن).
أي: ويحرم على الجنب قراءة القرآن.
وهذا قول جماهير العلماء، أنه يحرم على الجنب قراءة القرآن. (كما قال الخطابي والنووي).
أ- لحديث عَلِي رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا اَلْقُرْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَهَذَا لَفْظُ اَلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَة.
وهذا الحديث مختلف فيه اختلافاً كثيراً.
فصححه: الترمذي، والحاكم، والشوكاني، وأحمد، وضعفه جمع من أهل العلم.
…
ب-ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) رواه الترمذي.
وهذا الحديث ضعيف لا يصح بالاتفاق.
لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عطية، وإسماعيل بن عياش في روايته عن غير أهل بلده ضعيفة هذا منها.
ج-عن أبي العريف قال: (أتي علي بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية) رواه أحمد.
فهذا الحديث صريح في منع الجنب من قراءة القرآن، لكن الحديث معلول، والراجح وقفه، وقد صححه موقوفاً الدار قطني فقال: هو صحيح عن علي.
وذهب بعض العلماء: إلى الجواز.
وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل العلم منهم: ابن عباس، فقد ذكره عنه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً بصحته فقال: ولم يرَ ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً.
وروى ابن المنذر في الأوسط عن عكرمة عن ابن عباس (أنه كان يقرأ ورده وهو جنب).
وجاء هذا القول أيضاً عن جماعة من التابعين، منهم: سعيد ابن المسيب، فقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن محمد بن طارق قال:(سألت ابن المسيب: أيقرأ الجنب شيئاً من القرآن؟ فقال: نعم).
ورجح هذا القول جماعة من المحققين، منهم: داود الطبري، وابن حزم، وابن المنذر.
أ-لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم.
وهذا الذكر عام يشمل قراءة القرآن والتسبيح والاستعاذة وغير ذلك.
ب-البراءة الأصلية.
ج-لم يثبت حديث صحيح تقوم به الحجة في منع الجنب.
• وأجاب الجمهور على أدلة من قال بالجواز:
أما حديث عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) فالجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بالذكر في الحديث غير القرآن، لأنه المفهوم عند الإطلاق.
قال النووي: وأجاب أصحابنا عن حديث عائشة (كان يذكر الله .. ) بأن المراد بالذكر غير القرآن فإنه المفهوم عند الإطلاق.
وقال ابن رجب: ليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن للجنب، لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد به القرآن.
والثاني: أنه عام وقد خصصته الأحاديث السابقة الدالة على تحريم قراءة القرآن حال الجنابة، ومنها ما رواه علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً. (ذكر ذلك الصنعاني في سبل السلام).
والراجح: الأحوط المنع.
•
قراءة القرآن للحائض:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز لها ذلك.
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
أ-لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) رواه الترمذي (وسبق أنه ضعيف).
ب-قياس الحائض على الجنب، فإذا منع الجنب من قراءة القرآن فالحائض أولى.
القول الثاني: يجوز لها ذلك.
وهذا مذهب مالك، واختاره ابن تيمية والشيخ ابن باز.
أ- لعدم الدليل الذي يمنع من ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في منع الحائض من القراءة نصوص صريحة صحيحة، وقال: ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن، كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء.
ب- إن الحيض قد يمتد ويطول فيخاف نسيانها.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت وهي محرمة (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) متفق عليه.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن ولم يمنعها النبي صلى الله عليه وسلم منه.
وهذا القول هو الصحيح.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: فقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع غير مرة وبينت أنه لا بأس ولا حرج أن تقرأ المرأة وهي حائض أو نفساء ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك، وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في هذا:
فمن أهل العلم من قال: إنها لا تقرأ كالجنب واحتجوا بحديث ضعيف رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن) وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة.
وبعض أهل العلم قاسها على الجنب قال: كما أن الجنب لا يقرأ فهي كذلك. لأن عليها حدثاً أكبر يوجب الغسل، فهي مثل الجنب.
والجواب عن هذا أن هذا قياس غير صحيح، لأن حالة الحائض والنفساء غير حالة الجنب، الحائض والنفساء مدتهما تطول وربما شق عليهما ذلك وربما نسيتا الكثير من حفظهما للقرآن الكريم، أما الجنب فمدته يسيرة متى فرغ من حاجته اغتسل وقرأ، فلا يجوز قياس الحائض والنفساء عليه، والصواب من قولي العلماء أنه لا حرج على الحائض والنفساء أن تقرأ ما تحفظان من القرآن، ولا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء آية الكرسي عند النوم، ولا حرج أن تقرأ ما تيسر من القرآن في جميع الأوقات عن ظهر قلب، هذا هو الصواب، وهذا هو الأصل، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لما حاضت في حجة الوداع قال لها (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ولم ينهها عن قراءة القرآن.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن. فيدل ذلك على أنه لا حرج عليها في قراءته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما منعها من الطواف؛ لأن الطواف كالصلاة وهي لا تصلي وسكت عن القراءة، فدل ذلك على أنها غير ممنوعة من القراءة ولو كانت القراءة ممنوعة لبينها لعائشة ولغيرها من النساء في حجة الوداع وفي غير حجة الوداع.
ومعلوم أن كل بيت في الغالب لا يخلو من الحائض والنفساء، فلو كانت لا تقرأ القرآن لبينه صلى الله عليه وسلم للناس بياناً عاماً واضحاً حتى لا يخفى على أحد، أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن بالنص ومدته يسيرة متى فرغ تطهر وقرأ.
الأغسال المشروعة وصفة الغسل
(الاغتسال من تغسيل الميت).
أي: فإذا غسل الإنسان ميتاً سُنّ له الغُسل.
وهذا قول جماهير العلماء.
وقد جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَه.
هذا الحديث مختلف في صحته.
وقد صحح بعض العلماء أنه موقوف، كالبيهقي، والبخاري، وابن أبي حاتم.
قال أبو حاتم: إنما هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات.
وقال البخاري بعد أن ساق الاختلاف على أبي هريرة في رفعه ووقفه، فقال: وهذا أشبه، يعني الموقوف.
وقال البيهقي: بعد أن رواه مرفوعاً وموقوفاً قال: هذا هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة.
وقال الإمام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء.
وكذا قال علي بن المديني: لا يثبت فيه حديث.
وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت.
وقد حسنه بعض العلماء، كابن حبان، وابن القطان، وابن حزم، والألباني.
والصارف عن الوجوب:
أ-حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس ينجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم). قال ابن حجر: إسناده حسن
ب-وحديث ابن عمر قال (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل). رواه الدار قطني. قال الحافظ: إسناده صحيح
قال الفقهاء: الغاسل هو من يقلبه ويباشره ولو مرّة، لا من يصب الماء ونحوه.
(الاغتسال إذا أفاق من جنون أو إغماء).
أي: ومن الأغسال المشروعة، الاغتسال إذا أفاق من جنون أو إغماء.
لحديث عَائِشَةَ. قالت (ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ
…
) متفق عليه.
قال ابن قدامة: ولَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ مِنْ الْإِغْمَاءِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ فِي نَفَسِهِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْغُسْلِ، وَوُجُودُ الْإِنْزَالِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، فَإِنْ تَيَقَّنَ مِنْهُمَا الْإِنْزَالَ فَعَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ احْتِلَامٍ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْمُوجِبَاتِ الْمَذْكُورَة. (المغني).
(والغسل الكامل).
أي: أن الغسل له صفتان:
الغسل الكامل المسنون.
والغسل المجزئ.
•
صفة الغسل الكامل المسنون كالتالي:
(أن ينوي).
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
فالنية شرط لصحة جميع العبادات.
فينوي رفع الحدث الأكبر، أو استباحة الصلاة أو القراءة أو نحو ذلك، فلو وقع الماء ولم ينو الغسل؛ أو اغتسل للتبرد ولم يكن قربة ولا عبادة؛ لا يرتفع حدثه.
فالنية شرط لصحة الطهارة، فلا تصح الطهارة بدونها.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال القرطبي: وجمهور العلماء على أن الوضوء لابد فيه من نية. (التفسير).
وقال ابن حجر: وأما الجمهور فيرون الوضوء عبادة مستقلة لا تصح إلا بنية.
أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
ففي هذه الآية معنى النية، لقوله (إذا قمتم) أي: أردتم القيام للصلاة، ففيه استحضار لمعنى القيام لأجل الصلاة، وهذا هو معنى النية.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) فهذا الحديث نص في وجوب النية في العبادات، فقد أثبت أن العمل لا يكون شرعياً يتعلق به ثواب أو عقاب إلا بالنية.
ج-أن الطهارة بالماء عن الحدث عبادة من العبادات الفعلية، فقد اشتُرط فيها من التحديد في الغسلات والمغسولات والماء ما يثبت كونها عبادة، وهي أيضاً عبادة مستقلة.
قال ابن رجب: ويدلُّ على صحَّةِ ذلك - أي اشتراط النية في الوضوء - تكاثرُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: بأنَّ الوُضوءَ يكفِّر الذُّنوبَ والخطايا، وأنَّ مَنْ توضَّأ كما أُمِرَ، كان كفَّارةً لذُنوبه، وهذا يدلُّ على أنَّ الوُضوءَ المأمورَ به في القرآنِ عبادةٌ مستقلَّةٌ بنفسها، حيث رتَّب عليه تكفيرَ الذنوبِ، والوضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكفِّرُ شيئاً من الذُّنوبِ بالاتِّفاقِ، فلا يكونُ مأموراً به، ولا تصحُّ به الصَّلاةُ. (جامع العلوم).
• والنية قصد الشيء المأمور به تقرباً إلى الله مقترناً بفعله. (الإعلام لابن الملقن).
• والنية محلها القلب.
قال ابن تيمية: والنية محلها القلب باتفاق العلماء، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم.
وقال رحمه الله: وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ.
فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ كَوْنُهُ أَوْكَدَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا.
لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مَشْرُوعًا لَمْ يُهْمِلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُبْتَلَاةٌ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
بَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا فَيَقُولُ: نَوَيْت بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ لُقْمَةً فَأَضَعُهَا فِي فَمِي فَأَمْضُغُهَا ثُمَّ أَبْلَعُهَا لِأَشْبَعَ. مِثْلَ الْقَائِلِ الَّذِي يَقُولُ: نَوَيْت أُصَلِّي فَرِيضَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيَّ حَاضِرَ الْوَقْتِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي جَمَاعَةٍ أَدَاءً لِلَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا كُلُّهُ حُمْقٌ وَجَهْلٌ وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ بَلَاغُ الْعِلْمِ فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُهُ كَانَ قَدْ نَوَاهُ ضَرُورَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنْ يَفْعَلَ بِلَا نِيَّةٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوع. (مجموع الفتاوى).
فائدة:
اشتراط النية إنما هو في طهارة الأحداث، إما إزالة النجاسة أو طهارة الأنجاس فلا يشترط لها نية.
قال النووي: إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية، فهو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، ونقل صاحب الحاوي والبغوي في شرح السنة إجماع المسلمين عليه. (المجموع).
وقال ابن عثيمين: فلو عَلَّق إِنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته، وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر.
(ثم يسمي).
وحكمها هنا كحكمها في الوضوء، وقد تقدم ذلك.
(ثم يغسل يديه ثلاثاً).
لحديث عائشة (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِغْتَسَلَ مِنْ اَلْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ).
وعن ميمونة. قالت (سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة فغسل يديه) رواه البخاري.
ويبدأ بالكفين لأنهما أداة غرف الماء، فينبغي طهارتهما.
(ثم يغسل فرجَه).
أ- لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه) متفق عليه.
ب- ولحديث ميمونة قالت (سَتَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ، أَوِ الأَرْضِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ) رواه البخاري.
وفي لفظ (
…
ثمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ وَهْوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ). رواه البخاري
•
الحكمة من غسل الفرج قبل الغسل:
أولاً: لإزالة الذي عليه.
ثانياً: لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مس فرجه في أثناء الغسل.
• واختلف العلماء: هل غسل الفرج مستحب مطلقاً أم إذا كان فيه أذى؟
فقيل: إن لم يكن هناك أذى فلا حاجة إلى غسل فرجه.
وهذا مذهب الشافعية.
لحديث ميمونة السابق (
…
ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ).
وقيل: مستحب مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية.
• ويستحب بعد غسل الفرج غسل اليد بمنظف عقب الاستنجاء بها، كأن يدلكها بالأرض، أو التراب، أو الصابون.
لحديث ميمونة: (
…
ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بها الأرض).
(ثم يتوضأ وضوءه للصلاة).
أي يسن له أن يتوضأ قبل الغسل.
لحديث عائشة السابق (
…
فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ).
قال الشوكاني: قدّم غسل الأعضاء تشريفاً لها، ولتكمل لها الطهارتان.
• هذا الوضوء سنة بالإجماع.
لأن الله أمر بالغسل ولم يذكر الوضوء، فليس واجباً لا قبل الغسل ولا بعده، بل إذا اغتسل كفى، لقوله تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فلم يوجب علينا سوى أن نطهر، أي نَعُمَّ البدن بالماء.
• وقوله (وضوءه للصلاة) أي: وضوءاً كاملاً، أي: مع غسل الرجلين لحديث عائشة السابق.
لكن جاء في حديث ميمونة: (
…
ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ).
فذهب بعض العلماء: إلى أنه يستحب تأخير غسل الرجلين في الغسل.
والصحيح أنه يتوضأ وضوءاً كاملاً مع الرجلين.
لأن هذا الغالب من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن عائشة ذكرت غسل النبي صلى الله عليه وسلم للجنابة على سبيل الدوام، وأما حديث ميمونة فيحمل أن ذلك كان لحاجة، كما لو كانت الأرض رطبة، لأنه لو غسلهما لتلوثت رجلاه بالطين.
(ثم يخلل شعر رأسه).
لحديث عائشة (
…
ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ).
• صفة التخليل: أن يدخل الأصابع فيما بين أجزاء الشعر.
•
فائدة التخليل:
قال ابن الملقن: للتخليل ثلاث فوائد:
الأولى: تسهيل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة.
ثانياً: مباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه.
ثالثها: تأنيس البشرة، خشية أن يُصيب بصبه دفعة آفة في رأسه.
(ثُمَّ يَحْثِي اَلْمَاء عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يَرْوِيهِ بِذَلِكَ).
أي: وبعد أن يتوضأ وضوءه للصلاة ويخلل شعر رأسه، يحثي الماء على رأسه ثلاثاً.
لحديث عائشة (حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ).
وفي حديث ميمونة (ثمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ).
• اختلف العلماء: هل يستحب التثليث في بقية البدن كالرأس أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنه يستحب غسل البدن ثلاثاً.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
أ- قياساً على الوضوء، فإذا استحب التكرار في الوضوء فالغسل أولى.
ب- وقياساً على غسل الرأس، فكما ثبت تثليث غسل الرأس في الغسل فكذلك البدن ولا فرق.
القول الثاني: لا يستحب ذلك، بل الاقتصار على مرة واحدة.
وبه قال مالك، واختاره ابن تيمية.
لقوله عائشة وفيه (
…
ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ).
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أفاض الماء على جسده كله ولم يكرره عليه، فدل على أن التكرار في غسل البدن غير مشروع.
وهذا هو الصحيح.
• يستحب له بعد ذلك أن يبدأ بشقه الأيمن.
لحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء من الحلاب، فأخذ بكفيه ثم بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر). متفق عليه الحلاب: إناء يسع قدر حلب ناقة.
(ثم يعمم جسده بالماء).
لحديث عائشة (ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ).
وفي رواية (ثم غسل سائر جسده).
وفي حديث ميمونة (ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ).
(ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل سائر جسده).
• وظاهره أنه ليس فيه تثليث، وأن التثليث خاص بغسل الرأس فقط كما سبق في حديث عائشة.
• قوله (ثم يفيض الماء
…
) هذا دليل على أن الدلك غير واجب.
والدلك هو إمرار اليد على البدن مع الماء أو بعده.
وهو مستحب.
أ-لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَد.
ب-ولأن ذلك من الإسباغ المستحب.
والقول باستحبابه هو قول جمهور العلماء.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبه.
وهو قول المالكية.
أ-استدلالاً بحديث عبد الله بن زيد السابق.
ب-وقياساً على التيمم، لأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا.
والراجح عدم وجوبه، ويدل لذلك:
أ- حديث عمران بن حصين (
…
الحديث وفيه: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم قال له بعد أن حضر الماء: اذهب فأفرغْه عليك
…
) رواه البخاري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه إلا إفراغ الماء على جسده، ولو كان الدلك لازماً لأخبره النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- وحديث عائشة في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم (
…
ثم غسل سائر جسده).
ج- وحديث أم سلمة (قالت: قلت يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) رواه مسلم.
فهذا دليل على أن الدلك ليس بواجب، وإلا لما طهرت بمجرد إفاضة الماء.
د- ولأن الله أمر بغسل أعضاء الوضوء، ولم يتعرض للدلك، وكذا الأحاديث التي بينت فروض الوضوء، لم تتعرض للدلك، فدل على عدم اشتراطه وصحة الوضوء بدونه.
هـ-أن الله أمر بتطهير هذه الأعضاء بالغَسْل، والغَسل اسم لإمرار الماء على الموضع من غير دلك.
قال النووي رحمه الله: مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل وفي الوضوء سنة ليس بواجب، فلو أفاض الماء عليه فوصل به ولم يمسه بيديه، أو انغمس في ماء كثير، أو وقف تحت ميزاب، أو تحت المطر ناويا، فوصل شعره وبشره أجزأه وضوءه وغسله، وبه قال العلماء كافة إلا مالكا والمزني، فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء.
واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه (فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك) ولم يأمره بزيادة، وهو حديث صحيح وله نظائر كثيرة من الحديث. (المجموع).
وقال رحمه الله: واتفق الجمهور على أنه يكفي في غسل الأعضاء في الوضوء والغسل جريان الماء على الأعضاء، ولا يشترط الدلك، وانفرد مالك والمزني باشتراطه. (شرح مسلم).
وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا يجب عليه إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء، إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده. وهذا قول الحسن والنخعي والشعبي وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، وقال مالك: إمرار يده إلى حيث تنال يده واجب. (المغني).
وقال ابن تيمية: وأما دلك البدن في الغسل، ودلك أعضاء الوضوء فيه: فيجب إذا لم يعلم وصول الطهور إلى محله بدونه، مثل باطن الشعور الكثيفة، وإن وصل الطهور بدونها فهو مستحب. (شرح العمدة).
• وأما قياس الدلك على التيمم فقياس بعيد.
قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد، لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر في الغالب إمرار التراب إلا باليد.
•
متى يكون الدلك واجباً؟
إذا كان إتمام الوضوء يتوقف على الدلك، كأن يكون الماء قليلاً، فهنا يجب إمرار اليد على العضو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
•
هل يجب على المرأة نقض شعر رأسها لغسل الجنابة؟
لا يجب.
وهذا قول جماهير العلماء ولم يخالف إلا القليل.
أ-لحديث أُم سَلَمَة رضي الله عنها قَالَتْ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنِّي اِمْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ اَلْجَنَابَةِ? وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَيْضَةِ? فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ) رَوَاهُ مُسْلِم.
ب- وورد عن عدد من النساء أنهنّ سألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل (مع كثرة استعمالهن للظفر) فلم يأمر إحداهن بأن تحل قرون رأسها.
وقد أنكرت عائشة على ابن عمرو قوله فيما رواه مسلم من طريق عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ (بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ فَقَالَتْ يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ أَفَلَا يَأْمرهنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَات).
قال ابن القيم في (تهذيب السنن): حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَة أَنَّ تَنْقُض شَعْرهَا لِغُسْلِ الْجَنَابَة، وَهَذَا اِتِّفَاق مِنْ أَهْل الْعِلْم، إِلا مَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالا تَنْقُضهُ، وَلا يُعْلَم لَهُمَا مُوَافِق.
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: بعض النساء لدينا يمشطن شعورهن - أي: يضفرنها - وعندما يغتسلن من الجنابة لا تفك المرأة ضفائرها، فهل يصح غسلها؟ مع العلم أن الماء لم يصل إلى كل منابت شعرها. أفيدونا أفادكم الله.
فأجاب: إذا أفاضت المرأة على رأسها كفى؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالت: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فإذا حثت المرأة على رأسها الماء ثلاث حثيات كفاها ذلك ولا حاجة إلى نقضه؛ لهذا الحديث الصحيح. (مجموع فتاوى الشيخ ابن باز)
•
هل يجب على المرأة أن تنقض شعرها للغسل من الحيض؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يجب عليها أن تنقضه للغسل من الحيض.
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو قول الظاهرية واختيار ابن القيم.
أ- ما رواه مسلم من طريق إبراهيم بْنِ الْمُهَاجِرِ قَالَ: سَمِعْتُ صَفِيَّةَ تُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ فَقَالَ: تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِينَ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ أو تُبْلِغُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ) الحديث.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا دليل أنه لا يكتفى فيه بمجرد إفاضة الماء كغسل الجنابة
…
ففرق بين غسل الحيض والجنابة في هذا الحديث، وجعل غسل الحيض أكثر، ولهذا أمر فيه بالسدر المتضمن لنقضه.
ب-ما رواه مسلم من طريق عروة عن عائشة. قالت (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي
…
الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت: انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن العمرة)، فأمرها بنقض رأسها وهي تغتسل من الحيض.
ج- أن الأصل نقض الشعر لتيقن وصول الماء إلى ما تحته، إلا أنه عفي عنه في غسل الجنابة لتكرره ووقوع المشقة الشديدة في نقضه، بخلاف غسل الحيض فإنه في الشهر مرة.
القول الثاني: أنه لا يجب نقضه في غسل الحيض.
وهذا قول جمهور العلماء، اختار هذا القول ابن قدامة، وصاحب الشرح الكبير ابن أبي عمر، واختاره الشوكاني، والسعدي ومحمد بن إبراهيم.
أ- لحديث أم سلمة السابق (أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ اَلْجَنَابَةِ? وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَيْضَةِ? فَقَالَ: لا
…
)، ولو كان النقض واجباً لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
ب-ولما ورد في إنكار عائشة على ابن عمرو في غسلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لا تزيد على أن تفرغ على رأسها ثلاث فراغات.
ج- ولأنه موضع من البدن فاستوى فيه الحيض والجنابة كسائر البدن. وهذا القول هو الراجح.
قال الشيخ ابن باز: والصحيح أنه لا يجب عليها نقضه في غسل الحيض، لما رود في بعض روايات أم سلمة عند مسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:(إني امرأة أشد ظفر رأسي، أفأنقضه للحيض والجنابة؟ قال: لا)، ومذهب الجمهور أنه إذا وصل الماء إلى جميع شعرها ظاهره وباطنه من غير نقض، لم يجب النقض.
•
…
الحكمة من التفريق بين الجنابة والحيض عند من يقول به:
الحكمة: أن الأصل وجوب نقض الشعر، ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله، فعفي عنه في غسل الجنابة، لأنه يكثر فيشق ذلك فيه، بخلاف الحيض فالغالب أنه في الشهر مرة فلا مشقة في نقضه، فيبقى على مقتضى الأصل، وهو الوجوب.
•
وهل للرجل نفس الحكم إذا ضفّر شعره؟
قال ابن قدامة: والرجل والمرأة في هذا سواء، وإنما خصت المرأة بالذكر لأن العادة اختصاصها بكثرة الشعر وتوفيره وتطويله.
(والمجزئ أن يعمم بدنه بالغسل مرة).
أي: والغسل المجزئ: أن يعمم بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق.
لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ولم يذكر الله شيئاً سوى ذلك، ومن عمم بدنه بالغسل مرة صدق عليه أنه تطهر.
• قوله (ويعمم بدنه) يشمل حتى ما تحت الشعر الكثيف، فيجب غسل ما تحته بخلاف الوضوء، فلا يجب غسل ما تحته.
• الشعر الكثيف: هو الذي لا يُرى من ورائه البشرة.
(ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع).
أي: يسن أن يكون وضوءه بمد، وأن يكون اغتساله بصاع.
لحديث أنس. قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ) متفق عليه.
المد: ما يملأ كفيّ الرجل المعتدل في الخِلقة.
• مقدار ما كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم:
o ورد أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بمدّ:
كما في حديث أنس السابق.
o وورد ثلثي مد:
كما في حديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَد.
وهذا أقل ما ورد أنه توضأ به.
قال الصنعاني: فثلثا المد هو أقل ما ورد أنه توضأ به صلى الله عليه وسلم.
o وورد أنه توضأ بثلث مد.
قال الصنعاني: وأما حديث: أنه توضأ بثلث المد فلا أصل له.
o وورد في نصف مد.
لكنه حديث لا يصح. قال الشوكاني: أما حديث أنه توضأ بنصف مد فأخرجه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة، وفي إسناده الصلت بن دينار، وهو متروك.
• وهذه الروايات تدل على أن المسألة تقريبية، وأنه ليس هناك شيء محدد، لكن المهم هو عدم الإسراف.
قال النووي: وأجمعوا على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير إذا وجد شرط الغسل وهو جريان الماء على الأعضاء.
• مقدار ما اغتسل به النبي صلى الله عليه وسلم:
ورد صاع. كما في حديث أنس السابق.
وورد عن عائشة كما في صحيح مسلم (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء هو الفَرَق). (والفرق = 3 أصواع).
فعلى حسب الروايات: أقل ما ورد في الغسل ثلاثة أمداد.
وأكثر ما اغتسل به صاع إلى صاع ومد.
(وإن نوى بغسلهِ الحدثين أجزأ).
أي: إذا نوى بغسله رفع الحدث الأكبر والأصغر جميعاً فإنه يرتفعان.
لقوله (إنما الأعمال بالنيات).
• فإن نوى بغسله رفع الحدث الأكبر فقط دون الأصغر
فقيل: يرتفع الأكبر ولا يرتفع الأصغر، فلا يجزئ الغسل عن الوضوء.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
وجه الدلالة: أنه لم ينو بغسله رفع الحدثين، وإنما نوى رفع الحدث الأكبر فليس له إلا ما نواه.
وقيل: يرتفع الحدثان، فيجزئ الغسل عن الوضوء وإن لم ينوه، ما دام أنه نوى بغسله رفع الحدث الأكبر.
وبهذا قال مالك، والشافعي، وهو قول الجمهور.
واختاره ابن تيمية.
أ-لقوله تعالى (وإن كنتم جنباً فاطهروا) ولم يذكر الله شيئاً غير الاغتسال.
ب- ولحديث أم سلمة - في صفة غسل الجنابة - حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين
عليك فتطهرين) رواه مسلم.
وفي حديث علي. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في المذي الوضوء، وفي المني الغسل) رواه أحمد.
وفي حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال لها صلى الله عليه وسلم (إذا أقبلت الحيضة
…
وإذا أدبرت فاغتسلي) متفق عليه.
وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنه لم يذكر الوضوء في الطهارة الكبرى، مما يدل على أنه غير واجب، ولو كان واجباً لذكره
وهذا القول هو الراجح.
• فائدة: سئل ابن عثيمين: ما الحكم إذا عم الشخص بدنه بالماء غسلاً للجمعة أو لنظافة، هل يجزئه عن الوضوء؟
لا، إذا اغتسل للجمعة فلا يجزئه عن الوضوء، والنظافة لا تجزئ عن الوضوء، وذلك لأن غسل الجمعة والنظافة ليسا عن حدث، والوضوء إنما يكون عن الحدث.
أما الحدث الأكبر يجزِئ، يعني: لو اغتسل الإنسان وعليه جنابة أجزأ عن الوضوء؛ لكن لابد من المضمضة والاستنشاق. (الشيخ ابن عثيمين).
وسئل: هل الغسل للجمعة يجزئ عن الوضوء؟
لا؛ لأن غسل الجمعة ليس عن حدث، أما غسل الجنابة فيجزي عن الوضوء، والدليل على أنه يجزئ عن الوضوء قول الله تبارك وتعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ولم يذكر الوضوء. (الشيخ ابن عثيمين).
(ويسن لجنب الوضوء لأكل ونوم ومُعاودة وطء).
أي: يسن للإنسان إذا كان جنباً أن يتوضأ إذا أراد الأكل.
والجنب: من عليه جنابة.
لحديث عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ) رواه مسلم.
(ونوم).
أي: ويسن للإنسان إذا كان جنباً وأراد أن ينام أن يتوضأ.
أ-لحديث ابن عمر: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ). متفق عليه.
ب- عَنْ أَبِى سَلَمَةَ قَالَ (سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْقُدُ وَهْوَ جُنُبٌ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ).
فالحديث دليل على استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
وهو ثابت بالسنة القولية والفعلية.
القولية: الحديث السابق (أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ فليرقد).
والفعلية: كما في حديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام). رواه مسلم
• والصارف عن الوجوب:
أنه جاء في رواية عند ابن حبان (يتوضأ إن شاء).
وحديث عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء). رواه أبو داود [ولكن مختلف في صحته، والأقرب أنه ضعيف].
قال في الفتح: ونقل الطحاوي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة (أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجنب، ثم ينام ولا يمس ماء) رواه أبو داود.
وتُعُقّب بأن الحفاظ قالوا: بأن أبا إسحاق غلط فيه، وبأنه لو صح حمِل على أنه ترك الوضوء لبيان الجواز، لئلا يعتقد وجوبه.
أو أن معنى قوله (لا يمس ماء) أي: للغسل.
قال النووي: وَأَمَّا حَدِيث أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيّ عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنَام وَهُوَ جُنُب وَلَا يَمَسّ مَاء، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَغَيْرهمْ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: عَنْ يَزِيد بْن هَارُون وَهَمَ أَبُو إِسْحَاق فِي هَذَا، يَعْنِي فِي قَوْله: لَا يَمَسّ مَاء. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا غَلَط مِنْ أَبِي إِسْحَاق. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: طَعَنَ الْحُفَّاظ فِي هَذِهِ اللَّفْظَة، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ضَعْفُ الْحَدِيث، وَإِذَا ثَبَتَ ضَعْفُهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَا يَتَعَرَّض بِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مُخَالِفًا، بَلْ كَانَ لَهُ جَوَابَانِ: أَحَدهمَا جَوَاب الْإِمَامَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي الْعَبَّاس بْن شُرَيْحٍ وَأَبِي بَكْر الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ الْمُرَاد لَا يَمَسّ مَاء لِلْغُسْلِ. وَالثَّانِي وَهُوَ عِنْدِي حَسَنٌ: أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْض الْأَوْقَات لَا يَمَسّ مَاء أَصْلًا، لِبَيَانِ الْجَوَاز. إِذْ لَوْ وَاظَبَ عَلَيْهِ لَتَوَهَّمَ وُجُوبه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: وقد ذهب أكثر العلماء إلى هَذهِ الأحاديث، وقالوا: إن الجنب إذا أراد النوم غسل ذَكره وتوضأ.
وممن أمر بذلك: علي، وابن عمر، وعائشة، وشداد بنِ أوس، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وَهوَ قول الحسن، وعطاء، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم مِن العلماء، وكرهوا تركه معَ القدرة عليهِ.
ومنهم مِن قالَ: هوَ واجب ويأثم بتركه، وَهوَ رواية عَن مالك، واختارها ابن حبيب مِن أصحابه، وَهوَ قول طائفة مِن أهل الظاهر.
…
(فتح الباري) ل ابن رجب.
•
وهل المرأة كالرجل؟
الظاهر أن المرأة الجنب والرجل في هذا سواء، لأن الأصل استواؤهما في الأحكام إلا ما ورد الدليل بالتفرقة بينهما.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: واختلفوا: هل المرأة في ذَلِكَ كالرجل، أم لا؟
فقالت طائفة: هما سواء.
وَهوَ قول الليث، وحكي رواية عَن أحمد، وقد نص على التسوية بينهما في الوضوء للأكل.
والثاني: أن الكراهة تختص بالرجل دونَ المرأة.
وَهوَ المنصوص عَن أحمد.
ولعله يستدل بأن عائشة لَم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يأمرها بالوضوء، وإنما أخبرت عَن وضوئه لنفسه. (فتح الباري) لابن رجب
• هل الحائض كالرجل الجنب في ذلك، فيشرع لها الوضوء عند الأكل وعند النوم؟
والجواب: لا، لأن حدث الحائض وهو خروج الدم مستمر، فلا ينفعها الوضوء بتخفيف الحدث، بل لو اغتسلت لم ينفعها الاغتسال، أما الجنب، فإذا اغتسل ارتفعت جنابته، وإذا توضأ خفت.
لكن
…
إذا انقطع دم الحائض فيصح قياسها حينئذ على الجنب فتتوضأ قبل الأكل وقبل النوم.
قال الحافظ ابن حجر: وقال ابن دقيق العيد: نصَّ الشافعي رحمه الله على أن ذلك ليس على الحائض؛ لأنها لو اغتسلت لم يرتفع حدثُها بخلاف الجنب لكن إذا انقطع دمها استحب لها ذلك.
قال ابن رجب: وقد دلت هَذهِ الأحاديث المذكورة في هَذا الباب: على أن وضوء الجنب يخفف جنابته.
وقال النووي رحمه الله وأصحابنا متفقون على أنه لا يُستحب الوضوء للحائض والنفساء [يعني: قبل النوم]؛ لأن الوضوء لا يؤثر في حدثهما، فإن كانت الحائض قد انقطعت حيضتها صارت كالجنب، والله أعلم. (شرح مسلم).
•
الحكمة من الوضوء:
قيل: أنه يخفف الحدث.
وقيل: أنه إحدى الطهارتين.
وقيل: أنه ينشط إلى العَوْد أو إلى الغسل.
فائدة: الحديث دليل على أن الاغتسال من الجنابة ليس على الفور ما لم يحضر وقت الصلاة.
ودليل أيضاً على ضعف الحديث الوارد في سنن أبي داود عن علي مرفوعاً (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب).
قال الخطابي: يحتمل أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال ويتخذ تركه عادة لا من يؤخره ليفعله.
قال: ويقويه أن المراد بالكلب غير ما أذن في اتخاذه، وبالصورة ما فيه روح وما لا يمتهن.
(ومُعاودة وطء).
أي: ويسن للإنسان إذا كان جنباً وأراد أن يعود للجماع أن يتوضأ.
لحديث أَبِي سَعِيد اَلْخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
زَادَ اَلْحَاكِمُ: (فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ).
وهذا أمر لكنه ليس للوجوب، والصارف عن الوجوب:
أنه جاء في رواية الحاكم (فإنه أنشط للعَوْد).
فهذا التعليل مشعر بأن القضية تتعلق بأمر يخص نشاط الرجل في الجماع، وليس معلق بأمر شرعي.
•
الحكمة من هذا الوضوء:
أشارت إليه رواية الحاكم (فإنه أنشط للعود) لأن المجامع يحصل له كسل وانحلال، والماء يعيد إليه نشاطه وقوته وحيويته.
باب التيمم
التيمم لغة: القصد، يقال: تيمم الشيء ويمّمه، أي: قصده.
وشرعاً: التعبد لله بقصد الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين.
وهو من خصائص هذه الأمة كما سيأتي في الحديث إن شاء الله.
وهو مشروع عند فقد الماء أو العجز عن استعماله كما سيأتي إن شاء الله.
(وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع).
قال تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).
ومن السنة: أحاديث كثيرة:
أ-عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ (وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ اَلْمَاءَ).
…
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ (وَجُعِلَ اَلتُّرَابُ لِي طَهُورًا).
(وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ) أي: جعلها الله لي حلالاً، والمراد بها: ما يؤخذ من أموال الكفار في الجهاد، وكانت في الأمم السابقة تجمع في مكان، ثم تنزل عليهم نار من السماء فتحرقها (وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ) المراد بها: الشفاعة العظمى، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في أهل الموقف أن يُقضَى بينهم.
ب- وعن عِمْرَان بْن حُصَيْن الْخُزَاعِيُّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ «يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّىَ فِي الْقَوْمِ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. قَالَ «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ).
ج- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَعَثَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ اَلْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي اَلصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ اَلدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا" ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ اَلْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ اَلشِّمَالَ عَلَى اَلْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ اَلْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ).
وأجمعت الأمة على جواز التيمم من حيث الجملة. [نقل الإجماع النووي وابن قدامة].
•
سبب مشروعيته: ضياع عقد عائشة.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ - أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ - انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِى بَكْرٍ. قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ). متفق عليه.
(فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ) أي: لأجل طلب ذلك العقد الضائع، (وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ) أي: ليسوا نازلين على محل يوجد فيه ماء، (وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ) أي: وليسوا أيضاً حاملين معهم ماء من محل آخر، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا) وهي آية المائدة على الراجح، فقد جاء في رواية للحديث عند المصنف (فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
…
إلى قوله: تشكرون) وهي صريحة في أن الآية نزلت كاملة في قوت واحد في تلك السفرة.
(وهو بدل عن الماء عند تعذر استعماله).
أي: أن التيمم بدل عن الماء، ومن المعلوم أن البدل له حكم المبدل، فهذا يدل على أنه رافع ويقوم مقام الماء.
وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
أ- لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ). قالوا: هذا دليل على أن التيمم طهارة، فهو مطهر كما يطهر الماء بنص القرآن.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). قالوا:
هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له إلا أن طهرة التراب مؤقتة.
ج- أنه بدل، والقاعدة الشرعية:(أن البدل له حكم المبدل).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه مبيح لا رافع.
وهذا مذهب الشافعي ونسبه النووي للجمهور.
لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليمسه بشرته). رواه الترمذي.
قالوا: ولو رفع الحدث لم يحتج الماء إذا وجده.
والأول أصح.
وعليه: إذا تيمم لنافلة فإنه يصلي به فريضة وغيرها من الصلوات، ولا يبطل بخروج الوقت، لأنه يقوم مقام الماء.
وإذا تيمم لمس المصحف صلى به نافلة.
(عند عدم الماء أو زاد على ثمنهِ كثيراً).
أي: يشترط للتيمم عدم الماء، وهذا شرط للتيمم بالإجماع.
فإذا كان غير واجد للماء لا في بيته، ولا في رحله إن كان مسافراً، ولا ما قرب منه؛ فإنه يشرع له التيمم.
أ-لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا).
ب- ولحديث حُذَيْفَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا
مَسْجِداً، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ) رواه مسلم.
ج-وللحديث السابق (الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليمسه بشرته).
(ويجب عليه طلب الماء).
أي: يجب عليه قبل التيمم أن يطلب ويبحث عن الماء في رحله وبقربه وبدلالة.
قال ابن قدامة: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ اشْتِرَاطُ طَلَبِ الْمَاءِ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
لقَوْله تَعَالَى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِهِ مَاءٌ لَا يَعْلَمُهُ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ فِي الظِّهَارِ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، قَالَ:(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لَمْ يُبِحْ لَهُ الصِّيَامَ حَتَّى يَطْلُبَ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يُعَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِدٍ.
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَلَزِمَهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهِ عِنْدَ الْإِعْوَازِ، كَالْقِبْلَةِ. (المغني).
(أو زاد على ثمنهِ كثيراً).
أي: إذا وجد الماء بثمن زائد على ثمنه كثيراً فإنه يعدل إلى التيمم.
قالوا: إن هذه الزيادة تجعله في حكم المعدوم.
وذهب بعض العلماء: إن كان قادراً على شرائه لوجود ثمنه عنده؛ فإنه يشتريه إذا لم يكن عليه ضرر.
لأن الله يقول: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً). والماء هنا موجود.
وهذا الصحيح.
• لكن إن كان غير واجد الثمن، أو ليس معه إلا بعضه؛ فهو عادم للماء، ولا يلزمه الاقتراض، لما في ذلك من المنة.
(أو خاف باستعماله ضرر بدنه، أو رفيقه أو حرمته).
هذه من الحالات التي يجوز فيها التيمم، وهي إذا خاف باستعمال الماء الضرر، فيخاف إذا استعمل الماء المرض.
وكما لو حصل برد شديد، وعَدِمَ ما يسخن به الماء، وخاف الضرر من البرد.
أ- لأنه داخل في عموم قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى).
ولقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
ب-وحديث عمرو بن العاص قال (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو، أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول (ولا تقتلوا أنفسكم) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) رواه أبو داود.
وجه الدلالة:
سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز، لأنه لا يقر على الخطأ، ولأنه خائف على نفسه، فأبيح له التيمم كالجريح والمريض.
قال شمس الحق آبادي رحمه الله -في شرح حديث عمرو بن العاص-: فيه دليل على جواز التيمم عند شدة البرد من وجهين:
الأول: التبسم والاستبشار.
والثاني: عدم الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل، والتبسم والاستبشار أقوى دلالة من السكوت على الجواز.
وقال الخطابي: فيه من الفقه أنه عليه السلام جعل عدم إمكان استعمال الماء، كعدم عين الماء، وجعله بمنزلة من يخاف العطش ومعه ماء فأبقاه ليشربه وليتيمم به خوف التلف.
قال النووي: المرض ثلاثة أضرب:
أحدها: مرض يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفاً ولا مرضاً مخوفاً ولا إبطاء برء ولا زيادة ألم ولا شيئاً فاحشاً، وذلك كصداع ووجع
ضرس وحمى وشبهها.
فهذا لا يجوز له التيمم بلا خلاف عندنا، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه أصحابنا عن أهل الظاهر وبعض أصحاب مالك: أنهم جوزوه للآية.
الضرب الثاني: مرض يخاف معه من استعمال الماء تلف النفس أو عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو، فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء.
الضرب الثالث: أن يخاف إبطاء البرء، أو زيادة المرض، وهي كثرة الألم، وإن لم تطل مدته أو شدة الضنى، وهو الداء الذي يخامر صاحبه، وكلما ظن أنه برئ نكس.
فالصحيح جواز التيمم ولا إعادة عليه، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وأكثر العلماء لظاهر الآية وعموم البلوى. (شرح المهذب)
وجاء في فتاوى (اللجنة الدائمة) من به جروح أو قروح أو كسر أو مرض يضره منه استعمال الماء فأجنب جاز له التيمم، وإن أمكنه غسل الصحيح من جسده وجب عليه ذلك وتيمم للباقي.
فائدة: في قصة عمرو بن العاص فوائد:
أولاً: جواز إمامة المتيمم بالمتوضئين. وهذا مذهب الجمهور.
ثانياً: جواز التيمم إذا خشي الإنسان البرد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك سواء كان لأجل برد أو غيره، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين.
ثالثاً: أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل يعمل به.
رابعاً: أنه لا يلزمه الإعادة فيما بعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة، لأنه أتى بما أمر به.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمره بالإعادة؛ لأن مَن خاف الضرر كمن فيه الضرر، لكن بشرط أن يكون الخوف غالباً أو قاطعاً، أما مجرد الوهم فهذا ليس بشيء. (مجموع فتاوى الشيخ العثيمين).
• قوله (أو خاف باستعماله ضرر رفيقه أو حرمته).
ضرر رفيقه: أن يكون معه قليل ورفقة، فإن استعمل الماء عطش الرفقة وتضرروا، فهنا يتيمم ويدع الماء للرفقة.
أو حرمته: خاف باستعمال الماء ضرر امرأته.
أو ماله: كما لو كان معه حيوان، وإذا استعمل الماء تضرر أو هلك.
(ومَن وجدَ ماءً يَكفي بعضَ طُهرهِ تيمم بعد استعمالهِ).
أي: إذا وجد الإنسان ماء يكفي بعض طهره، فإنه يستعمله، ثم يتيمم.
مثال: إنسان عنده ماء يكفي لغسل الوجه واليدين فقط، فإنه هنا يستعمله ثم يتيمم.
أ-لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا).
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). متفق عليه
ج- وليصدق عليه أنه عادم للماء إذا استعمله قبل التيمم.
وقيل: يتيمم ولا يلزم استعماله، وهذا اختيار المصنف.
والأول أرجح.
(ويجب التيمم بترابٍ طهور له غبار).
أي: يشترط لصحة التيمم أن يكون بتراب.
وهذا مذهب أحمد والشافعي وداود وأكثر الفقهاء. [قاله النووي]
أ- لحديث حذيفة السابق (وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا).
وحديث (وَجُعِلَ اَلتُّرَابُ لِي طَهُورًا).
فخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه، ولو كان غير التراب طهوراً لذكره فيما منّ الله تعالى به عليه.
ب- ولقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه أمر بالتيمم بالصعيد - وهو التراب - كما فسره ابن عباس، وقال تعالى (منه) أي: ببعضه، ولا يحصل المسح بشيء منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد والوجه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز بكل ما تصاعد على الأرض من ترابها ورملها وحجرها ومدرها.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، واختاره ابن تيمية وابن القيم.
أ-لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).
وجه الدلالة من وجهين:
أحدهما: أن الصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعم كل صاعد، فيتناول الحجر والمدر وسائر أجزاء الأرض.
الثاني: أن معنى (منه) في الآية المذكورة لابتداء الغاية، فيكون ابتداء الفعل بالأرض، وانتهاء المسح بالوجه، فيمسح من وقت الضرب لا قبله.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فدل على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض.
ج-ولحديث أبي جهم قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه السلام.
د- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك وقطعوا تلك الرمال في طريقهم، لم يرد أنهم حملوا التراب معهم ولا أمرهم به، بل كانوا يتيممون بما تيسر لهم من الأرض.
وهذا القول هو الصحيح.
قال السعدي: والصحيح أنه يصح التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب له غبار أو رمل أو حجر أو غير ذلك
وقال ابن القيم: ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة، ولم يرد أنه حمل معه التراب ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: القول الراجح أنه لا يشترط للتيمم أن يكون تراب له غبار، بل إذا تيمم على الأرض أجزأه سواء كان فيها غبار أم لا.
وهذا القول هو الراجح.
وأما دليلهم: (وجعلت تربتها
…
) فهذا من ذكر بعض أفراد العام ما يوافق حكم العام، وذكر بعض أفراد العام بما يوافق العام لا يفيد التخصيص.
• وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن المريض لا يجد التراب فهل يتيمم على الجدار، وكذلك الفرش أم لا؟
فأجاب: الجدار من الصعيد الطيب، فإذا كان الجدار مبنياً من الصعيد سواء كان حجراً أو كان مدراً- لَبِنًا من الطين -، فإنه يجوز التيمم عليه، أما إذا كان الجدار مكسواً بالأخشاب أو (بالبوية) فهذا إن كان عليه تراب - غبار - فإنه يتيمم به ولا حرج، ويكون كالذي يتيمم على الأرض؛ لأن التراب من مادة الأرض، أما إذا لم يكن عليه تراب، فإنه ليس من الصعيد في شيء، فلا يتيمم عليه.
وبالنسبة للفرش نقول: إن كان فيها غبار فليتيمم عليها، وإلا فلا يتيمم عليها لأنها ليست من الصعيد.
(طَهور).
أي: يشترط أن يكون التراب طهوراً.
فلا يجوز التيمم بتراب نجس، كأن يصيبه بول ولم يطهر.
لقوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والطيب ضد الخبيث.
(له غبار).
أي: يشرط أن يكون هذا التراب له غبار، فإن لم يكن له غبار لم يصح التيمم به، كالرمل الخشن، وكالتراب إذا أصابه الندى.
ودليل هذا قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ).
و (من) للتبعيض، ولا يتحقق التبعيض إلا بتراب له غبار يعلق باليد، ويمسح به الوجه واليدان.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط الغبار، فلو تيمم على أرض أصابها ندى صح.
لعموم قوله تعالى (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر في الأرض الرملية والتي أصابها مطر، فكانوا يتيممون كما أمر الله تعالى.
وأما (من) في الآية فليست للتبعيض، وإنما لابتداء الغاية، أي: أن المسح يكون من هذا الصعيد.
(وفروضه: مسح وجههِ ويديه إلى كوعيهِ).
أي: فروض التيمم:
أولاً: مسح الوجه.
ثانياً: مسح اليدين.
(ونية).
قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن التيمم لا يصح إلا بنية.
أ- لقوله تعالى (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا).
قال ابن حجر: استدل بالآية على وجوب النية في التيمم، لأن معنى (فتيمموا) اقصدوا.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.
ج- ولأن التيمم طهارة حكمية فاشترطت لها النية.
(والترتيب).
أي: ومن فروض التيمم الترتيب، وهو أن يبدأ بالوجه قبل اليدين.
أ- لقوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) فبدأ بالوجه قبل اليدين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بما بدأ الله به).
ب- ولأن التيمم مبني على الطهارة بالماء، والترتيب فرض فيها.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الترتيب في الحدث الأصغر سنة ليس بواجب.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
والراجح الأول.
• وأما حكم الترتيب في التيمم عن الحدث الأكبر، فجمهور العلماء أنه سنة ليس واجب.
قياساً على الأصل وهو الغسل بالماء، فإن بدن الجنب في الغسل بمنزلة عضو واحد، ولا ترتيب في العضو الواحد، فإذا لم يفترض الترتيب في الأصل وهو الاغتسال بالماء، فلأن لا يفترض في بدله وهو التيمم من باب أولى.
وقيل: الترتيب فرض في التيمم عن الحدث الأكبر، وهو مذهب الشافعية.
(والموالاة).
أي: ومن فروض التيمم الموالاة.
(وصفته: أن يضرب بيديه على التراب ضربة واحدة فيمسح بهما وجهه وكفيه).
هذه صفة التيمم:
(أن يضرب بيديه) المراد باليدين هنا الكفان.
واليد إذا أطلقت فهي عبارة عن الكف.
ويدل لذلك قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) والمراد باليد هنا الكف، لأن القطع إنما يكون من الكف.
• وقوله (على التراب) وقد تقدم أن الصواب أنه يجوز على كل ما تصاعد على الأرض، من تراب أو رمل أو حجر.
• وقوله (ضربة واحدة) دليل على أن التيمم ضربة واحدة.
وإلى هذا ذهب عطاء، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
قال في الفتح: ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء، وهو قول عامة أهل الحديث.
واستدلوا بحديث عمار السابق وفيه (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة) ولفظه:
عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَعَثَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ اَلْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي اَلصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ اَلدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا" ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ اَلْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ اَلشِّمَالَ عَلَى اَلْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ اَلْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ).
وذهب بعض العلماء: إلى أن التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين.
وهذا مذهب الشافعي، وروي ذلك عن ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، والثوري، وأصحاب الرأي.
أ- لحديث اِبْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى اَلْمِرْفَقَيْنِ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَ اَلْأَئِمَّةُ وَقْفَه.
قال ابن القيم: لم يصح شيء في الضربتين.
وقال الحافظ في الفتح: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح فيها سوى حديث أبي جهيم وحديث عمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه والراجح عدم رفعه.
وقال الدارقطني في سننه: وقفه عمر بن القطان وهشيْم وغيرهما وهو الصواب.
وقال الألباني: في الضربتين أحاديث واهية معلومة.
ب-ما رواه أبي جهم بن الحارث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه) رواه البخاري.
والراجح القول الأول.
والرد على أدلة القول الثاني:
قال الشوكاني: أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصح الزيادة على ذلك المقدار.
وحديث أبي الجهم (وذراعيه) فقد قال الحافظ ابن حجر: والثابت في حديث أبي جهم بلفظ (يديه) لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة.
• قوله (فيمسح بهما وجهه وكفيه) فيه دليل على أن المسح يكون إلى الكوع.
وهذا مذهب مكحول، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد.
قال ابن المنذر: وبه أقول.
وحكاه الخطابي عن عامة أصحاب الحديث.
لحديث عمار السابق وفيه (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا" ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ اَلْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ اَلشِّمَالَ عَلَى اَلْيَمِينِ،
وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَه).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إلى المرفقين.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة.
قياساً على الوضوء، حيث أن الله أمر بغسل اليد إلى المرفق في الوضوء.
قال ابن حجر في الفتح: وأما ما استدل به من اشترط بلوغ المسح إلى المرفقين من أن ذلك مشروط في الوضوء، فجوابه أنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار.
والراجح الأول.
فائدة:
قال النووي: وحكى الماوردي وغيره عن الزهري أنه يجب مسحهما إلى الإبطين، وما أظن هذا يصح عنه. (المجموع).
• صفة التيمم واحدة في الحدث الأصغر والأكبر.
(وإن حُبِسَ في مِصرٍ فتيمم، أو عدم الماء والتراب صلى ولم يُعِد).
أي: إن حبِس في مصر - وهي البلد - ولم يتمكن من استعمال الماء، فإنه يجوز له أن يتيمم ويصلي ولا يعيد.
لأنه تعذر عليه استعمال الماء، فيجوز له التيمم.
(أو عَدِم الماء والتراب صلى ولم يُعِد).
أي: لو حبِس في مكان لا تراب فيه ولا ماء، ولا يستطيع الخروج منه، ولا يُجلب له ماء ولا تراب، فإنه يصلي على حسب حاله، محافظة على الوقت ولا يعيد.
وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة: إذا فقد الإنسان الماء والتراب فإنه يصلي على حسب حاله ولا يعيد.
وهذا مذهب الحنابلة، واختيار ابن تيمية، وابن القيم.
قال النووي: وهو أقوى الأقوال دليلاً.
أ-لقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).
ب-ولقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وجه الدلالة منهما: أن الله شرع الشرائع ولم يأمر الناس بما يشق عليهم، بل كلفهم في حدود طاقاتهم، ولا شك أن فاقد الطهورين قادر على الصلاة بدون طهارة، فيلزمه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يصلي حسب حاله، فإذا صلى لا يعيد، لأنه فعل ما أمر به.
ج- ولحديث عَائِشَة (أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، فَوَجَدَهَا فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْراً، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً) متفق عليه.
قال النووي: وَهَذَا مَذْهَب الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَال دَلِيلًا وَيُعَضِّدهُ هَذَا الْحَدِيث وَأَشْبَاهه فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِيجَاب إِعَادَة مِثْل هَذِهِ الصَّلَاة، وَالْمُخْتَار أَنَّ الْقَضَاء إِنَّمَا يَجِب بِأَمْرٍ جَدِيد، وَلَمْ يَثْبُت الْأَمْر، فَلَا يَجِب.
د-ولحديث (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصلي ويعيد.
وهذا مذهب الشافعية، وقول أبي يوسف من الحنفية.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) قالوا: وهذا صلى بغير طهارة فيجب عليه أن يعيد.
ب-وقالوا: إنه عذر نادر فلم يسقط الإعادة.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا يصلي حتى يقدر، ثم يقضي.
وهذا مذهب أبي حنيفة، وهول قول الثوري والأوزاعي.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً).
ب- ولحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور).
ج-ولحديث علي (مفتاح الصلاة الطهور) رواه أبو داود.
والصحيح - كما تقدم - أنه يصلي حسب حاله ولا يقضي.
وأجاب النووي رحمه الله عن احتجاج بالآية فمن وجهين:
أحدهما: أن المراد لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد.
والثاني: أنها محمولة على واجد المطهر وهذا الثاني هو الجواب عن الحديث أيضا كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) معناه إذا قدر عليها وهذا هو الجواب أيضاً عن الحديث الآخر.
فائدة: على المذهب إذا صلى على حسب حاله لا يزيد على ما يُجزئ في الصلاة من قراءة وغيرها، فلا يقرأ زائداً عن الفاتحة، ولا يُسبّح أكثر من مرة، وإذا فرغ من قراءة الفاتحة ركع في الحال.
لكن هذا القول ضعيف.
قال ابن تيمية: ومن عدم الماء والتراب يتوجه أن يفعل ما يشاء، من صلاة فرض أو نفل وزيادة قراءة على ما يجزئ.
وقال السعدي: والصحيح أن الذي يعجز عن الطهارتين ويصلي حسب حاله أنه يصلي ما شاء من فروض ونوافل، ويزيد على ما يجزئ، لأنها كاملة في حقه لا نقص فيها.
فهذا الحديث يدل على أن المكلف مأمور بالإتيان بالواجب بحسب ما يستطيع.
(ويبطل التيمم بخروج الوقت).
أي: من مبطلات التيمم خروج الوقت.
فإذا تيمم لصلاة الظهر بطل بخروج الوقت، فلا يصلي به العصر.
وهذا بناء على أن التيمم مبيح لا رافع، وقد تقدم أن القول الصحيح أن التيمم رافع، وعليه فيجوز أن يصلي بتيممه أكثر من فرض ما دام لم ينقض تيممه بأي ناقض.
لأن التيمم بدل عن طهارة الماء، والبدل له حكم المبدل.
(وبمبطلات الوضوء).
لأن البدل له حكم المبدل.
(وبوجود الماء ولو في الصلاة لا بعدَها).
أي: من مبطلات التيمم وجود الماء فيما إذا كان تيممه لعَدِم الماء.
• وقوله (ولو في الصلاة) أي: ولو وجد الماء أثناء الصلاة، فإنه يجب أن يقطع الصلاة ويتوضأ ويصلي من جديد.
مثال: إنسان تيمم لعدم الماء، ثم صلى، وفي أثناء الصلاة وجد الماء، إما بنزول مطر أو قدوم شخص معه الماء، فهنا يبطل تيممه ويقطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة.
• وقوله (لا بعدها) أي: لو وجد الماء بعد الصلاة، فإنه لا يعيد الصلاة، وهذا قول الجمهور.
•
ولذلك وجود الماء للمتيمم له حالات:
الحالة الأولى: أن يجد الماء قبل الصلاة، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يتوضأ ويبطل تيممه.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من تيمم كما أمر، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، أن طهارته تنتقض وعليه أن يعيد الطهارة ويصلي.
الحالة الثانية: أن يجد الماء بعد خروج وقت الصلاة، فلا إعادة عليه بالإجماع.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من تيمم وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج الوقت، أن لا إعادة عليه.
الحالة الثالثة: أن يجد الماء بعد الصلاة وقبل خروج الوقت، فلا إعادة عليه عند جماهير العلماء.
لحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتْ اَلصَّلَاةَ -وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ- فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا اَلْمَاءَ فِي اَلْوَقْتِ. فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا اَلصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ اَلْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: "أَصَبْتَ اَلسُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ" وَقَالَ لِلْآخَرِ: "لَكَ اَلْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِي.
وقال عطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري: يعيد الصلاة.
الحالة الرابعة: أن يجد الماء أثناء الصلاة، فهذه موضع خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه يبطل تيممه، ويجب أن يتوضأ ويعيد الصلاة.
وبهذا قال أبو حنيفة والإمام أحمد.
وبه قال الثوري، واختاره ابن عبد البر.
أ-لقوله تعالى (فلم تجدوا ماءً فتيمموا. . .) وهذا وجد الماء.
ب-ولحديث أبي ذر (. . . فَإِذَا وَجَدَ اَلْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اَللَّهَ، وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ) وهذا وجد الماء.
ج - ولأن من وجد الماء في أثنائها قد قدر على استعمال الماء فبطل تيممه كالخارج من الصلاة.
القول الثاني: أنه يكمل صلاته ولا يقطعها.
وبهذا قال مالك والشافعي وداود الظاهري ورجحه ابن المنذر.
لقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم).
والراجح القول الأول.
• من تيمم لمرض لم يبطل بوجود الماء، لأنه يجوز أن يتيمم مع وجود الماء، ولكن يبطل بالبرء وزوال المبيح وهو المرض.
(والتيمم يكون عن الحدث الأصغر والأكبر).
أي: أن التيمم يكون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر.
وهذا مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
أ- لحديث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً مُعْتَزلاً، لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا فُلانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلا مَاءَ، فَقَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ) متفق عليه.
ب- ولحديث عَمَّار بْن يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ، كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا - ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ) متفق عليه.
قال النووي: ولم يخالف فيه أحد من الخلف ولا أحد من السلف إلا ما جاء عن عمر وعبد الله بن مسعود، وحكي مثله عن إبراهيم النخعي التابعي، وقيل إن عمر وعبد الله رجعا عنه.
• أنه إذا تطهر الجنب بالتيمم ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الإمام التابعي أنه قال: لا يلزمه، وهو مذهب متروك بإجماع من قبله ومن بعده، والأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بغسل بدنه إذا وجد الماء. [قاله النووي: 4/ 57]
(والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى).
أي: إذا لم يجد الماء عند دخول الوقت، ولكن يرجو وجوده في آخر الوقت، فتأخير التيمم إلى آخر الوقت أولى، ليصلي بطهارة الماء،
وإن تيمم وصلى في أول الوقت فلا بأس.
• فإن علم وجود الماء آخر الوقت فإنه يؤخره من باب أولى، لكنه لا يجب بل يستحب.
وقيل: يجب.
والأول أصح.
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل).
• ومفهوم المخالفة: أنه إن علم عدم وجدان الماء، أو ترجح عنده عدم وجدانه، فإنه يقدم الصلاة أول الوقت.
فائدة: هل يتيمم لخوف فوات صلاة الجنازة؟
جمهور الفقهاء إلى أنه لا يتيمم لخوف فوات الجنازة أو العيد.
وقال الإمام النووي: ذكرنا أن مذهبنا أن صلاة الجنازة لا تصح إلا بطهارة ومعناه إن تمكن من الوضوء لم تصح إلا به وإن عجز تيمم ولا يصح التيمم مع إمكان الماء وإن خاف فوت الوقت وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور وابن المنذر.
واستدل الجمهور على المنع:
أ-بأن التيمم لا يشرع مع وجود الماء والقدرة على استعماله.
ب- وأن الجنازة تفوت إلى بدل وهو الصلاة على القبر، وأن صلاة العيد لا تجب.
ج-وقياس الصلاتين على الجمعة، فقد حُكي فيها الإجماع - كما سيأتي - على أنها لا تصلى بالتيمم لخوف فواتها.
وذهب الحنفية إلى الجواز، واختاره ابن تيمية رحمه الله، وهو قول المالكية فيما إذا تعيّنت الجنازة.
قالوا: إن الجنازة لا تقضى، وأن العيد لا يعاد.
وعلَّل شيخ الإسلام ابن تيمية الجواز بأن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز المشي والصلاة على الجنازة لشخص جنب، وذلك بالتيمم. علما أنه لو ذهب ليتطهر لفاتته الجماعة في الصلاة على الميت؟
فأجابوا: الطهارة شرط لصحة الصلاة على الجنازة، ولا يصح التيمم لها مع وجود الماء والقدرة على استعماله، وإذا لم يتمكن من الصلاة عليه مع الجماعة صلى على قبره بعد دفنه إذا لم يمض للدفن شهر.
مسألة: التيمم خوف فوات الجمعة:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة - وحكي إجماعاً- إلى أنه لا يتيمم لخوف فوات الجمعة، بل يصليها ظهراً بوضوء.
قال ابن المنذر رحمه الله: قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أن رجلاً لو أحدث يوم الجمعة وخاف فوتها أن ليس له أن يتيمم ويصلي.
وقال ابن بطال رحمه الله: واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: أجمع أهل العلم على أن من خاف فوت الجمعة، أنه لا يجوز له التيمم، مثل أن يدرك الإمام في الركعة الثانية، فإن تيمم أدركها مع الإمام، وإن توضأ فاتته، فكلهم قال: لا يتيمم وإن فاتته الجمعة، فالذي يخاف فوت الجنازة أولى بذلك.
وذهب ابن تيمية رحمه الله وبعض المالكية إلى أنه يتيمم لها عند خوف فواتها.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ويجوز [يعني: التيمم] لخوف فوات صلاة الجنازة وهو رواية عن أحمد، وإسحاق، وألحق به من خاف فوات العيد، وقال أبو بكر عبد العزيز، والأوزاعي: بل لمن خاف فوات الجمعة ممن انتقض وضوؤه وهو في المسجد.
وقال أيضاً: وأما إذا خاف فوات الجنازة أو العيد أو الجمعة ففي التيمم نزاع، والأظهر أنه يصليها بالتيمم ولا يفوتها، وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم فإنه يصليها بالتيمم، ومذهب أحمد في إحدى الروايتين أنه يجوز التيمم للجنازة مع أنه لا يختلف قوله في أنه يجوز أن يعيدها بوضوء فليست العلة على مذهبه تعذر الإعادة؛ بخلاف أبي حنيفة فإنه إنما علل ذلك بتعذر الإعادة وفرّق بين الجنازة
وبين العيد والجمعة.
وهذا القول الثاني رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال في شرح الكافي: التيمم لفوت الجنازة وجيه، وكذلك التيمم لخوف فوت الجمعة، وكذلك التيمم لخوف فوات صلاة العيد، كل هذا جائز، فلو أن إنساناً في صلاة الجمعة أحدث في أثناء الخطبة وقال: إن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة وإن تيممت أدركت الصلاة، نقول: تيمم وصل، لماذا؟
لأنه لو ذهب فاتته الصلاة ولا يمكنه تداركها، فإن كان ذلك في صلاة الظهر مثلا أحدث عند إقامة الصلاة وقال: إن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة وإن تيممت أدركت الصلاة فهل يذهب يتوضأ أو يتيمم؟
يتوضأ.
والفرق بين هذا والجمعة، أن صلاة الظهر إذا فاتته أمكنه أن يتداركها بخلاف الجمعة.
قد يقول قائل: صلاة الجنازة أيضاً إذا فاتته أمكنه أن يصلي على القبر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: نعم، هذا صحيح لكن لا سواء بين الصلاة على الميت وهو بين يديك وبين الصلاة على القبر ليس بينهما مساواة.
والأخذ بمذهب الجمهور في المسألتين أحوط؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء أو العجز عن استعماله، والجنازة تفوت إلى بدل وهو الصلاة على القبر، والجمعة بدلها الظهر، ويعذر في ترك صلاة العيد.
مسألة: اختلف العلماء إذا خشي خروج الوقت لو توضأ، فهل يتيمم ليدرك الوقت؟ أو يتوضأ ولو صلى خارج الوقت؟
القول الأول: أنه يتيم ويصلي بالوقت.
مشهور مذهب مالك أنه يتيمم ويصلي للوقت.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما أتى من نحو بئر جمل -كما في الحديث- وسلم عليه الرجل، فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد عليه السلام كره أن يرد عليه السلام بدون طهارة، فتيمم في الحضر مع وجود الماء، كي لا يفوته رد السلام، كذلك إذا خشي فوات الفريضة تيمم لإدراك الوقت ولو وجد الماء.
القول الثاني: يتوضأ ولا يتيمم ولو خرج الوقت بسبب وجود الماء.
وهذا قول الشافعية والحنابلة.
قال ابن قدامة: وإذا كان الماء موجوداً إلا أنه إذا اشتغل بتحصيله واستعماله فات الوقت، لم يُبح له التيمم سواء كان حاضراً أو مسافراً في قول أكثر أهل العلم، منهم الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي.
وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية وفصل المسألة فقال: يفرَّق بين النائم والناسي وبين غيرهما فإذا كان هذا التأخير حتى ضاق الوقت بسبب أنه كان نائماً أو ناسياً، فإنه يتوضأ ولو خرج الوقت لماذا؟ لأن الوقت في حقه من حين الاستيقاظ ليس في النوم تفريط و (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها -أو فليصليها- إذا ذكرها) فهذا معذور، فبالتالي يقدم الوضوء بالماء حتى لو خرج الوقت، لأن هذا وقت في حقه، هذا هو أول الوقت في حقه أما إذا لم يكن نائماً ولا ناسياً، فإنه يتيمم لإدراك الوقت.
باب إزالة النجاسة
النجاسة ضد الطهارة، وهي نوعان:
أولاً: نجاسة عينية: وهي كل عين جامدة يابسة أو رطبة أو مائعة، وهذه لا تطهر بحال، وسميت عينية لأنها تدرك بالعين، كالبول ودم الحائض.
ثانياً: نجاسة حكمية: وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها، كالبول يقع على الثوب أو فراش ونحوهما، وهي المراد هنا.
(تغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهُن بالتراب).
أما نجاسة الكلب:
فلحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذْ وَلَغَ فِيهِ اَلْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: (فَلْيُرِقْهُ).
وَلِلتِّرْمِذِيِّ: (أُخْرَاهُنَّ، أَوْ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ).
(طُهور) بضم الطاء، أي: مُطَهِّر إناء أحدكم.
ففي هذا الحديث: وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات.
ويؤخذ هذا الحكم من الحديث من وجهين:
الأول: قوله (طهور إناء حدكم
…
) ولفظ الطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة.
الثاني: لأنه أمر صلى الله عليه وسلم بإراقته كما في الرواية (فَلْيُرِقْهُ).
وهذا قول أكثر أهل العلم.
قال النووي: وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب، فمذهبنا أنه ينجس ما ولغ فيه، ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب، وبهذا قال أكثر العلماء. حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعا عن أبي هريرة وابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول. (المجموع).
• قوله (الكلب)(أل) في الكلب للاستغراق، فيشمل جميع أنواع الكلاب، وعليه فلا فرق بين الكلب المأذون فيه ككلب الصيد وحراسة الماشية والزرع، وغير المأذون فيه وهو ما عداها.
• قوله (طهور إناء .. ) لم يفرق العلماء بين الآنية وغيرها، فيجب غسل الإناء أو الثوب سبع مرات.
قال العراقي: ذكر الإناء خرج مخرج الأغلب.
• قوله (إحداهُن بالتراب) فيه أنه يجب استعمال التراب في نجاسة الكلب، للحديث السابق (أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ).
وهذا قول جماهير العلماء.
•
موضع الغسلة بالتراب:
جاء في مسلم كما في الحديث السابق (أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ).
وجاء عند الترمذي (أُخْرَاهُنَّ، أَوْ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ).
وعند الدارقطني (إحداهن).
وأرجح هذه الروايات رواية (أولاهن)، لأمور:
أولاً: أنها أصح إسناداً وأكثر رواة.
ثانياً: أن الغسل بالتراب لو كانت هي الأخيرة لكان ينبغي أن تتبعه غسلة بعدها لإزالة التراب.
ثالثاً: تخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض.
قال النووي: الأفضل أن يكون التراب في غير الغسلة الأخيرة ليأتي عليه ما ينظفه، والأفضل أن يكون في الأولى.
قال الشوكاني: وقد نص الشافعي على أن الأولى أولى.
وقال الصنعاني: رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها بإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عن التعارض.
وقال الشيخ محمد رحمه الله: لأن الأولى إذا كانت بالتراب صارت الغسلات الثانية والتي بعدها تزيده طهرة ونظافة.
• هل يقوم غير التراب مقامه أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
فقيل: يشترط التراب ولا يقوم غيره مقامه.
لأن النص ورد في التراب، ولأنه أحد الطهورين.
قال النووي: ولا يقوم الصابون والاشنان وما أشبههما مقام التراب على الأصح. [شرح مسلم].
وقيل: يقوم غيره مقامه.
واختاره بعض العلماء.
قالوا: وإنما نص على التراب لتوفره وسهولة الحصول عليه، والراجح الأول، واختاره الشيخ ابن عثيمين.
قال الشيخ ابن عثيمين عن القول بأنه يجزئ عن التراب غيره قال: وهذا فيه نظر لما يلي:
أولاً: أن الشارع نص على التراب، فالواجب اتباع النص.
ثانياً: أن السدر والأشنان كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشر إليهما.
ثالثاً: لعل في التراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب.
رابعاً: أن التراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمم إذا عدم. وقال صلى الله عليه وسلم (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
فالصحيح: أنه لا يجزئ عن استعمال التراب، لكن لو فرض عدم وجود التراب وهذا احتمال بعيد، فإن استعمال الأشنان، أو الصابون خير من عدمه. (الشرح الممتع).
• أكثر العلماء على أن بول الكلب ورجيعه يجب غسله سبعاً كولوغه.
قالوا: وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على الولوغ لأنه هو الغالب، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وعلى هذا القول: لو بال كلب في إناء فإنه يغسل سبع مرات إحداها بالتراب.
وذهب بعض العلماء إلى أن الغسل سبعاً خاص بنجاسة الولوغ، أما بوله أو روثه أو دمه فكسائر النجاسات.
وهذا قول الظاهرية، واختاره الشوكاني.
لقوله (إذا ولغ
…
).
والكلاب كانت تبول في أمكنة الناس ومجالسهم ولم ينبّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قال النووي: وهذا الوجه متجه وقوي من حيث الدليل لأن الأمر بالغسل سبعاً من الولوغ إنما كان لينفرهم عن مواكلة الكلب وهذا مفقود في غير الولوغ. [المجموع].
قال الشوكاني: وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحماً وعظماً ودماً وشعراً وعرقاً وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جداً. [السيل الجرار].
• لو أدخل الكلب يده أو رجله في الإناء فإنه لا يغسل سبعاً كالولوغ، وإنما يغسل كسائر النجاسات.
لأن النص جاء في الولوغ وهذا لا يسمى ولوغاً.
• لو ولغ الكلب في غير الإناء كالثوب فهل يجب غسله سبعاً أم لا؟
قيل: إن ولوغ الكلب في غير الإناء لا يضر.
لأنه خص الولوغ في الإناء.
وقيل: يجب التسبيع فيه.
قالوا: إن ذِكر الإناء خرج مخرج الغالب؛ لأن الكلب غالباً ما يلغ في الإناء، وإذا كان خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ولا يخصص الحكم.
بناءً عليه إذا أصاب لعاب الكلب الثوب أو اليد أو الأرض وجب فيه التسبيع بناءً على هذا القول الثاني، وهذا القول هو الراجح.
• إذا صاد كلب الصيد بفمه، فإن الصحيح أنه لا يجب غسل اللحم سبع مرات إحداها بالتراب، لأن هذا مما عفا عنه الشارع، والقاعدة في ذلك (ما كان معفواً عنه شرعاً زال ضرره قدراً).
(والخنزير سبعاً).
أي: أن نجاسة الخنزير كنجاسة الكلب تغسل سبعاً.
لأن النص وقع في الكلب، والخنزير شر منه وأغلظ، لأن الله تعالى نص على تحريمه وأجمع المسلمون على ذلك وحرم اقتناؤه. [المغني]
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يقاس على الكلب وذلك لأمور:
أولاً: لأن النص ورد في الكلب.
ثانياً: لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد إلحاقه.
قال النووي: واعلم أن الراجح من حيث الدليل أنه يكفي غسلة واحدة بلا تراب وبه قال أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير وهذا هو المختار، لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع لا سيما في هذه المسألة المبنية على التعبد. [المجموع].
وقال رحمه الله: وذهب أكثر العلماء إلى أن الخنزير لا يفتقر إلى غسله سبعاً وهو قول الشافعي. [شرح مسلم].
وهذا القول هو الراجح.
(ويجزئ في سائر النجاسات ثلاثٌ منقية).
أي: ويجزئ في غسل سائر النجاسات - غير الكلب والخنزير - ثلاث غسلات منقية.
وقيل: سبع.
وهذا المشهور من المذهب.
لما روى ابن عمر قال: (أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً) وهذا الأثر لا يصح ولا يحتج به، وقد ذكره ابن قدامة في المغني بدون إسناد.
وقيل: واحدة تكفي.
وهذا القول هو الصحيح.
أي: أنه يكفي إذا وقعت نجاسة على البدن أو الثوب أو البقعة أو غيرها أن تغسل حتى تزول عينها عن المحل، ولا يشترط عدد معين للغسلات.
وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله: أنه لا يجب العدد في غسل نجاسة غير الكلب، بل يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة وأثرها، فإن لم تذهب زاد حتى يذهب أثرها ولو جاوز السبع سواء في الأرض أو الثوب أو الأواني.
أ- لحديث أَسْمَاءَ قَالَتْ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّى فِيهِ) ولم يأمر فيه بعدد، ولو أراد لبيّنه كما في حديث الولوغ.
(تَحُتُّهُ) أي تحكه وتقْشُرُه، وقد أخرجه ابن خزيمة بلفظ (فحكيه) والمراد بذلك إزالة عينه ليهون غسله بالماء. (ثُمَّ تَقْرُصُهُ) أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما يشربه الثوب منه. (ثُمَّ تَنْضَحُهُ) قيل: المراد به الرش، ورجحه القرطبي. وقيل: المراد الغسل، ورجحه الخطابي وابن حجر، لأنه جاء في روايات أخرى أنه قال:(تغسله).
ب- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ.) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، ولم يأمر بالعدد.
ج- ولأن المقصود إزالة النجاسة، فمتى زالت زال حكمها.
د- ولأن غسل النجاسة لا يحتاج إلى نية، فلا يحتاج إلى عدد.
هـ- ولأنه لو لم تزل بسبع غسلات وجب الزيادة على ذلك بالاتفاق، فدل على عدم اعتبار السبع، إلا فيما جعله الشارع شرطاً فيه كنجاسة الكلب.
قال الشيخ السعدي مرجحاً هذا القول: الصحيح في غسل النجاسات كلِّها غير الكلب: أنه يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة وأثرها، فإن لم تذهب زاد حتى يذهب أثرها، ولو جاوز السبع، وسواء كانت على الأرض أو الثياب أو البدن أو الأواني أو غير
ذلك
…
إلى أن قال: لأن جميع النصوص الواردة في غسل النجاسات مطلقة لا قيد فيها ولا عدد، وذلك يدل على أن المقصود إزالتها فقط، وأن العدد فيها غير مقصود.
فائدة: حديث الأعرابي صلى الله عليه وسلم السابق (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيقَ عَلَيْه).
فيه دليل على أنه إذا وقعت نجاسة على الأرض فتطهر بصب الماء على المكان النجس بدون تكرار، سواء كانت الأرض صلبة أم رخوة.
وهذا مذهب جماهير العلماء كما حكاه النووي عنهم.
لقوله (فَأُهْرِيقَ عَلَيْه
…
) ولم يحفر المكان أو ينقل ترابه بل اكتفى بصب الماء.
فإن كان للنجاسة جرم كعذرة أو دم جفّ، فلا بد من إزالة ذلك قبل تطهيرها بالماء.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الأرض الصلبة تحفر.
واستدلوا بروايات جاءت في هذا الحديث لكنها ضعيفة لا تصح.
فقد جاء عند الدار قطني من حديث أنس بلفظ (احفروا مكانه ثم صبوا عليه).
وعند سعيد بن منصور (خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً).
(ولا يطهرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ ودلك).
المتنجِّس: ما أصابته النجاسة.
أي: لا يطهر أي متنجس - من أرض أو ثوب أو فراش أو غير ذلك - بشمس، أي بذهاب نجاسته بشمس.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، والحنابلة واختاره ابن المنذر.
أ- لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً).
ولقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِه).
قال النووي رحمه الله: ذكره سبحانه وتعالى امتناناً فلو حصلت الطهارة بغيره لم يحصل الامتنان به. انتهى.
ب-لحديث الأعرابي وفيه (فأمر بذنوب من ماء).
وجه الدلالة: لو كان الجفاف مطهراً لاكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بالماء.
ج- قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط الماء.
وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.
قال ابن تيمية رحمه الله:
…
فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين: أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة .. وهو الصحيح في الدليل.
أ-لحديث ابن عمر (أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) رواه البخاري دون ذكر (البول).
وجه الدلالة: لو كانت النجاسة باقية لوجب غسلها بالماء، مما يدل على أنها طهرت بالريح أو بالشمس.
ب- وقالوا: إن النجاسة عين خبيثة، فإذا زالت زال حكمها.
وهذا القول هو الراجح.
والجواب عن حديث الأعرابي (أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاء
…
)؟
أن المقصود بذلك تعجيل تطهير المسجد، إذ لو تركه حتى تطهره الشمس لتأخر تطهيره، فليس في الحديث حصر التطهير بالماء. [ابن تيمية].
وقال الشيخ ابن عثيمين: وأما ذكر الماء في التطهير في الأدلة السابقة فلا يدل تعيينه على تعيينه، لأن تعيينه لكونه أسرع في الإزالة وأيسر على المكلف.
وأما قياس إزالة النجاسة على طهارة الحدث، فهو قياس مع الفارق لما يلي:
أ- طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح بخلاف إزالة النجاسة.
ب- طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان بخلاف طهارة الخبث.
ج- طهارة الحدث طهارة تعبدية غير معقولة المعنى بخلاف طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية.
و إذا ثبت الفرق لم يصح ال
(ولا استحالة).
أي: أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة.
الاستحالةُ لغةً: تُطلَقُ على تغيُّرِ الشَّيءِ عن طَبعِه ووَصفِه.
واصطلاحًا: تَحوُّلُ العَينِ النَّجسةِ بنَفْسِها أو بواسطة.
قال ابن قدامة: ظاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالِاسْتِحَالَةِ، إلَّا الْخَمْرَةَ، إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَمَا عَدَاهُ لَا يَطْهُرُ؛ كَالنَّجَاسَاتِ إذَا احْتَرَقَتْ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَالْخِنْزِيرِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ وَصَارَ مِلْحًا، وَالدُّخَانِ الْمُتَرَقِّي مِنْ وَقُودِ النَّجَاسَةِ، وَالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ ثُمَّ قَطَّرَ، فَهُوَ نَجِسٌ.
قال المرداوي على قول ابن قدامة: لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالِاسْتِحَالَةِ، قال: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ونصروه.
أ- لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وألبانها) رواه أبو داود. (الجلالة: هي التي تأكل العَذِرَة من الحيوان).
وجه الدلالة: أنه إنما نهى عنها لأكلها النجاسة، ولو كانت تطهر بالاستحالة لم يؤثر أكلها النجاسة لأنها تستحيل.
وذهب بعض العلماء: إلى أن استحالة النجاسة تطهرها.
وهذا مَذهَبُ الحنفيّة، والمالكيَّة، وروايةٌ عن أحمد، وهو اختيارُ ابنِ حَزم، وابنِ تيميَّة، وابنِ القيِّم.
وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمة، وهو قول أكثر العُلَماء.
وشرط ذلك: أن لا يبقى أثر للنجاسة، لا طعمها، ولا لونها، ولا ريحها.
أ-القياسُ على ما أجمَعوا عليه من أنَّ الخَمرةَ إذا استحالتْ بنفْسِها وصارتْ خلًّا، كانت طاهرةً؛ فكذلك سائِرُ النَّجاساتِ إذا انقلَبَت إلى عينٍ طاهرةٍ، صار لها حُكمُ الطَّاهرات.
ب- أنَّ المعنى الذي لأجْله كانت تلك العَينُ نَجسةً، معدومٌ في العَينِ التي استحالَت إليها؛ فلا معنى لبقاءِ الاسمِ عليه، فالشَّرعُ رتَّبَ وَصفَ النَّجاسةِ على تلك الحقيقةِ، فينتفي بانتفائِها.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: ومن الممتنع بقاء حكم الخبيث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجوداً أو عدما، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا يتناول الزروع والثمار والرماد والملح والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصا ولا قياساً.
(وتطهر خمرة انقلبت بنفسها خلاً).
أي: أن الخمر إذا تخللت بنفسها - بدون فعل أحد - فإنها تكون طاهرة.
قال النووي: وأجمعوا على أنها إذا انقلبت بنفسها خلاً طهرت، وقد حكي عن سحنون أنها لا تطهر، فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله.
وإما إذا تخللت بفعل آدمي كما لو تخللت بأن أضاف إليها إنسان شيئاً، أو نقلها من الشمس إلى الظل أو العكس، فإنه لا يجوز ولا تطهر.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ- لحديث أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا? قَالَ: لَا) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
(تُتَّخَذُ خَلًّا) المراد باتخاذها خلاً هو علاجها حتى تصير خلاً بعدما تشتد وتقذف الزبد، وذلك بوضع شيء فيها، كبصل أو خبز أو خميرة ونحو ذلك، أو ينقلها من الظل إلى الشمس أو بالعكس.
ب- وعند أبي داود: عَنْ أَنَس (أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، قَالَ: أَهْرِقْهَا قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا).
وجه الدلالة: أنه لو كان هناك طريق للانتفاع لتطهير الخمر لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً للأموال، وأيضاً كما في الرواية الأخرى:(كانت لأيتام) والأيتام أولى بحفظ أموالهم، فلو كان تخليلها جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله (أهرقها) دليل على أنه لا يجوز تخليلها، لأنه يجب إراقتها ولا يجوز اقتناؤها.
• في قوله (وتطهر خمرة) دليل على أن مذهب الحنابلة يرون نجاسة الخمر.
وهذا قول جماهير العلماء: أن الخمر نجسة.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، ورجحه ابن تيمية، والشنقيطي، وابن باز رحم الله الجميع.
أ- لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس).
فقد سمى الله الخمر رجساً، والرجس النجس، قالوا: ولا يضر قرن الميسر والأنصاب والأزلام معها، وذلك أن ثلاثتها قد خرجت بالإجماع.
قال الشنقيطي: يُفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمرَ نجسة العين، لأن الله تعالى قال (إنها رجس) والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.
ب- ولقوله تعالى (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً).
قال الشنقيطي: لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور، يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا كقوله (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) وكقوله (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) بخلاف خمر الدنيا ففيها غوْل يغتال العقول وأهلها، يُصدعون، أي: يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس.
ج- حديث أبي ثعلبة الخشني السابق، حيث في رواية أبي داود (إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر
…
).
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا ثعلبة الخشني وقومه بغسل أواني أهل الكتاب التي يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمر، وأن لا يستعملوها إلا إذا لم يجدوا غيرها بعد أن يغسلوها، والأمر بغسلها دليل نجاستها.
واستدلوا من العقل من ثلاثة أوجه:
أولها: أن الخمر شيء حرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً كالدم.
والثاني: القياس على الكلب تغليظاً وزجراً.
والثالث: أن من تمام تحريمها، وكمال الردع عنها الحكم بنجاستها حتى يتقذرها العبد، فيكف عنها قربناً، بالنجاسة وشرباً بالتحريم، فالحكم بتحريمها يوجب نجاستها. (المجموع شرح المهذب).
وذهب بعض العلماء: إلى أنها طاهرة ليست بنجسة.
وهذا قال به ربيعة الرأي، والليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي، ورجحه الألباني، والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
أ-لحديث أنس بن مالك قال: (كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة
…
فإذا مناد ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فأهرقتها) متفق
عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: وطرقات المسلمين لا يجوز أن تكون مكاناً لإراقة النجاسة، ولهذا يحرم على الإنسان أن يبول في الطريق، أو يصيب فيه النجاسة.
ب-وعن ابن عباس قال: (إن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا، فسارَّ إنساناً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها). رواه مسلم
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل له: اغسلها، وهذا بعد التحريم بلا ريب.
ج-ولأن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل على النجاسة.
قالوا: وأما الجواب عن الآية: بأن يقال بأن المراد بالنجاسة النجاسة المعنوية لا الحسية، بدليل أنها قرنت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنوية.
والراجح قول الجمهور والله أعلم.
وأما الجواب عن إراقة الصحابة لها بالشوارع:
قال القرطبي:
…
والجواب أن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم،
…
ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور.
وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة واسعة ولم يكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطرق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. (الجامع لأحكام القرآن).
(وإن خفيَ موضعُ نجاسةٍ غَسل حتى يجزمَ بزوالهِ).
أي: وإن خفي موضع من الثوب أو غيره غسل الموضع حتى يجزم بزواله.
والنجاسة إما أن تكون في الثوب أو في البدن أو في البقعة.
فإذا وقعت النجاسة في أحد هذه الثلاثة أشياء فإما أن يعلم مكانها أو يجهل.
فإن علم فالأمر ظاهر أنه يغسل.
وإن جهل فإنه يغسل حتى يجزم بزوال النجاسة.
ويستثنى من هذا الحكم إذا وقعت النجاسة في بقعة كبيرة كما إذا وقعت في فضاء واسع فإنها إذا كانت وقعت في فضاء واسع فإنه لا يشترط أن يغسل ولا أن يتحرى للمشقة.
والقول الثاني في هذه المسألة: أن النجاسة إذا وقعت في البدن أو الثوب أو البقعة المحدودة وأمكن التحري - وهذا شرط مهم - فإنه يتحرى لأنه إذا جاء الشرع بالتحري في عدد الركعات فمن باب أولى أن يتحرى في تحديد البقعة النجسة.
والأحوط في الحقيقة مذهب الحنابلة أنه إذا اشتبهت النجاسة في البقعة أو البدن أو الثوب المحدود فإنه يغسل حتى يجزم بزوال النجاسة لأن النجاسة وجدت قطعاً فإذا كانت النجاسة موجودة يقيناً فإنه يسعى إلى إزالتها باليقين أيضاً وذلك بأن يغسل إلى أن يجزم بزوال النجاسة.
وهذا القول كما قلت أحوط وأقرب إلى القواعد الشرعية.
(ويطهر بولُ غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه).
أي: وكيفية تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام - إذا بال على ثوب أو فراش أو غيرهما - يكون بالنضح تخفيفاً.
والنضح: هو أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره، ورجحه النووي.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والنَّضح: أن تُتْبِعَهُ الماء دون فَرْكٍ، أو عَصْرٍ حتى يشمله كلَّه.
وأما الغَسْل: فهو أن يغسله ويغمره بالماء.
أ- حديث أم قيس بنت محصن (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله) متفق عليه.
ب- وحديث عائشة قالت (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه، فبال عليه فأتبعه الماء) متفق عليه.
ولمسلم (فبال عليه فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله).
ج- ولحديث أَبِي اَلسَّمْحِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ اَلْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ اَلْغُلَامِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ
د- ولحديث أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت (بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره حتى أغسله، فقال: إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى). واه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وابن خزيمة وابن حبان.
ففي هذه الأحاديث أن بول الغلام يكفي فيه النضح، وبول الجارية يغسل.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد.
قال الشوكاني: وهو قول علي وعطاء والحسن والزهري وإسحاق.
فهذه الأحاديث فيها التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، فالأحاديث السابقة بعضها يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بالنضح في بول الغلام، وبعضها فرق بصريح القول بين بول الغلام وبول الجارية.
فثبت بهذه الأحاديث أن حكمهما مختلف، فحكم بول الغلام النضح، وحكم بول الجارية الغسل.
وذهب بعض العلماء: إلى أنهما سواء في وجوب الغسل.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
استدلوا بالعمومات التي جاءت في غسل البول.
أ-كحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من
بوله
…
).
ب-وحديث الأعرابي الذي بال في المسجد وقد سبق.
والراجح القول الأول وهو التفريق لصحة الأحاديث بذلك.
• وأما الجواب عن أدلة القول الثاني، فالجواب أن هذه الأدلة عامة، وأحاديث الباب خاصة، والخاص يقضي على العام.
قال الشوكاني: وأما الحنفية والمالكية فاستدلوا لما ذهبوا إليه بالقياس، فقالوا المراد بقوله (ولم يغسله) أي غسلاً مبالغاً فيه، وهو خلاف الظاهر، ويبعده ما ورد من الأحاديث في التفرقة بين بول الغلام والجارية.
قوله (بول) خرج به الغائط فلا بد من غسله.
وقوله (غلام) خرج به الجارية.
• وقوله (لم يأكل الطعام) اختلف العلماء في المراد بالطعام الذي لم يأكله:
فقيل: ما عدا اللبن فقط.
وقيل: لم يأكل شيئاً.
وقيل: المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة، ورجحه الحافظ ابن حجر. (الفتح).
قال ابن القيم رحمه الله: إنما يزول حكم النضح إذا أكل الطعام وأراده واشتهاه تغذياً به. (تحفة المودود).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ليس المراد امتصاصه ما يوضع في فمه وابتلاعه، بل إذا كان يريد الطعام ويتناوله ويشرئب إليه (أي: يتطلع إليه ويطلبه)، أو يصيح أو يشير إليه، فهذا هو الذي يطلق عليه أنه يأكل الطعام.
•
الحكمة من التفريق بين بول الغلام وبول الجارية؟
قيل: أن بول الأنثى أنتن وأثقل من بول الغلام.
وقيل: أن بول الغلام يجتمع فيكتفى برشه، وأما بول الجارية فينتشر فلا بد من غسله.
وقيل: كثرة حمل الرجال والنساء للذكور، فتعم البلوى ببوله، فيشق عليه غسله.
ورجحه الحافظ ابن حجر وقال: وأقوى ما قيل في ذلك: أن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة.
• إذا أكل الصبي الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف. [قاله النووي].
• البول نجس، لا فرق بين بول الكبير والصغير.
قال النووي: واعلم أن هذا الخلاف في كيفية الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري، قال الخطابي وغيره: وليس تجويز من جوز النضح في الصبي من أجل أن بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته فهذا هو الصواب.
(وكذلك المذي).
أي: أن المذي يأخذ حكم بول الغلام في تطهيره، وذلك بنضح ما أصابه.
والمذي: ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند الشهوة وبلا دفق ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه.
والمذي نجس بالإجماع.
لحديث عَلِي بْنِ أَبِي طَالِب رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ اَلْمِقْدَادَ بْنَ اَلْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ? فَقَالَ: "فِيهِ اَلْوُضُوءُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وفي رواية (يغسل ذكره ويتوضأ).
قال النووي رحمه الله: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي. (المجموع).
لأنه أمره بغسل ذكره، وأمره بالوضوء، فدل هذا على أن حكم المذي كحكم البول في النجاسة.
•
وخروج المذي يوجب الوضوء.
وقد نقل ابن قدامة رحمه الله في " المغني " إجماع العلماء على أن خروج المذي ناقض للوضوء.
لقوله كما في الرواية الأخرى (اغسل ذكرك وتوضأ).
وكما في حديث علي السابق (فقال: فيه الوضوء).
• وأما تطهيره فيكون بنضحه.
وهذا هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ- لحديث سهل بن حنيف قال (كنت ألقى من المذي شدة
…
فقلت: يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه). رواه أبو داود
قال المبارك فوري رحمه الله: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَذْيَ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ يَكْفِي نَضْحُهُ وَرَشُّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُه.
ب-ولأن الغسل ورد في الفرج لا في الثوب، ورواية نضح الثوب لا معارض لها.
ج- ولأن هذه نجاسة يشق الاحتراز منها، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب، فهو أولى بالتخفيف من بول الغلام.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: المذي يكفي فيه النضح، وهو أن يعم المحل الذي أصابه الماء بدون عصر وبدون فرك، وكذلك
يجب فيه غسل الذكر كله والأنثيين وإن لم يصبهما.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجزئ فيه إلا الغَسل. وهذا قول جماهير العلماء.
لحديث علي وفيه (توضأ واغسل ذكرك).
فأمر صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر منه، والأصل في الأمر الوجوب، وإذا أمر بغسل الذكر منه فكذلك سائر المحال.
• قوله (اغسل ذكرك
…
) هل يجب غسل الذكر كله أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يكتفَى بغسل رأس الذكر أو الموضع الذي أصابته النجاسة منه. وهذا مذهب الجمهور.
إلحاقاً له بسائر النجاسات، فهو حدث من الأحداث فلا يغسل منه إلا المخرج.
القول الثاني: أنه يجب غسل الذكر كله. وهذا مذهب الحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (يغسل ذكره ويتوضأ).
القول الثالث: يغسل جميع الذكر والأنثيين. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.
فقد جاء عند أبي عوانة (يغسل ذكره وأنثييه)، قال الحافظ: إسناده لا مطعن فيه.
وهذا القول هو الصحيح.
•
الحكمة من الأمر بغسل الذكر والأنثيين:
قيل: إن المذي فيه لزوجة، فربما انتشر على الذكر والأنثيين ولم يشعر به الإنسان، قاله الخطابي.
وقيل: إن ذلك يخفف المذي أو يقطعه، ولا سيما إذا كان غسله بالماء البارد، فإنه من أسباب قطعه وعدم استمرار خروجه.
(ومني الآدمي طاهر).
تقدم تعريف المني، وهو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بشهوة ويعقبه فتور وارتخاء.
فالمني حكمه طاهر. (فلو صلى الإنسان وعلى ثوبه مني فصلاته صحيحة).
وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وداود الظاهري.
ونسبه النووي إلى الكثيرين وأهل الحديث، قال: وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة، قال: وغلط من أوهم أن الشافعي منفرد بطهارته.
أ- لحديث عائشة قالت - فِي الْمَنِيِّ - (كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
وفي لفظ (وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا فَيُصَلِّى فِيهِ).
وجه الدلالة: لو كان نجساً ما اكتفت بفركه.
ب-ولحديث ابن عباس قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة). رواه الدار قطني والبيهقي.
قال ابن القيم: إسناده صحيح، وقال البيهقي: الصحيح الموقوف.
وجه الدلالة: أن الرسول قرنه بالمخاط والبصاق، وهذه الأشياء طاهرة بالإجماع.
ت - أن الأصل الطهارة، فلا ننتقل عنها إلا بدليل.
وذهب بعض العلماء: إلى نجاسته.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
قال ابن حزم: وروينا غسله عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وأنس، وسعيد بن المسيب.
أ- لحديث عائشة قالت (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ اَلْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اَلصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ اَلثَّوْبِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ اَلْغُسْلِ فِيهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وجه الدلالة: أن الغسل لا يكون إلا للشيء النجس.
ب-لحديث عمار مرفوعاً: (إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء). أخرجه البزار وأبو يعلى وابن عدي في الكامل والدار قطني والبيهقي، وهو حديث لا يصح، قال البيهقي: هذا حديث باطل.
أ- مجموعة من الآثار عن بعض الصحابة أنهم كانوا يغسلون المني.
والصحيح الأول وأنه طاهر، وعليه فلو صلى الشخص وعلى ثوبه مني فصلاته صحيحة.
وأما الجواب عن رواية (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ اَلْمَنِيَّ .... )؟
أنه لا معارضة بين حديث الغسل والفرك، لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني، بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. [الفتح].
فائدة: هناك أربعة أشياء تخرج من قُبُل الإنسان:
أ- المذي: وهو ماء رقيق لزج يخرج عند الشهوة والانتشار كما يحصل عند الملاعبة وتذكر الجماع، وهو نجس إجماعاً.
ب- البول: وهو نجس إجماعاً.
ج- الودي: وهو ماء أبيض كدِر ثخين، يخرج عقب البول، وهو نجس إجماعاً.
د- المني، وسبق تعريفه، وهو طاهر على القول الراجح.
فائدة: الخارج من الإنسان ثلاثة أشياء:
أ- طاهر بلا نزاع، وهو الدمع والريق والمخاط والبصاق والعرق.
ب- نجس بلا نزاع، وهو البول والغائط والمذي والودي.
ج- مختلف فيه، وهو المني.
(وبول ما يؤكل لحمه طاهر).
كالإبل، والبقر، والغنم، والأرانب ونحوها، فهذه بولها وروثها طاهر.
وهذا مذهب الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ-لحديث أنس (أن أناساً من عكل وعرينة قدموا المدينة فاجتووها فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
). متفق عليه
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل أفواههم منها، وهم حديثوا عهدٍ بالإسلام، وبحاجة البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ب-لحديث جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أنها لو كانت نجسة كأرواث الادميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف، وإما مكروهة كراهة شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس، فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريباً من ذلك فهو جمع بين المتناقضين المتضادين، وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ج-ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته في المسجد الحرام وبركها حتى طاف أسبوعاً.
د-وكذلك أذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة.
وجه الدلالة: معلوم أن الدابة لا تعقل بحيث تمتنع عن البول في المسجد الحرام، فلو كان بولها نجساً لما أدخلها عليه السلام وأذن في إدخالها المسجد الحرام، إذ في ذلك تلويث له وتنجيس.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه نجس.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
أ-لعموم الأدلة التي فيها أن البول نجس.
ب-ولقوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث).
ج-ولحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: إنهما ليعذبان
…
أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله).
وجه الدلالة: قوله (بوله) هذا عام، فيدخل فيه كل الأبوال.
د-ولحديث (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه).
وجه الدلالة: أنه عام، فيدخل فيه كل بول.
هـ-حديث الأعرابي (أنه بال في طائفة المسجد فدعا بذنوب من ماء).
والقول الأول هو الراجح.
وأما أدلة القول الثاني فهي عامة، وأدلة بول ما يؤكل لحمه خاصة والخاص يقضي على العام.
(وبول الآدمي نجس).
وهذا بالإجماع.
أ- لحديث ابن عباس قَالَ: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: ((إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا) متفق عليه.
ب- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ) متفق عليه.
قال النووي: فِيهِ إِثْبَات نَجَاسَة بَوْل الْآدَمِيّ وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَلَا فَرْق بَيْن الْكَبِير وَالصَّغِير بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ، لَكِنَّ بَوْل الصَّغِير يَكْفِي فِيهِ النَّضْح.
ج- ولحديث (استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني.
• حديث ابن عباس دليل على وجوب التنزه من البول، وأن عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر.
ولذلك استحب الفقهاء لمن أراد أن يبول أن يطلب مكاناً رخواً لأنه أسلم من الرشاش.
قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يرتاد لبوله الموضع الدمث، وهو اللين الرخو من الأرض.
• مباحث تتعلق بحديث ابن عباس: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين.
أ- قوله (وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير) اختلف العلماء في المراد بقوله (وما يعذبان في كبير):
فقيل: ليس بكبير في زعمهما.
وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز منه، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك.
ورجحه البغوي وابن دقيق العيد وجماعة، وهذا هو الراجح.
وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيراً بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق، فإنه وصف كلاً منهما بما يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه.
ب - قال النووي: سبب كونهما كبيرين، أن عدم التنزه من البول، يلزم منه بطلان الصلاة، فتركه كبيرة بلا شك، والمشي بالنميمة والسعي بالفساد من أقبح القبائح.
ج-لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما.
قال الحافظ: وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقروناً ببيانه،
ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ، كما ثبت في الحديث الصحيح، وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: من دفنتم اليوم ههنا؟ فدل على أنه لم يحضرهما. [قاله الحافظ]
د-اختلف في المقبورين:
فقيل: كانا كافرين.
وقيل: كانا مسلمين وهذا هو الصحيح، ويدل لذلك:
أنه جاء عند أحمد (أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فقال: من دفنتم هنا؟) فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين لأن البقيع مقبرة المسلمين.
هـ-عظم أمر النميمة وأنها من كبائر الذنوب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة نمام) متفق عليه.
و- اختلف العلماء يسن وضع جريدة رطبة على القبر؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يسن ذلك وقد أوصى بذلك بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
والصحيح أنه لا يجوز ذلك.
ورجح ذلك الخطابي والقاضي عياض وقال: لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله (ليعذبان).
ومما يدل على أنه لا يجوز ذلك أمور:
أ-حديث جابر الطويل في صحيح مسلم وفيه (إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يبرد عليهما مادام الغصنان رطبين).
ب-أنه لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم.
ج-أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا الظن بالميت، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم
د-أن هذا لم يفعله السلف الصالح.
(وسؤر الهرة طاهر).
السؤر: بقية الطعام والشراب، ومنه كلمة سائر أي: باقي.
فسؤر الهرة طاهر.
لحديث أَبِي قَتَادَة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ -فِي اَلْهِرَّةِ-: (إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ اَلطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ) رواه أبو داود.
(إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ) بفتح الجيم، أي: ليست نجسة الذات، وأما النجِس بكسر الجيم فهو الشيء المتنجس. (إنها من الطوافين) جملة تعليلية لعدم نجاسة الهرة، قال الشوكاني: تشبيه للهرة بخدم البيت الذين يطوفون للخدمة.
فالحديث دليل على طهارة سؤر الهرة.
وهذا قول جماهير العلماء.
قوله (إنَّمَا هِيَ مِنْ اَلطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ) هذه لعلة في طهارة سؤر الهرة، أنها من الطوافين، وهم الخدم الذين يقومون بخدمة المخدوم، فهي مع الناس في منازلهم وعند أوانيهم وأمتعتهم، فلا يمكن التحرز منها، والقاعدة (المشقة تجلب التيسير).
• بول الهرة وروثها ودمها نجس.
قال الشيخ ابن عثيمين: لأن هذه الأشياء كلها من محرّم الأكل نجسة.
وقوله (إِنَّمَا هِيَ مِنْ اَلطَّوَّافِينَ .. ) هذه هي العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنها من الطوافين علينا.
وعلى هذا: كل ما يكثر التطواف على الناس، مما يشق التحرز منه فحكمه كالهرة.
ولذلك فالراجح: طهارة سؤر الحمار والبغل.
وهذا قول مالك والشافعي، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، والسعدي، وابن باز.
لأنه يكثر طوافه على الناس، فيشق الاحتراز.
ولحاجة الناس إليهما في الركوب والحمل.
قال ابن قدامة: والصحيح عندي طهارة سؤر البغل والحمار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبها وتركب في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجساً لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولأنهما مما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما، فأشبها السنور.
وقال السعدي: والصحيح الذي لا ريب فيه أن البغل والحمار طاهران في الحياة كالهر، فيكون ريقهما وعرقهُمَا طاهران، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبهما كثيراً، ويركيان في زمنه، ولا يمكن المستعمل لهما التحرز من ذلك
…
ثم قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم في الهرة (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم) فعلل بكثرة طوافانها ومشقة التحرز منها، ومن المعلوم أن المشقة في الحمار والبغل أشد من ذلك.
• فقول بعض العلماء: أن الحكم منوط بالصِغَر، وأن الهرة وما دونها في الخِلقة طاهر، فلا وجه له، لعدم الدليل عليه.
• فائدة: قرن الحكم بالعلة ثلاثة:
أولاً: بيان أن الشريعة سامية عالية، فما تحكم بشيء إلا وله حكمه.
ثانياً: اقتناع النفوس بالحكم، لأن النفس إذا علمت علة الحكم اطمأنت، وإن كان المؤمن سيطمئن على كل حال لكن هذه زيادة طمأنينة.
ثالثاً: شمول الحكم بشمول هذه العلة، بمعنى أن ما ثبت فيه هذه العلة ثبت له هذا الحكم المعلل. [قاله الشيخ ابن عثيمين].
• بعض الأحكام الشرعية التي جاءت معللة:
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأهلية وقال (إنها رجس) متفق عليه.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون الثالث وقال (من أجل أن ذلك يحزنه) متفق عليه.
باب الحيض
الحيص لغة: السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال.
وشرعاً: سيلان دم طبيعي يأتي المرأة في أوقات معلومة عند بلوغها.
وهو شيء كتبه الله على بنات آدم، كما قال صلى الله عليه وسلم (هذا شيء كتبه الله على بنات آدم).
خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته.
(لا حيض دون تسع، ولا بعد خمسين).
أي: أن المرأة إذا رأت الدم قبل تسع سنين، وبعد الخمسين فإنه لا يعتبر حيضاً.
أ- لأن العادة أن المرأة لا تحيض قبل تسع ولا بعد خمسين سنة.
قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَحِضْنَ عَادَةً فِيمَا دُونَ هَذَا السِّنِّ.
ب- ولقول عائشة (إذا بغت الجارية تسع سنين فهي امرأة).
قال ابن قدامة: وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين فإن رأت قبل ذلك دماً فليس بحيض ولا يتعلق به أحكامه لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. (الكافي).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة.
وهو اختيار ابن المنذر، وابن تيمية، وجماعة من أهل العلم.
بل متى رأت المرأة الدم المعروف فهو حيض تثبت له أحكامه، وإن كانت دون تسع سنين أو فوق الخمسين أو الستين.
والدليل:
قوله تعالى (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
فعلق أحكام الحيض على وجوده، ولم يحدد لذلك سناً معيناً، فوجب إطلاق ما أطلقه الله من دون تقييد بسن محدد.
وهذا القول هو الراجح.
(ولا مع حمل).
أي: لا حيض حال الحمل.
قال الإمام أحمد: إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض.
أ- لقوله تعالى (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ).
وجه الدلالة: أن الله تعالى جعل عدة الحامل بالوضع، ولم يجعلها بالحيض، وجعل عدة غير الحامل بالحيض، فلو كانت الحامل تحيض لوجب اعتدادها بثلاث حيض.
ب- ولحديث أبي سعيد. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) رواه أبو داود.
فجُعل عَلماً على براءة الرحم، فدل على أنه لا يجتمع معه.
قال ابن قدامة: وَالْحَامِلُ لَا تَحِيضُ، إلَّا أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِيَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ دَمَ نِفَاسٍ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَمَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ؛ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالصَّحِيحُ عَنْهَا أَنَّهَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ لَا تُصَلِّي.
أ- وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ) فَجَعَلَ وُجُودَ الْحَيْضِ عَلَمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ.
ب- وَاحْتَجَّ إمَامُنَا بِحَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا) فَجَعَلَ الْحَمْلَ عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ، كَمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عَلَمًا عَلَيْهِ.
ج- وَلِأَنَّهُ زَمَنٌ لَا يَعْتَادُهَا الْحَيْضُ فِيهِ غَالِبًا، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَرَاهُ فِيهِ حَيْضًا كَالْآيِسَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَعْرِفُ النِّسَاءُ الْحَمْلَ بِانْقِطَاعِ الدَّم.
…
(المغني).
(وأقله يومٌ وليلة، وأكثره خمسةَ عشر يوماً).
لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده إلى العادة كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً ولم يوجد أقل منه. (المغني).
والدليل على أن أكثر: 15 يوماً:
أ- حديث ابن عمر. في قوله صلى الله عليه وسلم في النساء (ما رأيت من ناقصات عقل ودين
…
أما نقصان دينها، فتمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي).
وجه الدلالة: أن معنى الشطر النصف.
وهذا الحديث بهذا اللفظ - ذكر العلماء - أنه لا أصل له.
قال البيهقي: لم أجده في كتب الحديث.
ب- أن الحيض اسم لم ترد أكثر مدته في الشرع ولا في اللغة، فوجب الرجوع في ذلك إلى العرف والعادة، وقد ثبت مستفيضاً عن السلف من التابعين فمن بعدهم أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأنه كثر وجوده هذه المدة في النساء، حتى صار ذلك أمراً معروفاً معتاداً في النساء.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره.
أ- لأن الله قال (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) فجعل غاية المنع هي الطهر، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا خمسة عشر يوماً.
ب- وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي حتى تطهري) فجعل غاية المنع الطهر، ولم يجعل
الغاية زمناً معيناً، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً.
قال ابن تيمية: ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لأقله ولا لأكثره ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه.
(وغالبه ستٌ أو سبع).
أي: غالب الحيض ست ليال أو سبع.
لحديث حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: (كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةً، ثُمَّ اِغْتَسِلِي
…
). رواه أبو داود
(فَتَحَيَّضِي) قال الشوكاني: بفتح التاء الفوقية والحاء المهملة والياء المشددة: أي اجعلي نفسك حائضاً.
قال الشيخ ابن عثيمين: قوله (ستة أيام أو سبعة) ليس للتخيير، وإنما هو للاجتهاد، فتنظر بما هو أقرب إلى حالها ممن يشابهها خِلْقَةً ويقاربها سناً ورحماً، وبما هو أقرب إلى الحيض من دمها.
(ويمنع الحيض عشرة أشياء: فعل الصلاة ولا يصح منها، والصوم).
أي: يحرم على الحائض فعل الصلاة، فرضها ونفلها، ولو صلت لم يصح منها، وكذلك يحرم عليها الصوم وعليها قضاؤه.
أ- عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَلتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ) متفق عليه.
(أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَضَمّ الرَّاء الْأُولَى وَهِيَ نِسْبَة إِلَى حَرُورَاء، وَهِيَ قَرْيَة بِقُرْبِ الْكُوفَة قَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَوْضِع عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْكُوفَة، كَانَ أَوَّل اِجْتِمَاع الْخَوَارِج بِهِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: تَعَاقَدُوا فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَنَسَبُوا إِلَيْهَا. فَمَعْنَى قَوْل عَائِشَة رضي الله عنها إِنَّ طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج يُوجِبُونَ عَلَى الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زَمَن الْحَيْض، وَهُوَ خِلَاف إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَام الَّذِي اِسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَة هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار أَيْ هَذِهِ طَرِيقَة الْحَرُورِيَّة، وَبِئْسَ الطَّرِيقَة. (نووي).
ب- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ - إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ..... مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) رواه البخاري.
ج- وعَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي) متفق عليه.
قال النووي: هَذَا الْحُكْم مُتَّفَق عَلَيْهِ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَائِض وَالنُّفَسَاء لَا تَجِب عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم فِي الْحَال، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِمَا قَضَاء الصَّلَاة، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِب عَلَيْهِمَا قَضَاء الصَّوْم.
وقال ابن رجب: وقد أجمع العلماء على أن الحائض لا يجوز لها الصلاة في حال حيضها.
• الحكمة من قضاء الصوم دون الصلاة.
قيل: قَالَ الْعُلَمَاء وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الصَّلَاة كَثِيرَة مُتَكَرِّرَة فَيَشُقّ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْم، فَإِنَّهُ يَجِب فِي السَّنَة مَرَّة وَاحِدَة. (قاله النووي).
وقيل: الحكمة تعبدية، وهي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعلم ما الحكمة ولذلك قالت عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
• اختلف العلماء هل تثاب الحائض على تركها الصلاة أثناء الحيض، كما يثاب المريض على ترك النوافل التي كان يعملها في صحته
وشغل بالمرض عنها؟
قيل: لا تثاب على الترك.
لأن وصفه لها صلى الله عليه وسلم بنقصان الدين بترك الصلاة زمن الحيض يقتضي ذلك.
وقيل: تثاب، إذا قصدت امتثال قول الشارع في تركه، وهذا القول أقرب.
• ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجب على الحائض وضوء وتسبيح في أوقات الصلاة بدلاً عنها، لكن هذا قول ضعيف، ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب على الحائض الوضوء، ولا التسبيح والتهليل والذكر في أوقات الصلوات بدلاً عن الصلاة.
قال النووي: مذهبنا ومذهب جمهور العلماء من السلف والخلف أنه ليس علي الحائض وضوء ولا تسبيح ولا ذكر في أوقات الصلوات ولا في غيرها وممن قال بهذا الاوزاعي ومالك والثوري وأبو حنيفة.
(والوطء في الفرج).
أي: ويحرم وطء الحائض في فرجها.
أ-لقوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
ب- ولحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (اِصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اَلنِّكَاحَ) رواه مسلم، أي: الجماع.
ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي
قال الشوكاني: ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهو معلوم من ضرورة الدين.
• أما المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة فهذا جائز.
قال النووي: وهو حلال باتفاق المسلمين.
• وأما المباشرة فيما بين السرة والركبة ما عدا القبل والدبر، فالراجح جوازه.
وهو المذهب، وقال به عكرمة، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والثوري، وابن المنذر.
قال النووي: هو الأقوى دليلاً وَهُوَ الْمُخْتَار.
أ- لقوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
قال ابن قدامة في (المغني) فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه.
ب-لقوله صلى الله عليه وسلم (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فهذا يدل على إباحة جميع جسد الحائض إلا موضع الأذى.
فالحديث فيه دليل على أنه لا يجتنب من الحائض إلا الموضع الذي فيه الحيضة وحده وهو الفرج.
ب- قالوا: إن تحريم وطء الحائض منع للأذى، فاختص بمحله كالدبر.
• الأولى للرجل إذا أراد أن يستمتع بامرأته وهي حائض أن يأمرها أن تلبس ثوباً تستر به ما بين السرة والركبة، ثم يباشرها فيما سوى ذلك.
لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ
يُبَاشِرُها).
ولحديث عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الإِزَارِ وَهُنَّ حُيَّضٌ).
(فِي فَوْر حَيْضَتهَا) أي: أَوَّله وَمُعْظَمه. قَالَه الْخَطَّابِيُّ.
• لا يجوز جماع الحائض بعد طهرها وقبل أن تغتسل، فلا بد من اغتسالها.
لقوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ).
قال ابن كثير رحمه الله: وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم، إن تعذر ذلك عليها بشرطه، إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض، ومنهم من ينقله
عن ابن عبد الحكم أيضاً، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة وعن طاوس كما تقدم، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده: إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل ولا يصح لأقل من ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يَعْنِي بِالْمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَأَنَّ الطُّهْر الَّذِي يَحِلّ بِهِ جِمَاع الْحَائِض الَّذِي يَذْهَب عَنْهَا الدَّم هُوَ تَطَهُّرهَا بِالْمَاءِ كَطُهْرِ الْجُنُب، وَلَا يُجْزِئ مِنْ ذَلِكَ تَيَمُّم وَلَا غَيْره، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالطَّبَرِيّ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهم.
وقال ابن قدامة في المغني: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ حَرَامٌ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرُّوذِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
إلى أن قال:
…
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ) يَعْنِي إذَا اغْتَسَلْنَ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مِنْهُمْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، وَفِعْلُهُمْ هُوَ الِاغْتِسَالُ دُونَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَشَرَطَ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ: انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالِاغْتِسَالَ، فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِهِمَا.
وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ لِحَدَثِ الْحَيْضِ، فَلَمْ يُبَحْ وَطْؤُهَا كَمَا لَوْ انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ.
(والطواف).
أي: ويحرم على الحائض أن تطوف بالبيت.
أ-لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (لَمَّا جِئْنَا سَرِفَ حِضْتُ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اِفْعَلِي مَا يَفْعَلُ اَلْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب- وعنها. رضي الله عنها قَالَتْ (حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ. فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: اُخْرُجُوا).
فقوله صلى الله عليه وسلم (أحابستنا؟) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك، أن صفية إذا كانت حائض ولم تطف يوم النحر طواف الإفاضة فإنه يلزمها البقاء حتى تطوف بعد الطهر، فتحبس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا حبس النبي صلى الله عليه وسلم حبس أصحابه معه، ففي هذا دليل على أن المرأة الحائض لا يجوز لها أن تطوف.
• ولذلك يسقط طواف الوداع عن الحائض:
عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء في أن الحيض لا يمنع شيئا من أعمال الحج إلا الطواف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت).
•
العلة في منع الحائض من الطواف:
قيل: لأن من شروط الطواف الطهارة.
وقيل: لكونها ممنوعة من دخول المسجد.
• حكم المرأة إذا حاضت قبل طوافها، ولا تستطيع البقاء بمكة ويتعذر عليها الرجوع:
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: امرأة حاضت ولم تطف طواف الإفاضة وتسكن خارج المملكة وحان وقت مغادرتها المملكة ولا تستطيع التأخر ويستحيل عودتها للمملكة مرة أخرى؛ فما الحكم؟
فأجاب: إذا كان الأمر كما ذكر امرأة لم تطف طواف الإفاضة وحاضت ويتعذر أن تبقى في مكة أو أن ترجع إليها لو سافرت قبل أن تطوف، ففي هذه الحالة يجوز لها أن تستعمل واحداً من أمرين: فإما أن تستعمل إبراً توقف هذا الدم وتطوف، وإما أن تتلجم بلجام
يمنع من سيلان الدم إلى المسجد وتطوف للضرورة، وهذا القول الذي ذكرناه هو القول الراجح والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وخلاف ذلك واحد من أمرين: إما أن تبقى على ما بقي من إحرامها بحيث لا تحل لزوجها ولا أن يعقد عليها إن كانت غير متزوجة، وإما أن تعتبر محصرة تذبح هدياً وتحل من إحرامها، وفي هذه الحال لا تعتبر هذه الحجة لها، وكلا الأمرين أمر صعب، فكان القول الراجح هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله في مثل هذه الحال للضرورة، وقد قال الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج). وقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). أما إذا كانت المرأة يمكنها أن تسافر ثم ترجع إذا طهرت فلا حرج عليها أن تسافر فإذا طهرت رجعت فطافت طواف الحج وفي هذه المدة لا تحل للأزواج لأنها لم تحل التحلل الثاني.
(واللبث في المسجد).
أي: ويحرم على الحائض دخول المسجد واللبث فيه.
أ- لحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) رواه أبو داود.
وهذا الحديث مختلف فيه:
صححه ابن خزيمة، وابن القطان، والزيلعي، والشوكاني، والشيخ ابن باز.
وضعفه آخرون: البيهقي، وابن المنذر، وابن حزم، وعبد الحق الإشبيلي، والنووي، والبوصيري.
ب- عن عروة قال: أخبرتني عَائِشَة (أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ - تَعْنِي - رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُدْنِي لَهَا رَأْسَهُ وَهْيَ فِي حُجْرَتِهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهْيَ حَائِض) متفق عليه.
ووجه الدلالة من الحديث أن عائشة رضي الله عنها لم تدخل المسجد لأنها حائض، فكانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارج المسجد، وهو يدني لها رأسه، مما يدل على عدم جواز دخول الحائض المسجد.
قال ابن بطال في الحديث: وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيها له وتعظيماً.
وقال ابن حجر في فوائد الحديث:
…
وأن الحائض لا تدخل المسجد.
وقال العيني: وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهاً له وتعظيماً.
ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج لصلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى. (هذا على القول بأن مصلى العيد مسجد وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين).
ج- ولحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (ناوليني الخمْرة من المسجد، فقلت: إني حائض. فقال صلى الله عليه وسلم: إن حيضتك ليست في يدك) رواه مسلم.
وجه الدلالة من وجهين:
أولاً: قولها (إني حائض) هذا دليل على أنه كان معروفاً أن الحائض لا تمكث في المسجد، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على كلامها.
ثانياً: في قوله صلى الله عليه وسلم لها (إن حيضتك ليست في يدك) يعني إن يدك فقط التي ستدخل المسجد وليس كلك، ويدك ليس فيها حيض بخلاف كلك.
د-ولقوله تعالى (ولا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).
قيل في معنى الآية: لا تقربوا الصلاة وأنتم مجنبون، يعني: لا تصلي وأنت جنب حتى تغتسل إلا أن تكون عابر سبيل.
وقيل: لا تقربوا مواضع الصلاة نفسها مجنبون، والمعنى: لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، وهذا الثاني رجحه ابن جرير والشوكاني.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.
وهو قول المزني.
حيث أشار الشوكاني إلى رأي المزني بقوله: والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض وهو مذهب الأكثر
…
وقال داود والمزني وغيرهما: إنه يجوز مطلقاً.
أ- لحديث عَائِشَةَ (أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَىٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهْوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْماً فَخَطَفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلَا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِساً إِلاَّ قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لَا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَداً إِلاَّ قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الْحَدِيث) رواه البخاري.
وجه الدلالة من الحديث أن هذه المرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعهود من النساء الحيض، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم منعها من سكنى المسجد، ولا أنه أمرها وقت حيضها أن تعتزل المسجد، فدل على جواز دخول الحائض في المسجد، ومكثها فيه.
ولذلك استدل شراح الحديث بهذا الحديث على جواز مبيت المرأة في المسجد.
قال ابن حجر: وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا سكن له من المسلمين، رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة.
ب- لعدم الدليل.
والراجح الأول.
وأما قصة هذه المرأة فهي قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً قد يئست من الحيض.
• المصلى في المدارس ليس في حكم المسجد، بل هو مصلى، وليس كل مكان تقام فيه الصلاة يعتبر مسجداً، فالمسجد هو: ما أعد للصلاة على سبيل العموم وهيئ وبني.
وأما مجرد أن يتخذ مكاناً يصلى فيه فهذا لا يجعله مسجداً.
وعلى هذا؛ فيجوز للمرأة الحائض أن تدخل مصلى المدرسة وتمكث فيه. (لقاء الباب المفتوح).
(وقراءة القرآن).
أي: ويحرم على الحائض تلاوة القرآن غيباً.
وهذا قول جمهور العلماء.
أ-لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) رواه الترمذي، وهو ضعيف.
ب-قياس الحائض على الجنب، فإذا منع الجنب من قراءة القرآن فالحائض أولى، لأن حدث الحائض أغلظ وأشد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز لها ذلك.
وهذا مذهب مالك، واختاره ابن تيمية والشيخ ابن باز.
أ- لعدم الدليل الذي يمنع من ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في منع الحائض من القراءة نصوص صريحة صحيحة، وقال: ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن، كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء.
ب- إن الحيض قد يمتد ويطول فيخاف نسيانها.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت وهي محرمة (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) متفق عليه.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن ولم يمنعها النبي صلى الله عليه وسلم منه.
وهذا القول هو الصحيح.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: فقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع غير مرة وبينت أنه لا بأس ولا حرج أن تقرأ المرأة وهي حائض أو
نفساء ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في هذا:
فمن أهل العلم من قال: إنها لا تقرأ كالجنب واحتجوا بحديث ضعيف رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن) وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة.
وبعض أهل العلم قاسها على الجنب قال: كما أن الجنب لا يقرأ فهي كذلك. لأن عليها حدثاً أكبر يوجب الغسل، فهي مثل الجنب.
والجواب عن هذا أن هذا قياس غير صحيح، لأن حالة الحائض والنفساء غير حالة الجنب، الحائض والنفساء مدتهما تطول وربما شق عليهما ذلك وربما نسيتا الكثير من حفظهما للقرآن الكريم، أما الجنب فمدته يسيرة متى فرغ من حاجته اغتسل وقرأ، فلا يجوز قياس الحائض والنفساء عليه، والصواب من قولي العلماء أنه لا حرج على الحائض والنفساء أن تقرأ ما تحفظان من القرآن، ولا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء آية الكرسي عند النوم، ولا حرج أن تقرأ ما تيسر من القرآن في جميع الأوقات عن ظهر قلب، هذا هو الصواب، وهذا هو الأصل، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لما حاضت في حجة الوداع قال لها (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ولم ينهها عن قراءة القرآن.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن. فيدل ذلك على أنه لا حرج عليها في قراءته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما منعها من الطواف؛ لأن الطواف كالصلاة وهي لا تصلي وسكت عن القراءة، فدل ذلك على أنها غير ممنوعة من القراءة ولو كانت القراءة ممنوعة لبينها لعائشة ولغيرها من النساء في حجة الوداع وفي غير حجة الوداع.
ومعلوم أن كل بيت في الغالب لا يخلو من الحائض والنفساء، فلو كانت لا تقرأ القرآن لبينه صلى الله عليه وسلم للناس بياناً عاماً واضحاً حتى لا يخفى على أحد، أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن بالنص ومدته يسيرة متى فرغ تطهر وقرأ.
(ومس المصحف).
أي: ويحرم على الحائض أن تمس المصحف.
لحديث (لا يمس القرآن إلا طاهر).
وقد تقدم أدلة ذلك عند الكلام على أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف.
(وسنة الطلاق).
أي: إذا طلق زوجته في الحيض فليس طلاقاً سنياً بل هو طلاق بدعي، وطلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه.
• والدليل على تحريم طلاق الحائض.
حديث ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ [فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) متفق عليه.
الحديث دليل على تحريم الطلاق حال الحيض وفاعله عاصٍ لله إذا كان عالماً بالنهي، ويؤخذ هذا الحكم من وجهين:
أولاً: من قوله (فتغيظ رسول الله) ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغيظ إلا على أمرٍ محرم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بإمساكها بعد المراجعة ثم تطليقها في الطهر - فدل على أن تطليقها في الحيض محرما، إذ لو لم يكن محرما لأقر النبي التطليق في الحيض - ويغني عن الطلقة التي تأتي في الطهر.
نقل جماعة من العلماء: الإجماع على أن الطلاق حال الحيض محرم: ابن المنذر - ابن قدامة - النووي.
وهذا التحريم خاص بالمدخول بها، أما غير المدخول بها فيجوز تطليقها مطلقاً حائضاً أو طاهراً، لأن غير المدخول بها ليس عليها عدة. [وهذا مذهب الأئمة الأربعة].
(والاعتداد بالأشهر).
أي: أن المرأة التي تحيض يمنعها الحيض من الاعتداد بالأشهر، وإنما تعتد بالحيض، ثلاث حيض.
لقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).
وأما إن كانت لا تحيض فتعتد بالأشهر.
(ويوجب الغسل).
أي: أن الحيض يوجب الغسل إذا انقطع عنها، فإذا حاضت المرأة وانقطع حيضها، وجب عليها الغسل، وهذا بالإجماع.
أ- لقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبيش: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) متفق عليه.
وأجمع المسلمون على وجوب الغسل، وممن نقل الإجماع: النووي عن ابن المنذر، وابن حجر.
(والبلوغ).
أي: إذا حاضت المرأة حكِم ببلوغها.
لحديث عائشة. عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَقْبَلُ اَللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ.
(لَا يَقْبَلُ اَللَّهُ) المراد بالنفي هنا نفي الصحة، فمن صلت بغير خمار لم تقبل صلاتها.
(صَلَاةَ حَائِضٍ) أي بالغ، قال ابن الأثير: أي التي بلغت سن المحيض، وجرى عليها القلم، ولم يرد في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي.
قال ابن قدامة: وأما الحيض فهو علم على البلوغ، لا نعلم فيه خلافاً.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء.
(فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصوم، والطلاق، ولم يُبَح سائرها حتى تغتسل).
أي: إذا انقطع دم الحيض عن المرأة ولم تغتسل لم يبح مما هو محرم عنها إلا الصوم والطلاق.
فالحائض إذا انقطع دمها قبل الفجر فإنها تصوم. قياساً على الجنب.
عن عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ).
ولفظ مسلم (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ).
فالحائض والنفساء مثل الجنب إذا طهرتا قبل الفجر، ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما، فإنه يصح صومهما ويجب عليهما إتمامه، سواء تركت الغسل عمداً أو سهواً، بعذر أو بغير عذر كالجنب.
قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا نعلم صح عنه أم لا.
وأما الطلاق: فيجوز للزوج أن يطلق زوجته إذا انقطع دمها من الحيض، لأن الحرام أن يطلقها وهي حائض.
(ولم يبح سائرها حتى تغتسل) أي فلابد من الاغتسال، كالصلاة، والطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد، والوطء في الفرج.
(وإذا أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً).
أي: إذا استمر الدم مع المرأة وأصبح لا ينقطع عنها أو لا ينقطع عنها إلا يسيراً فإنها تصير مستحاضة.
فالاستحاضة: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً، أو ينقطع عنها مدة يسيرة.
وهو دم طبيعي كما في الحديث: (إن ذلك عرق) فهو يختلف عن دم الحيض في طبيعته وفي أحكامه.
•
ذكر العلماء بعض صفات دم الحيض:
أولاً: أنه دم أسود يعرف، بينما دم الاستحاضة دم أحمر.
ثانياً: أنه دم منتن، أي له رائحة كريهة، وأما دم الاستحاضة فهو دم عادي ليس له رائحة.
ثالثاً: أن دم الحيض ثخين غليظ، ودم الاستحاضة رقيق ليس ثخيناً.
(تجلس عادتها).
لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض وما عداها استحاضة.
ففي حديث عائشة رضي الله عنها (أِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّمَ فَقَالَ لَهَا: امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي». فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش (
…
ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي).
مثال: امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة، فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر وما عداها استحاضة.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا).
أي: فإذا كانت المستحاضة ليس لها عادة كأن تكون مبتدئة، فإنها ترجع للتمييز، فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة.
لحديث عائشة. (أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) رواه أبو داود.
(يُعْرَفُ) بضم الياء وفتح الراء، أي: تعرفه النساء بلونه وثخانته، ويجوز ضم الياء وكسر الراء مأخوذ من الإعراف، أي: له عَرْف، والعَرْف: الرائحة.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ).
أي: إذا كانت المستحاضة ليس لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم، فهذه تعمل بعادة غالب النساء فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة.
لحديث حمنة بنت جحش قالت (يا رسول الله! إني استحاض حيضة كبيرة شديدة، فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم، فقال صلى الله عليه وسلم (إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي) رواه أبو داود.
مسألة: لكن لو افترض أنه وجد عند المرأة صفتان (عادة وتمييز):
أ- فإذا كانت العادة موافقة للتمييز فهذه لا إشكال فيها.
ب- أن يكون عندها تمييز لكنه مختلف عن عادتها [عادتها ستة أيام من أول الشهر، والتمييز مختلف]:
اختلف العلماء أيهما تقدم:
القول الأول: تعمل بالتمييز.
قال في المعني: وهو ظاهر مذهب الشافعي.
لحديث عائشة: (
…
فإنه دم أسود يعرف
…
).
لأن صفة الدم أمارة قائمة به.
القول الثاني: أنها تعمل بالعادة.
وهذا المذهب.
لحديث أم حبيبة: (
…
امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي).
وجه الدلالة: فردها إلى العادة بدون استفصال، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
ولأنه أسهل على المرأة، وأبعد عن الاضطراب، لأن الدم الأسود ربما يضطرب ويتغير وينتقل أخر الشهر أو أوله أو يتقطع فيكون يوماً أسود ويوم أحمر، فجلوسها أيام عادتها أسهل عليها وأضبط لها، لأن العادة لا تبطل دلالتها أبداً.
- الانقطاع أثناء الدورة يوماً أو يومين ثم تعود الدورة، فهل فترة الانقطاع تعتبر حيض أم طهر؟
قال الشيخ ابن عثيمين: يقول بعض العلماء رحمهم الله أن الانقطاع ولو يوماً واحداً يعتبر طُهراً فعليها أن تغتسل وتصلى وتصوم إن كان ذلك في رمضان ولو عاد الحيض بعد يوم أو يومين وبعض العلماء يقول إن هذا ليس طُهراً في الحقيقة وإنما هو جفاف فلا تعتبر طاهراً حتى ينقطع الحيض بالكلية وهذا والله اعلم أقرب إلى الصواب لأنه جرت العادة أن المرأة في أثناء حيضها ترى الجفاف واليبوسة ولا يعتبر هذا طُهراً.
(والمستحاضة حكمها حكم الطاهرات).
وهذا بالاتفاق، أن حكمها حكم الطاهرات، فلا فرق بين بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي:
(لكنها تتوضأ لكل صلاة).
هذا الأمر الأول التي تخالف فيه المستحاضة الطاهرات، وهي أنها تتوضأ لكل صلاة.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي اِمْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ اَلصَّلَاةَ? قَالَ: "لَا. إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي اَلصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ اَلدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ: (ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ).
وهذا قول جمهور العلماء.
قال ابن رجب: وقد روي الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة عن جماعة من الصحابة، منهم علي، ومعاذ، وابن عباس، وعائشة.
لقوله في هذا الحديث (ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاة).
• معنى (لكل صلاة) أي: لوقت كل صلاة.
لأنه جاء إطلاق الصلاة على الوقت، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر (فأينما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) أي: أدركه وقت الصلاة.
فإن كانت الصلاة مؤقتة [كالصلوات الخمس] فإنها لا تتوضأ إلا إذا دخل وقت الصلاة ثم تصلي.
أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة [كصلاة الضحى مثلاً] فإنها تتوضأ عند إرادة فعلها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة.
وهذا قول المالكية، واختاره ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين أخيراً.
قال ابن عبد البر: إن صاحب الحدث الدائم كالاستحاضة وسلس البول لا يرتفع حدثه بالوضوء، فيكون في حقه مستحباً لا واجباً.
وأفتى الشيخ ابن عثيمين أنه لا يلزمها الوضوء لكل صلاة، ما لم ينتقض وضوءها، وأما حديث (ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاة) فهي غير محفوظة، ومثلها من عنده استطلاق ريح وقال: ليس عليه دليل ولا يفيدهما شيئاً.
وقد حكم بشذوذ هذه الرواية (ثم توضئي لكل صلاة). مسلم والنسائي والبيهقي وابن رجب.
(ويكره وطؤها إلا أن يخاف العنت).
هذا الفرق الثاني بينها وبين الطاهرات، أنه يكره لزوجها أن يطأها إلا أن يخاف العنت.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ-لقول عائشة (المستحاضة لا يغشاها زوجها).
ب-ولأن بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز وطؤها مطلقاً.
وهذا قول أكثر الفقهاء.
أ-لما روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش (أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها) قال النووي: إسناده حسن.
ب-وقال عكرمة: كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها.
ج- أن هذا الدم ليس دم حيض قطعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة) وعلى ذلك فلا يأخذ شيئاً من أحكام الحيض.
د- أن العبادات أعظم حرمة من الجماع، فالمستحاضة في لزوم العبادة كالطاهرة فكذلك في مسألة الجماع.
هـ- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عبد الرحمن بن عوف وغيره من وطء زوجاتهم المستحاضات، ولأن الاستحاضة دم عرق فلا يمنع الوطء، ولأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء فكذلك في حل الوطء. (قاله السعدي).
وهذا القول هو الراجح.
قال النووي: مرجحاً مذهب الجمهور:
…
وقال أحمد لا يجوز الموطئ إلا أن يخاف زوجها العنت، واحتج للمانعين بأن دمها يجرى فأشبهت الحائض.
واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي في الأم، وهو قول الله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) وهذه قد تطهرت من الحيض.
واحتجوا أيضا بما رواه عكرمة عن حمنة بنت جحش رضى الله عنها (أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها) رواه أبو داود وغيره بهذا اللفظ بإسناد حسن.
وفى صحيح البخاري قال: قال ابن عباس (المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم).
ولأن المستحاضة كالطاهرة في الصلاة والصوم والاعتكاف والقراءة وغيرها، فكذا في الموطأ.
ولأنه دم عرق فلم يمنع الوطء كالناسور.
ولأن التحريم بالشرع ولم يرد بالتحريم، بل ورد بإباحة الصلاة التي هي أعظم كما قال ابن عباس.
والجواب عن قياسهم على الحائض، أنه قياس يخالف ما سبق من دلالة الكتاب والسنة فلم يقبل.
ولأن المستحاضة لها حكم الطاهرات في غير محل النزاع، فوجب إلحاقه بنظائره لا بالحيض الذي لا يشاركه في شيء (المجموع).
(وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض، وتغسل فرجها وتعصبه).
هذا الفرق الثالث بينها وبين الطاهرات، أنها تغسل فرجها وتعصبه
أما غسل فرجها فلحديث عائشة السابق (
…
فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي اَلصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ اَلدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي) مُتَّفَقٌ عَلَيه.
وأما دليل عصب الفرج: فلحديث أم سلمة في قوله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة (
…
فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل فيه).
ومعنى الاستثفار: هو شدة الفرج بخرقة عريضة او قطنة تحتشي بها المرأة.
• قوله (وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض) لا خلاف بين أهل العلم في وجوب الغسل على المستحاضة عند انقضاء زمن الحيض، وإن كان الدم جارياً، وهذا أمر مجمع عليه.
لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (
…
دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) متفق عليه.
قال النووي: فيه دليل على وجوب الغسل على المستحاضة إذا انقضى زمن الحيض، وإن كان الدم جارياً، وهذا مجمع عليه.
أما غسلها لكل صلاة: فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
والصحيح أنه لا يجب عليها الغسل لكل صلاة، (فقط تغتسل غسلاً واحداً عند انقضاء حيضها) وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال النووي: وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف.
أ-البراءة الأصلية.
ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المستحاضات بذلك.
ج-أن هذا هو المتناسب مع يسر الشريعة الإسلامية وتخفيفها على العباد.
وذهب بعض العلماء إلى أنها يجب عليها الغسل لكل صلاة.
لحديث عائشة قالت: (استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اغتسلي لكل صلاة) رواه أبو داود.
وهو حديث ضعيف، ضعفه النووي والشوكاني.
قال النووي: ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي (وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل) وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل فليس فيها شيء ثابت، وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها.
قال الشافعي: إنما أمرها أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولا شك أن غسلها كان تطوعاً غير ما أمرت به وذلك واسع لها.
وكذا قال شيخه سفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهما.
(والصُفْرةُ والكدرةُ في زمن العادة حيض).
(الْكُدْرَةَ) بضم الكاف وسكون الدال، هي اللون الأحمر الذي يضرب إلى السواد، والمراد أن الدم يكون متكدراً بين الصفرة والسواد.
(وَالصُّفْرَةَ) بضم الصاد وسكون الفاء، هي اللون الأحمر الذي يميل إلى البياض، والمراد: أن ترى الدم أصفر كماء الجروح.
فالصفرة والكدرة بعد الطهر من الحيض ليست بحيض فلا يلتفت إليها، وأما إذا كان ذلك في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهو حيض، تثبت له أحكام الحيض.
لحديث أُم عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كُنَّا لَا نَعُدُّ اَلْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ اَلطُّهْرِ شَيْئًا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَه.
وهذا القول: هو مذهب جمهور العلماء.
قال في المغني: من رأت الدم في أيام عادتها صفرة أو كدرة، فهو حيض، وإن رأته بعد أيام حيضها لم تعتد به، نص عليه أحمد، وهو مذهب الثوري ومالك والشافعي.
وقال ابن رجب: ودل قول عائشة رضي الله عنها هذا، على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض: حيض، وأن من لها أيام معتادة تحيض فيها، فرأت فيها صفرة أو كدرة: فإن ذلك يكون حيضاً معتبراً
وهذا قول جمهور العلماء، حتى إن منهم من نقله إجماعاً، منهم: عبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه.
ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دون الكدرة.
ولكن ذهب طائفة قليلة، منهم: الأوزاعي، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذلك حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم. (فتح الباري).
ويقصد رحمه الله بقول عائشة: أن النساء كُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ، فَتَقُولُ:" لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ "، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ. ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم في " صحيحه "، " فتح الباري "
ووصله الإمام مالك في " الموطأ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل ".
قال الشيخ ابن باز: لو جاءت هذه الكدرة أو الصفرة بعد الطهر من الحيض فإنها لا تعتبر حيضاً، بل حكمها حكم الاستحاضة، وعليك أن تستنجي منها كل وقت، وتتوضئي وتصلي وتصومي، ولا تحتسب حيضاً، وتحلين لزوجك؛ لقول أم عطية رضي الله عنها:(كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) أخرجه البخاري في صحيحه.
•
تعرف المرأة الطهر بإحدى علامتين:
الأولى: نزول القصة البيضاء.
والثانية: حصول الجفاف التام، بحيث لو احتشت بقطنة خرجت نظيفة، ليس عليها أثر من دم أو صفرة أو كدرة.
وقال الباجي في (المنتقى): وَالْمُعْتَادُ فِي الطُّهْرِ أَمْرَانِ: الْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ، وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: الْجُفُوفُ، وَهُوَ أَنْ تُدْخِلَ الْمَرْأَةُ الْقُطْنَ أَوْ الْخِرْقَةَ فِي قُبُلِهَا فَيَخْرُجَ ذَلِكَ جَافًّا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ، وَعَادَةُ النِّسَاءِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُنَّ مَنْ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى الْجَفَافَ.
وقد كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدّرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. رواه البخاري معلقاً (كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره).
والدُّرْجة: هو الوعاء التي تضع المرأة طيبها ومتاعها.
والكرسف: القطن.
والقَصَّة: ماء أبيض يخرج عند انتهاء الحيض.
ومعنى الصفرة: أي ماء أصفر.
فعائشة اعتبرت الصفرة في زمن العادة حيضاً وقالت (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) أي: علامة الطهر.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فما بعد الطهر من كدرة، أو صفرة، أو نقطة، أو رطوبة، فهذا كله ليس بحيض، فلا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من الصيام، ولا يمنع من جماع الرجل لزوجته؛ لأنه ليس بحيض.
قالت أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً) أخرجه البخاري، وزاد أبو داود:(بعد الطهر) وسنده صحيح، وعلى هذا نقول: كل ما حدث بعد الطهر المتيقن من هذه الأشياء فإنها لا تضر المرأة ولا تمنعها من صلاتها وصيامها ومباشرة زوجها إياها، ولكن يجب أن لا تتعجل حتى ترى الطهر؛ لأن بعض النساء إذا جف الدم عنها بادرت واغتسلت قبل أن ترى الطهر، ولهذا كان نساء الصحابة يبعثن إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكرسف - يعني: القطن - فيه الدم فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. (60 سؤالاً عن أحكام الحيض).
فوائد:
فائدة 1:
الدم الذي يكون في باطن الفرج [مكان إدخال القطنة] ولا ينتقل ويبرز إلى الظاهر: يعد حيضاً، ولا يشترط في الدم حتى يأخذ حكم الحيض أن يخرج إلى ظاهر الفرج، بل إذا بقي في باطن الفرج يلوث القطن الداخل فهو حيض أيضا.
وهو مذهب الشافعية والحنابلة، ورواية عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني.
أ-ويدل عليه ظاهر قول الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين).
فقوله سبحانه وتعالى (قل هو أذى) إشارة إلى أن العبرة بوقوع الأذى، وهو حاصل حتى لو لم يبرز الدم إلى ظاهر الفرج، فهذا الأذى يظهر بالآلام المرافقة، وبأعراض الطمث الأخرى.
ب- ويدل عليه أيضا ما رواه مالك في " الموطأ " بسنده عن أم علقمة قالت: (كَانَ النِّسِاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ، فِيهِ الصُفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فَتَقُولُ لَهُنَّ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ) تُرِيدُ بِذلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَة.
وفيه دلالة على أن النساء كن يعددن الصفرة التي تكون على (الكرسف) علامة على الحيض، وأكدت ذلك عائشة رضي الله عنها، والمراد بالكرسف هنا القطن الذي كانت النساء تدخله لتتبع الحيضة.
وروى ابن أبي شيبة في " المصنف " بإسناده أنه كانت عمرة بنت عبدالرحمن المدنية - من فقهاء التابعين- تقول للنساء: إذا إحداكن أدخلت الكرسفة فخرجت متغيرة، فلا تصلين حتى لا ترى شيئا
وذهب بعض العلماء إلى أنه ليس بحيض حتى يبرز الدم إلى ظاهر الفرج.
وهو مذهب الحنفية.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يرى بعض العلماء أن الحيض إذا انتقل -ليس إذا أوجع البطن- ولكن ما خرج وبقي داخل الفرج، يرى أنه مثل الخارج، وهذا القول ضعيف.
والصحيح: أنه لا تفطر المرأة أو لا يفسد صومها إلا بخروج الحيض بارزاً، أما ما دام مجرد أوجاع، أو أنها أحست بأنه انتقل، لكن ما خرج فهذا لا يؤثر شيئاً.
وقال: " إذا أحست بانتقال الحيض قبل الغروب لكن لم يخرج إلا بعد الغروب فإن صومها تام ولا يبطل على القول الصحيح، لأن الدم في باطن الجوف لا حكم له، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ قال:(نعم إذا هي رأت الماء) فعلق الحكم برؤية المني لا بانتقاله، فكذلك الحيض لا تثبت أحكامه إلا برؤيته خارجاً لا بانتقاله.
فائدة 2:
• إذا طهرت الحائض العشاء تقضيها وتقضي المغرب معها.
قال ابن قدامة:. . . وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، صَلَّوْا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ،
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ قَالَ: لَا تَجِبُ إلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَحْدَهَا.
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
لِأَنَّ وَقْتَ الْأُولَى خَرَجَ فِي حَالِ عُذْرِهَا، فَلَمْ تَجِبْ كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ قَدْرَ خَمْسِ رَكَعَاتٍ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَجَبَتْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَدْرَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْخَمْسِ وَقْتٌ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِهِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ دُونَ ذَلِكَ.
وَلَنَا: مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمَا، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ: تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا.
وَلِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْمَعْذُورُ لَزِمَهُ فَرْضُهَا، كَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الثَّانِيَةِ. (المغني).
فائدة 3:
قال ابن قدامه رحمه الله: "إذا انقطع حيض المرأة في المرة الثالثة، ولما تغتسل، فهل تنقضي عدتها بطهرها؟ فيه روايتان ذكرهما ابن حامد:
إحداهما: لا تنقضي عدتها حتى تغتسل، ولزوجها رجعتها في ذلك. . .، وهذا قول كثير من أصحابنا، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود. . .، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعا، ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل، وكذلك هذا.
والرواية الثانية: أن العدة تنقضي بمجرد الطهر قبل الغسل. . .؛ لقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، والقرء: الحيض، وقد زالت، فيزول التربص. (المغني).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله شارحاً لعبارة الزاد -: قوله: (فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها)، وهذه المسألة فيها قولان لأهل العلم، وهي من المسائل الكبيرة التي تكاد الأدلة فيها أن تكون متكافئة.
ثم نقل رحمه الله القولين في المسألة، ومال إلى القول: بصحة الرجعة مادام أن المرأة لم تغتسل من حيضها؛ استدلالاً بالآثار الواردة عن الصحابة
باب النفاس
النفاس: هو دم يخرج من المرأة عند الولادة أو معها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
وأحكامه هي أحكام الحيض فيما يجب ويحرم.
(وأكثره أربعون يوماً).
هذا الصحيح من أقوال العلماء، أن أكثر النفساء 40 يوماً.
وهذا المذهب، وبه قال أكثر أهل العلم.
قال أبو عيسى الترمذي: أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك.
قال الشوكاني: والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يوماً متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار، فالمصير إليها متعين.
أ- لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَتِ اَلنُّفَسَاءُ تَقْعُدُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: (وَلم يَأْمُرْهَا اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَضَاءِ صَلَاةِ اَلنِّفَاسِ) وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
ب-وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: النفساء تنتظر نحواً من أربعين يوماً. رواه ابن الجارود في المنتقى.
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: ليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين، فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم منهم، وسائر الأقوال جاءَت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم، لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم والنفس تسكن إليهم فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل.
وقال ابن قدامة: ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً.
قال الشيخ ابن باز: ومتى أكملت - أي النفساء - الأربعين وجب عليها الغسل وإن لم تر الطهر، لأن الأربعين هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء.
وهذا القول هو الصواب وذلك لأمور:
الأول: أنه قول الصحابة ولا مخالف لهم.
الثاني: أنه لا بد في المسألة من تحديد أيام تجلس فيها النفساء ولا يمكن تجاوز قول الصحابة إلى غيرهم.
الثالث: أنه قول الأطباء وهم من أهل الاختصاص في معرفة الدم فاتفق قولهم مع رأي ابن عباس وقول أكثر أهل العلم.
وأما أقل النفاس فلا حدَّ له في قول أكثر أهل العلم فإذا رأت النفساء الطهر وهو انقطاع الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي. (الإسلام سؤال وجواب).
(ولا حّد لأقلهِ).
وهذا المذهب وبه قال الثوري، والشافعي، وإسحاق، وجمهور العلماء.
لأنه لم يرد في الشرع تحديده، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد قليلاً وكثيراً.
وهذا القول هو الصحيح.
فمتى طهرت المرأة من نفاسها وجب عليها الاغتسال والصلاة، ولو كان ذلك قبل مرور أربعين يوماً.
قال الترمذي رحمه الله: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: متى طهرت المرأة ولو بعد وضع الحمل بيوم أو أيام قليلة، فإنها تكون طاهراً، وتجب عليها الصلاة، ويصح منها الصوم، ويجوز لزوجها أن يجامعها.
(ومتى رأت الطهر، اغتسلت وهي طاهرة).
أي: متى رأت النفساء الطهر أثناء الأربعين، فيجب عليها الاغتسال، وتأخذ حكم المرأة الطاهرة، لأن النفاس كما تقدم لا حد لأقله
(ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهر).
أي: يكره وطء النفساء إذا طهرت قبل الأربعين.
أ- لأن زوجة عثمان بن أبي العاص تزيَّنت له وأتته قبل الأربعين في نفاسها، فقال لها: لا تقربيني. رواه عبدالرزاق.
ب- ولأنها لا تأمن عود الدم في زمن الوطء.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز لزوجها أن يطأها ولا يكره.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لأن الكراهية تحتاج إلى دليل، ولا دليل على الكراهة.
ب- ولأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء، فكذا في الوطء.
وهذا أرجح.
(فإن عاد في الأربعين فهو نفاس أيضاً).
أي: إذا عاودها الدم أثناء الأربعين بعد أن طهرت فيأخذ حكم النفاس، لأنه لم يجاوز الأربعين، فتتوقف عن الصلاة والصوم،
قال الشيخ ابن باز: إذا طهرت النفساء في الأربعين فصامت أياماً، ثم عاد إليها الدم في الأربعين فإن صومها صحيح، وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيها الدم.
• لا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما يتبين فيه خلق إنسان.
فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان، فليس دمها دم نفاس، بل هو دم عرق، فيكون حكمها حكم المستحاضات.
وأقل مدة يتبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء مدة الحمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
مقدمة - باب الأذان والإقامة - باب شروط الصلاة
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net